عرض مشاركة واحدة
  #31  
قديم 01-09-2012, 11:23 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,419
افتراضي

الفصل السادس و الخمسون: في أن صناعة النظم و النثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني
إعلم أن صناعة الكلام نظما و نثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني إنما المعاني تبع لها و هي أصل. فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم و النثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله و جريه على لسانه حتى تستقر له الملكة في لسان مضر و يتخلص من العجمة التي ربي عليها في جبله و يفرض نفسه مثل وليد نشأ في جبل العرب و يلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم. و ذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل شأن الملكات و الذي في اللسان و النطق إنما هو الألفاظ و أما المعاني فهي في الضمائر. وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد و في طوع كل فكر منها ما يشاء و يرضى فلا يحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها و تأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه و هو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التى يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب و الفضة و الصدف و الزجاج و الخزف و الماء واحد في نفسه. و تختلف الجودة في الأواني المملؤة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللغة و بلاغتها في الاستعمال تختلف بإختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد. و المعاني واحدة في نفسها و إنما الجاهل بتأليف الكلام و أساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده و لم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض و لا يستطيعه لفقدان القدرة عليه. و الله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.

الفصل السابع و الخمسون: في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ و جودتها بجودة المحفوظ
قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي و على قدر جودة المحفوظ و طبقته في جنسه و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابئ تكون ملكته أجود و أعلى مقاما و رتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخرين أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصبهاني لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير الناقد صاجب الذوق. و على مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها و تنمو قوى الملكة بتغذيتها. و ذلك أن النفس و إن كانت في جبلتها واحدة بالنوع فهي تختلف في البشر بالقوة و الضعف في الإدراكات. و اختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات و الملكات و الألوان التي تكيفها من خارج. فبهذه يتم وجودها و تخرج من القوة إلى الفعل صورتها و الملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر و ملكة الكتابة بحفظ الأسجاع و الترسيل، و العلمية بمخالطة العلوم و الإدراكات و الأبحاث و الأنظار، و الفقهية بمخالطة الفقه و تنظير المسائل و تفريعها و تخريج الفروع على الأصول والتصوفية الربانية بالعبادات و الأذكار و تعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة و الانفراد عن الخلق ما استطاع حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن و روحه و ينقلب ربانيا و كذا سائرها. و للنفس في كل واحد منها لون تتكيف به و على حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام و بهذا كان الفقهاء و أهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة و ما ذلك إلا لما سبق إلى محفوظهم و يمتلئ به من القوانين العلمية و العبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة و النازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين و العلوم لا حظ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المخفوظ إلى الفكر و كثر و تلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور و انحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. و هكذا نجد شعر الفقهاء و النحاة و المتكلمين و النظار و غيرهم ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب. أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذكرت يوما صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن و كان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي و لم أنسبها له و هو هذا:
لم أذر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها و البالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له: و من أين لك ذلك، فقال: من قوله ما الفرق ؟ إذ هي من عبارات الفقهاء و ليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك إنه ابن النحوي. و أما الكتاب و الشعراء فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم و مخالطتهم كلام العرب و أساليبهم في الترسل و انتقائهم لهم الجيد من الكلام. ذاكرت يوما صاحبنا أبا عند الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر و كان الصدر المقدم في الشعر و الكتابة فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به و حفظي للجيد من الكلام من القرآن و الحديث و فنون من كلام العرب و إن كان محفوظي قليلا. و إنما أتيت و الله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية و القوانين التألفية. فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى و الصغرى في القراءات في الرسم و استظهرتهما و تدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه و الأصول و جمل الخونجى في المنطق و بعض كتاب التسهيل و كثيرا من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك و خدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن و الحديث و كلام العرب تعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال: لله أنت و هل يقول هذا إلا مثلك ؟ و يظهر لك من هذا الفصل و ما تقرر فيه سر آخر و هو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة و أذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم و منظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت و عمر بن أ بي ربيعة و الحطيئة و جرير و الفرزدق و نصيب و غيلان ذي الرمة و الأحوص و بشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية و صدرا من الدولة العباسية في خطبهم و ترسيلهم و محاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة و عنترة و ابن كلثوم و زهير و علقمة بن عبدة و طرفة بن العبد و من كلام الجاهلية في منثورهم و محاوراتهم و الطبع السليم و الذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة. و السبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن و الحديث اللذين عجز البشر في الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم و نشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم و ارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة و لا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم و نثرهم أحسن ديباجة و أصفى رونقا من أولئك و أرصف مبنى و أعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. و تأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق و البصر بالبلاغة. و لقد سألت يوما شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا و كان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين و استبحر في علم اللسان و جاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ؟ و لم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثم قال لي: و الله ما أدري، فقلت: أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك و لعله السبب فيه. و ذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجبا ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. و كان من بعدها يؤثر محلي و يصيخ في مجالس التعليم إلى قولي و يشهد لي بالنباهة في العلوم، و الله خلق الإنسان و علمه البيان.

الفصل الثامن و الخمسون: في بيان المطبوع من الكلام و المصنوع و كيف جودة المصنوع أو قصوره
إعلم أن الكلام الذي هو العبارة و الخطاب، إنما سره و روحه في إفادة المعنى. و أما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به. و كمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، و معرفة الشروط و الأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. و تلك الشروط و الأحكام للتراكيب في المطابقة اسقريت من لغة العرب و صارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الاسناد بين المسندين، بشروط و أحكام هي جل قوانين العربية. و أحوال هذه التراكيب من تقديم و تأخير، و تعريف و تنكير، و إضمار و إظهار. و تقييد و إطلاق و غيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد و بالمتخاطبين حال التخاطب بشروط و أحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة. فتندج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. و ما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال، و لحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات.
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات لأن التركيب يدل بالوضع على معنى ثم ينقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازا: إما باستعارة أو كناية كما هو مقرر في موضعه، و يحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة و أشد. لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. و الظفر من أسباب اللذة كما علمت. ثم لهذه الانتقالات أيضا شروط و أحكام كالقوانين صيروها صناعة، و سموها بالبيان. و هي شقيقة علم المعانى المفيد لمقتضى الحال لأنها راجعة إلى معاني التراكيب و مدلولاتها. و قوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. و اللفظ و المعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني و علم البيان هما جزء البلاغة، و بهما كمال الإفادة، فهو مقصر عن البلاغة و يلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم و أجدر به أن لا يكون عربيا، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي و سجيته و روحه و طبيعته.
ثم اعلم أنهم إذا قالوا: الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طييعته و سجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة و خطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، و يدل به عليه دلالة وثيقة. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين و التزيين، بعد كمال الإفادة و كأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، و الموازنة بين حمل الكلام و تقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام و التورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، و المطابقة بين المتضادات، ليقع التجانس بين الألفاظ و المعاني. فيحصل للكلام رونق و لذة في الأسماع و حلاوة و جمال كلها زائدة على الإفادة.
و هذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضيع متعددة مثل: والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى، و مثل: فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى، إلى آخر التقسيم في الآية. و كذا: فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا إلى آخر الآية. و كذا: هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. و أمثاله كثير. و ذلك بعد كمال الإفادة في أصبل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. و كذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمد. و يقال إنه وقع في شعر زهير.
و أما الإسلاميون فوقع لهم عفوا و قصدا، و أتوا منه بالعجائب. و أول من أحكم طريقته حبيب بن أوس و البحتري و مسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعه. و يأتون منها بالعجب. و قيل أن أول من ذهب إلى معاناتها بشاز بن برد و ابن هرمة، و كانا آخر من يستشهد بشعره في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم و العتابي و منصور النميري و مسلم بن الوليد و أبو نواس. و جاء على آثارهم حبيب و البحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البدء و الصناعة أجمع. و لنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصناعة. مثل قول قيس بن ذريح:
و أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا
و قول كثير:
و إني و تهيامي بعزة بعدما تخليت عما بيننا و تخليت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلها تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، ي أحكام تأليفه و ثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا.
و أما المصنوع فكثير من لدن بشار، ثم حبيب و طبقتهما، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم، و نسجوا على منوالهم. و قد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، و اختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها. و كثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة، و أنها هي تعطى التحسين و الرونق. و أما المتقدمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. و لذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها. و هو رأي ابن رشيق قي كتاب العمدة له، و أدباء الأندلس. و ذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا منها أن تقع من غير تكلف و لا اكتراث في ما يقصد منها. و أما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلام من عيب الاستهجان، لأن تكلفها و معاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام، فتخل بالإفادة من أصلها، و تذهب بالبلاغة رأسا. و لا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات، و هذا هو الغالب اليوم على أهل العصر. و أصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، و يعدون ذلك من القصور عن سواه. و سمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي، و كان من أهل البصر في اللسان و القريحة. في ذوقه يقول، إن من أشهى ما تقترحه على نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، و قد عوقب بأشد العقوبة، و نودي عليه، يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلفون بها، و يتناسون البلاغة. ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها و أن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر و رونقه. و الإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق و غيره. و كان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي منفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنها من محسنات الكلام و مزيناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد و الإثنين منها، و يقبح بتعدادها. و على نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية و الإسلام. كان أولا مرسلا معتبر الموازنة بين جمله و تراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله من غير التزام سجع و لا اكتراث بصنعة. حتى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة و التقفيه و أتى بذلك بالعجب. و عاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية. و إنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة و البعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين و نسي عهد الترسيل و تشابهت السلطانيات و الإخوانيات و العربيات بالسوقيات. و اختلط المرعى بالهمل. و هذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة و التكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلة الإكتراث فيه بأصل البلاغة، و الحاكم في ذلك الذوق. و الله خلقكم و علمكم ما لم تكونوا تعلمون.

الفصل التاسع و الخمسون: في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر
اعلم أن الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم و أخبارهم و حكمهم. و كان رؤساء العرب منافسين فيه و كانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده و عرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن و أهل البصر لتمييز حوله. حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم و بيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس ابن حجر و النابغة الذبياني و زهير بن أبى سلمى و عنترة بن شداد و طرفة بن العبد و علقمة بن عبدة و الأعشى و غيرهم من أصحاب المعلقات السبع. فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من كان له قدرة على ذلك بقومه و عصبته و مكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات. ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبؤة و الوحي و ما أدهشهم من أسلوب القرآن و نظمه فأخرسوا عن ذلك و سكتوا عن الخوض في النظم و النثر زمانا. ثم استقر ذلك و أونس الرشد من الملة. و لم ينزل الوحي في تحريم الشعر و حظره و سمعه النبي صلى الله عليه و سلم و أثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه. و كان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية و طبقة مرتفعة و كان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجبا به. ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل و الدولة العزيزة و تقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. و يجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم و مكانهم من قومهم و يحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على الآثار و الأخبار و اللغة و شرف اللسان. و العرب يطالبون ولدهم بحفظها. و لم يزل هذا الشأن أيام بني أمية و صدرا من دولة بني العباس. و انظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي في باب الشعر و الشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك و الرسوخ فيه و العناية بانتحاله و التبصر بجيد الكلام و رديئه و كثرة مخفوظه منه. ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم من أجل العجمة و تقصيرها باللسان و إنما تعلموه صناعة ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب و البحتري و المتنبئ و ابن هانئ و من بعدهم و هلم جرا. فصار غرض الشعر في الأغلب إنما هو الكذب و الاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين كما ذكرناه آنفا. و أنف منه لذلك أهل الهمم و المراتب من المتأخرين و تغير الحال و أصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة و مذمة لأهل المناصب الكبيرة. و الله مقلب الليل و النهار.

الفصل الستون: في أشعار العرب و أهل الأمصار لهذا العهد
اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية و قد كان في الفرس شعراء و في يونان كذلك و ذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر و أثنى عليه. و كان في حمير أيضا شعراء متقدمون. و لما فسد لسان مضر و لغتهم التي ذونت مقاييسها و قوانين إعرابها و فسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها و مازجها من العجمة فكانت تحيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة و في كثير من الموضوعات اللغوية و بناء الكلمات. و كذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب و أكثر الأوضاع و التصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد. و اختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشرق و أمصاره لغة غير لغة أهل المغرب و أمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس و أمصاره. ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات و السواكن و تقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة و هي لغة مضر الذين كانوا فحولة و فرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين و الحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله و رصف بنائه على مهيع كلامهم. فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيعرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون و يأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر و أغراضه من النسيب و المدح و الرثاء و الهجاء و يستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام. و ربما هجموا على المقصود لأول كلامهم و أكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم و أهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحورانى و القيسي. و ربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية. ثم يغنون به و يسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق و الشام و هي من منازل العرب البادية و مساكنهم إلى هذا العهد. و لهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه و يلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع و المخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين. و لهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة و فيهم الفحول و المتأخرون و الكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد و خصوصا علم اللسان يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها و يمج نظمهم إذا أنشد و يعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها و فقدان الإعراب منها. و هذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعة و ذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته و نظره و إلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود و لمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالا على الفاعل و النصب دالا على المفعول أو بالعكس و إنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه. فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة و اشتهر صحة الدلالة و إذا طابقت تلك الدلالة المقصود و مقتضى الحال صحت البلاغة و لا عبرة بقوانين النحاة في ذلك. و أساليب الشعر و فنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر. و يتميز عندهم الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب.
فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجارية بنت سرحان، و يذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب:
قال الشريف ابن هاشم علي ترى كبدي حرى شكت من زفيرها
يغز للإعلام أين ما رأت خاطري يرد غلام البدو يلوي عصيرا
و ماذا شكاة الروح مما طرا لها عداة وزائع تلف الله خبيرها
يحس إن قطاع عامر ضميرها طوى و هند جافي ذكيرها
و عادت كما خوارة في يد غاسل على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها
تجابذوها اثنين و النزع بينهم على شوك لعه و البقايا جريرها
و باتت دموع العين ذارفات لشانها شبيه دوار السواني يديرها
تدارك منها النجم حذرا و زادها مرون يجي متراكبا من صبيرها
يصب من القيعان من جانب الصفا عيون و لجاز البرق في غزيرها
هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة ناضت من بغداد حتى فقيرها
و نادى المنادي بالرحيل و شدوا و عرج عاريها على مستعيرها
و شد لها الأدهم دياب بن غانم على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها
و قال لهم حسن بن سرحان غزبوا و سوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها
و يركض و بيده شهامه بالتسامح و باليمين لا يجدوا في مغيرها
غدرني زيان السيح من عابس و ما كان يرضى زين حمير و ميرها
غدرني و هو زعما صديقي و صاحبي و أناليه ما من درقتي ما يديرها
و رجع يقول لهم بلال بن هاشم بحرالبلادالعطشى ما بخيرها
حرام علي باب بغداد و أرضها داخل و لا عائد ركيره من نعيرها
تصدف روحي عن بلاد بن هاشم على الشمس أوحول الغظامن هجيرها
و باتت نيران العذارى قوادح يلوذ و بجرجان يشدوا أسيرها
ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بأفريقية و أرض الزاب و رثاؤهم له على جهة التهكم:
تقول فتاة الحي سعدى و هاضها لها في ظعون الباكرين عويل
أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفه خذ النعت مني لا تكون هبيل
تراه يعالي وادي ران و فوقه من الربط عيساوي بناه طويل
أراه يميل النور من شارع النقا به الواد شرقا و اليراع دليل
أيا لهف كبدي على الزناتي خليفه قد كان لأعقاب الجياد سليل
قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم جراحه كافواه المزاد تسيل
أيا جائزا مات الزناتي خليفه لاترحل إلا أن يريذ رحيل
ألا واش رحلنا ثلاثين مرة و عشرا و ستا في النهار قليل
و من قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتابا وقع بينه و بين ماضي بن مقرب:
تبدى ماضي الجبار و قال لي أشكر ما نحنا عليك رضاش
أشكر أعد ما بقي ود بيننا و رانا عريب عربا لابسين نماش
نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا كما صادفت طعم الزباد طشاش
أشكر أعد إلى يزيد ملامه ليحدو و من عمر بلاده عاش
إن كان نبت الشوك يلقح بأرضكم هنا العرب ما زدنا لهن صياش
و من قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب و غلبهم زناتة عليه:
و أي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم و أي رجال ضاع قبلي جميلها
لقد كنت أنا وياه في زهو بيتنا عناني بحجة ماغباني دليلها
وعدت كأني شارب من مدامة من الخمر فهو ما قدر من يميلها
أو مثل شمطامات مظنون كبدها غريبا و هي مدوخه عن قبيلها
أتاها زمان السوء حتى تدوحت و هي بين عربا غافلا عن نزيلها
كذلك أنا مما لحاني من الوجى شاكي بكبد باديتها زعيلها
و أمرت قومي بالرحيل و بكروا و قووا و شداد الحوايا حميلها
قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا و البدو ماترفع عمود يقيلها
نظل على حداب الثنايا نوازي يظل الجرى فوق النضا و نصيلها
و من شعر يلطان بن مظفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح و أهل الرياسة فيهم، يقولها و هو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك أفريقية من الموحدين:
يقول و في بوح الدجا بعد وهنة حرام على أجفان عيني منامها
يا من لقلب حالف الوجد و الأسى و روح هيامي طال ما في سقامها
حجازية بدوية عربية عداوية و لها بعيد مرامها
مولعة بالبدو لا تألف القرى سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها
غيات و مشتاها بها كل شتوة ممحونة بيها و بيها صحيح غرامها
و مرباها عشب الأراضي من الحيا يواتي من الخورالخلايا جسامها
تشوق شوق العين مما تداركت عليها من السحب السواري عمامها
و ماذا بكت بالما و ماذا تناحطت عيون غرار المزن عذبا حمامها
كأن عروس البكر لاحت ثيابها عليها و من نور الأقاحي خزامها
فلاة و دهنا و اتساع و منة و مرعى سوى ما في مراعي نعامها
و مشروبها من مخض ألبان شولها غنيم و من لحم الجوازي طعامها
تفانت عن الأبواب و الموقف الذي يشيب الفتى مما يقاسي زحامها
سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا و بلا و يحيى ما بلي من رمامها
فكافأتها بالود مني و ليتني ظفرت بأيام مضت في ركامها
ليالي أقواس الصبا في سواعدي إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها
و فرسي عديد تحت سرجي مشاقة زمان الصبا سرجا و بيدي لجامها
و كم من رداح أسهرتني و لم أرى من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
و كم غيرها من كاعب مرجحنة مطرزة الأجفان باهي و شامها
و صفقت من وجدي عليها طريجة بكفي و لم ينسى جداها ذمامها
و نار بخطب الوجد توهج في الحشا و توهج لا يطفا من الماء ضرامها
أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى فني العمر في دار عماني ظلامها
و لكن رأيت الشمس تكسف ساعة و يغمى عليها ثم يبدا غيامها
بنود و رايات من السعد أقبلت إلينا بعون الله يهفو علامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي و رمحى على كتفي و سيري أمامها
يجرعا عتاق النوق من فوق شامس أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزل بالجعفرية للوى مقيم بها مالذ عندي مقامها
ونلقى سراة من هلال بن عامر يزيل الصدا و الغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقا و مغربا إذا قاتلوا قوما سريع انهزامها
عليهم و من هو في حماهم تحية مدى الدهر ما غنى يفينا حمامها
فدع ذا و لا تأسف على سالف مضى فذي الدنيا ما دامت لاحد دوامها
و من أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر. شيخ الكعوب. من أولاد أبي الليل. يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل و يجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلمهل. عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه:
يقول و ذا قول المصاب الذي نشا قوارع قيعان يعانى صعابها
يريح بها حادي المصاب إذا سعى فنونا من انشاد القوافي عذابها
محيرة مختارة من نشادها تحدى بها تام الوشا ملتها بها
مغربلة عن ناقد في غضونها محكمة القيعان دابي و دابها
و هيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل و هذي جوابها
اشبل جنينا من حباك طرائفا فراح يريح الموجعين الغنا بها
فخرت و لم تقصر و لا أنت عادم سوى قلت في جمهورها ما أعابها
لقولك في أم المتين بن حمزة وحامي حماها عاديا في حرابها
أما تعلم أنه قامها بعد ما لقي رصاص بني يحيى و غلاق دابها
شهابا من أهل الأمر يا شبل خارق و هل ريت من جا للوغى و اصطلى بها
سواها طفاها أضرمت بعد طفيه و أثنى طفاها جاسرا لا يهابها
و اضرمت بعد الطفيتين ألن صحت لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها
و بان لوالي الأمر في ذا انشحابها فصار و هي عن كبر الاسنة تهابها
كما كان هو يطلب على ذا تجنبت رجال بني كعب الذي يتقى بها
منها في العتاب:
وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأنني غنيت بمعلاق الثنا و اغتصابها
علي ونا ندفع بها كل مبضع بأسياف ننتاش العدا من رقابها
فإن كانت الأملاك بغت عرايس علينا بأطراف القنا اختضابها
و لا بعدها الارهاف و ذبل و زرق كالسنة الحناش انسلابها
بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه تسير السبايا و المطايا ركابها
و هي عالما بأن المنايا تنيلها بلا شك و الدنيا سريع انقلابنها
و منها في وصف الظعائن:
قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا فتوق بحوبات مخوف جنابها
ترى العين فيها قل لشبل عرائف وكل مهاة محتظيها ربابها
ترى أهلها غب الصباح أن يفلها بكل حلوب الجوف ما سد بابها
لها كل يوم في الأرامي قتائل ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها
و من قولهم في الأمثال الحكمية
و طلبك في الممنوع منك سفاهة و صدك عمن صد عنك صواب
إذا رأيت أناسا يغلقوا عنك بابهم ظهور المطايا يفتح الله باب
و من قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم:
لشيب و شبان من أولاد برجم جميع البرايا تشتكي من ضهادها
و من قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى و ذلك فيما قرب من عصرنا:
يقول بلا جهل فتى الجود خالد مقالة قوال و قال صواب
مقالة حبر ذات ذهن و لم يكن هريجا و لا فيما يقول ذهاب
تهجست معنا نابها لا لحاجة و لا هرج ينقاد منه معاب
و كنت بها كبدي و هي نعم صابة حزينة فكر و الحزين يصاب
تفوهت بادي شرحها عن مآرب جرت من رجال في القبيل قراب
بني كعب أدنى الأقربين لدمنا بني عم منهم شايب و شباب
جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم مصافاة ود و اتساع جناب
و بعضهم ملنا له عن خصيمه كما يعلموا قولي بقيه صواب
و بعضهمو مرهوب من بعض ملكنا جزاعا و في جو الضمير كتاب
و بعضهمو جانا جريحا تسمحت خواطر منها للنزيل و هاب
و بعضهمو نظار فينا بسوة نقهناه حتى ماعنا به ساب
رجع ينتهي مما سفهناقبيحه مرارا و في بعض المرار يهاب
و بعضهمو شاكي من أوغاد قادر غلق عنه في أحكام السقائف باب
فصمناه عنه و اقتضي منه مورد على كره مولى البالقي و دياب
و نحن على دافي المدى نطلب العلا لهم ما حططنا للفجور نقاب
و حزنا حمى وطن بترشيش بعدما نفقنا عليها سبقا و رقاب
و مهد من الأملاك ما كان خارجا على أحكام والي أمرها له ناب
بردع قروم من قروم قبيلنا بني كعب لاواها الغريم و طاب
جرينا بهم عن كل تاليف في العدا و قمنا لهم عن كل قيد مناب
إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ربيها و خيراته عليه نصاب
و ركبوا السبايا المثمنات من أهلها و لبسوا من أنواع الحرير ثياب
و ساقوا المطايا يالشرا لا نسوا له جماهير ما يغلو بها بجلاب
و كسبوا من أصناف السعايا ذخائر ضخام لحزات الزمان تصاب
و عادوا نظير البرمكيين قبل ذا و إلا هلالا في زمان دياب
و كانوا لنا درعا لكل مهمة إلى أن بان من نار العدو شهاب
و خلوا الدار في جنح الظلام و لا اتقوا ملامه و لا دار الكرام عتاب
كسوا الحيى ***اب البهيم لستره وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب
كذلك منهم حانس ما دار النبا ذهل حلمي إن كان عقله غاب
يظن ظنونا ليس نحن بأهلها تمنى يكن له في السماح شعاب
خطا هو و من واتاه في سو ظنه بالاثبات من ظن القبايح عاب
فوا عزوتي إن الفتى بو محمد وهوب لآلاف بغير حساب
و برحت الأوغاد منه و يحسبوا بروحه ما يحيى بروح سحاب
جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع لقوا كل ما يستاملوه سراب
و هو لو عطى ما كان للرأي عارف و لا كان في قلة عطاه صواب ‌
و إن نحن ما نستاملوا عنه راحة و إنه باسهام التلاف مصاب
و إن ما وطا ترشيش يضياق وسعها عليه و يمشي بالفزوع لزاب
و إنه منها عن قريب مفاصل خنوج عناز هوالها و قباب
و عن فاتنات الطرف بيض غوانج ربوا خلف أستار و خلف حجاب
يتيه إذا تاهوا و يصبوا إذا صبوا بحسن قوانين و صوت رباب
يضلوه عن عدم اليمين و ربما يطارح حتى ما كأنه شاب
بهم حازله زمه و طوع أوامر و لذة مأكول و طيب شراب
حرام على ابن تافركين ما مضى من الود إلا ما بدل بحراب
و إن كان له عقل رجيح و فطنة يلجج في اليم الغريق غراب
و أما البدا لا بدها من فياعل كبار إلى أن تبقى الرجال كباب
‌ و يحمي بها سوق علينا سلاعه و يحمار موصوف القنا و جعاب
و يمسي غلام طالب ريح ملكنا ندوما و لا يمسي صحيح بناب
أيا واكلين الخبز تبغوا أدامه غلطتوا أدمتوا في السموم لباب
و من شعر علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته:
محبرة كالدر في يد صانع إذا كان في سلك الحرير نظام
أباحها منها فيه أسباب ما مضى و شاء تبارك و الضعون تسام
غدا منه لام الحي حيين و انشطت عصاها و لا صبنا عليه حكام
و لكن ضميري يوم بان بهم إلينا تبرم على شوك القتاد برام
و إلا كأبراص التهامي قوادح و بين عواج الكانفات ضرام
و إلا لكان القلب في يد قابض أتاهم بمنشار القطيع غشام
لما قلت سما من شقا البين زارني إذا كان ينادي بالفراق و خام
ألا يا ربوع كان بالأمس عامر بيحيى و حله و القطين لمام
و غيد تداني للخطا في ملاعب دجى الليل فيهم ساهر و نيام
و نعم يشوف الناظرين التحامها لنا ما بدا من مهرق و كظام
و عرود باسمها ليدعو لسربها و لإطلاق من شرب المها و نعام
و اليوم ما فيها سوى البوم حولها ينوح على اطلال لها و خيام
وقفنا بها طورا طويلا نسالها بعين سخينا و الدموع سجام
‌ و لا صح لي منها سوى وحش خاطري و سقمي من أسباب إن عرفت أوهام
و من بعد ذا تدى لمنصور بو علي سلام و من بعد السلام سلام
و قولوا له يا بو الوفا كلح رأيكم دخلتم بحور غامقات دهام
زواخر ما تنقاس بالعود إنما لها سيلات على الفضا و أكام
و لا قمستمو فيها قياسا يدلكم و ليس البحور الطاميات تعام
و عانوا على هلكاتهم في ورودها من الناس عدمان العقول لئام
أيا عزوة ركبوا الضلالة و لا لهم قرار و لا دنيا لهن دوام
ألا غناهمو لو ترى كيف زايهم مثل سراب فلاه ما لهن تمام
خلو القنا يبغون في مرقب العلا مواضع ماهيا لهم بمقام
و حق النبي و البيت و أركانه العلى و من زارها في كل دهر و عام
لبر الليالي فيه إن طالت الحيا يذوقون من خمط الكساع مدام
و لا بزها تبقى البوادي عواكف بكل رديني مطرب و حسام
و كل مسافة كالسد إياه عابر عليها من أولاد الكرام غلام
و كل كميت يكتعص عض نابه يظل يصارع في العنان لجام
و تحمل بنا الأرض العقيمة مدة و تولدنا من كل ضيق كظام
بالأبطال و القود الهجان و بالقنا لها وقت و جنات البدور زحام
أتجحدني و أنا عقيد نقودها وفي سن رمحي للحروب علام
و نحن كاضراس الموافي بنجعكم حتى يقاضوا من ديون غرام
متى كان يوم القحط يا مير أبو علي يلقى سعايا صايرين قدام
كذلك بو حمو إلى اليسر ابعته و خلى الجياد العاليات تسام
و خل رجالا لا يرى الضيم جارهم و لا يجمعوا بدهى العدو زفام
ألا يقيموها و عقد بؤسهم و هم عذر عنه دائما و دوام
و كم ثار طعنها على البدو سابق ما بين صحاصيح و ما بين حسام
فتى ثار قطار الصوى يومنا على لنا أرض ترك الظاعنين زمام
و كم ذا يجيبوا أثرها من غنيمة حليف الثنا قشاع كل غيام
و إن جاء خافوه الملوك و وسعوا غدا طبعه يجدى عليه قيام
عليكم سلام الله من لسن فاهم ما غنت الورقا و ناح حمام
و من شعر عرب نمر بنواحي حوران لإمرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول:
تقول فتاة الحي أم سلامه بعين أراع الله من لا رثى لها
تبيت بطول الليل ما تألف الكرى موجعة كان الشقا في مجالها
على ما جرى في دارها و بو عيالها بلحظة عين البين غير حالها
فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم و نمتوا عن أخذ الثار ماذا مقالها
أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرني و يبرد من نيران قلبي ذبالها ‌
أيا حين تسريح الذوائب و اللحى و بيض العذارى ما حميتو جمالها

الموشحات و الأزجال للأندلس
و أما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم و تهذبت مناحيه و فنونه و بلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا و أغصانا أغصانا يكثرون من أعاريضا المختلفة. و يسمون المتعدد منها بيتا واحدا و يلتزمون عند قوافي تلك الأغصان و أوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة و أكثر ما تنتهى عندهم إلى سبعة أبيات. و يشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض و المذاهب و ينسبون فيها و يمدحون كما يفعل في القصائد. و تجاروا في ذلك إلى الغاية و استظرفة الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله و قرب طريقه. و كان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافرالفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني. و أخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد و لم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر و كسدت موشحاتهما. فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية. و قد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما أتفق له من قوله:
بدر تم. شمس ضحا غصن نقا. مسك شم
ما أتم. ما أوضحا ما أورقا. ما أنم
لا جرم. من لمحا قد عشقا. قد حرم
و زعموا أنة لم يسبقه وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف. و ذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيلية و كان كل واحد منهم اصطنع موشحة و تأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان. سافرعن در ضاق عنه الزمان. و حواه صدري
صرف ابن بقي موشحته و تبعه الباقون. و ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحا على قول إلا ابن بقي حين وقع له:
أما ترى أحمد. في مجده العالي لا يلحق أطلعه الغرب. فأرنا مثله يا مشرق
و كان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض. و كان في عصرهما أيضا الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة و من الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها:
جرر الذيل أيما جر وصل الشكر منك بالشكر
فطرب الممدوح لذلك لما ختمها بقوله:
عقد الله راية النصر لأمير العلا أبي بكر
فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح: و اطرباه: و شق ثيابه و قال: ما أحسن ما بدأت و ختمت و حلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله و مشى عليه. و ذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكر ابن زهير ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر فغص منه نعض الحاضرين فقال كيف تغص ممن يقول:
ما لذي شراب راح على رياض الأقاح لولا هضيم الوشاح إذا أسا في الصباح
أو في الأصيل أضحى يقول: ما للشمول لطمت خدي ؟
و للشمال هبت فمال غصن اعتدال ضمه بردي
مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريبا يا لحظة رد نوبا و يا لماه الشنيبا
برد غليل صب عليل لا يستحيل فيه عن عهدي
و لا يزال في كل حال يرجو الوصال و هو في الصد
و اشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبى الفضل بن شرف. قال الحسن بن دويدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح:
شمس قاربت بدرا راح و نديم
و ابن بهرودس الذي له:
يا ليلة الوصل و السعود بالله عودي
و ا بن مؤهل الذي له:
ما العيد في حلة و طاق. و شم و طيب. و إنما العيد في التلاقي. مع ******.
و أبو إسحاق الرويني قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: إنه دخل على ابن زهير و قد أسن و عليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة فلم يعرفة فجلس حيث انتهى به المجلس. و جرت المحاضرة فانشد لنفسه موشحة وقع فيها:
كحل الدجى يجري من مقلة الفجر على الصباح
و معصم النهر في حلل خضر من البطاح
فتحرك ابن زهير و قال أنت تقول هذا ؟ قال: اختبر ! قال: و من تكون فعرفة، فقال ارتفع فوالله ما عرفتك، قال ابن سعيد و سابق الحلبة الذي أدرك هؤلاء أبو بكر بن زهير و قد شرقت موشحاته و غربت، قال: و سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لو قيل لك ما أبدع و أرفع ما وقع لك في التوشيح قال كنت أقول:
ما للموله من سكره لا يفيق. يا له سكران. من غير خمر. ما للكئيب المشوق. يندب الأوطان.
هل تستعاد. أيامنا بالخليج. و ليالينا
أو نستفاد. من النسيم الأريج. مسك دارينا
أو هل يكاد. حسن المكان البهيج. أن يحيينا ؟
روض أظله. دوح عليه أنيق. مورق الأفنان. و الماء يجري. و عائم و غريق. من جنى الريحان
و اشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله:
يفوق سهمه كل حين بما شئت من يد و عين
و ينشد في القصيد:
خلقت مليح علمت رامي فليس تخل ساع من قتال
و تعمل بذي العينين متاعي ما تعمل يدي بالنبال
و اشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس، قال ابن سعيد، و لما سمع ابن زهر قوله:
لله ما كان من يوم بهيج بنهر حمص على تلك المروج
ثم انعطفنا على فم الخليج نفض في حانه مسك الختام
عن عسجد زانه صافي المدام و رداء الأصيل ضمه كف الظلام
قال ابن زهر: أين كنا نحن عن هذا الرداء و كان معه في بلده مطرف. أخبر ابن سعيد عن والده أن مطرفا هذا دخل على ابن الفرس فقام له و أكرمه، فقال: لا تفغل ! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول:
قلوب تصاب بألحاظ تصيب فقل كيف تبقى بلا وجد
و بعد هذا ابن خزمون بمرسية. ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عاريا غن التكلف، قال على مثل ماذا ؟ قال على مثل قولي:
يا هاجري هل إلى الوصال منك سبيل
أو هل ترى عن هواك سالي قلب العليل
و أبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله:
إن سيل الصباح في الشرق عاد بحرا في أجمع الأفق
فتداعت نوادب الورق
أتراها خافت من الغرق فبكت سحرة على الورق
و اشتهر بأشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل، قال ابن سعيد عن والده، سمعت سهل ابن مالك يقول: له يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك:
واحسرتا لزمان مضى عشية بأن الهوى و انقضى
و أفردت بالرغم لا بالرضى و بت على جمرات الغضى
أعانق بالفكر تلك الطلول و ألثم بالوهم تلك الرسوم
قال و سمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة، فما شنمعتة يقول له لله درك، إلا في قوله:
قسما بالهوى لذي حجر ما لليل المشوق من فجر
جمد الصبح ليس يطرد ما لليلي فيما أظن غد إصح ياليل إنك الأبد
أو قفصت قوادم النسر فنجوم السماء لا تسري
و من محاسن موشحات ابن الصابوني قوله:
ما حال صب ذي ضنى و اكتئاب أمرضة يا ويلتاه الطبيب
عامله محبوبه باجتناب ثم اقتدى فيه الكرى ب******
جفا جفوني النوم لكنني لم أبكه ألا لفقد الخيال
و ذا الوصال اليوم قد غرني منه كما شاء و شاء الوصال
فلست باللائم من صدني بصورة الحق و لا بالمحال
و اشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزائري صاحب الموشحة المشهورة:
يد الاصباح قدحت زناد الأنوار في مجامز الزهر
و ابن خرز البجائي و له من موشحة:
ثغر الزمان موافق حباك منه بابتسام
و من محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر أشبيلية و سبتة من بعدها فمنها قوله:
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى قلب صب حله عن مكنس
فهو في نار و خفق مثل ما لعبت ريح الصبا بالقبس
و قد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس و المغرب لعصره و قد مر ذكره فقال:
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس
إذ يقود الدهر أشتات المنى ينقل الخطو على ما يرسم
زمرا بين فرادى و ثنا مثل ما يدعو الوفود الموسم
و الحيا قد جلل الروض سنى فثغور الزهر فيه تبسم
و روى النعمان عن ماء السما كيف يروي مالك عن أنس
فكساه الحسن ثوبا معلما يزذهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سر الهوى بالدجى لو لا شموس الغرر
مال نجم الكأس فيها و هوى مستقيم السير سعد الأثر
وطر ما فيه من غيب سوى أنه مر كلمح البصر
حين لذ النوم منا أو كما هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بنا أو ربما أثرت فينا عيون النرجس
أي شيء لامرئ قد خلصا فيكون الروض قد مكن فيه
تنهب الأزهار فيه الفرصا أمنت من مكره ما تتقيه
فإذا الماء يناجي و الحصا و خلا كل خليل بأخيه
تبصر الورد غيورا برما يكتسي من غيظيه ما يكتسي
و ترى الآس لبيبا فهما يسرق الدمع بأذني فرس
يا أهيل الحي من وادي الغضا و بقلبي مسكن أنتم به
ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا لا أبالي شرقه من غربه
فأعيدوا عهد أنس قد مضى تنقذوا عانيكم من كربه
و اتقوا الله احيوا مغرما يتلاشى نفسا في نفس
حبس القلب عليكم كرما أفترضون خراب الحبس
و بقلبي منكم مقترب بأحاديث المنى و هو بعيد
قمر أطلع منه المغرب شقوة المغرى به و هو سعيد
قد تساوي محسن أو مذنب في هواه بين وعد و وعيد
ساحر المقلة معسول اللمى جال في النفس مجال النفس
سدد السهم فأصمى إذ رمى بفؤادي نبلة المفترس
إن يكن جار و خاب الأمل و فؤاد الصب بالشوق يذوب
فهو للنفس حبيب أول ليس في الحب لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل في ضلوع قد براها و قلوب
حكم اللحظ بها فاحتكما لم يراقب في ضعاف الأنفس
ينصف المظلوم ممن ظلما و يجازي البر منها و المسي
ما لقلبي كلما هبت صبا عادة عيد من الشوق جديد ؟
كان في اللوح له مكتتبا قوله إن عذابي لشديد
*** الهم له و الوصبا فهو للأشجان في جهد جهيد
لاعج في أضلعي قد أضرما فهي نار في هشيم اليبس
لم يدع من مهجتي إلا الدما كبقاء ألصبح بعد الغلس
سلمي يا نفس في حكم القضا و اعتبري الوقت برجعى و متاب
و اتركي ذكرى زمان قد مضى بين عتبى قد تقضت و عتاب
و اصرفي القول إلى المولى الرضى ملهم التوفيق في أم الكتاب
الكريم المنتهى و المنتمى أسد السرج و بدر المجلس
ينزل النصر عليه مثلما ينزل الوحي يروح القدس
و أما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات. و من أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقا و غربا و أولها:
حبيبي ارفع حجاب النور عن العذار
تنظر المسك على كافور في جلنار
كللي يا سحب تيجان الربى بالحلى و اجعلي
سوارها منعطف الجدول
و لما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، و أخذ به الجمهور. لسلاسته و تنميق كلامه و ترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله. و نظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً. و استحدثوا فنا سموه يالزجل، و التزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب و اتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة.
و أول من أبدع في هذه الطريقة. الزجلية أبو بكر بن قزمان. و إن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، و لا انسبكت معانيها و اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه. و كان لعهد الملثمين، و هو إمام الزجالين على الإطلاق. قال ابن سعيد: و رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب. قال: و سمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي، إمام الزجالين في عصرنا يقول:
ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، و قد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش و أمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال:
و عريش قد قام على دكان بحال رواق
و أسد قد ابتلع ثعبان من غلظ ساق
و فتح فمه بحال إنسان بيه الفراق
و انطلق من ثم على الصفاح و ألقى الصياح
و كان ابن قزمان، مع أنه قرطبي الدار. كثيرا ما يتردد إلى إشبيلية و نيتاب نهرها، فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن. و قد ركبوا في النهر للنزهة. و معهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد و بيوتهم. و كانوا مجتمعين في زورق للصيد، فنظموا في وصف الحال، و بدأ منهم عيسى البليدي فقال:
يطمع بالخلاص قلبي و قد فاتو و قد ضمني عشقو لشهماتو
تراه قد حصل مسكين محلاتو يغلق و كذاك أمر عظيم صاباتو
توحش الجفون الكحل إن غابو وذيك الجفون الكحل أبلاتو
ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي:
نشب و الهوى من لج فيه ينشب ترى ايش دعاه يشقى و يتعذب
مع العشق قام في بالوان يلعب و خلق كثير من ذا اللعب ماتوا
ثم قال أبو الحسن المقري الداني:
نهار مليح يعجبن أوصافو شراب و ملاح من حولي قد طافوا ‌
و المقلين يقول من فوق صفصافو و البوري أخرى فقلاتو
ثم قال أبو بكر بن مرتين:
الحق تريد حديث بقالي عاد في الواد النزيه و البوري و الصياد
لسنا حيتان ذيك الذي يصطاد قلوب الورى هي في شبيكاتو
ثم قال أبو بكر بن قزقان:
إذا شمر كمامو يرميها ترى البوري يرشق لذاك الجيها
و ليس مرادو أن يقع فيها إلا أن يقبل بدياتو
و كان في عصرهم يشرق الأندلس محلف الأسود، و له محاسن من الزجل منها قوله:
قد كنت منشوب و اختشيت النشب و ردني ذا العشق لأمر صعب
حتى تنظر الخد الشريق البهي تنتهي في الخمر إلما تنتهي
يا طالب الكيميا في عيني هي تنظر بها الفضة و ترجع ذهب
و جاءت. بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، فمن قوله في زجله المشهور:
و رذاذ دق ينزل و شعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض و ترى الآخر يذهب
و النبات يشرب و يسكر و الغصون ترقص و تطرب
و تريد تجي إلينا ثم تستحي و تهرب
و من محاسن أزجاله قوله:
لاح الضيا و النجوم حيارى فقم بنا ننزع الكسل
شربت ممزوج من قراعا أحلى هي عندي من العسل
يا من يلمني كما تقلد قلدك الله بما تقول
يقول بان الذنوب تولد و أنه يفسد العقول
لارض الحجاز موريكن لك أرشد ايش ما ساقك معي في ذا الفضول
مر أنت للحج و الزيارا و دعني في الشرب منهمل
من ليس لو قدره و لا استطاع النية أبلغ من العمل
و ظهر بعد هؤلاء بأشبيلية ابن جحدر الذي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا:
من عاند التوحيد بالسيف يمحق أنا بري ممن يعاند الحق
قال ابن سعيد لقيتة و لقيت تلميذة المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله:
يا ليتني ان رأيت حبيبي أفتل اذنو بالرسيلا
ليش أخذ عنق الغزيل و سرق فم الحجيلا
ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك إمام الأدب، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم و النثر في الملة الإسلامية غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة:
امزج الأكواس و املالي تجدد ما خلق المال إلا أن يبدد
و من قوله على طريقة الصوفية و ينحو منحى الششتري منهم:
بين طلوع و بين نزول اختلطت الغزول
و مضى من لم يكن و بقي من لم يزول
و من محاسنه أيضا قوله في ذلك المعنى:
البعد عنك يا بني أعظم مصايبي و حين حصل لي قربك سببت قاربي
و كان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش، و كان إماما في هذه الطريقة و له من زجل يعارض به مدغليس في قوله:
لاح الضياء و النجوم حيارى بقوله:
حل المجون يا أهل الشطارا مذ حلت الشمس في الحمل
تجددوا كل يوم خلاعا لا تجعلوا بينها ثمل
إليها يتخلعوا في شنبل على خضورة ذاك النبات
و حل بغداد و اجتياز النيل أحسن عندي من ذيك الجهات
و طاقتها أصلح من أربعين ميل ان مرت الريح عليه و جات
لم تلتق الغبار امارا و لا بمقدار ما يكتحل
و كيف ولاش فيه موضع رقاعا إلا و نسرح فيه النحل
و هذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر. و فيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العامية و يسمونه الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم:
دهر لي نعشق جفونك و سنين و أنت لا شفقة و لا قلب يلين
حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع صنعة السكة بين الحدادين
الدموع ترشرش و النار تلتهب و المطارق من شمال و من يمين
خلق الله النصارى للغزو و أنت تغزو قلوب العاشقين
و كان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي و له فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر:
طل الصباح قم يا نديمي نشربو و نضحكو من بعدما نطربو
سبيكة الفجر أحكت شفق في ميلق الليل فقم قلبو
ترى عيارها خالص أبيض نقي فضة هو لكن الشفق ذهبو
فتنتفق سكتوا عند البشر نور الجفون من نورها يكسبو
فهو النهار يا صاحبي للمعاش عيش الغني فيه بالله ما أطيبو
والليل أيضا للقبل و العناق على سرير الوصل يتقلبو ‌‌
جاد الزمان من بعدما كان بخيل ولش ليفلت من يديه عقربو
كما جرع مرو فما قد مضى يشرب بيننو و ياكل طيبو
قال الرقيب يا أدبا إيش ذا في الشرب و العشق ترى ننجبو
و تعجبوا عذالي من ذا الخبر فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا
نعشق مليح الا رقيق الطباع علاش تكفروا بالله أو تكتبوا
ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب يفض بكرو و يدع ثيبو
أما الكاس فحرام نعم هو حرام على الذي ما يدري كيف يشربو
و يد الذي يحسن حسابه و لم يقدر يحسن الفاظ أن ي***وا
و أهل العقل و الفكر و المجون يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا
ظبي بهي فيها يطفي الجمر و قلبي في جمر الغضى يلهبو
غزال بهي ينظر قلوب الأسود و بالوهم قبل النظر يذهبوا
ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا و يفرحوا من بعدما يندبوا
فميم كالخاتم و ثغر نقي خطيب الأمة للقبل يخطبو
جوهر و مرجان أي عقد يا فلان قد صففه الناظم و لم يثقبو
و شارب أخضر يريد لاش يريد من شبهه بالمسك قد عيبو
يسبل دلال مثل جناح الغراب ليالي هجري منه يستغربوا
على بدن أبيض بلون الحليب ما قط راعي للغنم يحلبوا
و زوج هندات ما علمت قبلها ديك الصلايا ريت ما أصلبو
تحت العكاكن منها خصر رقيق من رقتو يخفي إذا تطلبوا
أرق هو من ديني فيما تقول جديد عتبك حق ما أكذبو
أي دين بقا لي معاك و أي عقل من يتبعك من ذا و ذا تسلبوا
تحمل ارداف ثقال كالرقيب جين ينظر العاشق و حين يرقبو
ان لم ينفس عدر أو ينقشع في طرف ديسا و البشر تطلبو
يصير إليك المكان حين تجي و حين تغيب ترجع في عيني تبو
محاسنك مثل خصال الأمير أو الرمل من هو الذي يحسبو
عماد الأمصار و فصيح العرب من فصاحة لفظه يتقربو
بحمل العلم انفرد و العمل و مع بديع الشعر ما أكتبو
ففي الصدور بالرمح ما أطعنه و في الرقاب بالسيف ما أضربو
من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعد قلبي أو يحسبو
الشمس نورو و القمر همتو الغيث جودو و النجوم منصبو
يركب جواد الجود و يطلق عنان الاغنيا و الجند حين يركبوا
من خلعتو يلبس كل يوم بطيب منه بنات المعالي تطيبوا
نعمتو تظهر على كل من يجيه قاصد و وارد قط ما خيبوا
قد أظهر الحق و كان في حجاب لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو
و قد بنى بالسر ركن التقى من بعد ما كان الزمان خربو
تخاف حين تلقاه كما ترتجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو
يلقى الحروب ضاحكا و هي عابسة غلاب هو لا شي في الدنيا يغلبو
إذا جبد سيفه ما بين الردود فليس شيء يغني من يضربو
و هو سمي المصطفى و الاله للسلطنة اختار و استنخبو
تراه خليفة أمير المؤمنين يقود جيوشو و يزين موكبو
لذي الإمارة تخضع الرؤوس نعم و في تقبيل يديه يرغبوا
ببيته بقى بدور الزمان يطلعوا في المجد و لا يغربوا
و في المعالي و الشرف يبعدوا و في التواضع و الحيا يقربوا
و الله يبقيهم ما دار الفلك و أشرقت شمسه و لاح كوكبو
و ما يغني ذا القصيد في عروض يا شمس خدر مالها مغربو
ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فناً آخر من الشعر، في أعاريض مزدوجة موشح، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا و سموه عروض البلد، و كان أول من حدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير. فنظم قطعة بطريقة الموشح و لم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلا مطلعها:
اني بشاطي النهر نوح الحمام على الغصن في البستان قريب الصباح
***** يمحو مداد الظلام و ماء الندى يجري بثغر الاقاح
جرت الرياض و الطل فيها افتراق كثير الجواهر في نحور الجوار
مع النواعير ينهرق انهراق يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
بالغصون خلخال على كل ساق و دار الجميع بالروض دور السوار
الندى تخرق جيوب الكمام و يحمل نسيم المسك عنها رياح
الصبا يطلى بمسك الغمام و جر النسيم ذيلو عليها و فاح
و يطير الحمام بين الورق في القضيب قد ابتلت ارياشو بقطر الندى
تنوح مثل ذاك المستهام الغريب قد التف من توبو الجديد في ردا
و لكن بما أحمر و ساقو خضيب ينظم سلوك جوهر و يتقلدا
جلس بين الأغصان جلسة المستهام جناحا توسد و التوى في جناح
و صار يشتكي ما في الفؤاد من غرام منها ضم منقاره لصدره و صاح
قلت يا حمام احرمت عيني الهجوع أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح
قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح
على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ألفت البكا و الحزن من عهد نوح
كذا هو الوفا و كذا هو الزمام انظر جفون صارت بحال الجراح
و أنتم من بكى منكم إذا تم عام يقول عناني ذا البكا و النواح
قلت يا حمام لو خضت بحر الضنى كنت تبكي و ترثي لي بدمع هتون
و لو كان بقلبك ما بقلبي أنا ما كان يصير تحتك فروع الغصون
اليوم نقاسي الهجر كم من سنا حتى لا سبيل جمله تراني العيون
و مما كسا جسمي النحول و السقام أخفاني نحولي عن عيون اللواح
لو جتنى المنايا كان يموت في المقام و من مات بعد يا قوم لقد استراح
قال لي لو رقدت لاوراق الرياض من خوفي عليه ودا النفوس للفؤاد
و تخضبت من دمعي و ذاك البياض طوق العهد في عنقي ليوم التناد
أما طرف منقاري حديثو استفاض بأطراف البلد و الجسم صار في الرماد
فاستحسنه أهل فاس و ولعوا به و نظموا على طريقته. و تركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم، و كثر سماعه بينهم و استفحل فيه كثير منهم و نوعةه أصنافا إلى المزدوج و الكازي و الملعبة و الغزل. و اختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها و ملاحظاتهم فيها. فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم و هو من أهل تازا:
المال زينة الدنيا و عز النفوس يبهي وجوها ليس هي باهيا
فها كل من هو كثير الفلوس ولوه الكلام و الرتبة العاليا
يكبر من كثر مالو و لو كان صغير و يصغر عزيز القوم اذ يفتقر
من ذا ينطبق صدري و من ذا تغير و كاد ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومو كبير لمن لا أصل عندو و لا لو خطر
لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس و يصبغ عليه ثوب فراش صافيا
اللي صارت الاذناب أمام الرؤوس و صار يستفيد الواد من الساقيا
ضعف الناس على ذا و فسد ذا الزمان ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب
اللي صار فلان يصبح بو فلان و لو رأيت كيف يرد الجواب
عشنا و السلام حتى رأينا عيان أنفاس السلاطين في جلود الكلاب
كبار النفوس جدا ضعاف الاسوس هم ناحيا و المجد في ناحيا
يرو أنهم و الناس يروهم تيوس و جوه البلد و العمدة الراسيا
و من مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته:
تعب من تبع ذا الزمان اهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك
ما منهم مليح عاهد إلا و خان قليل من عليه تحبس و يحبس عليك
يهبوا على العشاق و يتمنعوا و يستعمدوا تقطيع قلوب الرجال
و ان واصلوا من حينهم يقطعوا و ان عاهدوا خانوا على كل حال
مليح كان هويتو وشت قلبي معو و صيرت من خدي لقدمو نعال
و مهدت لو من وسط قلبي مكان و قلت لقلبي اكرم لمن حل فيك
و هون عليك ما يعتريك من هوان فلا بد من هول الهوى يعتريك
حكمتوا علي و ارتضيت بو أمير فلو كان يرى حالي اذا يبصرو
يرجع مثل در حولي بوجه الغدير مرديه و يتعطس بحال انحرو
و تعلمت من ساعا بسبق الضمير و يفهم مرادو قبل أن يذكرو
و يحتل في مطلو لوان كان عصر في الربيع أو في الليالي يريك
و يمشي بسوق كان و لو باصبهان وايش ما يقل يحتاج لو يجيك
حتى أتى على آخرها.
و كان منهم علي بن المؤذن بتلمسان، و كان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف. أبدع في مذاهب هذا الفن. و من أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن و بنى مرين إلى أفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان. و يعزيهم عنها و يؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها. و هو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام و افتتاحه و يسمى براعة الإستهلال:
سبحان مالك خواطر الامرا و نواصيها في كل حين و زمان
ان طعناه أعظم لنا نصرا و ان عصيناه عاقب بكل هوان
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص:
كن مرعى قل و لا تكن راعي فالراعي عن رعيته مسؤول
و استفتح بالصلاة على الداعي للإسلام و الرضا السني المكمول
على الخلفاء الراشدين و الاتباع و اذكر بعدهم اذا تحب و قول
أحجاجا تخللوا الصحرا ودوا سرح البلاد مع السكان
عسكر فاس المنيرة الغرا وين سارت بوعزايم السلطان
أحجاج بالنبي الذي زرتم و قطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا
و من كان بالعطايا يزودكم و يدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا و يعجز شوط بعدما يخفان
و يزف كر دوم تهب في الغبرا أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا و بلاد الغرب سد السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثانيا بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور و ما شرا لو تقرا كل يوم على الديوان
لجرت بالدم و انصدع حجرا و هوت الخراب و خافت الغزلان
أدرلي بعقلك الفحاص و تفكر لي بخاطرك جمعا
ان كان تعلم حمام و لا رقاص عن السلطان شهر و قبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص و علامات تنشر على الصمعا
الا قوم عاريين فلا سترا مجهولين لا مكان و لا امكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا و كيف دخلوا مدينة القيروان
امولاي أبو الحسن خطينا الباب قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد و الزاب واش لك في اعراب افريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام و الحجاز و تاج كسرى و فتح من افريقيا و كان
رد ولدت لو كره ذكرى و نقل فيها تفرق الاخوان
هذا الفاروق مردي الاعوان صرح في افريقيا بذا التصريح
و بقت حمى إلى زمن عثمان و فتحها ابن الزبير عن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان مات عثمان و انقلب علينا الريح
و افترق الناس على ثلاثة أمرا و بقي ما هو للسكوت عنوان
اذا كان ذا في مدة البرارا اش نعمل في أواخر الازمان
و أصحاب الحضر في مكناساتا و في تاريخ كأنا و كيوانا
تذكر في صحتها أبياتا شق و سطيح و ابن مرانا
ان مرين إذا تكف براياتا لجدا و تونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا عيسى بن الحسن الرفيع الشان
قال لي رأيت و أنا بذا أدري لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان
و يقول لك ما دهى المرينيا من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى سلطان تونس و صاحب الأبواب
ثم أخذ في ترحيل السلطان و جيوشه، إلى آخر رحلته و منتهى أمره، مع أعراب إفريقية. و أتى فيها بكل غريبة من الإيداع. و أما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية، إلا أن أكثره رديء و لم يعلق بمحفوظي منة شيء لرداءته.
الموشحات و الأزجال في المشرق
و كان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه المواليا، و تحته فنون كثيرة يسمون منها القوما، و كان و كان، و منه مفرد و منه في بيتين، و يسمونه دوبيت على الإختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها، و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان. و تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب. و تبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية، فجاؤوا بالعجائب. و رأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط، و هو ذو أربعة أغصان و أربع قواف، و يسمى صوتا و بيتين. و أنه من مخترعات أهل واسط، و أن كان و كان فهو قافية واحدة و أوزان مختلفة في أشطاره: الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني و لا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة و أنه من مخترعات البغداديين. و أنشد فيه لنا:
بغمز الحواجب حديث تفسير و منو أوبو، و أم الأخرس تعرف بلغة الخرسان. انتهى كلام الصفي. و من أعجب ما علق بحفظى منه قول شاعرهم:
هذي جراحي طريا و الدما تنضح
و قاتلي يا أخيا في الفلا يمرح
قالوا و ناخذ بثارك قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني يكون أصلح
و لغيره:
طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق رجعت حيران من بحر أدمعي غارق
و لغيره:
عهدي بها و هي لا تأمن علي البين و ان شكوت الهوى قالت فديتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ذكرتها العهد قالت لك على دين
و لغيره في وصف الحشيش:
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر و الخمار و الساقي
قحبا و من قحبها تعمل على احراقي خبيتها في الحشى طلت من احداقي
و لغيره:
يا من و صالو لأطفال المحبة بح كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو و التصبر بح كل الورى كخ في عيني و شخصك دح
و لغيره:
ناديتها و مسيبي قد طواني طي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
قالت و قد كوت داخل فؤادي كي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
و لغيره:
راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
و لغيره:
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
و صيح في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
و لغيره:
عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ترعى النجوم و بالتسهيد اقتاتت
و أسهم البين صابتني و لا فاتت و سلوتي عظم الله أجركم ماتت
و لغيره:
هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن اذا ما انثنى يسبي البنات البكر وان تهلل فما للبدر عندو ذكر
و من الذي يسمونه دوبيت:
قد اقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الاسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ليلا فعساه يهتدي بالنار
و اعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة و كثر استعماله لها و مخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية. فلا يشعر الأندلس بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب و لا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق و لا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس و المغرب. لأن اللسان الحضري و تراكيبه مختلفة فيهم. و كل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته و ذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته و في خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم آيات للعالمين و قد كدنا نخرج عن الغرض.
و جاء مصليا خلفه منهم ابن رافع، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة. قالوا و قد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول:
العود قد ترنم بأبدع تلحين و سقت المذانب رياض البساتين
و في انتهائه حيث يقول:
تخطر و لا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين، فظهرت لهم البدائع، و سابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي، ثم يحيى بن بقي، و للطليطلي من الموشوحات المهذبة قوله:
كيف السبيل إلى صبري و في العالم أشجان
و الركب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بان


خاتمة
و لذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران و ما يعرض فيه و قد استوفينا من مسائله ما حسيناه كفاية له. و لعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوف من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله و ما يتكلم فيه و المتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل. و الله يعلم و أنتم لا تعلمون.
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه: أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع و التأليف قبل التنقيح و التهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة و سبعين و سبعمائة. ثم نقحته بعد ذلك و هذبته و الحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله و شرطته. و ما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم.

مع تحيات موقع الفلسفة الإسلامية نقلاً عن موقع اسلاموب مع بعض التعديلات والله من وراء القصد. تم في صباح يوم الثلاثاء, 01 تشرين الاول, 2002
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59