عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 03-03-2012, 12:48 PM
الصورة الرمزية يقيني بالله يقيني
يقيني بالله يقيني غير متواجد حالياً
متميز وأصيل
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: جمهورية مصر العربية
المشاركات: 4,854
افتراضي

ثم يستدلُّ عبدالرحمن على عدم استجابته لمطلب سلامة بما يُبيِّن إيمانه وتقواه من جهة، وحبه الشديد لسلامة من جهة ثانية حيث يقول: "لا، يا حبيبتي! لا، إني أحبُّك يا سلامة، وإني سمعت الله - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67]، وأنا أكره أنْ تصير الخلَّة التي بيننا عداوةً يوم القيامة"[12].

فلا يريدها عبدالرحمن لإشباع غرائزه الجنسيَّة وإخماد نار شهواته، بل يريدُها رفيقة حياته، لا في الدنيا فقط بل في الآخِرة أيضًا؛ ولذلك يرى أنْ يسلك سبيل التقوى والعفَّة حتى لا تتبدَّل خلَّتهما بالعداوة في الآخِرة، وهذه هي فلسفة الإسلام في الحبِّ والحياة الزوجيَّة التي تريد أنْ تكون المرأة سُكنًا للرجل وبالعكس، وأنْ تكون بينهما مودَّة ورحمة.

ويمكن أنْ يظنَّ البعض أنَّ في موقف عبدالرحمن من سلاَّمة تكلُّفًا وخُروجًا على المألوف والواقعيَّة، ولكن إذا نظَرنا إلى الصورة التي رسمها باكثير له قبل ذلك، نرى أنَّ هذا الموقف طبعي ويتناسَب مع شخصيَّة عبدالرحمن وإيمانه؛ لأنَّ مَن كان في قلبه ذكرُ الله تعالى، يسهُل عليه أنْ يملك نفسَه ويجتنب المعاصي ويبتعد عن الفحشاء.

وفي رواية "ليلة النهر" أيضًا يُصوِّر باكثير علاقة حبٍّ بين بطل الرواية "فؤاد حلمي"، وإحسان، ولكن لا يسمح لبطله بالاستهتار والتبذُّل واحتساء الخمر[13].

وفي رواية "الثائر الأحمر" مواقف جنسيَّة مختلفة يمكن للكاتب أنْ يسترسل فيها، ولكنَّ (باكثير) يكتفي بالإشارة إلى الموقف ووصفه بحسب ما يقتضيه الموضوع والفن، ومن ذلك وصف العلاقات الجنسية بين "راجية" وعشاقها[14]، وبينها وبين "الشيخ الأهوازي" وبين "شهر" و"عبدان"[15]، فيُصوِّر مثلاً ما دار بين "راجية" و"الشيخ الأهوازي" من مغامرة جنسيَّة انتهت بارتكاب الفاحشة وحمل راجية منه في هذا الحوار الذي جرى بينهما:
"... وبينما هي مستلقية على فِراشها ومن دُونها الصبيان يغطَّان في نومهما إذا بالشيخ يناديها من حجرته، فخفَّت إليه ووقفت على باب الحجرة تسأله ماذا يريد، فأومأ إليها أنْ تدخل، فتردَّدت قليلاً ثم دخلت، فأسرع هو إلى الباب فأغلقه، ولَمَّا رآها قد خافت قال لها في هدوءٍ ولطف: لا تخافي يا راجية، فإنِّي سأُفضِي إليك بسرٍّ لا أريد أنْ يسمعه أحدٌ غيرك...
فما سمعت ذلك منه حتى ظهر عليها الاستسلام والتوسُّل...
قال لها: أتذكُرين ابن عمك عبدان؟
فخفق قلبها لذكر عبدان، وقالت: أوتَعرِفه؟


إنَّه قد آمَن بمذهبنا وأصبح من دعاة...
فأين هو الآن؟
في مركز دعوتنا بسلمية.
أوَقَدْ تزوج هناك؟
ما حاجته إلى ذلك وقد أُبِيح له ما شاء من النساء يستمتع بهنَّ كما يريد.
فانتفضت مذعورة وقالت: كيف ذاك؟
قال لها: إنه من المخلصين للمذهب، وقد رُفِعَ عنه التكليف، فله أنْ يفعل ما يشاء.

ونظر إليها فرأى على وجهها ظلاًّ من الكآبة، فقال لها: لا تكتَئِبي، فما أراك إلا أنْ قد آمَنت بمذهب... فلك أنْ تفعلي ما تشائين مثله!

اهتزَّت راجية لهذا القول اهتزازًا عنيفًا أنساها كلَّ شيء، إلاَّ أنها بين يدي رجل قد ذلَّل لها كلَّ عقبة أمامها، فلم يبقَ إلا أنْ ترتمي عليه"[16].

ومع ذلك فقد يُسرِف باكثير في الوصف الجسدي للمرأة، ولكنَّ هذه المواضع قليلة جدًّا في آثاره، ومنها وصفه لجلنار على لسان قطز: "... بل رأى مكانها امرأة تامَّة التكوين، ناضجة الأنوثة، لا صلة بينه وبينها من قرابة أو عشرة، وتنقل طرفه من جيدها الطويل كأنَّه إبريق من الفضة إلى كتفيها المدمجتين وظهرها الرخص المسحوب من جوانبه كلَّما نزل، حتى ينتهي إلى خَصرها الضامر، ولمح بَياض ساقيها ولُطف قدميها، فامتلأ قلبه رهبةً لم يُطِقْ معها الوقوف"[17].

3- موقفه من القضاء والقدر، والتجاؤه إلى الله في كلِّ حال؛ لأنَّه باعتباره أديبًّا إسلاميًّا، ينظُر إلى القدر كركنٍ من أركان الإيمان لا بُدَّ للمؤمن أنْ يرضى به دون أنْ يحدَّ لك من إرادته التي هي أيضًا من قدَر الله شيئًا، ويرى أنَّ الفاعل الحقيقي في الكون هو الله تعالى يفعل ما يشاء ويفعل ما يريد.

فعبدالرحمن القس حينما كان يتذكَّر أمَّه الصالحة وحسن تربيتها له وقيامها عليه وكفايتها إيَّاه هموم العيش ليتفرَّغ للعبادة والعلم، كان يُعاوِده الحنين إليها ويشتدُّ به الحزن عليها "ولكنَّه كان يأخُذ نفسه بالصبر والرضا بقضاء الله، ويلجَأُ إلى الصلاة والعبادة كلَّما طاف به طائفٌ من اللوعة والبثِّ، مكتفيًا بالدعاء لها والترحُّم عليها"[18].

وفي رواية "واإسلاماه" ينتَظِرُ قطز بالمسلمين في معركة "عين جالوت" وقت صلاة الجمعة ليُباشِروا قتال أعدائهم، وخُطَباء المسلمين على المنابر يدعون لهم بالتأييد والنصر[19]، وفي نهاية المعركة وبعد انتصار المسلمين، ينسب النصر إلى الله تعالى وإلى دعاء المسلمين ويحذرهم أنْ يزهو بصنيعهم: "إيَّاكم والزهو بما صنعتم، ولكن اشكُروا الله واخضَعوا لقوَّته وجلاله، إنَّه ذو القوَّة المتين، وما يُدرِيكم لعلَّ دعوات إخوانكم المسلمين على المنابر في الساعة التي حملتم فيها على عدوِّكم من هذا اليوم العظيم يوم الجمعة، وفي هذا الشهر العظيم شهر رمضان، كانت أمضى على عدوِّكم من السيوف التي بها ضربتم، والرماح التي بها طعنتم، والقِسِيِّ التي عنها رميتُم"[20].

4- تقديم صورةٍ إيجابيَّة لعلماء المسلمين في حين يظهر علماء الدين في الأدب القصصي المعاصر في أغلب الأحيان رمزًا للبلاهة والسذاجة المفرطة، ومثالاً للقَذارة والشَّعوذة وأنموذجًا للسلبية، فيُصوِّر مثلاً "الشيخ عز الدين بن عبدالسلام" عالمًا عاملاً لقي اضطهاد في سبيل دعوته دون أنْ يخاف في الله لومة لائم "... وقد وجد في الشيخ ابن عبدالسلام مثلاً صالحًا للعالم العامل بعِلمه، الناصح لدِينه ووَطنه، الذي يرى حقًّا أنَّ العلماء ورثة الأنبياء في هداية الناس إلى الخير، ودفعهم عن سُبُلِ الشر، الآمِر بالمعروف والناهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، لا يتَّجر بدينه ولا يريد الدنيا بعلمه، ولا يُساوم في مصالح أمَّته ووَطِنه، ولا يشتري بآيات الله ثمنًا قليلاً من حُطام الدنيا ومَتاع العاجلة"[21].
__________________


رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59