ملتقى شذرات

ملتقى شذرات (https://www.shatharat.net/vb/index.php)
-   كتب ومراجع إلكترونية (https://www.shatharat.net/vb/forumdisplay.php?f=13)
-   -   الإنســان والســلطة (https://www.shatharat.net/vb/showthread.php?t=1886)

Eng.Jordan 02-07-2012 02:54 PM

الإنســان والســلطة
 
د. حسين الصدّيق


الإنســان والســلطة

( إشكالية العلاقة وأصولها الإشكالية )



من منشورات اتحاد الكتاب العربدمشق -

2001





مقدمة



إن البحث عن مفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي سوف يكون مجرد عبث، وترف فكري إن لم يوضع في إطار حل إشكالية يعانيها الواقع العربي المعاصر. فالعودة إلى الماضي للتغني بأمجاده لن تكون في نهاية المطاف إلا نوعاً من الهرب من الواقع، واعترافاً بالعجز عن التفاعل معه والتأثير فيه.

والإنسان ابن الزمان، ووجوده في حقيقته مرتبط به، فهو لن يتمكن من معرفة ذاته وتحقيق تلك المعرفة إلا من خلال المعارف التي يكتسبها في حياته، وترتبط في سبل اكتسابها وكيفها وكمّها بالزمان الذي يعيشه. ولّما كان الزمان الذي يعيشه الإنسان قصيراً بالنسبة إلى عمر مجتمعه وحضارته، إن لم نقل بالنسبة إلى الإنسانية، فإن عليه أن يحرص على زمانه وأن لا يصرفه في العبث واللهو، وقد توجب عليه نتيجة ذلك أن لا يكتفي في اكتساب المعرفة بتجربته الخاصة إذ إن هذه التجربة، مهما تنوعت وتعددت، فإنها لن تكون كافية لمعرفة الذات، ولابد للإنسان إذن من الاطلاع على تجارب الآخرين وهو ما يمكن وضعه تحت اسم المعرفة غير المباشرة في مقابل المعرفة المباشرة التي تقدمها التجربة الفردية. ولا شك في أن أهم أنواع المعارف غير المباشرة الضرورية لمعرفة الذات هي تلك المعارف التي تربط تجربة الفرد الذاتية بتجارب أجداده وخبراتهم ومعارفهم، لأنه في واقعه وتصوره للكون والله والإنسان إنما يشكل امتداداً زمانياً ومعرفياً لهذه التجارب.

إن النظر في واقع الأمة العربية اليوم يقودنا إلى القول بأن ما تعانيه هذه الأمة من عقبات ونكبات وانتكاسات إنما يكمن في كونها لا تعرف ذاتها، وتجهل هويتها. وما الهوية إلا الثقافة التي ينتمي إليها الإنسان، وتشكل امتداداً للثقافة التاريخية الاجتماعية. ولذلك فقد اقتضى أن تكون معرفة الذات، وتحقيق هذه المعرفة، مرتبطة بالعودة إلى الثقافة التي تنتمي إليها هذه الذات.

لقد مضى قرن ونيّف على بداية ما سمي بالنهضة العربية. وما نراه اليوم في الواقع الذي يعيشه العرب في كل مستويات حياتهم يبين أن هذه النهضة لم تكن حقيقية، وإنما كانت زائفة أُريد بها إشغال العرب في القرن العشرين عن نهضة أخرى، كانت قد بدأت في الوقت نفسه، انطلقت من سعي إلى ربط الحاضر بالماضي.

من بداية النصف الثاني من القرن العشرين ظهرت بوادر الجدال حول أسباب تخلف الأمة، وترسخ هذا الحال بعد الهزات العنيفة والهزائم التي لحقت بها، وازداد وضوحاً بعد حربي الخليج الأولى والثانية. وكان ما كتب حول هذه الأسباب أو قيل في محاضرات وندوات كثيرة جداً إلى درجة أنه هو نفسه أصبح سبباً من أسباب تكريس التخلف والتعود عليه. ولعل الطروحات والتصورات التي وضعت لإزالة هذه الأسباب ما كانت في جوهرها إلا نتيجة تلك الأسباب ذاتها، لأنها كانت تنطلق أساساً من مرجعيات مختلفة ومتغيرة بحسب البلد العربي الذي تصدر عنه من جهة، وبحسب تبعية هذا البلد لتيار من تيارات الفكر أو السياسة العالميين. أضف إلى ذلك أن تلك المرجعيات ذاتها كانت تقف في أسس النهضة العربية أقصد أنها مرجعيات غربية، غريبة في معظمها عن ثقافة الأمة الاجتماعية التاريخية.

ونعتقد أنه قد آن الأوان لكي نعيد النظر في واقعنا من خلال مرجعية واحدة خاصة بنا ومشتركة تقرُّ بها الغالبية العظمى في الوطن العربي، بل وترى فيها عاملاً يوحد بينها وبين البلاد الإسلامية أيضاً.

نقصد بهذه المرجعية الذات العربية أو الهوية العربية، ونعتقد أن هذين المفهومين واحد يقود بالضرورة إلى مفهوم آخر هو مفهوم الإنسان، وهو موضوع هذه الدراسة.

لا يمكن للإنسان أن يفعل شيئاً ذا قيمة إن لم يكن ينطلق في فعله هذا من وعي خاص به يبين له من هو وماذا يريد من وجوده؟ ويوضح له معنى وجوده وكيفية تحقيق هذا الوجود. كما أن هذا الوعي لا قيمة له إن لم يكن مصحوباً بإرادة تعمل على تحقيقه.

وعلى ذلك فإن الوعي والإرادة عاملان جوهريان في كل فعل إنساني، وهما ضروريان في كل نهضة اجتماعية أو حضارية.

وأعتقد أن الوعي العربي في القرن العشرين قد تعرض لتزييف وتغريب، وهو ما جعله غائماً مشوشاً مقلقلاً لا يعرف على وجه الدقة من هو ولا ماذا يريد، فقد قُدِّمت له ثقافة بديلة حاولت دفع ثقافته إلى الوراء واتهمتها بالرجعية، وعزت إليها أسباب الجمود والتخلف، وكانت تلك الثقافة الغربية ثقافة فردية تعلي من شأن الفرد وتمجد العلم ومفرزاته على حساب الجماعة وإنسانية الإنسان، على حين أن الثقافة العربية الإسلامية تمجد الإنسان فرداً في إطار الجماعة من خلال منحه بعداً إلهياً مطلقاً يربط وجوده بوجود الله ويجعله خليفة له في الأرض.

وقد ساهمت السلطات السياسية العربية في كل ذلك فكانت هي وراء التغريب من خلال تبني أنظمة كونية غريبة عن المجتمع ومن خلال الدفاع عن فئة من المثقفين كانوا الممثلين الفاشلين لهذه الأنظمة.

ونحن نعتقد أن ما يعانيه الفرد العربي، أس المجتمع، من غربة وتغريب وفقدان هوية أو غموضها، إنما يرجع إلى السلطات السياسية في الوطن العربي على اختلاف تسمياتها أو أنظمتها السياسية والاقتصادية. ولذلك فقد كان على من يريد حل المشكلة أن يعرف جذورها ومكوناتها. وكان لا بد لذلك من العودة إلى التاريخ لنرى فيه أصول المشكلة وأسبابها الإشكالية التي ما تزال، على اختلاف الوجوه، تتحكم في سوء أوضاع المجتمع العربي فلا توفر لأبنائه الظروف التي تساعدهم على تحقيق معنى وجودهم بل إنما تضعهم في أطر سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تبعدهم عن ذلك وتتركهم في حالة من الضياع والفوضى فيسهل قيادهم على أنظمتهم الحاكمة التي لا ينظر معظمها إلى البلاد التي يحكمونها إلا على أنها مزارع خاصة يستثمرونها ويرسلون ما يجنونه من أموال إلى بنوك الغرب الذي يدعمهم في نشاطهم هذا كله.

إنا إذا أردنا أن نخرج بهذه الأمة مما هي فيه من ضياع فإن علينا أن نعيد بناء الإنسان من خلال توفير الوسط الفاضل الذي يمكنه من استعادة الثقة بنفسه بعد معرفة هويته. ولذلك فقد كان هذا الكتاب يعرض المشكلة، فيبحث في أسباب نشأتها وعوامل استمرارها التاريخية، ليقدم في القسم الثاني منه تصور الحل في العودة إلى الذات.

فالإنسان يعيش في وسط يؤثر فيه ويتأثر به. ولا بد لمعالجة مشاكله من فهم هذا الوسط وتصحيحه وإلا فإن أي محاولة تأتي من الخارج لن تتمكن على الإطلاق من إنقاذ الوضع.

وقد بدأنا الكتاب بعد المقدمة بمدخل نظري، رصدنا فيه الواقع السياسي الذي أحاط بالفرد العربي من أواخر القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين. وهو رصد ضروري في رأينا لوضع القارئ أمام صورة عامة لمراحل التغريب التي مر بها الفرد العربي في العصر الحديث. ثم كان علينا أن نقدم تعريفاً لمجموعة من المبادئ النظرية/ السياسية/ الثقافية والمفاهيم المعرفية التي اعتمدنا عليها في الدراسة.

وجعلنا القسم الأول لدراسة العلاقة بين السياسي والثقافي الذي يقابل في اعتقادنا امتداداً للعلاقة بين السياسي والاجتماعي، فالمثقف كان على الدوام صلة الوصل بين السلطة السياسية والنظام الإنساني باعتباره يمثل النظام الكوني. فنحن نسلم مع ابن خلدون في مقدمته بضرورة وجود الحاكم الذي يستحيل بقاء التجمعات البشرية دونه، إذ تقع في الفوضى، ولما كان الأمر على ما تقدم فقد كان لا بد من التعامل مع تلك الضرورة من داخلها، لا من خارجها، فتطرح العلاقة بين الحاكم والمحكوم على بساط البحث في ضوء ضرورة المعايشة، والتعاون بين الطرفين على تطوير المجتمع بعد المحافظة عليه. ولما كان المجتمع متعدداً فقد كان لا بد ممن يختارهم لتمثيله عند الحاكم فيكونون صلة وصل بين الطرفين. تلك الفئة من الوسطاء هي ما اصطلحنا على تسميته في هذه الدراسة بالسلطة الثقافية التي تمثل مرجعية المجتمع في التعامل مع ظواهر الحياة وجوانبها المختلفة ولا سيما السياسية، وإذا فرقنا بين السلطة السياسية والأخرى الثقافية فليس لأننا نضع الواحدة في مقابل الأخرى وإنما توضيحاً منهجياً للمسألة إذ إننا نعتقد أن العلاقة بين السلطتين جدلية، وليس لواحدتهما غنى عن الأخرى.

وقد سعينا في هذا القسم إلى تقديم عرض سياسي فكري لمعنى الخلافة ومفهومها عند كل من الشيعة وأهل السنة والخوارج. ثم تتبعنا تطور العلاقة بين السلطتين، في ضوء تلك المقدمة، على طول التاريخ العربي الإسلامي ابتداءً بالرسول عليه الصلاة والسلام، وبالخلفاء الأربعة الكرام ثم بالخلفاء الأمويين والعباسيين ومن في ظلهم من السلاطين إلى نهاية القرن الرابع الهجري. ثم انتقلنا إلى بداية العصر الحديث في التاريخ العربي المعاصر فبدأنا بطلائع عصر النهضة لننتهي في نهاية القرن العشرين، وقد أجرينا في خلال ذلك، وحيث وجدنا الأمر مناسباً، مقارنة بين النظرية الشيعية في الإمامة والنظرية السياسية عند أهل السنة فكان الفرق بعيداً وخاصة عندما كانت المقارنة في خلال النصف الثاني من القرن العشرين الذي شهد قيام أول جمهورية إسلامية في العصر الحديث.

وقد ألحقنا الدراسة بنموذجين وضّحنا فيهما تاريخياً العلاقة بين السلطة والمثقف فكانت الأولى للعلاقة بين سيف الدولة الأمير، والفارابي الفيلسوف المثقف. أما الثانية فكانت بين عضد الدولة البويهي والقاضي ابن الباقلاني.

أما القسم الثاني فقد خصصناه لعرض تصورنا في العودة إلى الذات. فنحن نعتقد أن الذات العربية إنما تمتد في التراث، الذي يشكل ذاكرة الأمة. ولا بد لمن يعرف نفسه من أن يبحث في ذاكرته مستودع ثقافته وتجاربه ومخزن العناصر المكونة لوجوده الذهني والمادي. ونحن نعتقد أن التراث إنما هو مرجع هذه الأمة الذي يشكل نظامها الكوني، وهو مصدر قوتها إن وعته، وغيابه عن وعيها يشكل مصدر ضعفها وضياعها.

ولذلك فقد عدنا إلى التراث للانطلاق منه مرجعاً ومقياساً في سعينا إلى تصحيح مسار الهوية العربية. فطرحنا مسألة مفهوم الإنسان في هذا التراث من خلال العقيدة الإسلامية متمثلة بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، لنكمل بعدها بعرض تطور هذا المفهوم في الفكر العربي الإسلامي من خلال ثلاثة من أشهر ممثليه هم:

أبو حيان التوحيدي الأديب الفيلسوف، والشيخ الرئيس ابن سينا شيخ الفلاسفة العرب المسلمين، والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي شيخ المتصوفة.

وبعد فإن هذه الدراسة لا تدعي الإحاطة بالموضوع وإنما تريد أن تساهم في الجهود المبذولة هنا وهناك في إعادة النظر في شروط النهضة العربية وهو ما بدأت أولى مؤشراته في الظهور بعد حرب الخليج الثانية التي أظهرت إفلاس الأنظمة العربية في مختلف مستوياتها وأشكالها السياسية والمعرفية والثقافية والعلمية والاقتصادية. وبدأ التململ يظهر في أبناء الأمة ولا سيما الشباب منهم، وتجسد في انطلاقة حزب الله في جنوب لبنان وانتفاضة إخوتنا في فلسطين المحتلة.

إلا أن كل هذه البواكير لن تشكل خطراً حقيقياً على أعداء الأمة الذين يملكون زمام معظم الأمور فيها سواء أكانوا في الداخل أم في الخارج، فهم تنبهوا إلى خطرها على مصالحهم، وعرفوا أنها ستنسف كل ما جهدوا في إقامته وترسيخه عبر قرن ونصف من الزمان في ذات الأمة.

إن التذكير بهذه الحقائق ما هو دعوة إلى اليأس وإنما هو تنبيه وتحذير وصيحة تحاول جمع شمل المفكرين العرب اليوم للوقوف معاً والظهر إلى قلعة التراث أملاً في إنقاذ هذه الأمة التي تتعرض في بداية القرن الواحد والعشرين إلى خطر إبادة بالمعنى المجازي واللغوي للكلمة.

ولعل ما يشفع لهذه الدراسة فيما قد يرد فيها من تصورات غير مرضية لبعض القرّاء هو أنها تطرح قضية واسعة جداً من المستحيل الإحاطة بها، ليس في دراسة واحدة وإنما في عدد ضخم من الدراسات يشرف عليها مجموعات من الباحثين. فهي لذلك قاصرة عن بلوغ كل ما يمكن أن يقال في هذه القضية. ومن المسلّم به أنه ليس من السهل على أهل العصر أن يعرفوا حقيقة عصرهم، إذ إنّ من يعمل على إخفاء هذه الحقيقة وتمويهها أو تزوير الباطل ليبدو حقيقة والإمعان في الكذب حتى يصدقه الناس، كثيرٌ في كل زمان، وإنما تُعرف حقيقة العصر أو يُكشف عنها بعد زوال أصحاب العصر ومجيء من لا مصلحة له في التزوير والكذب أو من مصلحته في الكشف عن ذلك.

ولعل مهمة الباحث في عصر من العصور ليس البحث عن حقيقة عصره بقدر ما هي إضاءة الأحداث التي يشملها مجال الدراسة. إذ من الواضح أن الغد سيقدم أدلة ويكشف عن حقائق لا يوفرها اليوم، والدراسة إنما تقوم اليوم على معطيات اليوم، وفي إطار يسيطر عليه من أشير إليه ممن له مصلحة في التدليس والتزوير، ولعلهم يزولون في الغد فيمكن للباحث أن يقدم ما لا يستطيع اليوم تقديمه.

إن هذه القاعدة في دراسة التاريخ قاعدة إنسانية عامة، يمكن اعتمادها على اختلاف الزمان والمكان. إلا أن صحة هذه القاعدة لا يجوز أن تعيق الباحث عن محاولة البحث عن حقيقة عصره، وإن لم يتمكن من وصفها كاملة بسبب من تلك القاعدة فإن عليه أن يشير إليها، ويلمح، ويكتب عنها في الماضي وهو يريد الحاضر، كما أن عليه في الوقت ذاته أن يتناول تلك الحقيقة تناولاً رقيقاً حتى لا يبدو له في الغد أنه قد أخطأ التقدير فأساء لمن لا يستحق.

ولعل ما يشفع أيضاً هو حسن النية والإخلاص في الكتابة وجعلها أمانة ترجو النصح للأمة والوطن ودعوة إلى مراقبة أخطاء النفس ورغبة في تمتين العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي علاقة نحن بأمس الحاجة إليها اليوم إزاء ما يجري في العالم من أحداث يتفق فيها العالم الغربي كله على العداء للأمة العربية بخاصة والإسلامية بعامة، وأعتقد أن أهم ما يقوّي الأمة أمام خصومها هو أن تكون قلباً واحداً، ولن تكون كذلك إلا عندما تكون العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أفضل حال يخرج فيها الحاكم من الأمة، فتدعمه في حالات الشدائد فلا يخشى في الحق ومصلحة الأمة وكرامتها لومة لائم.

وبعد فليس لي في نهاية المطاف إلا أن أردد قوله تعالى في سورة غافر
"فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله، إن الله بصير بالعباد".

حلب 25/10/2001

¡r¡ حسين الصديق








المدخل




أولاً – السياسة والثقافة

إن قراءة التاريخ الإنساني على اختلاف الزمان والمكان تجعلنا نرى أن النزاع قائم منذ الأزل بين الإنسان والإنسان. وهو نزاع يتجسد في أعلى صوره وأشدها دموية في النزاع على السلطة. فكل من يملك سلطة يتعرض لانتقادات الآخرين، وهو مستهدف ممن يريدون حيازة تلك السلطة بدلاً منه. إنّ ما تقدم يشكل حقيقة تاريخية ثابتة على اختلاف أشكال السلطة وأنواعها في التاريخ الإنساني، ولعل أكثر أشكال السلطة إثارة للتنازع هي السلطة السياسية.

ومن يملك السلطة السياسية يدخل في صراع مع منافسيه، فإما أن يحتفظ بها بعد القضاء عليهم إلى حين يأتي سواهم، وإما أن يأخذوها منه بعد القضاء عليه إلى أن يأتي من هو أقوى منهم فيأخذها منهم. وكل "من يتمتع بالقدر الكافي من القوة والمكانة سيعمل على امتلاك السلطة، ويقدم على انتزاعها ممن يمسك بها. إنّ النتائج يمكن استخلاصها بسهولة، ويؤيدها التاريخ، فتصبح السلطة مثار نزاعات تنتهي بحروب تتجدد دائماً: السلب والنهب طلباً لمزيد من الثروة، الفتوحات لتوسيع الأملاك، الإرهاب لفرض القوة، والغزوات الحربية لإظهار الشجاعة بتوسيع مجال السيطرة، هذه كلها تصبح وسائل الوصول إلى السلطة"([1]).

ومن يملك السلطة السياسية بحاجة إلى نوع من المعارف يساعده في صراعه مع منافسيه و يمكنه من الاحتفاظ بها. وهي معارف تعطي السلطة نوعاً من الشرعية التي يقبلها المجتمع الذي يخضع لتلك السلطة، وترسّخ صورتها "الحسنة" لدى الناس المحكومين، ليتحقق من خلال ذلك كسب تأييدهم لصاحب السلطة.

ولكن التاريخ الإنساني يبيّن أن أصحابَ السلطة غيرُ متفرغين لامتلاك هذا النوع من المعارف، وهم غالباً ليسوا، قبل استلامهم السلطة، ممن يملكون المعرفة التي تمكن صاحبها من اكتساب الاحترام والإجلال في الوسط الاجتماعي، وتجعله يهيمن على أفراده، فيسمعون رأيه، ويحتكمون إليه عند الحاجة، ويسلمون بما يصدر عنه، فهم بحاجة إليه لأنه يشكل مرجعاً، حياتياً ويومياً وعملياً لكافة أشكال العلاقات الإنسانية والاجتماعية والدينية والتاريخية والقضائية والمالية والروحية، يجدون لديه ردوداً على كل احتياجاتهم وتساؤلاتهم، وحلولاً لكل مشكلاتهم، ولذلك فإن أصحاب السلطة السياسية بحاجة إلى هؤلاء. وهذا يعني افتراض أن السلطتين في الأصل كانتا مجتمعتين لضرورة كل واحدة منهما للأخرى. ولكن ظروفاً مختلفة أدت إلى الفصل بينهما، وهو افتراض يحتاج إلى دراسة وتحقيق ليس هنا مكانهما.

وكما تتعدد أشكال السلطة السياسية وتختلف، فإن من يملكون المعرفة تتعدد أشكالهم المعرفية وتختلف، وهؤلاء تتنوع مواقفهم من السلطة من استجابة، ورفض، وحيادية، فالعلاقة بين الطرفين علاقة جدلية قائمة على مصلحة، ولذلك فهي تقوم على الصراع والمعارضة غالباً، وعلى الاتفاق في بعض الأحيان عند فئة من ممثلي المعرفة.

إنّ ما تقدم يمتدّ عبر التاريخ الإنساني برمّته، ويعود إلى المجتمعات البشرية الأولى، وهو موجود في كل فترات التاريخ ولدى مختلف أشكال الحضارات، ولذلك فإن الكلام عليه معقد وشائك للغاية، بسبب تنوع أشكال السلطة السياسية، وتعدد تفسيرات مصادرها، بالإضافة إلى تعدد أنواع المعارف واختلافها، وطبيعة مصادرها أيضاً، وسبل اكتسابها.

وعلى الرغم من أهمية هذه المسألة فإن الدراسات المخصصة لها قليلة. وهي إنما تعود إلى العلوم الإنسانية الحديثة التي أسسها الغرب الأوربي في القرن التاسع عشر، وبدأت تعطي ثمارها في القرن العشرين، وفي مقدمتها علم الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم السياسة. أما قبل ذلك التاريخ فكان الأمر يقتصر على ملاحظات عامة أو صفحات في كتاب، ذات منحى نظري يكرس ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم عامة ومن وجهة نظر مثالية في الغالب، ولا ينطلق من مراقبة الواقع كما هو عليه.

وفي المجتمعات المعاصرة نجد أن المسألة قد حسمت في الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأميركية وبعض دول العالم الأخرى، إذ أصبح الاهتمام موجهاً إلى آلية انتقال السلطة وممارستها من خلال مؤسسات سياسية وثقافية. وما عدنا نسمع عن السلطة الثقافية باعتبارها جهة تشريعية، أو تهب الشرعية للسلطة السياسية أو توطد وجودها. فقد استطاع النقد الفلسفي - الاجتماعي المعاصر والواقع العملي أن يُسقطا من الفكر السياسي مفاهيم الحق الإلهي في الحكم أو السلطة المطلقة عند الغربيين ووَحَّدا بذلك بين السلطتين بحسب معايير خاصة بكل مجتمع من المجتمعات الغربية. أما في باقي دول العالم فإن الأمر مختلف من بلد إلى آخر، ونعتقد أنّ بإمكاننا تقسيم تلك الدول إلى نوعين: الأول سادت فيه أنظمة علمانية وسكانه لا مرجعية دينية سماوية لهم، أو مرجعيتهم سماوية إلا أنها لا تبين لهم أمر السلطة السياسية، والثاني سادت فيه أنظمة علمانية أو ليست كذلك، ولسكانه مرجعية دينية سماوية تحدد لهم طبيعة العلاقة بين السلطتين السياسية والثقافية، ونقصد بذلك البلاد التي تدين بالإسلام، وخاصة الوطن العربي.

في هذه البلاد لا توجد دراسات حول هذا الموضوع، وما وجد منها، على قلته، خاضع لتأثيرات ثقافية أجنبية، لا تنطلق من الواقع الثقافي الاجتماعي التاريخي في تلك البلاد. ونعتقد أن المشكلة القائمة في هذه البلاد بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية في أصل كل المشاكل التي يعانيها الوطن العربي، وهي مشاكل متنوعة تشمل كل المجالات: الاقتصادية والعلمية والتربوية والاجتماعية والتنموية والثقافية والسياسية.

إن الطرح السابق يعني أننا نعتقد بأن الدين هو الذي يقف في أساس العلاقة بين السلطتين السياسية والثقافية على اختلاف مصدر الدين، وهو اعتقاد يؤدي إلى إثارة مشكلة هي في اعتقادنا جوهر القضية برمتها: ما مصدر السلطة؟ .. فمَنْ أو ما الذي يعطي إنساناً ما سلطة ما على أخيه الإنسان؟ ونحن نعتقد في هذا المجال أن أسّ القضية يقوم على أن لا سلطة لإنسان على آخر إلا بدليل يمكنه من ذلك. وأن مراقبة تاريخ البشرية على اختلاف الزمان والمكان يبين لنا أن هذا الدليل كان دينياً في بداياته عند كل المجتمعات([2]). ففي بدايات التاريخ نجد أن السلطة السياسية كانت مقدسة، ويلفها الغموض، وهو ما كان يعطيها فعلاً سحرياً وأثراً عميقاً في نفوس رعاياها. وبذلك نرى أن المقدس هو أحد الأبعاد المختلفة للنشاط السياسي، فالدين يمكن أن يكون أداة سلطة تحقق من خلاله شرعيتها واستقرارها، وتستخدمه في نزاعاتها السياسية مع خصومها، وتكرس كل أنواع العبادات والطقوس بما في ذلك الخرافات، في سبيل تثبيت شرعيتها، وضمان استمرار وجودها.
ثانياً – الهوية والثقافة

1-يوصي ليفي ستراوس الباحثين "الأنثروبولوجيين" بأن أول اعتبار يجب ألا يغيب عن أذهانهم دائماً هو أن الحياة الاجتماعية تشكل نظاماً متكاملاً تترابط كلّ عناصره فيما بينها بشكل متناسق، وتضيف "الأنثروبولوجيا" الثقافية قاعدة أخرى تقول إن القيم والعناصر المكونة للنظام الثقافي متمثلة ومختزنة بأمانة في أعماق الفرد، وتشكل برنامجاً خفياً يضبط سلوكه وينظّمه بشكل آليّ تلقائي يقوم في الغالب على الفعل وردّ الفعل.

إن هاتين القاعدتين تفسّران العلاقة بين الهويّة والثقافة، فالعلاقة بين الإنسان وثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه ويعيش فيه هي علاقة أكيدة، وهي التي تحدّد معنى وجوده من خلال ضبط سلوكه اليومي في كل مجالات الحياة ولاسيما الثقافية، فالقيم والعادات وقواعد السلوك ومفهوم الأخلاق، والأفراح والأحزان والعلاقات مع الآخرين، والنظر إلى الله والكون تمثل في مجموعها مفهوم الثقافة بمعناها "الأنثروبولوجي". ولما كانت هذه المفاهيم لا وجود لها من غير الأفراد في المجتمع فقد تبيّن أن هذه المفاهيم هي عين الأفراد في المجتمع الواحد، بمعنى أنها تنظم سلوكها اليومي، وتضبط علاقاتهم الاجتماعية، وتحدد مواقفهم وأفعالهم وردود فعلهم في السلوك، وهذا ما يجعلنا نقول إن الثقافة الاجتماعية إنما تتجسد في مجموع الأفراد في المجتمع وإن العلاقة بين الثقافة والمجتمع علاقة أكيدة من خلال تمحورهما على الإنسان في ذلك المجتمع.

من خلال ما تقدم يمكن تقديم التعريف التالي للثقافة: الثقافة هي مجموع المعطيات التي تميل إلى الظهور بشكل منظم فيما بينها مشكّلة مجموعة من الأنساق المعرفية الاجتماعية المتعددة التي تنظم حياة الأفراد ضمن جماعة تشترك فيما بينها في الزمان والمكان. فالثقافة ما هي إلا التمثيل الفكري للمجتمع والذي ينطلق منه العقل الإنساني في تطوير عمله وخلق إبداعاته، فهي بهذا المعنى تختلط بالمجتمع فلا يمكن التفريق بينهما إلا في مستوى التمثيل، فهي بالتالي تحدّد هوية المجتمع في كافة أبعاده المادية والمعنوية.

ولما كان الفرد يعيش في إطار الجماعة، ويدخل معها في علاقة جدلية من حيث الوجود فإن هوية الفرد إنما هي جزء من هوية المجتمع. إن بناء شخصية الفرد في إطار مجتمع ما مرتبط ارتباطاً جذرياً بالسمات الثقافية الخاصة بهذا المجتمع، ونقصد بالسمات الثقافية نظام القيم الأساسية التي تسود في المجتمع، وتحكم طبيعة العلاقات التي فيه بين المفاهيم التالية: الله والكون والمجتمع، وعلى هذا فإن لكل نظام اجتماعي ثقافي شخصية أساسية نموذجية كما يقول المعجم النقدي للعلوم الاجتماعية([3]). ويضيف هذا المعجم قائلاً: إن كلّ مجتمع لديه ميل إلى بناء نظام ثقافي عام خاص به، حتى إن مجتمعات تعيش في مستوى واحد من حيث التقدم الاقتصادي والتقني يمكن أن تختلف فيما بينها في النظر إلى أمر واحد من جهة أنها تراه مختلفاً أساساً من وجهة النظر الثقافية. ويقدم مثالاً على ذلك مقارنة بين النرويج وإيطاليا، فيرى أن مسافراً يعطي حمّالاً ورقة نقدية يطلب منه صرفها بقطع نقدية سوف يرى الحمّال عائداً بهذه القطع في النرويج، على حين أنه في الأغلب لن يراه أبداً في إيطاليا.

إن ثقافة مجتمع ما تملك وجوداً حيّاً أشبه بالوجود البيولوجي للجسد البشري أو الاجتماعي، فهي تملك في داخلها تنظيماً خاصاً يجعل من مجموع العناصر المكونة لها شكلاً متكاملاً، فالإنسان الفرد يعيش ثقافياً داخل ذلك الوجود الحيّ للثقافة الاجتماعية التي تشكل هويته الذاتية، وهو في داخل هذا الوجود يبدع بشكل رمزي العالم الذي يحيا فيه، فالحقائق التي يعتقد بها، والأوهام التي يصدرها والإدراكات التي يكونها ما هي إلا أفعال أو ردود فعل تصدر عنه من خلال علاقته بنظام الثقافة الذي ينتمي إليه. وعلى هذا فإن ثقافة مجتمع ما هي مصدر كلّ القيم والأفعال وردود الفعل التي تصدر عن الأفراد المنتمين إلى ذلك المجتمع، وهي بالتالي مقياس كل شيء فيه، ومن خلالها يجب أن يُفهم أو يُدرس.

2-بعد أن أبرزنا العلاقة الوجودية بين الثقافة والمجتمع والهوية الذاتية، فإن من الضروري قبل الكلام على الهوية والثقافة في الواقع العربي المعاصر أن نتحدث عن أبرز سمات الثقافة، وهي سمات ضرورية في فهم ما يجري في ذلك الواقع. ومن أهم تلك السمات أنها إنسانية ومكتسبة وتطورية وتكاملية واستمرارية وانتقالية وتنبؤية([4])، فهي إنسانية بمعنى أنها من صنع الإنسان ولا تنقل إلا بوساطته، وهي مكتسبة لأن الإنسان يكتسب ثقافته ممن يعيشون حوله منذ ولادته سواء في ذلك الأسرة والحي والمجتمع والمدرسة، أي أن اكتسابه للثقافة ليس إرادياً، وإنما يتم بمساعدة الآخرين.

وهي تطورية لا تبقى على حالها بل تتغير وتتطور، ولكن هذا التطور والتغير لا يتم في جوهر الثقافة بل في الممارسة والتطبيق، ويكون ذلك نتيجة لحاجات الإنسان الجديد الذي يعيش في المجتمعات الحديثة. وهي تكاملية بمعنى أنها تشبع حاجات الإنسان وتريح نفسه، لأنها تقدم له حلولاً وتصورات جاهزة تجمع بين كل المسائل والجوانب الدينية والسياسية والاجتماعية و"البيولوجية". وهي استمرارية لأنها تنبع من وجود الجماعة ورضاهم عنها وتمسكهم بها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، فهي بذلك تراث جماعي ووعي مشترك يرثه جميع أفراد المجتمع، ويساهمون في نقله إلى الأجيال التالية. وعلى ذلك فإنه لا يمكن القضاء على ثقافة مجتمع ما إلا بالقضاء على كل أفراده، أو تذويبهم في جماعة أكبر منهم وأقوى. وهي انتقالية لأنها تنتقل من جيل إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فهي قابلة للتأثر والتأثير والانتشار بين الأمم الأخرى وخاصة عند توفر وسائل الاتصال الملائمة.

ولعل السمة الأخيرة التنبؤية هي أهم سمات الثقافة عموماً، فبما أن الثقافة تحدد أسلوب الأفراد وسلوكهم في المجتمع فإنه بالإمكان التنبؤ بما يمكن أن يتصرف به فرد ما ينتمي إلى ثقافة معينة، لأن ثقافته تحتّم عليه أسلوباً معيناً تجاه كل مشكلة من المشاكل التي تقابله في حياته اليومية، وهي بالتالي كما يقول إبراهيم ناصر "تحدد التصرف الفردي والجماعي في إطار ثقافي محدد، وبخطة مرسومة أو خارطة يحملها الفرد معه، وبها يحدد مسيرته في الحياة العامة"([5]).

الفرد جزء من المجتمع إذن، وثقافته هي من ثقافة هذا المجتمع، وهويته إنما تحددها ثقافته، وإذن هناك علاقة جدلية بين ثقافة الفرد وثقافة المجتمع، كما أن علاقة جدلية أخرى موجودة بين هوية الفرد وهوية المجتمع، فما يقوم به الفرد يحدده المجتمع ويجب أن يرضى عنه وكل سلوك يخرج عن ثقافة المجتمع يرفضه المجتمع ويدينه ويقصي صاحبه عنه ويرفضه.

3-إن السمات العامة للثقافة، وعلاقتها بالمجتمع والفرد لا تجعلنا ننسى علاقتها بالتاريخ. فالثقافة الاجتماعية لا تظهر من فراغ، وإنما هي مجموع تراكمي انتقائي لخبرات عدد كبير من الناس عاشوا في عصور متعددة تمتد في التاريخ. ويمكننا في سبيل توضيح هذه الفكرة أن نقارن بين وجود الفرد ووجود المجتمع من جهة التراكم الثقافي. فالفرد الذي يولد في مجتمع ما لا يستطيع أن يحوز على كل ثقافة مجتمعه دفعة واحدة، ولا بد له من زمان ممتد يتمكن فيه من اكتساب تلك الثقافة وبشكل نسبي يتلاءم مع وضعه الاجتماعي والعلمي والاقتصادي وبيئته الجغرافية التي يعيش فيها، والإنسان في كل هذا لا يملك قوة على اختيار ما يريده من تلك الثقافة لأنه يتلقاها منذ طفولته الأولى، وإذا سلمنا بقدرته على الاختيار فإن اختياره يبقى محكوماً بالأطر العامة لثقافته الاجتماعية، وهذا ما عنيناه في ما قلناه سابقاً في سمات الثقافة العامة، فهي تتطور في التطبيق والممارسة والفهم ولكنها في الجوهر تبقى ثابتة. والفرد في هذه الآلية يشابه المجتمع في اكتساب الثقافة، فثقافة الأجداد تنتقل إلى الأبناء والأحفاد، وعلى ذلك فإن ثقافة المجتمع لا تنشأ هكذا لأنه هو نفسه لا يولد فجأة وإنما هو امتداد مادي للمجتمعات السابقة، وثقافته ما هي إلا امتداد للثقافة السابقة.

إن الثقافة الفردية تتشكل جوهرياً في ذاكرة الفرد، فالذاكرة هي التي تعلّم الإنسان من خلال مخزونها الثقافي كيف يتصرف، وهي التي تحدد له مواقفه وردود أفعاله، وهي بالتالي العنصر الأساسي الذي يحدد هويته، فلولا الذاكرة لما كان هناك تراكم معرفي وثقافي، ولما انتقلت الثقافة من مجتمع إلى آخر. وعندما يفقد الفرد ذاكرته إثر حادث سيارة مثلاً فإنه يفقد هويته، فلا يعرف من هو ولا أين يسكن ولا إلى أي أسرة أو مجتمع أو حضارة ينتمي. والفرد في هذه الحالة يماثل الأمة فإذا كانت الثقافة في ذاكرة الفرد، والذاكرة هي الهوية، والعلاقة بين الذاكرة وتاريخ الفرد الشخصي علاقة جوهرية فإن ثقافة المجتمع في ذاكرته، وذاكرته هي هويته، والعلاقة بين ذاكرة المجتمع وتاريخه علاقة جوهرية لا يمكن بترها، وأي خلل في تلك العلاقة يعني بالضرورة فقدان الذاكرة أو فقدان الهوية، أو اضطرابها على الأقل مما يعني حدوث خلل في السلوك والمواقف.

4-مقدمة رابعة لا بد منها في فهم العلاقة بين الهوية والثقافة في الواقع. في هذه المقدمة نقسم الثقافة في الواقع على مستويين: الأول نسميه بالثقافة العالمة والثاني نسميه بالثقافة غير العالمة. بالعالمة يقصد الثقافة التي يكتسبها الإنسان من خلال الإطلاع على تجارب الآخرين من طريق القراءة أو السماع أو الصورة المرئية التي تُعامل اليوم معاملة نص لا يحتاج فهمه إلى معرفة الشيفرة التي يستخدمها كما في حالة النص اللغوي، ومستوى هذا النوع من الثقافة يختلف من فرد إلى آخر بحسب منظورين: القدرات العقلية عند الفرد والظروف المادية الاجتماعية التي يعيشها. فقد يملك الفرد قدرات عقلية تمكنه من امتلاك أعلى مستوى من الثقافة العالمة، ولكن ظروفه لا تسمح باستغلال تلك القدرات، والعكس صحيح أيضاً، ولكن الأمور لا تجري على هذه الشاكلة في الواقع، وإنما تتداخل الظروف مع قدرات الأفراد، وكل الناس في كل المجتمعات يتطلعون إلى اكتساب هذا النوع من الثقافة الذي يبدو في صورته البدائية بالحكايات والخرافات، وينتهي في أعلى مستوياته في الثقافة الموسوعية الإنسانية التي تحرر الإنسان من الزمان والمكان ليتصل بالأصل الإنساني الذي يجمع بينه وبين كل البشر على تنوع الثقافات واختلاف الزمان والمكان، ومصادر هذه الثقافة هي المجتمع ذاته في ماضيه وحاضره، وما تنتجه الحضارات الأخرى من ثقافات عالمة.

أما الثقافة غير العالمة فهي كل ما يكتسبه الإنسان في المجتمع الذي يعيش فيه منذ ولادته من عادات وتقاليد وقيم ومعتقدات وقوانين وأعراف وسلوك ولغة وفنون وسائر أساليب حفظ البقاء والتعامل مع الآخرين. وينعكس ذلك في تنظيم العلاقة بين الإنسان والإنسان، والإنسان والكون والإنسان والله، ففي الأعياد وحفلات الزواج والميلاد، كما في التعازي والأحزان، يسلك أبناء المجتمع الواحد سلوكاً واحداً متشابهاً، سواء أكان ذلك إرادياً أم غير إرادي. وتتضمن هذه الثقافة على عناصر مادية وعناصر غير مادية، كما أنها قد تشترك بعناصر هامة مع مجتمع آخر، وفي الوقت نفسه لها خصوصياتها التي تتميز بها. وهذه الثقافة لها خصائص هامة عرضناها من قبل، فهي استمرارية وتطورية وتنبؤية..

والعلاقة بين الثقافة العالمة وغير العالمة علاقة معقدة جداً، إذ يفترض أن تؤثر العالمة في غير العالمة، إلا أن هذا نادر الحدوث، فغير العالمة هي الأصل، وهي التي ينشأ عليها الفرد ويصوغ منهج تفكيره، وإذا لم تكن العالمة صادرة عن غير العالمة ومحكومة بها فهي ستكون معادية لها ومنبوذة من طرفها، وبشكل عام فإن العلاقة بين هاتين الثقافتين غير ثابتة ولا يمكن ضبطها ووضع معايير لها. فهي تخضع لتأثيرات كثيرة ومتغيرة تختلف من فرد إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر.

ما عرضناه من مقدمات مكثفة يشكل قواعد عامة لا تخصّ مجتمعاً معيناً أو حضارة محددة، بل هي قواعد أساسية تشكل نتاج الدراسات "الأنثروبولوجية"، ومن هنا فهي صالحة لكل المجتمعات.

من خلال تلك المقدمات سنعرض واقع الهوية والثقافة عند العرب المعاصرين محاولين إعطاء الخطوط العامة لذلك الواقع مدركين أن ما سنطرحه من قضايا قابل للمناقشة وأنه يطرح أسئلة أكثر مما يجد إجابات عن المشكلة.

5- لا فرق بين الهوية الذاتية والثقافة على مستوى الفرد، كما أنه لا فرق بين هوية المجتمع أو الأمة أو الحضارة وثقافتها. فالثقافة كما رأينا هي التي تحدد معنى الوجود الإنساني، وتعطي الإنسان شعوره بالوجود والانتماء إلى مجتمعه وحضارته. وإذا تذكرنا علاقة الثقافة بالذاكرة وعلاقة الذاكرة بالتاريخ، فإننا نستنتج أن هوية الفرد العربي اليوم محددة بثقافته المعاصرة التي هي امتداد للثقافة التاريخية ذاكرة الأمة بمستوييها: العالمة وغير العالمة. فما واقع تلك الهوية من خلال ارتباطها بهاتين الثقافتين؟

لن يكون صعباً أن نرى ما حال الهوية العربية اليوم، فذلك يبدو واضحاً في ما تعانيه الأمة من جمود أو تدهور أو تراجع في مجالات السياسة والاقتصاد والحياة الثقافية والاجتماعية، ولا يمكن أن نفسر هذا الوضع إلا بالنظر في حال الإنسان العربي إن على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة، فالإنسان هو مصدر الحياة وهو هدفها، وعندما يكون الواقع سيئاً فهذا يعني أن الإنسان في وضع سيء، ففاقد الشيء لا يعطيه، والإنسان الذي لا يعرف من هو لا يمكنه أن يبدع على الإطلاق. والإنسان العربي تُمارس عليه ضغوط متعددة الأطراف والأبعاد لا لينسى من هو فقط وإنما لينشغل بطعامه وشرابه وأمنه الفردي، وهو ما يُنسيه الشرط الأول للوجود والإبداع: الحرية، إلا أنه من الطبيعي أن البحث في أسباب هذا الواقع لن يكون مجدياً إذا ما تناول البحث الواقع مباشرة، فما هذا الواقع إلا نتاج العقود الماضية بل القرون الماضية التي عاشها الإنسان العربي، وبخاصة منذ نهاية القرن الماضي إلى الآن. ولذلك فقد رأينا أن نعود إلى بدايات الأمور لنرى كيف كان حال الهوية العربية من خلال الثقافة وما آلت إليه اليوم، وما المراحل التي مرّت بها، وما الأسباب التي تقف وراء كل ذلك.

بدايات القضية في حقيقتها تعود إلى المسألة الشرقية التي تجسد فيها موقف أوروبا من الخلافة الإسلامية المتجسدة آنذاك بالسلطة العثمانية، فقد كانت أوروبا الناهضة اقتصادياً تبحث عن أسواق لها في العالم ورأت في الخلافة الإسلامية عدواً لها تاريخياً لا يقف أمام مصالحها في الشرق العربي وفي شمال إفريقيا، وإنما، أيضاً يهددها في قلبها، وهو العدو الذي أزال الدولة البيزنطية وسيطر على عاصمتها القسطنطينية ومدّ الإسلام إلى قلب أوروبا.

كانت ثمة بدايات نهضة عربية إسلامية قد بدأت منذ القرن الثامن عشر هي على الرغم مما لاقته من عقبات كانت تشكل في نظر الغرب بدايات صحوة لا بد آتية، فأراد أن يحرفها عن طريقها أو يسيطر عليها وإن لم يستطع فقد كان عليه أن يجهضها. فمن تلك البدايات الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية التي تعاون الإنجليز ومحمد علي على قمعها، حتى إذا ما وجد الإنجليز أن محمد علي بدأ يشكل خطراً على مصالحهم، عندما حاول إقامة وحدة بين مصر وسوريا والقضاء على النفوذ العثماني فيها وتأسيس دولة قوية عربية مسلمة، تعاون الغرب على القضاء عليه. ويعدد أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح في العصر الحديث بوادر تلك النهضة، فيذكر على سبيل المثال مدحت باشا في استنبول وجمال الدين الأفغاني وخير الدين باشا التونسي وعبد الله نديم وعبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد عبده. وغيرهم ممن نسيهم هذا الكتاب كثير في أرجاء الدولة الإسلامية آنذاك.

عمل الغرب على إجهاض هذه الحركات، وعندما وجد أنه لا بد من نهضة رأى أن يرسم لهذه النهضة المسار الذي يريده بشكل يخدم مصالحه في ذلك الوقت، ويربط مستقبل الأمة العربية بالحركة الاستعمارية في العصور التالية.

يورد محمود شاكر في كتابه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا نصّ رسالة بعث بها نابليون بونابرت، عندما عاد إلى فرنسا بعد هزيمته أمام أسوار عكا، إلى خليفته في مصر الجنرال كليبر يطلب فيها منه فيما يطلب أن يجمع 500 أو 600 شخصاً من المماليك أو من العرب أو مشايخ البلدان، ويرسلهم إلى فرنسا يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية ويعتادون على تقاليدها ولغتها، ولما يعودون يكون للفرنسيين منهم حزب يضم إلى غيرهم.

ويبدو أن ما نصح به نابليون لم يأخذ به كليبر فحسب وإنما كل الأوربيين الذين تعاملوا مع البلاد العربية من ذلك الحين إلى اليوم. فقد عرف نابليون بحدس المستعمر أن ما فشلت به جيوشه يمكن تحقيقه بشكل غير مباشر من خلال أبناء البلد ذاته، عن طريق انتقاء مجموعة منهم يربّون في أحضان الغرب ويبهرون بأضوائه ثم يعادون إلى بلادهم ليسلموا أرفع المناصب وأهمها من وزارة المعارف إلى وزارة الثقافة إلى مديرياتها، وليصوغوا أنظمة التعليم وبرامجها، وليسيطروا على مراكز صنع الثقافة فيها، ويبشروا بما لم يستطع الاستعمار فرضه على أمتهم بقوة السلاح حتى تصبح الأمة من غير هوية فيسهل انقيادها للغرب، وتصبح تابعة له في كل فعالياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية.

إن ما تقدم يلخص القضية برمتها في اعتقادي. فقد بدأت بالتشكل في نهاية القرن التاسع عشر ثلاثة تيارات إصلاحية: الأول يدعو إلى التمسك بالتراث تمسكاً جامداً ويرى أن لا نهضة لهذه الأمة إلا بالعودة إلى إحياء ما كانت عليه في تراثها من غير اعتبار الزمان والمكان. أما التيار الثاني فقد كان على النقيض يرى أن الأمة لن تنهض إلا عندما تتخلى عن تاريخها وتقلد أوروبا في نهضتها لتنهض مثلها، فهي مدعوة إلى رفض الثقافة العربية الإسلامية، لأنها سبب التخلف، وتبنّي الثقافة الغربية بكل فروعها. أما التيار الثالث فقد كان وسطاً بين الاثنين يدعو إلى الاستفادة من تجارب الأوروبيين وعلومهم في نهضة الأمة على أساس من التراث. ويمكننا من خلال مراقبة التاريخ الحديث للأمة العربية أن نرى أن هذه التيارات استمرت في الوجود في ظل الاستعمار الأوروبي للوطن العربي على الرغم من أن حكومات الانتداب كانت تشجع التيار الثاني، إلا أن ما يلفت الأنظار بعد خروج الاستعمار من البلاد العربية أنه سلّم السلطة في أغلب البلاد التي خرج منها إلى ممثلي هذا التيار، ومن ذلك الحين إلى اليوم ما زلنا نشهد صراعاً بين ذلك التيار وبين التيار الأول، كان المنتصر فيه هو التيار الثاني لأنه كان مدعوماً من الحكومات التي كانت هي أيضاً مدعومة في الغالب من قبل دول غربية، كان الصراع فيما بينها يترك أثراً كبيراً في تغيير الوجوه والأسماء والألقاب والشعارات التي كانت تحاول كلها إضفاء صفة الشرعية على أنظمتها تحت شعارات مختلفة من أبرزها قضية الصراع ضد إسرائيل إلا أن كل تلك الحكومات ومن غير استثناء كانت تدعم ذلك التيار لأسباب أهمها أنها حصلت على دعم الغرب وتأييده ليس لأنها تدعم ذلك التيار فقط بل لأنها أيضاً تحارب التيار الأول الذي اضطر تحت تلك الظروف إلى اللجوء، في بعض الأحيان وأمام مصادرة حريته بالحركة، إلى العنف، وهو ما كانت تلك الحكومات تريده بالضبط لتسوغ سلوكها.

في خلال ذلك كانت الثقافة العربية الإسلامية ذاكرة الأمة وتاريخها هي المستهدفة في كل ذلك. فقد كان أغلب المثقفين من أبناء الأمة العربية قد تعلموا في المدارس التبشيرية، وأكملوا علومهم في جامعات الغرب ومعاهده، ولم يكونوا على معرفة بشيء مهم من ثقافة المجتمع الذي ينتمون إليه أو الحضارة التي ينتسبون إليها سواء أكانت الثقافة العالمة أم غير العالمة، وقد قام هؤلاء عند عودتهم إلى بلادهم واستلامهم المراكز المحورية في تقرير الثقافة والسيطرة عليها بالدعوة إلى الثقافة الغربية والتبشير بها والتشجيع على نشرها ومباركة من يقوم بهذا ومحاربة كل من يحاول الاعتراض أو الرفض.

وهكذا بدأت منذ بدايات القرن العشرين حركة تغريب ثقافي كبيرة تمثلت في إرسال العديد من البعثات إلى أوروبا، وفي قيام حركة ترجمة قوية نقلت فيها أعمال من الآداب الأوروبية والتيارات الفلسفية والفنية والنقدية التي كانت تعرفها أوروبا آنذاك فكانت تلك الحركة وما تزال تلهث جارية وراء آخر التقليعات التي وصلتها أوروبا في تلك المجالات.

وكانت هذه الترجمات مبتورة عن أصولها الفكرية الاجتماعية والتاريخية، فلم يعرف القارئ العربي في أي ظروف أُنتجت وعلى أي حاجات اجتماعية ترد، وقدمت إليه على أنها نموذج الثقافة المعاصرة، فأصبحت مجالس المثقفين محشوة بالكلام على المذاهب الغربية من فلسفية أو نقدية أدبية أو فنية أو سياسية، وأصبح المثقف العربي يعرف عن تاريخ أوروبا وثقافتها أكثر بكثير مما يعرفه عن ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، والحضارة التي ينتمي إليها.

لقد بدأت حركة التغريب هذه وما زلنا إلى اليوم نشاهد بقاياها في أرجاء الوطن العربي، وإن كانت بدأت تعمل في الخفاء وتحت شعارات مختلفة مثل البحث عن الهوية أو إعادة التفكير في شروط النهضة، أو أيضاً في الكلام على خطر التطبيع مع إسرائيل، أو أيضاً في الحديث عن العولمة، وكأن أصحابها لا يدركون أن أول من بدأ بالعولمة هم المثقفون أنفسهم عندما حاربوا الثقافة العربية حافظة الهوية العربية، ودعوا إلى الثقافة الغربية وهو ما أدى في نتائجه التي نرى آثارها اليوم إلى تراجع الثقافة العالمة العربية ذات الأصول التاريخية وانحسارها لتحلّ محلها ثقافة عالمة مستوردة من مصادر متعددة، وأصبح ممثلوا هذه الثقافة غربيين في ثقافتهم وفي طريقتهم في التفكير ومعالجة قضايا مجتمعهم وأمتهم، ولكنهم في نشأتهم الاجتماعية ينتمون إلى الثقافة غير العالمة التي رُبّوا فيها ونشؤوا عليها فتشربتها روحهم وعلقت بعقولهم، وهذا ما أدى، نتيجة عيشهم اللاوعي لتلك الثقافة وتفكيرهم من خلال الثقافة العالمة الغربية التي تلقوها وتبنوها عن وعي وإرادة، أو عن غير وعي وإرادة، إلى حصول شرخ في ذواتهم وتمزق بين الثقافة العالمة التي عاشوها في طفولتهم وشبابهم، وبين الثقافة العالمة الغربية التي بُهروا بها وتبنوها واتخذوا منها مرجعاً ومقياساً يحتكمون إليه في معاملة ثقافتهم غير العالمة ونقدها ومهاجمة ما رُبّوا عليه ونشؤوا فيه، فأصبحوا كالغراب الذي أراد أن يقلد القبرة في مشيتها بعدما أعجب بها فلم يفلح، فلما أراد أن يستعيد مشيته لم يتمكن من ذلك، فأصبحوا لا شرقيين يرضى عنهم أهلهم، ولا غربيين يرضى عنهم الغرب، بل يرى فيهم مقلدين فاشلين وجواسيس غير معلنين، كما يقول إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق".

لقد فقد معظم المثقفين العرب منذ بداية هذا القرن وشيئاً فشيئاً هويتهم الأصيلة من خلال ما حصل فيهم من انفصام في تلك الهوية، وأصبح أغلب هؤلاء دعاة التغريب في الفكر، وأبواقاً تسيطر عليها السلطات الحاكمة في علاقات جدلية من المصالح المتبادلة.

إنّ وصفنا لواقع الثقافة العربية اليوم لا يعني زوال الثقافة العالمة العربية، وإنما يعني انحسارها وتجميدها، واتهام أصحابها وممثليها بالرجعية تارة وبالتخلف تارة أخرى وبعداء التقدم والتطور تارة ثالثة، إلى آخر ما هنالك من اتهامات ما كانت حيادية في أغلب الأحيان، وإنما مقدمات لإجراءات تعسفية كانت تتخذ بحقهم.

ولعل خطورة ما تعرضت له الهوية الثقافية العربية خلال كل ما تقدم، لم يكن بالشأن الخطير إذا ما قصرنا أثره على الثقافة العالمة التي كانت بعيدة عن جمهور الناس في المجتمع، تعيش في مواقع خاصة تنأى بنفسها عن المجتمع بحجة أن المجتمع متخلف، وأنه يجب تغييره وتقويمه من خلال فرض الثقافة الغربية عليه، فقد كان المجتمع عامة أو ما نسميه بالثقافة غير العالمة يرفض تلك الثقافة الغربية ويتهمها لأنها ليست منه ولا تتفق مع نظرته العامة إلى الإنسان والكون والله، وظلت الثقافة العالمة العربية الإسلامية بخير على رفوف المكتبات وفي المخطوطات التي لم تنشر إلى الآن، وإن كانت في جزء منها تعرضت للتشويه على أيدي بعض المثقفين المستغربين عندما نظروا فيها من خلال مناهج غربية تخرجها من أطرها المعرفية التاريخية في محاولة لإبرازها في صورة مشوهة تسوّغ دعواهم بأنهم السبب في تخلف الأمة.

ولعل الضرر الوحيد الذي يمكن رصده في هذا المجال هو استبعاد الثقافة العربية التاريخية من توجيه الثقافة العالمة المسيطرة والثقافة غير العالمة، وقد رأينا أن العلاقة بين الثقافة العالمة وغير العالمة في مجتمع ما علاقة جدلية، وعندما تضطرب هذه العلاقة فإن الخلل سوف يحدث داخل الثقافة غير العالمة، إذ تفقد مرجعيتها التاريخية التي تشكل مقياساً وموجهاً ومقوماً وداعماً لها في وجودها اليومي الذي يتعرض باستمرار إلى هجوم الثقافة العالمة المعاصرة ذات المصدر الغربي.

إذا كان ثمة خطر حقيقي يهدد الهوية الثقافية العربية اليوم، فإن هذا الخطر لم يعد موجهاً إلى الثقافة العالمة العربية المعاصرة، فهي في واقعها غربية وتغريبية لا أصالة لها، ولم تستطع أن تتأصل في المجتمع العربي المعاصر، وهي لا تشكل هويته الحقيقية، وإنما تلك الهوية المزيفة التي نجد أن بعض أصحابها من المثقفين المعاصرين إما أن يتوبوا في أواخر حياتهم ويعودوا إلى اكتشاف هويتهم الأصيلة، وإما أن يتمادوا في العمالة للغرب فينتقلون للعيش في أحضانه وتحت رعايته وكنفه، فيساعدهم ويقدمهم على أنهم ممثلوا الثقافة العربية المعاصرة، ويمنحهم الجوائز إمعاناً منه في تأكيد انسلاخهم، ولعل في ذلك الدليل على أن هؤلاء المثقفين ما كانوا يوماً يمثلون مجتمعاتهم.

أما الثقافة غير العالمة، فهي في اعتقادنا الحصن الحي الأخير للهوية العربية الأصيلة، ونعتقد أن الغرب يعرف ذلك، فهو يدرك أن الثقافة العالمة تحت وصايته ومعها ممثلوها من المثقفين العرب التغريبيين، كما يدرك أن السلطات العربية مدجنة، فهي لا تستطيع رفض ما يطلبه الغرب منها إن كرهاً أو طوعاً أو عن رضى ومباركة أو عن سياسة تراقب الواقع وتناور فيه، على اختلاف البلاد العربية. لقد امتلك الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الكيان الصهيوني ناصية السياسة والاقتصاد والثقافة في المجتمعات العربية، وهو يراقب كل ما يجري في الوطن العربي، ويعرف أن الثقافة غير العالمة هي الحصن الحي الأخير للهوية العربية الأصيلة، ويعرف أنها العامل الأخير الذي يمكن أن يشكل خطراً على مصالحه، وبخاصة بقاء هذا الكيان في المنطقة، وهو يعرف أن من سمات تلك الثقافة التنبؤية، وأن هذه السمة تمكنه من برمجة تحركات المجتمعات العربية وردود فعلها، فيعمل على الاستفادة من تلك السمة استفادة عظيمة تخدم مصالحه، وهو إلى جانب ذلك يعمل على اختراق تلك الثقافة وإضعافها من الداخل، بمباركة الحكومات المحلية ودعم ممثلي الثقافة العالمة المعاصرة، التي تعمل بشكل أو بآخر لصالحه سواء أكانت تدعي أنها تحاربه أم كانت على وعي بما تقدمه إليه من مصالح بحجة أن الثقافة الغربية وتقليد الغرب هو سبيل النجاح والتقدم الوحيد.

6- ثمة شرخ في الهوية العربية المعاصر، فقد رأينا ما قاله ستراوس من أن الحياة الاجتماعية تشكل نظاماً متكاملاً تترابط عناصره بشكل متناسق، وأبرز عناصره هي الثقافة العالمة والثقافة غير العالمة، وهذا الشرخ على مستويين: الأول هو انفصال الثقافة غير العالمة في المجتمع العربي المعاصر عن رصيدها التاريخي وذاكرتها الثقافية المتمثلة بالثقافة العالمة التي هُمّشَت واستُبْعِدت واستُبْدِلت بثقافة عالمة غريبة ترفضها الثقافة غير العالمة في المجتمع أو على الأقل لا تقبلها أو في أحسن الأحوال تنظر إليها بحذر وتوجس، أما المستوى الثاني وهو الأشد خطراً فيتمثل في أن الثقافة غير العالمة/ أي الاجتماعية، عندما أصبحت من غير عمق تاريخي ثقافي، فقد أصابها الخلل وبدأت تُخْتَرق بوسائل عدة أهمها في اعتقادنا نظام التعليم العلماني وذلك الجهاز الأكثر خطراً على تلك الثقافة، الذي دخل كل بيت ليكون بذرة التفسخ في تلك الثقافة من خلال ما يقدمه من برامج يسيطر عليها دعاة الثقافة العلمانية أو التغريبية من ممثلي الثقافة العالمة المستوردة. لقد استطاع التلفاز أن يفعل بالثقافة غير العالمة ما لم تستطع كل أجهزة السلطات العربية تحقيقه في سبيل اختراق تلك الثقافة، فهو يفعل بهدوء ولكن بإصرار، وأصبح يحل مع تقدم الزمان محل الجدة في رواية الحكايات، كما أصبح بدل الأسرة مصدر الأخلاق والقيم والسلوك، عندما يتكلم يسكت الجميع، على ما يقدمه، سواء أكان خيراً أم شراً، من تأثير في الثقافة غير العالمة، وهكذا بدأت هذه الثقافة بالتخلخل وفقدت مرجعيتها، وأصبحت حائرة بين ما رُبّي عليه الآباء والأمهات، وما تقوله العقيدة الإسلامية التي ما تزال على قصور تمثيلها في الواقع في أغلب الأحيان أهم عناصر الثقافة العالمة، وبين ما يقدمه التلفاز عبر مسلسلاته وأغانيه،العربي منها قبل الأجنبي،من قيم ومفاهيم تتجسد في سلوكيات يرفضها المجتمع في أعماقه أو يدينها، ويصورها تصويراً إنسانياً جميلاً مدّعياً أنها السلوك الصحيح والفكر القويم اللذان لابدّ للمجتمع منهما في سبيل نهضته وتقدمه.

لقد أفلح نابليون في وصيته لخليفته كليبر، واستطاع بنصيحته تلك أن يعلّ كل المستعمرين الغربيين كيف يكون بإمكانهم اختراق المجتمعات العربية، وإعدام هويتها كشرط أساسي في إمكانية السيطرة عليها، لقد تعلّم الغرب من نابليون، وعرف أنه كان محقاً، فقد علّمهم التاريخ أن بقاءهم في فلسطين مدة مئتي عام لم يمنع العرب من إخراجهم في نهاية الأمر، وأدركوا أن السبب في تمكن العرب المسلمين آنذاك من ذلك الأمر هو في احتفاظهم بهويتهم العربية والإسلامية، وفهموا مع نابليون أن أي بقاء للغرب وربيبته إسرائيل في المنطقة العربية لن يكون ممكناً مهما طال الزمان مادامت الهوية العربية سليمة، يعرفها أصحابها فيعرفون من هم، ومالهم وما عليهم، ومن هم أصدقاؤهم، وعرفوا أيضاً أن تلك الهوية إنما تتمثل في الثقافة العربية العالمة وغير العالمة، فهما معاً الهوية العربية، وهما معاً المجتمع العربي في تاريخه وواقعه ومستقبله، وأدركوا أنّ عليهم أن يُفْقِدوا العربي والأمة من ورائه هويته فدَجَّنوا الثقافة العالمة، وهم الآن في سعي حثيث لزعزعة الثقافة غير العالمة، فلا يبقى للعرب وجود، وكيف يمكن لإنسان لا ذاكرة له أن يكون له وجود، ووجوده إنما هو الماضي والحاضر والمستقبل، فلا حاضر لمن لا ماضي له، ولا مستقبل لمن لا حاضر له.

لقد مضى مايقرب من قرن ونصف على بداية النهضة العربية، ونعتقد أن الأوان قد آن لطرح مسألة "النهضة" هذه في ميزان التقويم، فنعرف مالها وما عليها. إننا بعد أكثر من قرن على بداية "النهضة" وعصر "التنوير" العربي ننظر إلى ما نحن فيه فنرى أننا في كل مواقفنا لا ننطلق من فعل واعٍ منظم ينطلق من معرفة بالأنا، وبالأهداف التي تحدد معنى الأنا، وإنما ننطلق في مواقفنا غالباً من ردود فعل على ما يصدر من الغرب تجاهنا.
ثالثاً - تحديد الأسس والمفاهيم

إن العلاقة التي تقوم بين ممثلي السلطة السياسية وممثلي السلطة الثقافية هي علاقة في غاية التعقيد. يتدخّل في صياغتها عدد كبير جداً من العوامل الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والنفسية. وهذا ما يجعل منها علاقة لا يمكن تحديدها بشكل نهائي، وإنما يمكن الحديث عنها في جانب من جوانبها فقط، وفي ظروف معينة. فنحن أمام قضية من القضايا التي لا يمكن البتّ فيها على الإطلاق، بل يبقى الحوار فيها مفتوحاً.

من زمن الأزتك والمايا في أمريكا الجنوبية إلى الفراعنة في مصر والآكاديين في العراق، إلى زمن الإغريق في اليونان والأوربيين في العصور الوسطى، إلى العرب المسلمين في حضارتهم، وممثلو الدين يحتلون مكانةً رفيعةً في الترتيب الهرمي للمجتمع، يتحكمون منها في كل ما يجري من أمور، ويسيّرون السلطة السياسية بطرق شتى تختلف نسبياً باختلاف الزمان والمكان.

إن مراقبة التاريخ الإنساني تمكننا من صياغة الملاحظة العامة التالية: في الحضارات التي كان فيها الحاكم إلهاً كان دور رجال الدين يقتصر على كونهم موظفين يتولون رعاية الأمور الدينية، أما في الحضارات التي فصلت بين الدين والدولة فقد كان رجال الدين يحتلون المكانة الرفيعة باعتبارهم يمثلون السلطة الدينية.

هذا ما نراه على سبيل المثال عند الفراعنة، فقد كان يُعتقد لديهم أن الفرعون من أصل إلهي، وله وحده حق رئاسة الطقوس الدينية، ولهذا فإن الكهنة لم تكن لهم سلطات واسعة، وإنما هم موظفون في خدمة نظام يترأسه الفرعون الإله. أما عند الإغريق فقد كان الدين مفصولاً عن الدولة، وهذا ما أعطى الكهنة سلطات واسعة تسيطر على المجتمع وتتحكم فيه.

وقد حاول أفلاطون في كتابه الجمهورية الجمع بين السلطتين الثقافية والسياسية، عندما دعا إلى أن يكون الفلاسفة حكام الدولة المثلى، ورأى أن هؤلاء الحكام هم طبقة متعلمة تعليماً عالياً ووافياً.

ما أصول العلاقة بين السلطة والمثقف؟ وعلى أي أساس تقوم؟ هذا ما تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة عنه، إلا أنها لن تهتم بالموضوع في إطاره الإنساني العام، وإنما ستقتصر في بحثها على الحضارة العربية الإسلامية من جهة، وعلى واقع الأمة العربية في القرن العشرين. فلكل حضارة مفاهيمها الخاصة التي تميزها من سواها، وإن كانت هناك نقاط التقاء تعود في جذورها إلى الإنسانية عموماً.

إن الكلام في موضوع معقد كهذا يتطلب في بداية الأمر تحديد المصطلحات المستخدمة في الدراسة وإبراز العلاقة بينها. ومن أهم هذه المصطلحات: النظام الكوني، والنظام الإنساني، والسلطة السياسية، والسلطة الثقافية.
1 – النظام الكوني والنظام الإنساني

ثمة ثابتان يقرران طبيعة العلاقة بين السياسي والثقافي ويفسرانها، وهما عامّان لا علاقة لهما بحضارة ما في زمان أو مكان ما، وإنما هما إنسانيان يتدخّلان في تطورها، وهما غير منفصلين، وإنما يدخلان في علاقة وثيقة، ويدعمان ما سنقوله عن مفهوم السلطة السياسية والسلطة الثقافية، ويشكلان قاعدة لهذين المفهومين.

يرى الثابت الأول أن مهمة السلطة السياسية في جوهرها هي الدفاع عن المجتمع ضد نقاط ضعفه الذاتية، ومساعدته في تحقيق نقاط قوته الداخلية، والحفاظ على استقراره وتطبيق قواعد جديدة تهيئه لتغيرات تتناسب مع تطور الحياة في علاقاتها المتعددة، الداخلية والخارجية، ولا تتعارض مع مبادئه الجوهرية وثوابته التاريخية والفكرية. أما الثابت الثاني فيقرر وجود نظامين في الواقع الإنساني الحضاري: الأول هو النظام الكوني والثاني هو النظام الإنساني. ويقصد بالنظام الكوني موقف المجتمع أو الحضارة المعنية من المفاهيم الثلاثة: الله، والإنسان، والكون، وتصورها لهذه المفاهيم. وهو تصور يقوم على تغليب واحد من هذه المفاهيم على الآخرَين، فتكون الحضارة مصبوغة بصبغة هذا المفهوم الغالب. وهو نظام يشكل أسّ النظام الثاني الإنساني الذي يقصد به آلية العلاقة بين الفرد والفرد، أو بينه وبين المجتمع والسلطة، أو بين المجتمع والسلطة عامة. وهي آلية تتبدى في السلوك اليومي، وفي المواقف العامة، وتنعكس في كل مظاهر الحياة الإنسانية وأشكالها. والنظام الإنساني يقوم في آليته على النظام الكوني الذي يصوغ هذه الآلية، ويشكل مرجعية لها في حركتها اليومية، ويفسرها، ويقيّمها. وبذلك فإن تصور حضارة ما للنظام الكوني ينعكس في تصورها لطبيعة العلاقة بين الإنسان والإنسان في هذه الحضارة وبين الإنسان والكون والله. فالعلاقة بين النظامين جوهرية وجدلية، إذ يؤثر كل منهما في الآخر، ويعيد تفسيره وتطويره، وإن كان النظام الكوني يشكل ثابتاً عاماً على حين أن النظام الإنساني يُعد متحولاً في إطار الثابت.

وثمة علاقة جوهرية بين الثابت الأول والثاني إذ إن مهمة السلطة السياسية التي يقررها الثابت الأول لا بد لها من مرجعية تقرر إذا ما كانت هذه المهمة سليمة أم لا، والثابت الثاني هو هذه المرجعية التي تدور مهمة السلطة في إطارها وبسببها، وكل خروج عن هذه المرجعية يشكل نكوصاً عن مهمة السلطة الجوهرية المقررة، سواء أكان هذا في الحفاظ على استقرار المجتمع أم في العمل على تطويره وفق قواعد تتناسب مع ظروفه وتاريخه، وهو نكوص سيؤدي بالضرورة إلى حدوث شرخ في العلاقات الاجتماعية الداخلية بين المجتمع والسلطة، أو بين الفرد والمجتمع، أو في العلاقات التاريخية الثقافية، وهو ما ينتج عنه انفصام في الذات، وضبابية في الهوية عند الفرد والمجتمع على السواء. ولما كان النظام الكوني تابع في وجوده للمفكرين والفلاسفة ورجال الدين في حضارة ما، إذ إنهم يصوغونه، ويفسرونه، ويطوِّرون صورته أو يعدِّلونها، فإن هؤلاء بالضرورة، من خلال العلاقة بين الثابتين، هم المسؤولون عن النظام الإنساني وتطوراته الداخلية، لأنهم وحدهم القادرون على إبراز العلاقة بين النظامين. وإذا كان ذلك كذلك فإن هؤلاء أيضاً هم المسؤولون عن مراقبة مهمة السلطة السياسية التي ذكرناها من قبل، وهم الذين يقررون فيما إذا كانت هذه السلطة موفقة في مهمتها، أم أنها على العكس فاشلة؛ تجرد المجتمع من نقاط قوته الذاتية بدلاً من أن تدافع عنه ضد نقاط ضعفه الداخلية، وذلك من خلال تطبيق قواعد اجتماعية جديدة، بدعوى الإصلاح والتقدم، تقود إلى الصدام مع مبادئه الجوهرية، وتؤدي إلى الانفصام بين السلطة السياسية والمجتمع، وتبعد هذه السلطة عن مهمتها الأساسية.

وقد فهمت السلطة السياسية، في مختلف الحضارات القديمة، تلك العلاقة ولذلك فإنها كانت حريصة عبر التاريخ على الهيمنة على ممثلي النظام الكوني ومفسريه، تستمد منهم تأكيداً لشرعية وجودها عند العامة. وكان ممثلو هذا النظام يدركون ذلك أيضاً، فكانوا حريصين في معظمهم على تقديم خدماتهم للسلطة السياسية في مقابل مكاسب متنوعة، وكانوا في تلك الخدمات غير أمناء في الغالب على وظيفتهم الأساسية في مراقبة السلطة السياسية وضمان سلامة النظام الإنساني، ولعل هذا ما يفسر على سبيل المثال وجود طبقة مثقفي السلطة أو فقهاء البلاط وشعرائه، إلى جانب فئة قليلة من ممثلي النظام الكوني مازالت تحافظ على جوهر وظيفتها، ولذلك كانت، وما تزال، منبوذة من قبل السلطـة السياسية، إن لم تكن محاربة من طرفها.

في إطار ما قدمناه من كلام على العلاقة بين النظامين من جهة، وبين ممثلي هذين النظامين والسلطة السياسية من جهة أخرى يجب أن نفهم تعريف السلطة الثقافية والسلطة السياسية وطبيعة العلاقة بينهما.

([1]) لابيار، جان وليام، السلطة السياسية، تر/ الياس حنا الياس، منشورات عويدات، بيروت/ ط3، 1983، ص/ 116.

[2]) GUENON, Rene, Autorité spirtuelle et pouvoir temporel, les Editions Vega, Paris, 1976 , P / 16

([3]) Dictionnaire Critique de la Sociologie. P.U.F. Paris, 1982, P/134.

([4]) ناصر. د. إبراهيم، الأنثروبولوجيا الثقافية، عمّان، الأردن، 1982، ص/101-105.

([5]) المصدر السابق، ص/101-105.

Eng.Jordan 02-07-2012 02:55 PM

- السلطة الثقافية والسلطة السياسية

ليس المقصود بالسلطة هنا ما تعارف عليه الناس فيما بينهم: أي مجموعة المؤسسات والأجهزة التي تمكن أصحابها من إخضاع المواطنين في دولة معينة، فالدولة هي المؤسسة التي تملك في إطار مجتمع ما احتكار العنف المشروع([1]). فنحن لا نرى في السلطة موضوعاً سياسياً صرفاً يتجسد في كيان ما، وإنما نقصد بها وضعية معقدة للعلاقات في مجتمع ما، وهي علاقات تُمارس انطلاقاً من نقاط لا حصر لها، وفي إطار تناسبات متحركة غير متكافئة. فهي نتاج مباشر للتقسيمات، واللاتكافؤات، والاختلافات التي تقوم في داخل تلك العلاقات. وعلى ذلك فإن السلطة تتجسد في كل الآليات التي تتحكم في العلاقات الاجتماعية بشكل عام، وتصبح بذلك مجموع علاقات القوى والآليات المتعددة في مجتمع ما، في زمان ومكان معينين، والتي ينتج عنها المفهوم الشائع للسلطة. فالسلطة من خلال ذلك موجودة في كل زمان ومكان، حيث توجد العلاقات الاجتماعية، ولا يمكن إزالتها أبداً، وإنما يجب التعامل معها. وأي سلطة هي علاقة يجب تحليلها وفهمها من خلال طرفيها: الطرف الأول الذي تصدر عنه الرسالة أو الأمر، والطرف الثاني الذي يتلقى تلك الرسالة أو يخضع لذلك الأمر([2]). وطريقة ممارسة السلطة وتطبيقها في الواقع تتعلق أيضاً بهذين الطرفين، وبحسب العلاقة بينهما تكون العلاقة جدلية، وتتخذ السلطة أشكالها المختلفة فتصبح رضائية، أو إلزامية، أو قسرية تعتمد على القوة والعنف([3]).
وكل فرد في المجتمع هو عضو فعال في خلق السلطة، فنحن نصنع السلطة، ثم ننتمي، في إطار النظام الإنساني، إلى واحد من أشكالها، ونقوم بأدوارنا الاجتماعية انطلاقاً من هذا الانتماء، ونتكيّف في سلوكنا معه. إن هذا يعني أننا ننطلق في وجودنا السلطوي الاجتماعي من الحرية إلى الالتزام، ومن الاختيار إلى الإكراه، فالسلطة لا تتولد من تعارض بين المُسيطِر ومن يقع تحت السيطرة، وإنما من علاقة تنشأ بين الجانبين معاً.
فما من جماعة بلا سلطة، ولكل جماعة بشرية سلطة تتخذ شكلها الخاص بها من شكل النظام الإنساني فيها، وكل من الطرفين المُسيطِر والمُسيطَر عليه يتدخل في صياغة نوع السلطة السائدة بينهما، وتحديد شكلها.
هذا هو المفهوم العام للسلطة، وهو يوحي بوجود أشكال عديدة للسلطة في داخله([4]). ويمكننا أن نعيد كل هذه الأشكال إلى نوعين: السلطة الثقافية "AUTORITÉ"، والسلطة السياسية "POUVOIR". ولكي نفهم هذين المصطلحين يجب دائماً أن نتصور وجود طرفين تربط بينهما علاقة يمكن تحديدها على مستويين: هما السلطتان الثقافية والسياسية أو على مستوى واحد فقط. ويمكن أن يكون هذان الطرفان شخصين أو فئتين من الناس أو حزبين، أو الحكومة والشعب في دولة ما، أو أن يكونا دولتين مختلفتين.
2-1- السلطة الثقافية

يمكننا أن نجد تعريفاً وافياً لهذا المصطلح في "المعجم النقدي للعلوم الاجتماعية"([5]) نستطيع إيجازه فيما يلي: السلطة الثقافية هي العلاقة التي تنشأ بين طرفين، يكون فيها للطرف الأول هيمنة على الثاني، تجعل الثاني يفعل ما يريده الأول عن طريق الاقتناع بما يفعله، وليس تحت الضغط والإكراه أو الإلزام المادي أو القانوني. فهي علاقة تقوم على انتماء الطرف الثاني العفوي واللا واعي؛ أو الواعي الإرادي، إلى ما يصدر عن الطرف الأول من أقوال أو أفعال. ويَخضَع الطرف الأول نَفْسُهُ، في أقواله وأفعاله، إلى الغايات والأهداف التي يسعى الطرف الثاني إلى تحقيقها بخضوعه للطرف الأول. فالعلاقة بين الطرفين تقوم على مصلحة ما متبادلة بينهما، ولا تقوم على حساب طرف واحد منهما.
2-2- السلطة السياسية

يعرِّف عالم الاجتماع الألماني ماكس وبر السلطة السياسية بأنها "القدرة التي تمكِّن (أ) من الناس من جعل (ب) من الناس يفعل ما قد لا يفعله بمحض إرادته، وبشكل يتفق مع أوامر (أ) أو مقترحاته"([6]). فالسلطة السياسية، في هذا التعريف تأتي، على العكس من السابقة، من مصدر يقع خارج من يخضع لها. ويتنوع هذا المصدر كثيراً، فيتراوح بين الإقناع والقسر والإلزام. وتكون ردود فعل من يخضع لهذه السلطة متفاوتة بقدر هذا التنوع، فقد يكون رد الفعل هو الانتماء إلى ما يأمر به (أ)، وقد يكون الخضوع والاستسلام، كما قد يكون الرفض والتمرد. إنّ قدرة (أ) تلك إنما تقوم على حساب حرية الطرف الآخر ووجوده، كما أنها قد تقوم على اتفاق بين الطرفين يصوغ تلك العلاقة، ويحددها. ويضيف وبر أن سلوك (ب) يرتبط مباشرة بـ (أ)، وذلك لأنّ (ب) يستجيب في تصرفاته، سلباً أو إيجاباً، إلى رغبات (أ) واقتراحاته. وبشكل عام فإن سلوكه يرتبط بشكل (أ) ومنهجه في الوجود.
إن هاتين السلطتين لا توجدان مستقلتين على الإطلاق، فالعلاقة بينهما قائمة مهما اختلفت أشكالها، وهما في الأصل واحد في التطبيق. ودراستهما، مفردتين أو مجتمعتين، تقوم على الرد عن الأسئلة الآتية: ما طبيعة المصادر التي يستمد منها الطرف الأول هيمنته؟ وما ردود الفعل المتوقعة عند الطرف الثاني في استجابته لهذه الهيمنة؟ وأخيراً، ما العلاقة بين الطرفين في كل من هاتين السلطتين من جهة، وبينهما مجتمعَين في العلاقة بين السلطتين من جهة ثانية؟ ولا شك في أنّ الإجابة عن كل هذه الأسئلة ليست سهلة على الإطلاق، وليس بإمكان باحث واحد القيام بها بمفرده، وإنْ تعلّق الأمر بحصر الدراسة في العلاقة بين شخصين اثنين.
إنّ ما عرضناه من آراء نظرية يشكل ظاهرة إنسانية تاريخية عامة، فهذه الآراء ما هي إلا نتيجة قراءة التاريخ الإنساني، إلا أن ذلك لا يمنع أن لكل حضارة خصوصياتها وأشكال السلطة الخاصة بها. وهذا ما سنعرضه في الفقرات الآتية المخصصة للعلاقة بين السلطة الثقافية والسلطة السياسية في التاريخ العربي الإسلامي. وسوف نقسم الدراسة على مرحلتين: الأولى نتكلم فيها على الأصول الثقافية التاريخية للعلاقة بين السلطة والمثقف في زمان الرسول r، ومن بعده في عصر الخلفاء الأربعة الأوائل، إلى نهاية القرن الرابع الهجري. وما سنتوصل إليه من نتائج في هذه المرحلة يمكن تعميمه على التاريخ العربي الإسلامي حتى نهاية الدولة العثمانية وظهور مفهوم الدولة الحديثة مع ثورة الشريف حسين. والمرحلة الثانية سوف تغطي الفترة الممتدة من هذه الثورة إلى نهاية القرن العشرين عند العرب المعاصرين.

¡r¡


([1]) ريمون آرون في مقدمته لكتاب : LE SAVANT ET LE POLITIQUE ***ER, Max PLON. PARIS, 1986. P / 24

2)) Dictionnaire critique de la sociologie, P.U.F. Paris 1982 . P /24-29

(3) المصدر السابق،ص / 27

([4]) انظر أنواع هذه السلطة في كتاب (السلطة السياسية) – جان وليام لابيار، تر/ الياس حنا الياس.

([5]) Dictionnaire critique de la sociologie, /Article: Autorité. P / 24 – 29 وانظر أيضاُ المصطلح نفسه في : ( Encyclopaedia Universalis )

([6]) المصدر السابق،بحث Pouvoir، ص 425 /

Eng.Jordan 02-07-2012 02:56 PM

القســــم الأول

السلطة والمثقف

إشكالية العلاقة وأصولها الإشكالية








أولاً – أصول الإشكالية الثقافية التاريخية السياسية

إنّ العلاقة بين السلطة والمثقف تعود في أصولها إلى المصطلحين السابقين، كما أن أصول هذين المصطلحين تعود إلى أسس دينية واجتماعية وسياسية. فالعلاقة بين السلطة والمثقف في الحضارة العربية الإسلامية تعود في جذورها إلى العقيدة الإسلامية نفسها، لأن الإنسان في هذه العقيدة لا سلطة له على أخيه الإنسان إلا بدليل أو برهان، فالجميع يولدون من أصل واحد،وهم أحرار ومتساوون أمام الله، لا يفرق بينهم إلا درجة التقى التي يبلغها كل منهم. والله وحده هو القادر، والصلة بينه وبين الإنسان صلة بين العابد والمعبود، وليس بينهما واسطة، وما على الإنسان أن يخضع إلا لحكم الله. وعلى هذا فمصدر السلطة الأساسي التي على المسلم أن يخضع لها هو الله. ولكن الله وتعاليمه لم يعرفا بشكل دقيق إلا عن طريق الرسل والأنبياء، فهم بذلك ممثلو تلك السلطة على الأرض. ولما كان النبي محمد r آخر الأنبياء، فهو آخر ممثلي تلك السلطة على الأرض.
1 – الأوضاع السياسية

يقول الأشعري في مقدمة كتابه (مقالات الإسلاميين): "أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين، بعد نبيهم r، اختلافهم في الإمامة"([1]). وبحسب هذا القول فإن أولى القضايا التي شغلت الفكر العربي - الإسلامي هي قضية الإمامة. وهي قضية سياسية ذات أصول دينية، نشأت وتطورت في ظروف اجتماعية واقتصادية وتاريخية كثيرة ومعقدة. وتأتي أهمية هذه القضية من كونها تدخلت إلى حد كبير في تشكيل البنية الأساسية لتاريخ الأمة العربية - الإسلامية، كما أنها لا تزال تلقي بآثارها على حاضر هذه الأمة.
سوف نعرض فيما يلي لتلك الظروف، ثم ندرس العلاقة بين السلطتين اللتين شكلتا الفكر السياسي: السلطة السياسية والسلطة الثقافية.
لقد كان العرب المسلمون في فترة صدر الإسلام منشغلين بالدفاع عن أركان الإسلام، وبتوطيد دعائم دولته. ولا شك في أن وجود الرسول e بينهم كان عاملاً أساسياً في تماسك الجماعة الإسلامية، التي ما لبثت أن تعرضت وحدتها وبقاؤها نفسه للخطر، بعد وفاة الرسول e مباشرة. ولقد كان هذا الخطر ذا مصدرين: داخلي وخارجي. أما مسبباته فقد كانت العصبية القبلية في المكان الأول والطموحات السياسية في الدرجة الثانية. وقد كان العرب حديثي العهد بالإسلام، وما زالت قيم الجاهلية تحتفظ بتأثير قوي في سلوك الكثيرين منهم، يختلف باختلاف قدرة الشخص على تمثل الدين الجديد.
وأول ظهور للخطر الداخلي كان عقب وفاة الرسول e مباشرة. فقد كان الأمر ملحاً في اختيار خليفةله، إلى درجة أن الاختلاف في هذه القضية بدأ قبل أن يوارى جسد الرسول e في مثواه الأخير. فقد ظهر الخلاف بين المهاجرين والأنصار، فكان كل فريق منهم يرى أنه أولى بخلافة الرسول e. واحتدم الأمر إلى درجة أنّ أحد الأنصار تقدّم باقتراح تمثل في عبارته المشهورة: "منّا أمير ومنكم أمير"([2]). ومن الواضح أن استخدام كلمة "أمير" يوحي بالدلالة السلطوية الزمنية التي كانت تملكها هذه الكلمة لدى العرب قبل الإسلام. فهو لم يستخدم كلمة "خليفة" التي تحمل معنى دينياً إلى جانب الدلالة الزمنية.
وقد انتهى الخلاف بمبايعة أبي بكر على الخلافة. إلا أنّ جماعة من المسلمين كانت ترى أن الخلافة يجب أن تكون في آل بيت رسول الله، أي في بني أبي طالب من هاشم، وهم أفضل قريش. وتعتبر هذه الجماعة من المسلمين النواة الأولى للشيعة، التي لم تصبح حزباً سياسياً - دينياً إلا في وقت لاحق. إذ على الرغم من أن علياً كرّم الله وجهه بايع أبا بكر وعمر ومن بعدهما عثمان، فقد ظلت تلك الجماعة تعتبره أحق الثلاثة بالخلافة وأولى بها منهم. ولا يمكننا أن نحدد بدقة متى أطلق على هذه الجماعة اسم الشيعة، إلا أن الكلمة تعني لغة "الأتباع" أو "الأنصار"، ويقصد بها أنصار عليّ كرّم الله وجهه في أحقيته بالخلافة.
هذا الحسم للنـزاع الداخلي على الخلافة لم يكن نهائياً، وإنما كان تأجيلاً مؤقتاً، فرضته الأخطار الخارجية التي كانت تهدد الجماعة الإسلامية في وجودها نفسه. وقد ظهرت هذه الأخطار إثر ارتداد بعض القبائل العربية عن الإسلام، وامتناع بعضها عن دفع الزكاة. ويبدو أن هذه القبائل كانت قد دخلت في الإسلام بعد انتصارات الرسول e المتعاقبة، ولكنها لم تكن قد آمنت بكل ما فيه من قيم. فقد كانت ترى في خضوعهاله خضوعاً لقبيلة قريش. كما أن الزكاة كانت تمثل في أعينهم الجزية التي كانت تأخذها القبائل القوية من القبائل الضعيفة. وكان على الخليفة الأول أن يتخذ موقفاً من تلك القبائل،وقد استطاع أن يقضي على هذا الخطر بعد معارك دامية دارت بين المسلمين وبين هؤلاء المرتدين.
وقد عادت قضية الإمامة إلى الظهور من جديد، ولا سيما بعد استشهاد عثمان الخليفة الثالث. فقد كانت هناك جماعات تدعو إلى أحقية عليّ بالخلافة وتؤيده، وجماعات أخرى تنكر ذلك وتعارضه([3]). وتمت مبايعة عليّ كرّم الله وجهه، ولكن بيعته لم تكن شاملة. فبينما بايعته شبه الجزيرة العربية والعراق ومصر، امتنعت من ذلك ولاية الشام التي كان معاوية عاملاً عليها. وقام نزاع بين علي ومعاوية وصل ذروته في معركة "صفين" التي انتهت بالتحكيم الذي أدى إلى خلع عليّ رضي الله عنه من الخلافة([4]). ولم يقبل بهذه النتيجة فئة من جماعة عليّ وطالبوه بالرجوع عن التحكيم، ولكنه رفض طلبهم لأنه كان قد تعهد بقبول نتائج التحكيم،وقد انشق هؤلاء عن جيشه منادين بعبارة "لا حكم إلا لله"، التي أصبحت شعارهم. وقد أطلق على هذه الفئة اسم "الخوارج" لتكون الفرقة السياسية - الدينية الثانية بعد الشيعة.
انتهى عصر الخلفاء الراشدين بانتصار معاوية الأموي على عليّ كرّم الله وجهه، وبتأسيس الدولة الأموية. وبهذا الانتصار ساد التيار المخالف للتصور الإسلامي للإمامة. فقد أصبح الحكم وراثياً على الرغم من أن أمراء الأمويين كانوا يطلقون على أنفسهم لقب خليفة.
وعلى الرغم من استمرار الصراع بين الجيوش الأموية وبين الخوارج والشيعة، وغيرهم من الثائرين في العراق والحجاز، فإن الدولة شهدت استقراراً نسبياً ولا سيما في الشام. ويجب التنبيه على أن الصراع على السلطة تغير في طبيعته. فقد كان هذا الصراع بين علي ومعاوية صراعاً بين خليفة منتخب انتخاباً شرعياً، وبين متمرد يرفض الاعتراف بهذا الخليفة، أما الصراع بين الأمويين وخصومهم فقد كان بين فئتين كل منهما يدعي الحق بالسلطة ولا يملكه تماماً. فقد كان الخوارج والشيعة، وبقية الثائرين ضد الأمويين، يرون في هؤلاء مغتصبين للخلافة يجب حربهم، على حين أن الأمويين كانوا يعتبرون خصومهم خارجين على الأمة والجماعة.
وقد أدى الصراع السياسي إلى ظهور شعار التكفير بين المسلمين المتحاربين. فقد كان كل طرف من الأطراف يتهم خصمه بالكفر والمروق عن الدين ليدافع عن موقفه السياسي وليكسب عطف الناس وتأييدهم له. ويذكر ابن كثير ما جرى في الموقعة التي قتل فيها الحسين، فقد حمل عمرو بن الحجاج، أمير ميمنة جيش ابن زياد، على جماعة الحسين وهو يقول للناس معه: "قاتلوا من مرَقَ من الدين وفارق الجماعة …" فيرد عليه الحسين: "ويحك يا حجاج، أَعَلَيَّ تحرّضُ الناسَ؟! أَنَحنُ مرقنا من الدين وأنت تقيم عليه؟ ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا من أولى بصلي النار"([5]).
لقد كانت الدولة الأموية دولة عربية، اعتمدت على العنصر العربي. إلا أن الأمويين لم يستطيعوا التخلص من جاهليتهم وعصبيتهم. فقد اعتمدوا في حكمهم على العصبية القبلية، ونسوا بعد الفتوح ما يدعو إليه الإسلام من مساواة بين المسلمين، وعملوا على اضطهاد الموالي. وكانت هذه السياسة من أبرز العوامل التي أدت إلى ازدياد الحروب بينهم وبين الخوارج والشيعة. وقد استقطبت هاتان الفرقتان الموالي الذين وجدوا فيهما منفذاً للتعبير عن نقمتهم على مضطهديهم الأمويين. وقد أدى هذا إلى الإسراع بزوال حكمهم،الذي لم يدم إلا قرابة مائة عام، على يد أبرز خصومهم العباسيين.
جاء العباسيون إلى الحكم بعد أن قضوا على الأمويين قضاءً مبرماً. وقد ادعى العباسيون أنّهم من آل البيت، لأنهم ينتسبون إلى العباس عم الرسول r. إلا أنهم ليسواعلويين. وقد كانت الشيعة، كما قلنا من قبل، تنادي بأحقية عليّ رضي الله عنه وأبنائه (العلويين) بالخلافة، وترى أنّ هؤلاء وحدهم هم آل البيت. وعرف العباسيون كيف يستغلون تلك الدعوة لصالحهم ووصلوا إلى السلطة بفضل تأييد الشيعة، ولا سيما الفرس منهم الذين غرر بهم العباسيون بترويج شعار "الرضا من آل محمد".
اعتمد الأمويون نظام الوراثة في الحكم مخالفين بذلك المفهوم الإسلامي العام للخلافة القائم على مبدأ الانتخاب. وقد وجد العباسيون من مصلحتهم أن يرثوا هذا النظام من خصومهم الأمويين. ومنذ نشأة هذا النظام ناضل الأمويون لإكسابه صفة الشرعية، وسخَّروا لذلك مختلف القوى التي كانت في حوزتهم، والتي كان من أهمها دفاعهم عن الاعتقاد القائل إنّ الإنسان مُسَيَّر، وأنّ الله قَدَّر عليه مصيره، وعليه أن يرضى به. وقد ساعد هذا الاعتقاد الذي انتشر شيئاً فشيئاً وسيطر على ضمير الأمة الإسلامية ضمن ظروف خاصة، على إكساب هذا النظام صفة الشرعية، وبخاصة في حكم العباسيين. ولكنه فيما بعد عمل، مع معطيات أخرى كثيرة أنتجتها الظروف الاجتماعية - السياسية والاقتصادية التي كانت تحكم، بشكل خاص، العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية، على إكساب النظام الوراثي صفة الشرعية الدينية. وهي صورة تغلغلت في لا وعي الأمة، وفي ضميرها الجماعي وهي تفسر موقفها من حكامها عبر التاريخ، على الرغم من أن فكرها ووعيها كانا يدركان أن هؤلاء الحكام ليسوا بشرعيين. وقد توفرت ظروف أدت خدمات كبيرة لهؤلاء الحكام وخاصة فيما يتعلق بوجودهم السياسي. وأبرز هذه الظروف وجود فئة من الأدباء والعلماء، وبخاصة بعض الفقهاء، كانت تضع الحاكم فوق القانون، وتسعى إلى تسويغ أخطائه تحت شعار "إمام جائر خير من فتنة تعم". أما أولئك الفقهاء الذين كانوا يجرؤون على الالتزام بتعاليم الشريعة التي تقول إن السلطان خاضع للشريعة فإنهم ما كانوا يملكون وسائل عملية لتنفيذ تلك التعاليم أو لمراقبة السلطان ومحاسبته على أخطائه.
لقد كانت فكرة الشرعية الدينية تضمن بقاء هذه السلطة، وتعزز قدرتها على الحفاظ على وجودها في مختلف الظروف التاريخية. وقد كانت هذه الفكرة تفرض نفسها بشكل كبير على المجتمع الإسلامي. وكان الجسد الاجتماعي يرى فيها ملجأً يوفرله نوعاً من الحماية الداخلية والأمن المعنوي إزاء التجاوزات التعسفية للسلطة القائمة. ويمكننا القول إنّ المجتمعات الإسلامية ما زالت تحتفظ في أعماقها بهذا الموقف نفسه إلى يومنا هذا.
2 – مفهوم الخلافة عند المسلمين

تجمع المؤلفات التي بحثت في نظرية السلطة والتي ظهرت منذ نهاية القرن الثاني الهجري على ضرورة السلطة أو السلطان. وتقدم هذه المؤلفات حججاً مختلفة للبرهان على ذلك، فهي حجج عقلية تارة وشرعية تارة أخرى. أما ابن خلدون فيقدم حججاً اجتماعية اقتصادية عندما يكتب أن وجود السلطان أمر طبيعي للإنسان لا بد منه لقيام المجتمع البشري، ذلك "أنّ البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم. وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات، ومد كل منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه، لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض، ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة، ومقتضى القوة البشرية في ذلك، فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة،وهي تؤدي إلى الهرج وسفكالدماء، وإذهاب النفوس المفضي إلى انقطاع النوع، وهو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة، فاستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض، واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع، وهو الحاكم عليهم، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم"([6]).
والخلافة، كما يقول ابن خلدون، إنما هي منصب ينوب فيه صاحبه عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا، والقائم به يسمى خليفة وإماماً. ويضيف إن المتأخرين سموا القائم بهذا المنصب سلطاناً حين فشا التعدد فيه واضطروا تحت ظروف كثيرة إلى عقد البيعة لكل متغلب. ثم يقول: "فأما تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به، ولهذا يقال الإمامة الكبرى، وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي صلوات الله عليه، فأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامة التي للآدميين في قوله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة" وقولـه "جعلكم خلائف في الأرض". ومنع الجمهور منه لأن معنى الآية ليس عليه"([7]).
2-1- مفهوم الخلافة عند الخوارج

لقد كانت نشأة الخوارج نشأة سياسية بحتة، فقد ابتدؤوا كلامهم في أمور تتعلق بالخلافة، "فقالوا بصحة خلافة أبي بكر وعمر لصحة انتخابهما، وبصحة خلافة عثمان في سنيه الأولى، فلما غيّر وبدّل، ولم يسر سيرة أبي بكر وعمر، وأتى بما أتى من أحداث وجب عزله، وأقروا بصحة خلافة عليّ كرّم الله وجهه ولكنهم قالوا إنّه أخطأ في التحكيم، وحكموا بكفره لما حَكَّم... فنرى من هذا أنّ كلامهم كان يدور حول تشريح أعمال الخلفاء وأنصارهم، والبحث فيمن يستحق أن يكون خليفة ومن لا يستحق، ومن يكون مؤمناً ومن لا يكون"([8]). ولقد وضعوا نظرية للخلافة تقوم على أنّ الخلافة يجب أنْ تكون باختيار حر من المسلمين. فهم يعتقدون أنّ الخلافة حق لكل عربي حر. إلا أن بعض فِرَق الخوارج أدخلوا على هذا المبدأ بعض التعديل، فقد اشترطوا الإسلام والعدل بدل العروبة والحرية. ولذلك فقد رأى بعض الباحثين، من مستشرقين وغيرهم،أن الخوارج يمثلون الحركـة "الديموقراطية" في الإسلام([9])، فالسلطة تسمى من الشعب، والحكم لا يكون إلا لله، وينحصر دور الحاكم في تطبيق أحكام الله، ولكنه أيضاً يجب أن يخضع خضوعاً تاماً لما أمر به الله. فإن "سار سيرة لا تتفق ومصلحة المسلمين بأن جار وظلم، وَجَبَ عزله، فإن اعتزلَ وإلا قوتل حتى يُقتل"([10]).
2-2- مفهوم الخلافة عند الشيعة

تكونت نواة الشيعة الأولى من تلك الجماعة التي رأت، بعد وفاة الرسول r،أن أهل بيته([11]) هم أحق الناس بخلافته، وأن أولى أهل البيت هو عليّ ابن عمه وزوجابنته. فالخلاف بين الشيعة وبقية المسلمين هو مسألة الخلافة، لمن تكون؟ وكانت الفكرة في بداية الأمر بسيطة. فقد كان الرأي الغالب هو أنه لا نص على الخلافة، وأن الأمر يخضع للرأي،وهذا ما جعل كلاً من الأنصار والمهاجرين يرى أنه أولى بها. أما الشيعة فقد رأت أنّ الخلافة ليست من المصالح العامة وأنها ميراث أدبي يرثه عنالرسول r أقرب الناس إليه. وقد تطورت هذه الفكرة فيما بعد، فسعى الشيعة إلى التعلق بأحاديث نبوية رأوا فيها نصاً من الرسول r على أحقية عليّ كرّم الله وجهه بالخلافة. فقد قال الشيعة: "إن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر، وإنّ علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه، بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم"([12]). ومن هنا نشأت فكرة الوصية، وأطلق على عليّ رضي الله عنه لقب الوصي، ففي اعتقادهم أنّ الرسول r أوصى له بالخلافة، فهو أحق الناس بها ليس بطريق الانتخاب وإنما بطريق النص من رسول الله r. إنّ النظرية الشيعية تقوم في جوهرها على مفهوم الخلافة، أو الإمامة كما في مصطلحهم، "فعليّ هو الإمام بعد محمد r، ثم يتسلسل الأئمة بترتيب من عند الله، والاعتراف بالإمام والطاعة له جزء من الإيمان. والإمام في نظرهم ليس كما ينظر إليه أهل السنة، فعند أهل السنة الخليفة أو الإمام نائب عن صاحب الشريعة في حفظ الدين، فهو يحمل الناس على العمل بما أمر الله، وهو رئيس السلطة القضائية والإدارية والحربية، ولكن ليس لديه سلطة تشريعية، ما خلا تفسيراً لأمر أو اجتهاداً فيما ليس فيه نص، أما عند الشيعة فللإمام معنى آخر هو أنه أكبر معلم فالإمام الأول قد ورث علوم النبي r، وهو ليس شخصاً عادياً، بل هو فوق الناس لأنه معصوم من الخطأ"([13]). وعلى هذا فإن نظرية الشيعة تمثل الحركة "الثيوقراطية" في الإسلام، فهي ترتكز على الحق الإلهي في الحكم وذلك على العكس من نظرية الخوارج في الخلافة.
لقد كانت بذرة هذه الفرقة عربية من بين صحابة الرسول r . ولكن بعد معركة كربلاء دخلها كثير من الموالي، وكانوا من عناصر متنوعة. فقد كان العراق آنذاك منبع الديانات القديمة من زرادشتية ومانوية، إضافة إلى أنه كان يعرف الديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية. وقد دخل هؤلاء في الشيعة انتقاماً من مضطهديهم الأمويين، كما كان بينهم قوم آمنوا بأحقية عليّ رضي الله عنه بالخلافة وولده من بعده. وسرعان ما تحولت الشيعة من ولاء ديني إلى حركة سياسية، وتسربت إليها أفكار من الديانات القديمة ولا سيما بعد أن ربطت الحسينَ بالفُرْسِ رابطةُ المصاهرة، فظهرت في التشيع فرق عديدة يمكن قسمها قسمين: قسم المعتدلين الذين يقولون إن الإمامة بالنص لا بالاختيار، وأنها في آل علي. ومن هؤلاء الزيدية، أنصار زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وقسم الغلاة الذين جاؤوا بأفكار غريبة عن الإسلام. لقد كانت حركة الغلو هذه "استمراراً لحركات دينية ظهرت فيإيران وانتشرت في العراق قبل الإسلام، كما أنها استمرار للآراء الدينية القديمة من مجوسية وبوذية وبابكية، عند أناس أسلموا لأغراض مختلفة فكسوا آراءهم الحقيقية الثوب الإسلامي. وهي تمثل سخط الطبقات الدنيا المثقلة اجتماعياً ومالياً من جهة، وردّ فعل الديانات التي غمرها الإسلام من جهة أخرى"([14]).
2-3- مفهوم الخلافة عند أهل السنة والجماعة

لقد أطلقت تسمية أهل السنة والجماعة على غالبية المسلمين الذين لا ينتمون إلى فرقة من الفرق الإسلامية. وقد تكونت جماعة أهل السنة سياسياً وفكرياً شيئاً فشيئاً وذلك في مقابل نمو الفرق الأخرى. فقد رُوي عن الرسول r أنه قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"، وأنه قال في حديث آخر: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة تزيد عليهم ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: يا رسول الله، وما الملة التي تتغلب؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي"([15]). ويعتبر البغدادي وغيره من أئمة أهل السنة أن الفرقة الثالثة والسبعين هي أهل السنة والجماعة([16]).
ويرى أهل السنة أن تعيين الخليفة يجب أن يتم عن طريق الاختيار. فقد قالوا إنه لا يوجد نص من النبي r على إمامة واحد بعينه، "على خلاف من زعم من الرافضة أنه نص على إمامة علي رضي الله عنه نصاً مقطوعاً بصحته"([17]). وقد وضعوا شروطاً يجب اعتبارها في اختيار الخليفة وهي "العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل، واختلف في شرط خامس وهو النسب القرشي"([18]). وقد فسّر البغدادي المقصود بالعلم والعدالة عندما قال: "وقالوا من شرط الإمام: العلم والعدالة والسياسة، وأوجبوا من العلم له مقدار ما يصير به من أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وأوجبوا من عدالته أن يكون ممن يجوز حكم الحاكم بشهادته، وذلك بأن يكون عدلاً في دينه، مصلحاً لماله وحاله، غير مرتكب لكبيرة ولا مصر على صغيرة، ولا تارك للمروءة في جل أسبابه"([19]).
فالخليفة عند أهل السنة إنما هو رجل من المسلمين، تنحصر مهمته في تنفيذ أحكام الشريعة، والسهر على حماية الدولة الإسلامية، وتحقيق العدل بين الناس. فما هو إلا منفّذ للقانون الإسلامي، وقد ينحرف عن تنفيذ هذا القانون، فإذا فعل هذا فلا طاعة له على الناس، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولا يملك الحق بأن يشرع، إلا في حدود استنباطه واجتهاده من القوانين الإسلامية([20]). وباختصار هو ممثل السلطة القضائية والإدارية والحربية، وهو خليفة لمن تقدمه، ويختاره المسلمون بالانتخاب أو بتعيين سلفه له.
3 - العلاقة بين السلطتين السياسية والثقافية في الدولة الإسلامية

إن الاطلاع على المؤلفات التي وضعها الكتاب والباحثون الإسلاميون، وبخاصة في العصر الحالي، يجعلنا نلاحظ أنهم جميعاً اتخذوا من عصر الرسول r والخلفاء الراشدين من بعده نموذجاً يدعون إلى الاحتذاء به، ومرجعاً يحتكمون إليه عند الوقوف على ما جرى في التاريخ الإسلامي القديم منه والحديث. ويمكننا التساؤل عن السبب في ذلك؟ إن ذلك الموقف يعود إلى الصورة التي كانت عليها العلاقة بين السلطتين السياسية والثقافية في تلك الحقبة من تاريخ الدولة الإسلامية. فمفهوم الخلافة بمعناه الإسلامي الصحيح لم يتحقق كاملاً، بالنسبة إلى هؤلاء المفكرين، إلا في تلك الفترة التي لم تدم إلا مدة أربعين عاماً هجرية.
لقد قلنا إنّ مفهوم الخلافة أو الإمامة عند المسلمين يقوم عموماً على أن مهمة الخليفة أو الإمام إنما هي السهر على تطبيق أحكام الشريعة، وقد برز هذا المفهوم من المبدأ الإسلامي الذي يرى أن الله لم يخلق الإنسان في الحياة الدنيا إلا ليعبده، وليعمل الخير استعداداً للحياة الآخرة السرمدية. فالهدف من وجود المسلم على الأرض ليس الحياة الدنيا الفانية وإنما الحياة الآخرة الأبدية. وهذا الوجود ما هو إلا وجود مؤقت سرعان ما ينتهي بالموت الذي يعني بداية الحياة الآخرة التي تمتاز بالسعادة الأبدية أو بالعذاب السرمدي، وذلك بحسب ما قدمه المسلم من أفعال خيرة أو شريرة في حياته الدنيا. فالإسلام لا يفرق بين الحياتين وهو بذلك لا يفرق بين ما ينظم سلوك الإنسان فيهما معاً. فالدين ليس منفصلاً عن السياسة كما أن السياسة ليست منفصلة عن الأخلاق. ولهذا فإن وجود الخليفة ضروري لحماية الفرد المسلم من الانحراف عن النهج القويم، وضمان تطبيقه لقوانين الشريعة التي ما أنزلها الله إلا لتضمن له سعادة الدارين، ولا سيما أن الله أعلم بالخير لعباده منهم لأنفسهم. ولكي يتمكن الخليفة من أداء مهمته على أتم وجه لا بد له من امتلاك سلطتين: الأولى تجعله قادراً على فهم الشريعة وتفسير قوانينها والمشاركة في وضع تلك القوانين إذا اقتضى الأمر، والثانية تمكنه من تطبيقها والدفاع عنها في الواقع.
لم يعين الرسول r من يرثه بعد وفاته. هذا ما يقوله أهل السنة الذين اعتقدوا نتيجة لذلك أنّ الخلافة إنما تقوم على الاختيار الحر. على حين أن الشيعة قالوا إنّ الرسول قبل أن يُتوفى أوصى لعلي رضي الله عنه بخلافته، فهو إذن وريث النبي r بوحي من الله عز وجل، لأنّ الرسول r لا ينطق عن الهوى.
ومن هنا ينبع الخلاف السياسي بين مفهومي أهل السنة والشيعة للخلافة. فالخليفة في نظر أهل السنة إنما هو خليفة للرسول r في الجانب السياسي وليس له من السلطة الدينية التشريعية ما يفوق سلطة أي مسلم مجتهد في أحكام الدين. أما الإمام عند الشيعة فهو وريث النبي، وهو معصوم، وحكمه حكم ديني لا مجال للطعن فيه من قبل غيره.
إن هذا الخلاف الجوهري بين النظريتين السنية والشيعية، يجب أن يعتمد في فهم العلاقة بين السلطتين من الناحية النظرية. أما على المستوى العملي التاريخي فإننا نلاحظ أن هاتين النظريتين لم تطبقا، بعد وفاة النبي r، في أي عصر من العصور باستثناء فترة حكم الخلفاء الراشدين.
ويؤكد ابن خلدون في مقدمته أنّ الخلافة لم توجد على الحقيقة إلا في زمن قصير جداً. فهو بعد أن يستعرض الظروف السياسية منذ عهد النبي r إلى عصره يقول: "فقد تبين لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك، وأن الأمر كان في أولـه خلافة، ووازع كل أحد فيها من نفسه وهو الدين، وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة"([21])، ثم يضيف: "فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك، وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً، ثم انقلبت عصبية وسيفاً، وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك، والصدر الأول من خلفاء بني العباس، إلى الرشيد وبعض ولده. ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها، وصار الأمر ملكاً بحتاً، وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها، واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ. وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك، ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس، واسم الخلافة باقياً فيهم لبقاء عصبية العرب. والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضهما ببعض، ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم، وبقي الأمر مُلْكاً بحتاً كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق، يدينون بطاعة الخليفة تبركاً، والمُلْكُ بجميع ألقابه ومناحيه لهم، وليس للخليفة منه شيء"([22]).
عندما أسس الرسول r دولة المدينة، فإنه بذلك أقام الدعائم الأولى للدولة الإسلامية التي ستصبح فيما بعد مثلاً أعلى للعلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية في الإسلام. لقد كان الرسول r في تلك الدولة يمثل هاتين السلطتين في وقت واحد. فقد كان المشرع نظراً لأنه كان محط الوحي النازل من الله عز وجل عن طريق جبريل، وهو الذي كان يفسر هذا الوحي للمسلمين عن طريق أقواله وأفعاله مما عرف فيما بعد باسم السنة النبوية الشريفة. وقد كانت هذه السلطة الدينية تجد عند المسلمين استجابة مطلقة تعتمد على إيمانهم بنبوة الرسول r. وهو إيمان جعلهم يخضعون لما تصدره تلك السلطة من تعاليم وأوامر ونواه، خضوعاً يقوم على الرضى والقناعة وليس على الإكراه والقسر. كما كانوا يلتزمون بتنفيذ تلك الأوامر والنواهي في حياتهم اليومية. فالعلاقة بين المسلمين والرسول r ممثل تلك السلطة كانت علاقة انتماء عفوي وخضوع إرادي. إضافة إلى ذلك فقد كان الرسول r يمثل السلطة السياسية أيضاً. وذلك لأنه كان يعمل على تطبيق السلطة الدينية بما تصدره من قوانين تشريعية، كما يحرص على حمايتها وحماية الجماعة الإسلامية ضد الأخطار الخارجية المتمثلة بالمشركين، والداخلية المتمثلة بالمنافقين. وبالطبع فإن المسلمين كانوا يخضعون عن رضى لسلطة الرسول r السياسية لأنهم كانوا يرون فيها تطبيقاً وحماية للسلطة السابقة التي آمنوا بها عن رضى وقناعة أيضاً.
وقد استطاع الخلفاء الراشدون الجمع بين السلطتين ليحققوا مفهوم الخلافة بمعناه الكامل كما يراه أهل السنة. فقد كان هؤلاء يملكون السلطة الدينية ولكن ليس بالمفهوم الشيعي بمعنى قدرتهم على التشريع كما كان الرسول r يفعل، فقد كانت سلطتهم تلك تنحصر في تفسير قواعد الشرع الذي تمثّل في القرآن والسنة النبوية، وفي توضيح بعض جوانبه التطبيقية على حوادث جَدَّت في عصرهم، لم يعرفها عصر الرسول r. ولذا فإن المسلمين يعتبرون أقوال الخلفاء الراشدين وأفعالهم في هذا المجال، مصدراً من مصادر التشريع يأتي بعد النص القرآني والسنة النبوية. أما الشيعة فقد كانوا يشككون في صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وذلك لأنهم لم يكونوا من آل بيت رسول الله، وهو ما يخالف نظريتهم في الإمامة.
على الرغم من انتصار الأمويين على عليٍّ رضي الله عنه بالحيلة، وتوليهم الخلافة بعد استشهاده، فإنهم لم يستطيعوا الحصول على الشرعية الدينية لنظام حكمهم الوراثي، ومع ذلك فقد حرصوا على حمل لقب خليفة. وقد نوزعوا السلطتين: الدينية والسياسية معاً. وكان كل خصومهم السياسيين يعتبرونهم مغتصبين للخلافة، لا حق لهم فيها. وكانت الثورات ضدهم مستمرة في العراق والحجاز طوال فترة حكمهم. وقد سعوا من جهتهم إلى فرض سلطتهم السياسية مستغلين في سبيل ذلك الدين والقوة معاً. فالأمويون لم يكونوا خلفاء بالمفهوم السني ولا بالمفهوم الشيعي للإمامة وإنما كان نظام حكمهم وراثياً يقوم على امتلاك السلطة السياسية فحسب. أما السلطة الدينية فقد كانت في عصرهم معطلة بسبب من التنازع عليها. فهي لم تكن بأيديهم، كما أنها لم تكن بيد أحد من خصومهم بشكل كامل، فقد كان هؤلاء الخصوم أنفسهم يتنازعونها فيما بينهم. ولم تكن فئة الفقهاء والمحدثين وعلماء الدين قد تكونت بعد بشكل مستقل، وهي الفئة التي ستضطلع فيما بعد بتمثيل السلطة الدينية – الثقافية. ومع ذلك فقد حرص الأمويون على الاستفادة من أولئك الذين شكلوا أوائل ممثلي تلك الفئة، من الصحابة والتابعين، في إطار محاولاتهم لدعم وجودهم السياسي. وأبرز تلك المحاولات هو تأييدهم للفئة الجبرية من هؤلاء. والسبب في عدم وجود تلك الفئة وجوداً متميزاً يعود إلى طبيعة العصر نفسه، ذلك أن الحياة الاجتماعية في العراق والشام في العصر الأموي كانت بسيطة، غير معقدة ولا تختلف كثيراً في معظم نواحيها عما كانت عليه في صدر الإسلام. فقد كان الامتزاج بين العرب وغيرهم من الأقوام قائماً، ولم يعط بعد نتائجه، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالامتزاج الثقافي. وهذا ما جعل القضايا الجديدة التي عرفها العصر قليلة جداً بالمقارنة مع العصور اللاحقة. وكانت العلوم الدينية وما يخدمها من العلوم اللغوية في طور التأسيس، وهذا ما منع من ظهور الفقه علماً متميزاً من سواه من العلوم. وقد ساعد على هذا أن المسلمين من العرب في ذلك العصر كانوا في معظمهم من جيل الصحابة وهم على معرفة بأمور دينهم، وهو ما لم يتوفر لأحفادهم الذين كان عليهم الاستعانة برجال اختصوا في تفسير القرآن الكريم، وفي إصدار فتاوى فقهية تسعى إلى إيجاد حلول لقضايا جديدة في ضوء الشريعة الإسلامية.
وعندما جاء العباسيون استفادوا من الجهد الذي بذله الأمويون في تأسيس النظام السياسي الوراثي. وقد استطاعوا أن يدخلوا في روع المسلمين، ولا سيما الشيعة منهم، أنهم جاؤوا ليعيدوا الحق إلى أهله عندما ادعوا بأنهم يريدون إعادة الخلافة إلى آل البيت من مغتصبيها الأمويين. وقد ساعدهم هذا في وصولهم إلى الحكم، ودعمهم في إضفاء الشرعية على حكمهم، فبدوا وكأنهم يملكون السلطتين الدينية والسياسية. إلا أن الشيعة شعروا بأنهم قد خدعوا، فاستمروا بالدعوة إلى أحقية آل البيت بالخلافة. وقد ظل الشيعة الحزب الوحيد الذي ينازع العباسيين السلطة، ولذا فقد اضطهدهم العباسيون مما اضطرهم إلى التحول إلى الدعوة السرية. واستطاع العباسيون الأوائل نزع اعتراف الناس بامتلاكهم السلطتين. فقد كان الخلفاء يسعون إلى إبراز مكانتهم الدينية باعتبارهم خلفاء النبي r بما تحمله هذه الكلمة من دلالات دينية ودنيوية. إلا أنهم، كالأمويين، لم يمثلوا على الإطلاق تلك السلطة كما كانت عند الخلفاء الراشدين. وهم أيضاً كالأمويين، لم يكونوا خلفاء بالمفهوم السني للخلافة ولا بالمفهوم الشيعي للإمامة. فهم لم يُنتخبوا انتخاباً حراً كما يشترط السنة، كما أن النظام الوراثي الذي أخذوه عن الأمويين لم يكن ليتوافق مع النظام الوراثي الذي تدعو إليه النظرية الشيعية.
الخلافة وظيفة دينية تنبع من العقيدة، وتتأصل بالتشريع، وتستمد وجودها من الدين الذي حظر على المسلمين أن يبيتوا ليلة دون بيعة لخليفة. وعلى الرغم من ذلك فقد انشغل الأمويون بالنواحي السياسية التي تهتم ببناء الدولة وتدعيم كيانها، وتركوا جوانب العقيدة والفقه إلى العلماء والفقهاء والقضاة. وقد عمل العباسيون على ترسيخ الربط بين الجوانب الدينية والدنيوية وإضفاء القداسة على مفهوم الخلافة حرصاً على استمرار كيانهم الذي يستمد وجوده من خلال الدعم الديني الذي كانوا يقدمونه للفقهاء والقضاة. فقد حرصوا على الاتصال بهؤلاء، "فأبو جعفر المنصور يقرب العلماء ويصلهم، والمهدي يشتد على الزنادقة وينشىء إدارة للبحث عنهم وتعذيبهم، والرشيد وأبو يوسف القاضي متلازمان، والمأمون يصدر مرسوماً بخلق القرآن، ويقضي شطراً من خلافته في مناقشة العلماء وتعذيب من أنكره، ويناقش في نكاح المتعة، ويريد أن يصدر أمراً في شأنه، وهكذا مما لا نجد له مثيلاً في العهد الأموي"([23]). لقد ظل الأمر هكذا طوال فترة القوة السياسية والعسكرية التي عرفها الخلفاء العباسيون في العصرين الأول والثاني. وقد ساعد هذا كله على إكساب الخلافة صفة القداسة. وهو ما مكّن الخلفاء العباسيين، لَمَّا ضعفت سلطتهم السياسية وتقلص نفوذهم المادي، من الاحتفاظ بمنصب الخلافة. كما ساعد هذا على الاحتفاظ بصورة الخلافة الدينية في أذهان الناس على الرغم من استغلال السلاطين والملوك لتلك الصورة ليحكموا من ورائها.
إن تحويل الأمويين ومن بعدهم العباسيين الخلافة إلى نظام حكم وراثي أدى إلى إضعاف الدولة الإسلامية عموماً. إذ إن الصبغة الدينية التي نجح العباسيون في إضفائها على حكمهم في حال قوتهم لم تمنع الملوك والسلاطين الأقوياء من السيطرة على الخلافة في حال ضعفهم، فقد كان هؤلاء يدركون أن العباسيين ليسوا إلا ملوكاً استولوا على الحكم بعد إزاحة الأمويين، إلا أنهم حرصوا على إبقاء منصب الخلافة لما لـه من هيبة في قلوب الناس، ولأن هذا يساعدهم على استمرار حكمهم، ويعطيه صفة شرعية. وهكذا نجد أن الخلافة لم تعد موجودة إلا بالاسم بعد زمن المأمون. فقد انتهت الخلافة عملياً منذ مطلع العصر التركي إلا أنها استمرت اسمياً في الوجود، ولم يعد الخليفة يمثل إلا رمزاً دينياً فحسب، على حين أن السلطة السياسية انتقلت إلى أيدي السلاطين الذين ما كانوا يملكون الشرعية لأنهم ليسوا من العلويين أو من العباسيين، ولذلك فقد حرصوا على الحفاظ على الخليفة رمزاً. فقد كان هؤلاء يعترفون بالسيادة العليا للخليفة، ويقدمون الدعاء له على المنابر، ويشترون منه ألقابهم. وكان الفاطميون أول من خرج على هذه القاعدة، فلم يكتفوا بأن يكونوا أمراء ذوي سلطة دنيوية فقط بل أرادوا أن يكونوا الخلفاء الحقيقيين للنبي r، فاتخذوا لأنفسهم لقب الخلافة بعد فتحهم للقيروان سنة 297 هـ. وهذا ما شجع غيرهم على اتخاذ هذا اللقب ولا سيما الأمويين في الأندلس([24]).
وقد سعى هؤلاء السلاطين من أتراك وبويهيين وسلاجقة إلى الحفاظ على هذه النظرة. ويدلنا تطور الألقاب التي كانت تطلق على الخلفاء على فقدانهم السلطة السياسية وغلبة الطابع الديني على منصبهم. فبعد أن كانت ألقاب الخلفاء الأوائل تحمل معاني القوة كالسفاح والمنصور والرشيد، أصبحت هذه الألقاب مضافة إلى اسم الجلالة كالمستنجد بالله والمتوكل على الله، تعكس ما كان يعانيه أصحابها من ضعف ناتج عن فقدانهم سلطاتهم جميعاً. لقد استطاع البويهيون عملياً الفصل بين شخص الخليفة ولقب الخلافة، ومع ذلك ما كانوا يجرؤون على إلغاء نظام الخلافة، فقد كان أي تغيير جذري في ذلك النظام يمكن أن يثير اضطرابات ومعارضات خطيرة قد تهدد سلطانهم، وعلى العكس من ذلك، فقد كانوا يستغلون ما لهذا النظام من هيبة في نفوس المسلمين ستاراً يقومون وراءه بممارساتهم التعسفية. أما الخليفة فلم يكن يمثل بالنسبة إليهم إلا شخصاً عادياً يستطيعون بحسب مصالحهم إجباره على التنازل عن لقبه. أما الاحترام الذي كانوا يظهرونه له فلم يكن يتعدى المظاهر الشكلية: فقد كان الخليفة يحتفظ بسلطات دينية رمزية، كما أن مراسم تعيين السلاطين كانت تجري في القصر تحت رعاية الخليفة. إلا أن هذا كله لم يكن في الحقيقة إلا مظاهر خادعة كانت تقتضيها الظروف الاجتماعية - الدينية الصعبة التي كان يعيشها المجتمع. أما في الواقع، فإن عدم احترام الخليفة كان يُعبَّر عنه في مظاهر عديدة، فقد كان يُختار له الألقاب التي عليه أن يتسمى بها، كما تُفرَض عليه الإقامة في قصره بين الحريم، أو تُقلَّص مصروفاته اليومية، وتُصادَر ضياعه، أو يُقتَل أو تُسمَل عيناه.
لقد أدى ضعف الخلافة إلى خروج السلطة الدينية عملياً من أيدي الخلفاء العباسيين على الرغم من تمثيلهم لها رمزياً. وقد انتقلت هذه السلطة بالتدريج، منذ عصر الأمويين، إلى فئة الفقهاء وعلماء الدين الذين كان لهم مطلق الحرية في الاجتهاد والتفكير. وكانت السلطة الحقيقية لهؤلاء تأتي من أنهم كانوا يشكلون مرجعاً، تجد لديه العامة حلولاً لمشكلاتهم اليومية في ضوء الشريعة الإسلامية. وكان مما يزيد في تلك السلطة أنهم كانوا مطلقي الحرية في تعدد الآراء المتمثل في الاجتهاد، ولم يكن هناك قانون واحد أو مذهب فقهي معتمد بشكل رسمي، يقيد القضاة ويعرفه الناس قبل أن يحتكموا إليه، ويترك هذا القانون خاضعاً للتطور والتعديل بشكل يتوافق مع تغير الظروف الاجتماعية. إن عدم وجود مثل ذلك القانون جعل علماء الدين والفقهاء الممثلين الرئيسيين للشريعة الإسلامية. ولم يكن هؤلاء في معظم الأحوال على اتصال بالسلطة السياسية وذلك لأن هذه السلطة كانت في غنى عنهم، إلا لتزيين مجالسها أو لإظهار رعايتها للدين. كما أن هؤلاء الفقهاء ما كانوا يحتاجون إلى السلطة، إذ إنّ معظمهم كان يجمع بين العمل الحر لكسب عيشه وبين أخذ العلم في حلقات المساجد والتدريس فيها فيما بعد. وهو ما أعطاهم استقلالاً تاماً وحرية مطلقة في التفكير. إلا أن هذا الوضع لم يستمر في القرن الرابع على ما كان عليه في القرنين الثاني والثالث. فقد كثر المتعالمون وسعى السلاطين إلى استقطابهم للتقرب بهم إلى العامة. كما أنهم كانوا يستخدمون نفوذ هؤلاء لدى العامة في إثارة الفتن خدمة لمصالحهم السياسية أو لنشر الدَّعاوة السياسية المؤيدة لهم. وفي مقابل ذلك كان بعض الفقهاء يجدون عند السلطان الحماية والرعاية والحياة الرخوة، إضافة إلى ما يعنيه القرب من السلطان من مكانة اجتماعية - سياسية. وعلى هذا فالعلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية كانت في ذلك الوقت علاقة مصلحة مشتركة وتبادل للمنافع والخدمات. وقد انضم إلى هؤلاء جماعة من الأدباء والكتاب والفلاسفة، حاولوا أن ينافسوا الفقهاء في التقرب من السلطان. وكان عليهم أن يخضعوا للقانون نفسه. ومنذ ذلك الوقت فإن السلطة الدينية اتسعت لتشمل دائرة أكبر تضم الأدب والعلوم والثقافة عموماً. ويمكننا بذلك أن نستخدم كلمة الثقافية لتحل محل الدينية. وبذلك فإن السلطة الثقافية تمثل التأثير الذي كان يمارسه مجموع الفقهاء والأدباء والعلماء في البنية الاجتماعية – السياسية – الثقافية للمجتمع في الحضارة العربية الإسلامية.
إن المجال الروحي للإنسان في هذه الحضارة كان خاضعاً للمفهوم الديني المتسامي. إلا أن الصراعات الدينية كانت توسع من الانقسامات الاجتماعية – السياسية. ذلك أن أياً من التيارات الفكرية والفرق الدينية التي نشأت منذ ظهور الإسلام، وتطورت في جو من التنافس العنيف لم تستطع الانتصار على الأخرى بشكل حاسم.
وكان الحكام يحرصون تدريجياً على إزالة الهيبة الزمنية التي كانت تتمتع بها الخلافة في الضمير الجماعي للأمة الإسلامية. على حين أن إلغاءها كلياً كان يمكن أن يؤدي إلى تمركز النقمة الشعبية وتبلورها، ومن ثم إلى قيام معارضة قوية. وقد حرصوا على إبقاء الصبغة الدينية للخلافة، وسعوا هم أنفسهم إلى إظهار التمسك بالدين والحرص على تطبيق تعاليمه إذ لم يكن من الممكن كسب ود العامة إلا بهذه الطريقة. والواقع أنهم كانوا يسعون إلى قصر الدين على وظيفته الأخلاقية، ويستخدمونه وسيلة للقبول عند الناس.
لقد كان هؤلاء الحكام يدركون أنّ وجودهم على رأس السلطة يشكل تحدياً لمفهوم الخليفة / الإمامة سواء أكان ذلك عند أهل السنة أم عند الشيعة. ولذا فقد كانوا يلجؤون إلى ممثلي السلطة الثقافية في سعيهم لتغطية تلك الحقيقة. أما العامة فقد كان بإمكانهم إصدار أحكام قاسية بحق السلطة التي كانت تحكمهم ولا سيما أنهم ما كانوا يرتبطون بتلك السلطة بأي ولاء أو بيعة. وكانت تلك المعارضة تجد تعبيراً عنها بالقلاقل والثورات والفتن. على حين أن مواقف ممثلي السلطة الثقافية كانت تتراوح بين التأييد للسلطة والدوران في فلكها في مقابل الحصول على مكاسب مادية ومعنوية، وبين المعارضة أو الابتعاد عن مجالس تلك السلطة.
لقد أدت هذه الفوضى السياسية – الثقافية إلى فوضى اجتماعية – ثقافية، فقامت الصراعات بين الأطراف المتنازعة سياسياً وفكرياً. فقد كان المعتزلة يستنصرون ببعض السلاطين ضد الفرق الأخرى، وكذلك فعل أهل السنة ضد الشيعة والشيعة ضد أهل السنة. وكان الحكام في أثناء ذلك كله يستغلون هذا لصالحهم. يقول التوحيدي مصوراً تلك الحالة من الفوضى الثقافية – الاجتماعية في القرن الرابع: "ولما كانت أوائل الأمور على ما شرحت، وأواسطها على ما وصفت، كان من نتائجها هذه الفتن والمذاهب، والتعصب والإفراط، وما تفاقم منها وزاد ونما وعلا وتراقى، وضاقت الحيل عن تداركه وإصلاحه. وصارت العامة مع جهلها، تجد قوة من خاصتها مع علمها، فسفكت الدماء، واستبيح الحريم، وشُنَّت الغارات، وخُرِّبت الديارات، وكثر الجدال، وطال القيل والقال، وفشا الكذب والمحال، وأصبح طالب الحق حيران، ومحب السلامة مقصوداً بكل لسان وسنان، وصار الناس أحزاباً في النِّحل والأديان"([25]).
هذا ما كان عليه حال العلاقة بين السلطتين عند أهل السنة في الدولة العربية الإسلامية. أما عند الشيعة فقد كان الأمر مختلفاً. ونقصد هنا الشيعة الاثني عشرية أكبر فرق الشيعة. وقد رأينا من قبل أنهم كانوا يقولون بالإمامة وليس بالخلافة كما عند أهل السنة. وإذا كانت الخلافة تقوم لدى أهل السنة على الانتخاب الحر أو على طرق أخرى تنص عليها كتب الأحكام السلطانية عندهم، فإن الإمامة هي رئاسة عامة في أمور الدنيا والدين. وبذلك فهي لا تفصل بين السلطة الثقافية والسلطة السياسية، وتقوم على النص كما رأينا، وهو ما يجعل منها أمراً دينياً، لا دنيوياً كما عند أهل السنة، يرتبط بالعقيدة، ولا يكتمل إيمان المؤمن إلا بمعرفة إمامِ عصرِه واتِّباعِه([26]).
إن موقف الشيعة الإثني عشرية في عدم الفصل بين السلطتين في شخص الإمام لم يتوقف باختفاء الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن (- 255)، فقد قام مقامه نظام يعتمد على ولاية الفقيه. ففي عصر غيبة الإمام لا تسقط أحكام الدين بل هي باقية ومستمرة، ولا بد ممن يحميها، ويدافع عنها، ويسهر على سلامة تطبيقها، إذ إن الحُجّة لله على الناس باقية أبد الدهر. وإن كان الله تعالى لم يعين شخصاً محدداً للحكومة في زمن الغيبة فإن الصفات التي كانت شرطاً للإمام من صدر الإسلام "إلى زمن الإمام صاحب الزمان عليه السلام، هي كذلك لزمان الغيبة أيضاً، وهذه الصفات التي هي عبارة عن: العلم بالقانون والعدالة، موجودة في عدد لا يحصى من فقهاء عصرنا، لو اجتمعوا مع بعض لاستطاعوا إقامة حكومة العدل الشامل في العالم"([27]). إلا أن ولاية الفقيه لا تجعل مقام الفقهاء في مقام الأئمة عليهم السلام، أو النبي r، لأن الكلام هنا ليس على المقام والرتبة وإنما على الوظيفة([28]).
وقد ساعد نظام الهرمية في النظام التعليمي الشيعي في الحوزات العلمية على خلق تماسك فريد من نوعه في التاريخ العربي الإسلامي، فقد كان الشيعة بشكل عام والاثنا عشرية بشكل خاص يشكلون كتلة اجتماعية ثقافية وسياسية دينية يصعب اختراقها أو تفكيكها، على عكس الواقع عند أهل السنة. وهذا ما جعلها غير خاضعة للخلفاء والسلاطين الذين حكموا أهل السنة، ولعل هذا أيضا ما مكّن الشيعة في إيران من النجاح في ثورتهم، وإقامة أول جمهورية إسلامية في القرن العشرين.





ثانياً - إشكالية العلاقة
بين السلطتين عند العرب المعاصرين



هذا القسم هو أكثر الأقسام تعقيداً وتشابكاً وصعوبة. وهذا إنما ينشأ في اعتقادي من عدد كبير من المسببات أهمها: عدم وجود مراجع أو دراسات في هذا المجال، وثانياً: صعوبة الوصول إلى الوثائق التاريخية الخاصة بتلك الفترة، ولعل ثالثاً هو أكثرها حساسية، لأنه يتعلق بمسألة حرية التفكير والبحث في الوطن العربي.
لقد توافق ظهور أزمة المثقف وعلاقة سلطته بالسلطة السياسية في البلاد العربية مع ظهور أزمة أخرى أكثر خطورة وأعمق أثراً في مستقبل هذه البلاد، هي أزمة الهُوّية التي تمثلت، إثر تفكك الدولة العثمانية آخر دولة إسلامية بالمعنى التاريخي، بعدة قضايا إشكالية ما تزال الدول العربية تعاني منها إلى اليوم، وفي مقدمة هذه القضايا "تحديد طبيعة الكيانات السياسية التي سوف يسفر عنها زوال السلطنة، ومكانة اللغة وقدراتها، ووضع التراث والعلاقة التي تربط بين اللغة والتراث العربيين وهذه الكيانات، والعلاقة بين الهُوّية المحلية القطرية، والهُوّية العربية الإسلامية الشاملة"([29]). ونعتقد أن هذه الأزمات إنما هي نتيجة لمحاولة السلطات السياسية في الوطن العربي، بعد زوال السلطنة العثمانية خلق مرجعيات جديدة لوجودها السياسي، ورغبتها في البحث عن شرعية لوجودها هذا من خلال تلك المرجعيات، وهو ما شكل في حينه، وما يزال كذلك، خروجاً على العلاقة الجدلية بين النظام الكوني والنظام الإنساني، اللذين ما زالا يحكمان المجتمعات العربية الإسلامية منذ ظهور الإسلام إلى اليوم. وقد أدى هذا الخروج إلى تعميق الشرخ في كيان المجتمع العربي الإسلامي في البلاد العربية منذ عصر النهضة، وهو شرخ كان قد بدأ مع معاوية عندما جعل الحكم وراثياً، خارجاً بذلك على إجماع الأمة في مفهوم الخلافة أو الإمامة([30])، ولكنه ظل مع ذلك يحكم داخل العلاقة بين النظامين الكوني والإنساني في الحضارة العربية الإسلامية، وظل الفقهاء والمفكرون والأدباء نتيجة لذلك، يحتفظون بمكانتهم في تفسير النظامين وإبراز العلاقة بينهما في إطار السلطة السياسية، وهذا ما يؤكده حرص جميع الخلفاء والسلاطين في التاريخ العربي الإسلامي على استرضاء هؤلاء، أو استقطاب بعضهم ترغيباً أو ترهيباً، لأن أحداً من هؤلاء الخلفاء والسلاطين ما كان يجرؤ على نزع العلاقة بين النظامين، وخلق نظام جديد لا علاقة له بهما. على حين أن معظم الحكومات العربية التي ظهرت إثر الاستقلال لم تكتف بفعل ذلك، وإنما أقدمت، إثر اصطدامها بمعارضة الأمة، على السعي إلى تغيير النظام الكوني من خلال فرض المذاهب العلمانية المستمدة من الثقافة الغربية وأنظمتها السياسية والاقتصادية من جهة، ومن خلال العمل على تهميش ذلك النظام القائم، وتشويهه واتهامه بمختلف التهم، والإساءة إلى ممثليه لزعزعة هيمنتهم على تفسير العلاقة بينه وبين النظام الإنساني في المجتمعات العربية، ومن ثم عزلهم عن الأمة التي كانت ترى فيهم مرجعاً لها في الأزمات، بصفتهم يشكلون صلة الوصل بين النظام الكوني في الأمة والنظام الإنساني فيها. وبذلك كانت تلك الحكومات تخلق شرخاً عميقاً وانفصاماً كبيراً في ذات الأمة، أديا إلى جمودها وتخلفها عن الأمم الأخرى التي لم تكن تبتعد عنها كثيراً في سلم التطور في بداية القرن العشرين.
وإذا عدنا إلى بداية المشكلة نجد أنها قد بدأت مع اتصال العرب بالثقافة الغربية الأوربية في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي. وقد كان الاهتمام في جله متوجهاً إلى أنظمة الحكم والمفاهيم السياسية السائدة في الغرب الأوربي آنذاك، رغبة في تقليدها ونقلها إلى الشرق العربي، مع التبشير بأن هذا التقليد هو وحدَه الكفيل بتقدم الأمة العربية. وسادت في هذه المرحلة مرجعيات أخرى لا علاقة لها بالنظام الكوني السائد في الأمة العربية، وإنما تستند إلى العلوم الاجتماعية والفكر السياسي في الغرب الأوربي، وظهرت مقاييس جديده في الحكم على الأشياء في القرن التاسع عشر صيغت تحت اسم الحرية والتقدم والمدنية، فالحرية تعني استقلال الإنسان في التفكير شرط بقائه ضمن حدود المبادئ الخلقية، وحرية المرأة أساس الحريات([31])، وأصبح الهجوم على نظام الخلافة أمراً مسوغاً، عبر عنه أمثال أحمد لطفي السيد، الذي تجاهل فكرة الدولة الإسلامية، واعترف بأن لا علاقة لها بقضايا العالم الحديث([32]). وهو ما عبر عنه صراحة فيما بعد علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، حيث دعا المصريين إلى تبني مبادئ سياسية أخرى غير مبادئ الإسلام، بل زعم بأن لا وجود لما يسمونه بالمبادئ السياسية الإسلامية([33]).
ولعل هذا كله قد ساهم في إسقاط الخلافة الإسلامية، وإخراج العثمانيين من الوطن العربي إثر ثورة الشريف حسين التي قامت على أسس قومية، وانتهت بتقسيم المنطقة العربية شرقي البحر المتوسط بين القوتين الاستعماريتين آنذاك بريطانيا وفرنسا.
وقد عمل الاستعمار الغربي على دعم الشعور بالقومية العربية، وتنافس الإنكليز والفرنسيون في احتضان الفكرة العربية والسيطرة عليها وتوجيهها([34])، وانتهى الأمر في عام 1945 بإعلان قيام الجامعة العربية، وهي فكرة قومية ساعد الإنكليز خاصة على دعمها، لإعطاء بديل عن فكرة الجامعة الإسلامية التي كانت ما تزال تقلق الغرب الاستعماري في ذلك الوقت([35]).
لقد استطاع الغرب الأوربي، منذ وصول نابليون إلى الشرق العربي، أن يزرع بذرة الانفصام بين النظامين الكوني والإنساني في الوطن العربي. فقد كانت ثلاثة تيارات تتصارع في الشرق العربي منذ بداية عصر النهضة: الأول ديني يمثل النظام الكوني في المجتمعات العربية آنذاك، والثاني ليبرالي تغريبي وعلماني يدافع عن الثقافة الغربية، ويدعو إلى تبنيها، وهو بذلك يتبنى نظاماً كونياً غريباً عن الأمة، هو نظام غربي في تاريخه ونشأته وظروفه، أما التيار الثالث فقد كان يدعو إلى الموازنة بين التيارين السابقين، ويمكن تسميته بالتيار الإصلاحي، وقد استمر وجود هذه التيارات تحت ظل الاحتلال الأوربي للوطن العربي، وإن كانت السلطات الاستعمارية في أثناء الاحتلال تدعم التيار الثاني، وترعاه، وتربي ممثليه، وتُعِدُّهم في مدارسها وجامعاتها، تمهيداً لتسليمهم زمام الأمور بعد رحيلها عن البلاد.
لقد بدأ مفهوم الدولة الحديثة بالظهور في أثناء الاستعمار الغربي الذي دعم هذا المفهوم، وهو ما جعله يترسخ بعد جلاء الاستعمار بظهور مفهوم الدولة الوطنية / أو الدولة الأمة، ذات العلم والنشيد الوطنيين، والحدود القائمة والسيادة المطلقة. وهو ما شكل واقعاً سياسياً / ثقافياً يتعارض مع الدعوة التي كانت تنتشر في كل أنحاء الوطن العربي، وتدعو إلى الوحدة السياسية والثقافية، وإقامة وطن عربي واحد من المحيط إلى الخليج بحسب النظرية القومية. ولا شك في أن ذلك كله كان نتيجة تخطيط الاستعمار الغربي وعنايته بهذا التخطيط وسعيه إلى تنفيذه بأيدي ممثلي التيار الثاني الذين تسلموا السلطة السياسية بعد خروجه من الوطن العربي.
استمر في الوجود، إلى جانب هذا المفهوم، أو نشأ، مفهوم السلطة المطلقة المتمثل بالإمارات أو الممالك القائمة على النظام الوراثي، وهو مفهوم لا يختلف عن الأول من جهة أن الغرب هو الذي خطط له ورعاه، وما يزال إلى اليوم يحظى بتلك الرعاية.
ولكنّ الأوضاع لم تبق مستقرة على هذه الشاكلة، فمع ظهور الأنظمة السياسية التي دعت نفسها بالتقدمية، في مقابل كل ما عداها من الرجعية، في بعض أقطار الوطن العربي، بل وفي أهم هذه الأقطار من حيث الموقع والكثافة السكانية والتقدم الحضاري، بدأ الأمر يتجه إلى خلخلة خطيرة في العلاقة بين النظامين الكوني والإنساني في المجتمعات العربية في هذه الأقطار، وهو ما تجسد في الواقع في ما عبر عنه برهان غليون في عنوان كتابه ( الدولة ضد الأمة )، وهي عبارة بالغة الدقة في توصيف ذلك الواقع، فقد خرجت السلطة السياسية في ظل تلك الأنظمة على وظيفتها الأساسية في المجتمع الإنساني من حماية المجتمع ضد نقاط ضعفه، والحفاظ على قوانينه الداخلية، والعمل على تطويره في إطار تلك القوانين، وأصبحت قوة باطشة تفرض نظاماً كونياً غريباً على المجتمع، وتعمل بالقوة، من خلال مؤسسات كثيرة أوجدتها، على زعزعة النظام الكوني السائد فيه وعزله عنه وإجباره على الرضوخ للنظام الكوني الجديد الذي فرضته عليه. وهو ما ولد قطيعة كبيرة بين السلطة والمجتمع، وعداءً مستحكماً بينهما قائماً على عدم الثقة المتبادل والخوف. وقد أدى كل هذا إلى تشبث كل من الطرفين بموقفه خلال ما تبقى من القرن العشرين، وهذا ما انعكس، على أرض الواقع، في جمود الأمة وتخلفها عن الأمم الأخرى التي ما كانت تفصلها عنها مسافات كبيرة في بداية هذا القرن.
لقد كانت السلطة الثقافية، ممثلة النظام الكوني في الدولة الوطنية بعد الاستقلال، ما تزال فعّالة، وتشكل مرجعاً بالنسبة إلى النظام الإنساني في المجتمع، على الرغم من تغير مفهوم السلطة السياسية ومرجعيتها الحاكمة التي أصبحت لا تعتمد على ذلك النظام السائد في المجتمع، وإنما على أنظمة غربية ذات أصول تنتمي إلى نظام كوني مختلف. فالأمر في الواقع لم يختلف جذرياً فيما يتعلق بأثر السلطة الثقافية، ممثلة النظام الكوني في المجتمع، في مرحلة ما بعد الاستقلال، على الرغم من وجود فئة مثقفة تحمل ثقافة ذات مرجعية غربية، تنتمي إلى نظام كوني آخر، ترافق ظهوره في المجتمعات العربية ونموه مع النهضة العربية، وظهور مفهوم الدولة الحديثة. وبذلك أصبح في المجتمع العربي في ظل الدولة الحديثة نوعان من السلطة الثقافية لكل منهما مرجعيته الخاصة: الأول غربي يتفق مع السلطة السياسية في بنيتها وهيكلها وأسسها النظرية، فهو مثلها مستورد، ينتمي إلى نظام كوني آخر لا علاقة له بالمجتمع العربي، وهو يدافع عنها ويمثلها، ويشكل مرجعية لها في وجودها وفي تفسير علاقاتها بالنظام الإنساني في هذا المجتمع، ولذلك فهو مرتبط بها، وهي تنصره، وتدعمه، وتفتح أمامه سبل القوة والفعل من خلال وسائل الإعلام التي تسيطر عليها والمؤسسات العلمية والثقافية أو التعليمية التي أنشأتها ورعتها، والثاني أصيل يتعارض معها، ويرى فيها جسداً غريباً عنه، لا يمكنه التعامل معه بسهولة، إلا أنه لم يدخل معها في صراع لأن هيمنته على المجتمع وأثره فيه لم يكونا مهددين مباشرة، وإن كان يرى في النوع الأول منافساً قوياً له، لا يمكن مقاومته، فيسعى إلى الحصول على ما يمكنه الحصول عليه من السلطة في محاولة للتصالح معها، وتشكيل ما يشبه الرقيب عليها، مدركاً أنه لا يستطيع تغيير المؤسسات القائمة التي قد تتعارض في طبيعة عملها ومنطلقاتها، مع تصوره الكوني لطبيعة النظام الإنساني.
وقد عانى هذا الواقع انتكاسة أخرى في الستينات، زادت من عمق الهوة التي تفصل بين السلطة السياسية والنظامين الكوني والإنساني في المجتمعات العربية. وقد تجسد هذا بشكل خاص في عدد من الدول العربية التي ظهرت فيها، في وقت واحد تقريباً، أنظمة انبثقت عن أحزاب سمّت نفسها بالتقدمية، متبنية فكراً سياسياً يتفق في علاقته بالمجتمع ونظمه مع الفكر السياسي في الأنظمة السابقة ويختلف عنها بأنه كان يقوم على مفهوم الحزب الواحد والحكم الفردي الذي ينفي الآخر نفياً تاماً. "وكما عجزت الفلسفة القومية عن حل التناقضات الكامنة في أصل انفصال الدولة عن الأمة، وإعادة الربط بينهما، سواء أكان ذلك على مستوى الدولة القطرية أو في المستوى العربي العام، فإن الفكرة التقدمية قد أخفقت في تحرير الإرادة الجماعية أو القوى الكامنة من أجل تحقيق المصالحة بين الأمة والتاريخ العالمي. وبدل أن تفتح آفاقاً جديدة ومتجددة للمجتمع عمقت فيه الشروخ والمخانق، ودفعت الأطراف السياسية جميعاً إلى معركة شاملة كان من نتيجتها تحييد بعضها بعضاً: الدول والأجهزة والطبقات والأحزاب والعقائد السياسية والمجتمعات ذاتها. فلم تخفق المؤسسات، التي قامت على تحويل الولاء الجماعي إلى ولاء وطني، أي إلى ولاء وانتماء للدولة، في تقديم الإطار التنظيمي الملائم لتفجير وتنمية الموارد البشرية والمادية العربية فقط، وإنما تحولت هذه المؤسسات ذاتها إلى عائق رئيسي أمام التعبئة العقلانية لها"([36]).
وفي أثناء حكم تلك الأنظمة، الذي امتد على طول النصف الثاني من القرن العشرين ولا يزال قائماً إلى اليوم، أصاب شرخ إضافي جديد السلطة الثقافية ممثلة النظام الكوني في المجتمع العربي. إذ بعد تراجع ممثلي هذا النظام من المكانة الأولى إلى المكانة الثانية، في ظل الأنظمة الليبرالية في مقابل ممثلي نظام كوني جديد جاءت به تلك الأنظمة ورعته، بدأت تلك السلطة الثقافية تتعرض لممارسات مضادة من الأنظمة التقدمية، التي رأت في هؤلاء منافساً لها وعائقاً يتعارض مع وجودها القائم على مفاهيم سياسية واقتصادية وفكرية تنتمي إلى نظام كوني جديد يقوم على مفهوم الحكم المطلق ولا يوافقها في اعتقادها بضرورة الثورة على القيم والنظم الاجتماعية السائدة لتطوير المجتمع والنهوض به. وبذلك استبدلت المرجعية التي كان على المجتمع أن يحتكم إليها في علاقته بالسلطة السياسية ومؤسساتها الجديدة التي وضعت في أشكال متعددة لتتدخل في كل جوانب الحياة الاجتماعية. وقد أدى هذا الواقع الجديد إلى صراع مباشر بين الأنظمة التقدمية من جهة وممثلي النظام الكوني في المجتمع والنظام الإنساني فيه من جهة أخرى، وذلك بالطبع بعدما أزيلت آثار النظام الكوني الذي كانت تفرضه من قَبْل الأنظمة "الليبرالية".

وقد أدركت الأنظمة التقدمية اتساع الشرخ بينها وبين الأمة، وعرفت أنها لن تستطيع الاعتماد على ممثلي النظام الكوني فيها، وهي التي تحاربه وتعاديه، فكان عليها إيجاد مثقفين من صنعها، يمثلون النظام الكوني الذي تفرضه هي على الأمة، وتسعى بالقوة إلى إجبار النظام الإنساني على قبوله وإعادة تشكيل وجوده بحسب ما يفرضه ذلك النظام. وبذلك قامت الأنظمة التقدمية بخلق سلطة ثقافية مرفوضة من مجموع الأمة في شقيها: النظام الكوني والنظام الإنساني. ولكنها لم تكتف بذلك بل دأبت على تدمير النظام الكوني في الأمة لإحلال نظامها الخاص بها مكانه، وقلقلة النظام الإنساني بإفقاده عناصر قوته ومرتكزاته النظرية، لضمان سيطرتها عليه بعد أن أصبح قطيعاً من غير راع. إن أموراً كثيرة وظروفاً متشابكة ومتعددة أدت إلى قلقلة النظام الإنساني في تلك الدول بعد أن حورب هذا النظام في مرجعيته الكونية التي نشأ عليها تاريخياً، وفرضت عليه مرجعية كونية أخرى يمثلها آخرون لا يثق بهم ولا بمرجعيتهم.
لقد شكل النظام الكوني منذ الأزل هوية الأمة، لأنه يشكل تصور الجماعات لنفسها وذاتها، والصورة التي تبنيها عن عالمها، ونوعية العلاقات التي تربطها بالكون والمجتمع والسلطة، والقيم الأساسية التي تجسد ماضيها وحياتها، إنه بذلك يشكل روح المجتمع ووجوده وهويته. ولا شك في أن أي تجاهل لهذه الذاتية أو محاولة تغيير وخلخلة فيها، وهي التي تشكل محور وجود النظام الإنساني وما يجسده من مفاهيم الوطن والمواطن، سوف يجعل من أي محاولة تطوير أو تقدم في المجتمع مجرد عملية تراكم للبضائع المستوردة والآلات، واستيراد للثقافة والأفكار والقيم الجاهزة، عوضاً "عن أن تكون عملية بناء للإنسان وتفهماً وترميماً للحياة الشعورية العميقة، وتأميناً على النفس والحياة، وتعليماً وتربية وتثقيفاً.. وبالعكس، حتى حقوق الإنسان تتحول في الشروط القائمة، وعلى أيدي نخبة تفتقر إلى الحد الأدنى من الثقة بنفسها ومجتمعها، إلى سلاح للحرب ضد حقوق الإنسان، وإلى خطاب يهدف إلى التغطية على ممارسة التمييز وضمان التميّز عن الشعب، وتبرير القطيعة معه وتأكيد التفوق العقائدي والمعنوي والأخلاقي عليه، أي إلى عقيدة نفي الإنسان وتشويه صورته والتمثيل به، ونزع الإنسانية عنه، وحرمانه من ممارسة حقوقه الأساسية، وإنكار معاناته وآلامه"([37]).


([1])) الأشعري، أبو الحسن،(مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)، تحقيق هلموت ريتر – فيسبادن 1963، ص/ 2

([2])) هذا القول لحباب بن المنذر. انظر (التمهيد) للباقلاني – دار الفكر العربي – القاهرة 1947 ، ص/ 87

([3])) الأشعري، مقالات الإسلاميين، ص / 3.

([4])) المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، الطبعة الثالثة، مصر 1958، (2/406).وانظر أيضاً المصدر السابق ص / 5.

([5])) ابن كثير، ( البداية والنهاية )، المطبعة السلفية، القاهرة 1351، ( 8 / 182 ).

([6])) ابن خلدون، (المقدمة)، طبعة كتاب الشعب، مصر، ص / 167.

([7])) المصدر السابق، ص / 171.

([8])) أمين، أحمد، فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1964، ص/ 258.

([9])) مصطفى، شاكر، في التاريخ العباسي، ( 1 / 16 ).

([10])) أمين، أحمد، ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1964، (3 / 332).

([11])) أهل البيت: يميل أهل السنة إلى الاعتقاد بأن أهل البيت هم كل آل الرسول e من أهله وأعمامه، على حين أن الشيعة يعتقدون أن أهل البيت هم نسل علي وفاطمة عملاً بحديث العباءة والمباهلة، وأن علياً رضي الله عنه وصي النبي ووريثه وهو لذلك أحق بالخلافة من غيره، وأن الإمامة تنحصر في نسله من آل البيت.

([12])) ابن خلدون، المقدمة، ص / 175.

([13])) أمين، أحمد، فجر الإسلام، ص / 271.

([14])) مصطفى، شاكر، في التاريخ العباسي، 1 / 12.

([15])) البغدادي، الفرق بين الفرق، ص / 5 – 6.

([16])) المصدر السابق، ص / 19.

([17])) البغدادي، الفرق بين الفرق، ص / 271.

([18])) ابن خلدون، المقدمة، ص / 172.

([19])) البغدادي، الفرق بين الفرق، ص/ 271.

1) أمين، أحمد، ضحى الإسلام، ( 3 / 221 )

1) ابن خلدون، المقدمة، ص / 185.

(1) المصدر السابق، ص / 186

(1) أمين، أحمد، ضحى الإسلام، ( 2 / 163 ).

1) متز، آدم، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، دار الكتاب العربي، بيروت 1967،
(1/20 ).


1)التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ( 2 / 76 ).

(1) الشريف المرتضى، علي بن الحسين، الشافي في الإمامة، تح/ السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، مؤسسة الصادق لطباعة والنشر – طهران 1986، 1 / 44، وانظر أيضا يعقوب، أحمد حسين، الوجيز في الإمامة والولاية، الغدير للطباعة والنشر، بيروت لبنان، 1997، ص/ 40.

(2) الخميني، الإمام، الحكومة الإسلامية، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، طهران، 1996، ص/80.

(3) المصدر السابق ص / 81.

([29]) غليون. د. برهان، المحنة العربية : الدولة ضد الأمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1993 ص/ 58.

(1)انظر: الصديق، حسين، المدخل إلى تاريخ الفكر العربي الإسلامي، مطبوعات جامعة حلب، 1992، ص/ 41، 42، 43، 44.

1) حوارني، البرت، الفكر العربي في عصر النهضة، دار النهار للنشر، بيروت،ط 4، 1986،
ص/ 205.


([32]) المصدر السابق، ص / 224.

([33]) المصدر السابق.

([34]) حسين، محمد محمد، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مكتبة الآداب، مصر، 1968.

([35]) المصدر السابق، ص/ 211.

(1) غليون، برهان، المحنة العربية: الدولة ضد الأمة، ص / 245.

(1) المصدر السابق ص / 247.

Eng.Jordan 02-07-2012 02:56 PM

ثالثاً – شاهدان من التاريخ


1- العلاقة بين سيف الدولة والفارابي

1-1- سيف الدولة وغلبة الخطاب البلاغي على الخطاب الفلسفي / العقلي

بانتهاء الخلافة الراشدة باستشهاد سيدنا الإمامِ علي بدأ الفراق بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية اللتين كانتا مجتمعتين عند الخلفاء الأربعة. وتحولت العلاقة بينهما من علاقة تكامل إلى علاقة نزاع وهيمنة. وتتابع على حكم الدولة العربية الإسلامية ملوك من العرب الأمويين والعباسيين الذين توقف حكمهم الفعلي بعد المعتصم الذي فتح أمام مماليك الأتراك باب السيطرة على مقدّرات الأمّة، وأصبح "الخليفة" لا يملك من منصبه إلا اللقب، وعرفت الدولة العربية الإسلامية حكاماً متعددين، كانوا يعلنون ولاءهم للخليفة في بغداد بعد أن يكونوا قد تمكّنوا من اجتزاء بلد يحكمونه، هم ومِن بعدهم عشيرتهم، حتى يأتي من هو أقوى منهم فيحلّ مكانهم منهياً حلقة في سلسلة لم تتوقف في التاريخ العربي - الإسلامي إلا في مطلع القرن العشرين بظهور مفهوم الدولة الحديثة.
عرفت الدولة العربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري، عصرِ سيف الدولة، الأتراكَ والبويهيين الذين كانوا يحكمون بغداد، أما في مصر فكان الإخشيديون ومن بعدهم الفاطميون، وفي بلاد الشام كان سيف الدولة.
سيف الدولة كان واحداً من السلاطين الذين حكموا في القرن الرابع الهجري في ظل الخلافة العباسية في بغداد. وقد شمل حكمه منطقة واسعة كانت عاصمتها حلب التي ما ملكها إلا بفضل القوة العسكرية التي كانت تمنحه إياها عصبيته القبلية ومماليكه، وهو بذلك يشترك في فقدان الشرعية السياسية مع الأتراك والبويهيين والسلاجقة والمماليك والأيوبيين وغيرهم من السلاطين، وهذا ما جعل السلطة مصدر تنازع دائم بين هؤلاء، فكل من يملك القوة المناسبة ويغلب بالسيف كان يصنع لنفسه شرعية سياسية حتى يأتي من هو أقوى منه فيأخذ السلطة منه. وقد كانت القبائل المحيطة بحلب، على سبيل المثال، ترى في سيف الدولة منازعاً لها وخصماً على الخيرات التي كانت تجنيها من غزو حلب وأطرافها، كما أنّ سيف الدولة أخذ حلب من الإخشيديين في عام /333/ هـ، وحاول ضم دمشق إلى مملكته حتى قامت بينه وبين الإخشيديين مصاهرة سياسية.
سيف الدولة علي بن حمدان من قبيلة تغلب العربية، ولد في عام /301/ أو /303/ في ميّافارقين أشهر مدينة بديار بكر كما يكتب معجم البلدان، وكانت فيها والدته وأهله فكان يتردد إليها دائماً، وعندما توفي في حلب عام /355/ هـ نقل جثمانه إليها ودفن فيها.
دخل حلب في عام /333/ هـ، وكانت مدينة تجارية صناعية، تغصُّ أسواقها بالحركة والبضائع بحكم موقعها الهامّ بين الشرق والغرب.
عاش سيف الدولة نيفاً وخمسين عاماً، كان فيها منشغلاً بالحروب التي بدأها منذ أن كان شاباً، فقد غزا البيزنطيين عدة مرات وله من العمر خمسة وعشرون عاماً، كما ساهم في قتال البريديين ودحرهم وإعادة الخليفة المتقي إلى بغداد، وهو الذي منحه لقب سيف الدولة.
ولم تختلف حياته في حلب عنها من قبل، إذ استمر في حرب البيزنطيين فكانت له غزوات تسمى الربيعيات وأخرى الصائفات وثالثة الشواتي، وسوى حروبه مع البيزنطيين كانت له حروب أخرى ضد الأخطار التي كانت تهدد سلطته في حلب سواء أكانت من الإخشيديين، أو من القبائل العربية المحيطة بحلب، أو من التمردات التي كان يقوم بها بعض مماليكه عندما كانوا يأنسون فيه ضعفاً([1]).
كان سيف الدولة دائم الانشغال بقضايا السلطة من جهة والغزو من جهة أخرى، وهذا يعني أنه ما كان يملك وقتاً يساعده على رفد ثقافته الأدبية الخالصة بثقافة عصره العقلية، فقد تتلمذ على ابن خالويه مؤدب أمراء بني حمدان، وساعده في ذلك موهبته الشعرية. وهو كأي من سلاطين عصـره كان يدرك أن سلطتـه السياسية تنقصها الشرعية التي لا يوفرها له إلا المثقف الذي يملك المعرفة الضرورية لاستمرار سلطته، وهذه المعرفة كانت تمثّل بشكل أو بآخر السلطة الثقافية التي كان يملكها الخلفاء الراشدون إلى جانب سلطتهم السياسية، وكان مفهوم الخلافة يشتمل على هاتين السلطتين معاً، وهي سلطة نوزع فيها الملوك من زمن معاوية كما ذكرنا، ولم يملكها السلاطين أبداً، فكان لا بد لهم من استقطاب من يمثلون السلطة الثقافية ليتمكنوا، بفضل ما يقدمه هؤلاء لهم من دعم معنوي وإعلامي اجتماعي، من إضفاء الشرعية على سلطتهم السياسية التي امتلكوها بغلبة السيف، أو ليتمكنوا على الأقل من الحفاظ على هذه السلطة.
إنّ كل وسط من الأوساط يمكن أن يُحدَّد بالأفكار والمعتقدات التي يسلم بها، وبالقضايا التي يقبلها من غير تردد. ومفاهيم هذا الوسط جزء من ثقافته التي على الخطاب الموجه لهذا الوسط أن يهتم بها، وعلى كل خطيب يريد إقناع مستمع ما ينتمي إلى وسط من الأوساط أن يتبنى، أو يستخدم، في خطابه المفاهيم السائدة في هذا الوسط.
وسيف الدولة يمثل، في آن واحد، وسطاً يخاطبه آخرون، وخطيباً يخاطب وسطاً، فقد كان بحكم نشأته البدوية عربي الثقافة، يحن إلى إنشاد الشعر وسماعه، وكان من الطبيعي أن يسود في بلاطه الخطاب الأدبي المتمثل بالشعراء واللغويين والنحاة من أمثال ابن نباتة، وابن جني، وأبي علي الفارسي، وابن خالويه، وكشاجم، والخالديين، والصنوبري، والمتنبي، وأبي فراس الحمداني. وكلهم يمثلون الخطاب الأدبي الذي كان يلقى ترحيباً عند سيف الدولة كوسط مخاطَب.
وهو من جهة أخرى خطيب يخاطب وسطاً، فهو سلطان يستمد سلطته السياسية من قوته العسكرية، وهو بحاجة إلى خطاب آخر غير القوة العسكرية يتوجه به إلى الناس الذين يخضعون لسلطته، يقرّبه منهم، ويرفع شأنه بينهم، ويوفّر له شيئاً من الشرعية من خلال تقديمه بطلاً عربياً مدافعاً عن الثغور الإسلامية في وجه البيزنطيين. ولمّا كان الناس عامة يميلون إلى الخطاب الأدبي، لأنهم أقرب إليه من حيث غلبة العواطف والمشاعر لديهم على العقل، وقلمّا يلقون بالاً للخطاب الفلسفي العقلي، فقد كان من الطبيعي أن يغلب على بلاط سيف الدولة حضور الشعراء وممثلو الخطاب الأدبي عامة، والبلاغي خاصة، لما يقدمونه من خدمات إعلامية يحرص عليها كل سلطان في ذلك الزمان، وهو ما نراه في ذلك العصر في محاولة كل سلطان استقطاب عدد من ممثلي ذلك الخطاب، يزين بهم مجلسه، فيرضى عنه هؤلاء لما يوفره لهم قربهم منه من مزايا ومصالح، ويقدمون له خدمة مقابلة بتزيين صورته عند الناس.
ولعل ما دفع هذه الكثرة من الشعراء والأدباء إلى الدوران في فلك سيف الدولة، وهو ما مازه من سلاطين عصره وتنبه عليه الثعالبي في يتيمة الدهر عندما ذكر أنّه لم يجتمع ببلاط أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببلاط سيف الدولة من شيوخ الشعر، أمران اثنان يمكن إضافتهما إلى ما تقدم من تحليل سياسي ثقافي: الأول هو كرم سيف الدولة الذي بلغ برأي كثير من المؤرخين والدارسين حدَّ الإسراف، وكان سيف الدولة يلجأ في سبيل جمع الأموال لتمويل حروبه ونفقات بلاطه إلى مصادرة الأموال والأراضي، وأخذ ما في أيدي الرعية مستعيناً بقاض جائر هو أبو الحصين علي بن عبد الملك الرقي حتى شاعت عبارة "كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك، وعلى أبي الحصين الدرك" وهذا ما جعل المؤرخين يستنتجون أن سيف الدولة كان جائراً بلا شك "على رعيته، يفرض عليها الضرائب الثقيلة لكي يستطيع أن يؤمن نفقات الحملات ونفقات البلاط"([2]).
والأمر الثاني هو أن سيف الدولة أمير عربي يتذوق الشعر في عصر كان أغلب السلاطين فيه من غير العرب، وهو فوق ذلك أمير عظيم وهب حياته للدفاع عن الثغور، وحمى بلاد الشام طوال حياته من غزوات البيزنطيين في عصر انشغل فيه غيره من السلاطين بالدفاع عن عروشهم، وتركوا الأمة مباحة أمام أعدائها من البيزنطيين وغيرهم من المغول والصليبيين.
لقد غلب الخطابُ الأدبي الخطابَ العقلي في بلاط سيف الدولة، وهذا ما يشكل ظاهرة عامة عند أغلب السلاطين الذين حكموا الدولة العربية الإسلامية، على حين أن الخطاب العقلي تراجع في ذلك العصر إلى زوايا خاصة ومجالس بعيدة عن السلطان، لأنه كان لا يقدم لهم النفع المرجو عند عامة الناس، وازدهر الخطاب العقلي بفضل هذا الابتعاد عن السلطان وهو ما نراه واضحاً في كتب أهل العصر الذين عبّر عنهم التوحيدي في مؤلّفاته وبخاصة في كتابيه الإمتاع والمؤانسة، والمقابسات.
1-2- مفهوم السلطة السياسية ووظيفتها عند الفارابي

الفارابي هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان تركي الأصل ولد في عام /259/ هـ وينسب إلى مدينة فاراب في تخوم بلاد الترك، تعلم الفارسية والعربية إلى جانب التركية، ولقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو. كانت فلسفته تشكل امتداداً للأفلاطونية المحدثة إلا أنها لم تخرج مطلقاً على أطر العقيدة الإسلامية. درس في بغداد على أبي بشر متى بن يونس، وانتقل في عام /330/ هـ إلى دمشق، واتصل بسيف الدولة في حلب، وتوفي في عام /339/ هـ في دمشق وله من العمر ثمانون عاماً.
شرح الفارابي كتب أرسطو، وكَتَبَ في مجالات كثيرة من أبرزها المنطق والموسيقا، والميتافيزيقيا، والفيزيقيا، والسياسة، وكان أثره كبيراً جداً في الفلاسفة العرب المسلمين من بعده وبخاصة ابن سينا، كما أن أثره في الفلسفة الأوروبية لا ينكر. وللفارابي مؤلفات عدة أبرزها إحصاء العلوم، وآراء أهل المدينة الفاضلة، وكتاب تحصيل السعادة.
عاش الفارابي في عصر بدأ فيه تفكك الدولة العربية الإسلامية بالتسارع، وهو ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار إذا ما أردنا فهم فلسفته السياسية والأخلاقية، فهو يبرز في مؤلفاته أثر الفلسفة والدين في النظرية السياسية والأخلاقية، ويقرر أن العلاقة قوية بين مفهوم الأخلاق الذي هو الكمال الذي ينبغي على الإنسان أن يبلغه من خلال المعرفة العقلانية، وبين الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي يعيش في أطرها هذا الإنسان.
وينطلق الفارابي في مؤلفاته من رغبته بالجمع بين المفاهيم الفلسفية والسبل العملية لتحقيق هذه المفاهيم، فالفيلسوف في رأيه هو من يجمع الفضائل العملية إلى الفضائل النظرية. وقد جسَّد الفارابي هذا المنطلق في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة الذي يلخّص فلسفته بشقيها العملي والنظري، وعرض فيه كل شيء يهم الوجود الإنساني ويساعده على تحقيق غايته في الوجود وهي بلوغ الكمال، فابتدأ بالكلام على الإلهيات وأنواع الوجود ومراتبه، ونظرية المعرفة، والفيض والإشراق، والسعادة، والسياسة.
ويمكن، في اعتقادنا، تلخيص فلسفة الفارابي بأنها تقوم على تعريف السعادة وبيان سبل تحصيلها، ووضع كل ما عداها في خدمة الإنسان للوصول إليها، وفي مقدمة ذلك السياسة.
فكل موجود في رأي الفارابي "إنما كُوِّن ليبلغ أقصى الكمال الذي له أن يبلغه بحسب رتبته في الوجود الذي يخصه، فالذي للإنسان من هذا هو المخصوص باسم السعادة القصوى"([3]). فكمال الإنسان الذي خُلِقَ من أجل أن يبلغه بحسب مرتبته في الوجود الكوني هو السعادة، وسعي الإنسان نحو الكمال هو غاية وجوده، ولما كانت السعادة في بلوغ الكمال، أو كانت هي هو، فقد اقتضى أن تكون السعادةُ غايةً في ذاتها لا تطلب لغيرها. وسبيل الإنسان في تحصيل الكمال أو السعادة إنما هو العقل الذي هو آلته في اكتساب المعارف والخيرات وفي الابتعاد عن الجهل والشرور، فيكون بذلك كمالُه الذي هو عين السعادة.
ولا يخرج هذا المفهوم عن الإطار المعرفي العام في الحضارة العربية الإسلامية وتحديده لمفهوم الإنسان صاحب السعادة، فالإنسان يتشكل من عَرَض وجوهر، عَرَض بالجسد وجوهر بالنفس، والإنسان إنسان بالنفس لا بالجسد، لأن النفس متصلة بالعقل الأول وبالنفخة الإلهية الصادرة عن واجب الوجود، وهي بعناصرها تمثل العالم العلوي والوجود الأول في أعلى مراتبه لأنها جزء منه، على حين أن الجسد جزء من العالم السفلي ويمثله بعناصره وهو شبيه به.
ولكن النفس في الإنسان جوهر موجود بالقوة، ولا يتحقق وجوده بالفعل إلا بمعونة العقل أداة المعرفة التي هي الشرط الأول في التمييز بين الجميل والقبيح. وسعي الإنسان إلى هذه المعرفة التي لا بد منها في نقل جوهره من القوة إلى الفعل هو هدفه، لأنه سبيل إدراكه الكمال. فسعي الإنسان إلى معرفة النفس بعد معرفة الكون ليست معرفة لذاتها وإنما ترمي إلى معرفة الواحد الأحد الذي وُجِد بفضل نوره كل شيء. وهذا السعي في الفكر العربي الإسلامي هو مرتبة من مراتب السعادة، والوصول إلى الكمال هو عين السعادة التي يصفها الفارابي بقوله : "هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامه إلى مادة، وذلك أن تصيـر في جملة الأشياء البريئة عن الأجسـام، وفـي جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائماً أبداً"([4]). وعلى هذا فالسعادة هي "الخير المطلوب لذاته، وليس يطلب أصلاً ولا في وقت من الأوقات بها شيء آخر، وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها"([5]).
وينبه الفارابي على أن بحث الإنسان عن السعادة ليس وهماً مثالياً، ففي الإنسان قدرة بها "يفعل الأفعال الجميلة، وبعينها يفعل الأفعال القبيحة"([6]). فهي قدرة على الفعل أياً كان، والإنسان بذلك مختار، وهو صانع أفعاله، إلا أن عليه أن يُدرَّبَ على فعل الجميل.
والتدريب على فعل الجميل هو صلة الوصل بين السعادة هدف الفلسفة وبين السياسة ومفهوم المدينة الفاضلة عند الفارابي. فهو يبيّن في آراء أهل المدينة الفاضلة أنّ الإنسان محتاج في سعيه إلى الكمـال، وفي طلبه السعادة، إلى أمور كثيرة لا يمكنه القيام بها وحده، ولذلك فقد كان لا بد له من الاجتماع، ولا يمكن للإنسان أن ينال الكمال "الذي لأجله جعلت له الفطرة الطبيعية إلا باجتماع جماعات كثيرة متعاونين، يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه، فيجتمع مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال"([7]). وكلما اتسع الاجتماع كان أقدر على خدمة الإنسان في بلوغ الكمال، "فالخير الأفضل والكمال الأقصى إنما يُنال أولاً بالمدينة لا بالاجتماع الذي هو أنقص منها"([8]).
إلا أنه قد يحدث أن يتعاون أهل المدينة على الشر، لأنّ القدرة على فعل الخير أو الشر كامنة بالاختيار والإرادة في الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك فقد أمكن أن تُجعل المدينة للتعاون على بلوغ بعض الغايات التي هي شرور، ولذلك كل مدينة يمكن أن يُنال بها السعادة كما يُنال بها الشقاء. والمدينة "التي يقصد بالاجتماع فيها التعـاون على الأشـياء التي تنال بـها السعادة في الحقيقة هي المدينة الفاضلـة"([9]).
ووجود المدينة الفاضلة رهن بوجود رئيس فاضل، فالمدينة الفاضلة أشبه بالبدن التام الصحيح، والتعاون بين أعضاء المجتمع الواحد في سبيل تحقيق المدينة الفاضلة شبيه بالبدن التام الذي تتعاون أعضاؤه على تتميم حياة الحي وحفظها عليه. "وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى، وفيها عضو رئيس هو القلب . . وكذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة، متفاضلة الهيئات، وفيها إنسان هو رئيس"([10]).
فالنظام السياسي في رأي الفارابي لا يختلف عن باقي أنظمة الوجود الأخرى وعلى رأسها الوجود الإنساني. فكل من هذه الوجودات يقوم على ترابط أجزاء تتبع نظاماً معيناً وترتيباً خاصاً. ولا بد من رئيس في هذا النظام. فإذا كان القلب هو الرئيس في البدن فإن الرئيس هو القلب في المدينة. والقلب هو العضو الكامل التام، وكل ما عداه من سائر الأعضاء تابع له وخدم له. والرئيس في المدينة هو أكمل عناصر المدينة التي ينبغي أن تحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول، فهي على شاكلته، وفي خدمته، وهو أنموذج لها لأنه يقرر كيف تكون المدينة فاضلة. ووجود البدن التام قائم بصحة رئيسه القلب، ووجود المدينة الفاضلة متوقف على وجود الرئيس الفاضل، وذهابها مقترن بذهابه، فإذا وجد الرئيس الفاضل وجدت، وإنْ اختل النظام فيها أُنيط أمر إصلاحه وتقويمه به([11]).
إن تقرير الفارابي بأن القلب هو العضو الرئيس في البدن وليس العقل، ومقارنة الرئيس به له أسس حضارية وثقافية عميقة، فقد كان القلب، وما يزال، مركز الإيمان عند المفكرين العرب المسلمين، والعقل ما هو إلا أداة القلب([12]) الذي إذا ما صلح صلح الجسد كله، وإذا ما فسد فسد الجسد كله. أضف إلى ذلك بعداً آخر وهو أن صورة الرئيس في فلسفة الفارابي إنما هي قريبة جداً من فكرة الإمام عند الشيعة الإمامية عامة والإسماعيلية خاصة. ويبدو ذلك في صفات الرئيس التي يقررها الفارابي: وأولها أن يكون الرئيس عاقلاً بالفعل حلّ فيه العقل الفعال فيصبح "هو الذي يوحى إليه فيكون الله عز وجلّ يوحي إليه بتوسط العقل الفعّـال، فيكون ما يفيض من الله تبارك وتعالى إلى العقل الفعّال يفيضه العقل الفعال إلى عقله المنفعل بتوسط العقل المستفاد ثم إلى قوته المتخيلة. فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً ومتعقلاً على التمام، وبما يفيض منه إلى القوة المتخيلة نبياً منذراً بما سيكون، ومخبراً بما هو الآن من الجزئيات بوجود يعقل فيه الإلهي. وهذا الإنسان هو في أكمل مراتب الإنسانية، وفي أعلى درجات السعادة. وتكون نفسه كاملة متحدة بالعقل الفعّال على الوجه الذي قلنا. وهذا الإنسان هو الذي يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة. فهذا أول شروط الرئيس"([13]).
ويضيف الفارابي مصرحاً بكلمة الإمام في وصفه الرئيس قائلاً: "فهذا هو الرئيس الذي لا يرأسه إنسان آخر أصلاً، وهو الإمام وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمة الفاضلة ورئيس المعمورة من الأرض كلها"([14]). إنه الإمام المهديُّ القادرُ وحدَه على تحقيق مفهوم المدينة الفاضلة التي تضمن الفوز بالسعادة لأهلها، لأنه يجمع بين السلطتين الثقافية الدينية والسياسية.
إنّ السلطة عند الفارابي وسيلة إلى تحقيق المدينة الفاضلة، ووظيفتها تنحصر في توفير أفضل الظروف التي تساعد الإنسان على بلوغ الغاية من وجوده بحسب مرتبته في الكون وهي الكمال الذي هو عين السعادة غايةُ الإنسان المطلقة.
1-3- سيف الدولة السلطة والفارابي المثقف

يكتب ريموند آرون في مقدمته لكتاب ماكس وبر (العالم والسيـاسي) قائلاً: "الدولة هي المؤسسة التي تحتكر حق ممارسة العنف الشرعي في مجتمع من المجتمعات"، ويضيف: "إنّ الدخول في السياسة يعني المشاركة في صراعات على امتلاك القوة، قوة التأثير في الدولة، وقوة التأثير في المجتمعات"([15]).
وسيف الدولة بحسب النظام السياسي الذي كان سائداً في عصره كان مؤسسة بذاته فكان هو الدولة، وهو، كغيره من سلاطين عصره، كان يملك وحده حق ممارسة العنف في المجتمع ويؤثر فيه كما يشاء. ويعطي هذا العنفُ شرعيةً ما كون الأمير هو مالك القوة الأول في دولته. وعندما كان يُنَازَع هذه الشرعية كان يُدافِعُ عنها بكل العنف الذي يواجه به خطرَ البيزنطيين على الثغور الإسلامية.
ولكن ما يميز سيف الدولة من غيره من السلاطين في القرن الرابع هو أنه كان شيعياً، وهو يشترك بهذا مع البويهيين الذين سيطروا على الخلافة في بغداد في عام /334/ هـ، عندما دخلها أحمد بن بويه بطلب من الخليفة المستكفي وخلع عليه لقب معزِّ الدولة. أما الفاطميون فإنهم لم يؤسسوا دولتهم في مصر إلا في عام /356/ هـ، أي بعد وفاة سيف الدولة.
إن هذا التميّز يحمّل سيف الدولة مسؤولية سياسية ثقافية أكبر من تلك التي يحملها غيره من السلاطين. فقد كان شيعياً إمامياً، يعرف مبدأ مذهبه في السياسة القائم على مفهوم الإمامة وأحقية آل البيت فيها، وقد سنحت للأمير/ المؤسسة والدولة الفرصة مرتين لتحقيق مذهبه السياسي/ الديني: الأولى عندما استنجد الخليفة المتقي بالحمدانيين في الموصل بعد أن أخرجه البريديون، أو اليزيديون كما يروي السيوطي، فنصره سيف الدولة وهو اللقب الذي منحه إياه الخليفة بعد أن أعاده سيف الدولة إلى بغداد وهزم اليزيديين، وكان بإمكانه استبدال المتقي بإمام من آل البيت، فيتغير بذلك وجه التاريخ العربي الإسلامي، ولكنه لم يفعل. وهو بذلك لا يختلف عما قام به البويهيون أنفسُهم عندما جاؤوا إلى بغداد وسيطروا على الخلافة. فقد فكر أحمد بن بويه بخلع المستكفي وتعيين إمام من آل البيت مكانه، فما كان من قوّاده والمشيرين عليه إلا أن منعوه من ذلك، وكلهم شيعة إمامية، وحجتهم في ذلك أنه إذا عيَّن مكان الخليفة إماماً من آل البيت فإن عليه هو وجنده الدخول في طاعته، ولن يجرؤ أحد من الجند على عصيانه أو خلعه إذا ما أراد أحمد بن بويه ذلك، على حين أنه إذا ما ترك الخليفة مكانه فسيصبح هو الحاكم الفعلي للخلافة، ولا يجرؤ أحد من جنده على عصيانه وطاعة الخليفة.
والمرة الثانية هي عندما دخل سيف الدولة حلب، وأصبح أكثر أهلها من الشيعة بعد أن استباحها البيزنطيون عام /351/ هـ ودمروها. إذ يذكر ابن العديم صاحب بغية الطلب([16]) أنّ سيف الدولة نقل إليها جماعة من الشيعة من حرّان، فغلب على أهلها التشيع بعد أن ظلت في أغلبها على مذهب أهل السنة على الرغم من تشيع الحمدانيين. ولكنه في هذه المرة أيضاً لم يحقق مذهبه السياسي الديني في الإمامة.
ولعل انشغال سيف الدولة / المؤسسة والدولة في غزواته وحروبه الخارجية والداخلية ما كان يسمح له بتحقيق ذلك، هذا إذا افترضنا أنه كان شيعياً متحمساً لمذهبه وهو خلاف ما يراه الدكتور مصطفى الشكعة([17])، إذ ينقل عن أغلب المؤرخين أن تشيع الحمدانيين كان خفيفاً أو أنه كان تشيع تفضيل وتعاطف. فلماذا لم يفعل سيف الدولة ما يمليه عليه مذهبه في الإمامة؟ وإذا افترضنا أنه بثقافته العربية الخالصة التي يسيطر عليها الخطاب الأدبي كان يجهل مبدأ الإمامة فإن صلته بالفارابي الذي كان قد بدأ بتأليف كتابه آراء أهل المدينة في بغداد عام /330/ هـ، وأتمه في دمشق بعد عام، تجعلنا نعتقد باطلاعه على هذا الكتاب، أو على الأقل بمعرفة مضمونه السياسي وما يقدمه من صورة رئيس المدينة/ الإمام الحكيم.
إلا أن تأثير الفارابي/ المثقف في سيف الدولة/ السلطة لم يكن كبيراً في أرجح الأحوال. فالفارابي لم يكن سياسياً، ولم يحاول الدخول في السياسة، ولكنه قدم صورة متكاملة للمدينة الفاضلة المنسجمة مع العقيدة الإسلامية، تمثل نموذجاً إسلامياً شيعياً فلسفياً.
إن ما شهده عصر الفارابي من تسارع في تمزق الدولة الإسلامية وفوضى سياسية حكمت الخلافة في بغداد دفع هذا المثقف الفذ إلى وضع تصوره لإنقاذ هذه الدولة من خلال الابتعاد عن نظام الفرد/ المؤسسة القائم على القوة، وتكريس مبدأ المؤسسة المتمثلة في الفرد، والقائمة على العقيدة بحسب المذهب الإمامي، ولذلك فإنّ هذه المؤسسة لن تسقط بزوال الفرد الذي يمثلها، على حين أنّ الفرد/ المؤسسة يمثل الدولة، وستزول دولته بزوال مؤسسته، وهذا ما يؤكّده تاريخ الحضارة الإسلامية السياسي، وقد سقطت دولة سيف الدولة في حلب بوفاته.
إنّ الرئيس في المدينة الفاضلة هو صورة الإمام المعصوم في المذهب الاثني عشري، إلا أنه ليس الحاكم بأمره الفرد المطلق، كما قد يُظن، إذ إن على هذا الرئيس كما يرى الفارابي أن يأخذ بالشرائع والسنن التي شرعها هو نفسه وأمثاله ممن سبقوه، إن كانوا توالوا في المدينة. ومن صفات هذا الرئيس الأساسية أن يكون تابعاً لمرجعية ثابتة هي الشرائع والسنن، وأن يحتذي بأفعاله كلها حذو هذه الشرائع والسنن. وهو في استنباطه واجتهاده يجب أن يكون محتذياً حذو الأئمة الأولين([18])، ولا بأس، في إطار المؤسسة، أن يكون للمدينة رئيسان إذا لم تجتمع كل الصفات في رجل واحد. أما إذا وجدت الصفات متفرقة كل واحدة في رجل فكانت الحكمة في واحد، والعلم بالشرائع السابقة في واحد، وجودة الاستنباط في واحد، وجودة الرويّة والقول في واحد، وكانوا متلائمين فلا بأس أن يكونوا هم الرؤساء الأفاضل.
إنّ ما يقدّمه الفارابي يشكل تصوراً لدولة تقوم على مؤسسات يمثلها فرد واحد أو مجلس شورى يتألف من أفراد يقودهم رئيس حكيم. ولكن الفارابي لم يدخل في السياسة، ولم يكن له تأثير حقيقي في سيف الدولة/ المؤسسة، ولعل هذا التأثير لم يتجاوز الإعجاب بالثقافة الواسعة التي كان يمثلها المعلم الثاني. فبالإضافة إلى انشغال سيف الدولة بقضايا المؤسسة، فإن الفارابي لم يتصل بسيف الدولة إلا في فترة زمانية صغيرة، فقد دخل الأمير حلب في عام /333/ هـ، والفارابي توفي في عام /339/ هـ بدمشق، ولا نجد في مصادرنا التاريخية ما يبيّن لنا بوضوح المدة التي صحب فيها الفارابي سيف الدولة. وإذا أهملنا ما قاله المؤرخون عن لقاء الاثنين، سواء أكان ذلك في دمشق عندما فتح سيف الدولة هذه المدينة أم في حلب عند قدوم الفارابي إلى بلاط سيف الدولة، فإننا سنقبل بأنّ مدة اللقاء كانت في أحسن الأحوال بين عامي /333/ و /339/ هـ، أي في مدة ست سنوات فقط. ولا يمكن أن نقارن بين رسالة السياسة التي كتبها أرسطو للإسكندر وآراء أهل المدينة الفاضلة التي كتبها الفارابي قبل أن يلتقي بسيف الدولة.
1-4- خاتمــة

لا يمكن للمرء أن يكون رجل دولة ورجل علم في الوقت نفسه من غير أن يسيء إلى حصافة المهنتين معاً. ولكن رجل العلم ورجل الدولة يمكن أن يتكاملا في خدمة المؤسسات التي ينتميان إليها وتشكل بمجموعها الدولة. في هذه الدولة يمكن للإنسان أن يكون عضواً صالحاً، تصلح الدولة بصلاحه وتفسد بفساده. ولكنها هي التي تصلحه وتفسده، فالعلاقة بينهما جدلية تتأسس على الدولة.
وتبقى في نهاية البحث إشكالية العلاقة بين السلطة والمثقف قائمة في التراث. ولكنها، وإن كانت من غير حل، مفيدة في قراءة الحاضر لتجاوز أخطاء الماضي. لقد غلب الخطابُ الأدبي في التاريخ السياسي للدولة العربية الإسلامية الخطابَ العقلي. وفي اعتقادي أنّ الأول يصنع دولة أفراد، أما الثاني فيصنع دولة مؤسسات. ولكن الإشكالية بين السلطة والمثقف ستظل قائمة وما قدمته هذه الدراسة يطرح الإشكالية أكثر مما يسعى إلى الإجابة عنها.
2- العلاقة بين عضد الدولة البويهي وابن الباقلاني

2-1- نص سياسي ثقافي

"قال أبو عبد الله الأزدي وغيره: كان الملك عَضُد الدولة فناخسرو بن بويه الديلمي يحب العلم والعلماء. وكان مجلسه يحتوي منهم على عدد عظيم في كل فن، وأكثرهم الفقهاء والمتكلمون. وكان يعقد لهم للمناظرة مجالس، وكان قاضي قضاته بشر بن الحسن معتزلياً ؛ فقال له عضد الدولة يوماً: هذا مجلس عامر بالعلماء إلا أني لا أرى فيه واحداً من أهل الإثبات – يعني مذهبهم – والحديث، فقال له قاضيه: إنما هم عامة، أصحاب تقليد ورواية، يروون الخبر وضده، ويعتقدونهما جميعاً، ولا أعرف منهم أحداً يقوم بهذا الأمر، وإنما أراد ذم القوم، ثم أقبل يمدح المعتزلة. فقال لـه عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الأرض من ناصر! فانظر إلى موضع فيه مناظر يكتب فيه في***. فلما عزم عليه، قال القاضي: أخبروني أن بالبصرة شيخاً وشاباً، الشيخ يُعرَف بأبي الحسن الباهلي، وفي رواية بأبي بكر بن مجاهد، والشاب يعرف بابن الباقلاني، فكتب الملك من حضرته يومئذ بشيراز إلى عامل البصرة، ليبعثهما إليه، وأطلق مالاً لنفقتهما من طيب ماله، فلما وصل الكتاب إليهما قال الشيخ وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة فسقة، لأن الدَّيلم كانوا روافض، لا يحل لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله لنهضت. قال القاضي فقلت لهم: كذا قال ابن كلاب والمحاسبي ومَن في عصرهم: إن المأمون فاسق، لا نحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل، وجرى عليه بعد مما عُرف، ولو ناظروه لكفّوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ماهم عليه بالحجة. وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم، حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا بخلق القرآن ونفي الرؤية! وها أنا خارج إن لم تخرج. فقال الشيخ: أما إذا شرح الله صدرك لهذا فاخرج. فخرجت مع الرسول نحو شيراز في البحر، فوصلت، فسألت عن صفة الدخول عليه فأخبرت أنه إذا كان يوم الجمعة لم يُحجَب عنه كل صاحب طيلسان؛ لأن له فيه مناظرة، وفي رواية: فلما كان من الغد، ودخلتُ على الملك، وكان إذا صلى الظهر، وقعد العلماء، رُفِع الحجابُ، ودخل كل صاحب طيلسان، فدخلت، والناس قد اجتمعوا، والملك قاعد على سريره وبين يديه غلمان بأيديهم السيوف المحلاة، وعن يمينه ويساره مراتب، وما عن يمينه خال، لا يقعد هناك إلا وزير أو ملك عظيم، فكرهت أن أقعد آخر الناس، فمضيت، وقعدت عن يمينه بحذاء قاضي القضاة القاعد عن يساره، فنظر الملك لقاضي القضاة نظراً منكراً، ولم يكن في المجلس من يعرفني إلا واحد، وقد فزعوا لفعلي؛ فقال الرجل للقاضي: هذا الرجل الذي طلبه الملك من البصرة، فأعلم الملك بذلك، والتفت إلي، وأومأ بعينه إلى الحجاب فطاروا عني، ثم أقبل فقال: هاتوا مسألة، وفي المجلس رئيس المعتزلة البغداديين الأحدب، وكان أفصح من عندهم وأعلمهم، وعدد كثير من معتزلة البصرة أقدمهم أبو إسحاق النصيبيني، فقال الأحدب لبعض تلاميذه: سله هل لله أن يكلف الخلق ما لا يطيقون؟ وكان غرضه تقبيح صورتنا عند الملك. قال: قلت: إن أردتم بالتكليف القول المجرد فقد وجد ذلك فإن الله تعالى قال: "قل كونوا حجارة أو حديداً"؛ ونحن لا نقدر أن نكون كذلك، وقال تعالى: "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم"، فطالبهم بما لا يعلمون. وقال تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون". فهذا كله أمر بما لا يقدر الخلق عليه. وإن أردتم بالتكليف الذي نعرفه، وهو ما يصح فعله وتركه. فالكلام متناقض وسؤالك فاسد، فلا تستحق جواباً؛ لأنك قلت: "تكليف" والتكليف اقتضاء فعل ما فيه مشقة على المُكلَّف؛ وما لا يطاق لا يفعل لا بمشقة ولا بغير مشقة، فسكت السائل.
وأخذ الكلامَ الأحدبُ، فقال: أيها الرجل سُئِلتَ عن كلام مفهوم فطرحتَه في الاحتمالات، وليس ذلك بجواب، وجوابُه إذا سُئِلْتَ أن تقول: نعم أو لا.
قال القاضي: فأحفظني كلامه لما لم يوقرني توقير الشيوخ، وقلت له: يا هذا أنت نائم ورجلاك في الماء؛ إنما طرحتَ السؤال في الاحتمالات، وقد بينتُ لك الوجوه المحتملة؛ فإن كان معك في المسألة كلام فهاته، وإلا تكلم في غيرها. فأعاد الكلام الأول، فقال الملك: أيها الشيخ قد بيّن الاحتمال، وليس لك أن تعيد عليه، ولا أن تغالطه، ولا جمعتكم إلا لفائدة، لا للمهاترة ولما لا يليق بالعلماء.
ثم التفت الملك إلى القاضي وقال له: تكلم على المسألة. فقال القاضي: ما لا يطاق على ضربين: أحدهما لا يطاق للاشتغال عنه بضده كما يقال فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة، وهذا سبيل الكافر أنه لا يطيق الإيمان لاشتغاله بالكفر، وهو ضده؛ وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان جائزاً، وقد أثنى الله تعالى على من سأله ألا يكلفه ما لا يطيق؛ فقال عز وجل: "ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، لأن الله تعالى له أن يفعل ما يريد. ثم تجاوز الأحدب الكلام إلى غيره وتكلم معه القاضي ومال الملك إلى قوله.
ثم التفت الملك فقال: سلوا أبا إسحاق النصيبيني عن مسألة الرؤية، فأنكر رؤية الله تعالى في الآخرة وسئل ما حُجَّته فقال: "كل شيء يرى بالعين فيجب أن يكون في مقابلة عين الرائي"، فالتفت الملك إلى القاضي أبي بكر فقال القاضي أبو بكر: لا يُرى بالعين، فعجب الملك من قوله، وقال قاضي القضاة: فإذا لم يُر بالعين فبماذا يرى؟ فقال القاضي: يُرى بالإدراك الذي يحدثه الله تعالى في العين وهو البصر. ولو كان يرى المرئي بالعين لكان يجب أن يرى بكل عين قائمة، وقد علمنا أن الأجهر عينه قائمة، ولا يرى بها شيئاً. فقال النصيبيني: لم أعلم أنه يقول هذا، وظننت أنه يسلم بقولي.
وجرى له في هذا المجلس كلام كثير أعجب به الملك، ولم يزل يحلو له كلامه ويزحف عن سريره حتى نزل عنه وحصل بين يديه، ثم أقبل الملك على قاضي القضاة فقال له: ألم اقل لك مذهب طبق الأرض لا بد له من ناصر؟ فقال القاضي: فلما انقضى المجلس صحبني بعض الحجاب إلى منزل هيئ لي فيه جميع ما يحتاج إليه، فسكنته.
ولم يزل مع الملك إلى أن قدم بغداد، ودفع إليه الملك ابنه يعلمه مذهب أهل السنة، وألف لـه التمهيد. وأخذ عنه إذ ذاك أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي، وجماعة من أهل السنة بشيراز، وقرأوا عليه شرح الُّلمَع.
قال: وقال الملك لقاضيه: فكرت بأي قِتلة أقتله لجلوسه حيث جلس بغير أمري، وأما الآن فقد علمت أنه أحق بمكاني مني.
وحكى القاضي أبو الوليد الباجي عن أبي ذر الهروي قال: أول معرفتي بالقاضي أبي بكر وأخذي عنه أني كنت ماشياً مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني في بعض أزقة بغداد، إذ لقي شاباً فسلم عليه، واحتفل به، ورأيت من تعظيم الشيخ أبي الحسن له وإقباله عليه ودعائه له ونحو هذا ما عجبت منه، فقلت له: من هذا؟ فقال لي: هذا أبو بكر بن الطيب الذي نصر الله به أهل السنة، وقمع به أهل البدعة أو كما قال"([19]).
2-2- دراسة النص

إذا سلمنا بصحة الروايات التي نقلت إلينا هذا النص، فإننا نعتقد أن عضد الدولة ما كان يهمه من جمع العلماء في مجلسه للمناظرة إلا الجانب السياسي في الأمر. فقد حدث ما ذكره القاضي عياض في شيراز قبل قدوم عضد الدولة إلى بغداد ليصبح السلطان في العراق وبلاد فارس. فهو واحد من أولئك السلاطين الأتراك والبويهين والسلاجقه الذين سيطروا على الخلافة عملياً، ولم يكونوا من أصل عربي، أو من آل بيت رسول الله r. ولذلك فقد كانوا بحاجة إلى دعم ممثلي النظام الكوني في المجتمع لمد نفوذهم السياسي. ومن المشروع أن نتوقع أن يكون طموح الملك الشاب للملك كبيراً، يتجاوز حدود نفوذه في بلاد فارس، ليمتد بشكل رئيسي إلى العراق مركز الخلافة آنذاك. ذلك أن سيطرته على بغداد تعطيه الشرعية السياسية التي كان يمنحها الخليفة نفسه عندما كان يمنح من يستولي على بغداد لقب سلطان. وقد كان هؤلاء السلاطين في مقابل ذلك، يعدون بالحفاظ على حياة الخليفة، وبترك يده مطلقة في أملاكه، وإن كانوا في أغلب الأحيان لا يفون بوعودهم تلك، تحت ضغط مصالحهم السياسية أو المادية. وقد كان عضد الدولة ذا دهاء سياسي وذكاء عسكري. وكان يعتقد، في رأينا ، أن خطته في الوصول إلى بغداد ستصبح سهلة التنفيذ إذا استطاع الحصول على دعم ممثلي النظام الكوني في العراق، ولاسيما من أهل السنة، نظراً لأنه، بحكم مذهبه الشيعي، كان يضمن سلفاً تأييد السلطة الثقافية عند الشيعة الذين كانوا مع أهل السنة يشكلون غالبية المسلمين في العراق آنذاك. وقد وجد وسيلة ذكية لإقامة الاتصال مع ممثلي النظام الكوني من أهل السنة تمهيداً لتغير اعتقادهم السيئ به، وهو ما عبر عنه الباهلي. ويدعم هذا التفسير ما حصل في المناظرة وبعدها. فقد كان عضد الدولة يتدخل في مجرى المناظرة بين الباقلاني والمعتزلة، ليعنف هؤلاء على أسلوبهم في المناظرة. وهي وسيلة لإظهار ميله إلى الباقلاني، على الرغم من أن ما تورده الروايات من المناظرات قصير، وهو ما يجعلها لا تظهر تفوقاً حقيقياً للباقلاني على خصومه.
وعلى الرغم من الروايات التي نقلت النص إلينا، والتي كان أصحابها من أهل السنة دائماً، فإن مما يثير الاستغراب هو ذلك التحول السريع، الذي طرأ على موقف عضد الدولة، وهو تحول لا يمكن تفسيره إلا بأنه كان قد بيت في نفسه هذا التحول. وقد جاءت الأحداث فيما بعد لتؤكد ذلك. فقد غفر عضد الدولة للباقلاني دخوله الجريء على مجلسه وجلوسه على يمينه، وتجاوز ذلك العفو إلى الإعجاب به، والأمر بإكرامه ورعايته بشكل مبالغ فيه. ويميل عضد الدولة، في النهاية، عن موقفه المؤيد للمعتزلة والشيعة ليظهر تأييده مذهب أهل السنة، عندما يطلب من الباقلاني أن يعلم ابنه أصول هذا المذهب بحسب رواية القاضي عياض.
وقد تلقى ممثلو النظام الكوني من أهل السنة هذا التحول تلقياً حسناً، ووجدوا فيه نصراً لمذهبهم، وقد حرص عضد الدولة على الحفاظ على دعم هؤلاء له عندما اصطحب الباقلاني عندما دخل بغداد، وخلع عليه الخليفة لقب السلطان.
ويمكننا أن نرى في النص السابق نموذجاً فكرياً تاريخياً للعلاقة بين السلطة السياسية وممثلي النظام الكوني أو السلطة الثقافية، وهو نموذج مستمر في الحاضر ولكن بأشكال وصور مختلفة.
ويعد النص دليلاً على انفصال الدين عن الدولة في الحضارة العربية الإسلامية عند أهل السنة. إلا أنه على الرغم من ذلك فقد كان مفهوم الدولة آنذاك يرتكز على مفهوم الخلافة وهو مفهوم ديني ينتمي إلى النظام الكوني في تلك الحضارة. وهذا ما جعل السلطة السياسية بحاجة دائمة إلى ممثلي النظام الكوني ولتعطي وجودها شرعية ضرورية لاستمرارها، وإن كان هذا الاستمرار يقوم أساساً على الغلبة بالقوة.
وفي النص دليل آخر على الأصل التاريخي للاعتقاد السائد في لاوعي المجتمع العربي المعاصر بلا شرعية السلطة السياسية على اختلاف أشكالها ، لأن المرجع الذي يحتكم إليه هذا اللاوعي اليوم في هذه المسألة هو التاريخ وبخاصة تاريخ الخلافة الراشدة.


¡r¡



([1])نجا أشهر مماليك سيف الدولة الذي كان مقرباً منه لم يتورع في مرض سيف الدولة سنة 352 عن مصادرة أهل حران، ومراسلة معز الدولة البويهي يواليه على بني حمدان. انظر الشكعة، د. مصطفى، سيف الدولة الحمداني، دار القلم ، 1959، ص/164.

([2])حماش، د. نجدة، سياسة سيف الدولة الحمداني الإدارية والمالية، مجلة عاديات حلب،
1998، ص / 159.


([3]) الفارابي، كتاب تحصيل السعادة، تح/ د. جعفر آل ياسين، بيروت، ط2، 1983، ص/ 81 .

([4]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تح/ إبراهيم جزّيني، بيروت، دون تاريخ، ص / 84.

([5])المصدر السابق، ص / 85.

([6])المصدر السابق، ص/ 185.

([7]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص / 95.

([8]) المصدر السابق، ص/ 96.

([9])المصدر السابق، ص/ 96.

([10])المصدر السابق، ص/ 96.

([11])الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص / 98 ـ 99.

([12])انظر على سبيل المثال تعريف القلب عند الجرجاني في كتابه التعريفات.

([13]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص / 101 - 102.

([14]) المصدر السابق، ص/ 103.

([15])***ER. MAX. Le Savant et le politique. Plon, Paris, 1986. p. 24.

([16]) ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، تح/ د. سهيل زكار، دمشق، 1988،
(1 / 134).


([17]) الشكعة، د. مصطفى، سيف الدولة الحمداني، دار القلم، 1959، ص/ 166.

([18]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص/ 105.

1)القاضي، عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك إلى معرفة أعلام مذهب الإمام مالك، تح / أحمد محمود، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1967، ( 2 / 591 ).

Eng.Jordan 02-07-2012 02:58 PM

القسم الثاني

مفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي

مشروع إعادة تقييم الهوية العربية








مفهوم الإنسان

في الفكر العربي الإسلامي




"إيه.. الكمالُ كُنْهُ الكائن".. يردد ابن سبعين هذا الكلام في أكثر من موضع في رسائله. وهي عبارة تلخص الفكر العربي الإسلامي في الوجود بأجمعه ولاسيما الإنسان، فكل ما في الوجود كائنٌ، وكل كائنٍ الكمالُ كنههُ، وأكمل مافي الكون الإنسان. والموجودات، عدا الإنسان، كاملة، لأنها قبل أن تكون كانت في العلم الإلهي، فكمالها إنما كان من كونها، قبل أن تكون، في العلم الإلهي، قبل أن تتلقى الأمر "كن" فتكون. والإنسان مركز الكون، وهو أكرم الموجودات وأتمُّها وأكملُها، لأنه زاد على كل ما عداه في النشأة العنصرية الأولى بالنفخة الإلهية
ولكل موجود كمالهُ الخاصُّ به بحسب نسبته من الوجود.فالمخلوقات ما عدا الإنسان لها كمالها الخاصُ بها، المتناسب مع وظيفتها في الكون، وهي تسعى إليه بقدرة داخلية تُدفَع بها إلى كمالها، يمكن تسميتها بالعشق، فالشجر في وجوده يسعى إلى كماله في نموه، فيمد جذوره في التراب، ويرتقي بأغصانه في الفضاء، فهو يعشق الماء من جهة لأن كماله فيه، ويعشق النور والهواء لأن كماله من جهة ثانية فيهما..
والإنسان، أرقى الموجودات وأكملها، له كمالان: كمال العَرَض/ الجسد، وكمال الجَوْهَر/ النفس. ويلتقي كماله الأول مع كمالات الحيوان من جهة النشأة العنصرية، أما كماله الثاني فهو خاص به يميزه من باقي الكائنات، أتاه من جهة النفخة الإلهية..
ويسعى الإنسان باتجاه الكمال، فهو كنهه، وإليه يرقى بالعشق الذي وضعه الله فيه، ولكن كماله صعب لأن فيه ازدواج العَرَض والجَوْهَر والتزامهما معاً في آن واحد. ومن هنا فقد ابتعد الإنسان عن جوهره، ولم يهتم إلا بكمال عَرَضِه من حيث المأكل والمنكح
إن مفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي مسألة معقدة وواسعة، وتحتاج إلى أدوات معرفية خاصة بذلك الفكر يمكن من خلالها بحث المسألة. ولذلك فإن هذه الدراسة تسعى إلى وضع أطر عامة للبحث تحدد من خلالها مكان دراسة ذلك المفهوم، وكيفية التعامل معها، محاولة صياغة مفهوم أولي يطرح إشكالية ويرد على إشكالية، ساعيةً في الوقت نفسه إلى فتح الحوار في إشكالية واقع العرب والمسلمين اليوم، سواء أكان هذا على مستوى الفرد أم على مستوى الجماعة.
1 ـ الإشكالية

اعتقدت دائماً أن دراسة لا تطرح إشكالية تسعى إلى إيجاد حل لها ليست بدراسة جديرة بالاهتمام. فكل الدراسات الإنسانية عندما تنطلق من الإنسان وتهتم بالشروط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يفرضها عليه واقعه فإنما تريد معالجة قضية من القضايا التي تهمه، أو مسألة تمس حياته، أو عقبة تقف أمام تقدمه أو أزمة يعانيها. وكل دراسة تخرج عن تلك الأطر فهي عمل عبثي وعقيم مادام لا يقدم للمجتمع عامة ولصاحبه خاصة فائدة إنسانية معرفية واجتماعية، تساعده في تحسين واقعه وتجاوز أزماته واكتشاف نقاط ضعفه، ومصادر قوته، فيعي وجوده ويعيد صياغة مستقبله.
إن العودة إلى التراث لاستنباط مفهوم الإنسان فيه سوف يكون نوعاً من العبث والترف الفكري إن لم تكن تلك العودة مقصودة لغيرها وليس لذاتها. إن من يريد دراسة التراث لمجرد الدراسة أو التعظيم أو التقديس، فإنه سيعيش في الماضي ولن يتمكن إطلاقاً من عيش الواقع أو تصور المستقبل. ذلك هو المنظور الذي تنطلق منه هذه الدراسة، فهي تريد من العودة إلى الماضي الحاضرَ المستقبلَ، ساعيةً إلى اكتشاف مصادر القوة لدى الإنسان العربي المعاصر، داعيةً إيّاه إلى الارتكاز عليها في تخلصه من أزمته التي يعيشها على كل الأصعدة.
لا خلاف في أن الأمتين العربية والإسلامية تعيشان أزمة حضارية تتجسد في ما تعانيانه من تخلف ثقافي ومادي وسياسي. فهما في أغلب الأحوال تابعتان للغرب، تدوران في فلك ثقافته وتقنيته وسياسته. ولاشك في أنه من المستحيل استعراض ذلك كله في دراسة كهذه، كما أنه من المستحيل أيضاً النظر في كل الأسباب التي أدت إلى ذلك الوضع. على أن أهم هذه الأسباب، في اعتقادي، ولعله السبب المحور الذي تدور حوله وتنطلق منه كل الأسباب الأخرى، هو هُويَّة الفرد. إن من لا يعرف من هو لا يعرف ماذا يريد في هذا العالم، وتسهل السيطرة عليه وتوجيهه فلا إرادة له، إذ إن الإرادة ترتبط بالوعي، فلا إرادة لمن لا يعي من هو. ولما كان الوعي يرتبط بالمعرفة فقد اقتضى أن السبب الأساسي في أزمة العربي المعاصر إنما هو معرفي. وإذا كانت المعرفة تعني مجموع الخبرات التي اكتسبها الفرد في حياته فإن ذلك يعني أيضاً أن المعرفة ترتبط بالتاريخ الشخصي للفرد، وبالتاريخ العام المشترك للأمة، إذا كان البحث يدور في مستوى الجماعة. ولما كان الفرد جزءاً من الجماعة، والأمة إنما تتشكل في مجموعها من عدد الأفراد، فقد اقتضى أن يكون تاريخ الفرد جزءاً من تاريخ الأمة، كما اقتضى أن تكون المعرفة الفردية المرتبطة بتاريخ الفرد جزءاً من الثقافة الجماعية المرتبطة بتاريخ الأمة. من هنا فإننا نستنتج أن البحث في طبيعة المعرفة، أسّ الوعي الفردي، إنما يقود بالضرورة إلى البحث في طبيعة الثقافة العامة أسّ الوعي الجماعي لدى الأمة.
ومعرفة الفرد اليوم تتطلب بالضرورة معرفة الأمة التي يستمد هُوَيّته من حضارتها، وأي إغفال لتلك الحقيقة سوف يقود بالضرورة أيضاً إلى تشييء الفرد وإفقاده شعوره بالذات وهو الشرط الأساسي في الإبداع الإنساني في كل مجالات الحياة. والعودة إلى التراث للبحث في مفهوم الإنسان هي بحث في المعرفة التاريخية للأمة التي ينتمي إليها هذا الإنسان هدفه الدعوة إلى مشروع نهضوي جديد، يبعث هذه الأمة على مشارف القرن الواحد والعشرين الذي يسجل مرور قرن ونيف على ما سمي بالنهضة العربية.
المجتمع ابن تاريخه، كما أن الفرد ابن ذاكرته. ويبدو لنا هذا الطرح واضحاً إذا ما سألنا السؤال التالي: كيف تتكون المواقف عند الفرد؟ والجواب هو أن الإنسان لا يمكنه أن يتخذ موقفاً ما في كل مجالات حياته إلا من خلال مالديه من تراكم في الخبرات والمعارف التي اكتسبها من مختلف السبل من ولادته إلى اللحظة التي هو فيها.
فالإنسان يعيش بين أزمنة ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. والماضي لا وجود له إلا في الذاكرة الإنسانية لأنه زمن انقضى، ولم يبق منه إلا الذكرى والمشاعر والخبرات التي اكتسبها الإنسان فيه، والمستقبل كذلك لا وجود له لأنه كائن في التصور الإنساني ولم يوجد بعد، وقد لا يوجد على الإطلاق بالنسبة إلى الفرد، وكل ما يستطيع الإنسان عمله فيما يتعلق بالمستقبل هو تصوره والتخطيط له في ضوء تجربته ومعارفه الماضية. أما الحاضر فهو ليس إلا ذلك الجزء الصغير من الثانية المعيشة التي ينتقل فيها المستقبل ليصبح ماضياً، إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش اللحظة فعلاً إلا بعد أن تكون قد انقضت لتخلف فيه آثارَها، أو تولِّد فيه مشاعر خاصة وأحاسيس معينة، تدفعه لاتخاذ موقف بحسب الظروف المحيطة به. وعلى ذلك فإن الحاضر أيضاً غير موجود إنسانياً إلا من خلال عيش الإنسان له وإحساسه به. ولكن الإنسان لا يكتسب الخبرة من عيشه اللحظة الحاضرة وإنما منها وهي مشروطة بمجموع الخبرات المتراكمة لديه. فالفرد يولد في مجتمع ما، ويبدأ بذلك أول وجوداته الثلاثة: الوجود المادي "الفيزيولوجي"، والوجود الثقافي الاجتماعي، والوجود العقلاني، فالوجود الأول وجود لم يختره على الإطلاق، ولا دخل له فيه فهو طويل أو قصير، أسود أو أبيض، أشقر الشعر أو أسوده، قوي البنية أو ضعيفها. وهو من ولادته أيضاً يبدأ وجوده الثاني، الثقافي الاجتماعي، بالتكوّن، فهو يكتسب شيئاً فشيئاً العادات والتقاليد والقيم والأعراف وأنواع السلوك ومفاهيم العيب والحلال والحرام والأخلاق، كما يكتسب ثقافة محددة من خلال اللغة التي يتعلمها، وكل ذلك يختلف من بيئة إلى أخرى في المجتمع الواحد بحسب مستوى الحياة الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.
وهذه الثقافة الاجتماعية هي امتداد تاريخي لثقافة الأمة ببعديها: الثقافة العالمة، والثقافة غير العالمة. وعندما يتلقى الإنسان هذين النوعين من الثقافة تلقياً اجتماعياً لا مُفكَّراً فيه فإنه يتقبله كما هو في أغلب الأحيان، وقد يرفض منه ما قد يختلف مع رغباته الفردية، ولكن هذا كله يبقى في إطار الوجود الثاني: الثقافي الاجتماعي. وكل ذلك طبعاً، كما في الوجود الأول "المادي" لا دخل للإنسان فيه، إذ إنه لم يختر البيئة التي وُلِدَ فيها، ولم يختر الأسرة أو الحي ولا البلد الذي يعيش فيه، أو المدرسة التي درس فيها، ولا الأمة التي ينتمي إليها، ولا الحضارة التي اكتسب هُوِيَّته فيها. فهو إذن غير موجود على الحقيقة من خلال وجوديه: المادي والثقافي الاجتماعي، إذ إن وجوده هذا لا دخل له فيه، وهو ليس حراً في تغييره، وطريقته في التفكير وفي اتخاذ المواقف الحياتية ليست إلا ردود فعل مسبقة الصنع ومبرمجة من طبيعة هذين الوجودين، فالفارق بين الإنسان وباقي المخلوقات، ولاسيما الحيوان، أنه ذو عقل به مازه الله من الحيوان. وعندما يعيش بوجوديه: المادي والثقافي الاجتماعي، فإنه لا يرقى كثيراً إلى مستوى الحيوان لأن هذين الوجودين مشتركان بينهما، وإذن فقد تبيّن أن وجود الإنسان الحق إنما هو بالعقل، وعلى هذا فإن الوجود الحق للإنسان لا يبدأ إلا عندما يبدأ العقل لديه بالعمل الحر في نقد وجوديه الآخرين، فيبقي ما يراه سليماً، ويسعى إلى تجاوز أو تصحيح ما يراه ليس كذلك.
إلا أن هذا الوجود الثالث العقلاني إنما هو جدلي أيضاً، فقد تبيّن لنا أن العقل لدى الإنسان إنما ينمو معه، وهذا يعني أنه في الحقيقة مشروط بالوجودين: المادي والثقافي والاجتماعي، وهذا يعني أن الإنسان لن يستطيع أن يوجد وجوداً عقلانياً مجرداً أو موضوعياً إلا بقدر ما يتمكن من عزل عقله وطريقة تفكيره عن تأثير وجوديه السابقين اللذين لا دخل له فيهما، وهو في هذه الحالة معرّض للزلل، فالعقل الإنساني أداة تفكير في معطيات الواقع التي يتصل بها من خلال الحواس الإنسانية. ومعلوم أن هذه الحواس قاصرة ، كما أن الواقع نفسه متبدل متغير بحسب عوامل الزمان ودورة الأرض حول ذاتها وحول الشمس، مما يعني أن الحواس قد تخطئ، وهذا يترتب عليه نقل معلومات خاطئة للعقل الذي يقوم بتبنيها ناسباً إيَّاها إلى الصحة، وهذا ما يوقعه في اللبس والحيرة والتردد. ولما كان الأمر على هذه الحال فقد كان لابد للإنسان في تحقيقه لوجوده من طريق العقل من مرجعية ثابتة وقياس يحتكم إليه في تصويب نتاج العقل لديه، ونعتقد أن هذه المرجعية هي بالنسبة إلى الإنسان العربي المسلم العقيدة الإسلامية: القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.
إن الإنسان، في اتخاذ المواقف اليومية، عبد للوجودين: المادي والثقافي الاجتماعي، وتحرره من هذه العبودية إنما هو بالعقل المرتكز على مرجعية ثابتة. وهو عندما يتخذ المواقف في عيشه اللحظة الحاضرة فإنما يتخذها من خلال ذاكرته الفردية التي هي بالنسبة إلى الأمة التاريخ بثقافتيه العالمة وغير العالمة. والعودة إلى ذاكرة الفرد هي بالضرورة عودة إلى تاريخ الأمة التي ينتمي إليها. وإذا كان الإنسان العربي اليوم يعاني من شرخ في ذاته وانفصام في هُوِيّته فذلك إنما يعود إلى ابتعاده عن ذاكرته من خلال سعي المنظومات الثقافية والسياسية والاقتصادية التي فُرِضِت عليه من بداية هذا القرن إلى خلخلة ذاكرته الثقافية العالمة وغير العالمة، وجعله بلا هُوِّية، تمهيداً للسيطرة عليه وإخضاعه لهيمنة جهات داخلية أو خارجية تشعر بأن وجوده الحقيقي، يشكل مصدر خطر على مصالحها. وهو في بحثه عن هُوِيّته لابد له من العودة إلى التراث ذاكرة الأمة التي ينتمي إليها، فيرى فيها كيف كان مفهوم الإنسان الذي أبدع تلك الحضارة التي قلَّما عرف التاريخ الإنساني مثلها، ويتخذ من هذا المفهوم مرجعاً له ومقياساً يحتكم إليه في إعادة صياغة هُوِيّته التي شُوّهت وتعرضت للكثير من التحريف، وهو ما أدى به إلى الجمود عبر قرون عديدة انتهت في القرن الماضي والحالي بمحاولات لإلغاء هذه الهوية وإحلال غيرها مكانها، مما يُسهل لتلك الجهات أهدافها.
2 ـ مصادر البحث

طبيعة البحث هي التي تحدد مصادره. وعنوان البحث "مفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي"، يجعلنا نرى أن المصادر التي سيكون بحثنا فيها على نوعين: ففي اعتقادنا أن الفكر العربي ـ الإسلامي هو نتيجة مصدرين: الأول هو العقيدة الإسلامية، ونعني بذلك القرآن الكريم والسنة النبوية، والثاني هو نِتَاج العقل الإنساني العربي المسلم من خلال علاقته بالعقيدة الإسلامية في الزمان والمكان. ولمّا كان الإنسان في الأراضي التي فتحها العرب المسلمون بعد خروجهم من شبه الجزيرة العربية متعدد الأعراق والديانات واللغات والثقافات والقيم والأعراف بتعدد الأمكنة واختلاف الأزمنة، فقد كان الفكر الذي أنتجه هذا الإنسان بعد دخوله في الإسلام واسعاً ومتنوعاً ومتعدد الأصول. إلاّ أن هذا الفكر كان يعاد صهره في بوتقة العقيدة الإسلامية، ليخرج في قالب اللغة العربية فكراً جديداً هو إبداع الحضارة العربية الإسلامية. فالعقيدة الإسلامية فكر غيبي إلهي لا دخل للإنسان في صياغته، فهو وحي من الله عز وجل، أما الفكر العربي الإسلامي فهو نتاج العقل الإنساني في تعامله مع الواقع في إطار العقيدة الإسلامية.
سيكون بحثنا أولاً في إطار العقيدة الإسلامية: القرآن والسنة، وهو بحث سيقتصر على استنباط مفهوم الإنسان من عدد من الآيات الكريمة، وبعض من الأحاديث الصحيحة. وسيكون ثانياً في مجال الفكر العربي الإسلامي وبخاصة عند المتصوفة والفلاسفة. وقد وقع اختيارنا من هؤلاء على ثلاثة هم: أبو حيان التوحيدي، وابن سينا، وابن عربي. ونعتقد أنه اختيار يجمع أطراف الفكر العربي الإسلامي، فالتوحيدي الأديب الفيلسوف، وابن سينا أشهر الفلاسفة المسلمين، وابن عربي أبرز أعلام التصوف العرفاني. وهم جميعاً، على الرغم من اختلاف الزمان والمكان اللذين عاشوا فيهما، ينهلون من مصدر واحد، ويعبرون عن روح واحدة فيما يتعلق بالإنسان.
ثمة مشكلة تعترض الباحث في هذا المجال هي قضية المصطلحات، ففي القرآن والسنة ترد مصطلحات قد لا تتفق مع دلالاتها في الفكر العربي الإسلامي، فهو في هذا الفكر نِتاج بشري دخلت فيه مفاهيم الناس الفلسفية أو الصوفية. وعلى أي حال فإن المجال هنا لا يتسع لطرح هذه المشكلة واقتراح حلول لها. ولذلك فإننا سنعمد إلى توحيد المصطلحات المستخدمة في كل من الإطارين بشكل مستقل.
3 ـ تمهيد

تتأسس الحضارات وتنهض على ثلاثة مفاهيم مشتركة فيما بينها، لابد منها في كل حضارة من الحضارات الإنسانية: الإله والكون والإنسان. وتستمد كل حضارة هُوِيَّتَها الذاتية وسماتَها الخاصة التي تميزها من غيرها من الحضارات، من تغليب أحد هذه المفاهيم على الباقي منها. فالحضارة التي تُغلِّب مفهومَ الإله هي حضارة دينية، يسود فيها الفكر الغيبي، والتي تُغلِّب مفهوم الكون هي حضارة مادية، يسود فيها الفكر الطبيعي، أما التي تُغلِّب مفهوم الإنسان، فهي حضارة بشرية يسود فيها الفكر الإنساني. إلا أنه من الضروري التنبيه على أن الحضارات لا توجد في الواقع بحسب هذا التقسيم الحاد، وإنما نرى من خلال مراقبة الحضارات الإنسانية أن هذه المفاهيم يختلط بعضها ببعض بنسب متفاوتة، إلا أن الغلبة النسبية دائماً هي للمفهوم السائد الذي يسم الحضارة بسمته.
وعندما تُغلِّب حضارةٌ ما أحدَ هذه المفاهيم فإنها ترى المفهومين الباقيين من خلال المفهوم الغالب، فمفهوم الإله عندما يسود في حضارة من الحضارات فإن الكون والإنسان يُفَسران في تلك الحضارة من خلال الفكر الديني الغيبي، وعندما يسود مفهوم الإنسان فإن الحضارة تفسر مفهومي الإله والكون من خلال الفكر البشري.
ويمكننا أن نذكر أمثلة من التاريخ البشري على هذه المفاهيم.
فالحضارة الإغريقية على سبيل المثال كانت تغلّب مفهوم الإنسان، فهي بذلك ترى مفهومي الإله والكون من خلال ذلك المفهوم، فقد أَنْسَنَ الفكرُ الإغريقي الآلهةَ والطبيعةَ، فجعل الآلهة على شكل الإنسان خَلْقَاً وخُلُقاً، كما أنه عزا للطبيعة قوى الإنسان وطبيعته، وسعى لاسترضائها. والحضارة الأوروبية اليوم تُغلِّب مفهوم الكون، وترى مفهوم الإله والإنسان من خلال القوانين الطبيعية السائدة في الكون، وتعد الإنسان نِتاج هذه القوانين، وهو خاضع لها، أما الإله فلم يكن إلا نِتاجاً فرضته الطبيعة على الإنسان عندما هيمنت عليه بقواها فخلقَ الإله ليلجأ إليه من غضبها. أما الحضارة العربية الإسلامية فهي تُغلِّب مفهوم الله، وترى من خلاله الإنسان والكون، وما هذان المفهومان إلا نتيجة للتصور الديني عنهما، فهما من مخلوقات الله، خُلِقا ليعبدا الله، وليكونا مجلى له، وقيمة وجودهما مستمدة من الوجود الإلهي.
إن أي محاولة لفهم حضارة ما من خلال دراسة نتاجها الثقافي والعلمي لا تعتمد على إدراك هذه المفاهيم وطبيعة العلاقة بينها، وغلبة أحدها على الآخَريْن في تلك الحضارة، سوف تكون قاصرة، وستؤدي بالضرورة إلى نتائج خاطئة. وسوف نرى فيما يأتي أن مفهوم الإنسان في الحضارة العربية الإسلامية تابع ونتيجة منطقية لمفهوم الله، فهو يرتبط معه بعلاقة وجودية. ولعل هذه الحقيقة هي ما يجب أن يرسخ في أذهان الباحثين في تراث الأمة العربية والإسلامية اليوم سواء أكان هؤلاء الباحثين من أبنائها أم غرباء عليها، وذلك إذا ما أراد هؤلاء فعلاً الإنصافَ في نتائجهم والموضوعيةَ في أحكامهم.
4-العرض

4-1-العقيدة الإسلامية

إن وظيفة الموجود في الوجود تحدد طبيعةَ تكوينه وهيئةَ وجوده. تلك هي الفلسفة الغائية التي نعتقد بصحتها المنطقية وجدواها الإنسانية. وهي فلسفة معيارية تحتكم إلى ثوابت في معالجة المتغيرات، وليست فلسفة وضعية عبثية تنطلق من توصيف ما هو كائن لإقراره في تغيره الدائم الذي لا أساس يعتمد عليه في هذا التغيير، ولا منطق إلا منطق الأهواء المادية والنزعات الفردية المرتبطة بنظام السوق.
إن كل موجود له وظيفة في وجوده، ولا وجود عبثي في الكون بحسب القرآن الكريم، فالله عز وجل يقول: "وما خلقنا السمواتِ والأرضَ وما بينَهما لاعبين"(([1]))، ويحث الرسول عليه الصلاة والسلام الإنسان على اغتنام خمس قبل خمس حرصاً منه على الوقت والصحة والشباب، فلا يضيعها الإنسان في ما لا فائدة فيه.
ولما كان قد تقرر أن كل موجود إنما وجد ليؤدي وظيفته، فقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يخلق كل موجود على صورة تناسب وظيفته، وتمكنه من القيام بها، وإن لم يكن ذلك فهذا يعني بهتاناً وظلماً بحق الموجود أن يُطالَب بما لا يقدر عليه، ولم يُخلَق له.
والإنسان واحد الموجودات، وُجد لوظيفة محددة، وخُلق على صورة تمكنه من أداء هذه الوظيفة. ولا شك في أن وظيفته تلك تحدد طبيعته ومفهومه.
ويحدد الله تعالى وظيفة الإنسان الأولى في الأرض في قوله عزّ وجل: "وما خلقتُ الجِنَّ والإنسَ إلا ليعبدون"([2])، وفي قوله تعالى: "إني جاعلٌ في الأرض خليفة"([3])، فالعبادة وتحقيق معنى الاستخلاف في الأرض هما وظيفة الإنسان التي خُلِق من أجلها، وقد صِيْغَ الوجود بأكمله لينسجم مع الإنسان في وظيفته هذه، وليساعده في تحقيقها.
وعلاقة العبادة بالاستخلاف علاقة وثيقة وجدلية، بمعنى أنّ الإنسانَ عبد لله على الحقيقة بقدر تحقيقه معنى الاستخلاف على الحقيقة، كما أن تحقيق هذا المعنى مرتبط بمدى عبودية الإنسان لله عز وجل.
والعبودية تعني الإخلاص لله ونفي السِّوَى، فلا طاعة إلا لله، ولا عبودية إلا له، وهذا يعني تحرر الإنسان من عبودية ما عدا الله من متاع الدنيا، كالمال والجاه والسلطة والتفاخر بالأولاد والعصبية، إلى ما هنالك من عوارض تستعبد الإنسان، فيخضع لها، ويصوغ حياته كلها من خلال تحكمها فيه، فينسى وجوده الأول ووظيفته في هذا الوجود، فيضل عن الطريق، ولا يصبح إنساناً على الحقيقة. وبقدر ما هو عبد لله فهو خليفته، لأنه بقدر تحرره من عوارض الدنيا يعود إنساناً إلهياً، فيه تظهر النفخة الأولى والعلم الإلهي، فيصبح خليفة الله على الحقيقة، يرى بنور الله، ويسمع به، ويمشي فيه، ويبطش به، فعلمه من علم الله وإرادته من إرادته جلّ وعلا.
والعبودية بهذا المعنى هي عين الحرية، أما الحرية بالمفهوم السائد بين الناس اليوم من أن الإنسان يستجيب لأهوائه ونزواته فهي عين العبودية التي تتنافى مع قول "لا إله إلاّ الله"، فلا معبود إلا هو، ولا سلطة إلا له، ولا مآل إلا إليه، ولا قوة إلا به، ولا علم إلا منه سبحانه وتعالى.
ما تقدم يقتضي أن نطرح سؤالاً جوهرياً هو: لماذا العبودية ولم الاستخلاف؟ إن هذا السؤال المنطقي يقودنا إلى أصل الخلق وعلاقة الخَلْق بالحَقِّ، فالعبادة أو العبودية ليست لذاتها وإنما لغيرها، فالله عزَّ وجل مُنَزَّه عن الحاجة إلى عبادة الناس له. وإنما العبادة تهدف إلى مساعدة الإنسان في تحقيق جوهره الأول الذي خلق به وإعادته إلى صورته الأولى التي صدر عنها، وبذلك يتحقق وجوده على الحقيقة.
وقد حدد الله عزَّ وجل هذه الصورة وذلك الجوهر عندما قال تعالى في الكتاب الكريم "وإذْ قال ربك للملائكة إني خالقٌ بشراً من طين، فإذا سوّيتُه ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين"([4])، وقال أيضاً سبحانه: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرضِ خليفة، قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفك الدماءَ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم مالا تعلمون، وعلّم آدمَ الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيبَ السمواتِ والأرضِ وأعلم ما تُبدون وما كنتم تَكتمون. وإذْ قلنا للملائكةِ اسجدوا لآدمَ فسجدوا إلا إبليسَ أبى واستكبرَ وكانَ من الكافِرين"([5]).
تتكلم الآية الأولى على أصل النشأة، عندما كان الإنسان في العلم الإلهي قبل أن يُخلق، فالذات الأولى واجبةُ الوجود تخبر الملائكةَ بإرادتها الأولى في خلق الإنسان، فهو غير كائن بعد، ولذلك فقد جاءت الإرادة بقوله تعالى: "إني خالقٌ"، بمعنى أنني سأخلق أو أن إرادتي رأت ذلك، وأن هذا الخلق سيكون على مرحلتين: الأولى هي المرحلة الطينية، فالله سيخلق الإنسان من الطين أولاً، ثم يلي ذلك مرحلة ثانية هي التسوية والنفخ فيه من روح الله. لقد مرّ الإنسان، في خلقه، بمراحل ثلاث، هي هاتان المرحلتان اللتان تسبقهما مرحلة أخرى أولى سابقة عليهما هي عندما كان الإنسان في العلم الإلهي، أو، إن صحّ لنا قول ذلك، في التصور الإلهي. وهو بذلك يمتاز من باقي مخلوقات الله التي كانت كالإنسان في العلم الإلهي قبل أن تتلقى الأمر الإلهي "كُنْ" فتكون: "إنما أمرُه إذا أرادَ شيئاً أنْ يقولَ له كُنْ فيكون"([6])، و"إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقولَ له كُنْ فيكون"([7])، فهي لم تخلق بإرادة خاصة بها وإنما تلقت الأمر الإلهي، وكان فيها، بعلم الله، قدرة على تنفيذ الأمر فكانت، فهي جميلة لكونها كانت، قبل أن تكون، في العلم الإلهي. على حين أن الإنسان خُلِق بإرادة خاصة أخبرَ اللهُ ملائكته بها، وهو مخلوق من الطين بيديّ الله عزّ وجل: "قال يا إبليسُ ما منعكَ أن تسجدَ لما خلقتُ بيديّ"([8])، وهذا ما مازه من باقي المخلوقات أولاً، ثم جاء التمييز الثاني الذي جعله خليفة لله، وسخّر له ما في السموات والأرض: "ألم تروا أنّ الله سخَّرَ لكم ما في السموات وما في الأرض"([9])، ليمكنه من تحقيق معنى الاستخلاف.
لقد كان الإنسان قبل أن يكون في العلم الإلهي، ثم شاءت الإرادة الإلهية خلقه، فصورته على صورتها من الماء والتراب، وصنعته بيديها، فنال تكريمه الأول على باقي المخلوقات من جهة إرادة الخلق ومن جهة خلقه باليدين. ثم جاءت المرحلة الثالثة فسويِّ فيها، ونُفخ فيه من روح الله، فكان أكرم مخلوق على الإطلاق، أُمِرَت الملائكة، التي لا تسجد لغير الله، بالسجود له، وهي لم تؤمر بهذا السجود إلا بعد النفخة الإلهية، بدليل قوله تعالى: "فإذا سوّيتُه ونفختُ فيه من روحي فقعّوا له ساجدين"، مما يعني أنّ سجود الملائكة للإنسان ليس سجوداً لعَرَض الإنسان المكوَّن من الطين والماء، وإنما هو لما جاء بعد ذلك من النفخة الإلهية، فسجودها ليس إلا للنفخة الإلهية الكائنة في الإنسان بالإرادة الإلهية. وهو سجود أزلي قبل أن يكون الإنسان، فهي تسجد لله منذ أن وجدت، وسجودها للنفخة الإلهية في الإنسان ليس إلا استمراراً لسجودها للذات الأولى واجبة الوجود.
في الآيات الأخرى تقرير مرحلة أخرى تلت مرحلة خلق الإنسان بمستوياتها المختلفة. فالكلام فيها يدور على إرادة الله عز وجل بإخبار الملائكة بمكانة الإنسان بعد أن خلق. فهو خليفة لله عز وجل في الأرض. ويعلِّمُ اللهُ الإنسانَ الأسماءَ كلها، فيصبح بذلك عالماً بالقوة، يرتبط علمه بعلم الله عز وجل عالم الغيب في السموات والأرض.
فخلافة الإنسان في الأرض مرتبطة جدلياً بالعلم الذي عَلَّمه اللهُ إياه، بدليل اقتران الكلام على الخلافة بتعليم الإنسان الأسماء بعد تعجب الملائكة من جعله خليفة، فكان الجواب من الله عز وجل بتعليم الأسماء.
إلى جانب تلك الآيات الكريمة التي تقرر مراحلَ خلق الإنسان الطيني والنفخِ فيه وجعلِه عالماً بالقوة ليكون خليفة، لدينا مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تردف تلك الآيات، وتفسرها، وتُبيّن مقاصدها. فقد ورد في الأثر أن الله عز وجل يقول مخاطباً الإنسان: "يا ابن آدم خلقتك من أجلي فلا تلعب، وخلقتها من أجلك فلا تتعب، فبحقي عليك لا تنشغل بما خلقته لك عما خلقتك له"، وجاء في الحديث القدسي قوله عز وجل: "...وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإن سألَني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه"([10])، وحديث ثان يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته"([11])، وحديث ثالث يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال"([12]). إن مجموع هذه الأحاديث يصوّر الإنسان في أصل وظيفته التي خلق من أجلها، فهو مخلوق من الله وإليه، والدنيا مخلوقة من أجل الإنسان، وما عليه أن يتعب من أجلها، كما عليه ألا يُضيِّع حياته باللعب بعيداً عن الهدف الذي خلق من أجله، منشغلاً بما خلق من أجله، عما خلق هو له. والإنسان مخلوق على الصورة الإلهية وفيه من روح الله، ولذلك فهو خليفته. وقد خلقه الله جميلاً لأنه جميل يحب الجمال، فما يصدر عنه إلا جميل.
خُلِق الإنسان جميلاً، يستمد جماله من جمال خالقه، وهو خليفته في الأرض من جهة النفخة الإلهية، والملائكة سجدت له سجودها لله عز وجل. وهو عالم بالقوَّة، فيه من المعرفة ما يؤهله لتحقيق جوهره بالفعل، وجعله الله قادراً على العودة إليه، وسخّر له كل ما في الكون ليكون خليفته على الحقيقة، فهو إنسان كامل يستمد كماله من الكمال الأول.
ولكن الإنسان عندما هبط الأرض بدأ شيئاً فشيئاً يبتعد عن كماله، ليستغرق في نقصه الذي أتاه من جهة التراب. فساد الطين الثقيل، وحجبَ النورَ الخفيف، وابتعد الإنسان عن النفخة الإلهية فيه، ونسيها، ولم يذكر سوى طينيته، فأصبح عبداً لها. فالإنسان إلهيٌّ من جهة النفخة، طينيٌّ من جهة النشأة العنصرية، كاملٌ من جهة النفخة، ناقصٌ من جهة الطين. ومن هنا كان إنساناً كاملاً خليفةَ الله في الأرض، سجدت له الملائكة، فأصبح بابتعاده عن كماله الإلهي ضعيفاً، وظلوماً، وكفاراً، وعجولاً، وجاحداً لا يشكر النعمة، ومجادلاً، وهلوعاً، وناكراً للجميل، بحسب آيات متفرقة من القرآن الكريم.
ولكن الله عز وجل لم يتخل عن الإنسان، فأرسل إليه الأنبياء والرسل المزودين بالمعجزات والكتب السماوية حرصاً منه على عودته إليه، وتذكيراً له بجوهره وبوظيفته التي خلق من أجلها. فالله عز وجل يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: "فَذّكِّر إنما أنت مذكر"([13])، ويقول أيضاً مبشراً عباده بالمغفرة والتوبة: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمةِ الله إِنَّ الله يغفرُ الذنوبَ جميعاً"([14])، والأحاديث التي تتكلم على محبة الله لعباده وحنانه عليهم ورحمته بهم وغفرانه لهم كثيرة. وقد زُوِّد الإنسان بما يُمكّنه من معرفة الحق والصواب، فوُهب العقل إلى جانب الشريعة، يدلانه على طريق الحقيقة إن نسيَها، أو ابتعدَ عنها: زوده الله بالشريعة تحدد له الطريقَ، حتى إذا لم يسعفه عقله ضَمِنَت لـه الوصولَ إلى الخلق الأولِ وتحقيق الوظيفة الأولى، وزانه بالعقل يضفي به على الشريعة جوهراً، ويتجاوزها بالاتصال بالواحد الأحد عن طريق امتلاك المعرفة التي تساعده على تحقيق جوهره وإخراجه من حيِّز الوجود بالقوة إلى حيِّز الوجود بالفعل، ولذلك كانت الآياتُ والأحاديثُ الدَّالة على فضل العلم والتعلم كثيرة: "إنما يخشى الله من عباده العلماءُ"([15])، ويقول عليه السلام: "فضلُ العالمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم"([16])، ويقول: "مجلسُ علم ينتفعُ به خيرٌ من عبادةِ سبعين عاماً".
ذلك هو مفهوم الإنسان الكامل خليفةِ الله في الأرض ابتعدَ عن كماله لاستغراقه بالعَرَض، ولكن جوهرَه وكمالَه فيه بالقوة، وما عليه إلا أن يعود إليه بفضل ما زوده الله به من قدرات فيصبح إنساناً إلهياً، يحقق وظيفته الأولى التي خلق من أجلها، فالعبادة وسيلة إلى تلك الوظيفة التي هي خلافة الله في الأرض والعودة إلى الجوهر الأول لتحقيق السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، يقول الله عز وجل:
"وابتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبَكَ من الدنيا وأحسنْ كما أحسنَ اللهُ إليك"([17]).
4-2- الفكر العربي الإسلامي

يتفق ممثلو الفكر العربي الإسلامي على ثنائية الوجود الإنساني في وحدته: العَرَض والجوهر، وإن كانوا قد اختلفوا في تحديد المقصود بالجوهر أهو الروح أم النفس أم العقل أم القلب. وهذا الخلاف هو نتيجة لاختلاف آخر في طبيعة هذه المفاهيم وعلاقتها بالله عز وجل من حيث الصفات، وعلاقتها بالوجود من حيث القِدَم والحدوث، وهي مسألة الكلام عليها صعب في هذا المجال، فقد تكلّم الفلاسفة على النفس وأنواعها النباتية والحيوانية والناطقة والإنسانية والقدسية، كما تكلّم الفقهاء على النفس وأنواعها الأمارة واللوامة والمطمئنة([18])، وتكلّم المتصوفةُ على القلب، وتحرّجوا جميعاً في حديثهم من الكلام على الروح التي كانت ترتبط في أذهانهم بالمعرفة الإلهية التي ذكرها الله عز وجل في قوله: "ويسألونك عن الرّوحِ قُلْ الروحُ من أمرِ ربّي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"([19])، فكيف يسوغون لأنفسهم الكلام في أمر أمسك عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم! وهو معدنُ العلم وينبوعُ الحكمة. وقد كان الاختلاف بين من تكلم في ماهية الروح بارزاً كل البروز، يقول الغزالي في كتاب شرح عجائب القلب من إحياء علوم الدين متحدثاً عن النفس والروح والقلب والعقل: "ويقل في فحول العلماء من يحيط بهذه الأسامي واختلاف معانيها وحدودها ومسمياتها، وأكثر الأغاليط منشؤها الجهل بمعنى هذه الأسامي واشتراكها بين مسميات مختلفة"([20]).
إن هذا الاتساع في فهم تلك الأسماء والاختلاف في تعريفها يجعلنا نشير إلى أهمية التنبيه على مدى تقصير الدراسات العربية المعاصرة في هذا المجال الحيوي من التراث العربي الإسلامي، والذي يتصل بمحور هذا التراث: الإنسان الذي أبدع هذا التراث، وعلى ضرورة قيام أبحاث واسعة ودراسات معمقة في هذا المحور العام الذي مازلنا إلى اليوم، ونحن في القرن الواحد والعشرين، نبني وجودنا الثقافي في معظمه على مفهوم للإنسان أخذناه عن الغرب من خلال ما أخذنا عنهم من نظريات فلسفية أو مدارس فنية وأدبية.
ولما كان الأمر على هذه الصورة من الاتساع والتعدد، ونظراً لعدم توفر دراسات معاصرة حول مفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي، فقد رأينا أن نعرض الخطوط الرئيسية في هذا المفهوم مما وجدناه عند ثلاثة من أبرز ممثلي هذا الفكر. الأول هو أديب فيلسوف يمثل ثقافة عصره، ويجمعها في كتبه وهو أبو حيان التوحيدي (-414 هـ)، والثاني واحد من أشهر فلاسفة العرب المسلمين هو الشيخ الرئيس ابن سينا (-428 هـ)، أما الثالث فهو أعظم متصوف، وأهم ممثل للفكر الإسلامي في روحه وهو الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي (-638 هـ).
وسنحاول في هذه الدراسة إظهار العلاقة بين مواقف هؤلاء الثلاثة واتصال مواقفهم مجتمعة بمفهوم الإنسان في العقيدة الإسلامية، وهو ما ذهبنا إليه في بداية هذه الدراسة بقولنا إن الفكر العربي الإسلامي كان يدور في إطار العقيدة الإسلامية، ويتمحور عليها على الرغم من تأثره بثقافات الأمم الأخرى وعلومها، ولا سيما الفلسفة الإغريقية.
4-2-1-أبو حيان التوحيدي (-414 هـ)

إذا كان الفكر الإغريقي قد ألّه الإنسانَ وأنسن الآلهة، فإن الفكر العربي الإسلامي قد وضع الإنسان في مركز وسط بين الكون والله، فهو بالنسبة إلى باقي الكائنات "لبُّ العالم، وهو في الأوسطِ لانتسابه إلى ما علا عليه بالمماثلة، وإلى ما سَفُل عنه بالمشاكَلَةِ، ففيه الطرفان، أعني فيه شرفُ الأجرامِ الناطقة بالمعرفة والاستبصار والبحثِ والاعتبارِ، وفيه صفةُ الأجسامِ الحيَّة الجاهلة، التي ليس لها ترشّح بشيء من الخير، ولا فيها انقياد له"([21]). فالإنسان مهيأ بالتركيب لقبول الخير والشر. وخيرُه إنما يأتي من انتسابه إلى ما علا عليه، وشرُّه يصدر عما سفل عنه. ففيه بالقوة شرف السمو والرقي يستمده من مماثلته للأجرام الناطقة والعقول المقابلة لها بما فيها من معرفة مطلقة كامنة بالقوة واستبصارٍ بالحوادث لأنها فوق الزمان والمكان، فمعرفتها متصلة بالعقل الأول وبما فيها أيضاً من البحث عن كمالها الأول الذي صدرت عنه، كما أن فيه جهلاً مستمداً من مشاكلته للأجسام المادية الحية التي لا تعرف معنى الخير، ولا تنقاد له، لأن الخير من سمات الأجرام الناطقة وليس من صفات الأجسام الحية الجاهلة.
خلقَ اللهُ الإنسانَ من طين، ثم نفخَ فيه من روحه، فهو بحسب التوحيدي شخصٌ بالطينة، ذاتٌ بالروح([22])، والخلق الطيني يصدر أولاً عن العناصر الأربعة التي هي في أساس كل الموجودات: الماء والتراب والهواء والنار، فقد تشكل من هذه العناصر/ الأسطقسات، الجماد فالنبات فالحيوان فالإنسان. وكل من هذه الموجودات مشكّل من تداخل تلك العناصر بنسب مختلفة، وكلها تجتمع في الإنسان، فيستمد بذلك منها صفتها المنسوبة إلى الجهل، فالجسد الإنساني مركب من هذه العناصر الأربعة كباقي الموجودات، إلا أنه أرقاها من حيث الوجود الترابي([23]). فعن تلك الاسطقسات تكوَّنَ العَرَضُ أو الصورة الإنسانية، على حين أن الجوهرَ، أو الذات، مكَوَّنٌ من روح الله منبجسة في الإنسان بتوسط العقل([24])، فقد تلقى الطينُ النفخةَ الإلهية، فانبجست فيه بتوسط العقل الأول الذي خلقه الله أولَ ما خلق الكونَ، فالإنسان إنسانٌ بالنفس العاقلةِ الجوهرِ المنبجسِ في الطين بتوسطِ العقلِ، ولم يكنْ إنساناً بالروح القوِّة المحركةِ للجسد، ولو كان كذلك لما كان بينه وبين الحمار فرق([25]).
والإنسان في جوهره وعرضه متصل بالكون، فهو العالمُ الأصغرُ، والكون هو العالم الأكبر، فهو صورةُ العالمِ وروحُه، ظهر فيه من جهة الطين جسدُ العالم، ومن جهة النفس روحُ العالم وعقلُه. فنفسه هي إحدى الأنفس الجزئية من النفس الكلية لا هي بعينها ولا منفصلة عنها، كما أن جسده جزء من العالم لا هو كله ولا منفصل عنه([26])، فهو في وجوده العَرَضي الطيني يتصلُ بالكون ذي الوجود الممكنِ، فهو مثله ممكنٌ من هذه الجهة من الوجود، كما أنه في وجوده الجوهري الإلهي متصلٌ بالله واجبِ الوجودِ، فهو بذلك ممكنُ الوجود من جهة جسدِهِ، واجبُه من جهةِ جَوْهَرِه، وإنما حاز على هذه الرتبة من جهة النفخة الإلهية التي مازته من باقي الموجودات بالنفس العاقلةِ الجوهر الخالد الباقي، على حين أن الجسد حافظُ شكل الإنسان وحاملُ الجوهر([27]).
وعلاقة العرض بالجوهر بحسب التوحيدي هي علاقة متفاوتة تختلف من إنسان إلى آخر بحسب قدرة الأخلاط الناتجة عن التناسب القائم بين الأسطقسات في تكوين الجسد حامل الجوهر، فهو من هذه الجهة حجاب أمام الجوهر، بحسب هذه النسبة يمنعه من تلقي الفيض الإلهي بتوسط العقل الأول. وعلى هذا فإن جسد الإنسان عائق، في الغالب، أمام تحقيق وجوده الجوهري ونقله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. وهو موزع بذلك بين طبيعته، وهي عليه، ونفسه، وهي له، "فإن استمد من العقل نوره وشعاعه قوي ما هو له من النفس، وضعف ما هو عليه من الطبيعة، وإلا فقد قوي ما هو عليه من الطبيعة وضعف ما هو له من النفس"([28]). وقد كان على الإنسان إذا ما أراد النجاة أن يُغلّب النفس الناطقة فيه، فتسوس النفس الغضبية والنفس الشهوية فيه، فإذا ساستهما "حذفت زوائدهما، ونفت فواضلهما.. فحينئذ يقومان على الصراط المستقيم"([29])، ذلك أن بالنفس الناطقة كان الإنسان إنساناً، إذ من أخلاقها إذا صفت البحثُ عن الإنسان ثم عن العالم، لأنه إذا عرف الإنسانُ نفسَه فقد عرف العالم الصغير، وإذا عرف العالم فقد عرف الإنسان الكبير، "وإذا عرف العالَمَين عرف الإله الذي بجوده وُجِد ما وجد، وبقدرته ثبت ما ثبت، وبحكمته ترتب ما ترتب"([30]).
والمعرفة بحسب التوحيدي هي سبيل الإنسان في نقل وجود جوهره من القوة إلى الفعل بمساعدة العقل. فالإنسان عارف بالقوة، إلا أن حجب الجسد والطبيعة تغلب عليه، فينسى معرفته تلك، وأدواته في اكتشاف تلك المعرفة هي العقل الذي يقوده إلى معرفة الكون، ومن ثم إلى معرفة النفس التي تقود الإنسان إلى معرفة الله. وذلك انطلاقاً من القول المأثور "اعرف نفسك، فمن عرف نفسه عرف ربه"، إلا أن مجال المعارف واسع متشعب، قد يضيع فيه الإنسان، ولا بد من تحديد المعرفة الضرورية من خلال تحديد وظيفتها، فالمعرفة التي لا تدل على الصانع، ولا تقود صاحبها إلى الواحد، ولا تدعوه إلى عبادته والاعتراف بوحدانيته هي معرفة لا فائدة منها، يستعيذ التوحيدي منها([31])) ويوجه لوماً عنيفاً إلى من امتلك عقلاً فسخره في غير الوصول إلى المعرفة الحقة، وانحرف به عن بلوغ المعرفة إلى استخدامه في بلوغ الشهوات واللذائذ الآنية المنقطعة التي يبقى عارها، ويدوم وزرها([32]).
إن طبيعة الإنسان عند التوحيدي تبين العلاقة الوثيقة بين الإنسان والله فالعلاقة هذه ليست علاقة وجودية فقط بمعنى أن وجود الإنسان مرتهن بالوجود الإلهي من حيث الصدور والعودة فقط بل هي أيضاً علاقة مستمرة لا تنقطع، فقد راعى الله وضع الإنسان ولم ينسه على الرغم من ابتعاده عن جوهره الأول. وحباً من الله بالإنسان وحرصاً منه عليه فقد أرسل إليه الرسل والأنبياء، وأنزل عليه الكتب السماوية، يذكره بما يجب أن يكون، وكيف يمكن أن يحقق معنى استخلافه في الأرض. ووهب الله الإنسان قدرات ذاتية تمكنه من العودة إليه، وحثه على استخدامها، وهي متمثلة بالعقل مناط التكليف فلا يضل الإنسان أبداً، يقول التوحيدي مخاطباً الإنسان: "واعلم أن الله خلقك، ورزقك، وكمَّلك، وميزك، وفضلك، وأضاء قلبك بالمعرفة، وفجر فيك ينبوع العقل، ونفى عنك العجز، وعرض عليك العز، وبين لك الفوز، بعد أن وعدك وأوعدك، وبعد أن وعظك وأيقظك، وبعد ما حط عنك ما أعجزك عنه، وأمرك بدون ما أقدرك عليه، وإنما حاشك بهذا كله إلى حظك ونجاتك، وعرضك به لسعادتك وخلاصك"([33]).
4-2-2-ابن سينا (-428هـ)

يمثل الشكل التوضيحي في الصفحة التالية ترتيب الكائنات الصاعد النازل في الفكر العربي الإسلامي فهو يوضح بالرسم تصور العرب المسلمين لوجود الكون بما فيه من كائنات أرضية أو سماوية مادية أو روحانية. وهو شكل يجسد ما ذهب إليه الفلاسفة العرب المسلمون خاصة، وشاركهم فيه المتصوفة بشكل أو بآخر، وقد رأينا أن أبا حيان التوحيدي يعرض مفهوم الإنسان من خلال تصور مماثل، ويمكننا التأكيد على أن أفضل شرح لهذا الشكل وجدناه عند ابن سينا في كتابه الإشارات والتنبيهات. وهو شرح جاء في إطار كلامه على الوجود عامة تمهيداً لتحديد مكانة الإنسان فيه.

[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/user/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image002.jpg[/IMG]
ترتيب الكائنات الصاعد والنازل في الفكر العربي الإسلامي(*)

فهو مع باقي المفكرين والمتصوفة يرى انطلاقاً من العقيدة الإسلامية أن الإنسان مركز الكون الذي خلقه الله من أجله وجعله سيده وسخره له. والإنسان هو العالم الأصغر يقابله الكون وهو العالم الأكبر. والأكبر موجود بأجمعه في الأصغر من خلال التمثيل فالكون بُنِي على صورة الإنسان، كما أن الإنسان خُلِق على صورة الله عز وجل. والكل إنما فاض عن الذات الإلهية حيث كان في العلم الإلهي ممكن الوجود ينتظر صدور الأمر ليكون. فكل حادثٍ كان قبل وجوده ممكن الوجود، فكان إمكان وجوده حاصلاً بالأمر الإلهي المتجسد بأمره "كن"([34]).
فالموجود الممكن، كما يضيف ابن سينا، لا يصير موجوداً بذاته ووجوده وعدمه سواء حتى يجعله شيء ما موجوداً أو معدوماً([35])، فالوجود عند ابن سينا، كما عند باقي الفلاسفة العرب المسلمين، على أنواع ثلاثة وجود واجب، ووجود ممكن، ووجود ممتنع أو مستحيل. وواجب الوجود هو ما وجوده واجب بذاته لا يستمد وجوده من خارجه والوجود الممكن لا يوجد بذاته ووجوده مستمد من غيره، أما الوجود المستحيل فهو ما لا يمكن تصور وجوده. وواجب الوجود الحق القيوم واجب الوجود في ذاته، على حين أن ممكن الوجود هو باقي العالم فهو إنما وجد بفضل واجب الوجود إذ إن وجوده ليس مستمداً من ذاته، وإنما من غيره، فهو قبل أن يوجد كان وجوده ممكناً، أي بالقوة، ولم يتحول إلى الوجود بالفعل من ذاته وإنما بفضل عامل خارجي عليه جعله كذلك هو الأمر الإلهي بالخلق([36]). ويضيف ابن سينا إن واجب الوجود واحد على حين أن ممكن الوجود متعدد بالكثرة، واحد من حيث النشأة.
إن موقف الفلاسفة المسلمين من صورة الوجود متأثرة بما وجدوه في الثقافات التي تعاملت مع الثقافة العربية الإسلامية في ذلك العصر. وهي ثقافة عالمة كانت مزيجاً من العقيدة الإسلامية والإنسان المبدع في ظروف معينة سياسية وثقافية اجتماعية واقتصادية اطلع فيها على جوانب من الثقافات الهندية والفارسية والإغريقية بشكل خاص. وهي ثقافات وصلت العرب المسلمين مجزأة بحسب ما وصل منها عبر الترجمات التي كانت في أغلب الأحوال سيئة. حتى إن ابن سينا يصرح أنه قرأ كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو أربعين مرة ولم يفهمه حتى قرأ شرح الفارابي عليه([37]). ولعل هذا ما يؤكد أن أولئك الفلاسفة والمتصوفة العرب المسلمين الذين تأثروا ببعض ما نقل من تلك الثقافات لم يفهموها، أو لم يستوعبوها، إلا من خلال ثقافتهم العالمة وغير العالمة التي رُبوا فيها قبل اطلاعهم على ما اطلعوا عليه، فالثقافة الاجتماعية التي ينشأ فيها الإنسان تشكل برنامجاً خاصاً يحمله الفرد في داخله يحكم تصرفاته وسلوكه اليومي، كما يحكم مواقفه الفكرية واستجاباته لما يعرض عليه من ثقافات عالمة أو غير عالمة تنتمي إلى حضارات أخرى. ولا شك في أن تلك القاعدة "الانثروبولوجية" الثقافية تنطبق على ابن سينا كما تنطبق على غيره من مثقفي عصره. ولذلك فإننا نجزم بأن هؤلاء لم يفهموا ما اطلعوا عليه من ثقافات غريبة على الثقافة الإسلامية إلا من خلال هذه الثقافة. وهذا ما يجعل من نتاجهم الفلسفي والصوفي والكلامي والفقهي والأدبي الجمالي نتاجاً خاصاً بالحضارة العربية الإسلامية، صبغته بصبغتها الأساسية التي يحكمها وجود إله متعال ليس كمثله شيء.
يرى ابن سينا، من خلال الشكل التوضيحي أن الواحد الأحد واجب الوجود في ذاته الحق القيوم صدر عنه بالإرادة العالم ذو الوجود الممكن، فهو وجود حادث في مقابل القديم الحي القيوم كان قبل وجوده ممكن الوجود حتى أصبح موجوداً بالفعل بفضل الإرادة الإلهية. لقد ابتدأ الوجود الممكن، من الأشرف فالأشرف حتى انتهى إلى الهيولى، ثم عاد من الأخس فالأخس إلى الأشرف فالأشرف([38]). فقد انتقل الوجود في مراحل من واجب الوجود إلى كرة السماء الأولى فالكواكب فالقمر، فهو انتقال من مرتبة الأجسام النوعية البسيطة من الفلك الأعلى إلى الأرض ليصل بعدها مرتبة الصور الأولى الحادثة بعد التركيب: الصورة والمادة اللتين تتدخلان في تناسب العناصر الأربعة فيما بينها، ليتولد عنها مرتبة ثالثة هي مرتبة النفوس النباتية فالحيوانية، وبعدها مرتبة العقل المستفاد المشتمل على صور جميع الموجودات لاتصاله بالعقل الأول من طريق العقول الأخرى وصولاً إلى الذات الإلهية واجبة الوجود. وبذلك تكتمل الدورة الوجودية التي بدأت من هذه الذات وعادت إليها في مراحل متعددة بدأت من الأشرف فالأشرف ثم عادت من الأخس فالأخس إلى الأشرف فالأشرف([39]). فالمبدأ الأول مؤثر في جميع الموجودات على الإطلاق، وإحاطة علمه بها سبب وجودها، فالواجب يؤثر في العقول، والعقول تؤثر في النفوس، والنفوس تؤثر في الأجرام السماوية التي تقابلها العقول، ثم الأجرام السماوية تؤثر في العالم الذي تحت فلك القمر، والعقل المختص بفلك القمر يفيض بالنور، والإنسان يهتدي بهذا النور في ظلمات طلب المعقولات، وهكذا يتشابه العالم الكبير بالعالم الصغير ولولا ذلك التماثل لما عُرِف الباري سبحانه وتعالى([40]).
ومكان الإنسان في هذا الترتيب الوجودي هو ماعبر عنه التوحيدي عندما رأى أن الإنسان في الوسط لانتسابه إلى ما علا عليه بالمماثلة وإلى ما سفل عنه بالمشاكلة. فالإنسان هو في نهاية الأخس وفي بداية الأشرف، ينتمي إلى الأخس من جهة العناصر الأربعة التي تشكل وجوده الطيني، وهو وجود متأثر بالكواكب من جهة تأثيرها في الصورة والمادة المكونة للعناصر الأربعة، على الرغم من أنه في قمة هذا الوجود، وينتمي إلى الأشرف من جهة نفسه المتصلة بالنفوس الإنسانية المتصلة بالعقل المستفاد سمواً إلى العقول الباقية وانتهاء بالواحد الأحد واجب الوجود الذي يستمد منه، من طريق الصدور والفيض، سموه ورفعته، ويطلب العودة إليه من خلال العشق والمحبة، كما يستمد من عالم الكون والفساد والكثرة كل ما يشده إلى أصله الترابي المتجسد في القوى الحيوانية والنباتية التي لها كمالها الذي تسعى إليه، كما أن للنفوس الإنسانية كمالها الخاص بها، فالإنسان مشدود إلى كمال عرضه من جهة الجسد وفي ذلك فناؤه، ومدفوع إلى كمال جوهره الإلهي من جهة العقل وفي ذلك بقاؤه الأزلي. فالنفس الناطقة عند الإنسان مجردة عن المادة مرتبطة بوجودها الأولي، وهي خالدة بعد الموت والجسد ليس إلا آلة لها، وموته لا يضرها، وهي متصلة بالعقل الفعال، فهي تعقل ذاتها بذاتها لا بآلتها، وكمالاتها ذاتية باقية فلا يعرض لها كلال أو فتور وإن عرض ذلك للجسد([41]).
والنفوس الإنسانية على الفطرة وتطلب الكمال دائماً، فهو فيها كامن بالمناسبة، وهي عاشقة مشتاقة معاً، تعشق الكمال الأول الذي صدر كمالها عنه، وكمالها هذا يذكرها بالكمال الأول، وهي مدعوة بالفطرة إلى كمالها والبحث عنه لأن بقاءها فيه([42]). ولا تختلف النفوس الإنسانية في ذلك عن باقي الموجودات، فلكل موجود كمال خاص به بحسب مرتبته من الوجود، وعشق إرادي أو طبيعي لذلك الكمال([43]). والكمال في النفوس هو تصورها الكمال الذاتي الخاص بها من جهة المبدأ الأول الفائضة آثاره على المستعدين من خلقه لتلقي هذا الفيض بحسب قدرتهم على استخدام العقل والرقي فيه ليصبح قادراً على تلقي ذلك الفيض. وذلك إنما يكون من خلال الرياضات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فتنصرف عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي. وأفضل تلك الرياضات في رأي ابن سينا إنما هي العبادة التي تجعل البدن بكليته تابعاً للنفس، فإن كانت النفس متوجهة "إلى جناب الحق بالفكر صار الإنسان بكليته مقبلاً على الحق، وإلا صارت العبادة سبباً للشقاوة كما قال عز وجل "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون"([44]).
وتقود الرياضات الإنسان إلى اطلاع نور الحق عليه، ثم يتوغل في ذلك "فيصبح الاتصال بالقدس ملكة، ويحصل عندها في غير حالة الارتياض الذي كان يعد لحصوله من قبل، فيكاد يرى الحق في كل شيء"([45])، ثم يتعود الإنسان على ذلك فيصبح الأمر مألوفاً لديه ثم إنه ليغيب عن نفسه فيلحظ جناب القدس فقط، وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة، لا من حيث هي، وعندها يتحقق الحديث القدسي".. ما تقرب إلي عبدي.." ويصبح الحق حينئذ بصر الإنسان وسمعه وقدرته وعلمه وجوده، ويصير متخلقاً بأخلاق الله تعالى على الحقيقة، فالارتقاء في تلك الدرجات سلوك إلى الله ينتهي بالفناء في التوحيد([46]).
والإنسان في صعوده نحو الأعلى، إنما يسلك طريق العشق، إلا أنه لا يتمكن من التوحد بالذات الإلهية، والفناء فيها، إلا بفضل من الله تعالى، فالإنسان ما يزال يتقرب إلى الله حتى يحبه، فالمحبة الإلهية بداية كشف الحجب عن الإنسان، فيصبح كما وصفنا.
ويضع ابن سينا رسالة خاصة بالعشق، يتكلم فيها على طبيعة العشق، ومراتبه وكيفية تحققه، فكل موجود لا يخلو من كمال خاص به، وهو غير مكتف بذاته لأن كمالات الموجودات مستفاضة عن الكامل بالذات، ولا بد من عشق هذا الكمال سعياً إلى الوصول إليه، والعشق منبث من الكامل بالذات في الموجودات لتكون نازعة إلى الكمال مستحقة له، وهو انبثاث غير مفارق البتة([47]). والله عز وجل الموجود المقدس عن الوقوع تحت التدبير هو الغاية في المعشوقية، وهو غاية الهويات كلها التي لا تخلو عن العشق إذ به تعود إلى حيث صدرت.
والخير المطلق والمعشوق الغاية يتجلى لعاشقه، إلا أن قبول العاشق لتجليه واتصاله به على التفاوت. وغاية القربى من الخير المطلق هو قبول الإنسان لتجليه على الحقيقة وعلى أكمل ما في الإمكان "وهو المعنى الذي يسميه الصوفية بالاتحاد"([48]).
لقد خلق الله تعالى الحيوان من بعد النبات والمعادن والأركان، ومن بعد الأفلاك والكواكب والنفوس المجردة والعقول الكاملة بذاتها، ولما فرغ من الإبداع والخلق "أراد أن ينتهي الخلق على أكمل نوع كما ابتدأ على أكمل جنس، فميز من بين المخلوقات الإنسان ليكون الابتداء بالعقل والختم بالعاقل، وبدأ بأشرف الجواهر وهو العقل، وختم على أشرف الموجودات وهو العاقل، ففائدة الخلق هو الإنسان لا غير. وإذا عرفت هذا فاعلم أن الإنسان هو العالم الأصغر، فكما أن الموجودات ترتب في عالمه فالإنسان يرتب في شرفه وفعله"([49]) ولكن الإنسان متصل بالكون من جهة العناصر الأربعة ويشترك مع النبات والحيوان في صفات تليق بعرضه، ومن هنا كان الإنسان مركباً من أشياء متفاوتة وأمزجة مختلفة. فقد اجتمع فيه الحيواني المتمثل بقوتي الغضب والشهوة لموافقة الملائم ومخالفة ما ليس كذلك، إلى جانب النفس الإنسانية الناطقة. فالإنسان بهذه الأشياء من جملة العالم، وبكل قواه يشارك صنفاً من الموجودات؛" بالحيواني يشارك الحيوانات وبالطبعي يشارك النبات، وبالإنساني يوافق الملائكة، ولكل واحدة من هذه القوى أمر خاص وفعل لازم، فمتى غلب واحد على الآخر يجرُّ الإنسان بذلك الواحد الغالب، ويتصل بسببه، بحسب إدراكه، إلى جنسه. ولكل فعل أمر خاص وثواب خاص وفائدة خاصة، ففعل الطبعي هو الأكل والشرب وإصلاح أعضاء البدن وتنقية البدن من الفضول فحسب، فليس له في أمر غيره منازعة ولا مخاصمة، وفائدة فعله هو النظام في البدن والاستواء في الأعضاء والقوة في الجسم، فإن دسومة اللحم وقوة الجسم وضخم الأعضاء نظام البدن، ويتحصل بالأكل والشرب، وثوابه لا يتوقع في العالم ********، ولا ينتظر في القيامة، لأنه غير مبعوث بعد الموت، ومثله كمثل البهائم، إذا مات اندرس وفني فلا يبعث أبداً. وأما فعل الحيواني فهو الحركة والخيال والحفظ لجميع البدن بحسن تدبيره، وأمره اللازم وفعله الخاص الشهوة والغضب فحسب، والغضب شعبة من الشهوة لأنه طلب القمع والقهر والتغلب والتظلم، وهذه فنون الرياسة، والرياسة ثمرة الشهوة. والفعل الخاص بالحيواني في الأصل هو الشهوة، وفي الفرع هو الغضب، وفائدته حفظ البدن بالقوة الغضبية، وإبقاء النوع بالقوة الشهوانية، فإن النوع يبقى دائماً بالتوالد، والتوالد ينتظم بقوة الشهوة، والبدن يبقى محروساً من الآفات بالحفظ، وهو التغلب على الأعداء، وسد باب الضرر، ومنع إضرار الظلم، وهذه المعاني تنحصر في القوة الغضبية، وثوابه حصول آماله في العالم الأدنى([50])، ولا ينتظر بعد الموت لأنه يموت بموت البدن، فليس له استعداد الخطاب، ومن ليس له استعداد الخطاب فليس له انتظار الثواب، فمن عدم فيضه فلا يبعث بعد الموت وإذا مات مات وسعادته قد فاتت.
وأما فعل النفس الإنسانية الناطقة فأشرف الأفعال لأنها أشرف الأرواح، ففعلها هو التأمل في النصائع والتفكر في البدائع، فوجهه إلى العالم الأعلى، فلا يحب المنزل الأسفل والموقع الأرذل، فإنه، في الحفظ للعليا والجواهر الأولى، ليس من شأنه الأكل والشرب ولا من لوازمه القبل والجماع، بل فعله انتظار كشف الحقائق والرؤية بحدسه التام وذهنه الصافي في إدراك معاني الدقائق، فيطالع بعين البصيرة لوح السريرة، وينافر بجهد الحيل علل الأمل، فتميز عن الأرواح بالنطق الكامل والفكر البالغ الشامل. همته في جميع عمره تصفية المحسوسات وإدراك المعقولات، خصها الله تعالى بقوة ما نال أحد من سائر الأرواح مثلها وهي النطق، وإن النطق لسان الملائكة، ليس لهم قول ولا لفظ بل النطق لهم خاص، وهو إدراك بلا حس وتفهيم بلا قول، فانتظم نسبة الإنسان إلى الملكوت بالنطق والقول بنفسه، فمن لا يعرفُ النطقَ يعجزُ عن بيان الحقّ"([51]). وأما الفعلُ الخاصُ للنفسِ الإنسانيةِ فهو العلمُ والإدراك، وفائدته معرفةُ الله بالفكرِ، فيشتاقُ إليه ويسعى باتجاهه، وهو فعلٌ له ثوابٌ كثيرٌ، "فإنّ للنفس الإنسانية ثواباً لأنه يبقى بعد فناء البدن، ولا يبلى بطول الزمن، له بعثٌ بعد الموتِ، وأعني بالموت مفارقته عن الجسم، وبالبعث مواصلته بتلك الجواهر ********ة، وثوابه وسعادتُه بعثه، ويكون ثوابه بحسب فعله"([52])، فمن غلبت قواه الحيوانية والطبعية قوته النطقية شقي يوم البعث، وهو عاشقٌ للبدن وهو لذلك في زمرة البهائم، ومن غلبتْ قواه النطقية تجرد عن الاشتغال بالبدن وعلائقه، وأقبلَ بعشقه نحو ربّه، حتى إذا انفصل عن الجسم فارق الدنيا ليشاهد ربّه ويجاور حضرتّه ويلتذ بمجاورة جنسه وهمْ سكانُ الملكوت وعوالمُ الجبروت([53]).
4-2-3-ابن عربي ( - 638)

لا يبتعد مفهوم الإنسان عند ابن عربي كثيراً عن مفهومه عند ابن سينا أو عند التوحيدي. فابن عربي يضع الإنسان كسابقيه في قمة هرم الوجود الكياني. ويقتربُ ابن عربي جداً من ابن سينا، بل لعله استفاد منه فكرته التي يرى فيها أن الوجود له شكل الدائرة، "فكان ابتداءُ الدائرة وجودُ العقل الأول الذي ورد في الخبر أنه أولُ ما خلق الله العقل، فهو أول الأجناس، وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني، فكملتْ الدائرةُ واتصل الإنسانُ بالعقل الأول، كما يتصلُ آخرُ الدائرة بأوّلها. فكانتْ دائرةٌ، وما بين طرفي الدائرة جميعُ ما خلقَ الله من أجناس العالم بين العقل الأول الذي هو القلم أيضاً وبين الإنسان الذي هو الموجود الآخر"([54])، فالوجود الإنساني بحسب ابن عربي هو كمالُ الخلق، به كملت الدائرة، وبكمال الدائرة كمال الإنسان، إذْ بهذا الكمال اتصل الإنسان آخرُ المخلوقات بالعقل الأول أول المخلوقات فكان أفضلها وأكملها، وكانت بذلك مسخرةً وتابعةً في وجودها له، وُجدَتْ لوجوده، وتزولُ بزواله، فهو عمادُ هذا الوجود، يُمسكُه الله أن يزول بسببه، فإذا فنيتْ صورةُ الإنسان، ولم يبق منها على وجه الأرض أحدٌ زالت، لأن العماد زال وهو الإنسان([55])، ولما انتقلتْ العمارة إلى الدار الآخرة بانتقال الإنسان إليها وخربتْ الدنيا بانتقاله عنها علمنا أنّ الإنسانَ هو الجوهرُ الذي من أجله خَلَق الله العالم، وأنه بذلك خليفته حقاً، "وأنه محل ظهور الأسماء الإلهية، وهو الجامع لحقائق العالم كله من مَلَك وفلكٍ وروحٍ وجسمٍ وطبيعةٍ وجماد ونبات وحيوان، إلى ما خُصّ به من علم الأسماء الإلهية مع صِغَرِ حجمه وجَرْمه"([56]).
الإنسان مركزُ الكون وعلته وعماده، فهو خليفةُ الله، استخلفه في ملكه بعد أن شاء من حيث أسماؤه أن يرى أعيانها في كونٍ جامعٍ فقد كان الله كنزاً مخفياً فأحب أن يعرف، فخلق الخلق وبه عرفوه. ولما شاء الله أن يخلق الإنسان، خلق له الكون، ليجعله خليفته فيه، فيرى فيه عينه التي وضعها فيه بالنفخة الإلهية. فكان العالم لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوة، فكان لا بد من جلاء مرآة العالم، فكان آدم عينَ جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة. ولمّا كان الإنسانُ مجلى الله عزّ وجلّ، اقتضاه لذاته، كان الإنسانُ واجبَ الوجود بالله، فهو في جوهره من النفخة الإلهية واجبة الوجودِ، وبذلك فهو واجبُ الوجود به، مُحدَثٌ من حيث النشأةُ العنصرية، وهو كاملٌ من حيث الجوهرُ، مفتقر إلى مُحْدِثِهِ الذي أحدثه من جهة نشأته العنصرية. فقد ظهر الإنسانُ وكان وجودهُ اقتضاءً اقتضاهُ الحقُ لذاتهِ، فاقتضى بذلك أن يكون الإنسانُ على صورة من اقتضاه لذاته، فيما يُنْسَبُ إليه من كل شيءٍ وفعلٍ واسمٍ وصفة، ما خلا الوجوبُ الذاتي الذي لم يصح للإنسان، لأن وجوده واجبٌ بالله، وليس بذاته، واختص الله بالوجود الواجب الذاتي. فالإنسانُ الكامل من حيث جوهره إنما ينظر بنور الله، فهو عينه ويده([57])، فما صحّت الخلافة إلا للإنسان الكامل، إذ كانت صورتُه الظاهرةُ من حقائق العالم وصوره، وصورته الباطنةُ على صورة الله تعالى، ولذلك قال فيه "كنتُ سمعَه وبصرَه" ولم يقل كنتُ عينَه وأذنُه، ففرّق بين الصورتين([58]).
لقد خلق الله الإنسان في النشأة الأولى من طينٍ، ثم سوّاه وعدله ونفخ فيه من روحه المضاف إليه، فحدث، عند هذا النفخ فيه بسريانه في أجزائه، أنْ ظهرت أركانُ الأخلاط الأربعةِ التي هي الصفراءُ والسوداءُ والبلغمُ والدمُ، ثم أعطاه الله ما في الحيوان من قوى طبيعية كقوةِ الهضم، كل ذلك بما هو حيوان لا بما هو إنسان. ثم خصه بالقوة المصورة والمفكرة والعاقلة، فتميز من الحيوان، وجعل هذه القوى آلات للنفس الناطقة، وبذلك أصبح المخلوقُ إنساناً، ما سمّى الله نفسه باسم من الأسماء " وإلا وجعلَ للإنسانِ من التّخلّقِ بذلك الاسم حظاً منه، يظهرُ به في العالم على قدر ما يليق به"([59]).
واقتضى الأمر الإلهي أن يعود الإنسان إلى الجهة التي صدر منها، وهي فيه بالقوة ولا يمكن تحقيقها بالفعل إلا بأداة مناسبة وهي العقل من حيث أصله المتصل بالعقل الأول في اكتمال الدائرة. فقد كلف الله ذلك العقل بمعرفته سبحانه، ليرجع الإنسان به إليه لا إلى غيره. ولكنّ العقل فهم غير ما كلّفه الله به، وغفل عن الحق في مراده بالتفكير، ذلك أن الله أمره أن يتفكر، "فيرى أن علمه بالله لا سبيل إليه إلا بتعريف الله، فيكشف له عن الأمرِ على ما هو عليه، فلم يفهم كلّ عقلٍ هذا الفهم إلا عقول خاصة الله من أنبيائه وأوليائه. يا ليت شعري هل بأفكارهم قالوا بلى حين أشهدهم على أنفسهم في قبضة الذرية من ظهر آدم؟ لا والله، بل عناية إشهاده إياهم ذلك، عند أخذه إياهم عنهم من ظهورهم، ولما رجعوا إلى الأخذ عن قواهم المفكرة في معرفة الله لم يجتمعوا قط على حكم واحد في معرفة الله"([60]).
وإن كانت عودة الإنسان مرتبطة بالعقل فإنه ارتباطٌ سببي لا ارتباطٌ ضروري، ذلك لأن معرفة الإنسان ربه مرتبطة بالفيض الإلهي الذي يصل الإنسان من خلال العقل الأول فيكشف الحجب عنه، فيعرفَ ربه بفضله لا بفضل عقله، وإنما العقل طريقٌ يسلكه صاحبه نحو باب يقرعه يؤدي به إلى الله، ولكن الذي يفتح الباب إنما هو الله تعالى بفضل الحب الذي يفيض به على العبد فيصبح هو هو، فلا حب يتعلق به الإنسان بالله وإنما هو حب إلـه يتعلق بالإنسان لأنّ الإنسان معدومٌ محدثٌ واجبٌ بغيره، فالإنسان محبوبٌ لله أبداً، وما دام الحب لا يتصوّر معه وجود المخلوق الممكن، لأن المخلوق الممكن لا يوجدُ أبداً بغير الذات الإلهية، فقد اقتضى الحالُ أن يكون المخلوق وهو الإنسانُ مظهراً للحق، فما ثمّ "ظاهرٌ إلا هُوْ في عين المُمْكِنِ فما أحبّ اللهَ إلا اللهُ، والعبدُ لا يتصفُ بالحب إذ لا حكمَ له فيه، فإنّه ما أحبَه منه سواه الظاهرُ فيه"([61]). وبذلك الحب الذي يعيدُ الإنسان إلى خالقه ومصدره الذي صدر عنه تكتمل دائرةُ الوجود الذي بدأ بالمحبة عندما أحبّ الله أن يُعرفَ فخلق الخلقَ.
لقد خلق الله العقل أولاً، ومن ثمّ خلق العاقل ليكون مجلى للعقل، وليعود به إليه، وخلق الخلق بالمحبة، وبالمحبة مكّنَهُ من العودة إليه، فكانت بدايةُ الدائرة ونهايتها في بدايتها، فكان الإنسان العالم الأصغر روحُ العالم الأكبر وعلته وسببه حقيراً من طريق الحدوث، متألّهاً من جهة الوجوب، لأنه خليفة الله في العالم، والعالم مسخرٌ له مألوه، كما أنّ الإنسان مألوه لله تعالى([62]).
ذلك هو مفهوم الإنسان في الخلق الأول وفي جوهر الإنسان المرتبط بوظيفته الكونية القائمة على الاستخلاف. وقد تبين ذلك من تقديمه على الملائكة ذاتها، فقد كرّم الله خليفته بأن خلقه من تراب بيديه، ثم سواه، وعدله، ونفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء كلها، وقال للملائكة أنبئوني بأسماء هؤلاء، يعني الصور التي تجلى فيها الحق، إن كنتم صادقين في قولكم نسبح بحمدك، فهل سبحتموني بتلك الأسماء التي تقتضيها تلك التجليات التي أتجلاها لعبادي. فجاء ردُ الملائكة بالتسليم في قولهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، فنسبوا العلم إليه لا إلى أنفسهم، وأقروا بأن الله اعطى خليفته ما لم يعطهم، مما يعني أن الحكمة الإلهية شاءت أن يكون له هذا العلم الذي خصته به من جهة أنه خليفةٌ، له حكم المستخِلف([63]) فما سمّى الله نفسه باسم من الأسماء "إلاّ وجعل للإنسان من التخلق بذلك الاسم حظاً منه، يظهر به في العالم على قدر ما يليق به"([64]).
وأنبأ آدمُ الملائكة بأسماء تلك التجليات، فسلّم الملائكةُ بأنّ لا علمَ لهم إلا ما علمهم الله فأمرهم الله بالسجود لآدم سجودَ المتعلمين للمُعَلّم، فهو في الحقيقة سجود لله عزّ وجل الذي خلق آدم ونفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء كلّها مما جهلته الملائكة، فنال التقدمة عليهم بذلك.
من خلال هذا الخلق أصبح الإنسانُ جامعاً لحقائق العالم من جهة تكوينه الترابي، ولحقائق الصورة الإلهية من جهة النفخة والتعليم، فله بذلك نسبة إلى العالم الأقدس إذ عنه ظهر، وله نسبةٌ إلى عالم الطبيعة والعناصر بجسمه من حيث نشأته، فهو يحب كل ما تحبه تلك العناصر([65]).
بدأ الإنسان نشأةً عنصريةً بالتكوين الترابي، فهو بذلك ينتمي إلى الوجود الممكنِ، إلا أنه في أصل الخلق كان أسبق من جهة كونه إنساناً بالنفخة الإلهية الأزلية واجبة الوجود، فكان من هذه الجهة أزلياً ينتمي إلى الوجود الواجب.
فالإنسان مُحْدَثٌ من جهةٍ، واجبٌ أزليٌ من جهة ثانية. وكل مُحدَث مفتقرٌ إلى مُحِدثٍ، فوجودُه من غيره، وهو مرتبطٌ به ارتباط افتقار. ومحِدثُه واجبٌ الوجود غنيٌ بذاته في وجوده غيرُ مفتقرٍ، وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث، فانتسب إليه.
والكمالُ الذي يحققه الإنسانُ في الدنيا بفضلِ العقل والمعرفة والفيض الإلهي هو عينُ الكمال الذي يكون فيه يوم القيامة، ذلك أن مراتبَ الناس في العلم بالله في الدنيا متفاوتةٌ مختلفةٌ بحسبِ جهدهم وعمَلِهم، وهي نفسها عينُ مراتبهم في قربهم من اللهِ يومَ القيامةِ([66])، فكمالُ الإنسان إنما يحصلُه في الدنيا، وأما كمالُه في الآخرة فهو عينُ مكانه ودرجته التي نالها في الدنيا، إذ إن الإنسانَ إذا ما ماتَ وانتقل إلى الدار الآخرة انقطع عمله، ولم يعد قادراً على تغيير المكانة التي سعى إليها بعمله، وحصّلها من جهة عقله([67]).
5- خاتمة

إن مفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي من خلال النماذج المدروسة لا يشكل المفهوم النهائي والكامل، ولا بد في رأينا من دراسات أخرى في المنحى نفسه، تهتم بنماذج أخرى من المفكرين العرب المسلمين. فالإنسانية هي نموذج من الكمال الإنساني، يشكل نظاماً أخلاقياً عند الأخلاقيين والفلاسفة والأدباء، ونظاماً جمالياً عند الفنانين والشعراء، ونظاماً اجتماعياً عند القضاة والفقهاء. وهذا ما يجعل من دراسة مفهوم الإنسان أمراً شاقاً وصعباً، يحتاج إلى عمل ضخم. إلا أن تقرير ذلك لا يجب أن يصبح عائقاً أمام الدراسات أو الجهود التي يقوم بها أفراد وبخاصة أن هذه الدراسات ضرورية جداً للمجتمعات الإنسانية، لأنها تساعدها على رسم معالم وجودها الفردي والجماعي، وتبين لها هدفها في الحياة. فالنتائج التي يتوصل إليها الباحث في هذه الدراسات ليست نتيجة حدس فردي، أو رؤيا ذاتية، وإنما هي أسس نظام عام يساعدنا على أن نكون أكثر انسجاماً في إعادة بناء وجودنا، وتصور أنفسنا، ومعرفة نقاط ضعفنا ونقاط قوتنا، ويجعلنا أكثر إنسانية. وقد قدّم كلّ من التوحيدي وابن سينا وابن عربي الأنموذج الإنساني، وعدوه أداة للتربية الاجتماعية العقدية، فالإنسان لدى هؤلاء فاضلٌ بالجوهر، ولكنه بالعرض سيِّئ يولدُ حيواناً، والمجتمع يربيه ويعلمه، ويثقفه ليخرجَ الجوهرُ فيه من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، فيصبح إنساناً فاضلاً على الحقيقة. ولذلك فهم جميعاً يحرصون على الوسط الذي ينشأ فيه الإنسان ويجعله إنساناً. ويقصدون بالوسط الوسط الثقافي وليس الطبيعي، فالإنسان كائنٌ معرفي، ووجوده إنما يكون على الحقيقة بمستوى ما يملكه من معرفة تمكنه من اكتشاف الجوهر الفاضل فيه وإخراجه إلى حيز الوجود بالفعل، إلا أن هذا لا يعني إطلاقاً أن التربية يجب أن تسير بعكس اتجاه الطبيعة في الإنسان، وعلى العكس من ذلك فإن التربية الثقافية ترادف التربية الطبيعية وتنمي فيها سمو العرض الترابي، لأنه كان قبل أن يكون في العلم الإلهي، ولأنه سُوّي وعُدّل بيد الرحمن. والغرض الأسمى هو إقامة التوازن بين الوجودين: العرض والجوهر، لأن كلاً منهما إنما يتم وجودُه على الحقيقة بالآخر، فالعرض حاملٌ للجوهر لا يظهرُ إلا من خلاله، كما أن الجوهر يؤثرُ إيجاباً بالعرض فيجعله شفافاً سامياً بتنقيته من شوائب التراب وعلائق المادة.
لقد حقق القديسُ أوغسطين توفيقاً بين الثقافة الملحدة والتراثين المسيحي واليهودي، وبذلك أعطى الإنسانَ قيمةً إلهية، إلا أن الفكر المسيحيّ لم يستطع أن يتخلص نهائياً من آثار تلك الثقافة، فظلت العلاقةُ بين الإنسان والإله فيه تمر عبر إنسان آخر هو المسيحُ أو ممثلوه من رجال الكهنوت الذين كانوا يبيعون صكوك الغفران في العصور الوسطى. وقد استطاع الفكرُ العربي الإسلامي ردم هذه الهوة بين الإنسان والله. فلا واسطة بين الطرفين. والله هو مقياس كل شيء، وهو المحرك الأولٌ والمبدعُ الأول للحقائق والقيم الأبدية، وثمة توافقٌ بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية باعتبار أن الإنسان مخلوقٌ على الصورة، ولكنّ هذه الإرادة لا تملك إمكانية أن تخلق لنفسها حريتها الخاصة بها والمفاهيم والقيمَ التي تريدها، وعندما تخرج هذه الإرادة عن الإرادة الإلهيةِ فستقعُ في الخطأ والضلال. فالفكرُ العربيُ الإسلاميُ يوحّد بذلك بين الإرادة الإنسانية والإرادة الإلهية، ويُقرّ بأن حرية الإنسان من خلال هذا المنطق تعني عبوديته المطلقة لله التي بقدر تحقيقها يكونُ الإنسانُ حراً على الحقيقة، ذلك لأن الحريةَ الحقة هي التحررُ من عبوديةِ الجسدِ والمادةِ والمالِ والسلطةِ. وبذلك يحققُ الإنسانُ مفهومَ استخلافهِ في الأرض على الحقيقة، فيصبح إنساناً إلهياً.
يقول المستشرق ريجيس بلاشير في الموسوعة الفرنسية Encyclopeadia Universalis في مادة Humanisme: إنه إذا كان من الممكن الكلامُ على إنسيةٍ إسلاميةٍ فإن الفضل في ذلك يعودُ إلى القرآن والقرآن وحده كواقعٍ تاريخي وُجدَ في التاريخ العربي الإسلامي. ولعل بلاشير في هذه الكلمة يلخص رأينا في أن كلّ ما وجدناه، سواء أكان في هذه الدراسة أو في قراءاتنا المختلفة للتراث العربي الإسلامي، من مفاهيم يمكن تصنيفها تحت مصطلح إنسيّة عربيةٍ إسلاميةٍ إنما يعود في أصوله الفكرية إلى القرآن الكريم. فعلى الرغم من تعدد المصادر الثقافية للفكر عند التوحيدي وابن سينا وابن عربي واختلافها بينهم فإن ما يجمعُ فكرَهم، ويوحد نتائجه وأهدافه هو أنهم جميعاً ينهلون من القرآن الكريم، ويعرضُون عليه ثقافاتهم، ويهذبونها بحسبه، ويصهرون فيه كل خبراتهم في ضوء تعاليمه السماوية. ولعل هذه الحقيقة تنطبق على كل النتاج الحضاري العربيّ الإسلامي. فقد كانَ القرآنُ الكريمُ مصدرَ كل ذلك النتاج ومرجعه ومقياسه
والإنسان عند هؤلاء مخلوقٌ إلهي، وهو خليفةُ الله في الأرض، وهو مقدس بالنفخة الإلهية، مكرّم عن باقي المخلوقات بالعقل، وهو مدعو إلى استخدام عقله لامتلاك المعرفة الفردية لتحقيق معنى استخلافه في الأرض على الحقيقة. وهذه كلها مفاهيم نجد أصولها في القرآن الكريم إلا أن هذا لا يعني أن هؤلاء لم يتأثروا بثقافات الأمم الأخرى ولا سيما الثقافة الإغريقية. فعلى سبيل المثال نجد أن فلسفة ابن سينا استفادت من مفاهيم إغريقية، فنظرية العقول العشرة التي يعرضها ابن سينا في توضيح نظرية المعرفة عنده هي نظرية إغريقية، أخذت شكلها النهائي عند الفارابي قبل أن يتبناها ابن سينا في نظامه الفلسفي، ولا ننسى أن أباه وأخاه كانا من الإسماعيلية التي استفادت كثيراً من ثقافات الأمم الأخرى في توضيح مفاهيمها الدينية. ولذلك فإن نظرية المعرفة التي يتأسس عليها مفهوم الإنسان لديه إنما تمثل المظهر المعرفي لنظرية العقول العشرة التي تؤسس وجود الكون في الوقت نفسه الذي تحدد فيه موقع الإنسان فيه. ويستخدم ابن سينا مفردات ومصطلحات تعود إلى الفلسفة الإغريقية ولكن دلالاتها لديه تختلف عنها في الفكر الإغريقي فالميتافيزياء عند ابن سينا هي ميتافيزياء الجواهر، والجوهر أو الماهية غير مشروط فهو حيادي، والوجود الحادث/ الممكن وجد بفضل وجود واجب قديم ولكن الوجود الحادث يصبح وجوداً واجباً لأنه وجد بفضل الوجود الواجب الواحد الأحد الذي لا يصدر عنه إلا واحد على الرغم من مظاهر التعدد.
وآخر العقول العشرة هو العقل الفعال، وهو ما يرى الفلاسفة العرب المسلمون من أتباع ابن سينا أنه الروح القدس الذي عبر عنه القرآن الكريم بجبريل ملك الوحي([68]). وقد ميز ابن سينا بعد الفارابي، على عكس توما الأكويني، بين العقل الفعّال والعقل الإنساني، ولم يجعله محاكياً للجوهر الإلهي كما عند الكسندر افروديس، أو كما عند أتباع القديس أوغسطين([69]). وقد جعل ابن سينا ذلك العقل موجوداً سامياً يرتبط به الإنسان مباشرة، ورأى أن كل فعل اتصال بين الروح الإنساني والعقل الفعّال إنما هو إشارة أو دليل على درجة النمو في الشخصية الإنسانية الصاعدة نحو الكمال.
إن ابن سينا واحد من مفكري العرب المسلمين الذين لم يبهروا بالثقافة الإغريقية، وإنما قاموا بانتقاء مالا يتعارض منها مع قواعد العقيدة الإسلامية المتجسدة في القرآن والسنة. وهو مثل هؤلاء أيضاً، ما كان يتكلم على مفهوم الإنسان المسلم وإنما كانت لديه نظرة شمولية "أنثروبولوجية" للوجود الإنساني عامة. ولعل هذا ما يسم الفكر العربي الإسلامي بسمة الإنسانية التي لم تقتصر كما رأينا على الفكر النظري الفلسفي وإنما كانت تقوم على منهج تربوي روحي اجتماعي، يهدف إلى إنقاذ الإنسان من ضياعه وضلاله.
لقد سعينا فيما عرضناه إلى النظر إلى الإنسان عند التوحيدي وابن سينا وابن عربي نظرة شاملة دون أن نحدد نظرتنا في جانب ضيق أو محدد لديهم، وفي اعتقادنا أن هذا ينسجم مع ما رأيناه عند هؤلاء من رغبة برؤية الإنسان رؤية شاملة وعامة.
ونعتقد أن ما توصلنا إليه من ملامح عامة لمفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي إنما يساعدنا في نهاية المطاف على تقديم تصوّر يساهم في بلورة الأزمة التي يعانيها العربي المعاصر، وتتلخص كما ذكرنا في بداية هذه الدراسة بأزمة الهُويّة. وفي اعتقادنا أن أية محاولة للنهوض من جديد بالإنسان العربي ومحاولة إنقاذه من الفوضى الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيش في خضمها، إنما تكون في التأكيد على هويّته، وفي إزالة الحجب التي فرضتها ثقافة التغريب عليه من مطلع القرن العشرين باسم "النهضة العربية".

خاتمة الكتاب

إن العلاقة بين السلطة السياسية ومفهوم الإنسان في أي حضارة من الحضارات علاقة جدلية، وهي عند العرب اليوم إشكالية أساسية تعاني أزمة حادة تنبثق عنها إشكاليات متعددة وأزمات مختلفة تتجسد كلها في النتائج التي يعانيها الإنسان العربي في أقطار الوطن العربي كلها.
إن غاية هذا الكتاب هي بإيجاز توضيح أن ما يعانيه الوطن العربي من أوضاع سيئة إنما يكمن في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فعلى الحاكم توفير الوسط المناسب الصالح الذي يتمكن فيه الإنسان من إعادة اكتشاف هويته المرتبطة بالثقافتين العالمة وغير العالمة، وتحرير مواهبه وقدراته الإبداعية ليتمكن الطرفان: الحاكم والمحكوم من مقاومة ماتتعرض له الأمة من أخطار وفتن تهدد وجود الأمة في جوهرها، ولا تفرق في ذلك بين طرف وآخر.
وتظل هذه الدراسة دعوة إلى بذل المزيد من الحوارات والدراسات حول واقع العرب المعاصر.وهي تؤكد في الوقت نفسه على ضرورة تعميق هذه الدراسات والاعتماد فيها على مناهج خاصة بالتراث العربي الإسلامي، وصالحة لواقع العرب المعاصرين. فالملاحظ أن معظم تلك الدراسات، على قلتها، إنما يتبنى مناهج غربية وأدوات معرفية غريبة عن الحضارة التي يتعامل معها.


¡r¡



المراجع

القرآن الكريم.
السنة النبوية: (صحيح البخاري صحيح مسلم مسند أحمد سنن الترمذي سنن الدارمي رياض الصالحين). قرص حاسوب موسوعة الحديث النبوي الشريف.
- ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، تح/ د. سهيل زكار، دمشق، 1988.
- ابن خلدون، المقدمة، طبعة كتاب الشعب، القاهرة، دون تاريخ.
- ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، تح / د. سليمان دنيا، القاهرة، 1957، 1958.
- ابن سينا، رسائل الشيخ الرئيس أبي علي الحسين ابن عبد الله بن سينا في أسرار الحكمة المشرقية، تح / ميكائيل بن يحيى المهرني، مطبعة بربل ليدن، 1889.
- ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، يدون تاريخ.
- ابن عربي، فصوص الحكم، تح / أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1946.
- ابن كثير، البداية والنهاية، المطبعة السلفية، القاهرة، 1351.
- الأشعري، أبو الحسن، مقالات الإسلاميين، تح/ هلموت ريتر، فيسبادن، 1963.
- الباقلاني، القاضي، التمهيد، دار الفكر العربي، القاهرة، 1947.
- البغدادي، عبد القاهر، الفرق بين الفرق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985.
- البيهقي، ظهير الدين، تاريخ حكماء الإسلام، تح / محمد كرد علي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1988.
- التوحيدي، أبو حيان، الإشارات الإلهية، تح / د. وداد القاضي، دار الثقافة، بيروت،
1973.

- التوحيدي، أبو حيان، الإمتاع والمؤانسة، تح / أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات دار الحياة، بيروت، دون تاريخ.
- التوحيدي، أبو حيان، البصائر والذخائر، تح / د. وداد القاضي، دار صادر، بيروت، 1988.
- التوحيدي، أبو حيان، المقابسات، تح / د. محمد توفيق حسين، بغداد، 1970.
- الجرجاني، الشريف علي بن محمد، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1988.
- الخميني، الإمام، الحكومة الإسلامية، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، طهران، 1996.
- السهروردي، شهاب الدين عمر، عوارف المعارف، تح / د. عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف، دار المعارف، 1983.
- الشريف المرتضى، الشافي في الإمامة، تح/ السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، طهران، 1986.
- الشكعة، د. مصطفى، سيف الدولة الحمداني، دار القلم، 1959.
- الصديق، حسين، المدخل إلى تاريخ الفكر العربي الإسلامي، مطبوعات جامعة حلب، حلب، 1992.
- الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1994.
- الغزالي، أبو حامد، معارج القدس في مدارج معرفة النفس، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1981.
- الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تح/ إبراهيم جزيني، بيروت، دون تاريخ.
- الفارابي، التنبيه على سبيل السعادة، تح/ د. سحبان خليفات، عمان، 1987.
- الفارابي، كتاب تحصيل السعادة، تح/ د. جعفر آل ياسين، بيروت، ط2، 1983.
- القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب الإمام مالك، تح/ أحمد محمود، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1967.
- المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، مصر، ط3، 1958.
- أمين، أحمد، ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1964.
- أمين، أحمد، فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1964.
- حسين، محمد محمد، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مكتبة الآداب، مصر، 1968.
- حماش، د. نجدة، سياسة سيف الدولة الحمداني، الإدارية والمالية، مجلة عاديات حلب، 1998.
- حوراني، البرت، الفكر العربي في عصر النهضة، دار النهار للنشر، بيروت، 1986.
- غليون، برهان، المحنة العربية: الدولة ضد الأمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1993.
- لابيار، جان وليم، السلطة السياسية، تر/ الياس حنا الياس، منشورات عويدات، بيروت، 1983.
- متز، آدم، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، دار الكتاب العربي، بيروت، 1967.
- مصطفى، شاكر، في التاريخ العباسي، مطبعة الجامعة السورية، دمشق، 1957.
- ناصر، إبراهيم، الأنثربولوجيا الثقافية، عمّان، الأردن، 1982.
r
المراجع الأجنبية

-ARKOUN, MOUHAMMED, (Essais sur la pensée, Islamique), Ed Maisonncuve et Larose, Paris 1973.
-Dictionnaire Critique de la Sociologie P.U.F PARIS. 1982. PL134.
-Encyclopacdia Universalis.
- GUENON. Rene, Autorite Spirituelle et Pouvoir Temporel. Les Edition Vega, Paris, 1976.
- ***ER. Max, le Savant et le Politique, Plon, Paris, 1986.

¡r¡



المحتوى


مقدمة7
المدخل13
القسم الأول : السلطة والمثقف إشكالية العلاقة وأصولها الإشكالية36
أولاً – أصول الإشكالية الثقافية – التاريخية – السياسية38
1 – الأوضاع السياسية38
2 – مفهوم الخلافة عند المسلمين. 42
2-1- مفهوم الخلافة عند الخوارج. 43
2-2- مفهوم الخلافة عند الشيعة44
2-3- مفهوم الخلافة عند أهل السنة والجماعة46
3 - العلاقة بين السلطتين السياسية والثقافية في الدولة الإسلامية47
ثانياً - إشكالية العلاقة بين السلطتين عند العرب المعاصرين. 57
ثالثاً – شاهدان من التاريخ. 65
1- العلاقة بين سيف الدولة والفارابي. 65
1-1- سيف الدولة وغلبة الخطاب البلاغي على الخطاب الفلسفي / العقلي. 65
1-2- مفهوم السلطة السياسية ووظيفتها عند الفارابي. 69
1-3- سيف الدولة السلطة والفارابي المثقف.. 73
1-4- خاتمــة76
2- العلاقة بين عضد الدولة البويهي وابن الباقلاني. 77
2-1- نص سياسي ثقافي. 77
2-2- دراسة النص... 80
القسم الثاني : مفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي مشروع إعادة تقييم الهوية العربية83
مفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي. 85
1 ـ الإشكالية86
2 ـ مصادر البحث. 90
3 ـ تمهيد91
4-العرض... 92
4-1-العقيدة الإسلامية92
4-2- الفكر العربي الإسلامي. 98
4-2-1-أبو حيان التوحيدي (-414 هـ)99
4-2-2-ابن سينا (-428هـ)102
4-2-3-ابن عربي (- 638هـ)110
5- خاتمة 110
خاتمة الكتاب. 114
المراجع119
المراجع الأجنبية120
المحتوى. 121



¾r¾



رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية

الانسان والسلطة : اشكالية العلاقة وأصولها الاشكالية / حسين الصديق دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001 117ص؛ 25سم.

1- 323.0956 ص د ي إ
2- 306.40956 ص د ي إ
3- العنوان 4- الصديق

ع- 338/2/‏2002‏ مكتبة الأسد

([1]) الدخان/ 38.

([2]) الذاريات/ 56.

([3]) البقرة/ 30.

([4]) ص/ 70.

([5]) البقرة/ 30-34.

([6]) يس/ 82.

([7]) النحل/ 40.

([8]) ص/ 75.

([9]) لقمان/ 20.

([10]) رياض الصالحين، باب المجاهدة، حديث رقم: 95.

([11]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، حديث رقم: 4731.

([12]))صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر، حديث رقم: 131.

([13]) الغاشية/ 21.

([14]) الزمر/ 53.

([15]) فاطر/ 28.

([16]) صحيح البخاري، باب التواضع، حديث رقم 6021، وسنن الترمذي، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، حديث رقم 2609.

([17]) القصص/ 77.

([18]) انظر في هذه المفاهيم التعريفات للجرجاني في مواضعها.

([19]) الإسراء/ 85.

([20]) الغزالي، إحياء علوم الدين، 3/4. وانظر أيضاً ما يقوله الغزالي في معارج القدس في مدارح معرفة النفس، ص15، وما يكتبه السهروردي في عوارف المعارف، في باب معرفة الإنسان، ص287.

([21]) التوحيدي، المقابسات، ص/ 231.

([22]) التوحيدي، المقابسات، ص/376.

([23]) التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، 2/87.

([24]) التوحيدي، المقابسات، ص/298.

([25]) التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، 2/113، وانظر أيضاً الشكل في ترتيب الكائنات.

([26]) المصدر السابق، 2/211.

([27]) التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، 3/122.

([28]) المصدر السابق، 1/146.

([29]) المصدر السابق، 1/147.

([30]) المصدر السابق، 1/147.

([31]) التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، 3/135.

([32]) التوحيدي، الإشارات الإلهية، 1/162.

([33]) التوحيدي، البصائر والذخائر، 7/37.

(*) انظر الشكل في كتاب: Arkoun, Mouhammed, (Essais sur la pensee islamique), P/22..

([34]) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، 3/507.

([35]) المصدر السابق، 3/448.

([36]) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، 3/467-477.

([37]) البيهقي، تاريخ حكماء الإسلام، ص/53.

([38]) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، 4/671.

([39]) المصدر السابق، 4/672.

([40]) ابن سينا، رسائل الشيخ الرئيس، كتاب في معنى الزيارة، ص/45.

([41]) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، 4/674.

([42]) المصدر السابق، 4/776 و/785 و/786.

([43]) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، 4/788.

([44]) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، 4/824. والآية من سورة الماعون رقم 5 و6.

([45]) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، 4/824.

([46]) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، 4/840.

([47]) ابن سينا، رسائل الشيخ الرئيس، رسالة في العشق، ص/3.

([48]) المصدر السابق، ص/22.

([49]) ابن سينا، رسائل الشيخ الرئيس، رسالة في ماهية الصلاة، ص/29.

([50]) ابن سينا، رسائل الشيخ الرئيس، رسالة في ماهية الصلاة، ص/29.

([51]) ابن سينا، رسائل الشيخ الرئيس، رسالة في ماهية الصلاة، ص/32-33

([52]) المصدر السابق، ص/34.

([53]) المصدر السابق، ص/41.

([54]) ابن عربي، الفتوحات المكية، 1/125.

([55]) المصدر السابق، 1/125.

([56]) المصدر السابق.

([57]) ابن عربي، فصوص الحكم، 1/53.

([58]) المصدر السابق 1/55.

([59]) ابن عربي، الفتوحات المكية، 1/124

([60]) ابن عربي، الفتوحات المكية، 1/126.

([61]) ابن عربي، الفتوحات المكية، 2/113.

([62]) ابن عربي، الفتوحات المكية، 1/118.

([63]) ابن عربي، الفتوحات المكية، 2/71

([64]) المصدر السابق.

([65]) المصدر السابق، 2/335

([66]) ابن عربي، فصوص الحكم، 1/113.

([67]) ابن عربي، الفتوحات المكية، 1/118

([68])Encyclopedia Uneversalis/مادة ابن سينا

([69]) المصدر السابق.


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 04:48 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59