عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 05-02-2015, 08:42 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,197
ورقة ما بعد السلفية .. المنطلقات والمستويات

ما بعد السلفية .. المنطلقات والمستويات
ــــــــــــــــــ

(عبدالله الفرحان)
ـــــــــــــ

13 / 7 / 1436 هــ
2 / 5 / 2015 م
ـــــــــــ




الحمد لله وحده وبعد, فإنه يفترض بداية أن تتحرر وتوضح الأرضية الصحيحة التي ينبغي أن نتناول من خلالها هذه الدراسة -ما بعد السلفية- ومجراها الصحيح في الشأن العلمي, إذ لا يشك عاقل وذو هم علمي وبحثي ما للنقد من أثر بناء وضروري في ممارسته والاشتغال به, بل إن كثيرًا من التأسيسات والتأصيلات العلمية إنما نتجت عن النقد بصورة مباشرة أو ضمنية, وهو من عظيم أبواب ال***** على العموم, ***** الأديان والعلوم والأفهام

وتأسيسًا على ذلك فإنه لم يكن من الصحيح أن تكيّف حالتنا المقصودة -أعني ما بعد السلفية- على أنها مجرد حالة نقدية سليمة متكاملة, ويُصوّر الممانعون بكافة درجات ممانعتهم على كونهم يمانعون النقد بطبيعته, فإن النقد من حيث هو نقد كان ممارسًا لدى السلفيين بشكل حاضر ودائم, كما يظهر هذا في كتبهم المصنفة في الردود وغيرها, فتصوير الممانعين منهم بصورة لا تتفهم النقد تصوير يضلل ويمنع الناظر من تحرير وتلمس المضامين والمؤثرات الأهم في هذه الدراسة

والقصد من هذه المقدمة رغم كونها لا تمس جوهرًا أو أمرًا مباشرًا يريده الكاتب=أن ينسحب الخلاف كما تقدم وتنتقل الدراسة ككل إلى أرضية مختلفة, إلى الأرضية العلمية والموضوعية, أرضية القابلية وسلامة التوظيف للنقد المستخدم لدى الفاضلين في مادة الكتاب والأدوات المتناولة في دراستهما وفي المضمون النقدي لها, فإن هذا هو محل النظر والبحث حقيقة, لا في مجرد التسليم للنقد من عدمه

الدراسة نطاقها واسع جدًا, وهذا التوسع غريب من جهة, ويجعل –بالضرورة- المقاصد والغايات تتفاوت وتتنوع ويتشتت معها الناظر من جهة أخرى, وستأتي هذه الورقة على ما في هذا الأمر من بحث ونظر, وتمشيًا مع هذا التوسع فإني سأقصر نقاط التباحث في "إشكاليات" مفقرة ومقسمة, تتسم بالتركيز والإيجاز, وتحمل قدرًا كبيرًا من الضمنيات في داخلها, بحيث يمكن أن تبرز جوانبها وتتكامل مع النقاش التواصلي الشفهي في أوقات أخرى مع الفاضلين والمتبنين ذات الرأي عمومًا, فالمجال لا يتسع الآن للسرد والإسهاب والتشقيق, وهو ما يعكس طبيعة الفقرات الآتية وما فيها من مبادرة:



إشكالية التجاوز: ما يميز السلفية في بعدها المنهجي عن غيرها من المناهج أنها لا تستند على فكر آحادي لا يحمل الصفة الجمعية في معطياتها أو في نتائجها ومخرجاتها, وأنها تخرج من مخرجات الوحيين بشكل مباشر وتلقائي, وتنادي بذلك, دون أن تنطوي تحت فكر موصّل فردي يختص بمبرز من المبرزين الذين تعتنق المناهج الأخرى أبجدياتها منهم, وهو ما يكسبها مرجعية عامة ومتحررة من الاعتبارات الشخصية والقاصرة, وذلك يحتم على الناقد –من داخلها أو خارجها- تعاملاً مغايرًا على أقل تقدير عن طبيعة النقد الوارد على غيرها من المناهج, ويجعله متحددًا بأطر مغايرة كذلك عن بقية النقد الذي يرد عمومًا على المناهج الأخرى, وهذا التغاير ليس راجعًا بطبيعة الحال إلى أمور قداسية تتخطى النقد أو ما شابه, بل هو راجع إلى المعاني التي اختص بها المنهج السلفي, مما تمت الإشارة إلى بعضه آنفًا

ولا تعني تصرفات أصحابها عند حصول شيء على خلاف هذا المبدأ سقوطه في نفس الأمر, مما يعني أن قابليتها للمابعديات –وفق هذا المبدأ- تمامًا كقابلية الإسلام نفسه والشريعة نفسها لهذا الأمر, هذا في حدود السلفية كمنهج كما نؤكده, خارجة عن الممارسات والأشخاص, فأنت لا تجد شخصًا إسلاميًا يناقش ممارسات وتصرفات الإسلاميين بنفَس متجاوز لما بعد الإسلام أو الإسلامية, مراعاة لهذا المعنى المتدافع مع المابعديات, ولكونه من المرفوض علميًا وموضوعيًا تجاوز ذلك, ومخالفة الفاضلين لهذا المعنى وتبريرهما ذلك بأنها دعوة للتجديد وما يتقارب مع هذا لا يتوافق ولا يتلاقى مع الركائز الأساسية للمنهج السلفي, المقررة سلفًا, والمقررة في كتابهما, كما أن نفس التجديد المقصود من قبلهما لا يتلاقى أيضًا مع نوعية "المنهج" السلفي باعتباره في حكم الثوابت, في حين أن عمل الكتاب يدل دلالة مباشرة على أن القصد منصب نحو المصطلح الذي تناولوه وأداروه في كتابهما كثيرًا, التحققات السلفية لا السلفية, ومعلوم أن هذا المراد لا يخدمه العنوان بناء على ما تقدم, بل حتى الفصل الأخير الذي انبثق منه عنوان الكتاب كان واضحًا في أن المابعدية فيه يراد بها تجاوز المرحلة واستدراكها فحسب دون أن تتعدى هذا القدر

هذا الكلام وإن رأى بعض مطالعيه أنه يتسم بنوع من "الشكلية" وأنه لا يتعدى دائرة العبارات -وهذا ما ليس بصحيح بطبيعة الحال- إلا أن له غرضًا جوهريًا, فهو أولاً يعيّن موطن المعالجة ومواطن التأسيس فيها, ناهيك عن بقية الاعتبارات التي لا يمكن أن يتغافلها الناظر, ولا الفاضلان في رسالتهما وغايتهما المنشودة من الدارسة, ما نخلص معه في نهاية المطاف إلى أن عدم التلاقي جاء من عدة زوايا جوهرية وأخرى شكلية تنزلاً

إشكالية التحققات: هذا المصطلح وما حمله من مضمون كان هو الأداة المحورية –لا الوحيدة- التي جوّزت للفاضلين إسقاط نقدهما بشكله الذي انتُهج في الكتاب على الإسقاطات –سواء كانت في الأعيان أم الحالات- الواقعة في دراستهما, حيث تم توظيف هذا المعنى انطلاقًا من مقدمة استباقية جعلت القارئ المسترسل يسلم لهما بأمرين: 1-صحة معنى "التحققات" ومن ثم صحة ما ينتج عن هذا من صحة النقد في نفسه, 2-كون المناهج السلفية لا تعدو أن تكون تحققات أصلاً, فأنت تلاحظ أن الكتاب لم يقرر كمقدمة تقعيدية ما معنى التحققات وما مدى تمثل المراحل السلفية -بصورتها الجمعية- كتحققات, ولعل ذلك نتج عن اعتمادهم على المتبادر والمسلم من هذا الأمر, وفي ذلك جانب كبير من الصحة, فلا شك أن السلف يختلفون عن "السلفيين", لكن القدر الزائد على هذا المعنى يفتقر إلى دليل يصل بالناظر إلى اتفاق مع الفاضلين للتسليم بمدى سلامة استخدام معنى "التحقق" في فصل الممارسة الجمعية للسلفيين عن المنهج ونفي الموافقة التامة والسليمة للسلف في منهجهم, وبالتالي لنقد الممارسة مفصولة عما اكتسبته من "تحقق" صحيح للمنهج السلفي, بحالة تقترب إلى حد كبير ممن يريد أن يفصل الممارسة الصناعية الحديثية للبخاري عما اكتسبه مخرجه من إجماع وحجية, بدعوى كون البخاري لا يخرج عن كونه تحققًا من تحققات المحدثين

وكذلك فإن مجيء "التحققات" وتناولها بصورة عائمة دون قاعدة يمكن أن تقاس وينزلها الناظر على أي مرحلة أو حالة متى ما أراد أثمرت نوعًا من الانتقائية في الدراسة, فقد أخرجت الدراسة المرحلة الأهم من المنهج السلفي, المرحلة الأولى, ولم تتناول امتداداتها على السلفية المعاصرة كما تهدفه الدراسة وكما تناولت المراحل اللاحقة لها, فلماذا لم تدخل في معيار التحقق؟ وكيف للناظر أن يصحح دخولها من عدمه دون أن يلمس أو يقف على معيار وقاعدة هذا التحقق وشرطه

خصوصًا وأن التحقق كنظر أولي لا يعني بالضرورة الممارسات, ولا يرادفها, وإنما قلت "كنظر أولي" لأن ذلك كما أسلفنا كان يفتقر إلى تقعيد من الفاضلين يرجع إليه عند القياس, ما يعني في النهاية أن نفي التحقق لا يعني أن النقد سينصب تلقائيًا على الممارسات والمغالطات البشرية التي تقع من البشر كلهم, فكون الدراسة لم تجعل مرحلة الصحابة وأتباعهم بما فيها من ممارسات لا تمثل المنهج السلفي=تحققًا مرحليًا، هذا –ربما- يعني أحد أمرين: أن التحققات معيارها زمني بحت! أو أن هذه المرحلة حصل فيها التحقق بشكل صحيح وسليم, وهذا المعنى الأخير لا يمكن أن يجعله المطلع مختصًا بتلك المرحلة بما فيها من ممارسات, ويصنفها مجرد تحقق للمنهج السلفي, فالنتيجة مهما تصرفت بمقدماتها سواء كانت تهدف لبيان الامتدادت أو مناقشة التصرفات ونقدها=لم تكن موضوعية ومتساوية

هذا كله في إطار التسليم بأصل استخدام "التحقق" ومضمونه, وإلا فإن هذا المعنى –معنى التحقق- يعني بشكل لازم أو ضمني أن المناهج بشتى أصنافها لا تتمثل حقيقة ولا تتحقق إلا في أشخاص مصدريها, وأن الحقب والمراحل المتتابعة من المنتمين=لا تخرج عن أن تكون تحققًا, واعتبار هذا المعنى ينفي أن تترحل الأفكار تمامًا إلا في صورة تحققات, فلا أحد يمكن أن يرحلها إلا وفق معنى "التحقق", مما يعطي للمناهج والأفكار بعدًا زمنيًا وبعدًا شخصيًا يمنعها من الأصالة, الأصالة الفاعلة والرئيسة والحقيقة, ويكسب "التحققات" تزييفًا بمستوى ما, ويجعل هذين البعدين الزمني والشخصي عاملين هامين في التقييم والنقد والاعتناق والانتماء والأصالة في نهاية المطاف, وهو ما ألمح إليه إدوارد سعيد في كتابه تأملات حول المنفى, وهذا المعنى مطروح وبوجاهة كبيرة بشكل أو بأخر

ويأتي في السياق نفسه التناول التشقيقي والتقسيمي الذي استخدمه الفاضلان في الدراسة, في افتراض سلفية منهج وسلفية تاريخية, ونحو هذه التقسيمات التي أتت بلا تعليل واضح يمكن محاكمته, بقطع النظر عن صوابها من عدمه، على الأقل حتى لا تقع الدراسة في قريب من الخطأ الذي وقعت فيه دراسات الجابري ومن نحا نحوه، على نطاق التقسيمات الإبستمولوجية

ويستتبع هذه الإشكالية –إشكالية التحقق- أثر من آثارها المفترض, فهو يتلازم مع فرض كون المنهج توصل إلى المعتنقين والمنتمين بصورة لا تسمح بالتحقق بصحة تامة أو سليمة, فكأن الموصِل لم يكن على دراية بمساحة "التحقق" التي قد تقدح في "تحقق" أتباعه لمنهجه, وهو ما يعود على كافة الالتزامات الشرعية, لا سيما ما يتعلق بالاتباع والاقتداء, من تعذر واستحالة, وما يترتب على ذلك من نتائج, وهو ما يقع ولا بد كأثر ترتبي من آثار افتراض معنى "التحققات" وجعله فاصلاً عن المنهج في أوليته ونشأته

كما أن وصف "التحقق" سيعود ويرجع على الطرفين, المنهج وأصحابه, السلفية والسلفيين, باعتبار التقابل بينهما, رجوعًا سلبيًا أو إيجابيًا, ومن ثم فما يعكسه التحقق من أثر "نقدي" ينعكس كذلك على الطرفين, ضرورة التقابل اللازم عن هذا المعنى ومؤداه, فالتحقق إذن أصبح موظفًا في دراسة الفاضلين بصورة استباقية متعجلة ودون بيان لما يلزم وينتج من مثل هذا التوظيف

إشكالية المستوى الكمي أو مستوى المعالجة في مقابل كمها ومستواها: ظاهر أن الدراسة قصدت النقد دون مراعاة لمستواه أو التزاماته أو مجالاته, فكان حكمها على التصرفات في نفس المستوى من التعامل -لا أقول في نفس النتيجة- وبشمولية هائلة, حيث أدخلت السلفية بمراحلها وتشكلاتها, وبنوعية التصرفات على تباينها من حيث الثوابت والمتغيرات والوسائل والمنهج, في نفس الغرض النقدي ومستواه, فالمستوى الكمي المستصحب في الدراسة, رغم كونها منصبة في الأساس على السلفية المعاصرة, لا يتوافق مع طبيعة المعالجة, إذ المعالجة تتقدر بقدرها, فالتناول الشمولي يتنافى مع العلاج, بل وينتج عكس قصده, واستصحاب المراحل كافة في نفس الإطار والتناول يبتعد بها عن صواب المعالجة وعن جديتها, وإن بررته دعوى مناقشة الامتدادات, فإن ورودها لذات الغرض النقدي يشكك في ذلك

إشكالية تمييز الممارسات وتفاوتها: وهو ما نستطيع أن نعبر عنه بإشكالية تمييز الحالة السلفية المنهجية عن الحالات الأخرى المقترنة بها ذات الأبعاد الوسائلية والمصلحية لا المنهجية, فمراعاة هذا التفاوت وتمييزه يساعد ويعين على إسقاط النقد وتوصيفه كنقد للسلفية أو كنقد للمارسة الناتجة عن الاعتبارات الأخرى, فقهية كانت أم مذهبية أم غير هذا وذاك, بمعنى: أن "التحققات" لم تكن تتعامل في كل تشكلاتها انطلاقًا من القاعدة التي تتلقاها من المنطلق السلفي خاصة, وبالتالي فليس من ضرورة الانتهاج السلفي التام -على سبيل المثال- أن يلتزم أصحابها بكافة الأدوات المعرفية المستخدمة لدى السلف, وعليه فلا يقدح في "التحقق" أن لا يتصرف "المتحقق" في الأدوات المعرفية والاستدلالية وينوع فيها, وأن لا يستنطق ما لدى منهجه من مكونات معرفية يمكن أن يمارسها هو في نشاطه المعرفي, بل ولا يقدح في التحقق أن يتم الخروج مطلقًا عن ذلك, طالما كان ذلك في نطاق الوسائل والمتغيرات, وهذا ما يجعل ممارسة شيخ الإسلام مثلاً سليمة تمامًا مع الأهداف والرؤى السلفية, لا كما يصوره الفاضلان

وهذا ما يؤدي بنا إلى إشكالية أخرى, وهي إشكالية الخلط بين الضرورات الوسائلية والمكتسب السلفي: حيث جعلت الدراسة –مثلاً- العمل المعماري كما عبرت عنه والتدليلي للبنية العلمية السلفية والاشتغال العلمي=في نفس المستوى من النقد الذي يقع عليه نقد التصرفات السياسية والعقائدية, رغم اختلافه من جهة جوازه –كما يقرره علماء الأصول- ومن جهة نوعيته, فالدراسة تتناول ما يحصل عن المراحل السلفية ومضامينها بشتى أصنافها بنفس المستوى من النقد, فنقد الاشتغال المعرفي لا يختلف عن نقد الاشتغال السياسي, المسطح واحد, النقد واحد, لم تميز كذلك بين الممارسات التي اكتسبت حجية معترف بها, وبين ما هو أقل من ذلك بكثير من ممارسات, ولم تراع الاعتبارات والصيغ النهائية التي حملها بعض الرموز السلفية, ولم تفصل حالتهم بين حالة اكتسبت فيها المرجعية والإجماع -العملي على الأقل- وبين الرمز بتجليه البشري, فأحمد بن حنبل تناولته الدراسة بتجريد تام دون اعتبار أو فصل وتمييز بين أحواله من حيث المنهجية أو الفردية, في التصرفات أو الأحكام

وإن أردنا صياغة المشترك الجامع في الإشكاليتين المتقدمتين في سؤال محدد فإننا نتساءل لماذا الكمية النقدية شملت كافة المراحل السلفية بكافة تشكلاتها؟ شمولاً وصفيًا؟ دون مراعاة أو فصل مرحلة عن أخرى بشيء يعين على القياس والتقييم؟ أو مراعاة لما هو أهم من ذلك, مراعاة الأعمال الناتجة عن السلفية كمنهج على الخصوص, أو ما نتج عن السلفية وبقية الاعتبارات الأخرى, مذهبية أو فقهية أو سياسية؟ باعتبار أنه ليس كل تصرف من سلفي ما يحاكم بالنظر إلى مرجعية واحدة, هي المرجعية السلفية, بل أكثر ذلك يأتي كحصيلة لمرجعيات ومستندات أخرى لا تختص بوضعه ومرجعيته السلفية وحسب

إشكالية المادة المستخدمة في الكتاب وقالبها والأداة التاريخية: المادة السردية الوصفية لا تقدم جوهرًا نقديًا أو تصحيحيًا, فسرد الممارسات وتوصيفها لا ينتج حكمًا بل ولا قضية ما, وفي كثير من الأحيان يغيب ضمن هذه المادة التاريخية الإطار التي كان ينبغي أن توضع ضمنها هذه الممارسات, أعني إطارها العلمي المغاير بطبيعة الحال للوصف والسرد, فالممارسة النقدية ممارسة بناءة وتفاعلية وتحليلية, ليست كاشفة لحالات طبيعية مع شيء من العرض وحسب, وهذا ما تفتقره الدراسة, وقد كان فصلها الأخير فصلاً ضعيفًا على صعيد المعالجة ونوعيته, بل لم يتضمن معالجة في الأساس كما يعنيه معنى "الما بعد", كما أن الحس الوصفي منع الفاضلين من أن يكونا متفهمين وشارحين لهذه الممارسات مع بيان مناطاتها وتنزلاتها الصحيحة وفق رؤية علمية, وما تحمله هذه الممارسات من أبعاد صحيحة ومعتبرة, توضع أولاً في إطارها العلمي كما تقدم لا التاريخي, وتُشرح وفق نظر أصولي وفقهي وغيره مما يبين حقيقتها, بتعقل وتفهم, فتمرّرت نتيجة لذلك كثير من التصرفات خارجة عن إطارها العلمي

كما أن الأداة التاريخية جعلت الفاضلين يتعاملان مع أصحاب المنهج السلفي بتجريد تام عن محلهما من الاعتبار, فأصبحوا محل افتراض ومعيارية تامة, خصوصًا مع ما حصل مع الأمام أحمد, وهو ما تمت الإشارة إليه في الإشكالية السابقة من زاوية أخرى, كما أن هذا البعد التاريخي الغالب والمسيطر في دراسة الفاضلين جعلتها لا تحمل مضمونًا أو مخرجًا يتوافق مع المابعدية, باعتبار أن المابعدية حسب توصيفهما تقتضي مخرجًا أو مضمونًا يصلح للاستفادة منه في العلاج والبناء, وهو ما خلت منه الدراسة, خلت منه في أقل الأحوال بشكل مركزي وظاهر يتمشى مع مفهوم النقد البناء عمومًا, والفصل الأخير منه أكبر شاهد ودليل على ذلك, بما فيه من سطحية وضعف يصعب تفسيرهما

إشكالية المرجعية الحاكمة: وهي إشكالية طالت المعاني الوصفية -التقسيمات ونحوها- فافترضت تقسيمات اعتبرتها شكلية وهي راجعة في الحقيقة إلى مضمون جوهري يمتد إلى كافة مراحل الدراسة وطالت المعالجة الناقدة, وطالت من ناحية أخرى الأحكام التي تصدر من الفاضلين عند نظرهما للعمل المتنازع فيه أصلاً ولا ترجع إلى الأمور المجمع عليها, إجماعًا منهجيًا كان أم فقهيًا, وهذا جاء نتيجة لإشكالية "التمييز" المشار إليها آنفًا, إذ هي لا تنفك عنها, فهي نتيجة الإغفال لشرح مستويات محل النقد والفحص, وتمييزها, وفصلها عن مكتسبها النهائي المرجعي.



ختامًا، فإن هذه الورقة لم تخرج إلا قناعةً منها بضرورة النقد وفق معانيه ومحلاته وأداواته ومرجعياته الصحيحة, المقترنة –اقترانًا ضروريًا- بما تحققه من أهداف وغايات حميدة ومعالجات واضحة مدلل عليها وموضوعية, وما شجعني على كتابة هذه الورقة أولاً, وبعثها ثانيًا إلا ما أعرفه –ملحوظًا وملفوظًا- من الفاضلين وطلبهما للتكميل والتسديد, ضمن غاية شريفة وضرورية, متمنيًا في ختم هذه الورقة الأخذ بعين الاعتبار ما قد يقع أو وقع فعلاً من ضعف في توصيل أو تسلسل الفكرة الكلية منها, وتسديد ذلك ومراعاته, والله من وراء القصد.



عبدالله بن أحمد الفرحان

الخميس 21 / 5 / 1436 هــ

--------------------------------
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59