أبجديات البحث في العلوم الشرعية
أبجديات البحث
في العلوم الشرعية فريد الأنصاري * التلخيص من إنجاز شكيب بنيس * مقــدمـــة إن المنهج هو جوهر مشكلة الأمة ، فلو استقامت عليه لاستقام لها كل شيء ، فالمنهج ضد الارتجال ، ولا يستقيم أمر بغير ترتيب ، ولا يقوم بناء بغير نسق وتركيب . وهكذا يصير التعلم الحق ، ليس هو جمع المعارف واحتطابها ، بقدر ما هو بحث في مناهجها ، لاقتناص أسراره ، بإدراك كيفيات انبنائها ، وطرائق تركيبها . وفرق في مقامات العلوم بين من يروي أشكالها ورسومها ومن يستنبط ويخترع أحكامها وقواعدها ، إذ العالم ليس هو الذي يحمل في رأسه خزائن ومكتبات ، ولكنه الذي يعرف كيف يوظف ما في رأسه ، وما في الخزائن والمكتبات ، من أجل إضافة بعض الإضافات . ولعل من أصعب الأزمات التي تعاني منها الأمة اليوم ، هي غياب العقل المنهجي ، أو التفكير الناهج ، أي الواضح والبين والمستقيم . إن الارتجال ، والتلقائية غير الواعية في معالجة شؤون الحياة ، دليل قاطع على غياب الممارسة المنهجية . بيد أن الترتيبات ، وتقسيم الاحتمالات ، وسبر التعليلات للمتوقع قبل أن يقع ورسم خطط التعامل معه من أول نقطة البداية حتى النهاية ، حتى إذا حضـر إبانه ، وصار نازلة واقعة ، كان لديك التصور الكامل لتفسيره وتعليله ، والأدوات الكافية لنقده وتوجيهه ، كل ذلك وما في معناه ، هو مقتضى العقل المنهجي ، أو التفكير الناهج ، الذي يفترض أن يكون شاملا لكل نشاطات الحياة الإسلامية على العموم . وبما أن البحث العلمي هو أحد أهم خصائص العقل المسلم ، فيجب أن يكون من أول ما يخضع لإعادة التشكيل المنهجي ، وأن يترتب ) لهذا الغرض ( في -1- الفصل الأول : عملية البحث في العلوم الشرعية. المبحث الأول : ضوابط البحث العلمي : أصل ) البحث ( في اللغة ) طلبك الشيء في التراب : بَحَثَهُ يَبْحَثُهُ بَحْثاً وابْتَحَثَهُ ( ومنه استُعمل ) البحث ( بمعنى ) أن تسأل عن شيء وتستخبر ( . إن معنى البحث في اللغة إذن ، هو طلب أمر غائب ! فما وراء التراب لا شك يكون قد غبر عن الأنظار ، فهو متغيب ، وكذلك ما غاب عن العقل أيضا هو غابر عن التصور ، لذلك يجري البحث عن هذا أو ذاك ، للكشف عن حقيقته أو طبيعته . أما البحث العلمي فهو : عمل منظم يهدف إلى حل مشكلة معرفية باستقراء جميع مكوناتها التي يظن أنها أساس الإشكال . إن المشكلة ليست هــي تعريف ) البحث ( بقدر ما هي في ممارسته بدءا بتصور الموضوع حتى الدخول فيه ، ولذلك فإن أول عقبة عملية ، تواجه الباحث هي مشكلة الاختبار . 1-الضابط التعبدي : قد يستغرب الكثير وضع " التعبد " ضابطا من ضوابط البحث العلمي ، غير أننا نحن المسلمين نستغرب إقصاءه ليس من مجال البحث العلمي فحسب ، ولكن من كل أنشطة الحياة ، داخل المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام ! . لقد كان علماء هذه الأمة يبدؤون في استهلال دروسهم وأعمالهم العلمية عادة بحديث : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل مريء ما نوى " رجاء رفع عملهم ذاك إلى مقـام التعبد . إنه إذا كان الغرب يشجع البحث العلمي في مجتمعه ، بخلق هالة كبرى -2- 2-الضابط الإشكالي : وذلك أن البحث العلمي هو في حد ذاته ، طلب المجهول ، غير متحدد في ذاته ، وإن كنا نعلم بعض معالمه ، أو آثاره ، لكن حقيقته لا تُعلم بالظن الراجح ، وإلا لما كانت هناك حاجة إلى بحثه . ثم لا بد من تنقيح ) الإشكال العلمي ( بتجريده من الشوائب وتحقيق أركانه ، أعني العوائق المعرفية التي يتكون منها ، وبيان الزائف منها من الصالح ، حتى يتأكد في النهاية من كون هذا الإشكال حقيقيا لا وهميا . فالحرص على قيمة البحث إنما يكون بالحرص على أهمية إشكاله العلمي . وما أصدق الدكتور أحمد بدر حين قال : ) يؤكد المشتغلون بالبحث العلمي ، أن اختيار مشكلة البحث وتحديدها ، ربما يكون أصعب من إيجاد الحلول لها ( . 3-الضابط الشمولي : ذلك أن الباحث إذا استطاع أن يؤسس إشكاله ، فإن عليه أن يؤطره ضمن رؤية شمولية لمسيرته العلمية في الدراسة والبحث . وأعني بالضبط أن يؤسس لنفسه -3- العلمي والمنهجي . فقد يبدو للباحث بعد التحقيق والتدقيق ، أن علما ما من العلوم الإسلامية غير قائم الأركان ، ولا مبني على نسق دقيق ، فيهب عمره لهذا الأمر الجليل ، ويُنذر أن يقوم بهذا البناء والتركيب ، حتى يتم له المقصود أو يهلك دونه ، وذلك بإنجاز كل بحوثه في هذا الاتجاه ، خطوة خطوة ، حتى يصل إلى نهاية المشروع أو نهاية أجله ، ولعل الله بعد ذلك ييسر لهذا البناء من يتممه . 4- ضابط الأولويات العلمية ، أو مراحل المشروع التراثي . قبل أن تبدأ أي عمل مهما كان ذلك العمل ، لابد لك أن تسأل نفسك : بم أبدأ وبم أنتهي ؟ وهذا يتجلى بشكل طبيعي في الحياة اليومية للإنسان ، فالمسلم خاصة ، إذا استيقظ فجر يومه ، فإنه يعرف أن عليه أولا أن يستعد لصـلاة الفجر ، وأول الاستعداد هو الوضوء ، وإنما وجب الوضوء لأنه شرط في صحة الصلاة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهكذا فكل عمل له سوابق ولواحق ، ولا يمكن أن تُنجز اللواحق قبل السوابق . والإسلام نظم حياة المسلمين تنظيما ، فهو بحق " منهج حياة " ، وأي خرق للترتيب أعني لمبدأ " الأولويات " هو خرق للمنهج . وهذا أساسا ، ما يجب أن ينطبق على الميدان العلمي ، وترجمان ذلك في الدراسات الإسلامية ، أن الباحث في أي مجال من -4- أ- المرحلة التحقيقية : ذلك أن العائد إلى النصوص التراثية لا بد له أن يتأكد من صحتها أولا ، سندا ومتنا ، أعني أن يتحقق من صحة النص ، المقصود للدراسة أو الاستشهاد وهذا ما يفترض أن يكون من منجزات " المرحلة التحقيقية " التي هي أولى الأولويات ، إذ لا يُعقل أن يُنجز الطالب دراسة عن شخصية من الشخصيات العلمية مثلا ، معتمدا في استخراج آرائه من كتاب له لم يتم تحقيقه بعد ! ثم يُطلق الأحكام الجازمة القاطعة عن منهج الشخص المدروس مثلا ، أو مذهبه العقدي ، أو موقفه السياسي ، أو رأيه الفقهي … إلخ. وإذا علمت أنه قد صدر من كتاب مـا ، نسختان الأولى محققة والثانية غير محققة ، فاحرص كل الحرص على اعتماد الأولى دون الثانية . ب- المرحلة الفهمية : وهي ثاني مرحلة بعد التحقيق ، ويتعلق أساسا بالعلوم الناهضة ، التي استقامت قواعدها وأصولها ، ونضجت مصطلحاتها ، فصارت مجالا مناسبا لبروز العوائق والإشكاليات ، وذلك نحو علم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الفقه وعلوم الحديث . وهذه العلوم قد بلغت درجة من النضج والتركيب ، لم يبق معها من السهل أن نقطع " بعد قراءة نص من النصوص " بأن مقصود المؤلف هو كذا وكذا ، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالقضايا الإشكالية التي طُرحت في مجالاتها . إنه لا -5- مفر من القول بأن النص القديم في العلوم الإسلامية ، لا بد " من أجل إستعماله واستثماره " من أن يمر في مرحلة ثانية أساسية ، بعد مرحلة التحقيق ، وهي مرحلة الفهم ، المبنية أساسا على الدراسات التفسيرية قصد اكتشاف وتحديد مقاصد الخطاب العلمي في هذا المجال أو ذاك ، وتعتبر دراسة المصطلح في نظرنا البنية الأساس التي تصلح أن تكون أداة الفهم الأولى ، والتي عليها ينبني فهم باقي التركيب للنص التراثي . ج- المرحلة التركيبية : وهي المرحلة الأخيرة للنص التراثي ، ونعني بالتركيب هاهنا : الاستعمال المركب للنص ، ذلك أن الدارس له في الإطار التفسيري ، إنما يدرسه في إطاره البسيط ، ثم بعد ضبط مصطلحاته وتحديد مقاصده يصبح صالحا للاستعمال في الدراسات التاريخية والمقارنة ، والنقدية والاستنباطية التي تُعنى ببناء النظريات والتجديد في العلم والإضافة إليه ، وهذا قصدنا بالتركيب . إن النص بعد مرحلتي التحقيق والفهم يصير أداة علمية جاهزة للاستعمال متى طُلبت ، وإنما يبقى الحساب بعد ذلك في طريقة الاستعمال ! فالأصل إذن ألا تُدرس الإشكالات التركيبة في مجال أو كتاب ما تزال الإشكالات الفهمية فيه قائمة ، أو ربما الإشكالات التحقيقية ! إن على الدارس التركيـبـبي مثلا أن يشرع في عمله ، حتى يطمئن إلى أن جميع إشكالاته التحقيقية قد سُويت ، وأن جميع إشكالاته الفهمية قد حلت ، اللهم إلا أن يكون الموضوع غير ذي إشكال تحقيقي أو فهمي . وهذا هو غالب طابع الدراسات الإسلامية المعاصرة ، أما التراث فيندُر أن يسلم مجال من ضرورة إنجاز هذه الثلاثية المذكورة : التحقيق فالفهم ثم التركيب . يتبع ................. |
5- ضابط الواقعية :
وهذا الضابط هو المسؤول " بعد اختيار الإشكال " عن عملية الإنجاز والاستنساخ ، وبدونه يكون البحث مجرد كلام عام ، يحتمل ويحتمل ، بل إننا لا نستطيع أن نطلق عليه كلمة ) بحث ( بالمعنى الدقيق للكلمة . والمقصــود " بالواقعية ": هو إمكانية الإنجاز على الوجه الأكمل في زمن معلوم . ذلك أن كثيرا مما يسمى ) بحثا ( لو اتبع في إنجازه المنهج العلمي لاستغرق عمر الباحث كله وزيادة . فقد يكون البحث مبنيا على إشكال مهم ، خادم لمشروع حضاري كبير ، غير أنه ليس بواقعي ، لأن إنجازه بالنسبة إلى فرد واحد عمل مستحيل ، صحيح أنك تجد بحوثا واسعة جدا قد أنجزت مـن طرف فلان أو فلان ، ولكن كن على يقين أن أغلب ما يتوصل إليه فيها من نتائج ، إنما هو عبارة عن انطباعات ليس إلا . 6- الضابط المنهجي : لاشك أن طبيعة الإشكال هي التي تحدد المنهج المتبع في الدراسة ، ولذلك فإن أي إختبار للإشكال ، هو إختبار للمنهج ، وعليه كان من أوجب الواجبات ، إستحضار الضابط المنهجي في أي عملية إختيار لمشكلة البحث لأنه مسؤول عن تحديد صلاحية الموضوع أولا للمرحلة العلمية الحاضرة ، إلى جانب ضابط الأولويات ، ولأنه مسؤول ثانيا عن تقويم عوائق الإشكال وتقديم تصور أولي عن خطة العمل ومراحل الإنجاز ، وكيفيته . فما المنهج إذن ؟ أما في معاجم اللغة ، فالنهج والمنهج والمناهج : الطريق الواضح . ونهج الطريق ، أنهج واستنهج وضح . وكذا نهج الطريق وأنهجه : أبانه وأوضحه . ونهجه : سلكه . أما في الاصطلاح العلمي فهو باختصار : نسق من القواعد ، والضوابط التي -7- تُركب البحث العلمي و تُنظمه . ويُعرف الدكتور عبد الرحمان بدوي المنهج بأنه " الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة ". إن الباحث المسلم هو أولى الناس بإنهاج عمله العلمي ، خاصة وأن المذهبية الإسلامية إنما تُقدم للناس منهاج حياة . " فالإنهاج الحضاري " هو وظيفة الرسالة الربانية للبشرية ، وهو يتضمن فيما يتضمن ، إنهاج التفكير ، وإنهاج البحث ، وإنهاج العمل . وثمة آيات كثيرة تشير إلى هذا المعنى الكلي لرسالة الإسلام ، منها قوله تعالى " أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ، أمن يمشي سويا على صراط مستقيم ". فالإسلام إذن صراط مستقيم ، ونور يمشي به المؤمن بين الناس ، إنه منهج ، ذلك أن المؤمن في الحياة يمشي سويا علـى صراط مستقيم ، مسترشدا بنور الهداية ، وعن يمينه وشماله ظلمات ، ضل بها أقوام فهم يخبطون على غير هدى . إن المنهجية في البحث العلمي إذن ، ليست ضرورة تقنية فحسب ، ولكنها ضرورة إيمانية أيضا !. إن عليك أن تعلم ماذا ستصنع في دراسة إشكالك المختار ، قبل أن تشرع فيها : هل سَتُحَقِّق ؟ هل ستصف ؟ هل ستُحصي وتستقرئ ؟ أم هل ستُحلل وتُعلل ؟ أم أنك ستؤرخ ؟ أم ستصنع بعض هذا وذاك ؟ إن الجواب عن هذه الأسئلة يعني : استحضار الضابط المنهجي في اختيار إشكال البحث ، ولذلك وجب على الطالب الباحث ، أن يكون عليما بمناهج البحث العلمي إلى درجة تُبلغه رتبة الإجتهاد فيها أو تكاد ! . -8- البحث الثاني : عملية المنهج بين العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية . إن الحديث عن ) المناهج العلمية ( في إطار الدراسات الإسلامية ، يوقفنا أمام المشكل الحضاري للمنهجية على العموم ، ذلك أن المنهج إنما هو وليد المذهب الذي أفرزه ، والقول باستقلال المنهج استقلالا تاما ، إنما هو جهل أو افتراء . والمناهج العلمية المتحدث عنها اليوم في الكتابات العربية المعاصرة ، وهي في أغلبها المناهج التي أنتجتها أو أعادت إنتاجها المذاهب الغربية ، ولذلك فهي تتميز بطابعها العلماني . والغرب تقدم بشكــل كبير في ميدان ) المنهجية أو علم المنهج ( = (Méthodologie) والإضراب عن ذلك كله ، حكم على الذات بالإقامة الجبرية ، كما أن فتح الباب على مصراعيه كما يرى البعض ، تهور ناتج عن الانبهار والاستلاب الحضاريين . ولذلك فإننا الآن في أشد الحاجة إلى موقف صلب ، موقف ينبني على مبدأين : مبدأ التحدي والاعتزاز بما لدينا من تراث زاخر بأصول منهجية إسلامية ، بإمكانها أن تؤطر فكر المسلم المعاصر في أبحاثه و علومه كلها ، لو عمل حقا على استخراجها و تركيبها ببذل الجهد في فهم الذات ودراستها . ومبدأ الاستفادة من الغرب منهجيا عن طريق ما يسمى بالاستصلاح ) وهو يعني عند الأصوليين منهج الاستنباط عن طريق إعتبار المصالح المرسلة ( بدل الأسلمة . وسنحاول أن نبين حدود ومظاهر ) العلمية ( المتعلقة بمناهج العلوم الشرعية . أولا : المشكل المنهجي لقضايا الإنسان في العلوم الإنسانية : إن أحادية التطور الذي عرفته المناهج العلمية في الغرب " لتبلورها في إطار علوم الطبيعة ابتداء " جعلتها تطمع في اكتساب خصائص العلم الطبيعي ، مما أدى إلى نشوء إشكال تطبيق المنهجية العلمية في ميدان علوم الإنسان . ورغم أن أغلبية العلوم الطبيعية تعتمد على المنهج التجريـبـي في البحث ، -9- الطبيعية . وقد كانت " المدرسة السلوكية " في علم النفس ، " والمدرسة الوضعية " في علم الاجتماع ، "والمدرسة التوثيقية " في علم التاريخ هي أبرز تجليات هذا الاتجاه . إلا أن فريقا من العلماء عارض ذلك ، مُبينا استحالة تطبيق المنهج العلمي أصلا في علوم الإنسان ، وصعوبة الوصول إلى نتائج موضوعية بواسطته . وجوهر الإشكال كما ذكره ) فلاديمير ( هو أن " العلم – وهو الحَكَم الموضوعي نسبيا تجاه كل ما يهم الطبيعة عموما – يفقد حتما قِسما من هذه الموضوعية منذ أن يُصبح بآن واحد مشاهدا وعاملا ، حكما وفريقا ". ثانيا : المسألة المنهجية لقضايا الإنسان في العلوم الشرعية : يمكن الآن طرح السؤال التالي : إلى أي حد يمكن تشكل عائق الذاتية في الجانب الإنساني من العلوم الشرعية ؟ بل هل يمكن الحديث عن فشل الضبط المنهجي في إطارها ، بسبب العائق المذكور ؟ إن الإنسان هو أحد مواضيع العلوم الشرعية ، وإذا بدا أنها تنصرف إلى غير ذلك أحيانا – كما في التفسير مثلا – فإن المقصود الأصلي في نهاية المطاف ، هو الإنسان ، لأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لمصالح العباد في المعاش والمعاد كما قرره غير واحد من العلماء . فإذا كان المقصود بالعلوم الإنسانية إنما الدراسات التي تدرس الإنسان فردا وجماعة من أجل مصلحته وتطوير حياته نحو الأفضل ، فإن العلوم الشرعية أكثر إنسانية من العلوم الإنسانية ، ولا نظن أن هذه الأخيرة قد حققت كثيرا مما قامت من أجله ، بل ما زالت عاجزة عن تفسير وتوجيه أغلب قضايا الإنسان ، بينما العلوم الشرعية قد -10- الشرعية ، رغم أنها " إنسانية " في مقاصدها ، فهي ربانية في منطلقاتها ، وهذا سر تميزها وسبب نجاتها من كثير مما تتخبط فيه العلوم الإنسانية مــن عوائق منهجية . وعليه ، فقد وجب أن نعرف الآن وضعية " الظاهرة الإنسانية " في العلوم الشرعية إزاء أخطر ما عرفته من عوائق منهجية في العلوم الإنسانية كما أوردناه سالفا ، مختزلين إياها في أربع قضايا : 1- عائق الذاتية : وهو يتجلى في إتباع الهوى لدى دراسة الظواهر والحكم عليها من جهة ، وفي تداخل الذات والموضوع لأنهما واحد ، فتحجب الرؤية الواضحة المستقلة من جهة أخرى . ونحن نذكر ههنا أن علماء الإسلام لم يكونوا يُغيبون الضابط التعبدي في أبحاثهم ودراستهم على الإجمال ، ومن شذ عن ذلك سقطت عدالته بين المسلمين فلم يأخذ عنه أحد . والضابط التعبدي هو أضمن وسيلة لتجرد العالم عن داعية هواه ، حتى إذا حكم بالعدل والنصوص القرآنية والحديثية الداعية إلى إلتزام العدل مستفيضة جدا . وهكذا كانت الاستجابة للموضوعية العلمية في البحث العلمي لدى المسلمين استجابة طبيعية ، لأنها تنبع من قناعة التعبد ، وهي قناعة مبنية على صفاء النية وتجردها لله . فالإنسان المسلم عموما يتدرب في تعبده على " محاسبة " نفسه ، و " المحاسبة " من المقامات التربوية العظيمة في الإسلام ، إنها محاولة عزل الذات عن الذات ، أي محاولة تقوية " النفس اللوامة " على حساب " النفس الأمارة بالسوء " لأن اللوامة هي المسؤولة عن تربية الفرد على النقد الذاتي ، أما الأمارة فتعني إخضاع -11- 2- صعوبة التحكم في الظاهرة الإنسانية : إما لتركيبها المعقد ، أو لتفردها في الزمان والمكان ، فالظاهرة الإنسانية متداخلة العناصر بين ما هو اقتصادي واجتماعي ونفسي وسياسي . لذلك يصعب فصلها بدقة ، وعزلها للحكم عليها . بيد أن لنا في المناهج العلمية المطبقة في العلوم الشرعية منطلقات جد متطورة ودقيقة تُعنى بضبط الظواهر الإنسانية وعزلها ودراستها بشكل علمي متميز رغم تشابكها وتداخلها . وذلك يتجلى لدى الأصوليين خاصة من خلال القواعد التالية : أ- تنقيح المناط : فالتنقيح هو التهذيب والتشذيب ، والمناط هو العلة ، والمراد هو : " أن يكون هناك علة للحكم قد تستفاد من مجموع ما اشتمل عليه ، فيتعرف الوصف الذي يصلح علة من بين هذه الأوصاف ، ويستبعد الوصف الذي يكون غير مناسب ، حتى ينتهي المجتهد إلى الوصف المناسب الذي يصلح علة ". ب- تحقيق المناط : وهو النظر في معرفة وجوده في آحاد الصور التي ينطبق عليها ، ويدخل في عمومها بعد أن تكون العلة نفسها قد عُرفت بطرق المعرفة المختلفة كالعدالة ، فإنها مناط الالتزام في الشهادة ، ولكن كون الشخص عدلا أو غير عدل يُعرف بتحقيق المناط ، والاجتهاد الفقهي يعرف العدل من غيره . فههنا يكون المُعطى حاصلا في الذهن ، فننظر إلى مدى استجابة الواقع له لتنـزيله عليه . إن تحقيق المناط قاعدة منهجية دقيقة للبحث في صلب الواقع الاجتماعي والإنساني ، تعمل على رصد مكوناته واستجماع عناصره واعتباره جزء للخلوص إلى صورة حقيقية عن وضعه الكلي . -12- أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم أمر بالاعتبار بسنن الله في الكون التي إذا تم استنباطها أمكن التحكم أكثر في مختلف الظواهر المتغيرة ، لأنها قوانين عامــة ثابتة . 3-الليونة الاصطلاحية : إذا كانت العلوم الإنسانية مطاطة بطبيعتها ، غير دقيقة في ظواهرها ، ولذلك كانت مصطلحاتها منها وإليها ، فإن العلوم الشرعية دقيقة جدا لأنها علوم تقعيدية في أغلبها ولأنها تحاول فهم الظواهر من منطلقات ثابتة لا تتحول ولا تتبدل ، وهي النصوص القطعية والصحيحة ، بيد أن الفهم إنما يكون بواسطة الاجتهاد طبعا ، تخريجا وتنقيحا وتحقيقا . ولذلك كانت الدقة المصطلحية عند علماء الإسلام راسخة جدا خاصة لدى المحدثين : رواه ونقادا . 4-القياس الكمي لما هو كيفي : وهذه مغالطة كبرى تسبب عائقا وهميا للعلوم الإنسانية بسبب لهث علمائها وراء المناهج الطبيعية استجابة للانبهار بنتائجها الكبيرة ، فمالت كثير من المدارس إلى اعتبار الظاهرة الإنسانية ظاهرة مادية . وعليه فيجب إذن أن تقاس بميزان الحرارة أو بعداد السرعة أو الكهرباء ! إن الظاهرة الإنسانية مهما دققنا في مناهج البحث فيها ستبقى إنسانية ، ومن الخطأ المنهجي ذاته أن تخضع بشكل حرفي للمناهج الطبيعية ، لأن الفرد أو الجماعة ما كان ولن يكونا في يوم من الأيام قطعة حجر أو معدن أو شريحة لحم أو عظم تدخل تحت المجهر وتحلل في المختبر ، لأن النفس -13- الإنسانية مركبة من عوالم لا يُحصي آفاقها إلا خالقها . صحيح أنه يجب الاستفادة من المناهج الطبيعية ، ولكن بما يناسب الظاهرة الإنسانية . أما فيما يخص العلوم الشرعية فهي حيثما تتعلق بالجانب الإنساني أدق و أضبط من علوم الإنسان بمصطلحاتها وأدواتها المنهجية ومنطلقاتها المذهبية . ومع ذلك فإننا ندعو إلى الاستفادة مـن المنهجية الطبيعية في طرائقها الكمية في حدود ما تحتمله العلمية ، وبعيدا عن الغلو الذي قد يؤدي إلى اعتبارها قطعا ميكانيكية ، لا روح فيها ولا نفس . الفصل الثاني : تصنيف المناهج العلمية في العلوم الشرعية . إختلف تصنيف مناهج البحث من دارس لآخر ، إما بسبب اختلاف المجالات العلمية التي درست في إطارها ، كما هو الشأن بالنسبة لمناهج البحث الأدبي مع مناهج البحث الاجتماعي أو النفسي أو العلمي ، وإما بسبب تبني بعضهم لمناهج نموذجية رئيسية ، وإعتبار المناهج الأخرى جزئية . وقد أورد الدكتور بدر عدة تصنيفات لمؤلفين غربيين وآخرين عرب ، كتصنيف " هويتني " الذي جعل المناهج سبعة وهي : 1-المنهج الوصفي : ويتضمن المسح ودراسة الحالة ، وتحليل الوظائف ، والوصف المستمر على فترة ، والبحث المكتبي والتوثيقي . وهو منهج يعتمد على تجميـع الحقائق والمعلومات ، ثم مقارنتها وتحليلها وتفسيرها ، للوصول إلى تعليمات مقبولة . 2-المنهج التاريخي : وهو يعتمد على التوثيق والتفسير للحقائق التاريخية . 3- المنهج التجريبي : وعناصره ، الملاحظة ثم الفرض ثم التجربة ثم التعليم أو القانون . -14- 5-البحث التنبؤي : وهو الدراسة المستقبلية . 6-البحث الاجتماعي : وهو الذي يختص بالظاهرة الاجتماعية . 7-البحث الإبداعي : وهو الذي يُعنى بعملية الإبداع هي العلم والفن والأدب وأسبابها . |
أما بالنسبة لعبد الرحمان بدوي قسمها إلى ثلاثة وهي :
1-المنهج الإستدلالي ، أو الرياضي " الذي نسير فيه من مبدأ إلى قضايا تنتج عنه بالضرورة دون إلتجاء إلى التجربة ، وهـو منهج العلوم الرياضية خصوصا ". 2- المنهج التجريـبـي . 3-المنهج الاستردادي ، أو المنهج التاريخي . وأما محمود قاسم فصنفها حسب مجالاتها العلمية إلى أربعة وهي : 1-منهج البحث في الرياضيات . 2-منهج البحث في العلوم الطبيعية . 3-منهج البحث في علم الاجتماع . 4- منهج البحث في التاريخ . أما الدكتور رشدي فكار فقد صنف المناهج مطلقا إلى ثلاثة هي : 1-المنهج التاريخي : وقد قسمه بدوره إلى قسمين من حيث الاستعمال . أولا : " المنهج التاريخي كطريقة بحث " ، وهـو الذي يُعنى بالتأريخ للعلوم جميعها ، عبر التساؤلات الثلاثة : كيف نشأ ؟ وكيف تطور ؟ ثم كيف آل ؟ ثانيا : " المنهج التاريخي كقدرة شرح " ،وهذا يخص الدراسات التاريخية ، وقد ميز فيه بين ثلاثة مستويات : -15- ب- منهج عالم التاريخ : الذي يهدف إلى تصحيح التاريخ وغربلته مما علق به من تغميض المؤرخين وتذوقاتهم وانتماءاتهم . ج- فلسفة التاريخ : التي تُعنى ب " تعليل الواقع والأحداث الصحيحة " 2- المنهج السيسيولوجي : ويختصره في ثلاثة إتجاهات هي : أ- البنيوية الوظيفية . ب- الجدلية المادية . ت- الجدلية الأمبريقية ) الواقعية ( . 3 ـ المنهج التحليلي : وهو يهتم بدراسة العلوم التي تعتمد على قواعد وأنسقة في التحليل . هذا وقد إقترح الدكتور رشدي فكار هذه المناهج الثلاثة خاصة ، للتطبيق في الإسلاميات وذلك أن المنهج التاريخي كقدرة شرح يمكن أن يُغطي الإطار الحضاري للمجتمع الإسلامي منذ النشأة حتى اليوم ، وأما المنهج السيسيولوجي " خاصة الجدلية الأمبريقية " فهو صالح لدراسة المجتمعات الإسلامية ، وأما المنهج التحليلي فيستعمل في العلوم الإسلامية القاعدية أو النسقية . ولذلك يمكن إستئناس هذا المنهج أساسا في غالبية العلوم الفقهية والحديثية والتفسيرية وما حول ذلك ، لأنها علوم تحتكم إلى قاعدة قرآنية أو سنة أو نسق في الإجتهاد للأئمة الأربعة . ولعل هذا الإقتراح الذي قدمه الدكتور رشدي فكار غير جامع ، فثمة بحوث إسلامية قد لا تجد مكانها بين المناهج الثلاثة . فأين نضـع البحوث التحقيقية مثلا ؟ وهي على رأس أولويات البحث العلمي في الدراسات الإسلامية ، فلا -16- - التصنيف المقترح في إطار العلوم الشرعية : ونحن ههنا نقترح أن تُصنف مناهج البحث في إطار العلوم الشرعية إلى أربعة مُراعين في ذلك طبيعة الدراسات الإسلامية وخصوصياتها وهـي : المنهج الوصفي ، المنهج التوثيقي ، المنهج الحواري ، ثم المنهج التحليلي ، ولتفصيلها أفردنا كل منهج منها في مبحث مستقل . المبحث الأول : المنهج الوصفي . والمنهج الوصفي : عملية تُقدَّم بها المادة العلمية كما هي ، في الواقع إنه عمل تقريري يعرض موضوع البحث عرضا إخباريا بلا تعليل أو تفسير . ولذلك فإنه يكون في نهاية المطاف عبارة عن دليل علمي . فالمنهج الوصفي إذن يقوم على استقراء المواد العلمية التي تخدم إشكالا ما أو قضية ما وعرضها عرضا مرتبا ترتيبا منهجيا ، وقد يكون الوصف تعبيريا فيسمى " العرض " ، أو يكون رمزيا فيسمى " التكشيف ". أ- العرض : وهو بدوره يمكن أن يصنف إلى نوعين : أ-1- البحث المرجعي ) الببليوغرافيا ( : وهو يعني إعداد سجل علمي للإنتاج الفكري المكتوب ، سواء كان مخطوطا أو مطبوعا ، وهذا عمل عرفه علماء الإسلام منذ القديم تحت اسم " الفهرست " أو " الثبت " أو " البرنامج ". وهو عمل ضروري لكل باحث ، سواء كان مبتدئا أو كان من الراسخين . هذا ويمكن أن نصنف البحث المرجعي إلى أربعة أنواع : -17- الثاني : المرجعية الوصفية : وهي أكثر تفصيلا من الأولى ، فزيادة على المعلومات الظاهرة للكتاب ، نتطرق ههنا إلى مضمونه على الإجمال . الثالث : المرجعية الموضوعية : وهذه كذلك أكثر تفصيلا من سابقتها ، إذ نركز ههنا في إطار المضمون ، على فكرة معينة أو إشكال معـين أو قضية جزئية . وذلك لخدمة موضوع ما يراد دراسته استقبالا . الرابع : المرجعية النقدية أو التقويمية : وهنا بالإضافة إلى ما تقوم به في المرجعية الوصفية نعمد إلى تقويم إجمالي للكتاب بذكر مزاياه ونقائصه . مصادر البحث المرجعي : ومصادر البحث المرجعي هي المعتمدات الأولى التي ينطلق منها الباحث لجمع مرجعيته المقصودة وإعدادها . وهي : 1-فهارس الخزائن والمكتبات العمومية وما شابهها . 2-الفهارس المطبوعة عن الكتب المطبوعة . 3-الفهارس المطبوعة عن المخطوطات . 4-فهارس المرويات والسماعات . 5-كتب الطبقات والوفيات وأشباهها . 6- معاجم المؤلفين : وهي كتب تهتم بذكر العلماء من حيث كونهم صنفوا كتبا ، مع ذكر مصنفاتهم تلك . 7-الدوريات : وهو مجلات فصلية أو سنوية ، تُعرض فيها المرجعيات المختلفة أو المتخصصة . أ-2- التقرير العلمي : وقد يكون على وجهين : - الوجه الأول : هو تقديم صورة علمية عما هو واقع ، كوصف مادة علمية ، -18- - الوجه الثاني : وهو تقديم صورة علمية عما هو متوقع : ويدخل تحته كل التقارير العلمية التي تقدم لتسجيل الرسائل والأطروحات الجامعية . ب- التكشيف : أو الفهرسة . وهو عمل وصفي يهدف إلى وضع دليل يتوصل بواسطته إلى مختلف المعلومات المذكورة في كتاب أو أكثر ، فيسمى كشافا أو فهرسا . وقد ذهب الدكتور عبد الهادي الفضلي إلى التمييز بين نوعين من الفهارس : - الأول فهرس خاص : وهو الذي يتضمن العناوين العامة لموضوعات الكتاب ، من أبواب وفصول وأمثالها . وقد يُفصل أكثر فَتُذكر فيه جزئيات الأبواب والفصول فيسميه " الفهرس التفصيلي ". - الثاني فهرس عام : وهو المشتمل على عدة فهارس تتضمن كل المعلومات الواردة في الكتاب المفهرس من أعلام وكتب وغيرها ويسمى هذا " الفهرس التحليلي " هذا ويمكن أن نتحدث ههنا عن كشاف من نوع آخر وهو : - الكشاف الموضوعي للعلوم الشرعية : وهو مشروع علمي يهدف إلى وضع دليل معجمي للموضوعات المدروسة لدى القدماء لتقريبها ما أمكن إلى الباحثين والمفكرين المعاصرين . والفرق بين " التقرير العلمي " و " التكشيف ". هو أن الأول يقوم على وصف المادة الموضوعية أو إستخراج النصوص وتصنيفها . بينما الثاني يكتفي بسرد أرقام الصفحات التي وردت بها المعلومات المكشفة ، إستقراء مع تصنيفها كذلك فهو وصف يقوم على الرموز لا على التعبير . -19- المبحث الثاني : المنهج التوثيقي : وهو طريقة بحث تهدف إلى تقديم حقائق التراث ، جمعا أو تحقيقا أو تأريخا . فالملاحظ من خلال التعريف أن المنهج التوثيقي يجمع بين ثلاثة معان ، بعضها يخدم البعض الآخر . وتفصيلها كما يلي : أ- الجمع : ونعني به جمع أطراف أو أجزاء جسم علمي ما ، متناثرة في أحشاء التراث ، وإعادة تركيبها تركيبا علميا متناسقا . وأهم خطوات طريقة الجمع هي كالتالي : أولا : الإستقراء التام للمادة في مظانها : وذلك بتتبع جميع المصادر التي ذكرت الكتاب المفقود أو الكتاب أو صنفت في نفس المجال العلمي ، أو تطرقت إلى بعض قضاياه ، بدأ بعصر المؤلف حتى عصر الباحث . ثانيا : التوثيق : لا بد قبل توثيق المادة من تصنيفها أو تكميل تصنيفها ذلك أن الجمع الإستقرائي عادة ما يكون عملا مصنفا للمادة، ونقصد بالتصنيف ههنا توزيع المادة العلمية وتجزيئها حسب مقاصدها الجزئية . ولا بد في التوثيق من الإستفادة من منهج المحدثين في النقد ومنهج الأصوليين في التعديل والترجيح ، وعليه فإن ضوابطه العامة يمكن أن تكون كما يلي : أ-1- دراسة أسانيد المرويات : متى كان لها أسانيد ، ومحاولة قياسها بضوابط الحديث الصحيح التي هي : إتصال السند بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ أو علة ، حتى يتبين ما هو صحيح النسبة إلى المؤلف وما هو حسنها أو ضعيفها . أ-2- دراسة متون المرويات : لمعرفة مقاصدها ، وينبني على ذلك زيادة تأكد من نسبتها صحة أو ضعفا . أ-3- حيث تتعدد النصوص المروية في المعنى الواحد وتتفق في معناها الإجمالي ، -20- أ-4- وفي حال تعارض النصوص ، تراعى مرجحات أخرى تختلف باختلاف المجالات العلمية في الدراسات الإسلامية . ثالثا – إعادة التركيب : فإذا استوت المادة إستقراء وتوثيقا أمكن حينئذ إعادة تركيبها ، أي بناؤها على الشكل الذي كانت عليه في أصلها . وإعادة التركيب غير التصنيف ، ذلك أن هذا الأخير إنما يُعنى بتوزيع المادة حسب مقاصدها أو غير ذلك بضم الأشباه والنظائر بعضها إلى بعض . أما إعادة التركيب فهي أعلى من ذلك وأدق ، لأنها تعنى بنظم المادة في النسق العلمي أو الهيكل العلمي الذي وضعت فيه . ب-التحقيق : وهو الصورة الثانية للمنهج التوثيقي ، ويقصد به : بذل غاية الوسع والجهد لإخراج النص التراثي مطابقا لحقيقة أصله نسبة ومتنا مع حل مشكلته وكشف مبهماته . والتحقيق بهذا المعنى ليس علما مستحدثا ، وليس وليد المنهجية الغربية كما قد يظن ، ولكن انتقل إلى أوروبا كما انتقل كثير من المناهج الإسلامية ، وإنما المستحدث فيه هو الجانب المتعلق بالنشر والطباعة . وفيما يلي شروط وضوابط عامة للتحقيق ، نختصرها فيما يلي : - أما بالنسبة لما يتعلق بالمحقق فيشترط فيه ما يلي : 1- أن يكون عالما بعلوم العربية ، نحوها وصرفها وفقهها ، وهذا شرط ضروري لمن يحقق نصوص التراث الإسلامي العربي . -21- التحقيقات على اختلاف أنواعها . 3-أن يكون على علم بالخطوط العربية وتطورها التاريخي وطرائق النسخ القديمة والأدوات المستعملة للكتابة . 4- أن يكون عالما بقواعد وأصول التحقيق والنشر . 5- أن يكون مختصا بالمجال العلمي الذي هو موضوع المخطوط ، فلا يعقل أن يقوم عالم بالعربية بتحقيق مخطوط في الحديث أو العكس . ذلك أن لكل علم رجاله . وأما بالنسبة لما يتعلق بالمخطوط المراد تحقيقه فلابد مما يلي : 1-ألا يكون قد حقق من قبل تحقيقا علميا . 2-أن يكون المخطوط ذا قيمة علمية. مراحل التحقيق : لتحقيق المخطوط تحقيقا علميا ، لابد من إنجاز ذلك عبر ثلاث مراحل هي : أولا : جمع النسخ : أي جمع نسخ المخطوط سواء الموجودة منها في العالم الإسلامي أو الغربي ، وذلك بالرجوع إلى فهارس المخطوطات في العالم . ثانيا : تعيين النسخة المعتمدة أو النسخة الأم ، والنسخ المساعدة . فأما المعتمد فهي التي سوف تُنقل عنها النسخة المسودة . أما المساعدة فهي التي سوف تعتمد في التصحيح والتصويب . ثالثا : ضبط الكتاب وذلك بتوثيق نسبته إلى مؤلفه ، وتحقيق عنوانه ، وتحقيق الاسم الكامل للمؤلف ، حتى لا يشتبه مع غيره ، ثم تحقيق المتن . ج- التأريخ : أما استعمال ) المنهج التوثيقي ( بمعنى التأريخ ، فيقصد به الوظيفة الإستردادية -22- |
أساسا ، لأن مهمة المنهج التاريخي ، أن يقوم بوظيفة مضادة لفعل التاريخ ، في محاولته لاسترداد ما كان في الزمان ، لا ليتحقق فعليا في مجرى التاريخ ، فهذا ليس بوسع أي كان ، وإنما استعادة ما جرت عليـه أحداث التاريخ بطريقة عقلية ، ويمكن أن يستعاد نظريا بنوع من التركيب ابتداء مما خلفه من وقائع ، وذلك بالاعتماد على الآثار المتخلفة عن الأحداث التاريخية " الوثائق " التي يعتمد عليها هذا المنهج إعتمادا كبيرا .
ويمكن أن نقسم صور البحث التاريخي في الدراسات الإسلامية إلى قسمين . 1- الدراسات السكونية : ) السنكرونية ( . وهي تهتم بالبحث في فترة مقتطعة من تاريخ علم ما ، وصفا وتفسيرا ، أو نقدا أو كل ذلك جميعا . فالباحث في هذا النوع من الدراسة لا يهتم بالجانب التطوري لإشكاله العلمي ، بقدر ما يهتم بوصفه وتفسيره ، أو نقده في فترة من فتراته التاريخية ، إنه إذن يتصور الإشكال ذاك في حالة سكون ، غير مهتم بما كان عليه ن قبل فترته الخاضعة للدرس . ولا بما سيؤول إليه بعدها ، وإنما يبحث في واقعها المنحصر في ضــوء المدة الزمنية المحددة . فالباحث يكــون كالعالم الأثــري ) الأركيولوجي ( الذي يدرس الوثائق الأثرية ليخبرنا عن بعض حقائق الفترة التي تنتمي إليها . 2- الدراسات التطورية : ) الدياكرونية ( : وهي تهتم بالبحث في الإشكال من حيث حركته التطورية ، وصفا أو تعليلا و تفسيرا ، أو نقدا ، أو كل ذلك جميعا . إنها تنظر إلى القضايا العلمية عبر مراحلها الثلاث : كيف كانت ، وكيف صارت ، وكيف ستؤول . فهي لا توقف عجلة التاريخ ، بل تستفيد من حركتها ، وترصد الظاهرة من خلالها . -23- المبحث الثالث : المنهج الحواري : في الإصطلاح المنهجي نقصد بالحوار العملية العلمية المبنية على الأخذ والعطاء ، أو التقابل والتناظر بين قضيتين أو أكثر . إنه نسق مبني على رصد علاقات الإختلاف ، أو الائتلاف في الدراسات المقارنة والوظيفية والجدلية . فالمنهج الحواري إذن منهج يقوم على دراسة التفاعل الحاصل بين القضايا العلمية من خلال الصور المذكورة . وعليه فإنه يمكن أن يتجلى في ثلاث صور هي : أ- طريقة المقارنة : وهي التي بواسطتها تنجز الدراسات المقارنة في شتى المجالات : الأصولية أو الفقهية أو الحديثية … إلخ . والدراسات المقارنة : هي البحوث التي تسعى إلى إبراز مواطن الوفاق أو الخلاف بين قضيتين أو قضايا في موضوع واحد ، مع تفسير ذلك وتعليله . ولابد في هذا النوع من الدراسة من أمرين : أولا : الاشتراك : ويعني أنه لابد من كـون القضيتين أو القضايا الخاضعة للمقارنة ، قد عرفت نفس الإشكال ، سواء على المستوى المنهجي أو المستوى الموضوعي . ثانيا : المقابلة التزامية : وهذه إنما تكون لدى إنجاز الدراسة المقارنة ، والمقصود من " المقابلة " أن يتم النظـر إلى عناصـر المقارنة في أجزاء الموضـوع بمنهـج " تقابلي " بحيث يقوم الدارس بمناظرة لوحات الموضوع ، ومقابلتها لمعرفة عناصر الإختلاف والائتلاف فيها ، ثم إبراز ذلك بشكل " تزامـني " أي في نفس الوقت . أ- الطريقة الوظيفية : وهي تهتم بدراسة وظائف القضايا العلمية ، أي أن الإشكال العلمي المقصود في البحث الوظيفي هو العلاقات التأثيرية أو التأثرية أو كلاهما معا ، التي يتوفر عليها هذا الموضوع أو ذاك . -24- ب " الديالكتيك الأمبيريقي " الذي لا ينطلق من مبيتات كما هو الحال في الجدلية المادية : تركز على البنيات والصراع الطبقي ، وأولوية العامل الإقتصادي وأنماط الإنتاج ، والإحتكام لفلسفة التاريخ . وإنما يعطي أولوية للواقع دون مبيتات . المبحث الرابع : المنهج التحليلي : وهو منهج يقوم على دراسة الإشكالات العلمية المختلفة ، تفكيكا أو تركيبا أو تقويما ، فإن كان الإشكال تركيبة منغلقة ، قام المنهج التحليلي بتفكيكها ، وإرجاع العناصر إلى أصولها . أما إذا كان الإشكال عناصر مشتتة ، فإن المنهج يقوم بدراسة طبيعتها ووظائفها ، ليركب منها نظرية ما أو أصولا ما أو قواعد معينة . كما يمكن أن يقوم المنهج التحليلي على تقويم إشكال ما ، أي نقده . ويتلخص المنهج التحليلي في عمليات ثلاث قد تجتمع كلها أو بعضها في العمل الواحد . وهي : التفسير : وقد عبرنا عنه بالتفكيك ، والنقد : وقد عبرنا عنه بالتقويم ثم الإستنباط ، وقد عبرنا عنه بالتركيب ، أما تفصيل ذلك فهو كمــا يلي : أ- التفسير : وهو عرض الأعمال العلمية على سبيل التأويل والتعليل ، وهو عمل علمي جليل ، ذلك أن التراث الإسلامي اليوم محتاج فيما هو محتاج إليه ، إلى فهم صحيح لمقاصده من خلال مصطلحاته ونظرياته . وعليه فإنه من الممكن أن نتصور العملية التفسيرية على مستويين : الأول بسيط والثاني مركب . -25- أما المستوى البسيط فهو شرح القضايا العلمية بتحليل نصوصها وتأويل مشتبهاتها بحمل بعضها على بعض تقييدا وإطلاقا ، أو تخصيصا وتعميما . أما المستوى المركب فهو محاولة تعليل الظواهر بإرجاع القضايا إلى أصولها ، وربط الآراء بأسبابها وعللها . ب- النقد : إن النقد هو عملية تقويم وتصحيح وترشيد ، وهو كذلك محاكمة إلى قواعد متفق عليها أو إلى نسق كلي . ج- الاستنباط : والمراد به هنا الإستنساخ الإجتهادي والتجديد العلمي . وعليه فإنه بالإمكان أن نصنف صور الإستنباط إلى نوعين : النوع الأول : الإستنباط الجزئي وهو الإجتهاد المتعلق بقضايا جزئية في أحد المجالات العلمية ، على أساس الإبتكار والتجديد . النوع الثاني : الإستنباط الكلي : وهو الإجتهاد المتكامل الأجزاء ، الشمولي النظرة ، الذي يهدف إلى " تركيب " أو " وضع " نظرية علميــة . أمــا " التركيب " فهو المادة العلمية ، من التراث ، وسبكها في نسق يجعل منها وحدة متكاملة ، بشرط ألا تكون النظرية قد عرفت عند أحد القدماء . وأما " الوضع " فهو الإنشاء الإبتدائي لنظرية علمية في مجال ما ، أي إبتكارها كليا على أساس إشكال جديد . المبحث الخامس : في منهج توظيف المنهج . لا أحد يماري في تداخل العلوم الشرعية وعلاقات التأثير والتأثر التي تربط بينها جميعا ، ففي علوم القرآن والتفسير ندرس قضايا كثيرة مما ندرس في علم أصول الفقه ، وندرس في هذا كثيرا مما ندرس في علم الفقه ، وعلوم الحديث ، وعلم الكلام وعلوم اللغة … إلخ . -26- أما في إطار البحث في العلوم الشرعية فإنا نقول : رغم التداخل الموضوعي والمنهج الحاصل بينها جميعا منذ القديم ، فإنها ظلت محافظة علـى استقلال فروعها ، وتميز بعضها عن بعض . إذن بالنسبة إلى توظيف المنهج العلمي لدراسة العلوم الشرعية ، لابد من إعتماد منهج رئيس ينبني عليه البحث ، ويُطبـع بطابعه ، ثم بعد ذلك لا مانع من الإستفادة من المناهج الأخرى إذا دعت الحاجة إلى بعض قواعدها ، مادام ذلك لن يغير اللون المنهجي للبحث . الفصل الثالث : تقنيات البحث العلمي . وهي ثلاث مراحل ندرس كل واحدة منها في مبحث مستقل : المبحث الأول : المرحلة الإبتدائية : وهي في أربع خطوات : المرجعية ، والتقرير ، والتقميش والإعداد . أولا : المرجعية : بعد تحديد الموضوع ، انطلاقا من الضوابط والقواعد المذكورة قبل ، يشرع الباحث في إعداد رصيد مكتبي ، وبتقييد المعلومات الدقيقة ، وذلك بإعداد مرجعية ببليوغرافيا وافية ، مبنية على منهج البحث المرجعي . فبعد تقييد المعلومات الشكلية للكتاب ، كعنوانه واسم مؤلفه وطبعته أو طبعاته … إلخ ، يتم تقييد المعلومات الموضوعية عنه ، أي مواطن الفائدة منه ووجهها . ثانيا : التقرير : ثم يشرع بعد ذلك في كتابة التقرير العلمي ، ويمكن أن نجمل أهم عناصر التقرير فيما يلي : -27- ب- هدف البحث : ويمكن وصل الكلام عنه انطلاقا من العنوان . ج- دوافعه الذاتية والموضوعية : فالأولى هي المتعلقة بذات الباحث ، والثانية هي المتعلقة بفكرة الموضوع وإشكاله وواقع المجال العلمي الذي يبحث في إطاره . د- المنهج المقترح إعتماده : وذلك إنطلاقا من المقاييس المنهجية المذكورة بهذا الكتاب لمعرفة مدى قابلية الموضوع للإنبناء على قواعد المنهج المقترح . ه- التصميم الأولي : بعد ذلك يقترح تصميم أولي للموضوع كما تم تصوره . والتصميم ضرورة علمية لكل مشروع بحث ، فهو خطوة لابد من إنجازها قبل بدء الدراسة ، ذلك أن من أنجز تصميما جيدا لبحثه ، فكأنما قد أنجز بحثه كله بالفعل ، ولذلك يقول " لويس تامبل " : << فن الكتابة يرتبط مباشرة بفن التفكير >> . ثالثا : التقميش : والتقميش لغة هو<< جمع الشيء من ههنا وههنا >> أما في الإصطلاح المنهجي فهو عملية جمع المعلومات الموثقة من مصادرها بواسطة الجذاذات وما شابهها . إلا أنه إلى جانب الجذاذات ، يُستحسن إستعمال مذكرة خاصة بالبحث ، لتقييد الأفكار الذهنية ، ذلك أن العمل المكتبي أو المرجعي قد ينقطع من حين لآخر لكن العمل الذهني لا ينقطع أو لا ينبغي أن ينقطع . وأهم ضوابط العمل بنظام الجذاذات ما يلي : أ- ألا يكتب إلا على وجه واحد من الجذاذة . ب- أن يقتصر على فكرة واحدة أو نص واحد لكل جذاذة . أ- أن ينقل النص بأمانة كاملة ، ولا يتصرف في لفظه إلا إذا كان موطن الفائدة في المصدر واسعا جدا . -28- ه- استعمال جذاذات ذات حجم واحد ، حتى تكون أيسر للتصنيف والترتيب والجمع . و- تصنيف الجذاذات حسب فصول التصميم وأبوابه ، بواسطة أحزمـة مطاطية ، مع فصل كل مجموعة عن الأخرى بواسطة جذاذات أكثر إرتفاعا ، يُكتب على رؤوسها عناوين الأبواب والفصول . رابعا : الإعداد : عندما ينتهي الباحث من عملية التقميش ، يرجع بعد ذلك إلى وحدات الجذاذات المصنفة ليتأملها من جديد بشكل عام ، فربما أدى شيء من ذلك إلى تغيير ما في تصميم البحث المقترح ابتداء . فالمفاجآت العلمية التي لا تظهر إلا بعد عملية التقميش ، أكثر من أن تحصى ، وعليه فإن النتيجة غالبا هي إعادة النظر في العنوان والتصميم الأولي للموضوع قصد إعداد المادة وتهييئها للدراسة . المبحث الثاني : المرحلة التركيبية ) الدراسة ( . ونعني بالمرحلة التركيبية ، فترة البناء للموضوع ويكون ذلك بالدراسة حيث توظف النصوص المجموعة تحليلا ومناقشة لبناء التصورات ، ووضع المقدمات وإستنباط النتائج ونقص الآراء وما شابه ذلك . وأهم عناصر هذه المرحلة أربعة هي : الفرض والنص والإستنتاج ثم القالب العلمي . أولا : الفرض : والمقصود به إفتراض تصور معين أو موقف معين إزاء قضية ما ، ذلك أن الموضوع قد قُسم إلى أقسام كبرى ، وأخرى متوسطة ، ثم أخرى -29- وللبرهنة على الفرض الذي نفترضه فإننا نسوق الحجج والأدلة مستقاة إما من الحس والتجربة ، وإما من المدركات العقلية المجردة ، وإما من الأخبار والشهادات . ثانيا : النص : من أدق ما يمكن أن نصف به النص أنه شهادة والباحث المستشهد به ناقل شهادة ، ولذلك وجب عليه من التحري والأمانة في نقله وتوظيفه ، ما يجب على كاتب العقود المالية . فلا يصح نقل شيء في غير وجهته أو إسقاط بعضه بما يخل بمقصود صاحبه إلا خطأ . ولضبط النصوص المختارة للاستدلال ، يستفاد من مناهج الأصوليين فيما يخص الدلالة حيث يقدمون " النص " على " الظاهر " و" المعنى العباري " على " المعنى الإشاري " ونحو ذلك . ثالثا : الإستنتاج والمناقشة : فالإستنتاج : هو إستنباط الحكم من النص الذي يثبت صحة الفرض ، وأما المناقشة فهي إختبار هذا الحكم ذاته بعرضه على النصوص الأخرى المؤالفة . ولا بد في إستنباط الأحكام ، أن تكون على قدر دلالة النص عليها ، فلا يجزم بما لا دليل قطعي عليه ، ولا يعمم ما لا تدل النصوص على عمومه أو إطلاقه . هذا ولا بد للدارس من أن يحذر أمرين خطيرين في دراسته . أولها : التأثر بما قيل من الموضوع كليا أو جزئيا . -30- ثانيهما : الإرتباط العاطفي بالموضوع ، ولذلك فلا بد للباحث من أن يجعل الحق نصب عينيه ، ومهما يُعجب بشخص أو برأي فلا يكن ذلك مدعاة للخروج عما تقتضيه البراهين من الحق والعدل . رابعا : القالب العلمي : وهو الإطار الذي تصاغ فيه الدراسة ، ويمكننا الحديث في ذلك عـن ثلاثة عناصر : أ- الهندسة : والمقصود بها هيكل البحث من حيث أبوابه وفصوله ومباحثه ، إذ لا بد من تحقق صفة مهمة في ذلك وهي : التوازن . فلا يعقل مثلا أن يكون الباب الأول للبحث مـن خمسين صفحة بينما الباب الثاني من خمسمائة صفحة . ومناسب ههنا أن نتحدث عن مفاهيم الإصطلاحات التي تتكون منها أجزاء التصميم عادة ، ومواقعها الهندسية فيه . أ- 1- المقدمة : وتكون في أول البحث ، وهي مع ذلك آخر ما ينجز ، نظرا لأنها تتضمن الحديث عن الموضوع بشكل عام . أ- 2- المدخل أو التمهيد : وكلاهما عندي بمعنى واحد ، ومحله بعد المقدمة مباشرة . وإنما يحتاج إليه إذا كان فهم الإشكال العلمي المطروح مبينا على مقدمات تتعلق بالمجال العلمي الذي ينتمي إليه . أ- 3- القسم ، والباب والفصل والمبحث : أما " الباب " فهو وحده كبرى تشكل قضية أساسية أو ركنا من أركان الموضوع ، وأما " الفصل " فهو وحدة وسطى تشكل قضية جزئية ، منها وأمثالها يتكون " الباب " . ويمكن الحديث في " الفصل " عن عناصر أو وحدات صغرى أو مسائل أو مطالب هي المسماة ب " المباحث " فإذا كان الموضوع مكونا من وحدتين كبيرتين -31- أ- 4- الخاتمة : وهي إشعار عملي بانتهاء الدراسة ، ومحلها طبعا في الختام . وتعرض فيها : إما نتائج البحث ، وإما تصور موجز لمستقبل البحث . ومن أهم الضوابط العامة للتصميم الهندسي أن تُفتتح جميع الوحدات بعناوين تعبر بدقة كاملة عن مضامينها . ب- التوثيق : والمقصود بالتوثيق ههنا ، ضبط النصوص والأفكار المنقولة في البحث بإرجاعها إلى مصادرها بدقة . ولا بد في منهج الإحالة والحشو من ضوابط ثلاثة هي : الإنسجام والتركيب والخدمة . ت- أ- الإنسجام : ونقصد به الثبات على منهج واحد في طريقة الإحالة من أول البحث إلى نهايته . ب- 2- التركيز : والمقصود به الإختصار غير المخل ، وذلك بالإكتفاء بأقل إشارة مبلغة للمراد . ب-3- الخدمة : والمقصود بها تطعيم الدراسة بالقضايا التبعية لا الأصلية ، لأن هذه محلها هو الدراسة ذاتها ، أعني المتن . أما الحاشية فهي لما فاض عن تلك الدراسة من شروح وتعليقات ومناقشات تابعة وإستشهادات مكملة . ج- الأسلوب : يرى الدكتور رشدي فكار أن على الباحث أن يعتمد الأسلوب العلمي ويتجنب الأسلوب الأدبي ، لأن الأول يعطي أولوية للمضمون على حساب وفرة الكلمات . أما نحن في الدراسات الإسلامية فإنا نقول ، إن على الطالب أن يكتب بأسلوب سليم : سليم من الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية والبلاغية ، هذا هو الحد الأدنى . وله بعد ذلك أن يزيد في مراتب الإتقان -32- التعبيري حتى يصل إلى مقام الإحسان . ويمكن إختصار أركان الأسلوب الذي يجب أن تصاغ به بحوث العلوم الشرعية في ثلاثة . ج-1- السلامة من الأخطاء : سواء كانت هذه الأخطاء لغوية أو نحوية أو بلاغية . وعليه فإن على الباحث أن يحرص أشد الحرص ألا يكتب إلا ما تأكد من صحته في كل ذلك . ج-2- الإيجاز : أي التركيز في التعبير ، وذلك بصياغة أكبر قدر ممكن من المعاني في أقل قدر ممكن من الكلمات . وهذا من أهم ضوابط الكتابة . ج-3- الوضوح : ذلك أن هاجس الإيجاز قد يؤدي بالبعض إلى تركيز الكلام إلى درجة مفرطة ، يصبح المقصود معها عسير الفهم إن لم يكن مستحيل . المبحث الثالث : المرحلة التكميلية : ونعني بالمرحلة التكميلية : الأعمال الختامية التي تهدف إلى إخراج البحث في صورتــه النهائية فيصير جاهزا للقراءة والمناقشـة ، وذلك بإعداد فهارسـه و مراجعته ، ومن هنا يمكن الحديث في هذه المرحلة من ثلاث عناصر أساسية : أ- إعداد الفهارس : والفهارس هي " الكشافات " التي تنظم كل ما ورد في البحث من معلومات ، وتتضمن لائحة المصادر والمراجع وفهرس الموضوعات . |
أ- 1- الفهارس المتغيرة : وأول فهرس منها يُحسن البدء به ، هو فهرس الآيات القرآنية ، فالأحاديث النبوية ، فالأشعار ، فالأمثال ، فاللغات واللهجات … إلخ .
أ- 2- الفهارس الثابتة : ثم ينتقل بعد ذلك إلى فهرس آخر هو لائحة المصادر -33- ب- مراجعة البحث : فإذا أتم الباحث إعداد الفهارس ، آن له حينئذ أن يقوم بمراجعة شاملة للبحث ثلاث مرات على الأقل ، مرة يراجع فيها قضايا الخط والتعبير والإحالات وأرقامها والفهارس جميعا . أما المراجعة الثانية ، فتكون للقضايا المعرفية في البحث ، من أجل التحقق من سلامة المنهج ، وسلامة الإستدلال والإطمئنان إلى إستقراء النتائج . فإذا تم له هذا عمد حينئذ إلى تبييض مسودة البحث . وبعد التبييض يراجعه للمرة الثالثة ، ليستدرك ما قد يكون أغفله في عملية النقل . ج- الرقن والإخراج : والرقن هو عملية الطبع على الآلة الكاتبة أو الحاسوب . أما الإخراج فالمقصود به : التشكيل الفني للبحث ، أي الهيئة الفنية التي يصير إليها في نهاية المطاف . الفصل الرابع : آفاق البحث في العلوم الشرعية المبحث الأول : في التحقيق والتكشيف الموضوعي . أولا : التحقيق . عرفنا التحقيق بأنه بذل غاية الوسع والجهد لإخراج النص التراثي مطابقا لحقيقة أصله نسبة ومتنا مع حل مشكلاته وكشف غوامضه . وتعتبر هذه المهمة من أولى الأولويات العلمية التي يجب أن تسيطر على إهتمام الباحثين في التراث جملة والعلوم الشرعية بصفة أخص . ثانيا : التكشيف الموضوعي : والتكشيف الموضوعي هو توثيق الموضوعات ، وذلك قصد الوصول إلى إنجاز الكشاف الموضوعي للعلوم الشرعية الذي نقترح أن يكون مصنفا حسب أنواع هذه العلوم ، ولإنجاز ذلك فإننا نقترح ما يلي : 1-تتبع المادة الشرعية في كل كتب التراث ، وإستقراء مواضعها إستقراء تاما -34- 2-عرض الكشاف مصنفا حسب العلوم التي يضمها ، فيخصص لكل علم قسم خاص تُعرض من خلاله مادته مرتبة ترتيبا معجميا لتيسير الوصول إلى المقصود في زمن قصير . 3-إن الطريق العملي لإنجاز الكشاف الموضوعي للعلوم الشرعية هو الشروع في إعداد كشافات جزئية في مختلف المجالات لتكشيف المؤلفات . 4-إن تركيب الكشاف الموضوعي الكامل لا يعني أنه قد كمل حقا ، ولكن لا شك ستبقى مخطوطات مجهولة المكان . وعليه فإن إخراج الكشاف لا يجوز أن يكون نهائيا . المبحث الثاني : في الدراسات المصطلحية : يحتل البحث المصطلحي المرتبة الثانية ) بعد التحقيق مباشرة ( من مراتب أولويات البحث العلمي في العلوم الشرعية . فإذا كانت اللغة هي الوعاء الحضاري لشخصية الأمة ، فإن المصطلحات هي تجليات ملامح تلك الشخصية فيها . ومن هنا كانت قضية المصطلحات قضية أمة بأكملها . ولن نستشعر خطورة التأصيل المصطلحي وأهميته حقا ، إلا إذا راقبنا هذا السيل الهادر من الغزو الثقافي الذي يبغث ويبهث صباح مساء . ذلك أنه إلى جانب المعارك الكثيرة والمتعددة التي تدور رحاها على الأرض الإسلامية في إطار الإستعمار ومحاولات الإحتواء الثقافي هناك معركة يمكن أن تكون الأخطر في مجال الصراع الحضاري ، هي معركة المصطلحات . والخطر الأكثر إعتبارا الآن ، إنما يكمن فيما يصدر إلينا من إصطلاحات ، لذلك وجب التصدي له إعتمادا على مشروعين أساسيين : 1-إبتداء مؤصل فيما جد من العلم والمعرفة ، بناء على قوانين الإشتقاق -35- ومقاصد الإستعمال للكلام عرفا وشرعا . 2-دراسة محكمة لمصطلحات التراث الإسلامي جملة ، بُغية إمتلاك مفاهيمها والإحاطة بمقاصدها . إذ بدون فهم المصطلح فهما دقيقا " مخبريا " لن يتم فهم التراث ذلك الفهم ، وإذن تصدر الأحكام في حقه كله أو بعضه ظلما . إلا أن هناك شروطا ضرورية للإنطلاق ، يمكن تلخيصها فيما يلي : 1-لابد للدارس أن يخلص قلبه " من قصد الحظ " تخليصا ، وإن كان ولابد فليكن تابعا " لقصد التعبد " لا متبوعا . 2-ثم لابد أن يكون مختصا في علمه الذي يدرس مصطلحاته : يرسم لحياته العلمية منهجا . 3- لا بد أيضا أن يكون قد أخذ بحظ من اللغة يكفيه على الأقل لفهم سياقات النصوص . 4-أن يأخذ من علم الإصطلاح نظريته العامة والخاصة ما يساعده في رسم خططه وتنـزيلها في واقع دراسته . 5-أن يكون الكتاب ، أو الكتب المدروسة ، إما مبتدأة في موضوعها إبتداء أو جدد فيها تجديدا كثيرا كان أو قليلا . 6-أن يكون الكتاب محققا ، أو على الأقل سليم النص من الأخطاء الفاحشة والتحريف والبتر . 7-أن يكون المنهج المتبع أولا هو إعتماد الدراسة التحليلية في صورتها التفسيرية والمقيدة إما بكتاب بعينه ، وإما بكتب كاملة لمؤلف واحد . وأما المنهج العلمي للدراسة المصطلحية التفسيرية ، فهو ينبني على خطوتين أساسيتين . -36- الأولى : الإحصاء : ذلك أن المنطلق الأول لمثل هذا العمل هو إحصاء جميع مصطلحات الكتاب المدروس ، إحصاء شاملا لا يدع صيغة من الصيغ الصرفية للمصطلح إلا سجلها ، ولا مفردا من ذلك ولا مركبا إلا أخذه بعين الاعتبار . الثانية : الدراسة : وهي تنطلق من الروح اللغوية أولا ، والقصد في ذلك تبين أصل إستعمال المادة لغة ، ولابد للباحث ههنا أن يكون أحرص على تتبع المعاجم الأصيلة التي تعني بأصول الإستعمال . المبحث الثالث : في الدراسات المنهجية . البحث في المنهج أو الشعور بضرورة البحث فيه ، إذا إستحكم بعقول العلماء ورجال البحث العلمي ، كان ذلك علامة عن الرغبة الواعية في النهوض بهذه الأمة . إن مصيبتنا نحن المسلمين في هذا المجال تتلخص في مشكلتين : - الأولى : تتمثل في إتجاه ، إغترف من العلم الشرعي ما إغترف ، وإستوعب منه أحمالا وأثقالا ، لكن دون أن يدرك أين يضع مداركه ، ولا كيف يوظف فوائده . - الثانية : تتمثل في إتجاه وعي خطورة القضية المنهجية ، وأولاها من إهتمامه ما أولى ، إلا أنه أخطأ طريق التلقي ، فبدل أن يتلقى ويتتلمذ عن الذات الحضارية للأمة ، إنصرف بعقله المستلب إلى الغرب المستعمر كلية ، يتلقى طرائقه وحدها ومناهجه من غير سواها ، حتى صار ينظر إلى نفسه وإلى الناس لا بعين رأسه ولكن بعين الذي علمه كيف يرى . فمصيبة الأمة إذن مركبة من جلد الفاجر وعجز التقي ، وبينهما ضاعت القضية المنهجية . وتتجلى القضية المنهجية اليوم في صورتين ، وهما كالتالي : -37- والمقصود بها المنطق الداخلي الذي يحكم المادة العلمية بهذه العلوم في علاقتها مع موضوعها . ويمكن تطوير البحث في هذا الإتجاه لاستخلاص التصورات المنهجية ، سواء من خلال العلوم ذات الرصيد النظري ، أو العلوم التي غلب عليها الطابع التطبيقي . ب- البنية الخارجية للمنهج في العلوم الشرعية : والمقصود بها المنطق الخارجي الذي يحكم المادة العلمية المصنفة في بحث ما ، أي الذي يتحكم في توظيف المادة واستثمارها بواسطة قوانين وأنساق توجه البحث العلمي وتنظمه . إلا أن الكتابات العربية المعاصرة . حول البنية الخارجية للمنهج العلمي مازالت متأثرة بالغرب كما قدمنا واستقلال المنهج ، يعني استقلال التفكير عن الهيمنة الاستعمارية للفكر الغربي . ثم إخضاع كل ذلك للنقد والتمحيص حتى يكون أساسا صلبا للبناء عليه في إطار التجديد المنهجي . المبحث الرابع : في العلوم الشرعية على التفصيل . الكلام عن آفاق البحث في العلوم الشرعية نسبي ، ومن هذا المنطلق سيفصل الحديث بأفراد كل علم على حدة ، لتقديم تصور عن الإتجاهات ، التي ينبغي للبحث العلمي أن يسلكها ، كما يمليها منطق الأولويات في هذا المجال أو ذاك . أ- علوم القرآن والتفسير : لاشك أن علوم القرآن إنما نشأت من أجل ضبط الفهم الصحيح للقرآن ، ولذلك فإن خدمتها في هذا الإتجاه ، تجميعا وتعميقا وتقعيدا ، يعتبر من أهم المقاصد العلمية ، التي تقف على رأس أولويات البحث في هذه العلوم خاصة . ب- علوم الحديث : رغم أن الحركة العلمية التي واكبت الصحوة الإسلامية المعاصرة قد قامت بمجهود كبير في مجال الدرس الحديثي وذلك بالتحقيق -38- والتخريج والتصنيف والتصفية … إلخ ، إلا أنه مع ذلك يمكننا استشراف آفاق للبحث العلمي في نفس المجال إما لإتمام ما أنجز ، أو لتوجيهه وجهة أخرى ، ومعظم هذه الآفاق يمكن اختصارها فيما يلي : أولا : تصفية التراث : لابد أن تواصل الحركة العلمية الحديثة مجهودها الطيب في تصفية كتب التراث الإسلامي ، وذلك بتخريج ما ورد فيها من أحاديث ونقدها ، ببيان مقامها صحة وضعفا . ثانيا : التكشيف : مازال الحديث محتاجا إلى خدمة كبيرة في إطار الفهرسة والتكشيف . ويمكن أن يُنجز التكشيف على صورتين : الأولى : إنجاز الكشاف الموضوعي للحديث النبوي : وهذا يُحسن إدماجه في مشروع الكشاف الموضوعي للعلوم الشرعية . الثانية : إعادة النظر في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الذي ألفه مجموعة من المستشرقين ، وذلك بتصحيحه أولا ، فما زالت بعض الأحاديث غير مفهرسة الألفاظ بشكل دقيق . ثالثا : الدراسة التاريخية لعلوم الحديث : خاصة وأن هذا المجال يعتبر مما ضبط الكثير من قضاياه الإصطلاحية والمعرفية . رابعا : الدراسات الموضوعية في فقه الحديث : لقد إشتهرت الدراسات الحديثية فيما يعرف بفقه الحديث أنها عبارة عن مادة فقهية مصنفة على أبواب الفقه ، إلا أن الإشكالات مازالت قائمة بسبب الفهم الجزئي والتجزيئي للنصوص الحديثية ، ولا يمكن حسم مثل هذه الأمور إلا بانتهاج أسلوب آخر هو " الدراسة الموضوعية " لفقه الحديث ، وذلك بتحديد موضوع معين يكون محل إشكال علمي ، فتحصى جميع النصوص الواردة فيه ، إحصاء تاما ، ثم -39- ج ـ علم أصول الفقه : أما بالنسبة لعلم أصول الفقه فهو كسائر العلوم الشرعية محتاج إلى مزيد من الجهود لضبط نصوصه بالتحقيق ، وضبط مصطلحاته بالدراسات الإحصائية والتحليلية ، وتطوير مناهجه . أما فيما يخص هذا العلم في ذاته من آفاق ، فهو قسمان : الأول : يقتضي توجيه البحث إلى القضايا الإشكالية المعروفة في هـذا المجال تاريخيا ، كالإستصلاح والنسخ والتخصيص … إلخ . الثاني : محاولة تطوير البحث وتجديده في الدرس الأصولي عموما ، مع التركيز على ميدان القواعد الأصولية ومناهج الإستنباط ، ثم نظرية مقاصد الشريعة ومباحثها الكلية والجزئية . فأما القواعد الأصولية ، فهي المبادئ والمنطلقات التي ينبني عليها علـم أصول الفقه ، إنها تشكل بنياته الداخلية ، وعليه فإن تطويرهـا وتجديدها توسيعا وإضافة ، هو تجديد للعلم وإضافة فيه . وأما مناهج الإستنباط فهي أكثر المباحث الأصولية إرتباطا بالواقع ، ومعلوم أن التغيرات الإسلامية قد عرفت ما عرفت من تقلبات ، بينما مازالت مناهج الإستنباط على حالها ، ونحن لا ندعو إلى التغيير من أجل التغيير ، كلا ! ولكن لابد من تغيير ما يجب تغييره وتطوير ما تقتضي الضرورة العلمية تطويره . د- علم الفقه : يمكن توجيه البحث العلمي في المجال الفقهي نحو ثلاثة آفاق أساسية هي : -40- منطقة ما . ولابد في كل دراسة تاريخية لعلم الفقه أو تكون مبنية على العمل السكوني الذي يعتمد الوصف والتحليل ، بدل الرصد التطوري للتغييرات الذي تعتمده الدراسات التطورية . ثانيا : الفقه المقارن : وينبني هذا الإتجاه على استقصاء واستقراء جميع الأقوال الفقهية الواردة في الموضوع الواحد ودراستها ، نقدا وتمحيصا من خلال تحليل أدلتها ، للوصول إلى القول الراجح في المسألة بناء على منهج علمي نقدي ، يستمد مقاييسه من القواعد الأصولية المتفق عليها . ثالثا : الإجتهاد المعاصر : ونعني به : الإجتهاد في القضايا الفقهية المعاصرة ، وذلك بإنجازدراسات حول المشكلات الفقهية التي تواجه الفكر الإسلامي اليوم . ه- الفكر الإسلامي المعاصر : إذا كان علم الكلام القديم قد قام بمهمة الدفاع عن العقيدة الإسلامية ، فإن الفكر الإسلامي اليوم يقوم بنفس الدور أي الدفاع عن العقيدة الإسلامية ، ولكن بشكل آخر حيث صارت شاملة لكل ما يتفرع عن هذه العقيدة من مقتضيات . فالحرب إذن حضارية شاملة ، حيث صار المشروع الإسلامي بشموليته مستهدفا بالطعن والحكم عليه بعدم المواكبة للتطورات الإجتماعية الجديدة ، ومن هنا كان الفكر الإسلامي المعاصر حاملا سلاح الدفاع عن الإسلام بصورة أخرى غير التي كان عليها علم الكلام القديم . وانطلاقا من هذه المعطيات ، يمكن أن نحدد آفاق البحث لهذا المجال في ثلاثة إتجاهات هي : أولا : الدفاع عن المذهبية الإسلامية : فالفكر الإسلامي مطالب بالتصدي لكل الشبهات المشتهرة ، التي تقف في طريق وصول المشروع الإسلامي صافيا إلى -41- ثانيا : العرض العلمي للمشروع الإسلامي : ذلك أن الدفاع عن الإسلام من خلال نقض الفكر الفاسد ليس كافيا لتثبيت أركانه في الأرض ، وإنما يجب أن يحمل الفكر الإسلامي أمانة عرض مشروعه الحضاري جملة ، سواء في صورة بحوث جزئية أو بحوث كلية . ثالثا : التأصيل المنهجي والتقويم الذاتي : والمقصود من ذلك هو دعوة هذا الفكر الإسلامي المعاصر ليعيد النظر في تركيبته المنهجية ، إذ أنه غير مبني في غالبه على أصول محددة علميا ، وعلى قواعد منضبطة ومؤصلة . وعليه نقترح ههنا ، أصولا لتقويم الفكر الإسلامي وتأصيل مناهجه لتوجيه البحث العلمي فيه الوجهة الصحيحة، وذلك بالإرتكاز علىثلاثة منطلقات هي : المنطلق الأول : التأصيل المصطلحي : والمراد به : تشجيع البحث في إتجاه تأصيل المصطلحات العلمية المتداولة في الفكر الإسلامي المعاصر ، وذلك بتعميق الدراسة لما هو أصيل ثم نفي كل مصطلح أجنبي . المنطلق الثاني : التأصيل المنهجي : كثير من الكتابات في الفكر الإسلامي اليوم إذا دققت النظر فيها وجدتها فارغة من أي محتوى علمي أصيل ، وغير خاضعة في بنائها لنسق معين ! فهي أشبه بالخواطر الأدبية منها بالعلم الموزون المقنن ، والسبب في ذلك راجع إلى عدم تركيب القضايا العلمية الموضوعة للدرس على أصول منهجية معينة . المنطلق الثالث : التأصيل المعرفي : ذلك أن الفكر الإسلامي مدعو اليوم إلى التعبير عن المذهبية الإسلامية في شموليتها ، ووضع الملامح العامة للمشروع الحضاري الإسلامي في السياسة وقضايا الحكم ، وفي الإقتصاد والمسألة الإجتماعية إلى غير ذلك من مكونات العمران البشري ، وعليه فهو ملزم بالتزود المعرفي من كل المجالات في العلوم الشرعية ، خاصة قضايا العقيدة ومباحث الفقه الإسلامي جملة. |
شكرا لك اخي على هذه المعلومات القيمة
وجزاك الله خيرا |
حياك الله أخي واتمنى تكون هذه المعلومات مفيدة
لك الاحترام والتقدير |
جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:30 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع