#1  
قديم 08-31-2012, 08:24 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي صناعة المواطنة في عالم متغي




رؤية في السياسة الاجتماعية
إعداد
د/ خالد بن عبد العزيز الشريدة
عميد خدمة المجتمع – جامعة القصيم
ورقة بحث مقدمة للقاء قادة العمل التربوي في وزارة التربية والتعليم: الباحة
محرم 1426/2005




حمل الدراسة كاملة من المرفقات



محتويات:
- مفهوم الوطنية/المواطنة وفلسفتها
- إشكالية الإسلامية والوطنية
- الوطنية السعودية: الاتساق والاستمرار
- الحركة العالمية والوطنية
- آفاق تعزيز الوطنية
- المستخلص العلمي والعملي
صناعة المواطنة في عالم متغير
رؤية اجتماعية
مقدمة
المواطنة هي التعبير الاجتماعي لعملية انتماء وعطاء الإنسان للواقع/الموقع الذي يعيش فيه.
وفي ظل تسارع التغيرات الذي يعيشها عالم اليوم في جوانب الحياة المختلفة –السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية- فإن الحاجة تمس إلى تحرير عدد من المصطلحات التي عادة/غالباً ما تكون عرضة للتساؤل خصوصاً أن شبكة الاتصال العالمية يزداد تأثيرها يوماً بعد يوم.
ولعل مفهوم المواطنة من أكثر المصطلحات حاجة إلى الإثارة والمدارسة والفهم ومن ثم التجسيد، ذلك أن الانتماء حاجة متأصلة في طبيعة النفس البشرية، وإنسان من غير وطن " تائه"، والوطن من غير إنسان "مهجور" لا معنى له.
ومن هنا تبرز أهمية مطارحة هذا " المفهوم" الحيوي لتحليل المركبات التي يتألف منها من جهة وكيفية رعايتها ومن ثم بحث طبيعة التأثير والتأثر والتفاعل المطلوب من جميع مكونات هذا المعنى لتعزيز مقوماته الذاتية وإيجابية علاقاته الخارجية.
وإذا كان الاجتماعيون يرون بأن المجتمع القوي في تضامنه هو مجتمع غني بالمواطنة، فإن تآكل المعاني المشتركة والمعتقدات العامة وبالتالي بروز الفردانية والمادية المفرطة هو علامة/إفراز لتقلص المواطنة الفعلية.
و إلى ذلك كان مهم ـ بعد الشكر للقائمين على هذا الملتقى ـ أن تطرح هذه القضية للحوار، والأهم أن تتضح صورتها والأكثر أهمية أن نحياها في واقعنا.
ومن خلال هذه الورقة سوف يناقش البحث عدداً من المحاور التي نأمل أن تخرج في نهايتها إلى صياغة علمية و موضوعية لمواطنة الإنسان على أي صعيد وفي أي مكان كان.
ويهدف البحث إلى تقديم صورة متزنة لمفهوم الوطنية وممارسة المواطنة اجتماعياً كما يهدف إلى مناقشة أهم الاشتراطات الاجتماعية لتحقيق هذا المعنى. بالإضافة إلى محاولة لإيجاد صيغة من التفاعل البناء والمعتدل بين معادلة العالمية والمحلية تسعى لمعالجة القلق المتبادل في صيغة التفاعل بينهما والذي بدوره يشكل إن سلباً أو إيجاباً شخصية المواطن.
ويعتمد الباحث في مناقشته مختلف محاور البحث على فن/ منهج التحليل السسيولوجي ( الاجتماعي) ذلك أن البحث يناقش مسألة اجتماعية بالدرجة الأولى ويسعى لخلق مواطنة اجتماعية متزنة ومتفاعلة تؤمن بالمسلمات وتتجاوب مع المتغيرات خدمة للوطن الذي تعيش فيه.
ومن خلال فصول أربعة تناقش هذه الدراسة الآتي :
أولا: مفهوم الموطنة/ الوطنية وفلسفاتها:
ومن خلال هذا الفصل نحلل آراء المفكرين العرب والمسلمين والغربيين. ومن ثم نستخلص رؤيتنا في مفهوم الوطنية/المواطنة.
ثانيا : إشكالية الإسلامية والوطنية:
نحاول في هذا المبحث مناقشة أوجه الخلاف أو المفارقة في طرح مفهوم الإسلامية والوطنية وما هي المآخذ على كل منهما ومن ثم أوجه التوفيق والمعالجة وصياغة المعنى الذي تطمئن إليه النفس في ظل الظروف التي يعيشها عالم اليوم آخذين بعين الاعتبار حجم التحديات التي نواجهها والحاجة إلى التقريب والإئتلاف لا التفريق والاختلاف.

ثالثاً: الوطنية السعودية: الاتساق والاستمرار:
سوف نعرض في هذا الفصل إلى أهم المقومات/الشروط التي يتأسس - في تقديرنا- عليها مفهوم الوطنية/المواطنة و سبل تعزيز هذه المقومات. نناقش من خلال هذا المبحث ايضاً الممارسات الفعلية التي تعمل على تآكل فكر الوطنية وواقع المواطنة سواء الفردية أو الاجتماعية أو المؤسسية.

رابعاً: العالمية والوطنية:
ونحاول هنا إيجاد صيغة العلاقة البناءة في معادلة التفاعل بين العالمية والوطنية من خلال:
مناقشة الأبعاد والآثار للحركة العالمية (العولمة) ومحاولة تكييف العلاقة بينها وبين الوطنية. بمعنى ذلك التقاطع بين مستلزمات/واجبات الوطنية ومتطلبات/احتياجات العالمية.
وفي ثنايا الدراسة وفصولها نعرض إلى سبل النهوض بواجبات الوطنية ( صناعة المواطنة) والأدوار المنوطة بالدولة والأسرة ومؤسسات المجتمع الرسمية وغير الرسمية في سبيل تعزيز معنى الوطنية وحمايته.
الفصل الأول
فلسفة المواطنة ومفاهيمها
مدخل
البحث عن معنى للانتماء ..بل للحياة غريزة فطرية يحتاجها كل إنسان. وعادة ما يُنسب الإنسان لأبيه وأسرته ومن ثم لوطنه وعقيدته. ومع أن الواقع يبرز عدداً من "صراع الانتماءات" بين هذه الدوائر وغيرها،و يتعداه إلى خلق عدد من التوترات والمخاطر على المستوى الأسري والوطني.. بل والعالمي، فإن الحاجة اليوم أكثر إلحاحاً إلى نمذجة واعية لتأطير هذه الانتماءات وإبراز منظومة من التفاعل فيما بينها لتخدم كل واحدة منها الأخرى فيما يحقق مصلحة الجميع ورفاهيتة.
.. ولاتزال مجموعة من المفاهيم في ساحتنا الثقافية /الاجتماعية شائكة وغير منضبطة في وعي أفراد المجتمع ومؤسساته، مما يسبب خللاً في الممارسات السلوكية التي هي اليوم أحوج ما تكون إلى دور رائد وشجاع من العلماء والمفكرين ليحسموا ما أشكل فيها ومن ثم يسهموا في تشكيل وعي المجتمع فيما يخدم علاقة الإنسان بنفسه وبيئته وعالمه.
.. ومن هنا تأتي دراسة مفهوم الوطنية/ المواطنة كأحد المفاهيم المهمة والمحتاجة إلى رؤية متزنة وحكيمة تنفي ما يتعلق بها من خلل (إفراطاً وتفريطاً) ولتؤكد من خلالها على المشاركة الفاعلة والواعية خدمة للمجتمع وتنميته.
مفهوم الوطنية/المواطنة وأبعاده الفلسفية:
..في تقديرنا أن الوطنية هي الإطار الفكري النظري للمواطنة. بمعنى أن الأولى عملية فكرية والأخرى ممارسة عملية. والمواطنة "مفاعلة " أي مشاركة. وبهذا يكتمل ويتكامل معنى التجريد بالتجسيد. وقد يكون الإنسان مواطناً بحكم جنسيته أو مكان ولادته أو غيرها من الأسباب لكن التساؤل: هل لديه " وطنية " تجاه المكان الذي يعيش فيه؟. هل لديه انتماء وحب وعطاء... ذلك هو المعنى الذي نحن بصدد بحثه ودراسته وتجسيده.
يشير عدد من الباحثين بأن مفهوم الوطنية/المواطنة اصطلاح حديث..، إلا أن المعنى الذي تستهدفه الوطنية قد تناولته من قبل أفكار الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين. ويذكر العلواني أن الاهتمام بهذا المصطلح قد نشأ مع ظهور الدولة الحديثة وحدودها الجغرافية والسياسية. ولفظ "مواطن" تعبير لم يظهر إلا بعد الثورة الفرنسية سنة(1789) م أما قبلها فالناس ملل وشعوب وقبائل لا يعتبر التراب – إلا تبعاً لشيء من ذلك- وسيلة من وسائل الارتباط (في الغنوشي: 1989).
... والذي يبدو لنا من وجهة نظر خاصة أن الرسول r كان أول من وضع المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة المسؤولة والمحدودة بحدود وضعها الرسول r على جنبات المدنية المنورة كعلامات تقع مسؤولية من أخل بداخلها تحت دائرة حكم الإسلام ومرجعيته، ويوضح ذلك دستور المدينة(صحيفة المدينة التي تعد مرجعية دستورية لسكان المدينة النبوية). (راجع دستور المدينة في الملحق المرفق) .
.. وتعرض بنود صحيفة المدنية( 47 بنداً) مبادئ مهمة لفكرة المواطنة، حيث نصت على تكوين مفهوم الوطنية/المواطنة واحترام حقوقه وواجباته لكل من سكن المدينة مسلماً كان أو غير مسلم. إضافة إلى تحديد النطاق الجغرافي الذي يحاسب عليه أي إنسان اقترف جرماً داخل ما يسمى بجوف المدينة كما في البند رقم(39 - 44). كما تؤكد الصحيفة مفهوم النصرة المتبادلة بين سكان المدينة مسلمين وغيرهم كما في البند (16 – 37) ، وتعرض الصحيفة في مواضع مختلفة أن الاحتكام حين التشاجر والاختلاف هو لله ورسوله(بند23 – 42)مما يعني تأكيد السيادة الشرعية. وتشتمل الصحيفة على آداب وتنظيمات كثيرة يمكن مراجعتها في الملحق المرفق.
.. وتتعدد مفاهيم الوطنية وتعريفاتها فمنها ما يحمل معنى عاطفياً وانتماءً وجدانياً للمكان الذي ألفه الإنسان، ومنها ما يحمل معنى فكرياً يفضَّل فيه المكان على شريعة الرحمن ومنها ما يؤسس لمعنى قانوني يعبر عن واجبات المواطن وحقوقه تجاه وطنه. ويعرض الزيد (1417) لعدد من التعريفات منها أن الوطنية تعني "العاطفة التي تعبر عن ولاء الإنسان لبلده". والوطنية عند آخرين تعني "تقديس الوطن وتقديمه في الحب والكره بل والقتال من أجله .. حتى تحل الرابطة الوطنية محل الرابطة الدينية " والوطنية في معناها القانوني الحديث تعني "انتماء الإنسان إلى دولة معينة يحمل جنسيتها ويدين بالولاء لها". وتعرِّف الموسوعة العربية العالمية" الوطنية بأنها تعبير قومي يعني حب الشخص وإخلاصه لوطنه (المرجع نفسه). ويستخلص الحسان (1995) تعريفاً للمواطنة بأنها "عبارة عن مجموع من الحقوق والواجبات يتمتع ويلتزم بها في الوقت ذاته كل طرف من أطراف هذه العلاقة" (ص 68). ويرى هويدي (1995) بأن المواطنة: "تعبير عن جوهر الصِّلات القائمة بين دار الإسلام وبين من يقيمون في هذه الدار من مسلمين وذميين مستأمنين" (في الحسان،1995). ويضمِّن عدد من الكتاب (الحقيل 1417،و الشيخ،1420) مفهوم المواطنة أصول مفاهيم الإسلام حيث تستوجب عدم الاشراك بالله!! والتحلي بالصبر والصدق ..الخ وهي على حد تعبير ابن الشيخ "ذلك الإنسان الذي يتحلى بصفات العقيدة الإسلامية!! (ص12). وفي الموسوعة السياسية (1990) المواطنة هي "صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن (ص 373) . ويشير السيد ياسين ( 2002) بأن مفهوم المواطنة " قانوني في المقام الأول" ثم يؤكد بأن المواطنة هي أساس الشرعية ذلك أن مجموع المواطنين هم الذين يختارون حكومتهم عن طريق الانتخاب.وبالتالي لا يمكن أن نفهم المواطنة من غير تأسيس ديمقراطي في المجتمع.. ثم يضيف بأنه في المجتمع الديمقراطي "فإن العلاقات بين الناس لم تعد علاقات دينية ، ولكن أصبحت سياسية ذلك أن العيش المشترك لا يعني بالضرورة الاشتراك في ديانة واحدة، ولكن معناه الخضوع لنفس النظام السياسي"... وهنا من المهم الإشارة إلى أنه لا يعني أيضاً أن العيش المشترك يستلزم إزاحة سيادة دين الغالبة وإحلال الوطنية لتكون هي المرجعية[1].
ويطرح قطب (1983) منتقداً مفهومي الوطنية والقومية وأنهما من منتجات الغرب فيقول بأن "الوطنية تعني أن يشعر جميع أبناء الوطن الواحد بالولاء لذلك والتعصب له أياً كانت أصولهم التي ينتمون إليها وأجناسهم التي انحدورا منها" بمعنى أن الولاء للأرض بغض النظر عن أي اعتبار آخر. ثم يتحدث عن مفهوم القومية الذي يتعدى حدود الأرض ليكون الولاء لأبناء الجنس الواحد أو اللغة الواحدة.
.. ونجد التجاوز في أبعاد معنى الوطنية والقومية لتشكل مفهوم العقيدة والدين على سبيل المثال في كتاب (قضية العرب) لعلي ناصر الدين إذ يقول "العروبة نفسها دين عندنا نحن "القوميين العرب" المؤمنين من مسلمين ومسيحيين لأنها وجدت قبل اٍلإسلام وقبل المسيحية في هذه الحياة الدنيا ..مع دعوتها – أي العروبة- إلى أسمى ما في الأديان السماوية من أخلاق وفضائل وحسنات!"(في المرصفي 1997 : 9 ) وشواهد مختلفة في كتابات عديدة تحكي هذا المعنى (انظر البنا 1987 ). وإلى ذلك يشير محمد قطب (1983) في كتابه "مذاهب فكرية معاصرة " بأن هذين المفهومين تم تصديرهما من الغرب لقصد إماتة نزعة الجهاد الإسلامي ضد الاستعمار ومن ثم تحويلهما إلى حركات وطنية وبالتالي تحويل هذه الحركات إلى قوى وطنية سياسية ليسهل التعامل معها دون لغة الجهاد. ويذكر أن هذا الاتجاه المستورد إنما ولد في دار المندوب السامي البريطاني ليكون بديلاً عن الراية الإسلامية. ثم يؤكد على رفض هذين المفهومين بالقول بأن هذا المنهج الفكري "يعني بكل صراحة أن يكون المشرك الذي يشاركك في قوميتك أقرب إليك من المسلم الذي ينتمي إلى قومية أخرى" (ص588).
وإلى هنا يتبين من خلال هذه الجولة المختصرة لمفهوم الوطنية مدى تباين المفاهيم وسعة الاختلاف فيما بينها (رفضاً وقبولاً) مما يؤكد الحاجة إلى طرحها للنقاش للوصول إلى فهم أكثر عمقاَ وواقعية علمية ذلك أن هناك من يتحدث عن المفهوم – كما تبين- ويخلط بينه وبين مفاهيم العقيدة والشريعة الإسلامية ومنهم من يجعله عقيدة في ذاته إلى غير ذلك مما سبق طرحه. والملحظ المهم إزاء ذلك كله أن هناك من يتحدث دون تخصص من جهة ويلغي من حساباته أحياناً اختلاف البلاد وأنظمتها وسياساتها وخصوصياتها من جهة واختلاف استخدام المفاهيم والمصطلحات العلمية وما يترتب عليه من جهة أخرى.وذلك ماستفصح عنه نتيجة هذا الفصل والذي بعده.

الوطنية/المواطنة في منظور الغربيين وفلسفاتهم:
.. تتراوح طروحات الغربيين بين رؤى تختصر العلاقة بين الفرد ودولته إلى أدنى درجة ممكنة وبين أخرى ترى أن الفرد لا يعني شيئاً أمام دولته، ففي الأولى لم توجد الدولة إلا من أجل الفرد وفي الأخرى لم يوجد الفرد إلا لخدمة دولته.
..ويعتمد منظرو فلسفة المذهب الفردي أمثال "جون لوك" و"جان جاك روسو" على أساس الاعتراف بحقوق الإنسان وحرياته العامة باعتبارهما حقوقاً طبيعية لكل فرد وليست مكتسبة، ومهمة الدولة احترام وضمان تلك الحقوق (المناوي في الحسان: 1995).
.. وإذا كان المذهب الفردي يتجه إلى المساواة النظرية بين أفراده فإن الواقع الفعلي يؤكد عدم تساوي الأفراد في ظروفهم وقدراتهم وبالتالي فإن "البقاء للأصلح" كمبدأ يتبناه هذا الاتجاه لا يتفـق مع القيم الإنسانية والشرائع السماوية بل ويهدم حقيقة المواطنة الحقة التي هي مقصد هذا البحث، ذلك أن هذا التوجه الفكري يرسخ سلبية الانتماء للمجموع (الوطن) وبالتالي يعزز الأنانية ويعمق الفصل بين الأفراد ودولتهم.
.. وفي مقابل الجدل القائم لضمان مجتمع آمن ومستقر من خلال مواطنة عادلة ومسؤولة، يطرح المذهب الاشتراكي أنه لا معنى للحرية الفردية في ظل صراع المصالح الخاصة للطبقة الرأسمالية وما جدوى الحرية المضمونة بالدستور إذا كان الإنسان لا يجد الحماية من المخاطر والابتزاز بل وما فائدة حرية العمل إذا كان المواطن يترك فريسة للبطالة مما يضطره إلى التنازل عن حريته وكرامته ليواجه شروطاً حياتية صعبة.
.. وهكذا يطرح هذا التوجه كما تذكر بعض الدراسات (قطب 1983، الحسان 1995) أساس فكرة المواطنة على أن الدولة مسؤولة عن الفرد ابتداءً وانتهاءً فلا مظهر لملكية فردية فالكل يخدم الدولة والدولة تحدد دخول الأفراد حسب الحاجة وتشرف على الإنتاج ونوع المنتج وتلحق الإفراد جميعاً في خدمة الدولة سعياً لمحو الطبقية وتحقيقاَ للمساواة (هكذا يظنون!). وكان من رواد هذا التوجه (فرنسوا فريبية، وروبرت أوين) ولكن الشخص التي ارتبط اسمه بهذا التوجه الفكري هو
( كارل ماركس).

.. وترتكز فلسفة هذا الفكر على إلغاء الملكية الفردية الذي يُعتقد أنها الباعث الحقيقي لعملية الصراع الاجتماعي. ولذلك اعتمدت على مبدأ العمل للدولة فقط وفق شعار "من كل حسب طاقته ولكل بحسب حاجته".
ويشير قطب بأن الملكية الجماعية لا تعني إمكانية امتلاك مجموعة من الناس لمصنع أو متجر أو مزرعة، وإنما المعنى أن المالك الوحيد هو"الدولة " ، والدولة في حس هؤلاء تمتلك هذه الأشياء نيابة عن طبقة (البوليتاريا = Proletarait) ذلك أن العامل بجهده هو المنتج الحقيقي للمادة. ومن الواضح بأن هذا التوجه الفلسفي يلغي معنى الشخصية ويقتل المبادرات الفردية ويحطم القدرات ويعزز تسلط الدولة بل ويخلق السلبية تجاه الوطن نظراً لحرمانه من فطرة حب التملك.
.. وإذا كان التوجه الاشتراكي ينزع إلى محو طبقة الرأسمالية وتحكمها في سير الأمور، فإنه في الوقت ذاته خلق تسلطاً أكثر قسوة وبطشاً من خلال سلطة الحكومة.
.. وهكذا تتراوح الرؤى والفلسفات في الغرب بشكل ينقض بعضه بعضاً من أجل خلق مواطنة فاعلة ومنتجه ومسؤولة.
.. وإذا كان الفكر الاشتراكي قد استنفذ أغراضه وتساقط فإن التخوف قائم ومشاهد لدى كثير من المفكرين الاجتماعيين على أن الغرب الليبرالي هو في الطريق إلى ذلك. ويعزو المفكر المستقبلي (اينشارد ابكرسلي) التفكك الاجتماعي في الغرب إلى الفشل في إعطاء " معنى وانتماء وهدفٍ لحياتنا، وعدم وجود إطار عمل لقيمنا، وبتجريدنا من معنى أوسع لحياتنا، فقد دخلنا في حقبة يتزايد فيها انشغالنا بذاتنا بشكل مرضي (في ايبرلي، 2003 : 20).
.. وقد وثق المفكر الدراس للتقاليد (جون هوارد) الشريحة العريضة من المفردات وما تشتمل عليه من مفاهيم والتي اختفت من فوق التراب الأمريكي، فقد اختفت كلمات مثل التواضع، والاحتشام، والأمانة، والاستقامة، والتأدب، والفضيلة، والنخوة، وعكسها مثل العار والعيب من الاستخدام الحالي. "وهي لا تدخل في حسابات المناقشات العامة وصنع القرارات" .. وإلى هنا يتساءل "أبراهام لنكولن" هل أصبح الأمريكيون منهمكين في شؤونهم الخاصة ولا يحركهم سوى الوعد بالمزيد من الحقوق والمكتسبات أكثر مما تحركهم الدعوة ((للواجب الواطني)). (المرجع السابق).
.. وهنا أجدها لمحة اجتماعية مهمة ووقفة حول تركيز معنى المواطنة على أنها فقط مجرد مسألة حقوق وواجبات دون بعد يحمل معنى (الضابط الأخلاقي) ذلك أن حركة الإنسانية إذا ربطت فقط بمعنى القانونية (حق وواجب) فإن آداباً وسلوكيات عدة سوف تغيب عن معنى الحياة الاجتماعية كما هي تغيب اليوم عن حياة المجتمع الغربي بشهادة خبرائهم الاجتماعيين.
.. ولذلك فالسمو على الحسابات الشخصية هو في تقديرنا "مبدأ روحي لمعنى المواطنة".
ويعد إيبرلي(2003) تغذية التعاطف الاجتماعي الصادق بين الناس هو العنصر الرئيسي لخلق المواطنة، كما أن تجديد المواطنة يعني إعمال الفرد في المشاركة الاجتماعية وعدم تفويض شؤون الحياة العامة والمساعدة العامة بكاملها إلى اختصاصيّ الحكومة، وأن تسعى البرامج إلى تعزيز البنى الوسيطة..وجمع الفقراء وغير الفقراء معاً كجيران ومتطوعين وشركاء في المسؤولية الاجتماعية.
وإذا ما تجردت حياتنا الاجتماعية من مضموناتها الدينية/الأخلاقية فإن مادية الحياة العصرية سوف تعيد إشكالية التوتر والصراع إلى الوجود. ومما تجدر الإشارة إليه هنا بأن تجربة المجتمعات الغربية إجمالاً سواء اقتربت أو ابتعدت من/عن تفعيل معنى المواطنة/الوطنية فإن للمجتمع المسلم وبالأخص بلاد الحرمين الشريفين خصوصية في ذلك،.. ذلك أن الالتزام الديني حينما ينضاف إلى الممارسة العملية لمفهوم المواطنة/الوطنية، يشكل مرجعية في ضبط هذا المعنى دون مغالاة أو إجحاف لكل من حق الفرد في الحرية وحق الحكومة في السيادة. وفي تقديرنا أيضاً يجب ألاّ تصاغ الوطنية على أنها عملية "حق وواجب "وذلك أن هذا الطرح لا يسمو إلى كون الوطنية انتماءً طبيعيّاً مغروزاً في الإنسان يستثير الإنسان للعمل والغيرة على بلده دون الحاجة (ابتداءً) إلى أن يكون ذلك متطلب قانوني أو مشروع سياسي. ذلك أن الالتزام الوطني الأخلاقي هو الفاعل والمفعِّل لمنظومة الحقوق والواجبات. كما أن المنظور الديني يجعل ذلك أكثر كمالاً وتماماً وبالتالي أجراً يوم القيامة.
وإذا كان الوطن يعني في اللغة المكان الذي يستوطنه ويسكنه الإنسان فيعكس جانباً من الارتباط والاستقرار فيه، فإن الوطنية تعني الانتماء والولاء فكراً لهذا الموقع، والمواطنة أي المشاركة في كل ما يخدم هذا المكان الذي يعيش فيه الانسان.
واستجماعاً لما ذكر يمكن القول إنّ مفهوم الوطنية وممارسة المواطنة يعكس التزاماً أخلاقياً تجاه المكان الذي يسكنه الإنسان بدءاً بالحب وانتهاءً بتجسيد متطلباته فكراً بالولاء والشعور بالانتماء وعملاً بالعطاء المتبادل البنَّاء بين الوطن ومسئوليه ومن يسكن فيه.

إشكالية الإسلامية والوطنية:
.. استجابة التشريع الإٍسلامي لسنن الحياة الاجتماعية أمر جلي وواضح، لكن استجابتنا نحن أو تقديرنا للمسألة الاجتماعية محل النقاش قد يشوبها غبش أو خلل وذلك الذي يحتاج إلى مدارسة ونقاش.
.. وهنا فالإسلام يعترف بعملية الانتماء الاجتماعي للأسرة (ادعوهم لآبائهم) والقبيلة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) والدولة (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) وجعلها أحد مقاصد الحياة الاجتماعية. ونسب القرآن الرجل لبلاده، ولكنه في الوقت ذات أكد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه "ليس منا من دعا إلى عصبية" أو جاهلية أو قومية وأحداث السيرة مليئة بشواهد كثيرة في هذا المعنى.
.. لكن المسألة المهمة هنا هي أن تجاوز الناس لحدود معنى القبلية أو العصبية أو الإقليمية لا يعني إبطال مفعولها إسلاميا وفطرياً، ذلك أن الإسلام لم يأت ليمنع ما فُطر عليه الناس لكن ليهذب ذلك المعنى وذلك السلوك.
وما أكثر ما تنتهك الوطنية/المواطنة في مختلف المجتمعات بسبب العصبية والعنصرية والقبلية والإقليمية والزمالة..الخ وكل ذلك من خروقات تقع على الوطنية الحقيقية وسمة جاهلية كما عبر عن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي تلفظ – مخطئاً- " يابن السوداء"!.. ذلك أن السواد والبياض ليس صنعة بشرية وإنما إرادة إلهية ، ومن يستنقص الخلق فإنما يتجرأ على الخالق. ومن يقدِّم من لا يستحق على من يستحق فإنما يخرق الوطنية ويبوء بإثم كل واحد حُرم من قدرات ومهارات من كان أهلاً لذلك المكان!!.
.. والذي يجعل البعض يقف سلبياً أمام مصطلح الوطنية أو القومية كما يشير الأنصاري (1999) إنما هو خطأ المفكرين القوميين بتحويل هذا المفهوم والتعبير عنه بأنه(عقيدة). وفي ذلك تجاوز للحد والوظيفة التي يجب أن يقف عندها دور هذا المفهوم.
.. وإذا ما أردنا تجاوز الاحتداد بين هذا وذاك بين فكر التضاد و الإلغاء بين من يرى أنها وسيلة الوحدة وبين من يرى عدم أهميتها البتة، فإن المنهجية العلمية والموضوعية تستدعي أن نطرح فكراً يتجاوز حدود المصادمات ويؤصل لتشكيل فكر ناضج وواعٍ ومؤصَّـل ومستوعب لحجم التحديات الذي يشهدها عالمنا العربي الإسلامي اليوم.
.. إن من الأهمية بمكان القول بأن مفاهيم الإلغاء والإقصاء والتنكر دائماً ما تخالف طبيعة الحياة وبالتالي يصعب عليها إكمال مسيرتها.. فالاعتراف بوجود الأشياء وما يضادها بغض النظر عن قبولها أو رفضها هو سنة حياتية جارية، هذا فضلاً عن قدرتنا ومهارتنا الفكرية والذهنية على التأليف والتوظيف الأمثل للدور المناسب والأكمل لكلٍّ فيما يخصه. وذلك أن كل إلغاء للآخر هو مسلك مجاف لطبيعة الحياة. ولذلك فالأصل هو استهداف الحكمة المشروعة في التعامل مع الأفكار والأشخاص والمفاهيم والمقتنيات. ومن هنا نؤكد بأن إقصاء " البعد الإسلامي" من أجل الوطنية وإحلالها إجمالاً كمنهج توحيد وطني لا يتناسب وسيادة التشريع الإسلامي ومرجعيته في البلد المسلم، وبالمثل فإن نفي "البعد الوطني" وأهميته في احترام خصوصيات الشعوب والأفراد وفي انتماء الإنسان وحبه لوطنه وسعيه لنهضته وتنميته والدفاع عنه خلل آخر.
وهنا يشير الشيخ ابن حميد ( 23:1423) (رئيس مجلس الشورى السعودي) بأن الحقيقة التي لاشك فيها هي أن الإسلام يؤكد على إعلاء الرابطة الدينية على كل رابطة سواها، سواء أكانت رابطة نسبية أم إقليمية أم عنصرية، فالمسلم أخو المسلم، والمسلم أقرب إلى المسلم من أي كافر بدينه، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وهذا ليس في الإسلام وحده بل طبيعة كل دين وكل عقيدة.
.. والوحدة المطلوب تبنيها على مستوى العقيدة غير تلك المطلوبة على مستوى الوطن فالأولى أرقى وأسمى من أن تحدُّها الحدود والأخرى بطبيعتها ووظيفتها لها حدود.
والفكر الذي نستشعر أهمية مراجعته هو القبول بالجملة أو الرفض بالجملة للوقائع والمسائل والمستجدات الحادثة، ولذلك فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى " منهج يعتمد على التفصيل في الأشياء والموازنة بين الأمور" وذلك منهج شرعي نحتاج إلى مدارسته وتجسيده " وإثمهما أكبر من نفعهما" توجيه قرآني لم ينف وجود المنفعة حتى في ما نص على تحريمه!!. وذلك ما نحتاج إلى ممارسته عملياً في متغيرات المجتمع المحلي والعالمي الذي نعيشه.
ومن هنافالفهم الذي نريد التأسيس له وتأصيله .. اجتهاداً هنا هو أن الحدود الواقعية معتبرة وأن وحدة الأمة عالمياً لا تتنافى وخصوصيتها وطنياً، فلكلٍّ أهميته واعتباره وآثاره لكن نفي أي منها لصالح الآخر يعكس تقصيراً في استدراك حقائق الوطنية وأبعادها ومقاصدها من جهة والشريعة الإسلامية من جهة أُخرى .
الفصل الثاني
الوطنية السعودية: الاتساق والاستمرار
الوطنية مفهوم متعدد الأبعاد.. إذ لا تحتوي الوطنية على المعنى السياسي فحسب, إنما تشمل أيضاً معنى ثقافيا واجتماعيا وأخلاقياً. بل إن الوطنية يمكن أن تتكامل وتكتمل -كما أسلفنا- بالمعنى الإسلامي/الديني حينما يقدِّر الإنسان مكتسبات وطنه ويحمي أراضيه ويسعى لتنميته بكل جهد أو فعل يشارك فيه. ومن هنا فيجب أن نضع في الاعتبار بأن مفهوم الوطنية من الشمولية بمكان بحيث يستوعب عدة معان في السياسة والاجتماع والسلوك والأخلاق.
ويتفق علماء الاجتماع السياسي على أن مفهوم الوطنية أخذ طابعه السياسي بعد أن تشكلت الدول وفرضت الحدود الجغرافية. وهنا نجد أن مفهوم الوطنية مفهوم محصور في المعنى السياسي كما يصوره لنا علماء السياسة الغرب وهذا في الواقع ضيق كثيراً من مفهوم الوطنية وجعله مفهوماً سياسياً أكثر منه مفهوماً إنسانيا شاملاً.
ودون شك إن الفكر السياسي الإسلامي لا يعترض على المعنى السياسي لمفهوم الوطنية، ولكنه يعطي لهذا المفهوم اتساعاً بحيث يصبح مفهوماً أكثر شمولاً. فالمواطنة الصالحة ليست حكرا على مكان دون آخر بل هذه الممارسة مطلوبة في كل زمان ومكان في الداخل والخارج. ولعل أبرز من أعطى لمفهوم الوطنية اتساعه الإنساني المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ليس منا من دعا إلى عصبية). وبردِّه حين الشجار على من قال مستنجداً بعصبيته( ياللأوس.. ياللخزج!) فقال " أبدعوى الجاهلية!، وأنا بين أظهركم؟!"
وفي هذا الحديث نجد الرسول الكريم يحرص على التلاقي الإنساني بين كل فرد في المجتمع الإسلامي. وهذا التلاقي يجعل لمفهوم الوطنية أساساً ثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً إلى جانب الأساس السياسي. وفي هذا السياق فالإسلام تجاوز المعنى السياسي الضيق لمفهوم الوطنية. ذلك أن إبراز المعنى السياسي على كل المعاني الأُخرى في مفهومها للوطنية يعطي الوطنية صورة فكرية مشوهة وقاصرة، حيث سيكون الانتماء السياسي أو الولاء السياسي للقبلية أو العائلة أو الجماعة التي يولد فيها الفرد على حساب انتمائه الإنساني أو ولائه للوطن زماناً ومكاناً.
أنموذج الصورة السليمة للوطنية:
وفي ضوء ذلك نرى أن الإسلام يعطي مفهوماً إنسانياً شاملاً للوطنية. ذلك المعنى الذي ينصهر فيه الولاء أو الانتماء من الجزء إلى الكل، بحيث لا يتوقف امتداد الولاء أو الانتماء عند حدود العائلة أو القبيلة أو البلدة، وإنما يتسع ليشمل كل شيء من مكان الوطن وزمانه ودون حدود لمعنى السياسة والجغرافيا أن (قولوا للناس حسناً) (وتعاونوا على البر والتقوى) بل وفي حال عدم الوفاق أياً كان (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)..
وفي الواقع أن الدول يجب أن تكون هي موضوع التقاء كل التوجهات والأفكار والآراء التي تعكس نوعاً من التعددية الثقافية/الفكرية في المجتمع. إذ إن الوطنية إذا لم تكن فوق "التعددية الثقافية" فلن تكون لها جذور في سلوكيات الإفراد والجماعات. وهنا يمكن القول: بأن من أبرز المشكلات التي تواجهها الوطنية اليوم هي : مشكلة التعددية الفكرية. وهذا ينطبق على كل المجتمعات الإسلامية بما في ذلك المجتمع السعودي. فالمجتمع السعودي – بالرغم من نجاحه في التلاقي والتوافق الوطني خلال العقود السابقة – يشهد الآن مؤشرات تصدع نظراً لتفاقم ما يمكن تسميته بمشكلة التعددية الفكرية.

مشكلة التعددية الفكرية:
..التعددية الثقافية/الفكرية في حد ذاتها ليست مشكلة، فمن حق كل فرد وكل جماعة أن يكون لها من الطرائق الفكرية والمذهبية ما تريد!. ولكن شريطة أن تكون كل المرجعيات الثقافية قائمة على أساس المصالح الوطنية العُليا، ولا تشكل خرقاً لمسلمات الوطن. وهذه المصالح الوطنية العُليا إنما هي مصالح المجموع وليست مصالح خاصة منعزلة تؤدي في النهاية إلى الصراع الفكري في المجتمع. ذلك الصراع الذي يمكن أن يشعل نار الفتن والانقسام الاجتماعي والإنساني ويغذي قنوات التطرف والإرهاب ليقضي على كل قيمة شريفة دينية كانت أو وطنية.
وفي الواقع أن الوطنية – بطبيعتها – يجب أن تحتوي التعددية ومن ثم تؤدي إلى التلاقي الثقافي، وهنا فإذا كانت الوطنية مجموعة من القيم الأخلاقية والسياسية فهي أيضاً مجموعة من القيم السلوكية. ولا يمكن بأي حال الفصل بين القيم والسلوك في مجال الوطنية.
مكونات الوطنية:
الوطنية – كما أشرنا سابقاً – ليست مفهوماً سياسياً فحسب، بل إنها مفهوم يستوعب مجالات مختلفة في واقع حياتنا الاجتماعية. وهذا الفكر مقيد بحدود الزمان والمكان. ولا يستطيع البحث العلمي النزيه أن يُجرد الفكر الوطني الإنساني من حدود الزمان والمكان. وإذا كان الإسلام يعطي لمفهوم الأمة تصوراً شاملاً أو كلياً يتخطى حدود المكان والزمان. فإن ذلك التصور – كما أشرنا- لا يتعارض مع تصور الوطنية في حدود الزمان والمكان. ذلك أن التصور السليم للوطنية له مستويان هما:
أ‌- مستوى العلاقة بين الفرد ووسطه الاجتماعي.
ب- مستوى العلاقة بين الفرد والوسط الاجتماعي الإنساني العالمي. ورقيِّ الوسط الثاني يعتمد اعتماداً كلياً على رٌقي الوسط الأول. فإذا حافظ الفرد على اتزان حبه وانتماءه لوطنه وأهله وأبناء عشيرته فإنه من الطبيعي أن يحافظ على ذلك بالنسبة للأمة..بل والعالم أجمع.
غير أن القوى العالمية المعاصرة لا تريد للوطنية أن تنمو في هذين المستويين. وإنما تريد هذه القوى استبدال الوطنية/المواطنة المحلية بالتغريب Westernization والوطنية/المواطنة العالمية بالعولمة Globalization ولا شك أن عملية الاستبدال هذه تتم بوسائل الترغيب والترهيب. ووسائل الترغيب كثيرة منها الانضمام إلى اتفاقيات التجارة العالمية والمشاركة في المشروعات وإقامة منطقة تجارية عالمية في المنطقة الإسلامية وغيرها من المنظمات والشركات العالمية. ووسائل الترهيب كثيرة منها: الحرب الإعلامية على القيم الإسلامية، والغزو العسكري وتغذية الصراعات الطائفية.
والمتتبع لواقع المجتمع السعودي ومسيرته يجد أن الوطنية السعودية تواجه مأزقاً في إطار التحديات والتغيرات الدولية المعاصرة. ويمكن القول ابتداءً بأن الوطنية السعودية تختلف عن "السعودة" في هذا السياق.فالوطنية السعودية هي:مجموعة الأفكار والقيم المرتبطة بثوابت الزمان والمكان والتي تمتد لتشمل مستوى العلاقة بين الفرد ووسطه الاجتماعي وتشمل مستوى العلاقة بين الفرد ووسطه الاجتماعي الإنساني العالمي.
وفي الواقع أن الخلط بين الوطنية السعودية وبين السعودة يؤدي إلى كثير من المشكلات الفكرية والسلوكية. إذ إن السعودة في أبسط معانيها لها أهداف اجتماعية تنموية وسياسية واقتصادية. وهذه الأهداف لا يمكن أن تقض على سلبيات أو تناقضات التعددية الثقافية. فكون المجتمع السعودي يؤمن بالسعودة لا يعني بالضرورة أن العقل السعودي استطاع أن يحقق أعلى درجة من الاتساق والتكامل والوطني!!، فكل السعوديين يتفقون على عدة قضايا تنموية هامة مثل: إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة. واستثمار رأس المال الوطني في المشروعات المحلية. بيد أن هذا الاتفاق لا يعني بالضرورة أن هناك اتساقا أو منهجا فكريا واضحا في سُبل وطُرق العمل الوطني. والمعنى هنا بأن المطلب حماية اقتصادنا وتشغيل العاطلين من أبنائنا "من خلال طرح مفهوم السعود" يعد ممارسة عملية لتحقيق جزء من مصالح الوطن العليا، وهنا فإذا كنا نطالب الاقتصاديين بإحلال العمالة الوطنية محل العمالة الأجنبية فإننا في الوقت ذاته نطالب العلماء والمفكرين بإحلال الأفكار الوطنية محل الوافدة، إلا ما ثبت فائدته والحاجة إليه سواء على المستوى الفكري أو المستوى العملي.
وهنا يأتي مفهوم الوطنية السعودية ليكون بمثابة منهج فكري شامل يستوعب كل ذلك في سبيل خلق جو من الاتساق والتراكم الفكري الإنساني والاجتماعي في طريق الوطنية.
ولاشك أن الوطنية السعودية في ظل الموجات العالمية من التغريب والعولمة في أشد الحاجة إلى مجهودات وطروحات رجال العلم والثقافة وعلماء الدين والاجتماع والسياسة من أبناء الوطن. تلك المجهودات التي تعمل في إطار جماعي من أجل وضع شروط جديدة للاتساق والتكامل في بنية الوطنية السعودية.
ولعله من المناسب الآن مناقشة ما نظن بأنه يثري هذه العملية مع التركيز على الشروط الاجتماعية كإسهام من علم الاجتماع في دفع العمل الوطني السعودي إلى آفاق رحبة من الاتساق والاستمرار.


الشروط الاجتماعية اللازمة للاتساق:
الوطنية السعودية أو " اتساق وتلاقي الفكر الوطني السعودي"
حرصت الدولة السعودية خلال مسيرتها التاريخية على تعبئة المواطن السعودي تعبئة موجّهة نحو الولاء لأركان وأجهزة الدول الناشئة وفي تقديري أن هذه التعبئة كانت ولا تزال تعبئة تقليدية إذ اقتصرت على مظاهر بسيطة وبشكل أخص في مجال التربية الوطنية. ذلك المجال الذي يقتصر على تعليم الطلاب والتلاميذ قيم الولاء للدولة. وسواء اقتصر هذا المجال على التعليم المدرسي أو امتد إلى الشارع السعودي عبر وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، فإن هذه التعبئة تحتاج إلى جهود ومشروعات متعددة لاستيعاب ومواجهة الآثار السلبية للتعددية الثقافية في المجتمع السعودي.إذ لا زالت القبلية والإقليمية لها نفوذ سلبي في الحياة اليومية، ولاتزال المنظومة الفكرية للأفراد تعيش في حدود ضيقة. ومثل هذه الظواهر الاجتماعية السلبية تجعل من الصعب حدوث اتساق أو تلاق بين الرؤى والاتجاهات والثقافات خصوصاً مع المتغيرات العصرية المتسارعة. ومن أجل ذلك نطرح السؤال التالي:
كيف يمكننا تحقيق أعلى قدر من الاتساق الفكري بين أعضاء المجتمع السعودي في الوقت الراهن؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تجعلنا نتحدث عن الشروط الاجتماعية اللازمة للاتساق في الفكر الوطني السعودي. وقبل تبيان هذه الشروط أرى بداية أن "الاتساق في الفكر الوطني السعودي" يتطلب توافر عاملين مهمين وهما:
(1) سلامة المقصد في التوجه الجماعي الوطني نحو الاتساق = التلاقي .
لأنه ما لم يكن هناك دافع عميق وصادق لتجسيد هذا المعنى فكل جهد مهما كان مصدره لن يكون له معنى. ولذلك يجب اطراح كل المقررات السابقة في سبيل تدعيم هذا المعنى.
(2) الوعي الجمعي/الكلي بالتهديدات الخارجية والداخلية للذاتية الوطنية.
وسلامة القصد في الحقيقة لا تكفي مالم يكن هناك وعي لطبيعة المرحلة التي يعيشها المجتمع من حيث المتغيرات وما يترتب عليها من احتياجات.
ومن المؤكد بأن توافر هذين العاملين في البيئة أو الوسط الوطني السعودي سيجعلان من السهل والميسور تحقيق الدرجة المعقولة أو المطلوبة من الاتساق ومن ثم الانطلاق في الفكر الوطني السعودي. والاتساق المطلوب لا يعني إلغاء الذات وتذويب المبادرات ولكنه يؤكد على تغييب الفروقات والانتماءات حينما يكون الحديث عن وحدة الوطن وسلامة أراضيه ومنجزاته ومسلماته وأي مصلحة عليا للوطن.
وهنا نرى بأن الشروط الاجتماعية لتحقيق الاتفاق في الفكر الوطني السعودي تتمثل في الآتي:
الشرط الأول:
ربط المشكلات/الاحتياجات الفردية بالسياق الاجتماعي العام أو بالبناء الاجتماعي:
ومن المؤكد أن هذا الشرط يساعد على إيجاد التآلف الوطني بين الفرد ومؤسسات المجتمع. وفي تصوري أن مؤسسات الدولة قامت ولازالت تقوم بمجهودات وطنية في هذا الاتجاه منها على سبيل المثال: مشروعات القرض الحسن التي تهدف إلى مساعدة الشباب على العمل والكسب ومشروعات بناء المساكن لبعض الفئات والشرائح الاجتماعية الفقيرة وذات الدخل المحدود. والمشروعات الخاصة بمساعدة الشباب على الزواج والدراسة. ومن ذلك أيضاً الحملات الوطنية لطالبي العمل ومساعدتهم. وفي هذا السياق يحذر عالم الاجتماع الأمريكي (روبرت بيلا:2003) المختص بالمجتمع المحلي من خارطة تدمير الحياة المدنية وإضعاف المؤسسات الحيوية التي تحافظ على المجتمع البشري مثل الزواج والأسرة والدين ومؤسسات النفع العام الاجتماعية. ثم يشير إلى الفردانية والعنصرية بوصفهما مصدر تفكك للعلاقات الاجتماعية.. ولكي يتم إصلاح المجتمع المدني فلابد من معالجة مثل هذه القضايا الصعبة(في إيبرلي2003). والمعنى هنا أن كل ما يكون همّاً لأفراد الوطن يجب أن يأخذ بعدا وطنياً في الفعل والتفاعل وذلك مما يغذي فكر الوطنية السعودية.
الشرط الثاني:
تأصيل وتأسيس مبدأ الحوار والمناقشة الفكرية بين الفئات والجماعات المختلفة في المجتمع من خلال قنوات متعددة:
والهدف الوطني لمثل هذا الطرح في المقام الأول يهدف إلى تذويب التناقضات وأسباب العزلة الفكرية والنفسية بين الناس. فمن المهم جداً أن يتحاور أعضاء المجتمع ويتناقشون بهدف الترابط العضوي والفكري والتكيف الوطني مع ظروف المجتمع وتحديات الداخل والخارج. وكما يقول الاجتماعيون لا يمكن للدولة في عصر المتغيرات أن تقوم بكل شيء. وبالتالي فقيام مؤسسات اجتماعية تعنى ببث ثقافة الحوار وتنمية الفكر والتلاقي الثقافي يعد مهمة وطنية تحتاج إلى وعي بها ومن ثم ممارستها في مؤسسات المجتمع المختلفة رسمية وغير رسمية.
ولعل جهد الدولة في إقامة مركز للحوار الوطني هو خطوة في المسار الصحيح ووسيلة مهمة في بث وتنمية ثقافة الحوار والتلاقي بين أفراد المجتمع السعودي وأطيافه. ولكن هذه الوسيلة تحتاج إلى تفعيل اكبر وأكثر لتكون ممارسة عملية في كل مدينة وفي كل مدرسة. كما أن نظام الانتخابات البلدية يعد شكلاً مهماً في مشاركة الإنسان السعودي لممارساته الوطنية. وهذا المسار المدني في مأسسة العمل الاجتماعي يعمق من تنامي حس الوطنية وبالتالي تنمية معنى المواطنة في المجتمع.
الشرط الثالث:
مواجهة ظواهره التعصب والتشدد وغير ذلك من الظواهر السلبية التي تعوق حركة الاتساق في الفكر الوطني السعودي:
..ذلك أن المرحلة التاريخية الحالية تتطلب بل تفرض علينا نحن أنباء الوطن الواحد قدراً كبيراً من المرونة الفكرية التي تؤدي إلى الشعور بالمسؤولية الوطنية سواء من جانب الفرد العادي أو من جانب المثقف السعودي. ولعل مما يحد من التوجهات المغالية في اليمين أو اليسار العمل على نشر الفكر الوسطي وتهيئة البيئة الاجتماعية والتعليمة والإعلامية له. وتيسر كل الوسائل والسبل لنشره، مع الحرص على الحد من كل قناة شخصية أو إعلامية تخدش أو تخرق فكر الاعتدال والوسطية.
والشروط الاجتماعية اللازمة لاستمرار الوطنية السعودية كفكر اجتماعي بنَّاء يعكس تحقيق مستوى عالٍ من (التلاقي" أو "التآلف" أو "الترابط" العضوي) بين الرؤى والأفكار والاتجاهات الوطنية المختلفة تحت مظلة الدولة وسيادة الشريعة الإسلامية.
وهنا يجب التأكيد بأن شروط الاتساق لا تعني أبداً القضاء على "التفرد" و "الخصوصية" ، وإنما تعني القضاء على الحسابات الشخصية الضيقة والنزاعات التعصبية وأنصار المغالاة والتشدد وكل ما يخرق وحدتنا الوطنية من جهة ومسيرتها الحضارية من جهة أخرى.
وعلى ذلك فإن كانت شروط الاتساق التي نتطلع إليها تهدف إلى إبراز وتدعيم الوجود الوطني في شكل أو قالب عصري جديد، فإن شروط الاستمرار تهدف إلى إمداد هذا الوجود بالحياة والحركة والاستمرارية.
وفي ضوء كل ذلك يمكن النهوض بواجبات المواطنة من خلال بيئة من الحياة المشتركة. ولذلك حذّر علماء الاجتماع الإنساني من تآكل المعتقدات المشتركة والأهداف العامة لأنها الوسيلة الأهم في جمع الناس وتضامنهم. وقد عبر "توكفيل" (2003)عن قلقه من طغيان المصالح المادية التي تفرز مجتمعاً متنافر الأجزاء. وهذا المعنى الذي يعبر عنه "توكفيل" لا يعكس في الحقيقة وجود مجتمع بالمعنى (الاجتماعي) الفعلي .. بل مجموعة من الأفراد يعيشون معاً (في ايبرلي:2003)، ذلك أن مقاومة المصالح المشتركة والاستغراق في الفردانية تقتل الروح الجماعية والاجتماعية. وهذا المعنى يحكيه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (.. إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!) وذلك ما يجسد الروح الجماعية التي تَشعر وتَستشعر أهمية العيش مع الجماعة.
وفي ضوء ذلك يمكن القول: إن شروط الاتساق تعني = ظهور البعد الوطني كوجود قوي في ذاته قادر على احتواء كل مظاهر الاختلافات والتعددية الفكرية، وأما شروط الاستمرار فتعني= تواصل الانتماء لهذا الوجود في ظل التحديات الخارجية والداخلية.




وتتكون شروط الاستمرار في الآتي:





حمل الدراسة كاملة من المرفقات


المصدر: ملتقى شذرات

الملفات المرفقة
نوع الملف: doc صناعة المواطنة في عالم متغير.doc‏ (215.5 كيلوبايت, المشاهدات 11)
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مراجع, مرجع, مشروع تخرج،, المواطنة, بحث, بيئة, دراسات, دراسة, ورقة بحثية


يتصفح الموضوع حالياً : 2 (0 عضو و 2 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع صناعة المواطنة في عالم متغي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ميانمار تحت تهديد العقوبات إذا لم تعد المواطنة للروهينغا عبدالناصر محمود أخبار منوعة 0 03-18-2017 07:25 AM
«واشنطن بوست»: عالم اليوم يشبه عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى بشكل مخيف Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 12-31-2016 10:19 PM
إلهي أبعد الواشينَ عنِّي ام زهرة أخبار ومختارات أدبية 0 09-16-2013 11:35 PM
الاتجاهات المعاصرة في تربية المواطنة Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 11-15-2012 09:02 PM
أثر الانفتاح الثقافي على مفهوم المواطنة لدى الشباب السعودي Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 01-26-2012 12:32 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:09 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59