عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 04-10-2016, 07:48 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,192
ورقة التدين.. الظاهرة الإنسانية الأزلية (3/ 3)

التدين.. الظاهرة الإنسانية الأزلية (3/ 3)
ـــــــــــــــــــــ

(أنور قاسم الخضري)
ـــــــــــ

3 / 7 / 1437 هـ
10 / 4 / 2016 م
ــــــــــ










الدين من حيث هو وضع رباني حقيقة واحدة، ودين واحد، كما قال تعالى: ((شَرَعَ لَكُم مِّن الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا والَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ ومَا وَصَّينَا بِهِ إِبرَاهِيمَ ومُوسَىٰ وعِيسَىٰ أَن أَقِيمُوا الدِّينَ ولَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الـمُشرِكِينَ مَا تَدعُوهُم إِلَيهِ اللهُ يَجتَبِي إِلَيهِ مَن يَشَاءُ ويَهدِي إِلَيهِ مَن يُنِيبُ)) الشورى: 13؛ وهو الإسلام بما فيه من عقائد ثابتة وأصول محكمة وقواعد دائمة: ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسلَامُ))؛ وتعددت الشرائع تبعا لظروف كل أمة وبيئتها؛ وإنما اختلف الناس في مسارات التدين: ((ومَا اختَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَّا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُم العِلمُ بَغيًا بَينَهُم ومَن يَكفُر بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ))، آل عمران: 19. ومن حقق هذا الدين –في أي شرعة نزل- كان محققا للتدين الحق: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِين هَادُوا والنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَن آمَنَ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم ولَا خَوفٌ عَلَيهِم ولَا هُم يَحزَنُونَ))، البقرة: 62.

مجالات التدين:
---------

التدين باعتباره كسبا بشريا يتوزع على جوانب النفس الإنسانية: العقل والتفكير، العاطفة والوجدان، السلوك والعلاقات. فإخضاع العقائد والتصورات والبدهيات ومناهج التفكير وطرق الاستدلال ولغة الخطاب للدين مظهر من مظاهر التدين. وإخضاع العواطف والمشاعر والأحاسيس والغرائز والمطامع والنوايا للدين مظهر من مظاهر التدين. وإخضاع القول والفعل والحركة والمواقف والعلاقات للدين مظهر من مظاهر التدين.

ولا يمكن مطلقا أن يكون التدين محصورا في مجال من مجالات النفس البشرية إلا في حالة الادعاء والزيف أو الانفصام؛ لأن من طبيعة هذه الجوانب الإنسانية التأثير في بعضها البعض، وعكس تأثرها في ميدانها وترجمته حقيقة أو واقعا. غير أنه يقع كثيرا أن يتغلب جانب على جانب عند الأشخاص في الاهتمام والاصطباغ بالدين، فهناك من تدينه ميال للعقل والفكر، ومنهم من تدينه ميال للعاطفة والضمير، ومنهم من تدينه ميال للعمل والسلوك.

وقد تظهر علل التدين في هذا التغليب، كما تظهر في صور الانفكاك بينها كذلك. وحالة النفاق التي ذمها القرآن الكريم هي صورة من صور هذا الانفكاك بين حالة الظاهر المقاربة لمظاهر الدين وحالة الباطن المناقضة لجوهر الدين. ولا يتوقف الأمر على النفاق الذي يمثل الانفكاك فيها عمقا يصل إلى أصل الدين، وإنما يمتد إلى حالة الفسوق التي يتحول فيها المتدين سلوكا إلى مخالف للدين وإن كان متدينا في باطنه ومعظم أحواله. وقد حذر القرآن الكريم كثيرا من الظاهرتين، ونبه لأسبابها، وميز بينها في الحكم والمعالجة.

وهكذا يمكن أن نميز بين تدين ظاهر وتدين باطن، وبين تدين حقيقي وآخر زائف، وتدين كلي يصبغ مجالات النفس جميعا وتدين جزئي، ما يجعل فهم واقع التدين الإنساني أمرا سهلا ومدركا.

التدين والبيئة:
---------

يتشكل التدين وفق البيئة الاجتماعية المؤثرة فيه، بكل أبعادها وكل مظاهرها. لذلك سعى الإسلام لصياغة هذه البيئة الاجتماعية الكلية بمنظوره الإيماني في أبعادها ومظاهرها. فالإنسان ابن مجتمعه، فحيثما تجلت شعائر الدين وقيمه ومفاهيمه وشرائعه على المجتمع وهيئته بانسجام تام انعكست على أفراده بالضرورة. وهذا ما يوحي إليه حديث: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وإن لم يُدرَجُ فيه (يؤسلمانه)! لأن الحديث في سياق الكلام عن أصل الفطرة، أما في الأخلاق والشرائع والشعائر فإنَّ دور الأبوين لا ينكر في تربية وتنشئة الفرد عليها. وحيث أنَّ الناشئ في المجتمع المسلم السليم يتلقف هذه الأخلاق والشرائع والشعائر قبولا واقتناعا، كونها تتفق مع الفطرة في سياقها العقلي والنفسي، لم يكن نسبة الأسلمة للأبوين بقدر ما هو للقبول الذاتي. فالنفس السوية والروح النقية لا تؤسلم بل تسلم إيمانا ورضا وقناعة.

فإذا ما أقررنا بدور البيئة في تنشئة الإنسان –عقلا وعاطفة وسلوكا- كونها مصنع التشكل الذي يحيط بالفرد منذ مولده وحتى وفاته، عرفنا سبب اهتمام الدين (الرباني)، بل والديانات الوضعية جميعا، بإيجاد صبغة دينية عامة للمجتمع، ينصهر فيها الأفراد. وهذه الصبغة تتمثل في اللباس والعادات ولغة التخاطب والأعياد والمناسبات والشعائر الجماعية والتشريعات العامة. وهذا ما يلمسه الإنسان عند زيارة شعوب الأرض قاطبة، بتنوع دياناتها وعقائدها؛ فهناك صبغة عامة تشير إلى الدين والمعتقد. حتى البيئات العلمانية التي لا تقيم للأديان وزنا تعكس في نمط عيشها ومظاهر حياتها هذا المعتقد بوضوح، فالصبغة المادية والشهوانية واللغة الخالية من أي بعد روحاني حاضرة ظاهرة.[1]

إن من غرائز الإنسان التي طبع عليها التماهي مع المحيط، كونه لا يستطيع أن يعيش منعزلا أو مصادما بالكلية لهذا المحيط. وهذا التماهي قد يفرض على الإنسان مجاراة المجتمع في خصائصه وطبائعه ومظاهره ومشاعره، ومن ثم فإذا ما انحرف المجتمع انحرف الفرد، لذلك حرص الدين الرباني على اصطباغ المجتمع بشعائره وشرائعه وأخلاقه وقيمه وعقائده ولغته ظمانا لسلامة الأفراد.

التدين والعلم:
---------

مع توسع العلوم الحديثة، وتشعب التخصصات، أصبح الدين والتدين مادة من المواد المطروحة في الميادين العلمية المختلفة. وأُخضِعَت الديانات البشرية للدراسة والبحث والنقد بدون استثناء وفقا للرؤية الغربية الحديثة التي وقفت من الدين عموما موقفا رافضا. وهكذا بدأ العلم يربط ظاهرة الدين بالتدين، تاريخيا وواقعيا.

ومن بين أهم هذه العلوم:
-------------

علم الأديان: هو علم يبحث في الأديان من حيث منشأها وتطورها وانتشارها، والعقائد والأصول التي ترتكز عليها الأديان المختلفة، ومصادرها، وأوجه الاختلاف والاتفاق فيما بينها، والمذاهب والطوائف التأويلية في كل ديانة. وكان منشأ هذا العلم في تقدير الباحثين العهد الإسلامي، حيث سعى علماء المسلمين لبيان حقيقة الإسلام في مقابل الأديان الأخرى ما دفعهم للبحث والدراسة والتنقيب في الأديان والنحل الأخرى، فترجموا كتبها، وناقشوا نصوصها، ورصدوا حركتها وعلاقتها ببعض برؤية ناقدة. ومع قيام المدارس العقلانية في الغرب بدأ المفكرون في الغرب يهتمون بعلم الأديان بشكل أوسع، وعبر جهود مختلفة وواسعة، وإن لم تخل من مقاصد غير علمية غالبا!

علم الاجتماع الديني: هو علم حديث، ظهر في المائة السنة الأخيرة، ويدرس علاقة المجتمع بالدين، ووظائفه الاجتماعية، ويحلل مؤسسات الدين المجتمعية، وعلاقاتها وروابطها وأثرها. ونظرا لنشأته الحديثة، وكونه نشأ في بيئة غربية معادية للدين فقد كانت أغلب نظرياته منحازة تجاه الدين، فهي تراه ظاهرة اجتماعية لا أقل ولا أكثر. وهذا ما دفع بعض علماء المسلمين للوقوف من هذا العلم موقف العداء!
علم النفس الديني: وهو علم يدرس علاقة الفرد بالدين، وأثر الدين على الفرد، وتحليل البعد النفسي في الدين. وهو أحد فروع (علم النفس)، الذي دخل ميدان العلوم في القرن التاسع عشر الميلادي كعلم مستقل. وكما هو في حالة علم الاجتماع الديني يذهب بعض مفكري الغرب لدراسة الدين في علم النفس كـ"حالة نفسية"، ومتخذين من التحليلات النفسية طريقا لفهم الدين!

فلسفة الدين: وهي رؤى فكرية تتناول المعاني والمحكمات والتصورات التي تطرحها الأسس الدينية، وتفسيراتها للظواهر الطبيعية وما وراء الطبيعية، مثل الخلق والموت ووجود الخالق. وهي فرع من فروع الفلسفة، إلا أنها تتعلق بالأسئلة المختصة بالدين؛ من وجود الرب وطبيعة وجوده، والوحي والرسالة، والعلاقة بين الدين والعلم، والقدر وفعل العبد... إلخ. وفلسفة الدين قديمة جدا، وإن كانت بالأساس تحكيم للعقل فيما لا مدخل له فيه بالمطلق، لذلك فإنَّ فلسفة الدين تناقش خارج الأطر الأكاديمية من خلال المؤلفات والمناظرات. لذا.. فغالبا ما كانت فلسفة الدين مدخلا للطعن والتأويل للأديان، وهو ما يفسر حجم الانحراف الذي دخل على العقيدة الإسلامية في القرن الثالث الهجري نتيجة ترجمة كتب اليونان والإغريق وغيرها من الحضارات الفلسفية.

هذه العلوم باتت تسهم في عملية فهم ظاهرة التدين، والحالة الدينية، وإن كانت مناهجها وأدواتها لا تزال تعاني تأثرها بالموقف المنحاز تجاه الدين –من حيث هو، والدين الإسلامي خاصة، لطبيعة ظروف نشأة هذه العلوم، وانتمائها للغرب كند حضاري وديني.

وهناك محاولات عديدة اقتحمت أبواب هذه العلوم، محاولة الأدلاء فيها برؤية إسلامية معتدلة، تجمع بين حقائق البحث العلمي والدراسات الميدانية والتراث الفكري للمسلمين. لأن من شأن تناول قضايا المجتمع الإسلامي الدينية بمناهج ومصطلحات وأدوات غريبة عن بيئته وثقافته وتاريخه أن تكون غير صائبة ولا منصفة. من هنا نجد أن "الإسلام" بات متهما، كما أصبحت صورة "المسلمين" مشوهة، في واقع الخطاب الغربي من خلال حجم الدراسات والتقارير والمؤلفات التي تتحدث عن الأصولية والتطرف والعنف والإرهاب الإسلامي!!!

إنَّ دراسة ظاهرة التدين في أي مجتمع، وفي أي حقبة تاريخية، وتشخيص الفكر الديني لأي علم، يحتاج إلى الإلمام بهذه العلوم السابقة في حقائقها وآرائها العلمية؛ وهي وإن كانت لا تزال في خضم التشكل إلا أنه يمكن البناء عليها والإفادة من صحيحها.

أنواع التدين:
-------

مع كثرة البحوث والدراسات بدأ هناك توجه لدراسة ظاهرة التدين بتنوعاتها المختلفة. فهناك دراسات حول "التدين الشعبي" ويقصد به تارة تدين الصوفية وتارة تدين العامة، والذي يختلط فيه الديني بالتقاليد والأعراف والعادات. وهناك "التدين الرسمي" ويقصد به ذلك النمط من التدين الذي تفرضه السلطة وتسوق له، وتوظفه لمصالحها. وهناك "التدين الطائفي" وهو التدين الذي يتشكل حول مذهب أو سلالة أو فكر، منفكا عن المجتمع ومنعزلا عنه. وهناك "التدين الجدلي" ويشير إلى التدين الناشئ في الوسط الفلسفي أو الفقهي والذي يأخذ منحى جدليا عقليا أكثر منه منحى روحيا.

وأيا يكن فإنَّ تمييز التدين عن الدين، وتخليص الدين من الصور الخاطئة في التدين، والانحرافات التي تقع في أتباعه، باتت ضرورة مع شدة الهجمة على "الدين الإسلامي" باعتباره هدفا للتشويه وتحميله خطايا الفرق والطوائف وأخطاء أبنائه. كما أن تجريد نصوص الدين الثابتة من تأويلات البشر التي دخلت عليه تحت تأثير تدينهم هم مهمة غاية في الأهمية لكي يبقى لنصوص الوحي ضيائها ونورها الذي يمتد عبر الزمن.

وإنه "مستحيل أن تتلاشى فطرة التدين في الإنسان لأنها أشرف ميول النفس، وأكرم عواطفها،... ففطرة التدين ستلازم الإنسان ما دام ذا عقل يعقل به القبح والجمال، ورؤية يجيلها في الكون والكائنات، وستزداد فيه هذه الفطرة حياة وقوة على نسبة علو مداركه، وسمو معارفه"[2].
-------------------------------------
[1] محاربة الدول العلمانية لالتزام الأفراد بالشعائر الدينية الظاهرة، ورفضها لأي تغلب لهذه المظاهر والشعائر على صبغتها المجتمعية وملامحها العمرانية، وحرصها على تضييق دائرة الدين في حدود خفية وفردية، ما هو إلا اتساق مع تصوراتها "الدينية" الوضعية التي تؤمن بها!
[2] دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي، مادة (دين). انظر: مجلة البحوث الإسلامية، الجزء: 1، ص63.


-----------------------
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59