عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 01-09-2012, 01:51 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

وعراف اليمامة هو رباح بن عجلة و عراف نجد الأبلق الأسدي. و من هذه المدارك الغيبية ما يصدر لبعض الناس عند مفارقة اليقظة و التباسه بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد و لا يقع ذلك إلا في مبادىء النوم عند مفارقة اليقظة و ذهاب الاختبار في الكلام فيتكلم كأنه مجبور على النطق و غايته أن يسمعه و يفهمه و كذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رؤوسهم و أوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك. و لقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظالمين أنم قتلوا من سجونهم أشخاصاً ليتعرفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع. و ذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك أن آدمياً إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم و مكث فيه أربعين يوماً يغذى بالتين و الجوز حتى يذهب لحمة و لا يبقى منه إلا العروق و شؤون رأسه فيخرج من ذلك الدفن فحين يجف عليه الهواء يجيب عن كل شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة و العامة و هذا فعل من مناكير أفعال *****ة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنساني و من الناس. من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة فيحاولون بالمجاهدة موتاً صناعياً بإماتة جميع القوى البدنية ثم محو آثارها التي تلونت بها النسق ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها و يحصل ذلك بجمع الفكر و كثرة الجوع و من المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس و حجابة و اطلعت النفس على المغيبات و من هؤلاء أهل الرياضة *****ية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات و التصرفات في العوالم و أكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوباً و شمالاً خصوصاً بلاد الهند و يسمون هنالك الحوكية و لهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة و الأخبار عنهم في ذلك غريبة. و أما المتصوفة فرياضتهم دينية و عرية عن هذه المقاصد المذمومة و إنما يقصدون جمع الهمة و الإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان و التوحيد و يزيدون في رياضتهم إلى الجمع و الجوع التغذية بالذكر فبها تتم و جهتهم في هذه الرياضة لأنه إذا نشأة النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله و إذا عريت عن الذكر كانت شيطانية و حصول ما يحصل من معرفة الغيب و التصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض و لا يكون مقصوداً من أول الأمر لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله و إنما هي لقصد التصرف و الاطلاع على الغيب و أخسر بها صفقة فإنها في الحقيقة شرك قال بعضهم: من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه لم إذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض و غير مقصود لهم و كثير منهم يفر منه إذا عرض له و لا يحفل به و إنما يريد الله لذاته لا لغيره و حصول ذلك لهم معروف و يسمون ما يقع لهم من الغيب و الحديث على الخواطر فراسة و كشفاً و ما يقع لهم من التصرف كرامة و ليس شيء من ذلك بنكير في حقهم و قد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني و أبو محمد بن أبي زيد المالكي في آخرين فراراً من التباس المعجزة بغيرها و المعول عليه عند المتكلمين حصول التفرقة بالتحدي فهو كاف. و قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: إن فيكم محدثين و أن منهم عمر و قد وقع للصحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنة يا سارية الجبل و هو سارية بن زنيم كان قائداً على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيام الفتوحات و تورط مع المشتركين في معترك و هم بالانهزام و كان بقربه جبل يتحيز إليه فرفع لعمر ذلك و هو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه يا سارية الجبل و سمعه سارية و هو بمكانه و رأى شخصه هنالك و القصة معروفة و وقع مثله أيضاً لأبي بكر في وصيته عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها من أوسق التمر من حديقته ثم نبهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة فقال في سياق كلامه و إنما هما أخواك و أختاك فقالت: إنما هي أسماء فمن الأخرى ؟ فقال: إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية فكانت جارية وقع في الموطإ في باب ما لا يجوز من النحل و مثل هذه الوقائع كثيرة لهم و لمن بعدهم من الصالحين و أهل الاقتداء إلا أن أهل التصوف يقولون إنه يقل في زمن النبؤة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النبي حتى أنهم يقولون إن المريد إذا جاء للمدينة النبوية يسلب حاله ما دام فيها حتى يفارقها و الله يرزقنا الهداية و يرشدنا إلى الحق.
و من هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء و هم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية و أحوال الصديقين و علم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين و يقع لهم من الأخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك و يأتون منه بالعجائب و ربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم و الولاية لا تحصل إلا بالعبادة و هو غلط فإن فضل الله يؤتيه من يشاء و لا يتوقف حصول الولاية على العبادة و لا غيرها و إذا كانت النفس الإنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه و هؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة و لا فسدت كحال المجانين و إنما فقد لهم العقل الذي يناط به التكليف و هي صفة خاصة للنفس و هي علوم ضروية للإنسان يشتد بها نظره و يعرف أحوال معاشه و استقامة منزله و كأنة إذا ميز أحوال معاشه و استقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده و ليس من فقد هذه الصفة بعاقل لنفسه و لا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش و لا استحالة في ذلك و لا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف و إذا صح ذلك فأعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة و يلتحقون بالبهائم و لك في تمييزهم علامات منها أن هؤلاء البهاليل لا تجد لهم وجهة أصلاً و منها أنهم يخلقون على البله من أول، نشأتهم و المجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية فإذا عرض لهم ذلك و فسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة و منها كثرة تصرفهم في الناس بالخير و الشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم و المجانين لا تصرف لهم و هذا فصل انتهى بنا الكلام إليه و الله المرشد للصواب.
و قد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس فمنهم المنجمون القائلون بالدلالات النجومية و مقتضى أوضاعها في الفلك و آثارها في العناصر و ما يحصل من الامتزاج بين طباعها بالتناظر و يتأدى من ذلك المزاج إلى الهواء و هؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شيء إنما هي ظنون حدسية و تخمينات مبنية على التأثير النجومية و حصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به الناظر على تفصيله في الشخصيات في العالم كما قاله بطليموس و نحن نبين بطلان ذلك في محله إن شاء الله و هؤلاء لو ثبت فغايته حدس و تخمين و ليس مما ذكرناه في شيء. و من هؤلاء قوم من العامة استنبطوا لاستخراج الغيب و تعرف الكائنات صناعة سموها خط الرمل نسبة إلى المادة التي يضعون فيها عملهم و محصول هذه الصناعة أنهم صيروا من النقط أشكالاً ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزوجية و الفردية و استوائها فيهما فكالت ستة عشر شكلاً لأنها إن كانت أزواجاً كلها أو أفراداً كلها فشكلان و إن كان الفرد فيهما في مرتبة واحدة فقط فأربعة أشكال و إن كان الفرد في مرتبتين فستة أشكال و إن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال جاءت ستة عشر شكلا ميزوها كلها بأسمائها و أنواعها إلى سعود و نحوس شأن الكواكب و جعلوا لها ستة عشر بيتاً طبيعية يزعمهم و كأنها البروج الاثنا عشر التي للفلك و الأوتاد الأربعة و جعلوا لكل شكل منها بيتاً و خطوطاً، و دلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختص به و استنبطوا من ذلك فنا حاذوا به فن النجامة و نوع فصائه إلا أن أحكام النجامة مستندة إلى أوضاع طبيعية كما يزعم بطليموس و هذه إنما مستندها أوضاع تحكيمية و أهواء اتفاقية و لا دليل يقوم على شيء منها و يزعمون أن أصل ذلك من النبؤات القديمة في العالم و ربما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما شأن الصنائع كلها و ربما يدعون مشروعيتها و يحتجون بقوله صلى الله عليه و سلم: كان نبي يخط فمن وافق خطة فذاك و ليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك الخط و لا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء فمن وافق خطة ذلك النبي فهو ذاك أي فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخط و أما إذا أخذ ذلك من الخط مجرداً من غير موافقة وحي فلا و هذا معنى الحديث و الله أعلم. فإذا أرادوا استخراج مغيب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النقط سطوراً على عدد المراتب الأربع ثم كرروا ذلك أربع مرات فتجيء ستة عشر سطراً ثم يطرحون النقط أزواجاً و يضعون ما بقى من كل سطر زوجاً كان أو فرداً في مرتبته على الترتيب فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية ثم يولدون منها أربعة أشكال أخرى من جالب العرض باعتبار كل مرتبة و ما قابلها من الشك الذي بإزائه و ما يجتمع منهما من زوج أو فرد فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر ثم يولدون من كل شكلين شكلاً تحتهما باعتبار ما يجتمع في كل مرتبة من مراتب الشكلين أيضاً من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها ثم يولدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها من الشكلين شكلاً كذلك تحتهما ثم من هذا الشكل الخامس عشر مع الشكل الأول شكلاً يكون أخر الستة عشر ثم يحكمون على الخط كله بما اقتضته أشكاله من السعودة و النحوسة بالذات و النظر و الحلول و الامتزاج و الدلالة على أصناف الموجودات و سائر ذلك تحكماً غريباً و كثرت هذه الصناعة في العمران و وضعت فيها التآليف و اشتهر فيها الأعلام من المتقدمين و المتأخرين و هي كما رأيت تحكم و هوى و التحقيق الذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أن الغيوب لا تدرك بصناعة البتة و لا سبيل إلى تعرفها إلا للخواص من البشر المفطورين على الرجوع من عالم الحس إلى عالم الروح و لذلك يسمى المنجمون هذا الصنف كلهم بالزهريين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب فالخط و غيره من هذه أن كان الناظر فيه من أهل هذه الخاصية و قصد بهذه الأمور التي ينظر فيها من النقط أو العظام أو غيرها إشغال الحس لترجع النفس إلى عالم ********ات لحظة ما، فهو من باب الطرق بالحصى و النظر في قلوب الحيوانات و المرايا الشفافة كما ذكرناه. و أن لم يكن كذلك و إنما قصد معرفة الغيب بهذه الصناعة و أنها تفيده ذلك فهذر من القول و العمل و الله يهدي من يشاء. و العلامة لهذه الفطرة التي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبي أنهم عند توجههم إلى تعرف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطبيعية كالتثاؤب و التمطط و مبادىء الغيبة عن الحس و يختلف ذلك بالقوة و الضعف على اختلاف وجودها فيهم فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء و إنما هو ساع في تنفيق كذبه.
فصل
و منهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول الذي هو من مدارك النفس ********ة و لا من الحدس المبني على تأثيرات النجوم كما زعمه بطليموس و لا من الظن و التخمين الذي يحاول عليه العرافون و إنما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة و لست أذكر من ذلك إلا ما ذكره المصنفون و ولع به الخواص فمن تلك القوانين الحساب الذي يسمونه حساب النيم و هو مذكور في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك و هو أن تحسب الحروف التي في اسم أحدهما بحساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد من الواحد إلى الألف آحاداً و عشرات و مئين وألوفاً فإذا حسبت الاسم و تحصل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك ثم اطرح من كل واحد منهما تسعة و احفظ بقية هذا و بقية هذا ثم انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين فإن كان العددان مختلفين في الكمية وكانا معا زوجين أو فردين معاً. فصاحب الأقل منهما هو الغالب و إن كان أحدهما زوجاً و الآخر فرداً فصاحب الأصغر هو الغالب و أن كانا متساويين في الكمية و هما معا زوجان فالمطلوب هو الغالب و إن كانا معاً فردين فالطالب هو الغالب و يقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين الناس و هما:
أرى الزوج و الأفراد يسمو اقلها و أكثرها عند التحالف غالب
و يغلب مطلوب إذا الزوج يستوي و عند استواء الفرد يغلب طالب
ثم وضعوا لمعرفة ما بقى من الحروف بعد طرحها بتسعة قانوناً معروفاً عندهم في طرح تسعة و ذلك أنهم جمعوا الحروف الدالة على الواحد في المراتب الأربع و هي (ا) الدالة على الواحد وهي (ي) الدالة على العشرة و هي واحد في مرتبة العشرات و(ق) الدالة على المائة لأنها واحد في مرتبة المئين و (ش) الدالة على الألف لأنها واحد في منزلة الآلاف و ليس بعد الألف عدد يدل عليه بالحروف لأن الشين هي آخر حروف أبجد ثم رتبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعية و هي (ايقش) ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على اثنين في المراتب الثلاث و أسقطوا مرتبة الآلاف منها لأنها كانت آخر حروف أبجد فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثلاث ثلاثة حروف و هي (ب) الدالة على اثنين في الآحاد و (ك) الدالة على اثنين في العشرات و هي عشرون و (ر) الدالة على اثنين في المئين و هي مائتان و صيروها كلمة واحدة ثلاثة على نسق المراتب و هي بكر ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على ثلاثة فنشأت عنها كلمة جلس و كذلك إلى آخر حروف أبجد و صارت تسع كلمات نهاية عدد الآحاد و هي ايقش بكر جلس دمت هنث و صخ زعد حفظ طضغ مرتبة على توالى الأعداد و لكل كلمة منها عددها الذي هي في مرتبته فالواحد لكلمة ايقش و الاثنان لكلمة بكر و الثلاثة لكلمة جلس و كذلك إلى التاسعة التي هي طضغ فتكون لها التسعة فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كل حرف منه في أي كلمة هو من هذه الكلمات و أخذوا عددها مكانه ثم جمعوا الأعداد التي يأخذونها بدلاً من حروف الاسم فإن كانت زائدة على التسمية أخذوا ما فضل عنها و إلا أخذوه كما هو ثم يفعلون كذلك بالاسم الآخر و ينظرون بين الخارجين بما قدمناه و السر في هذا بين و ذلك أن الباقي من كل عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنما هو واحد فكأنه يجمع عدد العقود خاصة من كل مرتبة فصارت أعداد العقود كأنها آحاد فلا فرق بين الاثنين و العشرين و المائتين و الألفين و كلها اثنين و كذلك الثلاثة و الثلاثون و الثلاثمائة و الثلاثة الآلاف كلها ثلاثةً ثلاثةً فوضعت الأعداد على التوالي دالة على أعداد العقود لا غير و جعلت الحروف الدالة على أصناف العقود في كل كلمة من الآحاد و العشرات و المئين و الألوف و صار عدد الكلمة الموضوع عليها نائباً عن كل حرف فيها سواء دل على الآحاد أو العشرات أو المئين فيؤخذ عدد كل كلمة عوضاً من الحروف التي فيها و تجمع كلها إلى آخرها كما قلناه هذا هو العمل المتداول بين الناس منذ الأمر القديم و كان بعض من لقيناه من شيوخنا يرى أن الصحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه و متوالية كتواليها و يفعلون بها في الطرح بتسعة مثل ما يفعلونه بالأخرى سواء و هي هذه ارب يسقك جزلط مدوص هف تحذن عش خع ثضظ تسع كلمات على توالي، العدد و لكل كلمة منها عددها الذي في مرتبته فيها الثلاثي و الرباعي و الثنائي و ليست جارية على أصل مطرد كما تراه لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السيمياء و أسرار الحروف و النجامة و هو أبو العباس بن البناء و يقولون عنه أن العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النيم أصح من العمل بكلمات ايقش و الله يعلم كيف ذلك و هذه كلها مدارك للغيب غير معروف أرسطو عند المحققين لما فيه من الآراء البعيدة عن التحقيق و البرهان يشهد لك بذلك تصفحه إن كنت من أهل الرسوخ. و من هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزايرجة المسماة بزايرجة العالم، المعزوة إلى أبي العباس سيدي أحمد السبتي من أعلام المتصوفة بالمغرب كان في آخر المائة السادسة بمراكش و لعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحدين و هي غريبة العمل صناعة. و كثير من الخواص يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز فيحرضون بذلك على حل رمزه و كشف غامضه. و صورتها التي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك و العناصر و المكونات و ********ات و غير ذلك من أصناف الكائنات و العلوم و كل دائرة مقسومة بأقسام فلكها إما البروج و إما العناصر أو غيرهما و خطوط كل قسم مارة إلى المركز و يسمونها الأوتار و على كل وتر حروف متتابعة موضوعة فمنها برشوم الزمام التي هي أشكال الأعداد عند أهل الدواوين و الحساب بالمغرب لهذا العهد و منها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزايرجة و بين الدوائر أسماء العلوم و مواضع الأكوان و على ظاهر الدوائر جدول متكثر البيوت المتقاطعة طولاً و عرضاً يشتمل على خمسة و خمسين بيتاً في العرض و مائة و واحد و ثلاثين في الطول جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد و أخرى بالحروف و جوانب خالية البيوت و لا تعلم نسبة تلك الأعداد في أو ضاعها و لا القسمة التي عينت البيوت العامرة من الخالية و حافات الزايزجة أبيات من عروض الطويل على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزايرجة إلا أنها من قبيل الإلغاز في عدم الوضوح و الجلاء و في بعض جوانب الزايرجة بيت من الشعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان بالمغرب و هو مالك بن وهيب من علماء أشبيلية كان في الدولة اللمتونية و نص البيت
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا
و هو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السؤال في هذه الزايرجة و غيرها فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السؤال و قطعوه حروفاً ثم أخذوا الطالع لذلك الوقت من بروج الفلك و درجها و عمدوا إلى الزايرجة ثم إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطالع من أوله ماراً إلى المركز ثم إلى محيط الدائرة قبالة الطالع فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوله إلى آخره و الأعداد المرسومة بينهما و يصيرونها حروفاً بحساب الجمل و قد ينقلون آحادها إلى العشرات و عشراتها إلى المئين و بالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم و يضعونها مع حروف السؤال و يضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثالث من الطالع من الحروف و الأعداد من أوله إلى المركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط و يفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأول و يضيفونها إلى الحروف الأخرى ثم يقطعون حروف البيت الذي هو أصل العمل و قانونه عندهم و هو بيت مالك بن وهيب المتقدم و يضعونها ناحية ثم يضربون عدد درج الطالع في أس البرج و أسه عندهم هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأس عند أهل صناعة الحساب فانه عندهم البعد عن أول المراتب ثم يضربونه في عدد آخر يسمونه الأس الأكبر و الدور الأصلي و يدخلون بما تجمع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة و أعمال مذكورة و أدوار معدودة و يستخرجون منها حروفاً و يسقطون أخرى و يقابلون بما معهم في حروف البيت و ينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السؤال و ما معها ثم يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمونها الأدوار و يخرجون في كل دور الحرف الذي ينتهي عنده الدور و يعاودون ذلك بعدد الأدوار المعينة عندهم لذلك فيخرج آخرها حروف متقطعة و تؤلف على التوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الذي يقابل به العمل و رويه و هو بيت مالك ابن وهيب المتقدم حسبما نذكر ذلك كله في فصل العلوم عند كيفية العمل بهذه الزايرجة و قد رأينا كثيراً من الخواص يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال و يحسبون أن ما وقع من مطابقة الجواب للسؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع و ليس ذلك بصحيح لأنه قد مر لك أن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة و إنما المطابقة التي فيها بين الجواب و السؤل من حيث الإفهام و التوافق في الخطاب حتى يكون الجواب مستقيماً أو موافقاً للسؤال و وقوع ذلك في هذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السؤال و الأوتار و الدخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة و استخراج الحروف من الجدول بذلك و طرح أخرى و معاودة ذلك في الأدوار المعدودة و مقابلة ذلك كله بحروف البيت على التوالي غير مستنكر و قد يقع الاطلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول فالتناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس و طريق لحصوله سيما من أهل الرياضة فإنها تفيد العقل قوة على القياس و زيادة في الفكر و قد مر تعليل ذلك غير مرة و من أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزايرجة في الغالب لأهل الرياضة فهي منسوبة للسبتي و لقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله و لعمري إنها من الأعمال الغريبة و المعاناة العجيبة. و الجواب الذي يخرج منها فالسر في خروجه منظوماً يظهر لي إنما هو المقابلة بحروف ذلك البيت و لهذا يكون النظم على وزنه و رويه و يدل عليه أنا و جدنا أعمالاً أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوماً كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه و كثير من الناس تضيق مداركهم عن التصديق بهذا العمل و نفوذه إلى المطلوب فينكر صحتها و يحسب أنها من التخيلات و الإيهامات و أن صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السؤال و أن الأوتار و يفعل تلك الصناعات على غير نسبة و لا قانون ثم يجيء بالبيت و يوهم أن العمل جاء على طريقين منضبطة و هذا الحسبان توهم فاسد حمل عليه العقول عن فهم التناسب بين الموجودات و المعدومات و التفاوت بين المدارك و العقول و لكن من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه و يكفينا في رد ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعين و الحدس القطعي فإنها جاءت بعمل مطرد و قانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذكاء و حدس و إذا كان كثير من المعاياة في العدد الذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النسبة فيه و خفائها فما ظنك بمثل هذا مع خفاء النسبة فيه و غرابتها فلنذكر مسئلة من المعاياة يتضح لك بها شيء مما ذكرنا مثاله لو قيل لك أخذت عدداً من الدراهم و اجعل بإزاء كل درهم ثلاثة من الفلوس ثم الجمع الفلوس التي أخذت و اشتر بها طائراً ثم اشتر بالدراهم كلها طيوراً بسعر ذلك الطائر فكم الطيور المشتراة بالدراهم فجوابه أن تقول هي تسعة لأنك تعلم أن فلوس الدراهم أربعة و عشرون و أن الثلاثة ثمنها و أن عدة أثمان الواحد ثمانية فإذا جمعت الثمن من الدراهم إلى الثمن الآخر فكان كله ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدة أثمان الواحد و تزيد على الثمانية طائراً آخر و هو المشترى بالفلوس المأخوذة أولاً و على سعر اشتريت بالدراهم فتكون تسعة فأنت ترى كيف خرج لك الجواب المضمر بسر التناسب الذي بين أعداد المسئلة و الوهم أول ما يلقي إليك هذه و أمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفته و ظهر أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها و هذا إنما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم و أما الكائنات المستقبلة إذا لم تعلم أسباب وقوعها و لا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته لم إذا تبين لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزايرجة كلها إنما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السؤال لأنها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر و سر ذلك إنما هو من تناسب بينهما يطلع عليه بعض دون بعض فمن عرف ذلك التناسب تيسر عليه استخراج ذلك الجواب يتلك القوانين و الجواب يدل في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه و تراكيبه على وقوع أحد طرفي السؤال من نفي أو إثبات و ليس هذا من المقام الأول بل إنما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج و لا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه و قد استأثر الله بعلمه و الله يعلم و أنتم لا تعلمون.

الباب الثاني في العمران البدوي و الأمم الوحشية و القبائل و ما يعرض في ذلك من الأحوال و فيه فصول و تمهيدات الفصل الأول في أن أجيال البدو و الحضر طبيعية
إعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله و الابتداء بما هو ضروري منعه و نشيطه قبل الحاجي و الكمالي فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة و الزراعة و منهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم و البقر و المعز و النحل و الدود لنتاجها واستخراج فضلاتها و هؤلاء القائمون على الفلح و الحيوان تدعوهم الضرورة و لا بد إلى البدو لأنه متسع لما لا يتسع له الحواضر من المزارع و الفدن و المسارح للحيوان و غير ذلك فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمراً ضروريا لهم و كان حينئذ اجتماعهم و تعاونهم في حاجاتهم و معاشهم و عمرانهم من القوت و الكن و الدفء إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة و يحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عما وراء ذلك ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش و حصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى و الرفه دعاهم ذلك إلى السكون و الدعة و تعاونوا في الزائد على الضرورة و استكثروا من الأقوات و الملابس و التأنق فيها و توسعة البيوت و اختطاط المدن و الأمصار للتحضر ثم تزيد أحوال الرفه و الدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت و استجادة المطابخ و التقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير و الديباج و غير ذلك و معالاة البيوت و الصروح و إحكام وضعها في تنجيدها و الانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غايتها فيتخذون القصور و المنازل و يجرون فيها المياه و يعالون في صرحها و يبالغون في تنجيدها و يختلفون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون و هؤلاء هم الحصر و معناه الحاضرون أهل الأمصار و البلدان و من هؤلاء من ينتحل معاشه الصنائع و منهم من ينتحل التجارة و تكون مكاسبهم أنمى و أرفه من أهل البدو لأن أحوالهم زائدة على الضروري و معاشهم على نسبة و جدهم فقد تبين أن أجيال البدو و الحضر طبيعية لا بد منها كما قلناه.

الفصل الثاني في أن جيل العرب في الخليقة طبيعي
قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدر هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح و القيام على الإنعام و أنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات و الملابس و المساكن و سائر الأحوال و العوائد و مقصرون عما فوق ذلك من حاجى أو كمالي يتخذون البيوت من الشعر و الوبر أو الشجر أو من الطين و الحجارة غير منجدة إنما هو قصد الاستظلال والكن لا ما وراءه و قد يأوون إلى الغيران و الكهوف و أما أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أو بغير علاج البتة إلا ما مسته النار فمن كان معاشه منهم في الزراعة و القيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن و هؤلاء سكان المدر و القرى و الجبال و هم عامة البربر و الأعاجم و من كان معاشه في السائمة مثل الغنم و البقر فهم ظعن في الأغلب لارتياد المسارح و المياه لحيواناتهم فالتقلب في الأرض أصلح بهم و يسمون شاوية و معناه القائمون على الشاه و البقر و لا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة و هؤلاء مثل البربر و الترك و إخوانهم من التركمان و الصقالبة و أما من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظغناً و أبعد في القفر مجالاً لأن مسارح التلول و نباتها و شجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر وورود مياهه الملحة و التقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفء هوائه و طلباً لماخض النتاج في رماله إذ الإبل أصعب الحيوان فصالاً و مخاضاً و أحوجها في ذلك إلى الدفء فاضطروا إلى إبعاد النجعة و ربما زادتهم الحامية عن التلول أيضاً فأوغلوا في القفار نفرة عن الضعة منهم فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً و ينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه و المفترس من الحيوان العجم و هؤلاء هم العرب و في معناهم ظعون البربر و زناتة بالمغرب له الأكراد و التركمان و الترك بالمشرق إلا أنا العرب أبعد نجعة و أشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط و هؤلاء يقوموني عليها و على الشياه و البقر معها فقد تبين لك أن جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران و الله سبحانه و تعالى أعلم.

الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر و سابق عليه و أن البادية أصل العمران و الأمصار مدد لها
قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه و أن الحضر المعتنون بحاجات الترف و الكمال في أحوالهم و عوائدهم و لا شك أن الضروري أقدم من الحاجي و الكمالي و سابق عليه و لأن الضروري أصل و الكمالي فرع ناشىء عنه فالبدو أصل المدن و الحضر، و سابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري و لا ينتهي إلى الكمال و الترف إلا إذا كان الضروري حاصلاً فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة و لهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها و ينتهي بسعيه إلى مقترحه منها و متى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف و عوائده عاج إلى الدعة و أمكن نفسه إلى قياد المدينة و هكذا شأن القبائل المتبدية كلهم و الحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته و مما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر و متقدم عليه أنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار و جدنا أولية أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر و عدلوا إلى الدعة و الترف الذي في الحضر و ذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة و أنها أصل لها فتفهمه. ثم إن كل واحد من البدو و الحضر متفاوت الأحوال من جنسه فرب حي أعظم من حي و قبيلة أعظم من قبيلة و مصر أوسع من مصر و مدينة أكثر عمراناً من مدينة فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن و الأمصار و أصل لها بما أن وجود المدن و الأمصار من عوائد الترف و الدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضروري المعاشية و الله أعلم.

الفصل الرابع في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر
و سببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد
عليها و ينطبع فيها من خير أو شر قال صلى الله عليه و سلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه و بقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر و يصعب عليها اكتسابه فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير و حصلت لها ملكته بعد عن الشر و صعب عليه طريقة و كذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضاً عوائده و أهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ و عوائد الترف و الإقبال على الدنيا و العكوف على شهواتهم منها و قد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق و الشر و بعدت عليهم طرق الخير و مسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم و بين كبرائهم و أهل محارمهم لا يصدهم عنه و ازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً و عملاً و أهل البدو و إن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري في الترف و لا في شيء من أسباب الشهوات و اللذات و دواعيها فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها و ما يحصل فيهم من مذاهب السوء و مذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الأولى و أبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة و قبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر و هو ظاهر و قد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران و خروجه إلى الفساد و نهاية الشر و البعد عن الخير فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر و الله يحب المتقين و لا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع و قد بلغة أنه خرج إلى سكنى البادية فقال له ارتددت على عقبيك تعربت فقال لا و لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن لي في البدو فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي صلى الله عليه و سلم حيث حل من المواطن ينصرونه و يظاهرونه على أمر و يحرسونه و لم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية لأن أهل مكة يمسهم من عصبية النبي صلى الله عليه و سلم في المظاهرة و الحراسة مالا يمس غيرهم من بادية الأعراب و قد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب و هو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة و قال صلى الله عليه و سلم في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة اللهم أمض لأصحابي هجرتهم و لا تردهم على أعقابهم و معناه أن يوفقهم لتلازمه المدينة و عدم التحول عنها فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدأوا بها و هو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه و قيل أن ذلك كان خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلى الهجرة لقلة المسلمين و أما بعد الفتح و حين كثر المسلمون و اعتزوا و تكفل الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ لقوله صلى الله عليه و سلم لا هجرة بعد الفتح و قيل سقط إنشاوها عمن يسلم بعد الفتح و قيل سقط وجوبها عمن أسلم و هاجر قبل الفتح و الكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق و انتشروا و لم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة و هو هجرة فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعربت نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدعاء المأثور الذي فقدناه و هو قوله لا تردهم على أعقابهم و قوله تعربت إشارة إلى أنة صار من الأعراب الذين لا يهاجرون و أجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين و أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن له في البدر و يكون ذلك خاصاً به كشهادة خزيمة و عناق أبي بردة أو يكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكنى بالمدينة فقط لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة و أجابه سلمة بأن اغتنامه لإذن النبي صلى الله عليه و سلم أولى و أفضل فما آثره به و اختصه إلا لمعنى علمه فيه و على كل تقدير فليس دليلاً على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب لأن مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه و سلم و حراسته لا لمذمة البدو فليس في النعي على ترك هذا الواجب دليل على مذمة التعرب و الله سبحانه أعلم و به التوفيق.

الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر
و السبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة و الدعة و انغمسوا في النعيم و الترف و وكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم و أنفسهم إلى واليهم و الحاكم الذي يسوسهم و الحامية التي تولت حراستهم و استناموا إلى الأسوار التي تحوطهم و الحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة و لا ينفر لهم صيد فهم غازون آمنون، قد ألقوا السلاح و توالت على ذلك منهم الأجيال و تنزلوا منزلة النساء و الولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة و أهل البدو لتفردهم عن التجمع و توحشهم في الضواحي و بعدهم عن الحامية و انتباذهم عن الأسوار و الأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم و لا يثقون فيها بغيرهم فهم دائماً يحملون السلاح و يتلفتون عن كل جانب في الطرق و يتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس و على الرحال و فوق الأقتاب و يتوجسون للنبات و الهيعات و يتفردون في القفر و البيداء فدلين بيأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقاً و الشجاعة سجنةً يرجعون إليه متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ و أهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون منهم شيئاً من أمر أنفسهم و ذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي و الجهات و موارد المياه و مشاريع السبل و سبب ذلك ما شرحناه و أصله أن الإنسان ابن عوائده و مألوفه لا ابن طبيعته و مزاجه فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً و ملكة و عادة تنزل منزلة الطبيعة و الجبلة و اعتبر ذلك في الآدميين تجده كثيراً صحيحاً و الله يخلق ما يشاء.

الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم
و ذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه إذ الرؤساء و الأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره، و لا بد فإن كانت الملكة رفيقة و عادلة لا يعانى منها حكم و لا منع و صد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى صار لهم الإذلال جبلة لا يعرفون سواها و أما إذا كانت الملكة و أحكامها بالقهر و السطوة و الإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم و تذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه و قد نهى عمر سعداً رضي الله عنهما عن مثلها لما أخذ زهرة بن حوبة سلب الجالنوس و كانت قيمته خمسة و سبعين ألفاً من الذهب و كان أتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله و أخذ سلبه فانتزعه منه سعد و قال له هلا انتظرت في أتباعه إذني و كتب إلى عمر يستأذنه فكتب إليه عمر تعمد إلى مثل زهرة و قد صلى بما صلى به و بقى عليك ما بقى من حربك و تكسر فوقه و تفسد قلبه و أمضى له عمر سلبه و أما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية لأن وقوع العقاب به و لم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك و أما إذا كانت الأحكام تأديبية و تعليمية و أخذت من عند الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة و الانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه و لهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأساً ممن تأخذه الأحكام و نجد أيضاً الذين يعانون الأحكام و ملكتها من لدن مرباهم في التأديب و التعليم في الصنائع و العلوم و الديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيراً و لا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه و هذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة و الأخذ عن المشايخ و الأيمة الممارسين للتعليم و التأديب في مجالس الوقار و الهيبة فيهم هذه الأحوال و ذهابها بالمنعة و البأس. و لا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين و الشريعة و لم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأساً لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلي عليهم من الترغيب و الترهيب و لم يكن بتعليم صناعي و لا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الذين و آدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان و التصديق فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت و لم تخدشها أظفار التأديب و الحكم قال عمر رضي الله عنه ( من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ) حرصاً على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه و يقيناً بأن الشارع أعلم بمصالح العباد و لما تناقص الدين في الناس و أخذوا بالأحكام الوازعة ثم صار الشرع علماً و صناعة يؤخز بالتعليم و التأديب و رجع الناس إلى الحضارة و خلق الانقياد إلى الأحكام نقصت يذلك سورة البأس فيهم فقد تبين أن الأحكام السلطانية و التعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها ذاتي و لهذا كانت هذه الأحكام السلطانية و التعليم مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم و حضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم و كهولهم و البدو بمعزل من هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان و التعليم و الآداب و لهذا قال محمد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلمين و المتعلمين ( أنه لا ينبغي للمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواط ) نقله عن شريح القاضي و احتج له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغط و أنه كان ثلاث مرات و هو ضعيف و لا يصلح شأن الغط أن يكون دليلاً على ذلك لبعده عن التعليم المتعارف و الله الحكيم الخبير.

الفصل السابع في أن سكنى البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية
إعلم أن الله سبحانه ركب في طبائع البشر الخير و الشر كما قال تعالى و هديناه النجدين و قال فألهمها فجورها و تقواها و الشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده و لم يهذبه الاقتداء بالدين و على ذلك الجم الغفير إلا من وفقه الله و من أخلاق البشر فيهم الظلم و العدوان بعض على بعض فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه فقل امتدت يده إلى أخذه إلا أن يصده وازع كما قال:
و الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
فأما المدن و الأمصار فعدوان بعضهم على بعض، تدفعه الحكام و الدولة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على بعض أو يمدو عليه فهم مكبوحون بحكمة القهر و السلطان عن التظالم إلا إذا كان من الحاكم بنفسه و أما العدوان الذي من خالي المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً أو يدفعه ازدياد الحامية من أعوان الدولة عند الاستعداد و المقاومة و أما أحياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشائخهم و كبراؤهم بما وفر في نفوس الكافة لهم من الوقار و التجلة و أما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم و فتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم و لا يصدق دفاعهم و ذيادهم إلا إذا كانوا عصبية و أهل نسب واحد لأنهم بذلك تشتد شوكتهم و يخشى جانبهم إذ نعرة كل أحد على نسبه و عصبيته أهم و ما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة و النعرة على ذوي أرحامهم و قرباهم موجودة في الطبائع البشرية و بها يكون التعاضد و التناصر و تعظم رهبة العدو لهم و اعتبر ذلك فيما حكاة القرآن عن اخوة يوسف عليه السلام حين قالوا لأبيه لئن أكلة الذئب و نحن عصبة إلا إذاً لخاسرون و المعنى أنه لا يتوهم العدوان على أحد مع وجود العصبة له و أما المتفردون في أنسابهم فقل أن تصيب أحداً منهم نعرة على صاحبه فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة و استيحاشاً من التخاذل فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر لما أنهم حينئذ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم و إذا تبين ذلك في السكنى التي تحتاج للمدافعة و الحماية فبمثله يتبين لك في كل أمر يحمل الناس عليه من نبؤة أو إقامة ملك أو دعوة إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء و لا بد في القتال من العصبية كما ذكرناه آنفاً فاتخذه إماماً تقتدي به فيما نورده عليك بعد و الله الموفق للصواب.

الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه
و ذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل و من صلتها النعرة على ذوي القربى و أهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه و يود لو يحول بينه و بين ما يصله من المعاطب و المهالك نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد و الالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها و وضوحها و إذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها و يبقى منها شهر فتحمل على النصرة لذري نسبه بالأمر المشهور منه فراراً من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه و من هذا الباب الولاء و الحلف إذ نعرة كل أحد على أهل ولائه و حلفه للإلفة التي تلحق، النفس من اهتضام جارها أوقريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب و ذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها و من هذا تفهم معنى قوله صلى الله عليه و سلم تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة و النعرة و ما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له و نفعه إنما هو في هذه الوصلة و الالتحام فإذا كان ظاهراً واضحاً حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما قلناه وإذا كان إنما يستفاد من الخبر البعيد ضعف فيه الوهم و ذهبت فائدته و صار الشغل به مجاناً و من أعمال اللهو المنهي عنه و من هذا الاعتبار معنى قولهم النسب علم لا ينفع و جهالة لا تضر بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح و صار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس و انتفعت النعرة التي تحمل عليها العصبية فلا منفعة فيه حينئذ و الله سبحانه و تعالى أعلم.

الفصل التاسع في أن الصريح من النسب إنما يوحد للمتوحشين في القفر من العرب و من في معناهم
و ذلك لما اختصوا به من نكد العيش و شظف الأحوال و سوء المواطن حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة و هي لما كان معاشهم من القيام على الإبل و نتاجها و رعايتها و الإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره و نتاجها في رماله كما تقدم و القفر مكان الشظف و السغب فصار لهم إلفاً و عادة و ربيت فيه أجيالهم حتى تمكنت خلقاً و جبلة فلا ينزع إليها أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم و لا يأنس بهم أحد من الأجيال بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله و أمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم و فسادها و لا تزال بينهم محفوظة صريحة و اعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة و ثقيف و بني أسد و هديل و من جاورهم من خزاعة لما كانوا أهل شظف و مواطن غير ذات زرع و لا ضرع و بعدوا من أرياف الشام و العراق و معادن الأدم و الحبوب كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط و لا عرف فيها شوب. و أما العرب الذين كانوا بالتلول و في معادن الخصب للمراعي و العيش من حمير و كهلال مثل لخم و جذام و غسان و طي و قضاعة و إياد فاختلطت أنسابهم و تداخلت شعوبهم ففي كل واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس ما تعرف و إنما جاءهم ذلك من قبل العجم و مخالطتهم و هم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم و شعوبهم و إنما هذا للعرب فقط. قال عمر رضي الله تعالى عنه ( تعلموا النسب و لا تكونوا كنبط السواد ) إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا هذا أي ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف من الازدحام مع الناس على البلد الطيب و المراعي الخصيبة فكثر الاختلاط و تداخلت الأنساب و قد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن فيقال جند قنسرين جند دمشق جند العواصم و انتقل ذلك إلى الأندلس و لم يكن لاطراح العرب أمر النسب و إنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها و صارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم و غيرهم و فسدت الأنساب بالجملة و فقدت ثمرتها من العصبية فاطرحت ثم تلاشت القبائل و دثرت فدثرت العصبية بدثورها و بقي ذلك في البدو كما كان و الله وارث الأرض و من عليها.

الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع
إعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها فيدعي بنسب هؤلاء و يعد منهم في ثمراته من النعرة و القود و حمل الديات و سائر الأحوال و إذا و جدت ثمرات النسب فكأنه وجد لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء و من هؤلاء إلا جريان أحكامهم و أحوالهم عليه و كأنه التحم بهم ثم أنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمان و يذهب أهل العليم به فيخفى على الأكثر و ما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب و يلتحم قوم بآخرين في الجاهلية و الإسلام و العرب و العجم. و انظر خلاف الناس في نسب أن المنذر و غيرهم يتبين لك شيء من ذلك و منه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لما ولاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه و قالوا هو فينا لزيق أي دخيل و لصيق و طلبوا أن يولي عليهم جريراً فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة صدقوا يا أمير المؤمنين أنا رجل من الأزد أصبت دماً في قومي و لحقت بهم و انظر منه كيف اختلط عرفجة ببجيلة و لبس جلدتهم و دعي بنسبهم حتى ترشح للرئاسة عليهم لولا علم بعضهم بوشائجه و لو غفلوا عن ذلك و امتد الزمن لتنوسي بالجملة و عد منهم بكل وجه و مذهب فافهمه و اعتبر سر الله في خليقته و مثل هذا كثير لهذا العهد و لما قبله من العهود و الله الموفق للصواب بمنه و فضله و كرمه.

الفصل الحادي عشر في أن الرئاسة لا تزال في نصابها المخصوص من أهل المصبية
إعلم أن كل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم أيضاً عصبيات أخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو اخوة بني أب واحد لا مثل بني المم الأقربين أو الأبعدين فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص و يشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام و النعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص و من أهل النسب العام إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة و الرئاسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم و لا تكون في الكل و لما كانت الرئاسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها و تتم الرئاسة لأهلها فإذا وجب ذلك تعين أن الرئاسة عليهم لا تزال في ذلك النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم إذ لو خرجت عنهم و صارت في العصائب الأخرى النازلة عن عصابتهم في الغلب لما تفت لهم الرئاسة فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع و لا تنتقل إلا إلى الأقوى من فروعه لما قلناه من سر الغلب لأن الاجتماع و العصبية بمثابة المزاج للمتكون و المزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر فلا بد من غلبة أحدها و إلا لم يتم التكوين فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية و منه تعين استمرار الرئاسة في النصاب المخصوص بها كما قررناه.


الفصل الثاني عشر في أن الرئاسة على أهل المصبية لا تكون في غير نسبهم
و ذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب و الغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة لأن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم أقروا بالإذعان و الاتباع و الساقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبية فيهم بالنسب إنما هو ملصق لزيق و غاية التعصب له بالولاء و الحلف و ذلك لا يوجب له غلباً عليهم البتة و إذا فرضنا أنه قد التحم بهم و اختلط و تنوسي عهده الأول من الالتصاق و لبس جلدتهم و دعي بنسبهم فكيف له الرئاسة قبل هذا الالتحام أو لأحد من سلفه و الرئاسة على القوم إنما تكون متناقلة في منبت واحد تعين له الغلب بالعصبية فالأولية التي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شك و منعة ذلك الالتصاق من الرئاسة حينئذ فكيف تنوقلت عنه و هو على حال الإلصاق و الرئاسة لا بد و أن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التغلب بالعصبية و قد يتشوف كثير من الرؤساء على القبائل و العصائب إلى أنساب يلهجون بها إما لخصوصية فصيلة كانت في أهل ذلك النسب من شجاعة أو كرم أو ذكر كيف اتفق فينزعون إلى ذلك النسب و يتورطون بالدعوى في شعوبه و لا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رئاستهم و الطعن في شرفهم و هذا كثير في الناس لهذا العهد فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة أنهم من العرب و منه ادعاء أولاد رباب المعروفين بالحجازيين من بني عامر أحد شعوب زغبة أنهم من بني سليم ثم من الشريد منهم لحق جدهم ببني عامر نجاراً يصنع الحرجان و أختلط بهم و التحم بنسبهم حتى رأس عليهم و يسمونه الحجازي. و من ذلك ادعاء بنى عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبد المطلب رغبة في هذا النسب الشريف و غلطا باسم العباس بن عطية أبى عبد القوي و لم يعلم دخول أحد من العباسين إلى المغرب لأنه كان منذ أول دولتيهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة و العبيديين فكيف يكون من سبط العباس أحد من شيعة العلويين من و كذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس ذهاباً إلى ما اشتهر في نسبهم أنهم من ولد القاسم فيقولون بلسانهم الزناتي أنت القاسم أي بنو القاسم ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن إدريس و لو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه مستجيراً بهم فكيف تتم له الرئاسة عليهم في باديتهم و إنما هو غلط من قبل اسم القاسم فإنه كثير الوجود في الأدارسة فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب و هم غير محتاجين لذلك فإن منالهم للملك و العزة إنما كان بعصبيتهم و لم يكن بادعاء علوية و لا عباسية و لا شيء من الأنساب و إنما يحمل على هذا المتقربون إلى الملوك بمنازعهم و مذاهبهم و يشتهر حتى يبعد عن الرد و لقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤئل سلطانهم أنه لما قيل له ذلك أنكره و قال بلغته الزناتية ما معناه أما الدنيا و الملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب و أما نفعهما في الآخرة فمردود إلى الله و أعرض عن التقرب إليه ما بذلك. و من هذا الباب ما يدعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنهم من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه و بنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنهم من سليم و الزواودة شيوخ رياح أنهم من أعقاب البرامكة و كذا بنو مهنا أمراء طيىء بالمشرق يدعون فيما بلغنا أنهم من أعقابهم و أمثال ذلك كثير و رئاستهم في قومهم مانعة من ادعاء هذه الأنساب كما ذكرناه بل تعين أن يكونوا من صريح ذلك النسب و أقوى عصبياته فاعتبره و اجتنب المغالط فيه و لا تجعل من هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين بنسب العلوية فإن المهدي لم يكن من منبت الرئاسة في هرثمة قومه، و إنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم و الدين و دخول قبائل المصامدة في دعوته و كان مع ذلك من أهل المنابت المتوسطة فيهم و الله عالم الغيب و الشهادة.

الفصل الثالث عشر في أن البيت و الشرف بالأصالة و الحقيقة لأهل المصبية و يكون لغيرهم بالمجاز و الشبه
و ذلك أن الشرف و الحسب إنما هو بالخلال و معنى البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافا مذكورين يكون له بولادتهم إياه و الانتساب إليهم تجلة في أهل جلدته لما و قر في نفوسهم من تجلة سلفه و شرفهم بخلالهم و الناس في نشأتهم و تناسلهم معادن قال صلى الله عليه و سلم الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا فمعنى الحسب راجع إلى الأنساب و قد بينا أن ثمرة الأنساب و فائدتها إنما هي العصبية للنعرة و التناصر فحيث تكون العصبية مرهوبة و المنبت فيها زكي محمى تكون فائدة النسب أو صح و ثمرتها أقوى و تعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها فيكون الحسب و الشرف أصليين في أهل العصبية لوجود ثمرة النسب و تفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبية لأنه سيرها و لا يكون للمنفردين من، أهل الأمصار بيت إلا بالمجاز و إن توهموه فزخرف من الدعاوى و إذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار و جدت معناه أن الرجل منهم يعد سلفاً في خلال الخير و مخالطة أهله مع الركون إلى العافية ما استطاع و هذا مغاير لسر العصبية التي هي ثمرة النسب و تعديد الآباء لكنه يطلق عليه حسب وبيت بالمجاز لعلامة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخير و مسالكه و ليس حسباً بالحقيقة و على الإطلاق و أن ثبت إنه حقيقة فيهما بالوضع اللغوي فيكون من المشكك الذي هو في بعض مواضعه أولى و قد يكون للبيت شرف أول بالعصبية و الخلال ثم ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدم و يختلطون بالغمار و يبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب و ليسوا منها في شيء لذهاب العصبية جملة و كثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم لأول عهدهم موسوسون بذلك و أكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت أولاً لما تعدد في سلفهم من الأنبياء و الرسل من لدن إبراهيم عليه السلام إلى موسى صاحب ملتهم و شريعتهم ثم بالعصبية ثانياً و ما أتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به ثم انسلخوا من ذلك أجمع و ضربت عليهم الذلة و المسكنة و كتب عليهم الجلاء في الأرض و انفردوا بالاستعباد للكفر آلافاً من السنين و ما زال هذا الوسواس مصاحباً لهم فتجدهم يقولون هذا هاروني هذا من نسل يوشع هذا من عقب كالب هذا من سبط يهوذا مع ذهاب العصبية و رسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة و كثير من أهل الأمصار و غيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان و قد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لما ذكر الحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلم الأول و الحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة و لم يتعرض لما ذكرناه و ليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إنما لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه و تحمل غيرهم على القبول منه فكأنه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط مع أن الخطابة إنما هي استمالة من تؤثر استمالته و هم أهل الحل و العقد و أما من لا قدرة له البتة فلا يلتفت إليه و لا يقدر على استمالة أحد و لا يستمال هو و أهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة إلا أن ابن رشد ربا في جبل و بلد و لم يمارسوا العصبية و لا أنسوا أحوالهم فبقي في أمر البيت و الحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق و لم يراجع فيه حقيقة العصبية و سرها في الخليقة و الله بكل شيء عليم.

الفصل الرابع عشر في أن البيت و الشرف للموالي و أهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم
و ذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة و الحقيقة إنما هو لأهل العصبية فإذا اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقوا العبدان و الموالي و التحموا به كما قلناه ضرب معهم أولئك الموالي و المصطنعون بنسبهم في تلك العصبية و لبسوا جلدتها كأنها عصبتهم و حصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها كما قال صلى الله تعالى عليه و سلم مولى القوم منهم و سواء كال مولى رق أو مولى اصطناع و حلف و ليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبية إذ هي مباينة لذلك النسب و عصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند التحامه بهذا النسب الآخر و فقدانه أهل عصبيتها فيصير من هؤلاء و يندرج فيهم فإذا تمددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف و بيت على نسبته في ولائهم و اصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم بل يكون أدون منهم على كل حال و هذا شأن الموالي في الدول و الخدمة كلهم فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ في، ولاء الدولة و خدمتها و تعدد الآباء في ولايتها ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العباس و إلى بني برمك من قبليهم و بني نوبخت كيف أدركوا البيت و الشرف و بنوا المجد و الأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتاً و شرفاً بالانتساب إلى ولاء الرشيد و قومه لا بالانتساب في الفرس و كذا موالي كل دولة و خدمها إنما يكون لهم البيت و الحسب بالرسوخ في ولائها و الأصالة في اصطناعها و يضمحل نسبه الأقدم من غير نسبها و يبقى ملغى لا عبرة به في أصالته و مجده و إنما المعتبر نسبة ولائه و اصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت و الشرف فكان شرفه مشتقاً من شرف مواليه و بناؤه من بنائهم فلم ينفعه نسب ولادته و إنما بنى مجده نسب الولاء في الدولة و لحمة الاصطناع فيها و التربية و قد يكون نسبه الأول في لحمة عصبته و دولته فإذا ذهبت و صار ولأوه و اصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيتها و انتفع بالثانية لوجودها و هذا حال بني برمك إذ المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النار عندهم و لما صاروا إلى ولاء بنى العباس لم يكن بالأول اعتبار و إنما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة و اصطناعهم و ما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة و لا حقيقة له و الوجود شاهد بما قلناه لم إن أكرمكم عند الله أتقاكم و الله و رسوله أعلم.

الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء
إعلم أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد لا من ذواته و لا من أحواله و المكونات من المعدن و النبات و جميع الحيوانات الإنسان و غيره كائنة فاسدة بالمعاينة و كذلك ما يعرض لها من الأحوال و خصوصا الإنسانية فالعلوم تنشأ ثم تدرس و كذا الصنائع و أمثالها و الحسب من العوارض التي تعرض للآدميين فهو كائن فاسد لا محالة و ليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلا ما كان من ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم كرامة به و حياطةً على السر فيه و أول كل شرف خارجية كما قيل، و هي الخروج عن الرئاسة و الشرف إلى الضعة و الابتذال و عدم الحسب و معناه أن كل شرف و حسب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث ثم إن نهايته في أربعة آباء و ذلك أن باني المجد عالم يما عاناه في بنائه و محافظ على الخلال التي هي أسباب كونه و بقائه و ابنه من بعده مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك و أخذه عنه إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء و التقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتيهم جملة و أضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم و احتقرها و توهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة و لا تكلف و إنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم و ليس بعصابة و لا بخلال لما يرى من التجلة بين الناس و لا يعلم كيف كان حدوثها و لا سببها و يتوهم أنه النسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصيته و يرى الفصل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم و جهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم و الأخذ بمجامع قلوبهم فيحتقرهم بذلك فينغصون عليه و يحتقرونه و يديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت و من فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم كما قلناه بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا و تذوي فروع الأول و ينهدم بناء بيته هذا في الملوك و هكذا في بيوت القبائل و الأمراء و أهل العصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا تحطمت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز و اشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب و إلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة و يتلاشى و ينهدم و قد يتصل أمرها إلى الخامس و السادس إلا أنه في انحطاط و ذهاب و اعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بأن و مباشر له و مقلد و هادم و هو أقل ما يمكن و قد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح و الثناء قال صلى الله عليه و سلم إنما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد و في التوراة ما معناه أن الله ربك طائق غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث و الروابع و هذا يدل على أن الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب و الحسب. و في كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أن كسرى قال للنعمان هل في العرب قبيلة تتشرف على قبيلة قال نعم قال بأي شيء قال من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم تصل ذلك بكمال الرابع فالبيت من قبيلته و طلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة بن بدر الفزاري و هم بيت قيس و آل ذي الجدين بيت شيبان و آل الأشعث بن قيس من كندة و آل حاجب بن زرارة و آل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم فجمع هؤلاء الرهط و من تبعهم من عشائرهم و أقعد لهم الحكام و العدول فقام حذيفة بن بدر ثم الأشعث بن قيس لقرابته من النعمان ثم بسطام بن قيس بن شيبان ثم حاجب بن زرارة ثم قيس بن عاصم و خطبوا و نثروا فقال كسرى كلهم سيد يصلح لموضعه و كانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم و معهم بيت بني الذبيان من بنى الحرث بن كعب اليمني و هذا كله يدل على أن الأربعة الآباء نهاية في الحسب و الله أعلم.
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59