ملتقى شذرات

ملتقى شذرات (https://www.shatharat.net/vb/index.php)
-   أخبار ومختارات أدبية (https://www.shatharat.net/vb/forumdisplay.php?f=11)
-   -   الواقعــــــيَّة Le realisme (https://www.shatharat.net/vb/showthread.php?t=2435)

Eng.Jordan 02-19-2012 10:55 AM

الواقعــــــيَّة Le realisme
 




عبد الرزاق الأصفر - المذاهب الأدبية لدى الغرب
1- التعريف:

"الواقعيّة" نسبةٌ إلى "الواقع" Le réel ؛ وهو الموجود حقيقةً في الطبيعة والإنسان، والواقع نوعان: حقيقيّ وفنّيّ؛ و الأوّل ما إذا وصفه الإنسان كان صادقاً وأميناً لموافقته ماهو موجودٌ وكائن؛ إنه بوصفه يأتي بنسخة عن الواقع كالصورة الفوتوغرافية. والثاني- وهو المعوَّل عليه في الأدب - يقوم على خلقٍ إبداعيٍ لواقعٍ لا يشترط أن يكون حقيقياً بحذافيره. صحيحٌ أنه يغترف عناصره من الواقع الحقيقيّ؛ لكنه يحوّر ويزيد وينقص ويختلق ويعيد التكوين ليأتي بواقعٍ ليس نسخة أمينة للواقع الحقيقيّ بل هو محاكٍ له وممكن الوجود والتصوّر، لأنه يجري في نطاقه ويخضعُ لشروطه وآليّاته العاديّة.
إن الكاتب الواقعي يخلق أشخاصه ويرسم ملامحها ويصوّر البيئة كما يشاء، ولكن ضمن الأطر المألوفة التي لا نشعر إزاءها بالغرابة والاستنكار. وبهذا يشبه اللَّوحة الفنيّة التي يرسمها الفنّان مستمداً عناصرها من الواقع الخارجيّ الحقيقيّ ومخيّلاً لك واقعاً آخر هو واقعه الخاصّ الذي يراه من زاويته الإبداعية الحرّة. فنراه يتلاعب بالألوان والظّلال والخطوط والأشكال والتكوين كما يشاء دون الابتعاد عن منطق الواقع وطبائعه في الإنسان والمحيط.
فالواقعية الأدبية إذن هي تصويرٌ مبدعٌ للإنسان والطبيعة في صفاتهما وأحوالهما وتفاعلهما، مع العناية بالجزئيات والتفصيلات المشتركة للأشياء والأشخاص والحياة اليومية ولو كانت تفصيلاتٍ مبتذلة وكل ذلك ضمن الإطار الواقعيّ المألوف. إنه واقعٌ لا يشترط فيه الأمانة والصّدق في النسخ بل كلّ ما يشترط فيه "الصدق الفنيّ" وبهذا يتحوّل الكاتب إلى فنانٍ مبدع لا إلى نسَّاخ، أو كاتب تقرير...

2- أسباب نشأة الواقعيَّة:

1- نشأت الواقعيّة الأوربيّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ردّاً على المدرسة الرومانسيّة التي أوغلت في الخيال والأوهام والهواجس والأحلام والانطواء على الذات والفرار من الواقع الاجتماعي منزويةً في الأبراج العاجيّة ومبتعدة عن الواقع المعيش، ومنصرفة تماماً عن معالجة شؤون الإنسان وشجونه في صراعه اليوميّ ضمن مجتمعه المصطخب وظروفه الموضوعية وهكذا جاءت الواقعية ردَّ فعلٍ على الرومانسية واحتجاجاً عليها من الناحية الموضوعية؛ بينما جاءت البرناسية والرمزية رداً عليها من الوجهة الشكلية والجمالية.
2- مما دعا إلى نشوء الواقعية التقدم العلميّ والإنجازات والكشوفات الهائلة في مجالات العلوم كالبيولوجيا وعلم الطبيعة والوراثة، وفي الدراسات التجريبية الإنسانية والاجتماعية والمنحى الوضعي في الفلسفة.
3- الاهتمام بالطبقات الاجتماعية المتعدّدة بما فيها الوسطى والفقيرة والمهملة وعدم الاقتصار على شرائح النبلاء والارستوقراطيين وكبار البورجوازيين. إن الواقعية اتجاهٌ نحو الإنسان بشكله المشخص لا الكلي - كما كانت تفعل الكلاسيكية - وهي عودة ديمقراطية باتجاه الشعب العريض، صادقة التصوير والتمثيل للواقع الفردي والاجتماعي.
3- الجــــذور:

ليست الواقعية بدعاً كلُّها، ولم تأتِ طفرةً دون جذور متأصّلة؛ فمعظم أفكارها ومبادئها كانت معروفة خلال العصور السابقة، فاعتبار الإنسان أمرٌ قديم، وطالما اعترف بقدره وقدراته. يقول شكسبير في هاملتْ: "ما هذا المخلوقُ الرفيعُ الصُّنع؛ الإنسان؟! ما أرجح عقله وما أَوْسعَ قُدراتِه..! وما أشبهه بإله...! إنه زينة الدنيا وسيّد كلّ الأحياء..."
وفي الحرية يقول سرفانتس في (دون كيشوت): "الحريّة يا سانشو إحدى أثمن هبات السماء للناس. لا شيء يوازيها، لا الكنوز المخبأة في الأرض، ولا الكنوز التي تنطوي عليها البحار. من أجل الحرية على الإنسان أن يجازف بحياته".
وفي الفكر العلمي يقول شكسبير في (هنري الخامس): "زمن العجائب ولّى، وعلينا أن نبحث عن أسباب لكل ما يجري.." وكل مسرح شكسبير والمسرح الكلاسيكي كان يقوم على البحث في حقيقة النفس الإنسانية ودوافعها الخفيّة، وفضح الشّر وتعزيز الفضيلة. وفي مسايرة الطبيعة والعودة إليها اشتهر روسّو. وهذا غوته يقول: "إن المطلب الأساسي الذي يوضع أمام الفنان هوأن يبقى أميناً للطبيعة..."
وفي البحث عن الحقيقة والموضوعية يقول ديدْرو: "الحقيقة أساس الفلسفة". ويقول لسنغ: " على الكاتب أن يسير وفق منطق الضرورة الموضوعية".
وكانت قضايا المجتمع قد طرحت باستفاضة في القرن الثامن عشر الذي مهدّ للثورة الفرنسية، حين اهتم الأدباء ببيئة المجتمع وحقوق الإنسان كإنسانٍ وكمواطن، والعلاقات بين الأفراد وقضايا الحرية والمساواة. ولا ننسى أنَّ في الرومانسية عَوْداً إلى الشعب واغترافاً من فنونه وآدابه ولغته وتراثه. وإنّ من مهام الأديب في عصري النهضة والكلاسيك خدمة مصالح الإنسان على الأرض والارتقاء بذاته، ومجافاة الكنيسة والعودة إلى المنابع اليونانية التي كان بنو الإنسان يعيشون فيها بشراً حقيقيين، لهم مُتَعهم وأخطاؤهم ولهم صراعهم مع القوى المهيمنة وسعيهم إلى الحريّة وإثبات الإرادة والذات...
فالواقعية إذاً لم تنُبتْ في أرضٍ بكْر، بل وجدت أمامها تراثاً عتيداً هادياً، وطرقاً معبّدة وأفكاراً متداولة... ولكن بشكلٍ متناثر ومشتت لم يبلغ من التكثيف والوعي والإلحاح والمنهجيّة مرتبة التيار المذهبي، ولم يكن الكاتب ينظرُ إلى الإنسان في واقعه المعيش وضمن المسار التاريخي وطبيعة العصر ومنطق الضرورة العلميّة المطبّق على الإنسان والطبيعة معاً... الأمور التي أشهرتها الواقعية وجعلت منها فلسفةً ومنهاجاً، ومذهباً واضح المعالم.
4- نشأة الواقعيّة:

لم تبرز الواقعية مدرسةً مستقلّةً واضحة السّمات إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر؛ إلاّ أن معالمها بدأت بالتكوّن والظهور منذ عام 1826 أي في إبّان الفترة الرومانسية ولم يكن اصطلاح (الواقعية) قد ظهر بعدُ. لأن الاصطلاح يأتي متأخراً، إذ يضعه النقاد عادةً بعد أن تظهر بوادر أدبية جديدة وتكثر حتى تلفت النظر والتأمّل وتقتضي الدراسة والوصف والتصنيف وحين ذاع هذا الاصطلاح كان يقصد منه المذهب الذي يستقي عناصره من الطبيعة مباشرةً، لا من النماذج الكلاسيكية، وفهم بعضهم منه التفصيلات المستمدة من البيئة المحليّة التي تشعر القارئ الانطلاق من صميم الواقع وصدق التصوير. وكثيراً ما وضع النقاد تحت عنوان الواقعية ذلك الأدب الذي صدر عن كتّابٍ رومانسيين مثل بلزاك وهوغو... ولكن النقاد ما لبثوا أن لاحظوا بروز مذهب جديد في الأدب قوامه تصوير العالم الحقيقي تصويراً أميناً، ووصفُ الحياة المعاصرة بطريقة الملاحظة والتحليل والعرض الموضوعي، بمنأىً عن الذاتية والانفعال الخاص، وشيئاً فشيئاً تبلور هذا المذهب وانسلخ عن الرومانسية وأصبح له أعلامه الكبار مثل بلزاك وستندال وفلوبير وميريميه والأخوان غونكور ودوماس الصغير وغيرهم... لقد كوَّن هؤلاء مدرسة ذات معالم جديدة دون أن يُعترفَ بها رسميّاً في عالم الأدب والنقد، ودون أن يَعُوها هم؛ حتى إن فلوبير كان يغضب حين يوصف أدبُه بالواقعية. و كان لهذا الاتجاه خصومٌ رفضوا الاعتراف به وأخذوا عليه الإفراط في التفصيلات الماديّة وإهمال المثاليات واختفاء شخصية الكاتب.. وقد برز هذا الصراع جلياً حين ظهرت قصة (أسرار باريس) عام 1843 للكاتب الفرنسي أوجين سو. وهي قصة مأخوذة من الواقع الشعبيّ تصوِّر آلام الطبقة الفقيرة ومخاطر البؤس، والمكائد التي تحصد الشعب وتحرمه من كل رعاية وحماية؛ كما تصوّر الأفكار والعقائد والمشاعر العامة. وقد نزل فيها الكاتب إلى صفوف المسحوقين والأشقياء والمساجين والعاهرات.. ورأى بعضهم في هذه القصة مجموعة ألاعيب بهلوانية تشبه ألاعيب الأراجوز، لا همّ لها سوى الإبهار، أو تشبه أقاصيص ألف ليلة وليلة، خاليةً من التحليل والحلّ الجذريّ. والحلّ فيها هو أن يعطف الأغنياء على الفقراء... ورأى فيها آخرون تبشيراً بقيام عالم جديد.
أما في ألمانيا فكانت الأفكار الاشتراكية الخيالية قد راجت لدى الشعراء الذين لم يجدوا حلاًّ لمشكلات البؤس والفقر سوى التألّم والعطف والإحسان واللجوء إلى اللَّه!. وقد بشّر الشاعر ألفرد مايسنر بالسلام بين الشعوب وتحويل السيوف إلى محاريث ومناجل.. ولكن كيف؟ لا جواب على ذلك.
ولهذا سخِر كتاب الواقعية من تلك الاشتراكية المزعومة. ثم جاءت ثورة عام 1848 لتعصف بها وبأفكارها وحلولها وأحلامها، ممهّدة الطريق للأفكار الاشتراكية التي تبنت الواقعيّة وآزرتها وأكدتْ على منهج بلزاك.
وفي انجلترا نجحت في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر جهود الروائيين الكبار مثل ديكنز وثاكري وبرونتي في تعرية البورجوازية والرأسمالية والروح العسكرية الاستعمارية ومادية العصر الفظة والقيم الزائفة، وفضحوا أكاذيب السلطة والطبقات العليا فيما تصدره من قوانين...
أما في إيرلندة فقد ظهر الكاتب توماس كارلايل الذي أصدر كتابه (الماضي والمستقبل) عام 1843 وحكم فيه على المجتمع البورجوازي بالانحلال، وانتقد تكدّس الثروات وبذخ الأغنياء بينما يموت الشعب من الفاقة والبطالة، وشخَّص عيوب النظام الرأسمالي الجشع وتناقضاته والآفات الاجتماعية والأخلاقية... ولكنه أخطأ الحلّ حين ناطه بالكنيسة والسلطة المستبدة. ذلك لأنّه في الأصل أخطأ إدراك الأسباب الحقيقيّة للظواهر الاجتماعية، فقد رأى أن الإلحاد والفوضى الاقتصادية والأفكار الديمقراطية الجديدة هي أساس البلاء! ولم يكتف بذلك بل مجدَّ البورجوازيّ القوي ودعا العمال إلى الانصياع لأوامره وأوامر قادة الصناعة، وطالب باستعمار الشعوب الضعيفة وتسخيرها والتمييز بين العروق الممتازة والعروق المنحطة، وكرّس التفاوت الطبقي... وأخذ يمنّي الناس ويعللّهم بظهور نبيّ مخلّص أو بطلٍ عبقري عظيم...!
ولم تتبلور المدرسة الواقعية الحقيقية في الأدب الانجليزي والأمريكي إلاّ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بتأثير المدرسة الفرنسية.
أما في روسيا فقد بشر غوغول بالواقعية في النصف الأول من القرن التاسع عشر ثم جاء دوستويفكسي ليؤكد هذا الاتجاه. وكانت الواقعية الروسيّة أكثر تعمقاً في النفس الإنسانية. وقد ألحّ تولستوي على عنصري الحقيقة والصّدق دون أن يذكر قطّ مصطلح الواقعية.
خصائص المذهب الواقعي:

أ- الواقعيّة الأمّ:

وتسمى أيضاً الواقعية الأوربيّة أو المتشائمة أو الناقدة. والمقصود بها المذهب الواقعيّ الأصليّ الذي ساد في فرنسا وبلاد أوربا لدى معظم الكتّاب بشكله العام مع الاحتفاظ بالاختلافات المحليّة والفردية وتعدُّد الألوان ضمن التيار الواحد؛ وبشكل أكثر تحديداً الواقعية قبل أن تتفرع منها الواقعية الطبيعية والواقعية الاشتراكية الجديدة.
وللواقعية الأمّ خصائص تميزها عن المدرستين الكلاسيكية والرومانسية وتجعلُ منها نهجاً أدبيّاً ذا معالم خاصة وماهيّة مستقلّة شملت الآداب الأوربية أكثر من نصف قرن. ولا تزال آثارها باقية ومستمرةً في القرن العشرين. ويمكن إجمال هذه الخصائص فيما يلي:
1- النزول إلى الواقع الطبيعي والاجتماعي والانطلاق منه، أي الارتباط بالإنسان في محيطه البيئيّ وتفاعله وصراعه مع المحيط الطبيعي والاجتماعي. من هنا يستمد الكاتب موضوعاته وحوادثه وأشخاصه وكلّ تفصيلاته. إنه ينزل إلى الأرض والبشر، ويصرف نظره عما عدا ذلك من المثاليات والخياليات، وما يهمُّه هو الأمور الواقعة التي يعيشها الناس ويعانونها. وكلمة (الناس) أو (الإنسان) يقصد بها هنا الإنسان المشخّص الحيّ الذي يضطرب في سبل الحياة والمعيشة، والذي له وجود حقيقيّ إنه المحور في الأدب الواقعيّ، وليس الإنسان المثاليّ العام المجردّ الذي كان محور الأدب الكلاسيكي. ولا الإنسان المنعزل المنفرد، الهارب من المجتمع الذي كان محور الأدب الرومانسيّ، إنّ إنسان الواقعية هو الفرد في تعامله وتفاعله ضمن تيار المجتمع والتاريخ المؤثر فيه والمتأثر به، الصانع والمصنوع في آنٍ واحد وقد ألمحنا فيما سبق إلى الدواعي التي سببت هذه النّقلة الجوهرية. وقد يكون الفرد في المذهب الواقعي نموذجاً، لكنه نموذج نوعيّ وليس عامّاً. إنه نموذجٌ يضم كل الأفراد الذين هم على شاكلته، والمجتمع يتكوّن من نماذج كثيرة منها الإقطاعي والرأسمالي والعامل والفلاح والبورجوازي والتاجر والمرابي ورجل السلطة والمرأة الطيّبة... الخ. وقد حرص كتاب الرواية والمسرحية الواقعيون على رسم هذه النماذج وخلقها لا من العدم والخيال بل من خلال الواقع. وقد عزفت الواقعية عن التعامل مع العالم الغيبي كالجنّ والأرواح والأشباح والملائكة والتشخّص والتجسّد الألّيغوريّ والأساطير والأحلام والمصادفات والخوارق... لأن هذه الأمور كلها لا تعنيها في شيء، والذي يعنيها فقط هو الإنسان بلحمه ودمه وأعصابه وغرائزه ومشاعره وحاجاته ومطامحه وآلامه وأفراحه المرتبط بالأرض وما حوله من الناس وما يحيط به من الظروف الموضوعيّة.
ولهذا السبب سمَّى بلزاك مجموعة رواياته المئة (الملهاة البشرية) في مقابل (الملهاة الإلهية) لدانتي.
إن الواقعية تنطلق من جميع طبقات المجتمع وأصنافه، من أدنى الطبقات الفقيرة والمعذبة والمسحوقة إلى أعلى الطبقات النبيلة والثريّة والمسيطرة. هنالك العمال والفلاحون والأجراء والمالكون والتجار والمرابون واللصوص والشحاذون والمحتالون والمجرمون والمنحرفون والسجناء والعواهر والسكّيرون واليائسون ورجال السلطة والحاكمون والعلماء والفنانون والنساء والأطفال وذوو العاهات... هنالك المجتمع بكامله، وبكل أعضائه وأجزائه. إليه ينزل الكاتب وفي أرجائه يتجوّل، ومنه ينطلق، ولأجله يكتب؛ لا لأجل فئة معيّنة يبتغي رضاها ونوالها. إن الشعب أصبح هو السيّد المحترم وليس البلاط أو الحامي النبيل. وقد أسهم في هذا الانقلاب الكوبرنيكيّ التطوّر الديمقراطيّ الذي أسفرت عنه الدراسات الاجتماعية والآداب والثورات وما حمله من مبادئ الحرية والعدالة والأخوة والمساواة والديمقراطية وقيمة الفرد ودوره في المجتمع الذي يناضل للتحرّر من كل سلطان مستبد أو أي متحكم سابق سواءٌ أكان متمثلاً في السلطة الملكية أو الامبراطورية أو الكنيسة أو الإطار الاقطاعي والرأسماليّ... وقد ساعد على الاتجاه نحو الشعب انتشارٌ الطباعة والصحافة على نطاق جماهيري واسع يستطيع الكاتب من خلاله الوصول مباشرة إلى كلّ القراء، ويقيس نجاحه بمقدار إقبالهم على قراءة نتاجه وتعاطفهم مع أطروحاته التي هي أطروحاتهم في الوقت نفسه.
ولا بدّ من الإشارة إلى أمرين هما من لوازم الواقعيّة أوّلهما: العناية بالتفصيلات الدقيقة والثانويَّة حتى التافه منها مما يتعلَّق بوصف الملامح والأصوات والألبسة والألوان والحركات والأشياء... إمعاناً في تصوير الواقع وكأنّه حاضر. والثاني: التركيز على الجوانب السلبيَّة من المجتمع كالأخلاق الفاسدة والاستغلال والظلم والإجرام والإدمان.. حتى لقد دُعيت بالمتشائمة، وفي الحقيقة لم يكن هذا ناشئاً عن التشاؤم بقدر نشوئه عن الرغبة في الرّصد والمعالجة. إن أبرز مخازي ذلك المجتمع المصطخب يصدر عن غاية خفيَّة وظاهرة في آن معاً، فهي خفيَّة لأن الكاتب لا يريد إيجاد الحلّ بنفسه ولكنه يصوّر الأمور تاركاً القارئ يبحث عن الحلّ. وهي ظاهرة لأن من طبيعة المذهب الواقعيّ الاهتمام بمصير الإنسان والأخذ بيده إلى مستقبل أفضل...
2- حياديّة المؤلف: وهي تعني العَرْضَ والتحليل وفق واقع الشخصيّة وطبيعة الأمور وبشكلٍ موضوعيٍ لا وفق معتقدات الكاتب ومواقفه السياسيّة أو الدينية أو المزاجية أو الفكرية أو القيميّة. الكاتب هنا شاهدٌ أمين. يدلي بشهادته حسب منطق الحوادث ومبدأ السببيّة والضرورة الحتميّة وليس كما يهوى ويريد. وهذا لا يعني أنه غير مبالٍ بما يجري حوله، بل يعني أنه لا يريد أن يفرض رأيه وميوله على القارئ. وكما أسلفنا إن الأدب الواقعيّ ليس مجانياً ولا عابثاً بل له غاية نبيلة غير مباشرة إذا تجرّد منها سقط في الفراغ والتفاهة والعبث والخلب الخادع الذي يقصد منه تزجية الوقت والتسلية وهذا النوع من الأدب هو أرخص الآداب وأدناها.
إن الكاتب الواقعيّ يبدو حيادياً، ولكن براعته في أنه يقود القارئ إلى موقف بحسب القوانين السيكولوجية في المؤثرات وردود الفعل. فالقصة تغدو مؤثراً يستثير عفوياً موقفاً من القارئ نفسياً أو سلوكياً. فالكاتب لا يأمر ولا ينهى ولكنه يضع القارئ مثلاً في موقف رفض أو قرف، فينتهي من تلقاء ذاته؛ ويثير إعجابه بأمرٍ إيجابي فيقبل عليه، ويخلق عنده نوعاً من التعاطف مع النموذج البشري فإذا به يحبّه ويقدّر فيه فضائله أو يكرهه ويمقت مخازيه.
إن الكاتب الواقعي لا يخاطب القارئ مباشرة بل من وراء حجاب يثير المشكلة وينسحب تاركاً الحكم للقارئ بعيداً عن الخطابة والوعظ وأسلوب المحاضرة والتربية... وحين يعمد الكاتب إلى التقرير والهيمنة تهبط قيمة أدبه. إن من أهم مزيا الأدب الواقعي تحريض الفكر وشحذ الإرادة وتقوية الشخصيّة وإشعار القارئ بأنه مسؤول عن مصيره ومصير مجتمعه ومشارك للكاتب في البحث عن الأسباب والدوافع وإيجاد الحلول. نعم..., قد يوحي الكاتب ويمهّد ويرهص ولكن من خلال اختياراته ووصفه وسرده.... وهذا لا يتنافى والحياد.
3- التحليل: أي البحث عن العلل والأسباب والدوافع والنتائج فلكل ظاهرة اجتماعية سبب والظاهرة الاجتماعية كالظاهرة الطبيعيّة تخضع لمبدأ السببيّة. وللظواهر المتماثلة أسباب متماثلة، وإذن فهنالك قانون يختفي وراء الظواهر والأسباب. والأديب الواقعيّ لا يعرض الظاهرة أو المشكلة مجرّدة. بل يبحث عن سببها ويوجّه النظر إليه ليصل بالقارئ إلى القوانين المحركة للمجتمع التي تكون من طبيعة اقتصادية أو سياسية أو دينيّة أو سلطويّة... وبهذا يزداد وعي القارئ واستبصاره وقدرته على التحليل والتأمّل والملاحظة والاستقراء ويصبح مؤهّلاً لوعي الواقع وتفسيره وقادراً على تغييره. ولكنْ.. كيف؟ وفي أيّ اتجاه؟ هذا ما لا يقوله الكاتب.
4- الفنيّة الواقعيّة: قال بعض النقاد: "إن الواقعية علميّة وليست جماليّة" ولئن صحّ الشطر الأول من هذه المقولة فعلى الشطر الثاني اعتراض. إن النصّ الواقعيّ ليس كتابة لبحثٍ علمي أو تقرير صحفي، إنه الأدب، والأدب فنّ، وكل فن يبتغي الجمال...! ويتفاوت الكتاب في درجات الفن، كما هو الأمر في بقية الفنون، بين الشعوذة والعبقرية، ولا جدال في أن للواقعية جماليتها التي تتلخص خصائصها فيما يلي:
أولاً- فضّل الواقعيون النثر على الشعر لأنه اللغة الطبيعية للناس أما الشعر فبالرومانسية أشبه ولها أنسب. فاختاروا جنسي الرواية والمسرحيّة، ونالت الرواية النصيب الأوفى من أدبهم لأنها تتيح مجالاً واسعاً ومرناً للوصف والإفاضة والتحليل، وتستوعب أزماناً طويلة وتغطي أمكنة كثيرة وتتضمّن شخصياتٍ غير محدودة. وأتت المسرحية في المقام الثاني ثم جاء الشعر في وقتٍ متأخر مع المدّ الاشتراكيّ. وهذا لا يعني أن النثر الواقعي مجرّد من عنصر الشعريّة بصرف النظر عن الوزن والقافية. لقد استفاد كتاب كثيرون من اللمسات الشعرية المستحبّة ولا سيما في تصوير العواطف والتصوير الخيالي الفنّي. كما فعل بلزاك الذي عرف كيف يستفيد من الرومانسية في إبائها فأكسب أسلوبه الحيوية والحرارة وبراعة الصورة وموسيقا العبارة، فأقبل الناس على كتاباته بشغف بخلاف زميله ستندال الذي جاءت كتاباته خلواً من الشاعريّة فأعرض عنها الناس لعدم إرضائها لديهم هذه الحاجة الفنيّة وإذا قلنا الرواية والمسرحية فإننا نعني كل مقوماتهما وتقنّياتهما الفنيّة. من حيث المداخل والمقدمات والأبواب والفصول والمشاهد وبراعة القصّ والحوار وجمال السردّ والحيوية والحركة والحبكة والتعقيد والمفاجأة والمماطلة بالحلّ والمعالجة غير المباشرة، والإبتعاد عن الثرثرة والحشو وما إلى ذلك مما يطلب توافره في القصّة والمسرح. أمّا الشعر فلا يسمّى شعراً إلاّ بمقوَّماته المعهودة في عالم الأدب والنقد.
ثانياً: اللغة المأنوسة الواضحة البعيدة عن التوعرّ والتكلف من جهة وعن الإسفاف والابتذال من جهة أخرى، المراعية لقواعد اللغة مع شيءٍ من المرونة والتسامح حين يتعلق الأمر بالطبقات الشعبية العادية البعيدة عن جواء العلم والثقافة... فآنذاك يجد الكاتب نفسه مضطراً لاستعمال مفرداتهم وتعبيراتهم الشائعة وأمثالهم وتسمياتهم الشعبية وطرائقهم في الحوار والمجاملة والمخاصمة.. وقد عُدَّ هذا من مقومات الواقع، وكان له تأثيره في إغناء اللغة الفصيحة وتطويرها.
ثالثاً: الإبداع والخلق، أي تركيب عالمٍ شبيهٍ بالواقع وليس نسخة أمينة عنه.. وقد سبق الكلام في هذه الخصيصة الفنيّة.
رابعاً: البعد عن التقرير والمباشرة والخطابة والوعظ.
خامساً: تجنّب الإكثار من التفصيلات والدقائق التافهة المربكة ولا سيما إذا كانت غير موظفة توظيفاً جيداً.
سادساً: التحليل والنفوذ وعدم التسطّح، والوصول إلى خفايا النفس والعلل والأسباب
سابعاً: براعة الوصف والتصوير على المستويين الداخلي والخارجيّ ونقل القارئ إلى عوالم جذابة ممتعة مثيرة للدهشة وحب الاطلاع.
ثامناً: براعة النمذجة؛ أي رسم النماذج الإنسانية المختلفة.
تاسعاً: مسّ الأوتار العاطفية في النفس الإنسانية مع إرضاء الحاجات الفكريّة والخيالية وعدم الاكتفاء بالإثارة الحسيّة...
عاشراً: تلاحم الشكل والمضمون، بأن يكون الشكل الفني تابعاً للمضمون وخادماً له. وبمقدارما تتوافر هذه الخصائص الفنية في النصّ الواقعي يرقى ويرتفع ويشهد لصاحبه بالعبقرية والبراعة. وبها تتفاوت أقدار الأدباء. وشتّان -مثلاً- مابين عباقرة مثل بلزاك وفلوبير ودوستويفسكي وبين كاتب بهلوانيّ مثل والترسكوت أو كاتبٍ مغامراتٍ ومبارزاتٍ مثل دوماس الأب...!
ب- الواقعيّة الطبيعيّة:

وتسمّى أيضاً بالمذهب الطبيعي، وهي فرعٌ للواقعية الأمّ تكوّن في نهاية القرن التاسع عشر على يد إيميل زولا، ولم يجر تحديد هويّته إلا في القرن العشرين. وكان الناقد برونتيير (1909) يصنف زولا في زمرة الواقعيين مثل موباسّان وفلوبير ودوديه. وتتميز هذه المدرسة بالخصائص الآتية:
1- المبالغة في التزام الواقع الطبيعي إلى درجة الاهتمام بالأمور القبيحة والمقرفة والوضيعة، والمكاشفة الجنسيّة، والألفاظ البذيئة بدعوى أنّ ذلك من تصوير الواقع الحقيقيّ تصويراً علمياً أميناً لا مواربة فيه. فلا داعي لتحريمها أو الترفع عنها...
2- الإخلاص الكامل للعلم الطبيعي والفلسفة الماديّة والوضعيّة، وتصور العالم من الوجهة العقلانية الماديّة فقط. والنأي التامّ عن الغيبيّة والمثاليّة، حتى لقد أضحى المذهب الطبيعيّ هو الدين الجديد، وحلَّ رجل العلم والتكنولوجي مكان القسّ، ولم تكتف الطبيعية بذلك، بل أخذت تهاجم الكنيسة والمنطلقات الدينية وتسخر منها، ولا سيّما فيما يخصّ الجنس والمكافأة الأخرويَّة للفقراء...!
فالدين عندها معوّق للتقدم، والفقراء والعمال والفلاحون لادينيون والإله مات في زعمهم. وقد أضاف زولا إلى هذا النهج المعطيات الفرويديّة في التحليل النفسيّ كعقدة أوديب (عشق الولد أمَّهُ) وعقدة إليكترا (عشق البنت أباها) وكون الجنس المحرك الأساسيّ العميق للسلوك، واكتشاف عالم الباطن اللاشعوري؛ كما أضاف تأثير البيئة والوراثة في تكوين السلوك والطباع وضروب السلوك. فبدت رواياته السليلة الشرعية للعمل التجريبيّ الذي تطوّر على يد تين وداروين وكومت وكلود برنار وفرويد...
3- عدم الحياد: فالموقف صريح واضح إلى جانب التقدم البورجوازي والديموقراطية ومحاربة الفساد والظلم والانهيار الأخلاقي...
4- النظرة إلى المجتمع في إطار الوحدة الكلية المتماسكة، أي كالجسد الواحد، يتضامن أعضاؤه جميعاً في مسؤوليتهم إصلاحاً وفساداً.
5- التفاؤل والأمل واليقين بانتصار العلم والحب وسيادة الحرية والديموقراطية والعدل والأخوّة والمساواة... ولاينفي هذا الاتجاه بعضُ الاستثناءات؛ ففي الوقت الذي وجد فيه كتابٌ مسرحيون متفائلون مثل سكريب وساردو كان الكاتب المسرحي الطبيعي هنري بيكّ H. Beeque متشائماً لا مبالياً بالهدف الإصلاحي، اكتفى بتصوير المجتمع كما هو بحثالته ومغفّليه وشرّيريه بأسلوب لاذع (مسرحيتا الغربان والباريسيّة).
وقد ظهرت في هذا الاتجاه اللامبالي الكوميديا الطبيعية وما سميّ بالمسرح الحرّ، الذي كان لا يعبأ بأي نقد أو رقابة سوى حكم الجمهور، وقد بالغ في التشاؤم وعرض المخازي واستخدام اللغة المكشوفة البذيئة والعاميّة حتى أصبح ممجوجاً، وسرعان ما انسحب أمام المسرح الواقعي المتفائل.
ج- الواقعية الاشتراكية:

وتسمَّى أيضاً الواقعية الجديدة. وقد نشأ هذا المذهب منذ البداية رداً على الرومانسيّة والواقعية الانتقادية المتشائمة والطبيعيّة السطحيّة، ونما وانتشر مع اتساع الدراسات الاشتراكية والتطبيق الاشتراكي؛ ولما كانت الاشتراكية نظرةً فلسفيّةً واجتماعية تشمل كل فروع المعرفة والحياة فقد اهتمت بالأدب الواقعيّ ووجهته وجهةً خاصّةً تناسبها، ووجدت فيه خير مصوّر للواقع وباعثٍ للوعي وحافز إلى التغيير باتجاه التقدُّم. ومن هنا نشأت الواقعية الاشتراكية في الأدب وأصبحت مدرسةً عالمية لها منهجها العقائدي المتميّز الذي تمّ من خلاله استخلاص مدرسةٍ نقدية سميّت بمدرسة الواقعية الاشتراكية. وقد تبلورت معالمها في الثلاثينيات من القرن العشرين.
وتتلخص سمات المدرسة الواقعية الاشتراكية في الأدب بالخصائص الآتية:
1- إنها تنطلق من الواقع الماديّ من خلال فهمٍ عميقٍ لبنية المجتمع والعوامل الفعالة فيه والصراعات التي ستفضي إلى التغيير. فالواقع هو الصادق الوحيد والقاعدة العلميّة الموضوعيّة.
2- الأديب طليعة مجتمعه بما أوتي من مؤهلاتٍ فكرية وفنيّة ووعيٍ للعالم ومؤهلاتٍ قياديّة تمكّنه من التأثير في الأفكار والعقائد والقناعات والسلوك؛ فله إذن رسالة جوهرية إيجابيّة وهي الاتجاه مع المجتمع لبناء مستقبلٍ أفضل للجماهير العريضة. إن الأدباء هم (مهندسو النفس البشرية) ولذلك لابد لهم من رؤية مستقبليةٍ واضحة لما يجب أن يكون.
3- ينطلق الفهم العميق للمجتمع من التحليل الماركسيّ للصراع الطبقيّ والوصول إلى كنه التناقضات الجدليّة في هذا الصراع الذي يقوم على التأثير والتأثر والناتج.
4- عدم الاكتفاء بالتصوير بل لابد من شفعه بالتحليل واستخلاص العوامل الفعالة في صياغة المستقبل التقدمي، وهنا تبرز رسالة الكاتب وإعلاء شأن الإرادة الإنسانية ونضالها العنيد ضمن الإطار الجماعيّ الطبقي لصنع المصير وفق المنطق التاريخي. وإنّ الكاتب لا يبقى مشاهداً سلبياً بل يتدخل لتغليب الإيجابيات وتعزيز النضال.
5- الواقعية الاشتراكية متفائلة، تؤمن بانتصار الإرادة الجماهيريّة التي تتجه دوماً في طريق الحق والخير وتتمكن من إعادة بناء المجتمع الجديد.
6- تولي الواقعية الاشتراكية أهمية كبرى لرسم وإبراز "النموذج البطولي" في إطار التلاحم النضالي مع الجماهير والتصميم الإرادي والصلابة والوعي والتضحية، بحيث يصبح نمطه مثالاً للمناضلين، يحبّونه ويقتدون به.
7- الواقعية الاشتراكية إنسانيَّة وعالميّة تؤمن بوحدة قضايا الشعوب ووحدة نضالها في سبيل التحرّر الاجتماعي والسياسي ووحدة الخط التاريخي، وتدين أشكال الاستعمار والاستغلال والفردية والتمييز العنصري والدينيّ.
وترى أن القوميّة جسرٌ إلى العالمية، وترفض الاعتداء والتسلّط والحروب
8- لا تهملُ المقومات الفنيّة كالمقدرة اللغوية والأسلوبية وبراعة التصوير الطبيعي والنفسيّ وحرارة العاطفة والمقومات الخاصة بكل جنسٍ أدبيّ وهي تتجه إلى الجماهير في خطابها ولذلك تختار اللغة السهلة المتداولة. ولا تقيم وزناً لأدب يؤدي الأهداف دون حسٍّ مرهفٍ وأداءٍ فنّي. فالمضمون والشكل متضامنان لا ينفصل أحدهما عن الآخر...
***
وممّا تقدم نتبين أن الواقعية الاشتراكية مدرسة إيديولوجية ملتزمة سواء على الصعيد الإبداعي أو النقدي؛ ولكنها تلحّ دوماً على أن يكون الالتزام نابعاً من صميم القناعة، يتدفق من تلقاء ذاته وليس مجلوباً أو مفروضاً أو مرائياً أو مجاملاً. إن الأدب الواقعي الاشتراكي هو أدب التلاحم مع الجماهير، والنضال معها وفي مقدمتها مع إبراز دور الحزب والتنظيم وفضح الطبقة المستغلة والعناصر الفاسدة والمتحكمة والرجعيّة والحياديّة والمتردّدة والوصولية والانتهازية وكل أعداء الاشتراكية والتقدم الذين يشكّلون فيما بينهم حلفاً عائقاً لمسيرة الجماهير بشكل صريحٍ مباشر أو ضمنّي غير مباشر.
***
وقد ازدهرت الواقعية الاشتراكية في روسيا خلال القرن التاسع عشر ومهدت للثورة، وزادت قوةً وانتشاراً بعد انتصار ثورة 1917 وانتقلت إلى البلدان الاشتراكية الأخرى في القرن العشرين، وكان من أوائل منظّريها بلنسكي (المتوفى عام 1848) وهو من النقاد الديموقراطيين ومؤسس علم الجمال الواقعي ومن الاشتراكيين الخياليين، وقد ناضل في الصحافة والأدب لاخراج روسيا من نير العبودية والاستبداد ومن أعلامها أيضاً تشرنشفكي (المتوفى عام 1889) الذي ناضل ونفي إلى سيبريا بسبب أفكاره، وهو أحد القادة الديمقراطيين والداعي إلى ثورة الفلاحين والنضال في وجه السلطة التقليدية، والدفاع عن الطبقات المسحوقة ولا سيما الفلاحين المستعبدين الفقراء. وله أيضاً رسالة في (علم الجمال) تعدّ أساساً لعلم الجمال الواقعيّ، انتقد فيها نظرية الفن للفنّ، واعتبر الحياة الواقعية نفسها مقياساً للجمال ومعياراً للصدق والإخلاص والعمق. ومن أشهر رواياته رواية (ما العمل)؟
أعلامٌ واقعيون ونصوص واقعيّة
بلزاك
Honoré de Balzac
1799-1850


استهلّ بلزاك حياته في سلك الكهنوت، ثم ما لبث أن اتجه إلى الأدب والعمل في الطباعة والنشر، وغرق في الديون، فكان لابد له من مضاعفة عمله الشاق في الكتابة والتصحيح الطباعي على حساب راحته وصحته.
بدأ بكتابة بعض الروايات الضعيفة ثم برزت مواهبه في عام 1828. جمع رواياته التي قاربت المئة في (الكوميديا البشريّة) وجعلها مقسمّة في محاور رئيسة: (الأول): للعادات الشائعة في المجتمع الفرنسي بعد الثورة وفي أثناء الامبراطورية الأولى. (والثاني) عرضٌ مفلسف ومعلّل لمظاهر ذلك المجتمع. (والثالث) تحليل أدبيّ للقوانين التي تنظم حياة المجتمع.
انتقد بلزاك سلطة الكنيسة ووقوفها في وجه العلم، وفضح مثالب رجال الدين وأدان حكومة عصره الملكية وسخر من الأبهة البورجوازية الفارغة ومن الذين يعيشون على ذكريات الماضي، ومجدّ المتمردين من العمال والفلاحين وتنبأ بانتصار ثورتهم، ولم ينفصل عن الحياة الحقيقية بما تحويه من طبقات وتجار ورأسماليين ومرابين وكوارث مالية وموظفين وسكان قصور وعسكريين وشرطة ومحتالين وغانيات وسيّدات مجتمع. وحرص على عرض ما يتردّد في المجتمع من الأفكار والعادات والتقاليد والعقائد ولم يكتف بالوصف، بل حلّل المشاعر وبحث عن الدوافع السلوكية وربطها في الغالب بالأحوال الاقتصادية وأكد على تأثير البيئة في الفرد، وعالج مشكلات سيادة المال، وأساليب المستغلين والجشعين والتهافت على المناصب بمنأى عن الفضيلة وشقاء الفقراء وتفكك الأسرة وكل الرذائل ولم ينج من سوط نقده أية شريحة اجتماعية. وقد قال في مقدمة ملهاته البشرية: " لقد أضفتُ إلى عمل المؤرخين فصلاً منسياً هو تاريخ العادات والتقاليد".
وكان يكتب رواياته بمعزل عن عواطفه وميوله ومشاعره الخاصة ولا يسبغ قناعاته الكاثوليكية وآراءه السياسيّة على شخصياته بل يدعها تترجم عن ذاتها بعفوية وصراحة وصدق.
ولهذا كله عدَّ بلزاك الرائد الحقيقي للمذهب الواقعيّ والممّهد الأدبي للاشتراكية العلمية، الذي أشاع أفكارها ورسم قواعدها حتى غدت بعض أقواله بمنزلة المبادئ والشعارات؛ كقوله: "الذهب نعم، الذهب هو دين دساتيركم..!" وفي دفاعه عن الفلاح: "كيف يحرم غارس الحبوب ومنبتها وساقيها وحاصدها ثمرة كدّه؟" وفي تقديس العمل والإنتاج: "إنّ الذي يستهلك ولا ينتج مغتصب لحقّ غيره..!"
لقد كان بلزاك يشمّ رائحة عفن مجتمعه ويستشرف سقوطه أمام زحف الاشتراكية الصاعد في الأفق. وقد شهد أنجلز أنه تعلّم من بلزاك أكثر مما تعلمه من جميع كتب المؤرخين والاقتصاديين والاخصائيين المهنيين جميعاً...
ومن أبرز رواياته: الأب غوريو وأوجيني غرانديه وزنابق الوادي وبالثازار وابن العم بون وابنة العم بت وعائلة شوان وطبيب القرية والفلاحون والبحث عن المطلق...
وعلى الرغم من أن قصصه ليست فصولاً لسيرة واحدة فقد كان من دأبه تكرار النماذج نفهسا في أكثر من قصة. وكان -مثل موليير- من أبرع مخترعي النماذج البشريّة، يصفها وكأنما عايشها في أمكنة سكنها وعملها. فهو يرصدها في جميع حركاتها وأعمالها وعاداتها ويصفها خارجياً وداخلياً دون أن يهمل أي شيء من التفصيلات والملامح والألبسة والأمكنة واللهجات فيجعل القارئ يكوّن لها صورة واضحة لاتنسى بحيث يصبح وكأنه مشاهد ومشارك.
فيكــــتورين

.. "كانت فيكتورين بيضاء كالعاج، وكالمصابة بداء اليرقان؛ تبدو غارقةً في كآبة دائمة، وكبتٍ متواصل. ومع ذلك ترى على وجهها مسحةً من رونق الفتّوة، وفي حركاتها مرونة، وتسمع لصوتها رنَّة عذوبة. كان هذا الشقاء الفتيّ يشبه غرسةً ذابلة الأوراق، قد غرست منذ قليل في تربةٍ لا تلائمها... لونها الشاحب وشعرها الأشقر وقامتها النحيلة، كل ذلك كان يعبر عن هذا اللطف الذي يكتشفه شعراؤنا المعاصرون([1])في تماثيل الأجيال الوسطى... كانت عيناها الرماديتان الضاربتان إلى السّواد تعبران عن وداعة وطاعة مسيحيّتين. فلو أنها كانت سعيدة في حياتها لوجدتها فاتنة. إنّ السعادة صفة النساء الشعريَّة كما أن التبّرج رونقهن...!"
من (الأب غوريو)
ترجمة دار عويدات- بيروت
الــــذَّهــــب([2])

( كان الأب غرانديه يستمتع بشعور الغنى بدلاً من أن يتمتع بالثروة، ويعشق الذهب لذاته. وهنا حوارٌ بينه وبين ابنته أوجيني بحضور أمها والخادمة)
- أصغي إليّ يا أوجيني؛ يجب أن تعطيني ذهبك، ولن ترفضي رغبةً لوالدك، أليس كذلك يا حبيبتي؟
وجمت المرأتان، وتابع:
ليس لديّ ذهب، كان عندي ذهب والآن لم يبقَ معي شيءٌ منه؛ وسأردّه إليك ستة آلاف فرنكٍ تستثمرينها كما سأبيّن لك، ويجب ألاّ تفكري في الاثنتي عشرة قطعة ذهبية؛ فعندما سأزوجك؛ وهذا سيكون قريباً؛ سأجد لك قريناً يستطيع أن يقدم لك أفضل اثنتي عشرة قطعة تحدث عنها الناس في المنطقة؛ فأصغي إلي، ستكون أمامك فرصة جيدة، إذ تستطيعين إيداع ستة آلاف فرنك لدى الحكومة، فتحصلين كل ستة أشهر على فائدة قدرها مئتا فرنك، خالية من الضرائب ومصروفات ال*****، وفي مأمنٍ من الصقيع والجليد وأخطار البحر وكل ما يهدر الثروة.. لربّما تكرهين الانفصال عن ذهبك؛ أليس كذلك يا بنيتي؟ حسناً، هاتيه لي على الرغم من ذلك؛ وسأجمع لك قطعاً ذهبية متنوعة: هولندية وبرتغالية، وروبيّات مغوليّة ودنانير جنويّة، فإذا أضفت إلى هذا ما سوف أعطيك في أعيادك لمدة ثلاث سنوات، فإنك تستعيدين نصف قيمة كنزك الذهبيّ الجميل الصغير... إيه..؟ ماذا تقولين يا صغيرتي؟ ارفعي إذن أنفك وهيّا اذهبي فأحضريه، ذلك الغالي؛ ويجب أن تقبليّ عينيّ لأني أكشف لك عن أسرار حياة الدنانير وموتها..! حقاً إن الدنانير تعيش وتتكاثر كالبشر. هذا يذهب وذاك يأتي، وهذا يجمد وذاك ينتج...!
نهضت أوجيني متجهة صوب الباب، لكنّها عادت فجأة وحدّقت في وجه أبيها وقالت:
-ذهبي ليس معي
- ذهبك ليس معك؟ صرخ غرانديه منتصباً على ساقيه كأنه حصانٌ سمع فجأة فرقعة مدفع على بعد عشر خطوات منه.
- لا.. لم يعد معي.
- إنك تغالطين نفسك.
-لا.
- قسماً بمقْطَفة([3]) والدي...
واهتزت أرض الغرفة الخشبيّة من هذا القسم. وصرخت الخادم نانون:
- يا إلهي، أيها القديس الصالح، لقد شَحُبَ لون سيّدتي.
وقالت المرأة المسكينة:
- يا غرانديه إن غضبك سوف يميتني.
- لا؛ لن تموتوا وأنتم في هذه العائلة...، قولي أوجيني: ماذا فعلت بقطعك الذهبيّة؟ قالها وهو يصرخ في وجهها.
فأجابت الفتاة، وهي جاثية عند ركبتي والدتها:
- سيدي، إن والدتي تتألم كثيراً. انظرْ، لاتقتلها!
وذعر غرانديه لما علا بشرة زوجته من شحوب واصفرار لم يشاهد مثله قبل الآن. وقالت المرأة بصوت ضعيف:
- نانون، ساعديني على الاستلقاء، إنني أموت...!
مدّت نانون ذراعها لسيدتها وكذا فعلت أوجيني ولم تستطيعا الصعود بها إلى غرفتها إلاّ بشق الأنفس، لأنها كانت تسقط من الإعياء من درجة إلى أخرى. وبقي غرانديه وحيداً؛ إلا أنه بعد لحظات صعد سبع أو ثماني درجات وصاح:
- أوجيني؛ إذا رقدت أمك فانزلي!
- نعم يا أبي.
ولم تتأخر عن المجيء فور اطمئنانها على والدتها. فقال غرانديه:
- يابنتي، ستقولين لي: أين كنزُكِ؟
- يا أبي، إن كنت قد أعطيتني مالاً لستُ أهلاً للتصرف به فاستعده.
قالتها بكلّ برودة، وهي تبحث عن دينارٍ نابليونيّ كانت وضعته على المدفأة، ثم قدمته إليه.
وسرعان ما تلقّفه ودسّه في جيب صُدرته.
- أعتقد أني لن أعطيك شيئاً بعد الآن. وليس هذا فحسب، بل لن أطعمك؛ (قالها وهو يقرع سنّه بظفر إبهامه). إنك تحتقرين والدك، وليس لك به ثقة، أنتِ لا تعرفين ماذا يعني الوالد. إن لم يكن والدك كل شيءٍ عندك فهو ليس شيئاً البتّة. قولي: أين ذهبُك؟
- يا أبي، إني أحبك واحترمك على الرغم من غضبك ولكني أريد أن أذكّرك أني في الثانية والعشرين من عمري، ولطالما قلت لي: لقد صرت كبيرة-ولقد تصرّفت بنقودي كما يحلولي. وثِقْ أني وضعتها في مكانها المناسب.
- أين؟
- هذا سرُّ لا أبوح به، أليس لكَ أسرار؟
- ألستُ سيّد هذه الأسرة، ألا أستطيع أن أمارس شؤوني؟
- إنه أيضاً من شأني.
- لا بد أن يكون شأنك هذا أمراً سيّئاً حتى تخفيه عن والدك يا آنسة غرانديه!
- بل إنه أمرٌ نبيل. ومع ذلك لا أستطيع البوح به لوالدي.
- على الأقل، قولي لي، متى أعطيت ذهبك؟
(أشارت أوجيني برأسها إشارة الرفض)
- هل كان لا يزال معكِ يوم عيد ميلادك؟
ولما كانت أوجيني محرجة بسبب القسم، بقدر ما كان والدها ملحاحاً بدافع البخل فقد أعادت برأسها إشارة الرفض نفسها.
- لم أر في حياتي مثل هذا العناد، ولا مثل هذه السّرقة. (ثم أردفَ وهو يرفع صوته فترتج أنحاء البيت)
- هنا، وفي بيتي، أخذ أحدهم ذهبك، الذهب الوحيد في البيت، ثم لا أعرف من هو؟ إن الذهب شيءٌ نفيس. إنّ أشرف الفتيات قد يقترفن أخطاءً ويسلّمن مالا أريد أن أذكره... هذا يجري عند الأكابر والبورجوازيين على السّواء... ولكنْ أن تعطي ذهبك! لقد أعطيته لشخصٍ ما أليس كذلك؟
وأوجيني صامدة لاتجيب.
- لم أرَ مثل هذه البنت. هل أنا أبوك؟ إذا كنتِ قد أودعته فلا بدّ أنك تتقاضين عنه ربحاً...
- هل كنت حرّةً في أن أفعل بمالي ما يبدو لي حسناً؟ هل هذا من حقي؟
قل: نعم أو لا.
- ولكنكِ ما زلت صغيرة.
- بل كبيرة...
ولما أُفحم بمنطق ابنته، شحب لونه، وضرب الأرض بقدمه وأقسم، ثم صرخ:
- ملعونة أنتِ أيتها البنت الأفعى. يالك من قسمةٍ سيّئة. إنك تعلمين أني أحبّك وتسيئين استغلال هذا الحب.. إنها تذبح أباها. باللّه هل ألقيت ثروتنا تحت أقدام ذلك الحافي الذي ينتعل خفّين مغربيين؟ قسماً بمقطفة والدي؛ لا أستطيع أن أحرمك من الإرث ولا من برميلٍ واحد؛ ولكني ألعنك أنتِ وابن عمك وأولادك... ولن تلقيْ خيراً من جرّاء ذلك. هل سمعتِ؟ إذا كان شارل هو الذي... ولكن، لا، هذا مستحيل؛ أيكون هذا المتأنق الخبيث قد نهبني؟؟
ثم نظر إلى ابنته وهي لا تزال صامتة باردة، وقال:
- إنها لا تتحرك، ولا يرفّ لها جفن، وكأنما هي غرانديه، ولست أنا. إنكِ لم تعطي ذهبك مجاناً على الأقلّ. هيّا، قولي!
ولكن أوجيني ترشق أباها بنظراتٍ ساخرة فتثير غضبه
- أوجيني إنك في بيتي، عند والدك، وإذا شئت البقاء هنا فيجب أن تطيعي أوامره، الكهنة يأمرونك بذلك.
طأطأت أوجيني رأسها.
- إنك تهاجمينني في أعزّ ما لدي؛ لا أريد إلاّ أن أراك خاضعة، اغربي إلى غرفتك، وابقي فيها حتى أسمح لك بمغادرتها. وستحمل إليك نانون الخبز والماء. هل فهمتِ؟. هيّا..!
ستندال H. B Standhal - 1783-1842

هنري ستندال كاتبٌ واقعيّ، جاء في أوج الرومانسية وقمَّة نشوتها، لكنه رفضها رفضاً قاطعاً؛ ولذلك لم يلتفت الناس إليه كثيراً، وقد تنبأ هو بأن طريقته لن تفهم قبل عام 1880.
بدأ حياته في السلك العسكري، ثم اندمج في العالم الأدبي وشغف بايطاليا وأوساطها الثقافية. ثم استقرّ في باريس، وارتاد الصالونات الأدبيّة، وأجال عينيه فيما حوله، وملأ ذاكرته بما رأى وسمع. وقد أسعفته ملاحظته الدقيقة النافذة في تصوير العالمين الداخلي والخارجيّ. واقعيّته نفسيَّةٌ قبل كل شيء، تبحث عن الأسرار والبواعث وتحلل الأمور تحليلاً ذكيّاً، يقول فيه الناقد تين: "لقد علّمنا ستندال كيف نفتح أعيننا وننظر"
كتب ستندال في التاريخ والجغرافيا والتراجم. ثم ألف كتابه "الحب" بالطريقة النفسيّة. وكتاب "راسين وشكسبير" بالطريقة النقدية. وأصدر أولى رواياته "الأحمر والأسود" عام 1831. وقد رمز بالأحمر إلى الثورة والصراع لأجل الحريّة. وبالأسود إلى الكنيسة التي سخر منها كما سخر من الوصوليين التافهين. وفي عام 1839كتب روايته "دير بارم"
يعدّ ستندال أحد أساتذة الفكر في عصره، بسبب نفوذه إلى أعماق النفس البشرية ووضعها في أدق لويناتها، وحبّه للقوة، وأسلوبه الشفاف. وكان له تأثير واضح في بعض النقاد مثل تين وبعض الروائيين مثل بول بورجيه.
إيميل زولا Emile zola - 1840-1902

هو من أبرز ممثلي المذهب الطبيعي في الأدب. نشأ في باريس وكان منذ يفاعه صديقاً للفنان سيزان ومعجباً متحمساً بأعمال هوغو وموسيّه عاش حياة فاقة اضطرته إلى العمل في سن مبكرة موظفاً في الجمارك ثم عاملاً في الطباعة والنشر مما أتاح له معرفة كثير من الأدباء وخبرة عملية في أمور الطباعة والنشر. ثم عمل في الصحافة، ودافع في مقالاته عن الفنانين رينوار ومونيه وبيسّارو، كما دافع عن بلزاك وأثنى على الأخوين غونكور. ثم كون حوله جماعة من الأدباء مثل تورغينيف وفلوبير وغونكور ودوديه وهو يسمّان وموباسّان وكلهم من الواقعيين والطبيعيين.
درس نظريات الفيلسوف تين في العلم الوصفي ونظرية الوراثة الطبيعية فأدخلها في الرواية وتعقب دورها في أفراد عائلة روغون ماكار وغيرها عبر الأجيال. وكتب روايات كثيرة مثل: معدة باريس (سوق الهال) وغلطة الأب موريه وأوجين روغون والحانة (وهي حول حياة العمال وإدمانهم الخمرة) وصفحة حب، ونانا، وأمسيات ميدان Médan وسعادة السيدات، وفرح الحياة، وجيرمنال (وهي حول عمال المناجم) والأرض (حول حياة الفلاحين) والحلم، والوحش البشري، والمال، والانهيار، ودكتور باسكال، والمدن الثلاث (روما- لندن- باريس).. الخ وفي عام 1898 دافع عن الضابط اليهودي دريفوس الذي اتهم بالخيانة دفاعاً قوياً في الصحافة. وبعد أن أدين وسجن وغُرِّمَ عادت المحكمة فبرّأته فكان ذلك انتصاراً لزولا شبيهاً بانتصار فولتير الذي دافع عن كالاس([4])وهوغو الذي دافع عن البؤساء ومن الطريف أن جثمانه نقل إلى البانتيون عام 1908 ليدفن إلى جانب هذين الأديبين العظيمين. كان زولا أميناً في تصوير الحياة الواقعية وصعود البورجوازية الفرنسية في أثناء الامبراطورية الثانية وكتب عن الحياة التجارية والمنافسة والمال والأعمال الحرة وهاجم الكاثوليكية ووضع العلم بديلاً عنها، وكان يقحم قناعاته في رواياته، بخلاف بلزاك وفلوبير الحياديين. وكان أقرب منهما إلى الرومانسية. وهو يعرّف الفنّ بأنه "الطبيعة من خلال مزاج". وهو ذو منهج علميّ طبيعيّ تنعشه موهبة فذة وروح شاعريّة. وقد أخذ عليه الكلام الهابط المكشوف والأوصاف الجنسيّة.
الوحش الحديديّ والوحش البَشَري([5])

... "أثارت أفكارها صورة هذه الحشود من الناس التي تقلُّها عربات القطار يومياً مارةً من أمامها وسط السكون الكبير المخيّم على عزلتها، فحدَّقت إلى الخطّ الحديديّ الذي بدأ الليل يهبط عليه... إنها لم تكن لتفكر في هذه الأمور عندما كانت تملك كامل قوَّتها فيما مضى من الزمن غاديةً رائحة أمام الحاجز، حاملة رايتها بقبضة يدها؛ ولكن رأسها بدأ يزدحم بالأحلام المشوَّشة منذ أن أصبحت مجبرةً على المكوث أياماً بطولها فوق مقعدها، ولم يبق لديها شيء تفكر فيه سوى صراعها الأخرس مع زوجها؛ وكان يتراءى لها أنه من دواعي السخرية أن تعيش حياتها ضائعة في هذه الصحراء دون أن يكون إلى جانبها مخلوقٌ حيٌّ تبثة شجونها في حين كانت تمرّ أمامها ليل نهار مواكب من الرجال والنساء دون انقطاع في غمرة دويّ القطر التي تهزّ أركان البيت ثم تولي مطلقةً عنان بخارها. ومن المؤكد أن سكان الأرض قاطبةً يمرون أمامها لا الفرنسيون وحدهم بل الأجانب أيضاً، ولا شكّ أنّ هناك أيضاً أناساً قادمين من أقصى البلدان؛ لأن الناس -لاشكَّ- لم يعودوا يرضون بالبقاء في أمكنتهم ما دامت الشعوب -كما يقال- سوف تصبح جميعاً أمةً واحدة. وعندما يمرّ جميع الناس وقد تآخوا وتواكبوا، متجهين نحو بلدٍ ممتلئٍ بالخيرات فإن هذا هو التقدم بعينه...
آه، ياله من اختراع! إن الناس يتحركون بسرعة وقد أصبحوا أكثر علماً من ذي قبل، ولكن الحيوانات المتوحّشة ستظلّ متوحشة ولو توصلت إلى مخترعاتٍ أكثر دقّةٍ. ولسوف تبقى هنالك بعض الحيوانات المتوحّشة.
... كان القطار في تلك اللحظة يمرُقُ في عنفٍ يشبه عصف الريح العاتية كأنه يكتسح كل شيءٍ في طريقه، فاهتز المنزل إذ أحاطت به زوبعة من الريح العاصفة. كان ذلك القطار المتَّجه إلى الهافر مثقلاً جداً؛ لأن احتفالاً بإنجاز سفينةٍ أنجز صنعها سيجري يوم الغد، وعلى الرغم من سرعته الشديدة فقد أمكنت رؤية مقاصيره المزدحمة بالمسافرين عبر نوافذه المضيئة حيث تتابعت صفوف الرؤوس المتراصّة، تشاهد ثم تختفي...!
يا للحشد الذي لا ينتهي..! وفي غمرة تتابع العربات وصفير القاطرات ونقرات اللاسلكي ورنين الأجراس كان القطار شبيهاً بجسمٍ عملاقٍ مُضْجعٍ فوق الأرض، رأسه في باريس وفقراته على طول الخط الحديدي وأطرافه تمتدّ مع تشّعبات الخط؛ فأيديه وأرجله في الهافر وفي سائر المدن التي يصل إليها. ومرّ، ومرّ.. آلةً قهارةً تندفع نحو المستقبل بثقةٍ آلية، في قلب الغباوة الإرادية المتأصلة فيما بقي من الإنسان المختبئ على جانبي هذه الآلة، محتفظاً من الحياة بالرغبة الأبديّة والجريمة السرمدية"
موباسّان Guy de Maupassant - 1850-1893

نشأ في إقليم نورماندي وانطبعت في ذهنه صور البحر والريف الجميل. وتلقى في طفولة العلوم الدينيّة ثم أكمل دراسة في كلية روان. واشترك في حرب 1870 في سلك الحرس السيّار. ثم سكن باريس موظفاً في وزارة الحربية وما لبث أن تركها ليعمل في وزارة المعارف. وكان من خلال هذه الوظائف يتأمل الناس ويدرس طباعهم ونماذجهم. ارتاد الصالونات الأدبية الباريسية وقام برحلات عديدة داخل فرنسا وخارجها فزار كورسيكا والجزائر وإيطاليا وتركت هذه الرحلات آثارها في قصصه.
شرع في كتابة أولى تجاربه بإشرافٍ وتوجيه من الكاتب فلوبير صديق أمّه، وتأثر برواية مدام بوفاري ونظم الشعر وكتب تجارب مسرحيّه ثم انصرف إلى القصة القصيرة، ومن أشهر مجموعاته فيها "كرة السُّخام" ثم كتب روايات طويلة أبرزها "حياة صاخبة" و "الصديق الجميل" و "بيير وجان" و "قوي كالموت" و "قلبنا" وكتب عدداً من كتب الرحلات مثل "في الشمس" و "فوق الماء" و "الحياة الشاردة" تميزت رواياته وقصصه بطابع السخر والتشاؤم والعطف على البؤساء والمنكوبين. ولا شك أن حالته الصحيّة والنفسية انعكستْ على آثاره. وكان ينطلق من تصوير الواقع والبيئة دون الإيغال في التفصيلات. وأسلوبه هو الطيّع السهل، والمرن البسيط المصفّى من كل شائبة، وتبدو في رواياته، إلى جانب الواقعية الطبيعية ملامح رومانسية وكلاسيكية.

الخيانة الزوجيَّة

(فاجأت البارونة الشابة "جان" زوجها الفيكونت جوليان في جرم الخيانة الزوجية مع خادمتها "روزالي" ولّما يزالا حديثي زواج وهي حاملٌ منه وتبينت أن الطفل الذي وضعته روزالي سفاحاً هو من زوجها الذي كان يخونها منذ مدة طويلة. فانهارت كل آمالها وسعادتها، وفي اجتماعٍ عائليٍ غاضب ضم الخائنين والزوجة ووالديها والطبيب والكاهن سنشاهد كيف سويّت هذه القضيّة. الكاهن يقول لروزالي:
"- إنّ ما أقدمت عليه يا بنيتي سيءٌ جداً. والله العزيز لن يغفر لك سريعاً، فكري بالجحيم الذي ينتظرك إذا لم تنتهجي بعد اليوم نهجاً مستقيماً. وأنتِ أمّ لطفل، فعليك السير على غير هذا السبيل، وسيدتي البارونة لن تتخلى عنكِ، وسنتكاتف لإيجاد زوجٍ لك...
وطال به الكلام وإزجاء النصح، وما فرغ حتى تناولها البارون روزالي من منكبيها وجرّها حتى الباب ثم دفع بها إلى الممّر كأنها غِرارة أو حطام.
وعاد الكاهن يقول إذ دخل البارون وقد فاق ابنته شحوباً:
- ماذا تريد؟ إن أغلب النساء في هذه المنطقة على هذه الشاكلة. ولكنْ ماذا بوسعنا أن نعمل؟ لابدّ للضعف البشريّ من بعض المداراة... وقلما تتزوج فتاة دون أن يسبق لها الحمل والوضع... حتى ليخيل للمرء أنها عادة متّبعة، هذه الخلة الذميمة! ثم أضاف بصوتٍ ينضح احتقاراً: وحتى الأطفال يفعلون مثل هذا...! ألم أعثر في السنة الماضية بين المقابر على طفلين من صف التعليم الدينيّ، صبي وبنت، وأخطرتُ أهلهما؟ أتدرون ما كان جوابهم؟. ماذا تريد يا سيدي الكاهن؟ لسنا من لقنهما هذه العادة القذرة. إننا لا نستطيع حيالهما شيئاً!
وهاهي خادمتك يا سيدي تسير على غرار الآخرين...!
بيد أن البارون قاطعه محتداً: هي؟ ماذا يهمني؟ لتذهب إلى الشيطان، إن جوليان هو الذي يصمنا بالعار؛ إن في عمله منتهى الصَّغار. لن أترك ابنتي لنذلٍ مثله...!
ثم نهض يذرع الغرفة ناثراً أقواله الناريّة:
- يا للحطّة، بهذا الشكل الفاضح يخدع ابنتي؛ إنه عاهر، إنه حقير، سافل، تعس، سأجبهه بهذه الصفات ، سأضربه، سأصفعه، سأميته تحت عصاي هذه..!
غير أن الكاهن الذي كان قد انصرف إلى عبّ التبغ شاء إتمام مهمته الإصلاحية فقال:
- أصغِ إليّ يا سيدي البارون؛ والكلام بيننا؛ لم يفعل صهرك إلاّ ما يفعله جميع الناس.. أو تعرف كثيراً من الأزواج المخلصين؟ وأضاف بطيبة خبيثة: - دعنا، إني أراهن أنك أنت الآخر مثلاً فعلت يوماً فعلته. ها أنا أرفع يدي وأحلفك بشرفك: أليس هذا صحيحاً؟
وتوقف البارون أمام الكاهن. فتابع هذا: أجل با بني، لقد فعلت كالآخرين، ومن يدري فقد تكون أنت الآخر، قد أغويت خادمة صغيرة كهذه. إن كل الناس يفعلون ذلك. وزوجتك؟ هل أثر ذلك على سعادتها أو حبها؟ كلا طبعاً.. أليس كذلك؟
كان البارون بالغ الاضطراب، فلم يبد حراكاً...
***
... وعاد الرجل الطيّب يقول وقد استمرّ في وقوفه قرب السرير (مخاطباً جان)
- (ينبغي أن تسامحي جهد طاقتك يا سيدتي، إنّه شقاء عظيم هذا الذي نزل ساحتك؛ إلا أنّ اللّه عوّض عليك آلامك كرماً منه وإحساناً فها أنت ستصبحين أمّاً، وسيكون لك بوليدك عزاءٌ وسلوى، وأنا، باسم العليّ القدير، أطلبُ إليك أن تغفري، أحلّفك أن تسامحي، أن تتناسي خطيئة السيد جوليان، سيشدكما بطفلكما المرتقب رباط لا تنفصم عراه، وسيكون منه لزوجك رادع عن الانغماس في الموبقات في آتيات الأيام. لا، لا يا سيدتي لن تستطيعي الانفصال عن علّة وجود هذا المخلوق المضطرب في أحشائك...)...
... وخلص أخيراً إلى القول:
- ستمنحين هذه البنيَّة حقل (بارفيل) وسأهتم بإيجاد زوج لها يكون فقيراً.. آه، ومع بائنةٍ تبلغ عشرين ألفاً من الفرنكات لا نعدم هاوياً..."
من (حياة صاخبة) لموباسَّان
تعريب ابراهيم الحلو،
مع حذف بعض المقاطع.
هويسمان J. K. Huysmans - 1848-1907

جوريس كارل هويسْمان روائيٌ مشتهر، من أصحاب المذهب الطبيعي. عاش في باريس حياة عادية تخللّتها بعض رحلات إلى الأقطار الأوربية. رُزق حسّاً مرهفاً وملاحظةً نفاذة، وشغف بالأدب والفنّ، واهتمّ بمحيط العامّة والرعاع والأمور اليوميّة العاديّة. دخل عالم الصحافة وعاشر أمثال بول بورجيه وفرنسوا كوبيه وسيزان والأخوين غونكور وموباسّان وزولا. وكتب رواياتٍ واقعية عديدة عالج فيها الانحراف وبؤس الطفولة ومشكلات الحياة الزوجية.. وتلقى في قصصه ملامح من فلوبير وزولا والأخوين غونكور.
ألف في النقد الفنّي (الفن الحديث) ممهداً الطريق إلى الانطباعية. وفي آخر حياته مال إلى التصوّف والتديّن والاعتزال والسّحر لكنه احتفظ من الطبيعيّة بالنزعة العلمية والتوثيق والتفصيلات الدقيقة وطعمّ هذه النزعة بنفسٍ روحانيٍ متحمّس يذكرنا بشاتوبريان و (عبقرية المسيحية).

ما المذهب الطبيعيّ؟([1])

ج. ك. هويسْمان (1876)
"للمجتمع وجهان، نحن نبرزهما معاً، مستفيدين من كلّ الألوان، وعلى الرغم من كل ما قيل نحن لا نفضّل الرذيلة على الفضيلة، ولا التهتّك على الاحتشام. ونحن نصفّق للرواية السليطة اللاذعة والرواية الحلوة اللطيفة على حدّ سواء؛ ما دامت كلٌّ منهما مشاهدةً ومعيشة.
لا، لسنا منحازين؛ نحن نعتقد أن الكاتب يجب أن يكون ابن زمانه، إننا فنانون متعطشون إلى الحداثة، ونريد أن ندفن رواية الرداء والسيف([2])... إننا نذهب إلى الشارع الحيّ المكتظّ بالناس، ونذهب إلى غرف الفنادق كما نذهب إلى القصور، وإلى الأماكن الغامضة كما إلى الغابات التي تعصف فيها الرياح. لا نريد أن نصنع كالرومانسيين دُمىً وهميةً أجمل من الطبيعة... نريد أن نصنع بشراً من لحمٍ وعظم، يتكلمون اللّغة التي لُقّنوها، كائناتٍ تضطربُ وتعيش، نفسّر الأهواء التي تقود سلوكهم، ونعرضهم وهم ينمون رويداً رويداً وينطفئون مع مرور الزمن. نريد أن نجعلهم -رجالاً أو نساءً- موضوعاتٍ للدراسة يتصرفون في بيئة خاضعةٍ للملاحظة بكلّ تفصيلاتها الدقيقة. ورواياتنا لا تنتهي دوماً -كما جرت العادة- بالزواج أو الموت، ولا تتضمّن أيّة أطروحة. إنّ الرواية ليست منبراً للوعظ، ويجب على الفنان أن يحترسس من تلك الجعجعات الفارغة احتراسه من الطاعون. إن الأدب حتى الآن، لا يهتمّ إلاّ بالأحوال الاستثنائية: فالحب مثلاً عند الروائيين والشعراء هو الحب القاتل الذي يؤدي إلى الانتحار أو الجنون. لقد غدا مثل هذا الحب الآن حالة غريبة؛ ولا مانع من أن تلاحظ وتعرض ما دامت واقعية! ولكني لا أقبل مطلقاً أن تهمل الحياة التي نعيشها كلّنا تقريباً، وألاّ تكون موضوعاً لعملٍ أدبي لكونها لاتحتوي على انفعالاتٍ شديدة، وتخلو من المواقف المتوترة. وأجد من العبث إنعاش الرواية بين الفينة والأخرى بطعنة سكينٍ أو تجرّع سُمٍّ أو شكوى من القدر أو بعظمةٍ فائقة ترد في صفحات كتاب دون أن يكون لها وجود حقيقي في الواقع. إن مثل ذلك كمثل رجل طالما تألّم وشكا من حبّ امرأةٍ ثم تزوج أخرى غير آسف، وسرعان ما غدا بطيناً([3]). إن مثل هذا الرجل يبدو لي أكثر إمتاعاً وأجدر بالإخراج من شخصية فيرتر([4])ذلك المعتوه الذي ما فتئ يتغنّى بأشعار أوسيان([5])Ossian حين يكون فرحاً، ويقتل نفسه لأجل شارلوت حينما يكون حزيناً..."
غوستاف فلوبير G.Flaubert - 1821-1880

كان فلوبير ابن طبيب جّراح، ورث عنه الروح العلمي والتحليل الهادئ للحالات النفسية. قام برحلاتٍ كثيرة زار فيها اليونان وسورية ومصر وفلسطين والبيرنه وكورسيكا ومالطه وانجلترا، وشغف بجمال الطبيعة وروعة الآثار، وراقب أحوال المجتمع، وانتقد الطبقة البورجوازية فصوّر سطحيتها ودنّو مطالبها وسقوط همتها. ويعدّ من أبرز الكتاب الواقعيين. وقد أثارت رواية "مدام بوفاري" ضجة كبيرة في عالم الأدب والنقد، إذا تلقاها بعضهم بالرضا وصبّ عليها آخرون سياط الغضب. وقد أَلَّفها ونشرها بين عامي 1829- 1840. وهي تدور حول حياة وحب امرأة عاطفية غامضة لا تتورع مع سأمها من ارتكاب الخيانة الزوجية، وتنتهي حياتها بالانتحار. وتتميزهذه الرواية بالواقعية الدقيقة في وصف الأشخاص والطباع والبيئة والمظاهر الاجتماية. وألف فلوبير رواية أخرى من وحي الشرق هي (سالامبو) 1862إلا أنها أقرب إلى الرومانسية التاريخية. وتدور حول حب بين ماتو الليبي وسالامبو ابنة هاميلكار القرطاجي. وله رواية ثالثة كتبها عام 1862 هي (التربية العاطفية) وهي تتميز بالملاحظة الواقعية الدقيقة والنافذة للأخلاق البورجوازية والارستوقراطية وقد اختار أبطالها من الأشخاص العاديين بحماقاتهم الصغيرة.
تمتاز واقعيته بحياد الكاتب واختفاء شخصيته وقد كتب: "يجب أن يتصرف الكاتب بحيث يشعر الأجيال القادمة أنه لم يكن موجوداً قط..."
الدّين والمسرح([6])

"... نصح الصيدليّ شارل بأن يتيح لزوجته شيئاً من الترويح يسليها كأن يصحبها إلى المسرح في روان ليسمعا المغنّي الشهير (لاغاردي). ودهش لصمت القسّ فأراد أن يعرف رأيه، فقال القسّ إنه يرى الموسيقا أقلَّ خطراً على الأخلاق من الأدب، غير أن الصيدلي انبرى يدافع عن الأدب، فقال: إن المسرح يعمل لمحاربة الخرافات والأباطيل ويدعو إلى الفضيلة تحت ستار من اللهو... إنه يقوّم العادات عن طريق الضحك يا سيّد بورنيسيان! ألا تتأمّل الدور الجليل الذي لعبته مسرحيات فولتير؟... لقد رُصّعتْ بالأفكار الفلسفية ببراعة مما جعلها مدرسة يتلقى فيها الشعب الأخلاق والديبلوماسيّة...
فقال بينيه: لقد شهدت مرة مسرحيةً كان اسمها "فتى باريس" ترى فيها شخصية ضابط كبير مسنّ يضرب ضرباً مبرحاً إذ يتشاجر مع شاب أغوى عاملةً أقدمت في النهاية... فقاطعه هوميه قائلاً: من المؤكد أن ثمة أدباً سيئاً كما أن هنالك صيدلية سيئة؛ ولكني أرى أن اتهام أهم الفنون الجميلة بالإفساد بلاهة وتعصب أعمى يليق بذلك العصر البغيض الذي قضي فيه على "غاليله" بالسجن...! فقال القسّ معارضاً: إنني أعرف أن هنالك مؤلفات طيبة ومؤلفين صالحين ولكنْ، لو أن الأمر اقتصر على تلك الشخصيات من الجنسين المختلفين تجتمع في غرفة فاتنة مزينة بأسباب الترف الدنيوية وتلك الأصوات الناعمة، فإن كل هذا لا بد أن يؤدي على طول الزمن إلى شيءٍ من الفجور الذهني، ويثير أفكاراً بعيدة عن الحشمة وإغراءات غير طاهرة.. هذه على كل حال فكرة رجال الدين جميعاً...
وإذا كانت الكنيسة تستنكر المسرح فلا بدّ أن لديها ما يبرّر ذلك، وعلينا أن نرضخ لأوامرها!.
فتساءل الصيدلي: ولماذا تقضي الكنيسة على الممثلين بالحرمان في حين أنهم كانوا فيما مضى يساهمون جهراً في الطقوس الدينية؟ أجلْ، إنهم كانوا يقدمون في قلب المحراب أنواعاً من التهريج أسموها أسراراً وكانت قوانين الحشمة والحياء كثيراً ما تنتهك فيها... واكتفى رجل الدين بأن بعث أنيناً خافتاً، بينما مضى الصيدليّ يقول: كذلك الحال في التوراة؛ فهناك كما تعلم أكثر من رواية شائكة عن أشياء في الواقع خليعة. وإذ صدرت عن الأب حركةٌ منفعلة قال الصيدلي: إنك لا بد أن تقرّ بأنه كتاب ينبغي ألاّ يوضع يدي فتاة صغيرة... فصاح الآخر وقد نفذ صبره: ولكن البروتستانت، لا نحن، هم الذين يفرضون التوراة...!
فقال هوميه: هذا لا يهمّ.. إنني لأدهش إذ أرى في أيامنا هذه، في عصر النور من لا يزال يصرّ على أن يلعن - دون تبصّر- وسيلةً من وسائل الترويح الذهني لا ضرر منها... أليس كذلك يا دكتور؟ .... ولاح أن النقاش أوشك أن ينتهي فراق للصيدلي أن يطلق سهماً أخيراً فقال: إنني لأعرف قساوسة يرتدون الثياب العادية ليسعوا إلى رؤية الراقصات وهن يحركن سيقانهنّ! فقال القسّ: كفى.. كفى.. ولبث قليلاً ثم انصرف..."
من "مدام بوفاري"
ترجمة ونشر دار عويدات - بيروت
مُغْفَل المترجم
مكسيم غوركي Maxime Gorki - 1868-1936

روائي ومسرحي روسيّ، نشأ في عهد القيصرية حين كانت الثورة تختمر في أوساط الشعب. وذاق مرارة الفقر واليتم وقام بأعمال كثيرة شاقة وفي ظروف سيئة ليكسب لقمة العيش، وتفاعل مع الجماهير وشارك في ثورة عام 1905 وأفاد من فشلها واستوعب النظرية البلشفية فتغير أسلوبه جذرياً.
بدأ بكتابة القصة القصيرة مقتفياً آثار الكتاب الأوربيين ولكن على طريقته الخاصة ثم عكف على كتابة الرواية فكتب "مواطنون مأفونون" و "ذكريات من طفولتي" و "ذكريات من شبابي" و "حياتي" و "الأعماق السفليّة" و "المشردون" و "الأم" وكثيراً من المقالات والمسرحيات.
تميّز غوركي بأدبه السّهل والجذاب الذي يعبر عن تجاربه الشخصية وعن التطور الثوري الاجتماعي، وأصبح كاتب الثورة البلشفية والواقعية الاشتراكية التي تسعى إلى تصوير الواقع المرير وتناقضاته ونقائصه لتنطلق إلى النضال في سبيل عالم جديد يقود الإنسان إلى العدالة والمساواة والأخوة والسلام. ويعتبر غوركي من أئمة المذهب الواقعي الاشتراكي وقد ترك تأثيراً كبيراً في أدباء عصره ومن جاؤوا بعده..
رسالة المناضلين

من قصّة "الأم"
(كانت بيلاجي امرأة ساذجة لا علم لها بالأمور الثوريّة، ولكن حبّها لابنها بول (بافل) الفتى المناضل وثقتها به واحتكاكها برفاقه الطيبين جعلها تتطور تدريجاً فتصبح امرأة مناضلة واعية. والنص الآتي يمثل آراءها الناضجة المستنيرة عقب محاكمة لمجموعة من المناضلين الثوريين من بينهم ولدها، والحكم عليهم بالنفي)
.." قالت ليوميلا:
- إنك سعيدة، وإنه لأمرٌ رائع أن تمشي أمٌّ وابنها جنباً إلى جنب. وهذا أمرٌ نادر..!
وصاحت بيلاجي دهشةً:
- أجل، إنه لجميل... وأردفت وهي تخفض صوتها وكأنها تبوح بسرّ: إنكم جميعاً، أنت ونيقولا وكل أولئك الذين يعملون من أجل الحقيقة تسيرون جنباً إلى جنب. لقد أصبح الناس دفعةً واحدة أقرباء أعزاء. وإني لأفهمهم جميعاً. صحيح أني لا أفهم ما يقولون... ولكني أفهم الباقي كله...أفهمه.
قالت ليوميلا:
- نعم... إنه كذلك.
وألقت الأم يدها على كتفيها، وضغطت بلينٍ ثم تابعت بصوتٍ كالغمغمة، وكأنها تصغي إلى أفكارها هي نفسها.
- إن الأبناء يتقدمون في الدنيا، هذا ما أُدركه، إنهم يتقدمون في الأرض كلها، وفي كل مكان، نحو هدفٍ احد. إنَّ أنقى القلوب والعقول الشريفة تزحف بإصرار ضدَّ كل ما هو سيءّ وتسحق الدَّجل بخطواتها الصمدة. والشبان الأصحّاء يوجهون قواهم التي لا تقهر في سبيل غاية واحدة، هي تحقيق العدالة، إنهم يسيرون نحو الانتصار على عذاب الناس، ويمتشقون السلاح ليقضوا على شقاء الكون، ويناضلون ليقهروا الخسّة، وسينتصرون.
لقد قال لي أحدهم: "إننا سنشكل شمساً جديدة" وسيشعلون هذه الشمس وقال: "وسنجمع القلوب المحطمة كلها في قلب واحد" وسيجمعون تلك القلوب المحطمة كلها.. في واحد.
وعادت إلى ذاكرتها كلمات من صلواتٍ منسيّة فأذكت إيمانها الجديد الذي كان ينبعث من صدرها كالشّرر. وتابعت قائلة:
- إن أبناءنا الذين يسيرون في سبيل العدالة والعقل يحملون حبّهم إلى الأشياء كلها ويرشقون الضياء على كل شيء، ضياء نارٍ لا يمكن أن تخبو، نار تنبع من أعماق النفس، ومن هذا الحب الملتهب، حب أبنائنا للعالم كلّه تولد حياة جديدة، فمن يستطيع أن يطفئ هذا الحب؟ وهل هناك قوة مهما عظمت تستطيع أن تقهره. إن الأرض هي التي أنبتته؛ والحياة كلها تريد له أن ينتصر...)
( الأمّ- المكتبة الثقافيّة- بيروت)
مغفل المترجم
مايا كوفسكي - 1839-1931

ولد في جورجيا، ونشأ نشأة اشتراكية ثورية "فتوحّد الشعر والثورة في رأسه" كما يقول عن نفسه. وفي عام 1906 انتقلت أسرته إلى موسكو، وهناك تثقف بمؤلفات ماركس وأنجلز ولينين، وانتسب إلى الحزب البلشفي السّريّ، وقبض عليه بسبب نشاطه وأودع السجن لأول مرة ولما يزل في الخامسة عشرة من عمره؛ ثم سجن مرة أخرى عام 1909. وكتب أولى قصائده عام 1912. عمل في الصّحافة كاتباً مناضلاً ذا حسٍّ ثوري ونفسٍ إنسانيّ أمميّ يناهض البورجوازية والرأسمالية والفكر الغيبي والحرب ومشعليها وتجارها، ويعبّر عن هموم الوطن والإنسان. أحب تيروليه شقيقة إلزا عشيقة الشاعر الفرنسي اليساريّ آراغون.
اتّسم شعره بالألم والتمزّق والغربة مع التفاؤل والإيمان بالمستقبل الزاهر لبني الإنسان. وعلى الرغم من إدانته الرمزيّة بسبب شكلَّيتها وانعطافها نحو الذات استفاد من الرمز الباعث للصور والتداعيات؛ وطوّر الواقعية الشعرية إلى الاشتراكية ثم طعّمها بالرؤية المستقبلية كرديف فنّي للثورة. والمستقبلية ترمي إلى تفجير الطاقات الثائرة بوتيرة سريعة. ولم يهمل اللغة التراثية والصور القديمة. لكن أعاد توظيفها بعد تطويرها وكسر الرتابة الموسيقيّة.
وقد أصبح لماياكوفسكي تأثير بالغٌ في عالم الأدب.
له عدة مسرحيات ولقاءات شعرية ومحاضرات ومقالات. وقد سخّر كل شيء في سبيل المجتمع الاشتراكي، وإذا وجد في شعره هبوط إلى النثرية العاديّة الموزونة ونصائح خطابيّة بعيدة عن الفن، فمعظم شعره من النوع التوجيهي الفنّي المبدع.
أمرٌ إلى جيش الفن (مختارات)

...يثرثر فصيل العجائز،
ويعاود ذاته مرةً إثر أخرى
أيّها الرفاق،
إلى المتاريس،
متاريس القلوب والأرواح.
الشيوعي الحقيقي هو الذي يحرق جسر العودة.
المستقبليون يتقدمون بما فيه الكفاية.
وعمّا قريب يقفزون...
------
احشدوا الأصوات صوتاً بعد صوتٍ
إلى الأمام مغنين ومصفّرين
ما زال لدينا حروف جميلة...
انقلوا البيانو إلى الشارع
واقذفوا بالطبل من النافذة،
المهمّ أن يهدر رعدٌ وقصف،
حتى ولو مزقتم الطبل وهشمتم البيانو...
---------
ما هذا؟ تجهدون في المصانع،
حتى تتلطخ سحناتكم بالسُّخام
وترمق أجفانكم بعيون بومٍ
بذخ الآخرين؟؟...!
----------
امسح عن قلبك كل قديم،
فالشوارع ريشاتنا،
والساحات لوحاتنا
إلى الشوارع أيّها المستقبليون
والطبالون والشعراء...!!!
(الترجمة باختصار مع القصيدة
من كتاب "الشعر السوفييتي الروسي"
للدكتور أيمن أبو الشعر)



([1]) ترجمة المؤلف عن كتاب Les Grands Ecri vains de France ص 1702

([2]) اشارة إلى روايات المغامرات والمبارزات التي اشتهر بها الكسندر دوماس الأب.

([3]) هذا من سمات البورجوازيين.

([4]) بطل غوته المغرم بشارلوت.

([5]) شاعر إيكوسي من شعراء القرن الثالث الميلادي. اشتهر بأشعاره العاطفية

([6]) الحوار في أثناء جلسه على مائدةٍ بين شارل بوفاري والصيدلي هوميه والقسّ بورنيسيان والصديق بينيه.




([1]) يقصد الرومانسيين

([2]) ترجمة المؤلف من كتاب: Les Grands Ecrivains de France ص 1354

([3]) المقطفة أداة تشبه منجلاً صغيراً لقطع الخشب.

([4]) اتهم بقتل ابنه بالسمّ لأسباب دينيّة وحكم عليه بالموت على دولاب العذاب 1792 ودافع عنه فولتير دفاعاً مجيداً، ثم ظهرت براءته عام 1795 بعد موته.

([5]) من رواية الوحش البشري لزولا ترجمة ونشر دار الروائع.


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:07 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59