عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 02-08-2015, 10:39 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,217
ورقة الدولة في الإسلام ومعالمها (أركان الدولة في الإسلام)

الدولة في الإسلام ومعالمها (أركان الدولة في الإسلام)
ــــــــــــــــــــــــــ

(د. تامر بكر)
ـــــــ

19 / 4 / 1436 هــ
8 / 2 / 2015 م
ـــــــ




انتهيت في دراسة سابقة(1) إلى أن النظام السياسي الإسلامي، يتكون من المعالم الرئيسة الآتية:

1- كليات المبادئ العامة.

2- مؤسسات النظام السياسي الإسلامي ومعالمها.(2)

3- الدولة الإسلامية ومكوناتها.

ثم ذكرت في دراسة أخرى سابقة أيضا (3) أن الكليات والمبادئ العامة لهذا النظام هي بمثابة منظومة القيم الخاصة به، وأما مؤسسات هذا النظام السياسي وكذلك (الدولة) فهما مقاصد هذا النظام السياسي، وقد بينتُ في ذات تلك المقالة نشأة الدولة في الإسلام، ومركز الفرد فيها وغاية وجوده، وقانون تلك الدولة.

وأكمل هنا في هذه المقالة ما شرعتُ فيه سابقا من الحديث عن الدولة في الإسلام ومعالمها؛ بالحديث عن أركان الدولة في الإسلام.

ففي اللغة، مفرد أركان، أركُنٌ : هو (رُكن(، وركَن على الشَّيء : أي: مال إليه، أو استند إليه، أو وثِق به.

والرُّكن: أَحَدُ الجوانب التي يَسْتَنِدُ إليها إِليها الشيءُ ويقوم بها، وهو جزءٌ من أجزاء حقيقة الشيء ومكوِّن لماهيته.

فأركان الدولة –أي دولة- هي جزء حقيقي من ماهية الدولة ذاتها، وهي الأعمدة التي تقوم عليها الدولة بحيث لو سقط ركن منها أدى لخلل الدولة ذاتها واحتمالية سقوطها.

وأركان الدولة في الإسلام هي أهم ما يميزها عن غيرها من أنواع الدول؛ بحيث لو انهدمت حقيقة هذا الركن فلا فرق بين الدولة في الإسلام وبين أي دولة أخرى.

وقد جاءت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية موضحة لهذه الأركان –نصا أو استنباطا من خلال المبادئ العامة- في أربعة أمور، ثلاثة منها موجودات في غيرها من أنواع الدول، لكنها في الدولة الإسلامية مختلفة الماهية عن غيرها من الدول كما سأوضحه :

الركن الأول: الحكم بما أنزل الله:

وهو الركن الأول والمميز لدولة الإسلام عن غيرها، يقول الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(يوسف40)، وآيات سورة المائدة الثلاث التي تبين لنا مراتبا ثلاثة لترك الحكم بما أنزل الله، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(المائدة44)، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }(المائدة45)، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة47)

وكنت قد بينتُ في المقالة السابقة(4) حقيقة مسألة الحاكمية عند الحديث عن قانون الدولة في الإسلام، فلا داع لإعادته هنا.

إن الحكم بما أنزل الله هو جزء من التوحيد، فعندما يقول المسلم كلمة التوحيد التي بها يدخل الإنسان في الإسلام، فمعنى ذلك أنه قد التزم وأقر بألا يتحاكم إلا إلى الله وإلى شرعه، وإلى ما أنزله، وأنه كافر بالطاغوت، لأن معنى شهادة أن لا إله إلا الله هي -كما بين الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} (البقرة:256)

فهذه هي شهادة أن لا إله إلا الله مكونة من ركنين:

ركن النفي: لا إله، وهو الكفر بالطاغوت.

وركن الإثبات: إلا الله، وهو الإيمان بالله، والشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعناها طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

فمعنى الشهادة بأنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أن يحكَّم قوله الذي هو الوحي سواء كان مبلغاً إياه عن الله أم من عند نفسه؛ لأنه لا ينطق عن الهوى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات:1( فلا يقدم بين يديَّ الله ولا بين يديّ كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برأي ولا هوى، ولا معقول كما كان يسميه الأولون من علم الكلام أو أي شيء يعارضه (5).

إن الحكم بما أنزل الله ليس محصورا في إقامة القوانين وإصدار اللوائح التنفيذية؛ بل هو نظام ومنهج للحياة يقوم على تحقيق وتطبيق منظومة القيم الإسلامية الخاصة بالحكم؛ كالشورى والعدل والحرية والمساواة والأمانة والإيخاء والتعاون، وغير ذلك من القيم والمبادئ العامة للنظام السياسي الإسلامي، والتي هي نسق فكري عام نابع نصا أو استنباطا من القرآن والسنة، تكفّل بإرساء الأساس النظري والإطار المرجعي، الذي ينبثق منه النظام السياسي الإسلامي، بحيث تفصَّلت فروعه بعدما تأصلت كلياته.

وعلى كل حال؛ فهناك من الكتاب الإسلاميين المعاصرين (6) من رأى أن تأسيس النظام الإسلامي للحكم ينطلق من تأسيس المنظومة القانونية للدولة من خلال توطيد وتمكين المؤسسات الشورية التي تعبر عن إرادة الأمة واختيارها، وهو بذلك يخالف أكثر الكتاب الإسلاميين الذين يجعلون تطبيق الشريعة مدخلا لتأسيس النظام الإسلامي وتحكيم الشريعة في حياة المجتمع.

والحقيقة أن النتيجة واحدة والاختلاف نظري؛ حيث إن من أهم الأمور في تطبيق الشريعة والحكم بما أنزل الله هو تطبيق مبدأ الشورى بأي آليات مناسبة.

وفي واقع دولنا القُطْرية المعاصرة والتي لا مناص من التعامل معها كواقع نطمح إلى تغييره تغييرا آمنا عن طريق إقامة وحدة أو اتحاد إسلامي فعّال؛ حيث السبيل الأنسب لذلك ابتداءً هو فكرة أسلمة الدول القُطْرية الحديثة التي يعيش فيها المسلمون(7)، في هذا الواقع المعاصر كلما اقتربنا ولو تدريجيا من جعل الحكم بما أنزل الله منهج حياة للأفراد والمجتمعات وأنظمة ومؤسسات الدول، كلما فعلنا ذلك زادت مساحة الإسلامية في الدولة، ولعلنا نفصل ذلك في مقالات قادمة بإذن الله.

الركن الثاني: الشعب:

ففي الدول المعاصرة يتم تعريف الشعب على أنه مجموعة من الأفراد الذكور والإناث تجمعهم الرغبة في العيش معاً نظراَ لوجود عامل مشترك بينهم أو أكثر؛ مثل: (العرق، الدين، اللغة، التاريخ، الأرض)، وتتعدد أولويات الدول وتختلف بين تلك العوامل.

أما في دولة الإسلام فالعامل الأول -وقد يكون الأوحد- الدافع للعيش المشترك هو الدين، وليس أي دين، بل هو الدين الإسلامي فقط، يليه عامل الأرض وذلك في البلاد التي فتحها الإسلام واختار أهلها أن يظلوا فيها من غير أن يدخلوا في دين الإسلام.(8)

فالشعب المسلم أو المجتمع والأمة المسلمة وحدة واحدة بينهم المولاة على الحق، يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة 71)، وطبيعة العلاقة بين هذا الشعب هي الإخوة يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات10)

ومما يدلل على ما ذكرته أن الله تبارك وتعالى قد أمر المسلمين بإخلاء جزيرة العرب من كل دين سوى دين الإسلام، واعتبارها وطنا حرا خالصا للإسلام وأهله، وبهذا يكون للإسلام معقله الخاص، وحماه الذي لا يشاركه فيه أحد.

وفي هذا نزلت آيات سورة التوبة في البراءة من المشركين وتأجيلهم أربعة أشهر، يسيحون فيها في الأرض ثم يختارون لأنفسهم: الإسلام، أو الرحيل من هذه الأرض أو القتال، وهذه الأشهر الأربعة هي التي سميت (حرما) لتحريم قتالهم فيها، ثم قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ وَخُذُوَهُمْ وَاحْصُرُوَهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} (سورة التوبة : الآية 5]، وشاء الله أن يختار العرب الدخول في الإسلام، قبل أن تمر الأشهر الأربعة، وتصبح الجزيرة خالصة للإسلام، ويصبح الشعب العربي عصبة الإسلام، وجندها الأولين، وحملة رسالته إلى العالم.

أما غير المسلمين من هذا الشعب والذين تواجدوا في البلاد المفتوحة؛ فهم أهل الذمة(9)، ولهم آيات أخرى تحكمهم، ولهم كذلك علائق أخرى بينهم وبين المسلمين(10)؛ فلم يعاملهم الإسلام معاملة الذين كانوا في جزيرة العرب؛ فيفرض عليهم الخروج؛ بل أقر بقاءهم في بلادهم -إن أرادوا- ولو بقوا على دينهم؛ على أن يقوموا بدفع الجزية(11)، يقول الله تبارك وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة29)، ويقول أيضا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(آل عمران 64)، ويقول أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (الممتحنة 1)، ويقول أيضا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة 8، 9)، ويقول أيضا: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(التوبة 4)، ويقول أيضا: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(التوبة 7).(12)

وفي زمننا المعاصر يعد سؤال (المواطنة) هو أهم سؤال مطروح حول علاقة المسلمين بغيرهم في الدولة الإسلامية؛ وبالتأكيد فما سبق وعرضته آنفا يختلف في نسقه المعرفي عن النسق المعرفي الغربي النابعة منه مسألة المواطنة، وبناء على ذلك فلا نستطيع أن نقول أن الإسلام يقبل المواطنة –كما هي في النسق المعرفي الغربي- كما لا نستطيع أن نقول أنه يرفضها أيضا؛ ذلك لأن للإسلام مشتركات في مسألة المواطنة، وخاصة في الحقوق والحريات والعلاقات الاجتماعية؛ حيث إن (المواطنة) فقط من حيث كونها أدبا للعلاقات في المجتمع المسلم، والتي تهدف في النهاية إلى إقامة الحقوق التي جاءت بها الشريعة الإسلامية في إطار المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان من خلال علاقاته مع عناصر هذا المجتمع - دولة ومؤسسات وأفرادا -، المواطنة بهذا المعنى مقبولة.(13)

وفي الحقيقة إنني أرى في واقعنا المعاصر ألا يقف أصل المصطلح السياسي (للمواطنة) وما قد يحمله من مضامين غربية متعارضة مع البيئة العربية الإسلامية، أرى ألا يقف حائلا دون استعمال هذه المصطلحات استعمالا منضبطا بضوابطها العقدية الإسلامية, فالغلو في الوطنية وجعلها الرابطة الأولى التي يجتمع الناس عليها إنما هو مسلك دخيل على المنهج الإسلامي, الذي يجعل العقيدة هي الرابط الأول الذي يجتمع الناس على أساسه, فتهجر رابطة الدين الإسلامي التي هي عقيدة وشريعة ومنهج حياة إلى تلك الروابط.

ولا يعني ذلك أن يكون الضبط المصطلحي بما يناسب المنهج الإسلامي حائلا دون استخدامه واستعارته في البيئة العربية بمضامين جديدة شريطة أن تكون تلك المضامين والمعاني الجديدة شديدة الوضوح.(14)

وعلى أية حال، فالأدق عندي من ذلك كله أن نقول أن للإسلام نسقه المعرفي الخاص به في مسألة علاقة الدولة بالشعب، وهو نسق قائم على وجود خطيين متوازيين –لا يتعارضان- يسير بهما في نظرته ورؤيته للشعب في الدولة الإسلامية، وهما (الأخوة والعهد) وكلاهما متساويان من حيث ما تسمى في عصرنا بالحقوق المدنية؛ فلا يوجد فيهما تمايز في هذه الجهة (15)؛ لكنهما غير متساويين من حيث الواجبات؛ حيث يفرض الإسلام على المسلمين الذين تجمعهم داخل الدولة علائق الأخوة، يفرض عليهم الجهاد بأنواعه، وهو ما لا يفرضه على غير المسلمين داخل الدولة ممن تجمعهم بالمسلمين علائق العهد.

الركن الثالث: الدار(الإقليم أو الأرض):

وهي البقعة التي يستقر عليها الشعب والتي يمارس عليها حقوقه العامة دون أن ينازعه فيها أي شعب آخر، أيضاً هي المجال أو النطاق الذي تباشر فيه الدولة سلطتها .

وفي مبادئ القرآن الكريم وقواعده العامة ما يمكن الاستناد عليه في وجود دار وإقليم للإسلام، يقول الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء92)، ويقول الله تعالى أيضا: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون52).

وقد عاقب الله اليهود الذين خالفوا عهودهم مع المسلمين بإخراجهم من أرض المسلمين الخاضعة لسلطانهم، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} (الحشر 2، 3)

كما نزل القرآن الكريم يندد أبلغ تنديد بأولئك الذين يعيشون مختارين في (دار) دون أن يتمكنوا من إقامة دينهم وأداء واجباتهم وشعائرهم: يقول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (النساء: 97- 99)

فلو كانت هذه الدار التي أقيمت عليها دولة الإسلام محض وهم، لما أمر الله تبارك وتعالى بإخراج ناقضي العهود منها، ولما ندد بأولئك الذين تركوا المعيشة فيها مختارين دون أن يتمكنوا من أداء واجباتهم وشعائرهم.

ويُعني بالدار في النسق المعرفي الإسلامي وحدة أمة الإسلام المعنوية والمادية، وهذا ما يميزها عن أي إقليم آخر لأي دولة؛ حيث يتم التركيز على الوحدة المادية فقط.

يقول عبد القادر عودة: " تلك هي الأمة الإسلامية، وحدها الله وجمعها على كلمة التقوى، وأقام وحدتها على دعائم ثابتة من الأخوة والتعاون والتضامن والتراحم والأخلاق الكريمة، وفي سبيل حفظ هذه الوحدة قضى الإسلام على الحواجز الجغرافية والعصبيات الإقليمية والقبلية، وقضى على اختلافات اللغة والجنس واللون، فسوى بين المسلمين تسوية عامة مطلقة غير مقيدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13) وجعلهم في التسوية بينهم كأسنان المشط الواحد، فلا يفضل أحدهم أخاه إلا بقدر ما تفضل سن المشط الأخرى، ولا فضل بين السنين وذلك قول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ الوَاحِدِ).

...وإذا كان الإسلام يوجب أن يكون المسلمون أمة واحدة لهم دولة واحدة فإن هذا يقتضي أن يكون إقليم الدولة الإسلامية شاملاً لكل البلاد الإسلامية.

والأصل في الإسلام أنه شريعة عالمية لا مكانية، جاءت للعالم كله لا لجزء منه، وللناس جميعًا لا لبعضهم، وهو شريعة الكافة، لا يختص بها قوم دون قوم، ولا جنس دون جنس، ولا قارة دون قارة، وهو شريعة العالم كله، يخاطب بها المسلم وغير المسلم، ولكن لما كان الناس جميعًا لا يؤمنون بها، ولا يمكن فرضها عليهم فرضًا فقد قضت ظروف الإمكان أن لا تطبق الشريعة إلا على البلاد التي يدخلها سلطان المسلمين دون غيرها من البلاد، وهكذا أصبح تطبيق الشريعة الإسلامية مرتبطًا بسلطان المسلمين وقوتهم، فكلما اتسعت الأقاليم التي يتسلط انكمش سلطانها، فالظروف والضرورة هي التي جعلت من الشريعة الإسلامية شريعة إقليمية، وإن كانت الشريعة في أصلها عالمية" (16).

ولأن دار الإسلام لا تتواجد في كَوْن خالٍ من البشر، كان ولابد أن تكون لهذه الدار آلية تتعامل بها مع مَنْ حولها من الدور الأخرى، وهو ما نسميه الآن مجال العلاقات الدولية، وفي هذا المجال؛ قسم الفقهاء العالم بحسب تطبيق أحكام الإسلام فيه، إلى دار إسلام، ودار كفر أو حرب.

ولما لم تكن تلك الثنائية صالحة لكل الأحوال، زاد الإمام الشافعي (دار العهد) وهم غير المسلمين الذين يعيشون في ديارهم ولكنهم لا يحاربون المسلمين ولا يناصبونهم العداء.

لكن بعض المعاصرين رأوا أن الأمة الإسلامية مكلفة بالدعوة، ومن ثَمَّ فليس من المقبول التعامل مع غير المسلمين من خلال مفهوم الحرب والسلام فقط، بل يجب التعامل معهم من منطلق الدعوة أيضا، فقسموا العالم إلى (دار دعوة) وهي التي لم تدخل في دعوة الإسلام بعد، و(دار استجابة)، وهي التي استجابت لله ولرسوله ودخلت في دين الإسلام.

والحقيقة أن التقسيميْن غير متعارضين، ففقه الدعوة يتسع لجعل العالم كله (دار دعوة) غير قابل للقسمة إلى دور عديدة إلا بشكل محدود واعتباريّ:

كأن يُقال لدار قبل أهلها الإسلام، وسادت فيها أحكامه، يدخلها الناس ويخرجون منها بأمان المسلمين، يُقال لها (دار الإسلام)، و (دار الإجابة).

ويقال لدار لم يستجب أهلها للدعوة، لكنهم رحبوا بتوقيع اتفاقيات تجعل منها (دار عهد) بأيّ مستوى من المستويات، وتجعل منها أيضا (دار دعوة)، وميدان من ميادينها، فيقال لهذه الدار (دار عهد ودعوة).

ويقال لدار لم تستجب ولم تعاهد وآثرت أن تكون في موقف عدائي، يقال لها (دار حرب) وذلك لا يغير من كونها –أيضا-(دار دعوة).

وبالتالي فإن تقسيم الأرض على مستوى العلاقات الدولية إلى دار حرب، ودار عهد، ودار إسلام، إن قصد به التفريق بين الدار التي تجري عليها أحكام القرآن وتحت سيطرة سلطان المسلمين أو تجري فيها الدعوة بأمان، وبين غيرها التي تظلها أحكام البشر الوضعية وتقاد بذلك، و تكيد للإسلام والمسلمين، وتقف حكوماتها حائلا أم دعوة الناس للهدى، إن قصد بالتقسيم ذلك، كان تقسيما مقبولا.

كما أن تقسيم الأرض إلى دار دعوة ودار إجابة إن كان المقصود به إنكار ما يعرف بجهاد الطلب في الإسلام، والانتصار لفكرة جهاد الدفع كمفهوم وحيد للجهاد في الإسلام؛ فإن ذلك مرفوضا أيضا.

ولا يظنَّنَّ ظانٌّ أن الإسلام يُجيز أو يُبيح أو يُقرُّ المخالفات والانتهاكات، وترويع الآمنين، وسفْك الدِّماء التي عصمَها الله تعالى – باسم الجهاد، كل هذا لم يكن ونبرأ إلى الله تعالى منه، وقد نقلتُ قبل قليل آيات سورة الممتحنة(الآية 8، 9) وسورة التوبة (الآية 4، 7) التي تحث عن عدم الاعتداء على الآمنين المسالمين ولو كانوا من الكافرين، ولكن المسلك الخطير هو أن نُضيِّع الشرائع بسبب الممارسات الخطأ لأتباع هذه الشرائع؛ فنردَّ على الخطأ بخطأ أكبرَ منه وأفدح! فليس معنى القول بفرضية جهاد الطلب على الأمَّة هو العدوانَ والانتهاك، أو الخبْط العشواء في التفجير والقتْل لكلِّ الناس في كلِّ الدول، بلا شروط ولا ضوابط، ومن أهم الضوابط في ذلك أن هذا الأمر لا يقوم به مجموعة من الأفراد من تلقاء أنفسهم بل هو من الأدوار المنوطة بالأمة حيث تقوم به عن طريق سلطة الدولة وليس عن طريق أفراد أو مجموعات متفرقات هنا وهناك.

فللجهاد في سبيل الله أنواع، هي:

النوع الأول: جهاد الكفار وهو نوعان: جهاد الطلب، وجهاد الدفع.

النوع الثاني: جهاد المنافقين، والمرتدين.

النوع الثالث: جهاد البغاة المعتدين الذين يخرجون على الإمام المسلم ولهم تأويل سائغ وشوكة، وفيهم منعة وقوة. والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات 9، 10)

وقال العلماء: إن الجهاد له أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار والمنافقين، وجهاد أصحاب الظلم والبدع والمنكرات.

وقد اختلف العلماء حول قضية جهاد الطلب، وهو تتبع الكفار وطلب قتالهم في عقر بلادهم، فذهب بعض الفقهاء إلى أن هذا الجهاد ليس مشروعا، وذهب الآخرون إلى مشروعيته بل وجوبه .

وأياما كان الأمر فمما لا خلاف فيه أن أصحاب الرأيين كليهما أقرا بجهاد الطلب إذا كان لما يلي (17):

أ- لإبلاغ الشعوب دين الله -عز وجل- إذا حالت الحكومات دون ذلك، كما فعل فرعون مع بني إسرائيل ومع قومه، بمعنى أن المسلمين يقاتلون الكفار ليس لإجبارهم على الدخول في الدين فالله -عز وجل- يقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين} (سورة البقرة : الآية 256]، وإنما من أجل أن تفتح الأبواب أمام الدعوة، وليسمع الناس دين الله -عز وجل-، ولو كان المسلمون يجبرون الناس على الدخول في الدين ما بقي أحد من غير المسلمين في البلاد التي فتحوها على دين غير دين الإسلام. قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه} (سورة الأنفال : الآية 39]

ب- لتأمين حدود الدولة الإسلامية إذا كانت مهددة من قبل أعدائها، الذين يتربصون بها، ويكيدون لها، وهو ما يسمونه في عصرنا الحاضر: (الحرب الوقائية).

قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة} (سورة التوبة : الآية 36]، وقال: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه} (سورة التوبة : الآية 41 ]، وقال: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُم} (سورة التوبة : الآية 39]

ج- لإخلاء جزيرة العرب من كل دين سوى دين الإسلام، واعتبارها وطنا حرا خالصا للإسلام وأهله، وقد تكلمتُ عن ذلك قبل قليل في هذا المقال.

د- لإنقاذ الأسرى والمستضعفين من المسلمين أو من أقلياتهم، التي تعاني التضييق والاضطهاد والتعذيب، من قبل السلطات الظالمة المستكبرة في الأرض بغير الحق، كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} (النساء: 75)

الركن الرابع: أولو الأمر(السلطة):

ويعني بهم الحكام، يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }(النساء 59)، والخطاب في هذه الآية جاء للرعية من المؤمنين: فعليهم أن يطيعوا (أولى الأمر) بشرط أن يكونوا (منهم) وجعل هذه الطاعة بعد طاعة الله وطاعة الرسول، وأمر عند التنازع برد الخلاف إلى الله ورسوله، أي إلى الكتاب والسنة، وهذا يفترض أن يكون للمسلمين دولة تهيمن وتطاع، وإلا لكان هذا الأمر عبثا.

ومما يميز السلطة في دولة الإسلام عن غيرها من أنواع الدول أنّ طبيعة النِّظام في دولة الإسلام يقوم على إيجاد وحدة اندماجيَّة بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم كما قلنا ينبغي أن يكون (منكم) وليس (عليكم)؛ ليكون له السمع والطاعة في غير معصية الله، وحين يصبح الحاكم حاكمًا عليكم -أي متسلِّطًا- فذلك يعني وقوع انحراف لا بد من المسارعة إلى تقويمه.

ولقد دعا رسول الله –صلى الله عليه وسلم– للحاكم المترفق برعيته، ودعا أيضا على الحاكم المشدد على رعيته، فقال «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» (رواه مسلم 4826).

" إن الحديث عن الطاعة لا يعنى نبذ فكرة المعارضة تماماً، فالمعارضة لا تكون في كل صورها خلعاً للطاعة أو خروجاً على الجماعة، بل إن آية الطاعة نفسها تفتح مجالاً واسعاً للمعارضة حين يأمر ولاة الأمور بما يخالف شرع الله تعالى، وكذلك الأحاديث التي قيدت الطاعة بالمعروف، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وكذلك الحديث عن الشورى، وافتراض الاختلاف في الرأي بين أهل الشورى، والحديث عن المناصحة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يفسح مجالاً واسعاً للمعارضة المشروعة لكل ما يخالف الحق " (18)

مقارنة بين أركان الدولة في الإسلام وأركانها في القانون الدولي:

إننا إذا ما قارنا أركان الدولة في النظام السياسي الإسلامي، بأركانها فيما هو متعارف عليه حديثا في القانون الدولي، سنجد ما يلي:(19)

1. أركان الدولة ليست محل وفاق بين الباحثين في القانون الدولي العام ولكن المعول عليهم عند كثير منهم أن أركان الدولة هي الشعب, والإقليم(الدار), والسلطة الحاكمة (أولى الأمر) .

2. توفر الشعب والإقليم والسلطة أمر واجب في الدولة الإسلامية والدولة الوضعية على حد السواء، وإن اختلفت ماهية تلك الأركان بين الدولتين الإسلامية والوضعية؛ إلا أن الدولة الإسلامية تزيد على الدولة الوضعية بكيانٍ آخر غير الكيان المادي وهو الكيان الروحي ويُقصد به تحكيم شرع الله الذي أنزله لعباده.

3. شعب الدولة الإسلامية يتكون من المسلمين والذميين على حد سواء ولا يصح القول بأنهم هم المسلمون فقط، وأن أهل الذمة والعهد ليسوا من شعب الدولة الإسلامية!

4. القاعدة العامة في حقوق أهل الذمة أن (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)(20), ولكن هذه القاعدة غير مطبقة على إطلاقها, وذلك بسبب كونهم غير مسلمين؛ فلا يمكن إلزامهم بجميع أحكام الإسلام في أحوالهم الشخصية مثلا، فلابد من وجود تمييز وتمايز ديني.

5. يجب على الدولة الإسلامية أن تحمي أهل الذمة وتكفل لهم حق الإقامة والتنقل, كما يجب عدم التعرض لهم في عقيدتهم وعبادتهم, وان تترك لهم حرية اختيار العمل المناسب بشرط ألا يكون من الأعمال التي يشترط فيها الإسلام .

6. إقليم الدولة يأخذ شكلاً مخروطياً يصغر كلما اتجهنا إلى باطن الأرض ويتسع كلما اتجهنا إلى أعلى.

7. أنواع الأقاليم في الفقه هي نفس أنواع الأقاليم في القانون, وإن كان علماء الشريعة الإسلامية قد أعطوا الإقليم البري (دار الإسلام) مزيد اهتمام وتركيز, على أنهم لم يهملوا الإقليم الجوي بل وضعوا القواعد التي تنظمه.

8. الاعتراف بالدول غير الإسلامية في الشريعة الإسلامية اعتراف واقعي بتلك الدول ولا يعدُّ اعترافاً شرعياً.

9. تتمتع الدولة الإسلامية بالشخصية المعنوية أو الاعتبارية وإن لم يرد هذا المصطلح في كلام أهل العلم المتقدمين إلا أن هذه الشخصية لها عدة مظاهر في الفقه الإسلامي بينت وجودها ومعرفة الفقهاء لها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظر: مقالي (المبادئ العامة للنظام السياسي الإسلامي، مقاربة نقدية) موقع مركز التأصيل للدراسات، بتاريخ 19/11/ 2014م، على الرابط: http://taseel.com/display/pub/defaul...815&ct=24&ax=5

(2) يُنظر: مقالي (مؤسسات النظام السياسي الإسلامي ومعالمها) موقع مركز التأصيل للدراسات، 5/12/2014م، على الرابط: http://taseel.com/display/pub/defaul...8860&ct=3&ax=5

(3) يُنظر: مقالي (الدولة في الإسلام ومعالمها، نشأتها، مركز الفرد فيها وغاية وجوده، قانونها) موقع مركز التأصيل للدراسات، 5/ 1/ 2015م، على الرابط: http://taseel.com/display/pub/defaul...991&ct=24&ax=5

(4) يُنظر: المرجع السابق.

(5) انظر: موقع الدكتور سفر الحوالي الإلكتروني، في 23/1/ 2015م، على الرابط: http://www.alhawali.com/index.cfm?me...ContentID=1116

(6) مثل الكاتب والمفكر السوري الدكتور (لؤي صافي (المدير التنفيذي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي في ماليزيا (1994م- 1997م)، و**** كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية (1994- 1996)، وعميد مركز البحوث (1997- 1999) في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.

(7)إن فكرة أسلمة الدولة القُطْرية القومية ليست مظاهرا من مظاهر تغوّل فكر الدولة وتحول مفهومها –إدراكا وعملا عند الحركات الإسلامية– إلى المعنى الوحيد في الإدراكات والسياسيات والعلاقات، من دون أن يكون للمجتمع دور يذكر في ذلك، بل هو اجتهاد في ضوء فقه الضرورة أو الاستضعاف وغياب التمكين والقوة، فمثله كمثل ما نجده في تراثنا الفقهي من إعطاء الشرعية(المؤقتة) لواقع الانقسام، ودول وإمارات وسلطنات الأمر الواقع(وهو ما يعرف بفتوى شرعية الحكم بالتغلب)، وذلك تحقيقا لمنهج الإسلام في التوازن بين المطالب المتعددة، والقيام بالحق الممكن، والتوسل به إلى الحق المطلوب، فللدولة في الإسلام أدوار ستظل غائبة ما غابت دولة الخلافة (أو الدولة القُطْرية المؤسلمة) ولن تستطيع الأمة أو المجتمع القيام بتلك الأدوار ذاتيا.

لكن على أية حال يمكننا التخفيف من تغوِّل الدولة القُطْرية الحديثة وسماتها عن طريق بناء مجتمع قوي متشابك وفاعل يقوى مع الوقت على حساب الدولة ويقوم بترويض وحشيتها وتغولها على المجتمع.

ومن المعلوم أن استمراء البقاء في ظل الضرورة والاستثناء قد ينتج عنه استثقال الأصل بل ربما نتج عنه نسيانه؛ من أجل ذلك كان ولابد من التذكير بالأصل من حين لآخر؛ وتبيان أحكامه بوضوح؛ حتى لا تغلب حالة الضرورة على الأذهان، وهذا دور العلماء والدعاة والمفكرين.

(8) من التجارب الإسلامية المعاصرة إعلان استقلال دولة باكستان في 14 أغسطس عام 1947م )بجناحيها الغربي والشرقي الذي انفصل عنها عام 1971م، وعرف باسم بنجلادش( إعلان استقلالها عن الهند والتي كانت تابعة بدورها للتاج البريطاني في هذا الوقت.

والحقيقة أنني لا أهدف هنا إلى تشجيع أو رفض فكرة استقلال الأقليات المسلمة عن بلدانهم، كما لا أهدف إلى مناقشة جدوى إنشاء دولة باكستان من عدمه؛ وكذلك مدى نفوذ الشيعة فيها والذين لا تتجاوز نسبتهم فيها 5%؛ فذلك كله بحث مستقل؛ وإنما هدفي من ذكر إنشاء الباكستان هو التدليل على فاعلية عنصر الدين في تأسيس الدول عند المسلمين.

(9) (أهل الذمة) تعني: أهل العهد، وهو مجرد اسم يميز بين غير المسلمين وبين المسلمين داخل الدولة الإسلامية في باب الدين فقط، وليس في باب المساواة في الحقوق والواجبات العامة.

وعقد الذمة: هو إقرار غير المسلمين على دينهم بشرط بذل الجزية، والخضوع لولاية القضاء الإسلامي، والتحاكم إليه.(وهو ما يعني الإقرار بسلطة دولة الإسلام عليهم).

مع ملاحظة أن أهل الذمة هم غير المسلمين المقيمون أصلا في البلاد التي فتحها المسلمون، أما الذين يَقْدمون إلى بلاد المسلمين من غير استيطان لها لغرض مؤقت كقصد التجارة أو الزيارة ونحو ذلك، فهؤلاء وأمثالهم يسمون أهل الأمان.

وقد اتفق علماء المسلمين على جواز عقد الذمة لليهود، والنصارى، والمجوس، واختلفوا في جواز ذلك لكل من الكافر أو المشرك.

فالقائلون بجواز الذمة للكافر والمشرك –كابن تيمية وابن القيم- استدلوا بعموم اللفظ وعدم تخصيص صنف دون آخر فيما جاء في الصحيح حديث بريدة في وصية النبي -صلى الله عليه و سلم- له لما ذهب للقتال من تخييره من ينزل بساحتهم من الكفار بين إحدى خصال ثلاث الإسلام أو الجزية أو السيف.

((10 يعتبر بعض الباحثين المعاصرين أن تلك الآيات وغيرها لاتنص على طبيعة العلاقة وكيفية معاملة غير المسلمين فحسب؛ بل يعتبرها أيضا أساسا فيما يسمى العلاقات الدولية للدولة في الإسلام. (يُنظر: د. إبراهيم البيومي غانم (المبادئ العامة للنظرية الإسلامية في العلاقات الدولية) موقع (أون إسلام) 12/ يونيو 2006م، على الرابط: http://www.onislam.net/arabic/madari...013-58-31.html ]

(11) الجزية المُحصَّلة من المواطنين غير المسلمين لصالح الدولة المسلمة هي - إداريا - موازية لما تحصله الدولة المسلمة من مواطنيها المسلمين و يسمى زكاة – و كانت له وزارة خاصة تسمى ديوان الزكاة -، وطالما لا يمكن تسمية ما تحصله الدولة المسلمة من غير المسلمين زكاة – لأن الزكاة فريضة إسلامية - فقد سُمِّيَ هذا المال (جزية) من باب عدم إلزام المسلمين بعبادات للمسلمين.

وتجب الجزية على كل غير مسلم، بالغ، عاقل، ذكر، حر، صحيح، قادر على الكسب، وتسقط الجزية عنه بإسلامه، ولا تؤخذ الجزية من الصبي، والمجنون، والمرأة، والرقيق، والمريض، والفقير، والأعمى، والهرم، والراهب ونحوهم ممن لا قدرة له على العمل.

وللشيخ ياسر برهامي فتوى معاصرة عن مسألة الجزية يقول فيها : " ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاهد يهود المدينة بغير جزية، وعاهد مشركي قريش بغير جزية، ورغم أن هذا قبل نزول آية الجزية، لكن الراجح أنه ليس بمنسوخ، بل هو مُنسأ، مثل: آيات العفو والصفح، والصبر، والمسالمة، فكلها يُعمل بها عند الحاجة إليها.

وقد نص العلماء على جواز موادعة الكفار على مال يُدفع لهم عند ضرورة المسلمين لذلك؛ لدفع صغار أشد من ذلك؛ فبالأولى إذا احتاج المسلمون لضعفهم أن يجاهدوا الكفار بغير جزية فعلوا ذلك بهذه الأدلة -والله أعلم-أما عند كمال القدرة والتمكين؛ فالواجب مطلقًا العمل بالنصوص الأخيرة النزول ".(انظر الفتوى في موقع صوت السلف، 26/6/ 2011م، على الرابط: http://anasalafy.com/play.php?catsmktba=27238]

(12) تحدثت في مقال سابق عن غاية وجود هذا الشعب، عند الحديث عن مركز الفرد في دولة الإسلام، وذلك في مقالي: (الدولة في الإسلام ومعالمها، نشأتها، مركز الفرد فيها وغاية وجوده، قانونها) مرجع سابق.

(13) انظر مقالي: (المواطنة والأمة.. هل يتناقضان؟) مركز التأصيل للدراسات، 23/9/ 2013م، على الرابط:

http://taseel.com/display/pub/defaul...433&ct=24&ax=5

(14) للتعرف على ضوابط ذلك، انظر مقالي (نقل المصطلحات السياسية الغربية للبيئة العربية) مجلة البيان، العدد 302، أغسطس 2012م (ص 72).

(15) يخلط بعض الباحثين في هذا المضمار بين ما وُجِدَ في التراث الإسلامي من قضايا خاصة أو معانٍ مجازية أو فتاوى يظهر فيها استخدام سلطان الدولة على غير المسلمين في لبس زي معين أو سلوك طريق دون أخرى، يخلطون في ذلك بين أحكام الإسلام الثابتة وبين مثل هذه الإجراءات النابعة من فتاوى قدر فيها العلماء المصلحة (المرسلة) تبعا للزمان والبيئة السياسية أو الاجتماعية؛ حيث يعدون مثل هذه الإجراءات من أحكام الإسلام الثابتة في معاملة غير المسلمين؛ وقد غفلوا عن كونها فتاوى أو قضايا خاصة أو لها معنى مجازي معنوي –مثل حديث: "فاضْطَّروهُمْ إلَى أضْيَقِ الطَّرِيقِ "رواه مسلم-، فهذا الحديث عقد له الدكتور حاكم المطيري دراسة حديثية مطولة نشرها على موقعه الإلكتروني، خلاصتها أن للحدث قصة خاصة تكشف عن معناه، وأنه ليس على إطلاقه، أما اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية(فتوى رقم 5313) فقد فسرته تفسيريا معنويا، فقالوا أن المقصود بالحديث أن ما كان من باب البر والمعروف ومقابلة الإحسان بالإحسان قمنا به نحوهم لتأليف قلوبهم، ولتكن يد المسلمين هي العليا، وما كان من باب إشعار النفس بالعزة والكرامة ورفعة الشأن نتيجة الانتساب للإسلام فلا نعاملهم إلا به.

(16) عبد القادر عودة (الإسلام وأوضاعنا السياسية) مؤسسة، بيروت، لبنان، 1401هـ، 1981م، (ص 277: 279) بتصرف.

(17) بعيدا عن ترجيحات وآراء الشيخ يوسف القرضاوي في مسألة جهاد الطلب في كتابه المثير للجدل (فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء الكتاب والسنة) مكتبة وهبة، القاهرة، ط3/ 2010م، بعيدا عن ذلك فقد استفدتُ منه في الوقوف على هذه الشروط الأربعة والتي هي محل اتفاق الجميع كضابط لجهاد الطلب.

(18) د. جمال المراكبي (المعارضة في النظام السياسي الإسلامي) موقع مسجد التوحيد ببلبيس، 17/9/2010م، على الرابط: http://www.altawhed.net/article.php?i=181

(19) انظر: صالح بن علي الأخن المُرِّي (أركان الدولة دراسة مقارنة) بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير، بمعهد القضاء العالي، قسم السياسة الشرعية، جامعة الإمام محمد بن سعود، السعودية، 1424هـ -1425هـ، بتصرف.

(20) للشيخ ناصر الدين الألباني -في " السلسلة الضعيفة " ( ج 3/ ص224، 225 ) -تعقيب على تلك المقولة، والتي حسبها بعضهم حديثا!!، فليُرجع إليه.


-------------------------------
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59