عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 03-25-2013, 11:07 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,193
ورقة قراطيس في نقد الشعر


قراطيس في نقد الشعر
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

*ـ للشيخ/ الطاهر بن عاشور .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وقع في ترجمة ياقوت بن عبد الله الرومي البغدادي الأديب من كتّاب الوفيات لابن خلكان قال : أنشدني له بعض الفضلاء بمدينة حلب أبياتاً منها قوله :
ألسْتَ مـن الولدان أحلى شمائلاً * فكيف سكنْتَ القلب وهو جحيمُ ؟
ثم قال : انتقدوا في بغداد هذا البيت , فأفكرت فيه ثم قلت : لعل الانتقاد من جهة أنه لا يلزم من كونه أحلى شمائلاً من الولدان أن لا يكون في جهنم . فقال : نعم هذا الذي أخذوا عليه ا هـ .
يعني أن قوله : فكيف سكنت القلب , استفهام تعجب و تحيّر : أي كيف أمكن أن يسكن قلبي إذ هو جحيم بنار المحبة وأنت أحسن من الولدان , فشأنك أن تكون معهم في الجنّة .
وأنا أقول : يحتمل أن يكون انتقاد أدباء بغداد البيت من جهة معناه أو من جهة لفظه , فإن كان الانتقاد من جهة معناه , فبيانه أن مراد الشاعر بالولدان , الولدان المعهودون وهم المذكورون في القرآن ( وَيَطُوفُ عَلَيٌهِمْ وِلْدَان مُّخَلَّدُونَ إذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنْثُورًا ) وهؤلاء الولدان مقرّهم الجنّة , فأراد الشاعر أن يثبت كون المتغزل فيه منهم , ويتعجب كيف كان مقرّه في قلبه الذي هو جحيم , ولكنه لم يُثبت كون المتغزل فيه من الولدان , بل غاية ما أثبته أنه أحسن من الولدان في الطبائع والمحاسن , وإذا كان أحسن فلا يتم له التعجب ، إذ قد يكون من جنس آخر غير جنس الولدان . هذا حاصل انتقادهم مع توجيهه وتبيينه .
وهو عندي انتقاد زائف لأن الشاعر بنى معنى بيته على أن المتغزَّل فيه قد فاق الولدان في محاسنه , وذلك يوجب أن يكون أولى بسكنى الجنّة من بقية الولدان ، لأن الجنة جديرة بمنتهى الحسن إذا فيها ما لا عين رأت , ولذلك استقام له التعجب من حلوله في جهنم القلب , وذلك كله إغراق في التخيل من ثلاث جهات : كون الموصوف أحلى شمائل من الولدان , وكون ذلك موجباً سكناه الجنّة , وهذان معنيان عزيزان , وكون قلب المحبّ جهنم , وهذا معنى قديم شائع , ولكنه أخرجه إلى العزّة ما اقترن به من التعجب , كما أخرجه في نظيره قول بعض الشعراء فيمن اسمه إبراهيم على طريقة التلميح :
أيا نيرانه كـوني سلاماً * وبرداً إنّ إبراهيم فيه
وأما الانتقاد من جهة لفظ البيت , فهو أنه قدم المفضّل عليه على اسم التفضيل , وذلك لا يقع في كلام العرب إلا إذا كان المفضل عليه مستفهماً عنه : نحو من أيهم أنت أكرم ؟
وقد يوجّه البيت بتوجيه يدفع عنه كلا الانتقادين , وهو أن نجعل قوله ألست من الوالدان جملة مستقلة , ويكون الاستفهام إنكارياً داخلاً على نفي , وتكون من تبعيضية غير تفضيلية : أي ما أنت إلا من الولدان . ونجعل قوله أحلى شمائلاً جملة مستأنفة مسوقة مساق تغليط نفس القائل على سبيل الترقي , فكأنه يقول : بل أنت أحلى من الولدان شمائل , فتكون هذه الجملة في موقع بدل الغلط من الجملة التي قبلها التي اقتضت كونه من الولدان بدون تفوق عليهم , فيندفع النقدان المعنوي واللفظي ويكون التخيل في البيت من جهتين : جهة التغليط في التسوية , وجهة التعجب من سكنى القلب الذي هو الجحيم نفسه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59