عرض مشاركة واحدة
  #52  
قديم 05-31-2015, 06:30 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,207
ورقة موقف المعتزلة من الحياة البرزخية

موقف المعتزلة من الحياة البرزخية*
ـــــــــــــــــ

13 / 8 / 1436 هــ
31 / 5 / 2015 م
ــــــــــــ



تعتبر الحياة البرزخية من الأمور العقائدية الغيبية, حيث تعتبر جزءا من الإيمان باليوم الآخر الذي هو ركن من أركان الإيمان, ومن المعلوم عند أهل السنة والجماعة أنه لا مجال لإعمال العقل في المسائل الغيبية, وإنما الاعتماد في الإيمان بهذا الأمر - وغيره من الغيبيات - على النص والخبر الصادق.

وأمام هذا الموقف الواضح لأهل السنة والجماعة من مسألة الإيمان بالحياة البرزخية, وما جاء بخصوصها من نصوص صحيحة, يتساءل المسلم عن موقف المعتزلة من هذه المسألة؟؟ وهم الذين يقدمون العقل على النص في كثير من المسائل, ويجعلون من العقل أصلا مقدما في فهم وتقرير أمور ومسائل العقيدة الإسلامية.

التعريف بالمعتزلة
----------

فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة, مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة.

وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.

نشأة المعتزلة
---------

الحقيقة أن نشأة الاعتزال كان ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية, وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية, فقبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء، كان هناك جدل ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي, ومن أهم هذه المقولات:

مقولة معبد الجهني بأن الإنسان حر مختار بشكل مطلق وهو الذي يخلق أفعاله بنفسه, ومقولة خلق القرآن التي قال بها الجهم بن صفوان, بالإضافة لمقولة نفي الصفات التي قال بها الجعد بن درهم.

برزت المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الغزال (80 ـ 131هـ) الذي كان تلميذا للحسن البصري، ثم اعتزل حلقة الحسن بعد قوله بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين (أي ليس مؤمناً ولا كافراً), وأنه مخلد في النار إذا لم يتب قبل الموت.

أبرز أفكار المعتزلة
--------------

1- القول بأن الإنسان مختار بشكل مطلق في كل ما يفعل، فهو يخلق أفعاله بنفسه، ولذلك كان التكليف.

2- القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه فاسق فهو "بمنزلة بين المنزلتين", هذه حاله في الدنيا, أما في الآخرة فهو لا يدخل الجنة لأنه لم يعمل بعمل أهل الجنة, بل هو خالد مخلد في النار، ولا مانع عندهم من تسميته مسلماً باعتباره يظهر الإسلام وينطق بالشهادتين ولكنه لا يسمى مؤمنا.

3- القول بالأصول الخمسة وهي: التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

موقف المعتزلة من الحياة البرزخية
-------------------

اشتهر بين الفرق أن المعتزلة ينكرون عذاب القبر ونعيمه على الإطلاق, وهذا ما نقله كثير من العلماء منهم الإمام أبو الحسن الأشعري حيث يقول: "واختلفوا في عذاب القبر فمنهم من نفاه وهم المعتزلة والخوارج" (1), وكذلك الآمدي الذي قال: "وقد اتفق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف وأكثرهم بعد ظهوره على إثبات إحياء الموتى في قبورهم, ومسألة الملكين لهم, وتسمية أحدهما منكرا والآخر نكيرا, وعلى إثبات عذاب القبر للمجرمين والكافرين .... إلى أن قال: وذهب ضرار بن عمرو وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة إلى إنكار ذلك كله" (2)

إلا أن ابن حزم ذهب مذهبا يخالف الأشعري والآمدي, حيث يرى أن المعتزلة تثبت عذاب القبر إلا "ضرار بن عمرو" أحد شيوخ المعتزلة فيقول: "ذهب ضرار بن عمرو والغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر, وذهب أهل السنة وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به" (3)

كما أن ابن حجر يرى أن أكثر المعتزلة على إثبات الحياة البرزخية, وفي ذلك يقول: "خلافا لمن نفاه مطلقا – أي عذاب القبر ونعيمه – من الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن عمرو و بشر المريسي ومن وافقهما, وخالفهم في ذلك أكثر المعتزلة وجميع أهل السنة وغيرهم, وأكثروا من الاحتجاج به" (4)

وقد عقد القاضي عبد الجبار المعتزلي فصلا كاملا في كتابه "شرح الأصول الخمسة" يؤكد فيه ذلك فيقول: "فصل في عذاب القبر: وجملة ذلك أنه لا خلاف فيه بين الأمة إلا شيء يحكى عن ضرار بن عمرو – وكان من أصحاب المعتزلة ثم التحق بالمجبرة – ولهذا ترى ابن الراوندي يشنع علينا ويقول: إن المعتزلة ينكرون عذاب القبر ولا يقرون به" (5)

كما أورد القاضي في كتابه "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" ما يرد على نسبة نفي الإيمان بعذاب القبر ونعيمه مطلقا للمعتزلة, معتبرا أنها دعوى للتشنيع عليهم فحسب, فيقول: "فصل: في تشنيعهم علينا بذكر عذاب القبر وغيره مما قد أطقت عليه الأمة وظهرت فيه الآثار, قيل له: إن هذا الأمر إنما أنكره أولا ضرار بن عمرو, ولما كان من أصحاب واصل, فظنوا أن ذلك مما أنكرته المعتزلة, وليس الأمر كذلك, بل المعتزلة رجلان: رجل يجوز ذلك كما وردت به الأخبار, والثاني يقطع على ذلك, وأكثر أصحابنا يقطعون على ذلك لظهور الأخبار" (6)

ثبوت عذاب القبر عند المعتزلة
-----------------

ذكر القاضي عبد الجبار الأدلة على ثبوت عذاب القبر من القرآن الكريم فقال: "وأما ثبوته فالذي يدل عليه قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} نوح/25, فالفاء للتعقيب, وإدخال النار لا وجه له إلا التعذيب, ويدل عليه أيضا قول الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} غافر/46, ووجه دلالته على عذاب القبر ظاهر, غير أنه يختص بآل فرعون ولا يعم جميع الكافرين.

ويرد على تخصيص المعتزلة للآية على آل فرعون وعدم شمولها جميع الكفار أمور أهمها:

1- احتجاج أهل العلم بهذه الآية على عذاب القبر, حتى إن ابن كثير قال: "هذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور" (7)

2- حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي, إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة, وإن كان من أهل النار فمن أهل النار, وقالوا هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة. وهذا في معنى الآية . صحيح البخاري برقم 1313 .

3- فهم الصحابة و التابعون عدم الخصوصية في الآية, ولذلك جعلوها مستندا لهم في إثبات عذاب القبر. (8)

ومن الأدلة العامة التي أثبت بها القاضي عبد الجبار عذاب القبر قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} غافر/11, ولا تكون الإماتة والإحياء مرتين إلا وفي إحدى المرتين إما التعذيب في القبر أو التبشير. (9)

كما ذكر القاضي أدلة للمعتزلة على ثبوت عذاب القبر في السنة النبوية فقال: "ومما يدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين فقال: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا) صحيح البخاري برقم 218

وقد أثبت الزمخشري أيضا عذاب القبر ونعيمه, مستدلا على ذلك بنصوص كثيرة من القرآن الكريم في كتابه "الكشاف".

كيفية عذاب القبر عند المعتزلة
------------------

تحدث القاضي عبد الجبار عن كيفية عذاب القبر, وأثبت بالعقل ثبوت الحياة لهم, وأن الإحياء في القبر ضروري حتى يصح التعذيب - حسب رأي المعتزلة - فقال: "وأما الكلام في كيفية ثبوته – أي عذاب القبر – فاعلم أن الله تعالى إذا أراد تعذيبهم فإنه لا بد من أن يحييهم لأن تعذيب الجماد محال لا يتصور"

ثم مما أثبته بالعقل أيضا ثبوت العقل لهم حتى لا يعتقد المعذب أنه مظلوم فقال: "كما لا بد من الإحياء ليصح التعذيب, فلا بد أن يخلق الله فيهم العقل ليحسن التعذيب, وإلا اعتقد المعاقب المعذب انه مظالوم, ولهذا المعنى قلنا: إن آهل النار لا بد من أن يكونوا عقلاء. هذا هو الذي نعلمه من جهة العقل" (10)

ولا شك أن إثبات القاضي عبد الجبار هذه الأمور الغيبية بالعقل يخالف مذهب أهل السنة والجماعة, التي لا ترى للعقل مكان في الغيبيات, وأن النص هو المعتبر والمعتمد فقط في مسائل الغيبيات.

كما تناول القاضي مسألة من يقوم بالتعذيب في القبر وكيفيته, ولم ينكر قيام الملكان بذلك "منكر ونكير" مشيرا إلى هذه الأمور مما لا يمكن للعقل أن يهتدي إليها, وأن طريقه الوحيد هو السمع.

كما جوز القاضي أن يكون المعذب هو الله جل جلاله أو أن يكون غيره, لأن الدلائل دلت على العذاب فلا بد من معذب, وما دام السمع قد ورد بأن الله يكل هذا الأمر لملكين يسمى أحدهما "منكر" والآخر "نكير" فالمآل إليه.

كما أشار القاضي بأن تسمية الملكين "منكر ونكير" لا يستلزم وصفهما بما لا يليق, بل هذا جاء على سنن العرب في تسميتهم لأبنائهم وأعزتهم بصخر وكلب ونحو ذلك, من غير أن يفيد مدحا ولا ذما. (11)

وقت عذاب القبر عند المعتزلة
----------------

ذكر القاضي عبد الجبار أنه لا طريق لتعيين وقته لأنه أمر غيبي يتوقف على النقل, ثم ناقض قوله الأول و بين أنه جائز أن يكون بين النفختين دون دليل, وهو ما أكده بقوله: "وأما الوقت الذي يثبت فيه التعذيب - وتعيين ذلك فيما لا طريق إليه بالعقل - فمن الجائز أن يكون بين النفختين على ما جاء في قول الله تعالى: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} المؤمنون /100-101, والبرزخ في اللغة إنما هو الأمر الهائل العظيم ولا معنى له إلا العذاب" (12)

فائدة عذاب القبر عند المعتزلة
---------------

ذكر القاضي عبد الجبار فائدة عذاب القبر وإثباته بأن فيه مصلحة للمكلف من حيث أنه إذا علم بأن ثم عذاب في القبر ثم بعده عذاب في جهنم - والعياذ بالله – إن هو أقدم على ارتكاب السيئات وأخل بفعل الواجبات, وقد قال في ذلك: "وأما فائدة عذاب القبر وكونه مصلحة للمكلفين, فإنهم متى علموا أنهم إن أقدموا على المقبحات وأخلوا بالواجبات عذبوا في القبور ثم بعد ذلك في النار, كان ذلك صارفا لهم عن القبائح داعيا إلى الواجبات" (13)

ثم وضح أن في عذاب القبر لطفا للمعذب وللملك الموكل به, وما كان هذا شأنه فلا بد أن يفعله الله تعالى - بناء على أصلهم الفاسد بوجوب اللطف على الله تعالى - فقال: "وما هذا سبيله وكان في مقدور الله تعالى فلا بد أن يفعله , وكما يكون العلم باستحقاق ذلك داعيا ولطفا للمعذب , فإن تعذيبه يكون لطفا للملك الموكل إليه ذلك , فهذه فائدته" (14)

ومسألة إيجاب اللطف الإلهي على الله مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة أيضا, فعلى الرغم من إثبات أهل السنة اللطف من الله تعالى لمن شاء من خلقه, لكنهم لا يعتبرونه واجبا كما ترى المعتزلة, بل هو تفضل من الله تعالى, وهو ما يسمى بالتوفيق إلى فعل الخير واجتناب الشر.

وختاما يمكن القول: إن المعتزلة عموما لا ينكرون عذاب القبر ونعيمه بل يقرونه ويثبتونه, ولكنهم يخالفون أهل السنة في بعض تفصيلات هذا الإيمان ومستنده كما هو مبين فيما سبق, وأن ما أشيع عنهم من نفي عذاب القبر مطلقا لا يصح نسبته إليهم, وما ذاك إلا إحقاقا للحق وتبيانا للحقيقة, وقد ثبت في كتبهم الإقرار بعذاب القبر ونعيمه, قال الصنعاني: "الذي في كتب المعتزلة الإقرار بثبوت عذاب القبر وسؤال الملكين .... " (15)

ـــــــــــــــــ

الفهارس

(1) مقالات الإسلاميين 430

(2) أبكار الأفكار 4/332

(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/117

(4) فتح الباري 3/298

(5) شرح الأصول الخمسة 730

(6) فصل الاعتزال وطبقات المعتزلة" للقاضي عبد الجبار ص201

(7) تفسير ابن كثير 7/146

(8) الدر المنثور للسيوطي 5/659

(9) شرح الأصول الخمسة 730

(10) المرجع السابق 731-732

(11) المرجع السابق 734-735

(12) المرجع السابق 732

(13) المرجع السابق732-733

(14) ترى المعتزلة أن الله خلق الإنسان وكلفه , ومنحه القدرة التامة على العمل , ولكن هذا لا يعني أن الله تركه دون معونة وتوفيق , بل أوضح المعتزلة العلاقة بين عناية الله وقدرة الإنسان بما أسموه "اللطف الإلهي" , ومعناه حسب ما قاله القاضي عبد الجبار "اعلم أن اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح , أو ما يكون عنده أقرب إما إلى الاختيار أو إلى ترك القبيح" شرح الأصول الخمسة 519

(15) شرح المقاصد 5/113

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59