عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 01-09-2012, 11:09 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,419
افتراضي

الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدينمن القضاء و الفتيا و التدريس و الإمامة و الخطابة و الأذان و نحو ذلك لا تعظمثروتهم في الغالب
و السبب لذلك أن الكسب كما قدمناه قيمة الأعمال و أنهامتفاوتة بحسب الحاجة إليها. فإذا كانت الأعمال ضرورية في العمران عامة البلوى بهكانت قيمتها أعظم و كانت الحاجة إليها أشد. و أهل هذه الصنائع الدينية لا تضطرإليهم عامة الخلق و إنما يحتاج إلى ما عندهم الخواص ممن أقبل على دينه. و إن احتيجإلى الفتيا و القضاء في الخصومات فليس على وجه الاضطرار و العموم فيقع الاستغناء عنهؤلاء في الأكثر. و إنما يهتم بإقامة مراسمهم صاحب الدولة بما ناله من النظر فيالمصالح فيقسم لهم حظاً من الرزق على نسبة الحاجة إليهم على النحو الذي قررناه. لايساويهم بأهل الشوكة و لا بأهل الصنائع من حيث الدين و المراسم الشرعية لكنه يقسمبحسب عموم الحاجة و ضرورة أهل العمران فلا يصح قسمهم إلا القليل. و هم أيضاً لشرفبضائعهم أعزة على الخلق و عند نفوسهم فلا يخضعون لأهل الجاه حتى ينالوا منه حظاًيستدرون به الرزق بل و لا تفرغ أوقاتهم لذلك لما هم فيه من الشغل بهذه البضائعالشريفة المشتملة على إعمال الفكر و البدن. بل و لا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهلالدنيا لشرف بضائعهم فهم بمعزل عن ذلك، فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب. و لقدباحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك علي فوقع بيدي أوراق مخرقة من حسابات الدواوين بدارالمأمون تشتمل على كثير من الدخل و الخرج و كان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة والأئمة و المؤذنين فوقفته عليه و علم منه صحة ما قلته و رجع إليه و قضينا العجب منأسرار الله في خلقه حكمته في عوالمه و الله الخالق القادر لا رب سواه.
الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاشالمتضعين و أهل العافية من البدو
و ذلك لأنه أصيل في الطبيعة و بسيط في منحاه ولذلك لا تجده ينتحله أحد من أهل الحضر في الغالب و لا من المترفين. و يختص منتحلهبالمذلةقال صلى الله عليه و سلم و قد رأى السكة ببعض دور الأنصار: ما دخلت هذه دار قوم إلا دخله الذل،و حملهالبخاريعلى الاستكثار منه. و ترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرعأو تجاوز الحد الذي أمر به. و السبب فيه و الله أعلم ما يتبعها من المغرم المفضيإلى التحكم و اليد العالية فيكون الغارم ذليلاً بائساً بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة.قال صلى الله عليه و سلم: لا تقوم الساعة حتى تعودالزكاة مغرماً،إشارة إلى الملك العضوض القاهر للناس الذي معه التسلط والجور و نسيان حقوق الله تعالى في المتمولات و اعتبار الحقوق كلها مغرم للملوك والدول. و الله قادر على ما يشاء. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل التاسع في معنى التجارة و مذاهبها وأصنافها
اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص و بيعهابالغلاء أيام كانت السلعة من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش. و ذلك القدر النامييسمى ربحاً. فالمحاول لذلك الربح إما أن يختزن السلعة و يتحين بها حوالة الأسواق منالرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه و إما بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثرمن بلده الذي اشتراها فيه فيعظم ربحه. و لذلك قال بعض الشيوخ من التجار لطلب الكشفعن حقيقة التجارة أنا أعلمها لك في كلمتين: اشتراء الرخيص و بيع الغالي. فقد حصلتالتجارة إشارة منه بذلك إلى المعنى الذي قررناه. و الله سبحانه و تعالى أعلم و بهالتوفيق لا رب سواه.
الفصل العاشر في أي أصناف الناس يحترف بالتجارة و أيهم ينبغي له اجتناب حرفها
قد قدمنا أن معنى التجارة تنمية المال بشراء البضائع و محاولة بيعها بأغلى منثمن الشراء إما بانتظار حوالة الأسواق أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق و أغلى أوبيعها بالغلاء على الآجال. و هذا الربح بالنسبة إلى أصل المال يسير إلا أن المالإذا كان كثيراً عظم الربح لأن القليل في الكثير كثير. ثم لا بد في محاولة هذهالتنمية الذي هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة في شراء البضائع و بيعها. ومعاملتهم في تقاضي أثمانها. و أهل النصفة قليل، فلا بد من الغش و التطفيف المجحفبالبضائع و من المطل في الأثمان المجحف بالربح. كتعطيل المحاولة في تلك المدة وبها نماؤه. و من الجحود و الإنكار المسحت لرأس المال إن لم يتقيد بالكتاب والشهادة، و غنى الحكام في ذلك قليل لأن الحكم إنما هو على الظاهر. فيعاني التاجرمن ذلك أحوالاً صعبة. و لا يكاد يحصل على ذلك التافه من الربح إلا بعظم العناء والمشقة، أو لا يحصل أو يتلاشى رأس ماله. فإن كان جريئاً على الخصومة بصيراًبالحسبان شديد المماحكة مقداماً على الحكام كان ذلك أقرب له إلى النصفة بجراءتهمنهم و مماحكته و إلا فلا بد له من جاه يدرع به، يوقع له الهيبة عند الباعة و يحملالحكام على إنصافه من معامليه فيحصل له بذلك النصفة في ماله طوعاً في الأول و كرهاًفي الثاني و أما من كان فاقداً للجراءة و الإقدام من نفسه فاقد الجاه من الحكامفينبغي له أن يجنب الاحتراف بالتجارة لأنه يعرض ماله للضياع و الذهاب و يصير مأكلةللباعة و لا يكاد ينتصف منهم لأن الغالب في الناس و خصوصاً الرعاع و الباعة شرهونإلى ما في أيدي الناس سواهم متوثبون عليه. و لولا وازع الأحكام لأصبحت أموال الناسنهباًو لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن اللهذو فضل على العالمين.
الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلةعن خلق الأشراف و الملوك
و ذلك أن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء و لا بد فيه من المكايسة ضرورة فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها و هيأعني خلق المكايسة بعيدة عن المرؤة التي تتخلق بها الملوك و الأشراف. و أما إناسترذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم من المماحكة و الغش و الخلابةو تعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان رداً و قبولاً فأجدر بذلك الخلق أن يكون فيغاية المذلة لما هو معروف. و لذلك تجد أهل الرئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفةلأجل ما يكسب من هذا الخلق. و قد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق و يتحاماه لشرفنفسه و كرم جلاله إلا أنه في النادر بين الوجود و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه وهو رب الأولين و الآخرين.
الفصل الثاني عشر في نقل التاجر للسلع
التاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلعإلا ما تعم الحاجة إليه من الغنى و الفقير و السلطان و السوقة إذ في ذلك نفاق سلعته. و أما إذا اختص نقله بما يحتاج إليه البعض فقط فقد يتعذر نفاق سلعته حينئذ بإعوازالشراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسد سوقه و تفسد أرباحه. و كذلك إذا نقلالسلعة المحتاج إليها فإنما ينقل الوسط من صنفها فإن العالي من كل صنف من السلعإنما يختص به أهل الثروة و حاشية الدولة و هم الأقل. و إنما يكون الناس أسوة فيالحاجة إلى الوسط من كل صنف فليتحر ذلك جهده ففيه نفاق سلعة أو كسادها و كذلك نقلالسلع من البلد البعيد المسافة أو في شدة الخطر في الطرقات يكون أكثر فائدة للتجارو أعظم أرباحاً و أكفل بحوالة الأسواق لأن السلعة المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزةلبعد مكانها أو شدة الغرر في طريقها فيقل حاملوها و يعز وجودها و إذا قلت و عزت غلتأثمانها. و أما إذا كان البلد قريب المسافة و الطريق سابل بالأمن فإنه حينئذ يكثرناقلوها فتكثر و ترخص أثمانها و بهذا تجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلادالسودان أرفه الناس و أكثرهم أموالاً لبعد طريقها و مشقته و اعتراض المفازة الصعبةالمخطرة بالخوف و العطش. لا يوجد فيها الماء إلا في أماكن معلومة يهتدي إليهاأدلاء الركبان فلا يرتكب خطر هذا الطريق و بعده إلا الأقل من الناس فتجد سلع بلادالسودان قليلة لدينا فتختص بالغلاء و كذلك سلعنا لديهم. فتعظم بضائع التجار منتناقلها و يسرع إليهم الغنى و الثروة من أجل ذلك. و كذلك المسافرون من بلادنا إلىالمشرق لبعد الشقة أيضاً. و أما المترددون في أفق واحد ما بين أمصاره و بلدانهففائدتهم قليلة و أرباحهم تافهة لكثرة السلع و كثرة ناقليهاإنالله هو الرزاق ذو القوة المتين.
الفصل الثالث عشر في الاحتكار
و مما اشتهر عند قوي البصر و التجربة في الأمصارأن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤم. و أنه يعود على فائدته بالتلف و الخسران. و سببه و الله أعلم أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبذلون فيها منالمال اضطراراً فتبقى النفوس متعلقة به و في تعلق النفوس بما لها سر كبير في وبالهعلى من يأخذه مجاناً و فعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل و هذا وإن لم يكن مجاناً فالنفوس متعلقة به لإعطائه ضرورة من غير سمين في العذر فهوكالمكره و ما عدا الأقوات و المأكولات من المبيعات لا اضطرار للناس إليها و إنمايبعثهم عليها التفنن في الشهوات فلا يبذلون أموالهم فيها إلا ياختيار و حرص. و لايبقى لهم تعلق بما أعطوه فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى النفسانية علىمتابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه. و الله تعالى أعلم. و سمعت فيما يناسبهذا حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب. أخبرني شيخنا أبو عبد الله الأبلي قال:حضرت عند القاضي بفاس لعهد السلطان أبي سعيد و هو الفقيه أبو الحسن المليلي و قدعرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قال فأطرق ملياً ثم قال: من مكسالخمر. فاستضحك الحاضرون من أصحابه و عجبوا و سألوه عن حكمة ذلك. فقال: إذا كانتالجبايات كلها حراماً فأختار منها مالاً تتابعه نفس معطيه و الخمر قل أن يبذل فيهاأحد ماله إلا و هو طرب مسرور بوجوداته غير أسف عليه و لا متعلقة به نفسه و هذهملاحظة غريبة و الله سبحانه و تعالى يعلم ما تكن الصدور.
الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخص
و ذلك أن الكسب والمعاش كما قدمناه إنما هو بالصنائع أو التجارة. و التجارة هي شراء البضائع والسلع و ادخارها. يتحين بها حوالة الأسواق بالزيادة في أثمانها و يسمى ربحاً. ويحصل منه الكسب و المعاش للمحترفين بالتجارة دائماً فإذا استديم الرخص في سلعة أوعرض من مأكول أو ملبوس أو متمول على الجملة و لم يحصل للتاجر حوالة الأسواق فسدالربح و النماء بطول تلك المدة و كسدت سوق ذلك الصنف و لم يحصل التاجر إلا علىالعناء فقعد التجار عن السعي فيها و فسدت رؤوس أموالهم. و اعتبر ذلك أولاً بالزرعفإنه إذا استديم رخصه يفسد به حال المحترفين بسائر أطواره من الفلح و الزراعة لقلةالربح فيه و ندارته أو فقده. فيفقدون النماء في أموالهم أو يجدونه على قلة ويعودون بالإنفاق على رؤوس أموالهم و تفسد أحوالهم و بصيرون إلى الفقر و الخصاصة. ويتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضاً بالطحن و الخبز و سائر ما يتعلق بالزراعة منالحرث إلى صيرورته مأكولاً. و كذا يفسد حال الجند إذا كانت أرزاقهم من السلطان علىأهل الفلح زرعاً فإنها تقل جبايتهم من ذلك و يعجزون عن إقامة الجندية التي هيبسببها و مطالبون بها و منقطعون لها فتفسد أحوالهم و كذا إذا استديم الرخص في السكرأو العسل فسد جميع ما يتعلق به و قعد المحترفون عن التجارة فيه و كذا حال الملبوساتإذا استديم فيها الرخص أيضاً فإذا الرخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنفالرخيص و كذا الغلاء المفرط أيضاً. و إنما معاش الناس و كسبهم في التوسط من ذلك وسرعة حوالة الأسواق و علم ذلك يرجع إلى العوائد المتقررة بين أهل العمران. و إنمايحمد الرخص في الزرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه و اضطرار الناس إلى الأقواتمن بين الغني و الفقير. و العالة من الخلق هم الأكثر في العمران فيعم الرفق بذلك ويرجح جانب القوت على جانب التجارة في هذا الصنف الخاصإن الله هوالرزاق ذو القوة المتينو الله سبحانه و تعالى رب العرش العظيم.
الفصل الخامس عشر في أن خلق التجارة نازلةعن خلق الرؤساء و بعيدة من المروءة
قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلىمعاناة البيع و الشراء و *** الفوائد و الأرباح و لا بد في ذلك من المكايسة والمماحكة و التحذلق و ممارسة الخصومات و اللجاج و هي عوارض هذه الحرفة. و هذهالأوصاف نقص من الذكاء و المروءة و تجرح فيها لأن الأفعال لا بد من عود آثارها علىالنفس. فأفعال الخير تعود بآثار الخير و الذكاء و أفعال الشر و السفسفة تعود بضدذلك فتتمكن و ترسخ إن سبقت و تكررت و تنقص خلال الخير إن تأخرت عنها بما ينطبع منآثارها المذمومة في النفس شأن الملكات الناشئة عن الأفعال. و تتفاوت هذه الآثاربتفاوت أصناف التجار في أطوارهم فمن كان منهم سافل الطور محالفاً لأشرار الباعة أهلالغش و الخلابة و الخديعة و الفجور في الأثمان إقراراً و إنكاراً. كانت رداءة تلكالخلق عنه أشد و غلبت عليه السفسفة و بعد عن المروءة و اكتسابها بالجملة. و إلافلا بد له من تأثير المكايسة و المماحكة في مروءته، و فقدان ذلك منهم في الجملة.و وجود الصنف الثاني منهم الذي قدمناه في الفصل قبلة أنهم يدرعون بالجاه و يعوض لهممن مباشرة ذلك، فهم نادر و أقل من النادر. و ذلك أن يكون المال قد يوجد عنده دفعةبنوع غريب أو ورثه عن أحد من أهل بيته فحصلت له ثروة تعينه على الاتصال بأهل الدولةو تكسبه ظهوراً و شهرة بين أهل عصره فيرتفع عن مباشرة ذلك بنفسه و يدفعه إلى منيقوم له به من وكلائه و حشمه. و يسهل له الحكام النصفة في حقوقهم بما يؤنسونه منبره و إتحافه فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مر. فتكون مروءتهم أرسخ و أبعد عن تلك المحاجاة إلا ما يسري من آثار تلك الأفعال منوراء الحجاب فإنهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء و رفاقهم أو خلافهم فيمايأتون أو يدرون من ذلك إلا أنه قليل و لا يكاد يظهر أثرهو اللهخلقكم و ما تعملون.
الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم
إعلم أن الصناعة هي ملكة فيأمر عملي فكري و بكونه عملياً هو جسماني محسوس. و الأحوال الجسمانية المحسوسةفنقلها بالمباشرة أوعب لها و أكمل، لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسةأتم فائدة و الملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل و تكرره مرة بعد أخرى حتىترسخ صورته. و على نسبة الأصل تكون الملكة. و نقل المعاينة أوعب و أتم من نقلالخبر و العلم. فالملكة الحاصلة عن الخبر. و على قدر جودة التعليم و ملكة المعلميكون حذق المتعلم في الصناعة و حصول ملكته. ثم أن الصنائع منها البسيط و منهاالمركب. و البسيط هو الذي يختص بالضروريات و المركب هو الذي يكون للكماليات. والمتقدم منها في التعليم هو البسيط لبساطته أولاً، و لأنه مختص بالضروري الذيتتوفر الدواعي على نقله فيكون سابقاً في التعليم و يكون تعليمه لذلك ناقصاً. و لايزال الفكر يخرج أصنافها و مركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئاً فشيئاًعلى التدريج حتى تكمل. و لا يحصل ذلك دفعة و إنما يحصل في أزمان و أجيال إذ خروجالأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة لا سيما في الأمور الصناعية فلا بد له إذنمن زمان. و لهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة و لا يوجد منها إلا البسيطفإذا تزايدت حضارتها و دعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلىالفعل. و تنقسم الصنائع أيضاً إلى ما يختص بأمر المعاش ضرورياً كان أو غير ضروري وإلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان من العلوم و الصنائع و السياسة. و منالأول الحياكة و الجزارة و النجارة و الحدادة و أمثالها. و من الثاني الوراقة و هيمعاناة الكتب بالانتساخ و التخليد و الغناء و الشعر و تعليم العلم و أمثال ذلك. ومن الثالث الجندية و أمثالها. و الله أعلم.
الفصل السابع عشر في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري و كثرته
والسبب في ذلك أن الناس ما لم يستوف العمران الحضري و تتمدن المدينة إنما همهم فيالضروري من المعاش و هو تحصيل الأقوات من الحنطة و غيرها. فإذا تمدنت المدبنة وتزايدت فيها الأعمال و وفت بالضروري و زادت عليه صرف الزائد و إنما إلى الكمالات منالمعاش. ثم إن الصنائع و العلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميز به عنالحيوانات و القوت له من حيث الحيوانية و الغذائية فهو مقدم لضرورته على العلوم والصنائع و هي متأخرة عن الضروري. و على مقدار عمران البلد تكون جودة الصنائعللتأنق فيها و إنما و استجادة ما يطلب منها بحيث تتوفر دواعي الترف و الثروة و أماالعمران البدوي أو القليل فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط خاصة المستعمل فيالضروريات من نجار أو حداد او خياط أو حائك أو جزار. و إذا وجدت هذه بعد فلا توجدفيه كاملة و لا مستجادة و إنما يوجد منها بمقدار الضرورة إذ هي كلها وسائل إلىغيرها و ليست مقصودة لذاتها. و إذا زخر بحر العمران و طلبت فيه الكمالات كان منجملتها التأنق في الصنائع و استجادتها فكملت بجميع متمماتها و تزايدت صنائع أخرىمعها مما تدعو إليه عوائد الترف و أحواله من جزار و دباغ و خراز و صائغ و أمثال ذلك. و قد تنتهي هذه الأصناف إذا استبحر العمران إلى أن يوجد فيها كثير من الكمالات والتأنق فيها في الغاية و تكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها. بل تكون فائدتهامن أعظم فوائد الأعمال لما يدعو إليه الترف في المدينة مثل الدهان و الصفار والحمامي و الطباخ و الشماع و الهراس و معلم الغناء و الرقص و قرع الطبول علىالترقيع. و مثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب و تجليدها و تصحيحها فإنهذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية و أمثالذلك. و قد تخرج عن الحد إذا كان العمران خارجاً عن الحد كما بلغنا عن أهل مصر أنفيهم من يعلم الطيور العجم و الحمر الإنسية و يتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلبالأعيان و تعليم الحداء و الرقص و المشي على الخيوط في الهواء و رفع الأثقال منالحيوان و الحجارة و غير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب. لأن عمرانأمصاره لم يبلغ عمران مصر و القاهرة. أدام الله عمرانها بالمسلمين. و الله الحكيمالعليم.
الفصل الثامن عشر في أن رسوخ الصنائع فيالأمصار إنما هو برسوخ الحضارة و طول أمده
و السبب في ذلك ظاهر و هو أن هذهكلها عوائد للعمران و الأوان. و العوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار و طول الأمدفتستحكم صبغة ذلك و ترسخ في الأجيال. و إذا استحكمت الصبغة عسر نزعها. و لهذا نجدفي الأمصار التي كانت استبحرت في الحضارة لما تراجع عمرانها و تناقص بقيت فيها آثارمن هذه الصنائع ليست في غيرها من الأمصار المستحدثة العمران و لو بلغت مبالغها فيالوفور و الكثرة و ما ذاك إلا لأن أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطولالأحقاب و تداول الأحوال و تكررها و هذه لم تبلغ الغاية بعد. و هذا كالحال فيالأندلس لهذا العهد فإنا نجد فيها رسوم الصنائع قائمة و أحوالها فمن مستحكمة راسخةفي جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني و الطبخ و أصناف الغناء و اللهو منالآلات و الأوتار و الرقص و تنضيد الفرش في القصور، و حسن الترتيب و الأوضاع فيالبناء و صوغ الآنية من المعادن و الخزف و جميع المواعين و إقامة الولائم و الأعراسو سائر الصنائع التي يدعو إليها الترف و عوائده. فنجدهم أقوم عليها و أبصر بها. ونجد صنائعها مستحكمة لديهم فهم على حصة موفورة من ذلك و حظ متميز بين جميع الأمصار. و إن كان عمرانها قد تناقص. و الكثير منه لا يساوي عمران غيرها من بلاد العدوة.و ما ذاك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة الأموية و ما قبلها مندولة القوط و ما بعدها من دولة الطوائف و هلم جرا. فبلغت الحضارة فيها مبلغاً لمتبلغه في قطر إلا ما ينقل عن العراق و الشام و مصر أيضاً لطول آماد الدول فيهافاستحكمت فيها الصنائع و كملت جميع أصنافها على الاستجادة و التنميق. و بقيتصبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية حال الصبغ إذا رسخ فيالثوب. و كذا أيضاً حال تونس فيما حصل فيها بالحضارة من الدول الصنهاجية والموحدين من بعدهم و ما استكمل لها في ذلك من الصنائع في سائر الأحوال و إن كان ذلكدون الأندلس. إلا أنه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافة بينهما.و تردد المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كل سنة و ربما سكن أهلها هناك عصوراًفينقلون من عوائد ترفهم و محكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع الاستحسان. فصارتأحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناه و من أحوال الأندلس لما أن أكثرساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد المائة السابعة. و رسخ فيها من ذلك أحوال وإن كان عمرانها ليس مناسب لذلك لهذا العهد. إلا أن الصبغة إذا استحكمت فقليلاً ماتحول إلا بزوال محلها. و كذا نجد بالقيروان و مراكش و قلعة ابن حماد أثراً باقياًمن ذلك و إن كانت هذه كلها اليوم خراباً أو في حكم الخراب. و لا يتفطن لها إلاالبصير من الناس فيجد من هذه الصنائع آثاراً تدله على ما كان بها كأثر الخط الممحوفي الكتاب و الله الخلاق العليم.
الفصل التاسع عشر في أن الصنائع إنماتستجاد و تكثر إذا كثر طالبها
و السبب في ذلك ظاهر و هو أن الإنسان لا يسمحبعمله أن يقع مجاناً لأنه كسبه و منه معاشه. إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيءمما سواه فلا يصرفه إلا فيما له قيمة في مصره ليعود عليه بالنفع. و إن كانتالصناعة مطلوبة و توجه إليها النفاق كانت و إنما الصناعة بمثابة السلعة التي تنفقسوقها و ت*** للبيع. فتجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. و إذا لم تكن الصناعة مطلوبة لم تنفق سوقها و لا يوجه قصد إلى تعلمها، فاختصتبالترك و فقدت للإهمال. و لهذا يقال عن علي رضي الله عنه، قيمة كل امرئ ما يحسنبمعنى أن صناعته هي قيمته أي قيمة عمله الذي هو معاشه. و أيضاً فهنا سر آخر و هوأن الصنائع و إجادتها إنما تطلبها الدولة فهي التي تنفق سوقها و توجه الطالباتإليها. و ما لم تطلبه الدولة و إنما يطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتهالأن الدولة هي السوق الأعظم و فيها نفاق كل شيء و القليل و الكثير فيها على نسبةواحدة. فما نفق منها كان أكثرياً ضرورة. و السوقة و إن طلبوا الصناعة فليس طلبهمبعام و لا شوقهم بنافقة. و الله سبحانه و تعالى قادر على ما يشاء.
الفصل العشرون في أن الأمصار إذا قاربتالخراب انتقصت منها الصنائع
و ذلك لما بينا أن الصنائع إنما تستجاد إذا احتيجإليها و كثر طالبها. و إذا ضعفت أحوال المصر و أخذ في الهرم بانتقاض عمرانه و قلةساكنه تناقص فيه الترف و رجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم فتقل الصنائعالتي كانت من توابع الترف لأن صاحبها حينئد لا يصح له بها معاشه فيفر إلى غيرها،أو يموت و لا يكون خلف منه. فيذهب رسم تلك الصنائع جملة، كما يذهب النقاشون والصواغ و الكتاب و النساخ و أمثالهم من الصنائع لحاجات الترف. و لا تزال الصناعاتفي التناقص إلى أن تضمحل. و الله الخلاق العليم و سبحانه و تعالى.
الفصل الحادي و العشرون في أن العرب أبعدالناس عن الصنائع
و السبب في ذلك أنهم أعرق في البدو و أبعد عن العمران الحضريو ما يدعو إليه من الصنائع و غيرها. و العجم من أهل المشرق و أمم النصرانية عدوةالبحر الرومي أقوم الناس عليها لأنهم أعرق في العمران الحضري و أبعد عن البدو وعمرانه. حتى إن الإبل التي أعانت العرب على التوحش و في القفر، و الإعراق فيالبدو، مفقودة لديهم بالجملة، و مفقودة مراعيها، و الرمال المهيئة لنتاجها. ولهذا نجد أوطان العرب و ما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة، حتى ت*** إليهمن قطر آخر. و انظر بلاد العجم من الصين و الهند و أرض الترك و أمم النصرانية،كيف استكثرث فيهم الصنائع و است***ها الأمم من عندهم. و عجم المغرب من البربر مثلالعرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين. و يشهد لك بذلك قلة الأمصاربقطرهم كما قدمناه.. فالصنائع بالمغرب لذلك قليلة و غير مستحكمة الأماكن من صناعةالصوف من نسجه، و الجلد في خرزه و دبغه. فإنهم لما استحضروا بلغوا فيها المبالغلعموم البلوى بها و كون هذين أغلب السلع في قطرهم، لما هم عليه من حال البداوة. وأما المشرق فقد رسخت الصنائع فيه منذ ملك الأمم الأقدمين من الفرس و النبط و القبطو بني إسرائيل و يونان و الروم أحقاباً متطاولة، فرسخت فيهم أحوال الحضارة. و منجملتها الصنائع كما قدمناه، فلم يمح رسمها. و أما اليمن و البحرين و عمان والحزيرة و إن ملكه العرب إلا أنهم تداولوا ملكه آلافاً من السنين في أمم كثيرينمنهم. و اختطوا أمصاره و مدنه و بلغوا الغاية من الحضارة و الترف مثل عاد و ثمود والعمالقة و حمير من بعدهم. و التبابعة و الأذواء فطال أمد الملك و الحضارة واستحكمت صبغتها و توفرت الصنائع و رسخت، فلم تبل ببلى الدولة كما قدمناه. فبقيتمستجدة حتى الآن. و اختصت بذلك للوطن، كصناعة الوشي و العصب و ما يستجاد من حولالثياب و الحرير فيها و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين.
الفصل الثاني و العشرون فيمن حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعد في ملكة أخرى
و مثال ذلك الخياط إذا أجاد ملكة الخياطة و أحكمها و رسخت في نفسه فلا يجيد منبعدها ملكة النجارة أو البناء إلا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد و لم ترسخ صبغتها.و السبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس و ألوان فلا تزدحم دفعة. و من كان علىالفطرة كان أسهل لقبول الملكات و أحسن استعداداً لحصولها. فإذا تلونت النفسبالملكة الأخرى و خرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكةفكان قبولها للملكة الأخرى أضعف. و هذا بين يشهد له الوجود. فقل أن تجد صاحبصناعة يحكمها ثم يحكم من بعدها أخرى و يكون فيهما معاً على رتبة واحدة من الإجادة.حتى أن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة. و من حصل منهم على ملكةعلم من العلوم و أجادها في الغاية فقل أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته بل يكونمقصراً فيه إن طلبه إلا في الأقل النادر من الأحوال. و مبني سببه على ما ذكرناه منالاستعداد و تلوينه بلون الملكة الحاصلة في النفس. و الله سبحانه و تعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث و العشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع
إعلم أن الصنائع في النوعالإنساني كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران. فهي بحيث تشذ عن الحصر و لايأخذها العد. إلا أن منها ما هو ضروري في العمران أو شريف بالموضع فنخصها بالذكر ونترك ما سواها. فأما الضروري فالفلاحة و البناء و الخياطة و النجارة و الحياكة، وأما الشريفة بالموضع فكالتوليد و الكتابة و الوراقة و الغناء و الطب. فأما التوليدفإنها ضرورية في العمران و عامة البلوى إذ بها تحصل حياة المولود و تتم غالباً. وموضوعها مع ذلك المولودون و أمهاتهم. و أما الطب فهو حفظ الصحة لإنسان و دفع المرضعنه و يتفرع عن علم الطبيعة، و موضوعه مع ذلك بدن الإنسان. و أما الكتابة و مايتبعها من الوراقة فهي حافظة على الإنسان حاجته و مقيدة لها عن النسيان و مبلغةضمائر النفس إلى البعيد الغائب و مخلدة نتائج الأفكار و العلوم في الصحف و رافعةرتب الوجود للمعاني. و أما الغناء فهو نسب الأصوات و مظهر جمالها للأسماع. و كلهذه الصنائع الثلاث داع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم و مجالس أنسهم فلهابذلك شرف ليس لغيرها. و ما سوى ذلك من الصنائع فتابعة و ممتهنة في الغالب. و قديختلف ذلك باختلاف الأغراض و الدواعي. و الله أعلم بالصواب.
الفصل الرابع و العشرون في صناعة الفلاحة
هذه الصناعة ثمرتها اتخاذ الأقوات والحبوب بالقيام على إثارة الأرض لها ازدراعها و علاج نباتها و تعهده بالسقي والتنمية إلى بلوغ غايته ثم حصاد سنبله و استخراج حبه من غلافه و إحكام الأعمال لذلك. و تحصيل أسبابه و دواعيه. و هي أقدم الصنائع لما أنها محصلة للقوت المكمل لحياةالإنسان غالباً إذ يمكن وجوده من دون القوت. و لهذا اختصت هذه الصناعة بالبدو. إذقدمنا أنه أقدم من الحضر و سابق عليه فكانت هذه الصناعة لذلك بدوية لا يقوم عليهاالحضر و لا يعرفونها لأن أحوالهم كلها ثانية على البداوة فصنائعهم ثانية عن صنائعهاو تابعة لها. و الله سبحانه و تعالى مقيم العباد فيما أراد.
الفصل الخامس و العشرون في صناعة البناء
هذه الصناعة أول صنائع العمران الحضريو أقدمها و هي معرفة العمل في اتخاذ البيوت و المنازل للكن و المأوى للأبدان فيالمدن. و ذلك أن الإنسان لما جبل عليها من الفكر في عواقب أحواله، لا بد أن يفكرفيما يدفع عنه الأذى من الحر و البرد كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف و الحيطان. منسائر جهاتها و البشر مختلف في هذه الجبلة الفكرية فمنهم المعتدلون فيها فيتخذون ذلكباعتدال أهالي الثاني و الثالث و الرابع و الخامس و السادس و أما أهل البدو فيبعدونعن اتخاذ ذلك لقصور أفكارهم عن إدراك الصنائع البشرية فيبادرون للغيران و الكهوفالمعدة من غير علاج. ثم المعتدلون و المتخذون البيوت للمأوى قد يتكاثرون في البسيطالواحد بحيث يتناكرون و لا يتعارفون فيخشون طرق بعضهم بعضاً بياتاً فيحتاجون إلىحفظ مجتمعهم بإدارة ماء أو أسوار تحوطهم و يصير جميعاً مدينة واحدة و مصراً واحداًو يحوطهم الحكم من داخل يدفع بعضهم عن بعض و قد يحتاجون إلى الانتصاف و يتخذونالمعاقل و الحصون لهم و لمن تحت أيديهم و هؤلاء مثل الملوك و من في معناهم منالأمراء و كبار القبائل. ثم تختلف أحوال البناء في المهن كل مدينة على ما يتعارفونو يصطلحون عليه و يناسب مزاج هوائهم و اختلاف أحوالهم في الغنى و الفقر. و كذا حالأهل المدينة الواحدة فمنهم من يتخذ القصور و البضائع العظيمة الساحة المشتملة علىعدة الدور و البيوت و الغرف الكبيرة لكثرة ولده و حشمه و عياله و تابعه و يؤسسجدرانها بالحجارة و يلحم بينها بالكلس و يعالي عليها بالأصبغة و الجص و يبالغ في كلذلك بالتنجيد و التنميق إظهاراً للبسطة بالعناية في شأن المأوى. و يهيىء مع ذلكالأسراب و المطامير للاختزان لأقواته و الإسطبلات لربط مقرباته إذا كان من أهلالجنود و كثرة التابع و الحاشية كالأمراء و من في معناهم و منهم من يبني الدويرة والبيوت لنفسه و سكنه و ولده لا يبتغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه و اقتصاره عن الكنالطبيعي للبشر و بين ذلك مراتب غير منحصرة و قد يحتاج لهذه الصناعة أيضاً عند تأسيسالملوك و أهل و الدول المدن العظيمة و الهياكل المرتفعة و يبالغون في إتقان الأوضاعو علو الأجرام مع الإحكام بتبلغ الصناعة مبالغها. و هذه الصناعة هي التي تحصلالدواعي لذلك كله و أكثر ما تكون هذه الصناعة في الأقاليم المعتدلة من الرابع و ماحواليه إذ الأقاليم المنحرفة لا بناء فيها. و إنما يتخذون البيوت حظائر من القصب والطين أو يأوون إلى الكهوف و الغيران. و أهل هذه الصناعة القائلون عليها متفاوتون: فمنهم البصير الماهر و منهم القاصر. ثم هي تتنوع أنواعاً كثيرة فمنها البناءبالحجارة المنجدة أو بالآجر يقام بها الجدران ملصقاً بعضها إلى بعض بالطين و الكلسالذي يعقد معها و يلتحم كأنها جسم واحد و منها البناء بالتراب خاصة تقام منه حيطانيتخذ لها لوحان من الخشب فقدران طولاً و عرضاً باختلاف العادات في التقدير. وأوسطه أربع أذرع في ذراعين فينصبان على أساس و قد يوعد ما بينهما بما يراه صاحبالبناء في عرض الأساس و يوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال و الجدر. ويسد الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين ثم يوضع فيهالتراب مخلطاً بالكلس و يركز بالمراكز المعدة حتى ينعم ركزه و يختلط أجزاؤه بالكلسثم يزاد التراب ثانياً و ثالثاً إلى أن يمتلىء ذلك الخلاء بين اللوحين و قد تداخلتأجزاء الكلس و التراب و صارت جسماً واحداً. ثم يعاد نصب اللوحين على صورة و يركزكذلك إلى أن يتم و ينظم الألواح كلها سطراً من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كلهملتحماً كأنه قطعة واحدة و يسمى الطابية و صانعه الطواب. و من صنائع البناء أيضاًأن تجلل الحيطان بالكلس بعد أن يحل بالماء و يخمر أسبوعاً أو أسبوعين على قدر مايعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للإلحام. فإذا تم له ما يرضاه من ذلك علاهمن فوق الحائط و ذلك إلى أن يلتحم. و من صنائع البناء عمل السقف بأن يمد الخشبالمحكمة النجارة أو الساذجة على حائطي البيت و من فوقها الألواح كذلك موصولةبالدسائر و يصب عليها التراب و الكلس و يبسط بالمراكز حتى تتداخل أجزاؤها و تلتحم ويعالى عليها الكلس كما يعالى على الحائط. و من صناعة البناء ما يرجع إلى التنميق والتزيين كما يصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسمة من الجص يخمر بالماء ثم يرجعجسداً و فيه بقية البلل، فيشكل على التناسب تخريماً بمثاقب الحديد إلى أن يبقى لهرونق و رؤاء. و ربما عولي على الحيطان أيضاً بقطع الرخام أو الآجر أو الخزف أوبالصدف أو السبج يفصل أجزاء متجانسة أو مختلفة و توضع في الكلس على نسب و أوضاعمقدرة عندهم يبدو به الحائط للعيان، كأنه قطع الرياض المنمنمة. إلى غير ذلك منبناء الجباب و الصهاريج لسفح الماء بعد أن تعد في البيوت قصاع الرخام القوراءالمحكمة الخرط بالفوهات في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصهريج ي*** إليه من خارجالقنوات المفضية إلى البيوت و أمثال ذلك من أنواع البناء. و تختلف الصناع في جميعذلك باختلاف الحذق و البصر و يعظم عمران المدينة و يتسع فيكثرون. و ربما يرجعالحكام إلى نظر هؤلاء فيما هم أبصر به من أحوال البناء. و ذلك أن الناس في المدنلكثرة الازدحام و العمران يتشاحون حتى في الفضاء و الهواء الأعلى و الأسفل و منالانتفاع بظاهر البناء مما يتوقع معه حصول الضرر في الحيطان. فيمنع جاره من ذلكإلا ما كان له فيه حق. و يختلفون أيضاً في استحقاق الطرق و المنافذ للمياه الجاريةو الفضلات المسربة في القنوات و ربما يدعي بعضهم حق بعض في حائطه أو علوه أو قناتهلتضايق الجوار أو يدعي بعضهم على جاره اختلال حائطه خشية سقوطه و يحتاج إلى الحكمعليه بهدمه و دفع ضرر عن جاره عند من يراه أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرضة بينشريكين بحيث لا يقع معها فساد في الدار و لا إهمال لمنفعتها. و أمثال ذلك. و يخفىجميع ذلك إلا على أهل البصر العارفين بالبناء و أحواله المستدلين عليها بالمعاقد والقمط و مراكز الخشب و ميل الحيطان و اعتدالها و قسم المساكن على نسبة أوضاعها. ومنافعها و تسريب المياه في القنوات مجلوبة و مرفوعة بحيث لا تضر بما مرت عليه منالبيوت و الحيطان و غير ذلك. فلهم بهذا كله البصر و الخبرة التي ليست لغيرهم. وهم مع ذلك يختلفون بالجودة و القصور في الأجيال باعتبار الدول و قوتها. فإنا قدمناأن الصنائع و كمالها، إنما هو بكمال الحضارة و كثرتها بكثرة الطالب لها. فلذلكعندما تكون الدولة بدوية في أول أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها. كما وقعللوليد بن عبد الملك حين أجمع على بناء مسجد المدينة و القدس و مسجده بالشام. فبعثإلى ملك الروم بالقسطنطينية في الفعلة المهرة في البناء فبعث إليه منهم من حصل لهغرضه من تلك المساجد و قد يعرف صاحب هذه الصناعة أشياء من الهندسة مثل تسويةالحيطان بالوزن و إجراء المياه بأخذ الارتفاع و أمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشيء منمسائله. و كذلك في جر الأثقال بالهندام فإن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارةالكبيرة يعجز قدر الفعلة عن رقمها إلى مكانها من الحائط فيتحيل لذلك بمضاعفة قوةالحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية تصير الثقيل عند معاناةالرفع خفيفاً فيتم المراد من ذلك بغير كلفة و هذا إنما يتم بأصول هندسية معروفينمتداولين بين البشر و بمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يحسب أنهامن بناء الجاهلية. و أن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني و ليس كذلك وإنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه. فتفهم ذلك. و الله يخلق ما يشاءسبحانه.
الفصل السادس و العشرون في صناعة النجارة
هذه الصناعة من ضروريات العمران و مادتها الخشب و ذلك أن الله سبحانه و تعالىجعل للآدمي في كل مكون من المكونات منافع تكمل بها ضروراته و كان منها الشجر فإن لهفيه من المنافع مالا ينحصر مما هو معروف لكل أحد. و من منافعها اتخاذها خشباً إذايبست و أول منافعه أن يكون وقوداً للنيران في معاشهم و عصياً للاتكاء و الذود وغيرهما من ضرورياتهم و دعائم لما يخشى ميله من أثقالهم. ثم بعد ذلك منافع أخرىلأهل البدو و الحضر فأما أهل البدو فيتخذون منها العمد و الأوتاد لخيامهم و الحدوجلظعائنهم و الرماح و القسي و السهام لسلاحهم و أما أهل الحضر فالسقف لبيوتهم والأغلاق لأ بوابهم و الكراسي لجلوسهم. و كل واحدة من هذه فالخشبة مادة لها و لاتصير إلى الصورة الخاصة بها إلا بالصناعة. و الصناعة المتكفلة بذلك المحصلة لكلواحد من صورها هي النجارة على اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أولاً، إما بخشب أصغر منه أو ألواح.
ثم تركب تلك الفضائل بحسب الصور المطلوبة. وهو في كل ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام إلى أن تصير أعضاء لذلكالشكل المخصوص. و القائم على هذه الصناعة هو النجار و هو ضروري في العمران. ثمإذا عظمت الحضارة و جاء الترف و تأنق الناس فيما يتخذونه من كل صنف من سقف أو بابأو كرسي أو ماعون، حدث التأنق في صناعة ذلك و استجادته بغرائب من الصناعة كماليةليست من الضروري في شيء مثل التخطيط في الأبواب و الكراسي و مثل تهيئة القطع منالخشب بصناعة الخرط يحكم بريها و تشكيلها ثم تؤلف على نسب مقدرة و تلحم بالدسائرفتبدو لرأي العين ملتحمة و قد أخذ منها اختلاف الأشكال على تناسب. يصنع هذا في كلشيء يتخذ من الخشب فيجيء آنق ما يكون. و كذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلاتالمتخذة من الخشب من أي نوع كان. و كذلك قد يحتاج إلى هذه الصناعة في إنشاءالمراكب البحرية ذات الألواح و الدسر و هي أجرام هندسية صنعت على قالب الحوت واعتبار سبحه في الماء بقوادمه و كلكله ليكون ذلك الشكل أعون لها في مصادمة الماء وجعل لها عوض الحركة الحيوانية التي للسمك تحريك الرياح. و ربما أعينت بحركةالمقاذيف كما في الأساطيل. و هذه الصناعة من أصلها محتاجة إلى أصل كبير من الهندسةفي جميع أصنافها لأن إخراج الصور من القوة إلى الفعل على وجه الإحكام محتاج إلىمعرفة التناسب في المقادير إما عموماً أو خصوصاً و تناسب المقادير لا بد فيه منالرجوع إلى المهندس. و لهذا كانت أئمة الهندسة اليونانيون كلهم أئمة في هذهالصناعة فكان أوقليدوس صاحب كتاب الأصول في الهندسة نجاراً و بها كان يعرف. و كذلكأبلونيوس صاحب كتاب المخروطات و ميلاوش و غيرهم. و فيما يقال: أن معلم هذهالصناعة في الخليقة هو نوح عليه السلام و بها أنشأ سفينة النجاة التي كانت بهامعجزته عند الطوفان. و هذا الخبر و إن كان ممكناً أعني كونه نجاراً إلا أن كونهأول من علمها أو تعلمها لا يقوم دليل من النقل عليه لبعد الآماد. و إنما معناه والله أعلم الإشارة إلى قدم النجارة لأنه لم يصح حكاية عنها قبل خبر نوع عليه السلامفجعل كأنه أول من تعلمها. فتفهم أسرار الصنائع في الخليقة. و الله سبحانه و تعالىأعلم و به التوفيق.
الفصل السابع و العشرون في صناعة الحياكة و الخياطة
إعلم أن المعتدلين من البشرفي معنى الإنسانية لا بد لهم من الفكر في الدفء كالفكر في الكن. و يحصل الدفءباشتمال المنسوج للوقاية من الحر و البرد. و لا بد لذلك من إلحام الغزل حتى يصيرثوباً واحداً، و هو النسج و الحياكة. فإن كانوا بادية اقتصروا عليه، و إن قالواإلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعاً يقدرون منها ثوباً على البدن بشكله و تعددأعضائه و اختلاف نواحيها. ثم يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتى تصير ثوباًواحداً على البدن و يلبسونها. و الصناعة المحصلة لهذه الملاءمة هي الخياطة.
هاتان الصناعتان ضروريتان في العمران لما يحتاج إليه البشر من الرفه فالأولىلنسج الغزل من الصوف و الكتان و القطن إسداء في الطول و إلحاماً في العرض و إحكاماًلذلك النسج بالالتحام الشديد، فيتم منها قطع مقدرة فمنها الأكسية من الصوفللاشتمال، و منها الثياب من القطن و الكتان للباس. و الصناعة الثانية لتقديرالمنسوجات على اختلاف الأشكال و العوائد، تفصل بالمقراض قطعاً مناسبة للأعضاءالبدنية ثم تلحم تلك القطع بالخياطة المحكمة وصلاً أو تنبيتاً أو تفسحاً على حسبنوع الصناعة. و هذه الصناعة مختصة بالعمران الحضري لما أن أهل البدو يستغنون عنهاو إنما يشتملون الأثواب اشتمالاً. و إنما تفصيل الثياب و تقديرها و إلحامهابالخياطة للباس من مذاهب الحضارة و فنونها. و تفهم هذه في سر تحريم المخيط في الحجلما أن مشروعية الحج مشتملة على نبذ العلائق الدنيويئة كلها و الرجوع إلى اللهتعالى كما خلقنا أول مرة، حتى لا يعلق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيباً ولا نساءً لا مخيطاً و لا خفاً، و لا يتعرض لصيد و لا لشيء من عوائده التي تلونتبها نفسه و خلقه، مع أنه يفقدها بالموت ضرورة. و إنما يجيء كأنه وارد إلى المحشرضارعاً بقلبه مخلصاً لربه. و كان جزاؤه إن تم له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبهكيوم ولدته أمه. سبحانك ما أرفقك بعبادك و أرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك. وهاتان الصنعتان قديمتان في الخليقة لما أن الدفء ضروري للبشر في العمران المعتدل.و أما المنحرف إلى الحر فلا يحتاج أهله إلى دفء. و لهذا يبلغنا عن أهل الإقليمالأول من السودان أنهم عراة في الغالب. و لقدم هذه الصنائع ينسبها العامة إلىادريس عليه السلام و هو أقدم الأنبياء. و ربما ينسبونها إلى هرمس و قد يقال إنهرمس هو إدريس. و الله سبحانه و تعالى هو الخلاق العليم.
الفصل الثامن و العشرون في صناعة التوليد
و هي صناعة يعرف بها العمل في استخراجالمولود الآدمي من بطن أمه من الرفق في إخراجه من رحمها و تهيئة أسباب ذلك. ثم مايصلحه بعد الخروج على ما نذكر. و هي مختصة بالنساء في غالب الأمر لما أنهنالظاهرات بعضهن على عورات بعض. و تسمى القائمة على ذلك منهن القابلة. استعير فيهامعنى الإعطاء و القبول كأن النساء تعطيها الجنين و كأنها تقبله. و ذلك أن الجنينإذا استكمل خلقه في الرحم و أطواره و بلغ إلى غايته و المدة التي قدرها الله لمكثههي تسعة أشهر في الغالب فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النزوع لذلك ويضيق عليه المنفذ فيعسر. و ربما مزق بعض جوانب الفرج بالضغط و ربما انقطع بعض ماكان من الأغشية من الالتصاق و الالتحام بالرحم. و هذه كلها آلام يشتد لها الوجع وهو معنى الطلق فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشيء بغمز الظهر و الوركين و مايحاذي الرحم من الأسافل تساوق بذلك فعل الدافعة في إخراج الجنين و تسهيل ما يصعبمنه بما يمكنها و على ما تهتدي إلى معرفة عسرة. ثم إن أخرج الجنين بقيت بينه و بينالرحم الوصلة حيث كان يتغذى منها متصلة من سرته بمعاه. و تلك الوصلة عضو فضليلتغذية المولود خاصة فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدى مكان الفضلة و لا تضر بمعاه ولا برحم أمه ثم تدمل مكان الجراحة منه بالكي أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثم إنالجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضيق و هو رطب العظام سهل الانعطاف و الانثناءفربما تتغير أشكال أعضائه و أوصافها لقرب التكوين و رطوبة المواد فتتناوله القابلةبالغمز و الإصلاح حتى يرجع كل عضو إلى شكله الطبيعي و وضعه المقدر له و يرتد خلقهسوياً. ثم بعد ذلك تراجع النفساء و تحاذيها بالغمز و الملاينة لخروج أغشية الجنينلأنها ربما تتأخر عن خروجه قليلاً. و يخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالهاالطبيعية قبل استكمال خروج الأغشية و هي فضلات فتتعفن و يسري عفنها إلى الرحم فيقعالهلاك فتحاذر القابلة هذا و تحاول في إعانة الدفع إلى أن تخرج تلك الأغشية التيكانت قد تأخرت ثم ترجع إلى المولود فتمرخ أعضاءه بالأدهان و الذرورات القابضة لتشدهو تجفف رطوبات الرحم و تحنكه لرفع لهاته و تسعطه لاستفراغ نطوف دماغه و تغرغرهباللعوق لدفع السدد من معاه و تجويفها عن الالتصاق. ثم تداوي النفساء بعد ذلك منالوهن الذي أصابها بالطلق و ما لحق رحمها من ألم الانفصال، إذ المولود إن لم يكنعضواً طبيعياً فحالة التكوين في الرحم صيرته بالالتحام كالعضو المتصل فلذلك كان فيانفصاله ألم يقرب من ألم القطع. و تداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم من جراحةالتمزيق عند الضغط في الخروج. و هذه كلها أدواء نجد هولاء القوابل أبصر بدوائها.و كذلك ما يعرض للمولود مدة الرضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهن أبصر بهامن الطبيب الماهر. و ما ذاك إلا لأن بدن الإنسان في تلك الحالة إنما هو بدن إنسانيبالقوة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدناً إنسانياً بالفعل فكانت حاجته حينئذ إلىالطبيب أشد. فهذه الصناعة كما تراه ضرورية في العمران للنوع الإنساني، لا يتم كونأشخاصه في الغالب دونها. و قد يعرض لبعض أشخاص النوع الاستغناء عن هذه الصناعة،إما بخلق الله ذلك لهم معجزة و خرقاً للعادة كما في حق الأنبياء صلوات الله و سلامهعليهم أو بإلهام و هداية يلهم لها المولود و يفطرعليها فيتم وجودهم من دون هذهالصناعة. فأما شأن المعجزة من ذلك فقد وقع كثيراً. و منه ما روي أن النبي صلىالله عليه و سلم ولد مسروراً مختوناً واضعاً يديه على الأرض شاخصاً ببصره إلىالسماء. و كذلك شأن عيسى في المهد و غير ذلك. و أما شأن الإلهام فلا ينكر. و إذاكانت الحيوانات العجم تختص بغرائب الإلهامات كالنحل و غيرها فما ظنك بالإنسانالمفضل عليها. و خصوصاً بمن اختص بكرامة الله. ثم الإلهام العام للمولودين فيالإقبال على الثدي أوضح شاهد على وجوب الإلهام العام لهم. فشأن العناية الإلهيةأعظم من أن يحاط به. و من هنا يفهم بطلان رأي الفارابي و حكماء الأندلس فيمااحتجوا به لعدم انقراض الالواح و استحالة انقطاع المكونات. و خصوصاً في النوعالإنساني، و قالوا: لو انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك لتوقفه على وجود هذهالصناعة التي لا يتم كون الإنسان إلا بها. إذ لو قدرنا مولوداً دون هذه الصناعة وكفالتها إلى حين الفصال لم يتم بقاؤه أصلاً. و وجود الصنائع دون الفكر ممتنع لأنهاثمرته و تابعة له. و تكلف ابن سينا في الرد على هذا الرأي لمخالفته إياه و ذهابهإلى إمكان انقطاع الأنواع و خراب عالم التكوين ثم عوده ثانياً لاقتضاءات فلكية وأوضاع غريبة تنذر في الأحقاب بزعمه فتقتضي تخمير طينة مناسبة لمزاجه بحرارة مناسبةفيتم كونه إنساناً ثم يقيض له حيوان يخلق فيه إلهاماً لتربيته و الحنو عليه إلى أنيتم وجوده و فصاله. و أطنب في بيان ذلك في الرسالة التي سماها رسالة حي بن يقظان.و هذا الاستدلال غير صحيح و إن كنا نوافقه على انقطاع الأنواع لكن من غير ما استدلبه. فإن دليله مبني على إسناد الأفعال إلى العلة الموجبة. و دليل القول بالفاعلالمختار يرد عليه و لا واسطة على القول بالفاعل المختار بين الأفعال و القدرةالقديمة و لا حاجة إلى هذا التكلف. ثم لو سلمناه جدلاً فغاية ما ينبني عليه اطرادوجوب هذا الشخص بخلق الإلهام لترتيبه في الحيوان الأعجم. و ما الضرورة الداعيةلذلك ؟ و إذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم فما المانع من خلقه للمولود نفسهكما قررناه أولاً. و خلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب من خلقه فيه لمصالح غيرهفكلا المذهبين شاهدان على أنفسهما بالبطلان في مناحيهما لما قررته لك و الله تعالىأعلم.
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59