عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 04-21-2015, 07:49 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,192
ورقة ما بعدَ السَّلفيَّة


"ما بعدَ السَّلفيَّة"*
ــــــ

2 / 7 / 1436 هــ
21 / 4 / 2015 م
ــــــــــ

السَّلفيَّة _13285.jpg


تمهيدٌ
-----

هذا الكِتابُ لكاتبَينِ ومؤلِّفَينِ شابَّينِ، يُحسبانِ على المنهجِ السَّلفيِّ في الجُملة، كما يُشهدُ لهما بسَعةِ الاطِّلاع، والدَّأَبِ في القِراءة وطلبِ العِلم، ولهما اهتمامٌ بالجانب الفلسفيِّ والفِكريِّ والنقديِّ، وقد صدَر هذا الكتاب في هذه الآونةِ العصيبةِ من تاريخ الأمَّة، ولاقَى انتشارًا واسعًا منذُ صدوره في هذا العام 1436ه- 2015م، وسبَّب لغطًا وجدلًا كبيرينِ.

والكتابُ مع ما فيه مِن سَرْدٍ ماتعٍ لتأريخِ المنهجِ السَّلفيِّ، وفوائدَ جمَّةٍ، إلَّا أنَّه بعدَ قِراءته بتأنٍّ يتَّضح أنَّ فيه بعضَ الأخطاءِ العِلميَّة والمنهجيَّة وبعضَ التقريراتِ الخَطيرة أيضًا، التي لا يَسعُ السُّكوتُ عنها. ومنذُ صدورِ الكتابِ تَعدَّدتِ التعليقاتُ عليه، ما بَينَ مُغالٍ في مَدْحِه، ومُفرِط في ذَمِّه، ومُتوسِّط معتدِل.

وفي هذا العرضِ والنقد؛ نشيرُ إلى أهمِّ تلك الأخطاءِ والتقريراتِ الخَطيرةِ التي وقَعَ فيها المؤلِّفان، بما يتناسب مع المقام، فليس الهدفُ مِن هذه الزاوية (كتاب الشَّهر- عَرْض ونقْد) تقديمَ دِراسةٍ عِلميَّةٍ نقديَّة وافية للكتاب، ولا تتبُّعَ كلِّ ما ورَدَ فيه، أو التَّفصيلَ في النقْد- كما يَفعل مَن يقومُ بدراسةٍ نقديَّة لكتابٍ في بحثٍ أو مقال- وإنَّما الهدفُ مِن هذا العرضِ والنقدِ هو بيانُ رَأيٍ مُجمَلٍ في الكتابِ مع بيانِ ما للكتابِ وما عليه على سبيلِ الإجمال الذي يُناسِبُ هدفَ هذه الصَّفحة؛ وذلك لرَسْمِ الخُطوط العريضةِ للنقد، ولتنبيهِ القارئ على بعضِ ما في الكتابِ مِن مآخذ وتوضيحِها؛ ليحذرَ منها، ومن أمثالِها.


أولًا: عرضُ الكتاب
------------

تألَّف الكِتابُ من مقدِّمة، وبعضِ إضاءات، ومفاتيحِ، وسَبعةِ فصول:

شرَحَا في المقدِّمة معنى السَّلفيَّة والمقصود بها، والمقصود بـــ (الما بعد)، والإضاءات عبارة عن صَفحةٍ فيها نصوصٌ ونقولاتٌ في النَّقل عن الصَّحابةِ وضرورةِ الأخْذِ عنهم مع الْتزامِ فَهمِهم، والمفاتيح كانتْ عبارةً عن كلماتٍ لعددٍ من الكتَّاب والمفكِّرين، فبدآ بكلمة لابن عُثيمين، ثم المسيري، ثم بول ريكور، ثم جان بودريار!

والفصل الأوَّل: كان عن السَّلفيَّة: المصطلح والمفهوم، فبيَّن المؤلِّفانِ مُصطلحَ السَّلفيَّة ومفهومَه، مع ذِكر أصول هذا المنهج، وهي: التوحيد، والاتباع، والتزكية، وتعداد قواعد المنهج وخصائصه أيضًا، وذِكْر عددٍ من الاختيارات الفقهيَّة التي صاغتْ هُويَّةً ثقافيَّة للسلفيِّين-بحسب المؤلِّفَينِ-، مثل: تغطية وجْه المرأة، وتقصير الثِّياب للرِّجال، وتحريم حَلْقِ اللِّحية، وتحريم الموسيقا. وتحدَّثَا عن السَّلفيَّة المعاصرة بين صِحَّة النَّسب وكَذِبه، وما يُسمَّى بـ(جدل النِّسبة)، وعن فَهم السَّلف، وعن مفهومِ الفِرقة الناجية، ثمَّ عن تصنيفات السَّلفيَّة المعاصِرة.

والفصل الثَّاني: كان عن تطوُّر السَّلفيَّة، وفيه تحدَّثَا عن ما أَسمياه بالتحقُّقات التاريخيَّة للسلفيَّة لجماعاتٍ وأفراد حاولوا الْتزامَ هذا المنهجِ السَّلفيِّ، منذُ الصَّحابة وإلى الآن، فتحدَّثَا عن القرونِ الثَّلاثة المفضَّلة (جيل الصَّحابة، والتابعين، وتابعي التابعين)، ثم فصَّلَا الحديثَ عن الجيل الرَّابع وبَدْء تأسيسِ مِعمار العقائِد السَّلفيَّة- وعَنَيَا به الجيلَ الذي أخَذَ عن القرون المفضَّلة وعاصَر اكتمالَ تشكُّل مُعظمِ الفِرق البِدعيَّة- كجيل الشافعيِّ وأحمد والثوريِّ وابن عُيينة والدارميِّ والبخاريِّ وغيرهم، وعرَضَا للسلفيَّة بينَ الجِيل الرَّابع وابن تَيميَّة، وفصَّلَا في الكلام عن ابن تيميَّة وأصحابِه ومدَى صِدقِ تمثيلِ ابنِ تيميَّة للمنهجِ السَّلفيِّ، ثم عن الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهاب والدَّعوة النجديَّة ومدى صِدق تمثيلِها للمنهجِ السَّلفيِّ، وختمَا هذا الفصلَ بالحديثِ عن السَّلفيَّةِ بين حِقبتَين، وهو عن الوهابيَّة في الدولةِ السعوديَّة الثانية، وعدَّدَا فيه المتأثِّرين بالدعوةِ بحسَبِ تفاوُتِ ذلك التأثيرِ.

وفي الفصل الثَّالث: تحدَّثا عن السَّلفيَّة المعاصِرة، من حيثُ عواملُ النشأةِ والازدهارِ وظروفُهما، فذكرَا موجزَ تطوُّر السَّلفيَّة المعاصرة، وذكرَا عددًا من الدُّول كالسُّودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب... وغيرها، وآسيا وأوربا. وتحدَّثَا عن الدولة السعوديَّة الثَّالثة التي وَصَفَاها بأنَّها منصَّةُ إطلاق السَّلفيَّة المعاصرة. ثم تناولَا بالحديثِ التلقِّي المصري للسلفيَّة قَبلَ الصَّحوة، وعَلاقة صاحب المنارِ رشيد رضا بالدَّعوة الوهابيَّة -كما يُسمُّونها- وجمعيَّة أنصار السُّنة المحمديَّة التي أنشأها محمَّد حامد فِقي، الذي تَبنَّى أفكارَ ابن تيميَّة وابن القيِّم وابنِ عبد الوهَّاب، وأنَّ هذه الجمعيةَ بمنزلةِ الرَّابطة للسلفيِّين، وتناولَا كذلك الإخوان المسلمين وحرَكة الضُّبَّاط الأحرار. ثم تحدَّثَا عن جِيل الصَّحوة، وازدهار السَّلفيَّة، وسَردَا فيه بعضَ العواملِ التي أثَّرتْ في ازدهارِ السَّلفيَّة، وما كان بين السَّلفيَّة والإخوان، ثمَّ ما حصَل من الظُّهور الكبيرِ للسلفيِّين مع الربيع العربيِّ، وتنظيم صُفوفِهم، وزعَمَا أنَّ هذه الصحوةَ التي تَسبِقُ الأفولَ بسببِ توالي الضرباتِ والانشقاقاتِ والتحوُّلات على السَّلفيَّة.

أمَّا الفصل الرَّابع: فكان عبارةً عن قِراءةٍ في ما أَسْمَوْه الاشتغالَ المعرفيَّ للسلفيَّة، فتكلَّما عن الاشتغالِ السَّلفيِّ الحديثيِّ، والاشتغالِ الأُصوليِّ، وكذا الاشتغال الفِقهي، وعلوم العربيَّة، والعلومِ الإنسانيَّة، مُظهرين -بحسب رأيهما- الفقرَ أو القصورَ المعرفيَّ في هذه العلومِ باستثناءِ الاشتغال الحديثي!

والفصل الخامس: كان للحديثِ عن السَّلفيَّة ومُعضلة الإصلاح، فتحدَّثَا عن الإصلاحِ السِّياسي عندَ السَّلفيَّة، وعن السَّلفيَّة والعمل المسلَّح، والسَّلفيَّة والعملِ الثَّوريِّ، ثم تحدَّثَا عن الإصلاح الثَّقافيِّ عند السَّلفيَّة، وعن علاقة السَّلفيِّين بالمجتمع.

وكان الفصل السَّادس: للكلام عن السَّلفيَّة المعاصِرة وعوامِل الأفول برأيهما ، موضِّحَينِ أنَّهما لا يَعنيان بالأفولِ الموتَ أو والفناءَ، وإنَّما يقصدانِ بالأفول: التَّشظي المرجعي والنَّسقي، وضِيقَ الانتشار، وقِلَّةَ الأنصارِ، وأنَّ فُقدان الرموزِ أهمُّ معالمِ هذا الأفولِ. وسردَا عواملَ هذا الأفولِ، فتكلَّمَا عن داءِ التفرُّقِ، مُبيِّنَينِ خُطورتَه، وعن فُقدان الأجوبةِ لصلاحية السَّلفيَّة أو جاذبيتها. ثم تَكلَّما عن ما أَسْمياهُ (الفقر الرمزي)، ويَعنيانِ به فُقدانَ الأشخاص والرموز المؤثِّرين بعدَ موتِ الشُّيوخ الثلاثة (ابن باز، والألباني، وابن عثيمين) رحمهم الله تعالى. ثمَّ تَكلَّما عن قَنواتِ الدَّعم وعوائقِ التدفُّق، وعن تحوُّلات السُّلطة.

والفصل السَّابع والأخير: خصَّصاه للحديثِ عن (ما بعدَ السَّلفيَّة)، وهو الفصلُ الذي حمَل الكتابُ عنوانَه؛ مُحاولةً منهما لاستشرافِ ما بعدَ أفولِ السَّلفيَّة بزعمِهما، ومَن البديلُ الذي سيَشْغَلُ المساحةَ وسيحلُّ محلَّ السَّلفيَّة؟ وإلى أين ستذهب السَّلفيَّةُ، وما سيناريوهاتُ مستقبلِ الأفول -حسب تعبيرهما-؟ وللجواب عن هذين السُّؤالين ذكرَا نُقطتين؛ الأولى: المركَز بين الوَحدة والتشظِّي، وتحدَّثَا فيها عن: الاتِّجاه الأشعريِّ بطابعِه التراثيِّ الكلاميِّ الصُّوفيِّ، وعن اتِّجاهات الفِعل السياسيِّ والاتجاهات التنويريَّة الإصلاحيَّة. والنقطة الثانية: السَّلفيَّة ومساراتِ زمَن الأفول، وعرضَا أربعَ مساراتٍ يَريانِها بعدَ ذلك.

ثانيًا: نقْد الكتاب
-----------

وقَع الكاتبانِ في حُزْمةٍ من الأخطاءِ المنهجيَّة، وسنتناول نقْدَ الكتابِ من خلال سِتَّة مآخِذِ فقط، ونُدلِّل عليها:

1. التعريضُ بكِبار الأئمَّة والعلماءِ.

2. التَّشنيعُ على السَّلفيَّة والسَّلفيِّين.

3. التشنيعُ على مَنهجِ الشيخِ محمَّد بن عبدالوهاب وأتْباعه.

4. أخطاءٌ في مَسائلَ عقديَّة.

5. إثارةُ مسائلَ فقهيَّة خِلافيَّة وخلْطُها بمسائلَ كِبارٍ.

6. الجَهلُ بالواقِع السُّعوديِّ.

ولكن قبلَ البَدءِ لا بدَّ مِن الإشارة إلى عددٍ مِن القضايا:
-------------------------

1- كنَّا نسمعُ في عددٍ من المجالسِ الخاصَّة والمنتديات العامَّة، وبعضِ الأطروحات النَّقديَّة، وخاصَّة في السنواتِ الأخيرةِ مَن يُطالب بمراجعةِ الخِطاب السَّلفيِّ، وتجديدِ الخِطاب السَّلفيِّ، وحاجة الخطاب السَّلفيِّ للنقد، وأنَّه غيرُ صالحٍ لهذا الزمنِ، وقد ظهرتْ على وجهِه تجاعيدُ الهرَم. ونحن نقول: المراجعةُ مطلوبةٌ، والتجديدُ مفيدٌ، والنقدُ ضروريٌّ، لكن ما كنَّا نتوقَّع أنْ تكونَ نتيجةُ هذه المطالبةِ أنْ يَصدُر كتابٌ يُبشِّر بأفولِ السَّلفيَّة، وعنوانه: (ما بعد السَّلفية - قِراءة نقديَّة في الخِطاب السَّلفي المعاصر)؛ فالقِراءة النقديَّة مقبولةٌ، لكنَّ القِراءةَ الهدميَّة بحاجةٍ إلى قِراء نقديَّة هي الأخرى!

2- لمْ يُوفَّق الكاتبانِ في اختيارِ عنوانِ الكتابِ؛ فمُصطلح (الما بعد) مُصطلحٌ حداثيٌّ دخيلٌ لا يمتُّ للمنهجِ السَّلفيِّ بصلةٍ، وما كان يَنبغي لهما أن يُخضعَا الحديثَ عن السَّلفيَّة لمِثْل هذه المصطلحاتِ العصريَّة الشائِكة التي لها مُكوِّناتها المعرفيَّة الخاصَّة، لكنَّ تأثُّرَ الكاتبَينِ بالكُتَّابِ الغربيِّين وبالأسلوبِ الحداثيِّ الفلسفيِّ أدَّى بهما إلى اختيارِ مِثل هذا العنوان.

ولا أدلَّ على هذا التأثُّرِ مِن كثرةِ النَّقلِ والإشارةِ إلى هؤلاء الكتَّاب من أمثال: هنتر، وكاستوري سين، وتيم موريس، وبول ريكور، وجان بودريار، و(أوليفيه رواه صاحب أطروحة: ما بعد الإسلاموية) وغيرهم.

واستخدامِ عِباراتهم وتَكرارها مرارًا في الكتاب مِن مثل: البراجماتية، الإبستمولوجية، الأيديولوجية، الراديكالية، و(التفاحة المحرَّمة Forbidden Apple تفاحة آدَم، وهي أسطورةٌ يهوديَّة) وغيرها.

ومن النُّصوصِ التي تُوضِّح بجِلاءٍ تأثُّرَهما بكتابةِ الغربيِّين وتسرُّبَ أطروحاتِهم إلى فِكرهما، قولُهما (ص496): (عندما طرَح بعضُ الغربيين مِن دارسي الحركة الإسلاميَّة فِكرة ما بعدَ الإسلاموية = قصَد بها باختصارٍ: أنَّ التيارات الإسلاميَّة غير العنفية، ستندمِج أكثرَ في العملية السِّياسيَّة؛ ممَّا يؤدِّي لتنامي جيل بدأ في الظُّهور بالفِعل، وهذا الجيل يَتخلَّى شيئًا فشيئًا عن المكوِّنات الصُّلبة داخل الإسلاموية؛ سعيًا نحو اندماج أكثرَ في الحداثة، سواء بعد أسلمة هذه الحداثة، أو حتى بعد تنحيةِ فِكرة وجوبِ الأسلمة جانبًا، والقبول بمعاني! أكثرَ اتِّساعًا لفصلِ المُقدَّس الدِّيني عن الممارسةِ السياسيَّة، سواء كان هذا الفصلُ اعتقادًا، أو نوعًا من البراجماتيَّة طويلة المدى.
كانتْ هذه الفكرةُ جذَّابة، وصار الواقع يَحشُد بنفسِه أدلَّةَ صِدقها، خاصَّة مع تأمُّل المسار الذي سارتْ فيه حركةُ النهضة بتونس، ثم حدَثت التطوُّراتُ الأخيرة في مصر، والتي أدَّت لنوع من اهتزازِ الصورة يصعُب معه تحديدُ ما ستؤول إليه)،فالكاتبُ الغربيُّ صاحب فِكرة (ما بعدَ الإسلاموية) الذي نَعَتاهُ بدارسٍ للحركة الإسلاميَّة بَشَّر في كتابه (بأُفول التيَّارات الإسلاميَّة) واندماجِها في الحداثة، وصاحبَا كتابِ (ما بعد السَّلفية) بشَّرا (بأفول التيَّارات السَّلفية) واقترابها مِن الاتجاهاتِ الإصلاحيَّة التنويريَّة!

3- وصْفُ الكاتبَينِ (ص11) أنفسَهما أنَّهما بمثابةِ مُؤرِّخَينِ ومحلِّلَينِ للأفكار لا يُعفيهما من تبِعات ما في هذا الكتابِ من أخطاءٍ منهجيَّة ومُجازفات عِلميَّة، وتقريراتٍ خاطِئة، وغير ذلِك من المآخِذ؛ لأنَّهما لم يَلتزمَا بهذا؛ فأحيانًا يَتناولانِ بعضَ المسائل تناولًا فقهيًّا، ترجيحًا وتقويةً وتضعيفًا، وهذه ليستْ مَهمَّة مؤرِّخ الأفكار. ثمَّ إنَّ مِن أهمِّ صِفات مؤرِّخِ الأفكارِ العدلَ والإنصافَ، ومحاولةَ ذِكر الإيجابيَّات والسلبيَّات، والدوافِع والظروفِ المحيطةِ بالواقِع، وهو ما لم يُلحَظْ بالصورةِ الكافيةِ في الكتاب؛ فقدْ أعطى الكِتابُ تصوُّرًا سلبيًّا جدًّا عن الاتِّجاه السَّلفيِّ المعاصِر، فضلًا عن الاتِّجاهِ السَّلفيِّ في كثيرٍ مِن أطوارِه، كزَمَنِ الإمام أحمدَ وما بَعدَه إلى ابنِ تيميَّة، وما بعدَ ابن تيميَّة إلى ابن عبد الوهَّاب، وما بَعدَ ابن عبد الوهَّاب إلى ازدهار السَّلفيَّة المعاصِرة! وستأتي بعضُ الأمثلةِ على ذلك، وغفَل أو تغافَل عن الظُّروفِ والتحدياتِ التي تُواجهه خاصَّةً في بعضِ البلدان كمِصر.

4- أشار الكاتبانِ (ص15) إلى مَسؤوليتِهما المشترَكة عن كلِّ ما في الكِتاب، ونحن نُلقي العَتْبَ كذلك على إخوانِنا في مركز نماء؛ لأنَّهم يَتحمَّلون جزءًا من هذه المسؤوليَّة؛ فالمراكزُ البحثيَّة التي لها هدفٌ ورسالةٌ في المجال الفكريِّ والثقافيِّ -أو هكذا يَنبغي أن يكونوا- كمركز نماء وغيرِه، عليهم تَوخِّي الحذرِ فيما يَنشُرونه؛ كي يُسهِموا في البِناء والنَّماء.

5- هذا الكتابُ بُني على أساسِ أنَّ السَّلفيَّة آيلةٌ إلى الأفول، وهذه أطروحتُه، ويُلاحِظ القارئُ للكتابِ أنَّ هذه الفكرةَ كانتْ مُسيطرةً ومستصحبةً لدَى الكاتبَينِ مِن أوَّل الكتابِ إلى آخِرِه؛ فقد نصَّا (ص199) على أنَّ أفول السَّلفيَّة تفترضُه أطروحةُ هذا الكتاب، وأكَّدَا ذلك (ص432).

وثمَّةَ عدة أسئلةٍ أو استشكالات تَطرَحُ نفسَها على قارئِ الكتابِ والمتأمِّل فيه:

- هل أُطروحةُ الكتاب أصلًا هي منهجٌ سديد؟ وهل هي مُوافقةٌ للمنهج النبويِّ في مِثلِ هذه الأمور؟

- هل المؤلِّفانِ يَعتقدانِ صوابَ السَّلفيَّة كمنهج؟! وما موقعُهما من السَّلفيَّة بالتَّحديدِ؛ هل هما من الخُصومِ لها، أم الموافِقين كما نَحسبُهما؟ وهل تصوُّرهما عن المنتسبِين إليه تصورٌ صحيحٌ؟

- ماذا قَصدَا بكتابِهما هذا؟
--------------


- ألَيْسَ الأَوْلى من ذلك هو النُّصحُ وتلمُّس مواطِن الخلل، والدَّعوة لإصلاحها بالحِكمة بدَلَ التَّصنيف بهذه الطَّريقة، التي نَحسبُها تَصنيفًا كلاميًّا فلسفيَّا من نوعٍ جديد؟

- لو تحدَّثا عن أفولِ تحقُّقٍ مُعيَّن للسَّلفية –كما يُعبِّران- في بعضِ الجِهات أو البُلدان، أو شكلٍ خاصٍّ منها لكان أوسعَ لعُذرهما، ولكنَّ الكاتبين يَتحدَّثانِ عن أُفولِ السَّلفيَّة الفِكرة والمنهَج. وهو أمرٌ لا يَقضي منه العجَبُ مِن سلفيٍّ يَفهمُ معنى السَّلفيَّة!

6- لا يُعفي الكاتبَينِ مِن مَسؤوليتِهما عن التَّعميمِ الجائرِ الذي مارَساهُ ضدَّ السَّلفيِّين بعامَّةٍ قولُهم (ص14): (غرَضُنا مِن معظمِ صِيغ التعميم في الكتاب هو التعبيرُ عن نمطٍ سائدٍ منتشر داخلَ السَّلفيَّة، وإنْ لم يكن مُستغرقًا للسلفيَّة ولا حتى غالبًا، لكنَّه يبقى من الكثرة بحيث يجوزُ في العربية أن يُعبَّر عنه بلا استعمالٍ لعبارات الاستثناء؛ فإنَّ التعميم لا يُساوي الاستغراق، التعميم إشارةٌ إلى الكثير السائد، سواء كان مستغرقًا أم لا).

لأنَّ التعميمَ المستعمَلَ في الكِتابِ هو تعميمُ أحكامٍ، وتعميمُ تصوُّراتٍ معيَّنة على أفرادٍ وجماعاتٍ مَعروفين، ويَنسحِبُ على مَن يُشابههم، ومِن هذه الحيثيَّة لا يجوزُ التعميمُ في الحُكم والتصوُّر؛ لأنَّه يُؤدِّي إلى الظُّلم في الحُكم، والخطأِ في التصوُّر كذلك، خُصوصًا إذا لم يَظهرْ قصدُ التَّخصيصِ والاستثناءِ، أو لم يَكُن التخصيصُ مَعلومًا بداهةً. وأيضًا فإنَّهما يُنازعانِ في أنَّ هذا التَّعميمَ قدْ طبَّقاه على (الكثير السَّائد)؛ إذ بعضُ التصوُّرات التي ذَكرَاها ليستْ مِن هذا القَبيلِ، كما هو الشأنُ في تَصرُّفات حِزب النُّور المصري، التي أنْكَرها عليهم أوَّلَ مَن أنكرها السَّلفيُّون أنفسُهم، وبعضُهم كانوا من الحِزب نفْسِه! وليس حزْبُ النور- بطبيعةِ الحال وواقعِه- من (الكثير السَّائد) في مِصر، فضلًا عن أنْ يكونَ الكثيرَ السَّائد في واقِع السَّلفيَّة في السعودية وبقيَّة الدُّول.

7- تأثُّرُ الكاتبَينِ بالواقعِ المصريِّ والسعوديِّ -الذي كان مُحبِطًا للإسلاميِّين عامَّةً- أثناء كتابتِهما للكتاب كان واضحًا جدًّا على صَفحاتِ الكتاب، وطاغيًا على الفكرة، ولو كانت الكتابةُ في الفترةِ الماضية القريبةِ للحُكم المصريِّ أو الفترة الحالية في الحُكم السعوديِّ، لربَّما كانتْ نظرتُهما ونتيجةُ كتابتِهما مختلفةً، ولأثَّرتْ في أُطروحة قارئ الأفكار، وما هكذا تُقرأ الأفكارُ، وتُرصَد مسيراتُ الدَّعوات.

8- ثَمَّةَ دلالاتٌ عديدةٌ في الكتابِ تدلُّ على العَجلةِ في طَبْع الكتابِ وإخراجِه، دون التَّحريرِ اللَّائِق بمِثل موضوعِه وبِمثل مؤلِّفَيهِ، كالأقوالِ غيرِ المحرَّرة، والقُصورِ في التصوُّرِ والحصرِ لبعضِ الصُّورِ وفي ذِكرِ بعضِ الأعلامِ، أو ذِكرِ ما غيرُه أَوْلَى منه، وإلقاءِ الأحكامِ التي ليس عليها أدلَّةٌ ولا أمثلةٌ من الواقِع، حتَّى كثْرة الأخطاءِ النحويَّة والإملائيَّة والفنيَّة التي لا تُخطِئها عينُ القارئ!

وكان حريًّا بمَن يُريد أن يُخرج مِثلَ هذا الكتابِ ومِثل هذا الطرحِ أنْ يَطويَه لياليَ وأيَّامًا، بل شُهورًا وأعوامًا، قَبلَ أن يَطرَح ما فيه؛ فالتهيُّبُ فيما هو دون ذلك كان سَمْتَ العلماءِ ودأبَهم، وتأخيرُ التَّصنيف، وتأخيرُ إبرازِ بعض الكتُب، ومشاورةُ أهل العِلم- كان من مَنهجِ كثيرٍ مِن أكابرِهم.

فإذا وَقعتِ الأخطاءُ في الإملاءِ والنَّحوِ- وهو أيسرُ ما يُمكن تداركُه- فأخطاءُ استعجالِ النَّظرِ في الفِكرِ والأحكامِ- وهي أدقُّ وأخْفَى- مِن باب أَوْلى.

المآخِذُ على الكِتاب:
-------------

المأخذُ الأوَّل: التعريضُ بكِبار الأئمَّة والعُلماء

يَكفي العُقلاءَ أنْ تَنقُلَ لهم الكلامَ الخاطئَ دون الإشارةِ إلى موطنِ الخللِ؛ لظُهوره للعِيان، وهذه بعضُ النقولاتِ من الكِتاب، التي يَصدُق عليها هذا الأمرُ:

1- التَّعريض بالإمامِ أحمدَ واتِّهامه بالبغيِ.

ذَكرَا (ص95) ما جرَى بينَ الإمامِ أحمدَ وبين خُصومِه القائِلين: (لَفْظي بالقرآن مخلوقٌ)، ومنهم الكرابيسي، ثمَّ قالَا: (وقد قادَ هذا البغيُ إلى بغيٍ واسعٍ بعدَ وفاة أحمد رحمه الله حتى صارتِ المسألةُ مسألةَ محنة وفتنة بين القائلين باللفظ ومخالفيهم)!

2- المبالغةُ في وَصْفِ الحنابلةِ بالشِّدَّة على المخالِفين، ونقْلُ تكفيرِ بعضِ الحنابلةِ للأشعريَّة، مع عدمِ نقْل تكفيرِ الأشعريَّة لخُصومِهم.
ومن ذلك قولُهما (ص105): (فقد تكتَّل المنتسبون للحديث من الحنابلة ومَن يُوافقهم، ولم يكونوا يَقبلون أيَّةَ مخالفةٍ- ولو جُزئيَّة- في المسائل التي يُقرِّرون أنَّها السُّنَّة، مهما عظُم قدْرُ ذلك المخالِف، وما يَستدلُّ به مِن أدلَّة، ومهما كان موافقًا لأهل الحديث في مَشربِهم العامِّ في العقيدة والفقه)!

وقولهما (ص138): (لقد دارتِ الدورةُ من بعدِ اضطهاد أحمد، ثم ارتفاع الظُّلم عنه في مُدَّة الواثق، وانكماش الحنابلة بعدَه، ثم استطالتِهم على مُخالفيهم في الاعتقاد، صغيرة، كالطبري، وكبيرة كالأشاعرة وغيرهم، وحتَّى في الفقهيَّات، ثم انتهى الدَّورُ إلى سطوة الأشاعرةِ والمتكلِّمين، وانزواء الحنابلة)!

وفي (ص153 وما بعدَها) أطالَا الكلامَ جدًّا حول بغي الحنابلةِ على الأشعريَّة وتَكفيرِهم لهم، ونقلَا كلامًا لعالِمٍ حَنبليٍّ وصَفَاه بأنَّه (حنبلي مقدسي مغمور، وهو المشهورُ بابن الحنبلي)؛ فهل من العدلِ يا مُؤرِّخَ الأفكار أن تَنقُلَ تكفيرَ حنبليٍّ مغمورٍ للأشاعرةِ وتُحمِّلَ المنتسبين للحديثِ من الحَنابلةِ ومَن يُوافقهم تَبعاتِ كلامِه، ولا تَنقُل تكفيرَ الأشاعرةِ والمعتزلةِ للحنابلة، وبغيَهم عليهم؟! وكلُّ عارفٍ بالسِّياقِ التاريخيِّ يَعرِف وفرةَ ذلك، والكوائِنَ التي جرَتْ بسببِه.

ثمَّ إنَّه قد ذُكر في تراجِم الحنابلةِ منذُ الإمامِ أحمد إلى ابنِ تيميَّة قريبٌ من 1700 عالم أو يزيد- بحسَب ما أوردَه العلَّامةُ بكر أبو زيد في كتابه ((علماء الحنابلة))، وأغلبُهم سلفيُّون كما هو معلومٌ؛ فهل لمْ يَجِد المؤلِّفانِ من الحنابلةِ- مِن الجيل الرَّابع إلى ابنِ تيميَّة- إلَّا مَن ذَكرَا ليؤرِّخاهُ ويَنسُباهُ إلى الحنابلة؟! وهل هذا يليقُ بمؤرِّخ الأفكار؟! وهل هكذا تُقرأ الأفكارُ ويُستقرأ التاريخُ؟!

3- التعريضِ بابن تيميَّة.

ذكرَا (ص47) في مسألةِ صورة الرَّحمن أنَّ ابنَ تيميَّة انتصَرَ لأحمدَ على ابنِ خُزيمة، وأنَّ مِن طُرقِه في تغليطه لابنِ خُزيمة مجرَّد مخالفتِه لأحمد!

4- الزَّعمُ بأنَّ ابنَ تيميَّة يُمارِسُ سطوةً مذهبيَّة.

قالا (ص163): (فابن تيميَّة يَنقُل بعض الآراء عن السَّلف، ويُسلِّط عليها منظارًا تأويليًّا معينًا، يوافق الخلاصات السَّلفية أيضًا، التي توصَّل إليها في نفْس الباب، وفي بعض تلك الحالات يمارس ابنُ تيمية سطوةً مذهبية أحيانًا، فيما يتعلَّق بالمذهب الحنبلي بخاصة)!

5- تعرضُهما لابن باز في رُدودِه على الخُصوم.

رغْمَ اعترافهما بعِفَّة لِسانِه رحمه الله بقولهما (ص305): (وهو من أعفِّ رموز السَّلفيَّة المعاصرة لسانًا)، إلَّا أنَّه لم يَسلمْ مِن مِنقاش مؤرِّخِ الأفكار؛ لعلَّه يظفرُ بكلمةٍ خادشة منه، وفعلًا ظَفِر بقولٍ للشيخ عن ابن حزم في قولِه في المعازف، وأنَّه: (ممَّن تابَع الهوى وحادَ عن طريق الحقِّ) فعقَّبَا بعد ذلك: (ومِثل هذا إذا قيل في ابن حزم = يَسهُل بعدها أن نتصوَّر ما يمكن أن يُقال فيمَن يقول بقوله من المعاصِرين ممَّن هو أقلُّ هيبةً وحرمةً عند الناس من مِثل ابن حزم)، فهل بهذه الطريقة، وبهذا المعيارِ يُحكمُ على رُموزِ السَّلفيَّة وعُلمائِها ومَنهجِهم؟!
وحتَّى -لو سَلَّمنا جدلًا- أنَّ ابنَ باز أخطأَ في هذا؛ فهلْ لم يَجِدَا له إلَّا هذه الكلمةَ، ولم يَعثُرَا على كلامِه عن ابنِ حزم- كما في فتاوى اللَّجنة الدَّائمة- وأنَّه: (مِن العلماء المبرَّزين في الأصول، والفروع، وفي عِلم الكِتاب والسُّنة، إلَّا أنَّه خالَفَ جمهورَ أهل العِلم في مسائلَ كثيرةٍ أخطأ فيها الصَّواب؛ لجُمودِه على الظاهِر، وعدَم قولِه بالقياس الجليِّ المستوفِي للشُّروط المعتبَرة، وخَطؤه في العقيدةِ بتأويل نصوصِ الأسماء والصِّفات أشدُّ وأعظم). ثمَّ لقائل أنْ يقول: هذه العبارة لابن باز رحمه الله تعالى مِن الشِّدَّة المحمودةِ في مَوضعِها؛ خُصوصًا أنَّه لم يَقُلْ هذه الكلمةَ عن ابنِ حزمٍ وحْدَه صَراحةً هكذا كما تُوهِم عبارةُ المؤلِّفَينِ، بل إنَّ كلامَه كان عن مُبيحِي المعازفِ كابنِ حزمٍ وأبي تُرابٍ الظاهريِّ، وذلك عندَ تقديمِ الشَّيخ لكتابِ الشيخ حمود التويجري "فصْل الخِطاب في الرد على أبي تراب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*{التأصيل للدراسات}
ـــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59