عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 02-07-2012, 02:56 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

ثالثاً – شاهدان من التاريخ


1- العلاقة بين سيف الدولة والفارابي

1-1- سيف الدولة وغلبة الخطاب البلاغي على الخطاب الفلسفي / العقلي

بانتهاء الخلافة الراشدة باستشهاد سيدنا الإمامِ علي بدأ الفراق بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية اللتين كانتا مجتمعتين عند الخلفاء الأربعة. وتحولت العلاقة بينهما من علاقة تكامل إلى علاقة نزاع وهيمنة. وتتابع على حكم الدولة العربية الإسلامية ملوك من العرب الأمويين والعباسيين الذين توقف حكمهم الفعلي بعد المعتصم الذي فتح أمام مماليك الأتراك باب السيطرة على مقدّرات الأمّة، وأصبح "الخليفة" لا يملك من منصبه إلا اللقب، وعرفت الدولة العربية الإسلامية حكاماً متعددين، كانوا يعلنون ولاءهم للخليفة في بغداد بعد أن يكونوا قد تمكّنوا من اجتزاء بلد يحكمونه، هم ومِن بعدهم عشيرتهم، حتى يأتي من هو أقوى منهم فيحلّ مكانهم منهياً حلقة في سلسلة لم تتوقف في التاريخ العربي - الإسلامي إلا في مطلع القرن العشرين بظهور مفهوم الدولة الحديثة.
عرفت الدولة العربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري، عصرِ سيف الدولة، الأتراكَ والبويهيين الذين كانوا يحكمون بغداد، أما في مصر فكان الإخشيديون ومن بعدهم الفاطميون، وفي بلاد الشام كان سيف الدولة.
سيف الدولة كان واحداً من السلاطين الذين حكموا في القرن الرابع الهجري في ظل الخلافة العباسية في بغداد. وقد شمل حكمه منطقة واسعة كانت عاصمتها حلب التي ما ملكها إلا بفضل القوة العسكرية التي كانت تمنحه إياها عصبيته القبلية ومماليكه، وهو بذلك يشترك في فقدان الشرعية السياسية مع الأتراك والبويهيين والسلاجقة والمماليك والأيوبيين وغيرهم من السلاطين، وهذا ما جعل السلطة مصدر تنازع دائم بين هؤلاء، فكل من يملك القوة المناسبة ويغلب بالسيف كان يصنع لنفسه شرعية سياسية حتى يأتي من هو أقوى منه فيأخذ السلطة منه. وقد كانت القبائل المحيطة بحلب، على سبيل المثال، ترى في سيف الدولة منازعاً لها وخصماً على الخيرات التي كانت تجنيها من غزو حلب وأطرافها، كما أنّ سيف الدولة أخذ حلب من الإخشيديين في عام /333/ هـ، وحاول ضم دمشق إلى مملكته حتى قامت بينه وبين الإخشيديين مصاهرة سياسية.
سيف الدولة علي بن حمدان من قبيلة تغلب العربية، ولد في عام /301/ أو /303/ في ميّافارقين أشهر مدينة بديار بكر كما يكتب معجم البلدان، وكانت فيها والدته وأهله فكان يتردد إليها دائماً، وعندما توفي في حلب عام /355/ هـ نقل جثمانه إليها ودفن فيها.
دخل حلب في عام /333/ هـ، وكانت مدينة تجارية صناعية، تغصُّ أسواقها بالحركة والبضائع بحكم موقعها الهامّ بين الشرق والغرب.
عاش سيف الدولة نيفاً وخمسين عاماً، كان فيها منشغلاً بالحروب التي بدأها منذ أن كان شاباً، فقد غزا البيزنطيين عدة مرات وله من العمر خمسة وعشرون عاماً، كما ساهم في قتال البريديين ودحرهم وإعادة الخليفة المتقي إلى بغداد، وهو الذي منحه لقب سيف الدولة.
ولم تختلف حياته في حلب عنها من قبل، إذ استمر في حرب البيزنطيين فكانت له غزوات تسمى الربيعيات وأخرى الصائفات وثالثة الشواتي، وسوى حروبه مع البيزنطيين كانت له حروب أخرى ضد الأخطار التي كانت تهدد سلطته في حلب سواء أكانت من الإخشيديين، أو من القبائل العربية المحيطة بحلب، أو من التمردات التي كان يقوم بها بعض مماليكه عندما كانوا يأنسون فيه ضعفاً([1]).
كان سيف الدولة دائم الانشغال بقضايا السلطة من جهة والغزو من جهة أخرى، وهذا يعني أنه ما كان يملك وقتاً يساعده على رفد ثقافته الأدبية الخالصة بثقافة عصره العقلية، فقد تتلمذ على ابن خالويه مؤدب أمراء بني حمدان، وساعده في ذلك موهبته الشعرية. وهو كأي من سلاطين عصـره كان يدرك أن سلطتـه السياسية تنقصها الشرعية التي لا يوفرها له إلا المثقف الذي يملك المعرفة الضرورية لاستمرار سلطته، وهذه المعرفة كانت تمثّل بشكل أو بآخر السلطة الثقافية التي كان يملكها الخلفاء الراشدون إلى جانب سلطتهم السياسية، وكان مفهوم الخلافة يشتمل على هاتين السلطتين معاً، وهي سلطة نوزع فيها الملوك من زمن معاوية كما ذكرنا، ولم يملكها السلاطين أبداً، فكان لا بد لهم من استقطاب من يمثلون السلطة الثقافية ليتمكنوا، بفضل ما يقدمه هؤلاء لهم من دعم معنوي وإعلامي اجتماعي، من إضفاء الشرعية على سلطتهم السياسية التي امتلكوها بغلبة السيف، أو ليتمكنوا على الأقل من الحفاظ على هذه السلطة.
إنّ كل وسط من الأوساط يمكن أن يُحدَّد بالأفكار والمعتقدات التي يسلم بها، وبالقضايا التي يقبلها من غير تردد. ومفاهيم هذا الوسط جزء من ثقافته التي على الخطاب الموجه لهذا الوسط أن يهتم بها، وعلى كل خطيب يريد إقناع مستمع ما ينتمي إلى وسط من الأوساط أن يتبنى، أو يستخدم، في خطابه المفاهيم السائدة في هذا الوسط.
وسيف الدولة يمثل، في آن واحد، وسطاً يخاطبه آخرون، وخطيباً يخاطب وسطاً، فقد كان بحكم نشأته البدوية عربي الثقافة، يحن إلى إنشاد الشعر وسماعه، وكان من الطبيعي أن يسود في بلاطه الخطاب الأدبي المتمثل بالشعراء واللغويين والنحاة من أمثال ابن نباتة، وابن جني، وأبي علي الفارسي، وابن خالويه، وكشاجم، والخالديين، والصنوبري، والمتنبي، وأبي فراس الحمداني. وكلهم يمثلون الخطاب الأدبي الذي كان يلقى ترحيباً عند سيف الدولة كوسط مخاطَب.
وهو من جهة أخرى خطيب يخاطب وسطاً، فهو سلطان يستمد سلطته السياسية من قوته العسكرية، وهو بحاجة إلى خطاب آخر غير القوة العسكرية يتوجه به إلى الناس الذين يخضعون لسلطته، يقرّبه منهم، ويرفع شأنه بينهم، ويوفّر له شيئاً من الشرعية من خلال تقديمه بطلاً عربياً مدافعاً عن الثغور الإسلامية في وجه البيزنطيين. ولمّا كان الناس عامة يميلون إلى الخطاب الأدبي، لأنهم أقرب إليه من حيث غلبة العواطف والمشاعر لديهم على العقل، وقلمّا يلقون بالاً للخطاب الفلسفي العقلي، فقد كان من الطبيعي أن يغلب على بلاط سيف الدولة حضور الشعراء وممثلو الخطاب الأدبي عامة، والبلاغي خاصة، لما يقدمونه من خدمات إعلامية يحرص عليها كل سلطان في ذلك الزمان، وهو ما نراه في ذلك العصر في محاولة كل سلطان استقطاب عدد من ممثلي ذلك الخطاب، يزين بهم مجلسه، فيرضى عنه هؤلاء لما يوفره لهم قربهم منه من مزايا ومصالح، ويقدمون له خدمة مقابلة بتزيين صورته عند الناس.
ولعل ما دفع هذه الكثرة من الشعراء والأدباء إلى الدوران في فلك سيف الدولة، وهو ما مازه من سلاطين عصره وتنبه عليه الثعالبي في يتيمة الدهر عندما ذكر أنّه لم يجتمع ببلاط أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببلاط سيف الدولة من شيوخ الشعر، أمران اثنان يمكن إضافتهما إلى ما تقدم من تحليل سياسي ثقافي: الأول هو كرم سيف الدولة الذي بلغ برأي كثير من المؤرخين والدارسين حدَّ الإسراف، وكان سيف الدولة يلجأ في سبيل جمع الأموال لتمويل حروبه ونفقات بلاطه إلى مصادرة الأموال والأراضي، وأخذ ما في أيدي الرعية مستعيناً بقاض جائر هو أبو الحصين علي بن عبد الملك الرقي حتى شاعت عبارة "كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك، وعلى أبي الحصين الدرك" وهذا ما جعل المؤرخين يستنتجون أن سيف الدولة كان جائراً بلا شك "على رعيته، يفرض عليها الضرائب الثقيلة لكي يستطيع أن يؤمن نفقات الحملات ونفقات البلاط"([2]).
والأمر الثاني هو أن سيف الدولة أمير عربي يتذوق الشعر في عصر كان أغلب السلاطين فيه من غير العرب، وهو فوق ذلك أمير عظيم وهب حياته للدفاع عن الثغور، وحمى بلاد الشام طوال حياته من غزوات البيزنطيين في عصر انشغل فيه غيره من السلاطين بالدفاع عن عروشهم، وتركوا الأمة مباحة أمام أعدائها من البيزنطيين وغيرهم من المغول والصليبيين.
لقد غلب الخطابُ الأدبي الخطابَ العقلي في بلاط سيف الدولة، وهذا ما يشكل ظاهرة عامة عند أغلب السلاطين الذين حكموا الدولة العربية الإسلامية، على حين أن الخطاب العقلي تراجع في ذلك العصر إلى زوايا خاصة ومجالس بعيدة عن السلطان، لأنه كان لا يقدم لهم النفع المرجو عند عامة الناس، وازدهر الخطاب العقلي بفضل هذا الابتعاد عن السلطان وهو ما نراه واضحاً في كتب أهل العصر الذين عبّر عنهم التوحيدي في مؤلّفاته وبخاصة في كتابيه الإمتاع والمؤانسة، والمقابسات.
1-2- مفهوم السلطة السياسية ووظيفتها عند الفارابي

الفارابي هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان تركي الأصل ولد في عام /259/ هـ وينسب إلى مدينة فاراب في تخوم بلاد الترك، تعلم الفارسية والعربية إلى جانب التركية، ولقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو. كانت فلسفته تشكل امتداداً للأفلاطونية المحدثة إلا أنها لم تخرج مطلقاً على أطر العقيدة الإسلامية. درس في بغداد على أبي بشر متى بن يونس، وانتقل في عام /330/ هـ إلى دمشق، واتصل بسيف الدولة في حلب، وتوفي في عام /339/ هـ في دمشق وله من العمر ثمانون عاماً.
شرح الفارابي كتب أرسطو، وكَتَبَ في مجالات كثيرة من أبرزها المنطق والموسيقا، والميتافيزيقيا، والفيزيقيا، والسياسة، وكان أثره كبيراً جداً في الفلاسفة العرب المسلمين من بعده وبخاصة ابن سينا، كما أن أثره في الفلسفة الأوروبية لا ينكر. وللفارابي مؤلفات عدة أبرزها إحصاء العلوم، وآراء أهل المدينة الفاضلة، وكتاب تحصيل السعادة.
عاش الفارابي في عصر بدأ فيه تفكك الدولة العربية الإسلامية بالتسارع، وهو ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار إذا ما أردنا فهم فلسفته السياسية والأخلاقية، فهو يبرز في مؤلفاته أثر الفلسفة والدين في النظرية السياسية والأخلاقية، ويقرر أن العلاقة قوية بين مفهوم الأخلاق الذي هو الكمال الذي ينبغي على الإنسان أن يبلغه من خلال المعرفة العقلانية، وبين الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي يعيش في أطرها هذا الإنسان.
وينطلق الفارابي في مؤلفاته من رغبته بالجمع بين المفاهيم الفلسفية والسبل العملية لتحقيق هذه المفاهيم، فالفيلسوف في رأيه هو من يجمع الفضائل العملية إلى الفضائل النظرية. وقد جسَّد الفارابي هذا المنطلق في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة الذي يلخّص فلسفته بشقيها العملي والنظري، وعرض فيه كل شيء يهم الوجود الإنساني ويساعده على تحقيق غايته في الوجود وهي بلوغ الكمال، فابتدأ بالكلام على الإلهيات وأنواع الوجود ومراتبه، ونظرية المعرفة، والفيض والإشراق، والسعادة، والسياسة.
ويمكن، في اعتقادنا، تلخيص فلسفة الفارابي بأنها تقوم على تعريف السعادة وبيان سبل تحصيلها، ووضع كل ما عداها في خدمة الإنسان للوصول إليها، وفي مقدمة ذلك السياسة.
فكل موجود في رأي الفارابي "إنما كُوِّن ليبلغ أقصى الكمال الذي له أن يبلغه بحسب رتبته في الوجود الذي يخصه، فالذي للإنسان من هذا هو المخصوص باسم السعادة القصوى"([3]). فكمال الإنسان الذي خُلِقَ من أجل أن يبلغه بحسب مرتبته في الوجود الكوني هو السعادة، وسعي الإنسان نحو الكمال هو غاية وجوده، ولما كانت السعادة في بلوغ الكمال، أو كانت هي هو، فقد اقتضى أن تكون السعادةُ غايةً في ذاتها لا تطلب لغيرها. وسبيل الإنسان في تحصيل الكمال أو السعادة إنما هو العقل الذي هو آلته في اكتساب المعارف والخيرات وفي الابتعاد عن الجهل والشرور، فيكون بذلك كمالُه الذي هو عين السعادة.
ولا يخرج هذا المفهوم عن الإطار المعرفي العام في الحضارة العربية الإسلامية وتحديده لمفهوم الإنسان صاحب السعادة، فالإنسان يتشكل من عَرَض وجوهر، عَرَض بالجسد وجوهر بالنفس، والإنسان إنسان بالنفس لا بالجسد، لأن النفس متصلة بالعقل الأول وبالنفخة الإلهية الصادرة عن واجب الوجود، وهي بعناصرها تمثل العالم العلوي والوجود الأول في أعلى مراتبه لأنها جزء منه، على حين أن الجسد جزء من العالم السفلي ويمثله بعناصره وهو شبيه به.
ولكن النفس في الإنسان جوهر موجود بالقوة، ولا يتحقق وجوده بالفعل إلا بمعونة العقل أداة المعرفة التي هي الشرط الأول في التمييز بين الجميل والقبيح. وسعي الإنسان إلى هذه المعرفة التي لا بد منها في نقل جوهره من القوة إلى الفعل هو هدفه، لأنه سبيل إدراكه الكمال. فسعي الإنسان إلى معرفة النفس بعد معرفة الكون ليست معرفة لذاتها وإنما ترمي إلى معرفة الواحد الأحد الذي وُجِد بفضل نوره كل شيء. وهذا السعي في الفكر العربي الإسلامي هو مرتبة من مراتب السعادة، والوصول إلى الكمال هو عين السعادة التي يصفها الفارابي بقوله : "هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامه إلى مادة، وذلك أن تصيـر في جملة الأشياء البريئة عن الأجسـام، وفـي جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائماً أبداً"([4]). وعلى هذا فالسعادة هي "الخير المطلوب لذاته، وليس يطلب أصلاً ولا في وقت من الأوقات بها شيء آخر، وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها"([5]).
وينبه الفارابي على أن بحث الإنسان عن السعادة ليس وهماً مثالياً، ففي الإنسان قدرة بها "يفعل الأفعال الجميلة، وبعينها يفعل الأفعال القبيحة"([6]). فهي قدرة على الفعل أياً كان، والإنسان بذلك مختار، وهو صانع أفعاله، إلا أن عليه أن يُدرَّبَ على فعل الجميل.
والتدريب على فعل الجميل هو صلة الوصل بين السعادة هدف الفلسفة وبين السياسة ومفهوم المدينة الفاضلة عند الفارابي. فهو يبيّن في آراء أهل المدينة الفاضلة أنّ الإنسان محتاج في سعيه إلى الكمـال، وفي طلبه السعادة، إلى أمور كثيرة لا يمكنه القيام بها وحده، ولذلك فقد كان لا بد له من الاجتماع، ولا يمكن للإنسان أن ينال الكمال "الذي لأجله جعلت له الفطرة الطبيعية إلا باجتماع جماعات كثيرة متعاونين، يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه، فيجتمع مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال"([7]). وكلما اتسع الاجتماع كان أقدر على خدمة الإنسان في بلوغ الكمال، "فالخير الأفضل والكمال الأقصى إنما يُنال أولاً بالمدينة لا بالاجتماع الذي هو أنقص منها"([8]).
إلا أنه قد يحدث أن يتعاون أهل المدينة على الشر، لأنّ القدرة على فعل الخير أو الشر كامنة بالاختيار والإرادة في الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك فقد أمكن أن تُجعل المدينة للتعاون على بلوغ بعض الغايات التي هي شرور، ولذلك كل مدينة يمكن أن يُنال بها السعادة كما يُنال بها الشقاء. والمدينة "التي يقصد بالاجتماع فيها التعـاون على الأشـياء التي تنال بـها السعادة في الحقيقة هي المدينة الفاضلـة"([9]).
ووجود المدينة الفاضلة رهن بوجود رئيس فاضل، فالمدينة الفاضلة أشبه بالبدن التام الصحيح، والتعاون بين أعضاء المجتمع الواحد في سبيل تحقيق المدينة الفاضلة شبيه بالبدن التام الذي تتعاون أعضاؤه على تتميم حياة الحي وحفظها عليه. "وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى، وفيها عضو رئيس هو القلب . . وكذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة، متفاضلة الهيئات، وفيها إنسان هو رئيس"([10]).
فالنظام السياسي في رأي الفارابي لا يختلف عن باقي أنظمة الوجود الأخرى وعلى رأسها الوجود الإنساني. فكل من هذه الوجودات يقوم على ترابط أجزاء تتبع نظاماً معيناً وترتيباً خاصاً. ولا بد من رئيس في هذا النظام. فإذا كان القلب هو الرئيس في البدن فإن الرئيس هو القلب في المدينة. والقلب هو العضو الكامل التام، وكل ما عداه من سائر الأعضاء تابع له وخدم له. والرئيس في المدينة هو أكمل عناصر المدينة التي ينبغي أن تحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول، فهي على شاكلته، وفي خدمته، وهو أنموذج لها لأنه يقرر كيف تكون المدينة فاضلة. ووجود البدن التام قائم بصحة رئيسه القلب، ووجود المدينة الفاضلة متوقف على وجود الرئيس الفاضل، وذهابها مقترن بذهابه، فإذا وجد الرئيس الفاضل وجدت، وإنْ اختل النظام فيها أُنيط أمر إصلاحه وتقويمه به([11]).
إن تقرير الفارابي بأن القلب هو العضو الرئيس في البدن وليس العقل، ومقارنة الرئيس به له أسس حضارية وثقافية عميقة، فقد كان القلب، وما يزال، مركز الإيمان عند المفكرين العرب المسلمين، والعقل ما هو إلا أداة القلب([12]) الذي إذا ما صلح صلح الجسد كله، وإذا ما فسد فسد الجسد كله. أضف إلى ذلك بعداً آخر وهو أن صورة الرئيس في فلسفة الفارابي إنما هي قريبة جداً من فكرة الإمام عند الشيعة الإمامية عامة والإسماعيلية خاصة. ويبدو ذلك في صفات الرئيس التي يقررها الفارابي: وأولها أن يكون الرئيس عاقلاً بالفعل حلّ فيه العقل الفعال فيصبح "هو الذي يوحى إليه فيكون الله عز وجلّ يوحي إليه بتوسط العقل الفعّـال، فيكون ما يفيض من الله تبارك وتعالى إلى العقل الفعّال يفيضه العقل الفعال إلى عقله المنفعل بتوسط العقل المستفاد ثم إلى قوته المتخيلة. فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً ومتعقلاً على التمام، وبما يفيض منه إلى القوة المتخيلة نبياً منذراً بما سيكون، ومخبراً بما هو الآن من الجزئيات بوجود يعقل فيه الإلهي. وهذا الإنسان هو في أكمل مراتب الإنسانية، وفي أعلى درجات السعادة. وتكون نفسه كاملة متحدة بالعقل الفعّال على الوجه الذي قلنا. وهذا الإنسان هو الذي يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة. فهذا أول شروط الرئيس"([13]).
ويضيف الفارابي مصرحاً بكلمة الإمام في وصفه الرئيس قائلاً: "فهذا هو الرئيس الذي لا يرأسه إنسان آخر أصلاً، وهو الإمام وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمة الفاضلة ورئيس المعمورة من الأرض كلها"([14]). إنه الإمام المهديُّ القادرُ وحدَه على تحقيق مفهوم المدينة الفاضلة التي تضمن الفوز بالسعادة لأهلها، لأنه يجمع بين السلطتين الثقافية الدينية والسياسية.
إنّ السلطة عند الفارابي وسيلة إلى تحقيق المدينة الفاضلة، ووظيفتها تنحصر في توفير أفضل الظروف التي تساعد الإنسان على بلوغ الغاية من وجوده بحسب مرتبته في الكون وهي الكمال الذي هو عين السعادة غايةُ الإنسان المطلقة.
1-3- سيف الدولة السلطة والفارابي المثقف

يكتب ريموند آرون في مقدمته لكتاب ماكس وبر (العالم والسيـاسي) قائلاً: "الدولة هي المؤسسة التي تحتكر حق ممارسة العنف الشرعي في مجتمع من المجتمعات"، ويضيف: "إنّ الدخول في السياسة يعني المشاركة في صراعات على امتلاك القوة، قوة التأثير في الدولة، وقوة التأثير في المجتمعات"([15]).
وسيف الدولة بحسب النظام السياسي الذي كان سائداً في عصره كان مؤسسة بذاته فكان هو الدولة، وهو، كغيره من سلاطين عصره، كان يملك وحده حق ممارسة العنف في المجتمع ويؤثر فيه كما يشاء. ويعطي هذا العنفُ شرعيةً ما كون الأمير هو مالك القوة الأول في دولته. وعندما كان يُنَازَع هذه الشرعية كان يُدافِعُ عنها بكل العنف الذي يواجه به خطرَ البيزنطيين على الثغور الإسلامية.
ولكن ما يميز سيف الدولة من غيره من السلاطين في القرن الرابع هو أنه كان شيعياً، وهو يشترك بهذا مع البويهيين الذين سيطروا على الخلافة في بغداد في عام /334/ هـ، عندما دخلها أحمد بن بويه بطلب من الخليفة المستكفي وخلع عليه لقب معزِّ الدولة. أما الفاطميون فإنهم لم يؤسسوا دولتهم في مصر إلا في عام /356/ هـ، أي بعد وفاة سيف الدولة.
إن هذا التميّز يحمّل سيف الدولة مسؤولية سياسية ثقافية أكبر من تلك التي يحملها غيره من السلاطين. فقد كان شيعياً إمامياً، يعرف مبدأ مذهبه في السياسة القائم على مفهوم الإمامة وأحقية آل البيت فيها، وقد سنحت للأمير/ المؤسسة والدولة الفرصة مرتين لتحقيق مذهبه السياسي/ الديني: الأولى عندما استنجد الخليفة المتقي بالحمدانيين في الموصل بعد أن أخرجه البريديون، أو اليزيديون كما يروي السيوطي، فنصره سيف الدولة وهو اللقب الذي منحه إياه الخليفة بعد أن أعاده سيف الدولة إلى بغداد وهزم اليزيديين، وكان بإمكانه استبدال المتقي بإمام من آل البيت، فيتغير بذلك وجه التاريخ العربي الإسلامي، ولكنه لم يفعل. وهو بذلك لا يختلف عما قام به البويهيون أنفسُهم عندما جاؤوا إلى بغداد وسيطروا على الخلافة. فقد فكر أحمد بن بويه بخلع المستكفي وتعيين إمام من آل البيت مكانه، فما كان من قوّاده والمشيرين عليه إلا أن منعوه من ذلك، وكلهم شيعة إمامية، وحجتهم في ذلك أنه إذا عيَّن مكان الخليفة إماماً من آل البيت فإن عليه هو وجنده الدخول في طاعته، ولن يجرؤ أحد من الجند على عصيانه أو خلعه إذا ما أراد أحمد بن بويه ذلك، على حين أنه إذا ما ترك الخليفة مكانه فسيصبح هو الحاكم الفعلي للخلافة، ولا يجرؤ أحد من جنده على عصيانه وطاعة الخليفة.
والمرة الثانية هي عندما دخل سيف الدولة حلب، وأصبح أكثر أهلها من الشيعة بعد أن استباحها البيزنطيون عام /351/ هـ ودمروها. إذ يذكر ابن العديم صاحب بغية الطلب([16]) أنّ سيف الدولة نقل إليها جماعة من الشيعة من حرّان، فغلب على أهلها التشيع بعد أن ظلت في أغلبها على مذهب أهل السنة على الرغم من تشيع الحمدانيين. ولكنه في هذه المرة أيضاً لم يحقق مذهبه السياسي الديني في الإمامة.
ولعل انشغال سيف الدولة / المؤسسة والدولة في غزواته وحروبه الخارجية والداخلية ما كان يسمح له بتحقيق ذلك، هذا إذا افترضنا أنه كان شيعياً متحمساً لمذهبه وهو خلاف ما يراه الدكتور مصطفى الشكعة([17])، إذ ينقل عن أغلب المؤرخين أن تشيع الحمدانيين كان خفيفاً أو أنه كان تشيع تفضيل وتعاطف. فلماذا لم يفعل سيف الدولة ما يمليه عليه مذهبه في الإمامة؟ وإذا افترضنا أنه بثقافته العربية الخالصة التي يسيطر عليها الخطاب الأدبي كان يجهل مبدأ الإمامة فإن صلته بالفارابي الذي كان قد بدأ بتأليف كتابه آراء أهل المدينة في بغداد عام /330/ هـ، وأتمه في دمشق بعد عام، تجعلنا نعتقد باطلاعه على هذا الكتاب، أو على الأقل بمعرفة مضمونه السياسي وما يقدمه من صورة رئيس المدينة/ الإمام الحكيم.
إلا أن تأثير الفارابي/ المثقف في سيف الدولة/ السلطة لم يكن كبيراً في أرجح الأحوال. فالفارابي لم يكن سياسياً، ولم يحاول الدخول في السياسة، ولكنه قدم صورة متكاملة للمدينة الفاضلة المنسجمة مع العقيدة الإسلامية، تمثل نموذجاً إسلامياً شيعياً فلسفياً.
إن ما شهده عصر الفارابي من تسارع في تمزق الدولة الإسلامية وفوضى سياسية حكمت الخلافة في بغداد دفع هذا المثقف الفذ إلى وضع تصوره لإنقاذ هذه الدولة من خلال الابتعاد عن نظام الفرد/ المؤسسة القائم على القوة، وتكريس مبدأ المؤسسة المتمثلة في الفرد، والقائمة على العقيدة بحسب المذهب الإمامي، ولذلك فإنّ هذه المؤسسة لن تسقط بزوال الفرد الذي يمثلها، على حين أنّ الفرد/ المؤسسة يمثل الدولة، وستزول دولته بزوال مؤسسته، وهذا ما يؤكّده تاريخ الحضارة الإسلامية السياسي، وقد سقطت دولة سيف الدولة في حلب بوفاته.
إنّ الرئيس في المدينة الفاضلة هو صورة الإمام المعصوم في المذهب الاثني عشري، إلا أنه ليس الحاكم بأمره الفرد المطلق، كما قد يُظن، إذ إن على هذا الرئيس كما يرى الفارابي أن يأخذ بالشرائع والسنن التي شرعها هو نفسه وأمثاله ممن سبقوه، إن كانوا توالوا في المدينة. ومن صفات هذا الرئيس الأساسية أن يكون تابعاً لمرجعية ثابتة هي الشرائع والسنن، وأن يحتذي بأفعاله كلها حذو هذه الشرائع والسنن. وهو في استنباطه واجتهاده يجب أن يكون محتذياً حذو الأئمة الأولين([18])، ولا بأس، في إطار المؤسسة، أن يكون للمدينة رئيسان إذا لم تجتمع كل الصفات في رجل واحد. أما إذا وجدت الصفات متفرقة كل واحدة في رجل فكانت الحكمة في واحد، والعلم بالشرائع السابقة في واحد، وجودة الاستنباط في واحد، وجودة الرويّة والقول في واحد، وكانوا متلائمين فلا بأس أن يكونوا هم الرؤساء الأفاضل.
إنّ ما يقدّمه الفارابي يشكل تصوراً لدولة تقوم على مؤسسات يمثلها فرد واحد أو مجلس شورى يتألف من أفراد يقودهم رئيس حكيم. ولكن الفارابي لم يدخل في السياسة، ولم يكن له تأثير حقيقي في سيف الدولة/ المؤسسة، ولعل هذا التأثير لم يتجاوز الإعجاب بالثقافة الواسعة التي كان يمثلها المعلم الثاني. فبالإضافة إلى انشغال سيف الدولة بقضايا المؤسسة، فإن الفارابي لم يتصل بسيف الدولة إلا في فترة زمانية صغيرة، فقد دخل الأمير حلب في عام /333/ هـ، والفارابي توفي في عام /339/ هـ بدمشق، ولا نجد في مصادرنا التاريخية ما يبيّن لنا بوضوح المدة التي صحب فيها الفارابي سيف الدولة. وإذا أهملنا ما قاله المؤرخون عن لقاء الاثنين، سواء أكان ذلك في دمشق عندما فتح سيف الدولة هذه المدينة أم في حلب عند قدوم الفارابي إلى بلاط سيف الدولة، فإننا سنقبل بأنّ مدة اللقاء كانت في أحسن الأحوال بين عامي /333/ و /339/ هـ، أي في مدة ست سنوات فقط. ولا يمكن أن نقارن بين رسالة السياسة التي كتبها أرسطو للإسكندر وآراء أهل المدينة الفاضلة التي كتبها الفارابي قبل أن يلتقي بسيف الدولة.
1-4- خاتمــة

لا يمكن للمرء أن يكون رجل دولة ورجل علم في الوقت نفسه من غير أن يسيء إلى حصافة المهنتين معاً. ولكن رجل العلم ورجل الدولة يمكن أن يتكاملا في خدمة المؤسسات التي ينتميان إليها وتشكل بمجموعها الدولة. في هذه الدولة يمكن للإنسان أن يكون عضواً صالحاً، تصلح الدولة بصلاحه وتفسد بفساده. ولكنها هي التي تصلحه وتفسده، فالعلاقة بينهما جدلية تتأسس على الدولة.
وتبقى في نهاية البحث إشكالية العلاقة بين السلطة والمثقف قائمة في التراث. ولكنها، وإن كانت من غير حل، مفيدة في قراءة الحاضر لتجاوز أخطاء الماضي. لقد غلب الخطابُ الأدبي في التاريخ السياسي للدولة العربية الإسلامية الخطابَ العقلي. وفي اعتقادي أنّ الأول يصنع دولة أفراد، أما الثاني فيصنع دولة مؤسسات. ولكن الإشكالية بين السلطة والمثقف ستظل قائمة وما قدمته هذه الدراسة يطرح الإشكالية أكثر مما يسعى إلى الإجابة عنها.
2- العلاقة بين عضد الدولة البويهي وابن الباقلاني

2-1- نص سياسي ثقافي

"قال أبو عبد الله الأزدي وغيره: كان الملك عَضُد الدولة فناخسرو بن بويه الديلمي يحب العلم والعلماء. وكان مجلسه يحتوي منهم على عدد عظيم في كل فن، وأكثرهم الفقهاء والمتكلمون. وكان يعقد لهم للمناظرة مجالس، وكان قاضي قضاته بشر بن الحسن معتزلياً ؛ فقال له عضد الدولة يوماً: هذا مجلس عامر بالعلماء إلا أني لا أرى فيه واحداً من أهل الإثبات – يعني مذهبهم – والحديث، فقال له قاضيه: إنما هم عامة، أصحاب تقليد ورواية، يروون الخبر وضده، ويعتقدونهما جميعاً، ولا أعرف منهم أحداً يقوم بهذا الأمر، وإنما أراد ذم القوم، ثم أقبل يمدح المعتزلة. فقال لـه عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الأرض من ناصر! فانظر إلى موضع فيه مناظر يكتب فيه في***. فلما عزم عليه، قال القاضي: أخبروني أن بالبصرة شيخاً وشاباً، الشيخ يُعرَف بأبي الحسن الباهلي، وفي رواية بأبي بكر بن مجاهد، والشاب يعرف بابن الباقلاني، فكتب الملك من حضرته يومئذ بشيراز إلى عامل البصرة، ليبعثهما إليه، وأطلق مالاً لنفقتهما من طيب ماله، فلما وصل الكتاب إليهما قال الشيخ وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة فسقة، لأن الدَّيلم كانوا روافض، لا يحل لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله لنهضت. قال القاضي فقلت لهم: كذا قال ابن كلاب والمحاسبي ومَن في عصرهم: إن المأمون فاسق، لا نحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل، وجرى عليه بعد مما عُرف، ولو ناظروه لكفّوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ماهم عليه بالحجة. وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم، حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا بخلق القرآن ونفي الرؤية! وها أنا خارج إن لم تخرج. فقال الشيخ: أما إذا شرح الله صدرك لهذا فاخرج. فخرجت مع الرسول نحو شيراز في البحر، فوصلت، فسألت عن صفة الدخول عليه فأخبرت أنه إذا كان يوم الجمعة لم يُحجَب عنه كل صاحب طيلسان؛ لأن له فيه مناظرة، وفي رواية: فلما كان من الغد، ودخلتُ على الملك، وكان إذا صلى الظهر، وقعد العلماء، رُفِع الحجابُ، ودخل كل صاحب طيلسان، فدخلت، والناس قد اجتمعوا، والملك قاعد على سريره وبين يديه غلمان بأيديهم السيوف المحلاة، وعن يمينه ويساره مراتب، وما عن يمينه خال، لا يقعد هناك إلا وزير أو ملك عظيم، فكرهت أن أقعد آخر الناس، فمضيت، وقعدت عن يمينه بحذاء قاضي القضاة القاعد عن يساره، فنظر الملك لقاضي القضاة نظراً منكراً، ولم يكن في المجلس من يعرفني إلا واحد، وقد فزعوا لفعلي؛ فقال الرجل للقاضي: هذا الرجل الذي طلبه الملك من البصرة، فأعلم الملك بذلك، والتفت إلي، وأومأ بعينه إلى الحجاب فطاروا عني، ثم أقبل فقال: هاتوا مسألة، وفي المجلس رئيس المعتزلة البغداديين الأحدب، وكان أفصح من عندهم وأعلمهم، وعدد كثير من معتزلة البصرة أقدمهم أبو إسحاق النصيبيني، فقال الأحدب لبعض تلاميذه: سله هل لله أن يكلف الخلق ما لا يطيقون؟ وكان غرضه تقبيح صورتنا عند الملك. قال: قلت: إن أردتم بالتكليف القول المجرد فقد وجد ذلك فإن الله تعالى قال: "قل كونوا حجارة أو حديداً"؛ ونحن لا نقدر أن نكون كذلك، وقال تعالى: "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم"، فطالبهم بما لا يعلمون. وقال تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون". فهذا كله أمر بما لا يقدر الخلق عليه. وإن أردتم بالتكليف الذي نعرفه، وهو ما يصح فعله وتركه. فالكلام متناقض وسؤالك فاسد، فلا تستحق جواباً؛ لأنك قلت: "تكليف" والتكليف اقتضاء فعل ما فيه مشقة على المُكلَّف؛ وما لا يطاق لا يفعل لا بمشقة ولا بغير مشقة، فسكت السائل.
وأخذ الكلامَ الأحدبُ، فقال: أيها الرجل سُئِلتَ عن كلام مفهوم فطرحتَه في الاحتمالات، وليس ذلك بجواب، وجوابُه إذا سُئِلْتَ أن تقول: نعم أو لا.
قال القاضي: فأحفظني كلامه لما لم يوقرني توقير الشيوخ، وقلت له: يا هذا أنت نائم ورجلاك في الماء؛ إنما طرحتَ السؤال في الاحتمالات، وقد بينتُ لك الوجوه المحتملة؛ فإن كان معك في المسألة كلام فهاته، وإلا تكلم في غيرها. فأعاد الكلام الأول، فقال الملك: أيها الشيخ قد بيّن الاحتمال، وليس لك أن تعيد عليه، ولا أن تغالطه، ولا جمعتكم إلا لفائدة، لا للمهاترة ولما لا يليق بالعلماء.
ثم التفت الملك إلى القاضي وقال له: تكلم على المسألة. فقال القاضي: ما لا يطاق على ضربين: أحدهما لا يطاق للاشتغال عنه بضده كما يقال فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة، وهذا سبيل الكافر أنه لا يطيق الإيمان لاشتغاله بالكفر، وهو ضده؛ وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان جائزاً، وقد أثنى الله تعالى على من سأله ألا يكلفه ما لا يطيق؛ فقال عز وجل: "ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، لأن الله تعالى له أن يفعل ما يريد. ثم تجاوز الأحدب الكلام إلى غيره وتكلم معه القاضي ومال الملك إلى قوله.
ثم التفت الملك فقال: سلوا أبا إسحاق النصيبيني عن مسألة الرؤية، فأنكر رؤية الله تعالى في الآخرة وسئل ما حُجَّته فقال: "كل شيء يرى بالعين فيجب أن يكون في مقابلة عين الرائي"، فالتفت الملك إلى القاضي أبي بكر فقال القاضي أبو بكر: لا يُرى بالعين، فعجب الملك من قوله، وقال قاضي القضاة: فإذا لم يُر بالعين فبماذا يرى؟ فقال القاضي: يُرى بالإدراك الذي يحدثه الله تعالى في العين وهو البصر. ولو كان يرى المرئي بالعين لكان يجب أن يرى بكل عين قائمة، وقد علمنا أن الأجهر عينه قائمة، ولا يرى بها شيئاً. فقال النصيبيني: لم أعلم أنه يقول هذا، وظننت أنه يسلم بقولي.
وجرى له في هذا المجلس كلام كثير أعجب به الملك، ولم يزل يحلو له كلامه ويزحف عن سريره حتى نزل عنه وحصل بين يديه، ثم أقبل الملك على قاضي القضاة فقال له: ألم اقل لك مذهب طبق الأرض لا بد له من ناصر؟ فقال القاضي: فلما انقضى المجلس صحبني بعض الحجاب إلى منزل هيئ لي فيه جميع ما يحتاج إليه، فسكنته.
ولم يزل مع الملك إلى أن قدم بغداد، ودفع إليه الملك ابنه يعلمه مذهب أهل السنة، وألف لـه التمهيد. وأخذ عنه إذ ذاك أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي، وجماعة من أهل السنة بشيراز، وقرأوا عليه شرح الُّلمَع.
قال: وقال الملك لقاضيه: فكرت بأي قِتلة أقتله لجلوسه حيث جلس بغير أمري، وأما الآن فقد علمت أنه أحق بمكاني مني.
وحكى القاضي أبو الوليد الباجي عن أبي ذر الهروي قال: أول معرفتي بالقاضي أبي بكر وأخذي عنه أني كنت ماشياً مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني في بعض أزقة بغداد، إذ لقي شاباً فسلم عليه، واحتفل به، ورأيت من تعظيم الشيخ أبي الحسن له وإقباله عليه ودعائه له ونحو هذا ما عجبت منه، فقلت له: من هذا؟ فقال لي: هذا أبو بكر بن الطيب الذي نصر الله به أهل السنة، وقمع به أهل البدعة أو كما قال"([19]).
2-2- دراسة النص

إذا سلمنا بصحة الروايات التي نقلت إلينا هذا النص، فإننا نعتقد أن عضد الدولة ما كان يهمه من جمع العلماء في مجلسه للمناظرة إلا الجانب السياسي في الأمر. فقد حدث ما ذكره القاضي عياض في شيراز قبل قدوم عضد الدولة إلى بغداد ليصبح السلطان في العراق وبلاد فارس. فهو واحد من أولئك السلاطين الأتراك والبويهين والسلاجقه الذين سيطروا على الخلافة عملياً، ولم يكونوا من أصل عربي، أو من آل بيت رسول الله r. ولذلك فقد كانوا بحاجة إلى دعم ممثلي النظام الكوني في المجتمع لمد نفوذهم السياسي. ومن المشروع أن نتوقع أن يكون طموح الملك الشاب للملك كبيراً، يتجاوز حدود نفوذه في بلاد فارس، ليمتد بشكل رئيسي إلى العراق مركز الخلافة آنذاك. ذلك أن سيطرته على بغداد تعطيه الشرعية السياسية التي كان يمنحها الخليفة نفسه عندما كان يمنح من يستولي على بغداد لقب سلطان. وقد كان هؤلاء السلاطين في مقابل ذلك، يعدون بالحفاظ على حياة الخليفة، وبترك يده مطلقة في أملاكه، وإن كانوا في أغلب الأحيان لا يفون بوعودهم تلك، تحت ضغط مصالحهم السياسية أو المادية. وقد كان عضد الدولة ذا دهاء سياسي وذكاء عسكري. وكان يعتقد، في رأينا ، أن خطته في الوصول إلى بغداد ستصبح سهلة التنفيذ إذا استطاع الحصول على دعم ممثلي النظام الكوني في العراق، ولاسيما من أهل السنة، نظراً لأنه، بحكم مذهبه الشيعي، كان يضمن سلفاً تأييد السلطة الثقافية عند الشيعة الذين كانوا مع أهل السنة يشكلون غالبية المسلمين في العراق آنذاك. وقد وجد وسيلة ذكية لإقامة الاتصال مع ممثلي النظام الكوني من أهل السنة تمهيداً لتغير اعتقادهم السيئ به، وهو ما عبر عنه الباهلي. ويدعم هذا التفسير ما حصل في المناظرة وبعدها. فقد كان عضد الدولة يتدخل في مجرى المناظرة بين الباقلاني والمعتزلة، ليعنف هؤلاء على أسلوبهم في المناظرة. وهي وسيلة لإظهار ميله إلى الباقلاني، على الرغم من أن ما تورده الروايات من المناظرات قصير، وهو ما يجعلها لا تظهر تفوقاً حقيقياً للباقلاني على خصومه.
وعلى الرغم من الروايات التي نقلت النص إلينا، والتي كان أصحابها من أهل السنة دائماً، فإن مما يثير الاستغراب هو ذلك التحول السريع، الذي طرأ على موقف عضد الدولة، وهو تحول لا يمكن تفسيره إلا بأنه كان قد بيت في نفسه هذا التحول. وقد جاءت الأحداث فيما بعد لتؤكد ذلك. فقد غفر عضد الدولة للباقلاني دخوله الجريء على مجلسه وجلوسه على يمينه، وتجاوز ذلك العفو إلى الإعجاب به، والأمر بإكرامه ورعايته بشكل مبالغ فيه. ويميل عضد الدولة، في النهاية، عن موقفه المؤيد للمعتزلة والشيعة ليظهر تأييده مذهب أهل السنة، عندما يطلب من الباقلاني أن يعلم ابنه أصول هذا المذهب بحسب رواية القاضي عياض.
وقد تلقى ممثلو النظام الكوني من أهل السنة هذا التحول تلقياً حسناً، ووجدوا فيه نصراً لمذهبهم، وقد حرص عضد الدولة على الحفاظ على دعم هؤلاء له عندما اصطحب الباقلاني عندما دخل بغداد، وخلع عليه الخليفة لقب السلطان.
ويمكننا أن نرى في النص السابق نموذجاً فكرياً تاريخياً للعلاقة بين السلطة السياسية وممثلي النظام الكوني أو السلطة الثقافية، وهو نموذج مستمر في الحاضر ولكن بأشكال وصور مختلفة.
ويعد النص دليلاً على انفصال الدين عن الدولة في الحضارة العربية الإسلامية عند أهل السنة. إلا أنه على الرغم من ذلك فقد كان مفهوم الدولة آنذاك يرتكز على مفهوم الخلافة وهو مفهوم ديني ينتمي إلى النظام الكوني في تلك الحضارة. وهذا ما جعل السلطة السياسية بحاجة دائمة إلى ممثلي النظام الكوني ولتعطي وجودها شرعية ضرورية لاستمرارها، وإن كان هذا الاستمرار يقوم أساساً على الغلبة بالقوة.
وفي النص دليل آخر على الأصل التاريخي للاعتقاد السائد في لاوعي المجتمع العربي المعاصر بلا شرعية السلطة السياسية على اختلاف أشكالها ، لأن المرجع الذي يحتكم إليه هذا اللاوعي اليوم في هذه المسألة هو التاريخ وبخاصة تاريخ الخلافة الراشدة.


¡r¡



([1])نجا أشهر مماليك سيف الدولة الذي كان مقرباً منه لم يتورع في مرض سيف الدولة سنة 352 عن مصادرة أهل حران، ومراسلة معز الدولة البويهي يواليه على بني حمدان. انظر الشكعة، د. مصطفى، سيف الدولة الحمداني، دار القلم ، 1959، ص/164.

([2])حماش، د. نجدة، سياسة سيف الدولة الحمداني الإدارية والمالية، مجلة عاديات حلب،
1998، ص / 159.


([3]) الفارابي، كتاب تحصيل السعادة، تح/ د. جعفر آل ياسين، بيروت، ط2، 1983، ص/ 81 .

([4]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تح/ إبراهيم جزّيني، بيروت، دون تاريخ، ص / 84.

([5])المصدر السابق، ص / 85.

([6])المصدر السابق، ص/ 185.

([7]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص / 95.

([8]) المصدر السابق، ص/ 96.

([9])المصدر السابق، ص/ 96.

([10])المصدر السابق، ص/ 96.

([11])الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص / 98 ـ 99.

([12])انظر على سبيل المثال تعريف القلب عند الجرجاني في كتابه التعريفات.

([13]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص / 101 - 102.

([14]) المصدر السابق، ص/ 103.

([15])***ER. MAX. Le Savant et le politique. Plon, Paris, 1986. p. 24.

([16]) ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، تح/ د. سهيل زكار، دمشق، 1988،
(1 / 134).


([17]) الشكعة، د. مصطفى، سيف الدولة الحمداني، دار القلم، 1959، ص/ 166.

([18]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص/ 105.

1)القاضي، عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك إلى معرفة أعلام مذهب الإمام مالك، تح / أحمد محمود، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1967، ( 2 / 591 ).
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59