عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 07-25-2014, 04:18 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
ورقة التصوُّر الإسلامي في الواقع المعاصر


التصوُّر الإسلامي في الواقع المعاصر، عرض ونقد
ــــــــــــــــــــــــــ

( د. تامر بكر)
ــــــــ


27 / 9 / 1435 هــ
25 / 7 / 2014 م
ـــــــــ

التصوُّر الإسلامي _8412.jpg

تعتبر الكتابة في باب التصور الإسلامي في مصنفات مستقلة بذاتها، تعتبر جديدة نوعا ما([1])؛ وذلك على الرغم من وجود كتابات وشروح متعددة لهذا التصور؛ لكن بين ثنايا كتب العلماء المتقدمين ناهيك عن المتأخرين.

وتصوَّر الشَّيءَ لغةً: هو تخيَّله.

وهو عند علماء النفس: استحضار صُورة للشيء في الذهن.

وهو عند علماء المنطق (المناطقة): إدراك المفرد، أي: معنى الماهية.

وهو عند مجموعة من الكتاب الإسلاميين المعاصرين بمعنى: (كليات الوحي الإلهي في الإسلام).

وانطلاقا من ذلك التعريف الأخير واجه مصطلح (التصوُّر) منذ أكثر من ثلاثة عقود زمنية انتقادا من أحد الباحثين الأكادميين([2])؛ حيث اعتبر أنه من الخطأ استعماله؛ لأن التصور عملية فكرية محضة، تحتمل الصدق والكذب كما هو ثابت في علم المنطق، فلا يمكن أن تستعمل بمعنى كليات الوحي الإلهي، بل قد يستعمل(التصوُّر) بمعنى أنه إفراز للعقل، من دون عصمة ولا تقديس لذلك العقل؛ ولذا فقد اقترح هذا الأكاديميّ استبدال مصطلح (التصوُّر) بمصطلح آخر سماه (المذهبية الإسلامية)؛ وبعيدا عن مناقشة جزالة ومتانة مثل ذلك الطرح، وعدم اختلاطه بمصطلح(المذهبية) والذي يعني التعصب المذهبي، ولأسباب متعلقة بعدم الرغبة في مخاطبة الناس بأطروحات مَرَّ عليها أكثر من ثلاثين عاما ولم تلق انتشارا حتى الآن([3])، فإنني سأستخدم هنا مصطلح (التصوُّر الإسلامي) وهو يعني عندي: الكليات التي ارتضاها الإسلام من مقتضيات ولوازم الاعتقاد في العالم المادي لضبط حركته، سواء في الحياة عموماً أو في المجتمع، أو داخل عالم الإنسان من حيث هو فرد أو داخل جماعة.

ولأن الكتابة في هذا الباب أكبر من أن تُستوعَب في مقالة واحدة فإنني أكتفي هنا بالحديث عن التصور الإسلامي وما يخالفه في واقعنا المعاصر إجمالا لا تفصيلا.

تصوُّر إسلاميّ واضح ذو بؤرة صُلبة:

حدث خلاف في الواقع المعاصر بين عدد واسع من أهل الفكر والإعلام والصحافة حول حقيقة وجود تصوُّر إسلامي مُوَحَّد وصُلب يقف في مواجهة علمانية متجانسة وموحدة وصلبة هي الأخرى؛ وبعيدا عن الخوض في مسألة العلمانية وحقيقتها؛ فإن

الإسلام لديه (تصوُّر) واضح وصُلب وإن احتوى في داخله أنساقا متعددة ولم يقتصر على نسق(نمط ومنوال) واحد، وذلك تابع لكون نصوص الدين منها الظني ومنها القطعي، ثبوتا ودلالة، فإذا ثبت النص – بالأصالة أو الترجيح-؛ فإن مسألة ظنية الدلالة تبقى مؤثرة جدا في تعدد الأنساق.

حيث إن " للنصوص ظنية الدلالة حكمة من وجودها في الدين، ولها فائدة مهمة؛ وهي أنها تعطي مساحة للعقل والفهم والاجتهاد، ما يجعل الدين حياً متحركاً في العقول والأفهام دائماً، وهذا هو الفقه؛ لأن العلم بالمسائل القطعية لا يسمى فقهاً، كما أن القطعيّات وأساسيات الدين لا يمكن أن تخضع للشورى؛ لأن الشورى تقع فيما لا نص فيه، وتقع أيضاً في كل ما يدخل في باب الاجتهاد من النصوص الظنية، ولو كانت كل نصوص الدين قطعية لما أصبح هناك مجال للشورى ولا للاجتهاد.

إن النصوص الشرعية مؤكدة الدلالة هي وحدها التي يمتنع الاجتهاد فيها؛ لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية ثوابتها التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً، ومن غير المتصور بالتالي أن يتغيّر مفهومها تبعاً لتغيّر الزمان والمكان، إذ هي عصية على التعديل ولا يجوز الخروج عليها أو الالتواء بها عن معناها، أما الأحكام غير القطعية في ثبوتها أو في دلالتها أو فيهما معاً، فإن باب الاجتهاد يتسع فيها لمواجهة تغيّر الزمان والمكان، وتطور الحياة، وتنوّع مصالح العباد، وهو اجتهاد إن كان جائزاً أو مندوباً من أهل الفقه، فهو في ذلك أوجب وأولى لولي الأمر ليواجه ما تقتضيه مصلحة الجماعة؛ درءاً لمفسدة أو ***اً لمنفعة أو للأمرين معاً، كما أنه عن طريق وجود نصوص ظنية يُمكن القبول بمساحة من الاختلاف – وليس الخلاف – بين الأمة في عدد من المسائل، لكي يتراحموا ويسع بعضهم بعضاً " ([4])

إن التصور الإسلامي هو تصور قائم على فهم القرآن والسنة فهما متوازنا يطبّق الأحكام، ويفهم فقه المقاصد بطريقة " تربط بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية، وترى الإيمان بحكمة الشريعة وتضمنها مصالح الخلق، وتربط نصوص الشريعة وأحكامها بعضها ببعض، وتنظر النظرة المعتدلة لكل أمور الدين والدنيا "([5])، وهو تصور لا يقف مانعا أمام الإبداع في مجال الآليات التنظيمية والوسائل الإجرائية؛ لتحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع؛ لأننا كمسلمينعلينا الاجتهاد في هذا الإطار لتحقيق تلك ثوابت الشريعة بأفضل الوسائل الشريفة.

ولا يعني القول بوجود تصور إسلامي ذو بؤرة صُلبة، لا يعني مطلقا وجود نوع من النمطية في الإسلام، لأن النمطية تكون في الوسائل وليست في الثوابت، فلا يجوز بحال من الأحوال أن نعتبر التمسك بثوابت الإسلام أو الرد على محاولات الشغب عليها بنوع من التأويل، لا يجوز أن نعتبرها نوعا من النمطية.

وليكن معلوما أننا نقصد من القول بوجود تصور إسلامي واضح، نقصد ماهية وجود هذا التصور ذاتها من حيث التنظير؛ ذلك أن الطابع البشري قد يجعل البشر يتوافقون مع ذلك التصور في مسائل وربما يحيدون عنه في مسائل وأخرى، أي أننا لا نعني أن ذلك التصور من حيث الواقع قد أخذَ به كله –ككتلة صلبة واحدة- بعض المسلمين، وتركه آخرون غيرهم.

فإن قيل لنا على أي أساس يمكن التمييز بين اعتبار الاختلاف حول بعض هذه التصورات هو مجرد اختلاف أنساق داخل التصور الإسلامي الواضح، وبين اعتبار هذا الاختلاف هو اختلاف أضداد مع تصور منحرف عن التصور الإسلامي الواضح الصُّلب؟

والجواب كما يلي:

إن الاختلاف داخل التصور الإسلامي إذا كان اختلافا سائغا، وله حظ من النظر ودائر بين الراجح والمرجوح، بمعنى أن يكون أن يكون القول صادراً عن اجتهاد ونظر في الأدلة الشرعية المعتبرة دون اعتساف أو تأويل بعيد عن اللغة أو معارض من الشرع، وذلك كله بقصد الوصول إلى الحق الذي أراده الله ورسوله -صلى الله عليه و سلم-، فلا عبرة لمن صدر في رأيه عن العقل-ابتداءً- أو الرؤى المنامية أو الهوى أو العصبية، قال الشاطبيّ: " الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان، أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعاً، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر الاجتهاد إليه.والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي، فكل رأي صادر عن هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضد الحق "([6])، إذا كان الاختلاف كما بينته آنفا، فهو اختلاف أنساق سائغ وليس اختلاف أضداد.

ومن أمثلة اختلاف الأنساق داخل التصور الإسلامي، الاختلاف حول السؤال الآتي: هل مجيء السنة بما هو زائد عن التشريع في القرآن بذاتها، أم تبعا لاعتمادها على الكليّ والمُجْمَل من القرآن الكريم؟

ذلك لأن المحصلة -وما يترتب عليها- في النهاية واحدة؛ لأن كلا القولين يؤكد بوجود أحكام في السنة زائدة على ما جاء في القرآن([7])، ولكن أحدهما يُسمّيه استقلالا، والآخر لا يُسمّيه، والمحتوى واحد.

وكلا القوليْن معا يختلفان مع تصوُّر ما يُمكن تسميته في الواقع المعاصر بـ(الإسلام الليبرالي)، والذي نراه تصورا منحرفا عن جادة الصواب، في كونه يطعن في حُجيّة السُّنّة في التشريع، بالقول أن ما جاء في السنة من تشريعات في غير أمور العبادات ومسائل الحلال والحرام، كبعض الأمور السياسية أو الاقتصادية؛ ولم يكن موجودا في القرآن ما يؤيده، فهو مردود لا يجب العمل به!([8])

التصور المُخالف للتصور الإسلامي في الواقع المعاصر.

تعددت التصورات المعاصرة المخالفة لتصورنا الإسلامي الواضح عبر تاريخ الأمة وأزمنتها المتعاقبة، ولكن ما يعنينا هنا هو ذلك التصور الذي انتشر في العقود الزمنية الثلاثة الأخيرة، وبه بعض من ميراث تصورات أخرى منحرفة عن جادة الصواب مَرَّ بها أفراد أو جماعات مِنْ الأمة، وهو تصور ما يسمى بالإسلام الليبرالي.

وعلى الرغم من تعدد أنساق هذا التصور إلا أنه يمكن أن نُلخِّص بؤرة كتلته الصلبة التي تجتمع عليها أنساقه في العناصر الثلاثة الآتية:

أولا: الجور على مصادر التشريع في الإسلام كالتوجه بالقرآن الكريم نحو ما يسمى بالتفسير والفهم المقاصدي من أجل تعطيل الأحكام الشرعية الظاهرة من النصوص اعتمادا على تحقيق ما أسموه مقاصدها!، ثم جعلوا أحكام القرآن محصورة في الآيات قطعية الدلالة، وعمدوا إلى إلغاء الإجماع بحجة عدم إمكانية حصوله، وإلى جعل القياس على أسس منطقية وليس على أسس أصولية فقهية، وتقسيم التشريعات إلى عامة ووقتية تنتهي بزمنها، ليترتب على ذلك مبدأ تاريخية السُنَّة، أي أن أمور السياسة وإدارتها جاءت في السُنَّة لزمنها.

ثانيا: اعتبار أي خلاف بين الفقهاء دلالة على عدم وجود حكم فقهي محدد في المسألة محل الخلاف، مما يسهل اتباع منهج توليفي في الأحكام الشرعية، والادعاء بأن هذا المنهج هو منهج الوسطية.

ثالثا: استبدال منظومة القيم الإسلامية بمنظومة القيم العالمية، أي تحقيق القيم العالمية للإسلام، وليس القيم العليا للإسلام.([9])

إن ما يُعرف باسم (الفهم المقاصدي للإسلام) يمكن أن نعتبره أحد أنساق تصور الليبرالية الإسلامية في مقابل ما تم تسميته من بعضهم بـ(التصوُّر النصيّ للإسلام).

والحقيقة أن هذا التصور المقاصدي للإسلام الذي نتحدث عنه ما هو بالجملة إلا نوع من التداول الحداثيّ لنظرية المقاصد التي تعبرها الإسلام ويوليها اهتماما!

فالفرق بين تصورنا الإسلامي لمقاصد الشريعة وما أطلق عليه التصوُّر المقاصدي للإسلام، هو اعتماد هذا التصور الأخير للمصلحة كأصل من أصول الشرع موازيا للكتاب والسنة، مُصْدِرا للأحكام إجمالا، وهذا من المحال، إذ المصلحة وصف يتعلق بذات الحكم، لا يقوم بنفسه، بمعني أن المصالح لا تعرف إلا باقترانها بنص أو واقع، وبعد معرفته يُحكم بما يحصل به المصلحة، فالشريعة الإسلامية تعتمد المصلحة المرسلة كمصدر للتشريع، إلا أنها تعتبرها كمصدر تابع للقرآن والسنة؛ فما توافق من المصالح معهما كانت (مصلحة معتبرة)، وهي محل اهتمام الشرع، وما تعارض من المصالح مع القرآن والسنة كان (مصلحة ملغاة) لا اعتبار لها.

إن مَنْ يُسمَّون بأصحاب التصور المقاصدي لا ينطلقون من مقاصد الشريعة وأصولها للحكم على المصالح المعاصرة، وإنما يريدوننا أن نوجد مقاصد للشريعة من خلال هذه المصالح؛ فالطريقة المقاصدية عندهم ليست أن تنظر في المصلحة (المرسلة) المعاصرة ومدى موافقتها للشريعة، بل أن تنظر في المصلحة (المرسلة) المعاصرة وتبحث في الشريعة عما يجعلها من مقاصدها!، وهم بذلك أفرطوا في مفهوم (المصلحة) فقيدوا بها أحكام الدين، وحولوا تلك المصلحة إلى أصل من أصول التشريع يدور مع تفاصيل أحكامه حيثما دارت، تابعاً لها لا متبوعاً، ولذلك تجدهميهدفون من خلال تعاملهم مع التراث والتاريخ الإسلامي، يهدفون إلى البحث عن أصول شرعية لا تنازع المفاهيم الحداثية المعاصرة!([10])

إن التصور والفهم المقاصدي للإسلام –بهذا الشكل- هو محصلة التفاعل بين الإسلام والفلسفات والمكتسبات العلمية والمنهجية التي حققتها الحضارة الإنسانية، حيث يدعو إلى الانفتاح على مكتسبات العلوم الإنسانية وإلى تجديد أدوات قراءة النصوص الشرعية عن طريق توظيف العلوم والمناهج الغربية في دراستها إلى جانب العلوم الشرعية؛ فيتم اعتماد أدوات قراءة متنوعة مستمدة من حقول معرفية شتى، كالإنثروبولوجيا بفروعها، وعلوم اللسان بمدارسها.

والحقيقة أن الاستفادة من أي علم نافع في توسيع إدراك المتعامل مع النص الديني لا ضير فيه من حيث الأصل، بشرط ألا يكون الهدف من ذلك هو تمييع العلوم الشرعية وإحداث نوع مما يسمونه مرونة في الشريعة تدفع إلى العدول عن أحكام النصوص إلى أحكام أخرى تقتضيها الضرورة أو المصلحة بحجة المحافظة على المقاصد، وخاصة في الأمور المتعلقة بالحكم والسياسية أو الاقتصاد.

وذلك كله من أجل شرعنة الهدف النهائي لهذا التصور المقاصدي وهو نزع ما يسمونه التعالي(القداسة) عن النصوص الدينية وإخضاعها لسنن القراءة البشرية شأنها في ذلك شأن بقية النصوص البشرية!، بغرض الانتهاء إلى القول بتاريخية الشريعة الإسلامية ونسبية الأحكام التي جاءت بها.

ويبقى ذلك أخطر ما يعتمده أصحاب هذا التصور؛ فهم يعقدون معادلة بين النص والواقع بحيث يجعلون ما يجري به الواقع من قيم ثقافية وحقوقية واجتماعية هي الحَكَم الذي يُحتكم إليه في التعرّف على دلالة النص الديني وفي استبدال الأحكام المستفادة من النص بمقتضى تلك الأدلة بما يقتضيه الواقع المعاصر بأوضاعه المتغيرة على الدوام، وناتج ذلك هو عدم وجود مضمون موضوعي ثابت، فإذا ما كان هذا الواقع هو القيّم على النص الديني بحيث يكون تفسيره على حسب ما يكون في الواقع من أوضاع لتكون مضمونا له، فإن ذلك سيؤدي لا محالة إلى أن يكون هذا النص محتويا في بعض الأزمان شيئا من الباطل ومن الشرّ باعتباره دينا !!

ولقد تعرض هذا التصور والفهم المقاصدي للإسلام –بهذا الشكل- للانتقاد من بعض الباحثين المعاصرين؛ فيرى الدكتور سلطان العميري أن نظرية تحكم الفهم المقاصدي في النص الشرعي انتهىت من خلال الاعتماد على نظرية المقاصد إلى " إهدار أحكام الشريعة التفصيلية والشرائع التكليفية، وتوصَّل إلى اعتبار أن أحكام الشريعة لم تشرع إلا لتحقيق مقاصدها، فهي تقوم مقام الوسائل بالنسبة للغايات؛ فأحكام الحدود لم تشرع إلا لردع مقترفي المعاصي، ومنع الربا لم يشرع إلا لتحقيق مقصد العدالة ومنع استغلال القوي للضعيف، وهكذا الأمر في كل حكم من أحكام الشريعة، فهي لا تحمل أي قيمة في ذاتها؛ وإنما قيمتها من جهة تحقيقها لمقاصدها، فإذا تحقق المقصد من غيرها بحيث إن العصر أو حاجة الناس أوجبت طريقاً آخر يحقق لنا المقصد منها فلا داعي للالتزام بها، ولا يبقى مبرر لاستمرارها، وهذا الحكم شامل لكل العبادات الشرعية؛ فالشريعة إنما جاءت بها لأنها هي التي تحقق أغراضها في زمن الرسالة، وهذا يعني أنها غير مقصودة بالتشريع إلا على جهة الوسيلة فقط "([11])، كما يرى العميري أن تلك النظرية " تعاني من إشكاليات معرفية ومنهجية عميقة أحدثت خللاً كبيراً في بنيتها وفساداً معرفياً في كيانها، ...فمنها ما يرجع إلى الفكرة المنتجة، ومنها ما يرجع إلى الآلية التي قامت عليها النظرية، ومنها ما يرجع إلى الذهنية التي تناولت الشواهد والأمثلة "([12])

ويرى الدكتور (العميري) أن تلك الإشكاليات بأنواعها تتضح في الأمرين التاليين:

الأول: المفهوم الزئبقي الذي لم " يقدم للقارئ بياناً لمفهوم المقاصد التي يقدمها على النص الشرعي ويجعلها متحكِّمة فيه، ولم يقدِّم له المضامين المعرفية التي تكشف عن جوهرها وحدودها ومعالمها، وتضمن استعمالها بشكل منضبط؛ فإذا كانت النظرة المقاصدية تبلغ عند الخطاب الحداثيّ إلى أن تكون أحد المرتكزات الكبرى التي تحاكَم إليها النصوص الشرعية وتفهَم على ضوئها، وتغيَّر قطعيّات الشرعية بناءً على تغيرها، فإن هذه المنزلة تتطلب مهامَّ كبيرةً تستوجبها الآثار المترتبة عليها وتؤكدها الأبعاد المعرفية التي بُنِيَت عليها.

ولنا أن نتساءل: هل قام الخطاب الحداثيّ بتلك المهام الكبيرة بالشكل الذي يلبي المهام المنهجية؟!

فلو كان الخطاب الحداثيّ ملتزماً بالمنهجية العلمية الصحيحة لبادر إلى تنفيذ المهام المعرفية الواجبة عليه، ولكنه لم يف بشيء من ذلك.

وهذا الإهمال المنهجي الذي ظهر بشكل بيِّن في تعاطي الخطاب الحداثيّ مع النظرة المقاصدية يتجلى في مواطن عديدة من منتجه المعرفي؛ فقد أضحى الغموض والاعتماد على المصطلحات المجملة الفضفاضة والغامضة سمة بارزة فيه، وتتالت الشكاوى من تلك الاستعمالات حتى من بعض الخطاب نفسه "([13])

والأمر الثاني: الاختزال الشديد لنظرية المقاصد في المصالح المادية من دون المصالح النفسية والروحية " والسبب وراء الاختزال الحداثيّ لنظرية المقاصد: أنه لم يقم باستقراء النصوص الشرعية؛ وإنما اكتفى بالعموميات فقط، ولو رجعنا إلى المنتج الفقهي والأصولي لوجدنا تأكيد عدد من علماء المقاصد على أن الشريعة اهتمت ببيان المقاصد التي يريد الشارع تحقيقها بوضوح "([14]).

التصوُّر الوسطيّ لنظرية المقاصد:

والحقيقة أننا " لو قمنا بالمقارنة بين جهود الفقهاء والأصوليين وبين جهود المشروع الحداثيّ في بيان مقاصد الشريعة العامة والخاصة والمادية والمعنوية منها، فإنا نجد أن الفقهاء بذلوا جهوداً كبيرة، وقطعوا مسافات شاسعة في البحث والتنقيب عن مقاصد الشرع، واستطاعوا من خلالها أن يتوصلوا إلى أنواع من المقاصد التي جاءت الشريعة بتحقيقها ونحن لا ننكر أن مشروعهم ذلك قد وقعت فيه أخطاء ومبالغات، ولكن القارئ يستطيع أن يخرج من جملة ما قدموا بصورة ناضجة يتبين بها أحقية الشريعة ووجاهتها ولزوم تطبيق ما جاءت به من أحكام وحدود، وأنها جاءت على أكمل وجه وأنصع صورة وأبين حالة، ويجد في المقابل قصوراً ظاهراً في الخطاب الحداثّيّ في هذه القضية، وهو ما أوقع بحوثهم في أخطاء كبيرة مخالفة للتاريخ فضلاً عن مخالفتها للنص الشرعي نفسه" ([15])

ويجب أن يكون واضحا أن انتقاد محاولات تعطيل النصوص بادعاء تحقيق المصالح والمقاصد، لا يعني عدم اعتبار فقه المقاصد في الإسلام، أو الاتجاه نحو مسلك وسطي فيه (أي: فقه المقاصد) حتى في بعض المسائل التي جاء فيها الإجماع، فلا ننظر إلى فقه النصوص بمعزل عن المقاصد فنكون بذلك أقرب إلى اتباع حَرْفيّة النصوص، بل ننظر إلى فقه النصوص بالطريقة الوسطية التي تربط نصوص الشريعة وأحكامها ببعضها، وترى تضمُّن الشريعة مصالح الخلق.

وذلك هو منهج تعامل بعض علماء المسلمين السابقين مع فقه المقاصد؛ فلقد تعامل كثير من أسلافنا من علماء المسلمين مع فقه المقاصد بمسلك وسطي صحيح، كشيخ الإسلام ابن تيمية([16]) وتلميذه ابن القيم.

وقد نبعت بعض فتاوى عدد من العلماء المعاصرين من تلك المدرسة الوسطية في فقه المقاصد، من هؤلاء: العلامة النجدي الشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود .

وبناء على ذلك فقد قدمتُ اقتراحا لمنهجية أراها ترسخ لكيفية التعامل الوسطي الناجح مع فقه المقاصد([17])؛ حيث تقتضي تلك الوسطية ربط فقه المقاصد وضبطه بغيره من بعض أنواع الفقه الأخرى؛ وذلك حتى لا يُساء استخدامه .

إن هذا الضبط يمكن أن نجعله حسب درجة قوة حفظ مقاصد التشريع في النصوص والتي تتدرج – حسبما قسمها علماء الأصول - إلى ثلاث مراحل(مراتب) بحسب الأهمية، وهي: الضروريّات والحاجيّات والتحسينيّات .

1- فعند نظر المقاصد في نصوص (الضروريات) لابد من مراعاة فقهين :

أولا: (فقه الاتباع لا الابتداع): والمقصود بالاتباع، هو اتباع ما جاء في القرآن المنزل من عند رب العالمين، وكذلك السنة المطهرة، والتسليم لهما، وصاحب الاجتهاد محتاج دائما إلى ذلك الفقه؛ لأنه يعني الأصالة ولا يعني التقليد، والأصالة تعني التقدم للأمام اعتمادا على الأصول، ولا تعني مطلقا الرجوع للوراء.

ثانيا: (فقه الضرورة): وذلك حتى يتم تقديرها تقديرا صحيحا؛ فيتم التعامل معه بشكل صحيح أيضا .

2-وعند نظر المقاصد في نصوص (الحاجيات) لابد من مراعاة (فقه الموازنات): وهو الذي يعين على رعاية شؤون الناس بما يخدم مصالحهم، وهو فقه قائم على الموازنة و الترجيح بين المصالح بعضها وبعض إذا تعارضت: أيها أولى بالاعتبار، وأيها أولى بالإسقاط،أيها أحق بالتقديم ،وأيها أحق بالتأخير، وكذلك الموازنة بين المفاسد والمضار بعضها وبعض إذا تعارضت.

ومثلها: المعارضة بين المصالح و المفاسد، أيها يرجح الآخر في ميزان الشريعة؟

وهذه الموازنات و الترجيحات تحتاج إلى نوعين من الفقه:

- فقه الأحكام والأدلة، من خلال النصوص الجزئية، والمقاصد الكلية .

- فقه الواقع على ما هو عليه، دون تهويل ولا تهوين، سواء واقع المسلمين أو واقع أعدائهم. الواقع المحلي، الواقع الإقليمي، والواقع الدولي.

3- وعند نظر المقاصد في نصوص (التحسينات) لابد من مراعاة فقهين:

أولا: (فقه الأولويات): وهو يرتب الأهداف حسب أهميتها.

ثانيا: (فقه المآلات): ويفيد في تحديد النتائج النهائية وما تؤول إليه الأقوال والأفعال.

وأخيرا: فإن حديثنا عن حقيقة التصور الإسلامي وما حدث له من بعض الانحرافات في الواقع المعاصر، ليس نوعا من الترف الفكري، أو الإمتاع المعرفيّ؛ إنما هو قضية ينبع منها ويبنى عليها في الواقع العملي الذي نعيشه حاليا بعض المسائل المتعلقة بفكرة شمول وعموم الإسلام، مثل: علاقة الدين بالدولة والسياسة، أو علاقة الدولة بالدين وتغوّلها عليه، وغير ذلك من مسائل الحُكْم والسياسية المعاصرة، والتي يحتاج تفصيلها إلى مقالات خاصة.

ــــــــــــــــــــــــــ

[1])) من أمثلة المؤلفات التي كتبت في هذا الباب:

كتاب الأستاذ سيد قطب (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته) دار الشروق، مصر، ط4/ 1398هـ، 1978م

وكتاب الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس (أسس في التصور الإسلامي)، دار الفرقان بالأردن، ط3/ 1991م.

وكتاب الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح (الغزو الفكري في التصور الإسلامي، وكيفية مواجهته) دار الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ط1/ 1421هـ، 2000م.

وكتاب الدكتور إبراهيم النعمة (الوسطية في التصور الإسلامي) دار المأمون للنشر والتوزيع، ط1/ 2012م.

[2])) د. محسن عبد الحميد (المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري) تقديم: عمر عبيد حسنة، وزارة التربية العراقية، ط4/ 1420هـ

[3])) ظهر مصطلح (المذهبية الإسلامية) لأول مرة من خلال الطبعة الأولى من كتاب (المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري) ضمن سلسلة كتاب الأمة، قطر، 1404هـ .

[4])) د.تامر بكر (ظنية الدلالة والتوظيف الليبرالي) مجلة البيان، جمادى الأولى 1435هـ، 2014م، (العدد 321)

[5])) د. يوسف القرضاوي (دراسة في فقه مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية) ط1/ دار الشروق 2006م .

[6])) الإمام الشاطبيّ (الموافقات) تحقيق: مشهور آل سلمان، دار ابن عفان، ط1/ 1417هـ، 1997م (4/ 167)

[7])) منزلة السنة من القرآن من حيث التشريع جاءت على ثلاثة مراتب، إما موافقة ومؤكدة لما جاء في القرآن، وإما مبينة وشارحة له، وإما مستقلة بالتشريع. [انظر تفاصيل ذلك وبعض أدلته في مقالي: (الليبراليون الإسلاميون "قرآنيون" إلا قليلا) موقع مركز التأصيل للدراسات والبحوث، 17/ 7/ 2013م، على الرابط:

http://taseel.com/display/pub/defaul...3156&ct=4&ax=5

[8])) انظر: مقالي: (عرض السنة على القرآن بين المقبول والمرفوض) موقع مركز التـأصيل للدراسات والبحوث، 11/6/ 2014م، على الرابط:

http://taseel.com/display/pub/defaul...?id=6252&mot=1

[9])) للمزيد من التفاصيل انظر مقالي: (الليبرالية الإسلامية عقد منظوم من الانحرافات) مركز التأصيل للبحوث والدراسات، 26/5/ 2013م، على الرابط:

http://taseel.com/display/pub/defaul...968&ct=24&ax=5

[10])) ويمكن للقارئ الكريم أن يتعرف على الجذور المصطنعة لشرعنة المصالح الملغاة وتوظيفها في هدم النص الشرعي، من خلال مقالي: (توظيف المصلحة لهدم النص الشرعي) مركز التأصيل للدراسات والبحوث، 7/5/ 2014م، على الرابط:

http://taseel.com/display/pub/defaul...4175&ct=3&ax=5

[11])) انظر: عبد المجيد النجار (القراءة الجديدة للنص الديني) مركز الراية للتنمية الفكرية 2006م(ص69)، وهو منقول عن:سلطان العميري (التداول الحداثيّ لنظرية المقاصد، قراءة نقدية[1]) مجلة البيان، عدد (293) محرم 1433هـ، سبتمبر 2011م

[12])) د.سلطان العميري (التداول الحداثيّ لنظرية المقاصد) المرجع السابق

[13])) المرجع السابق

[14])) المرجع السابق

[15])) المرجع السابق

[16])) انظر: يوسف أحمد البدوي (مقاصد الشريعة عند ابن تيمية) طبعة دار النفائس (ص519: 521)، حيث تكلم عن اعتدال ابن تيمية ووسطيته بين الإفراط والتفريط.

([17]) تامر بكر، مقال (المسلك الوسطي لفقه المقاصد) مجلة البيان، (العدد 308) ربيع الآخر 1434هـ ، مارس 2012م (ص38)

فقد لاحظتُ أن محاولات التجديد –وليس التطوير- لفقه المقاصد انصبت في المقام الأول على تقسيمات المقاصد أو على أعدادها، وغاب عنها محاولات التجديد في منهجية التعامل مع المقاصد بعمومها، وهو ما أزعم أنني حاولت القيام به بتقديمي مقترحا من خلال ذلك المقال، وهو ما لخصته في هذا المقال.
-------------------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59