عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08-02-2016, 02:36 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,184
ورقة الحرية.. مفهومها, ضوابطها, آثارها (1/ 2)


الحرية.. مفهومها, ضوابطها, آثارها (1/ 2)
ـــــــــــــــــــــــ

(ناصر بن سعيد السيف)
ـــــــــــــ

28 / 10 / 1437 هـ
2 / 8 / 2016 مـــ
ـــــــــــــ


الحرية.. ضوابطها, 299f4c4fec20350c2758965adc25cf87-796x427.jpg





جعل الإسلام الحرية حقاً من الحقوق الطبيعية للإنسان. فلا قيمة لحياة الإنسان بدون الحرية. وحين يفقد المرء حريته يموت داخلياً، وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب، ويعمل ويسعى في الأرض. وقد بلغ من تعظيم الإسلام لشأن الحرية أن جعل السبيل إلى إدراك وجود الله تعالى هو العقل الحر، الذي لا ينتظر الإيمان بوجوده بتأثير قوى خارجية، كالخوارق والمعجزات ونحوها.

تعريف الحرية:
---------

الحرية لغةً: الحُـرُّ بالضم: نقيض العبد, والحُرُّة: نقيض الأَمَةِ؛ والجمع حرائر. والحُـرُّ مِن الناس: أخيارهم وأفضالهم, وحرية العرب: أشرافهم, والحرة: الكريمة من النساء.[1]
الحرية اصطلاحاً: تعددت المذاهب في تعريف الحرية، واختلفت الآراء وتباينت تبايناً شديداً في تحديد مصطلح منضبط للحرية. فقد ورد في إعلان حقوق الإنسان الصادر عام 1789م: "الحرية هي حق الفرد في أن يفعل ما لا يضر بالآخرين".

في الفقه الإسلامي:
-----------

عرف الدريني[2] الحرية بأنها: "المكنة العامة التي قررها الشارع للأفراد على السواء، تمكيناً لهم من التصرف على خيرة من أمرهم، دون الإضرار بالغير". مستنداً على تعريف الفقهاء لمعنى الإباحة التي تقوم في أصل تشريعها على التخيير بين الفعل والترك.
وقد ذهب الفاسي[3] إلى محاولة التفريق بين نظرة الإسلام إلى الحرية ومفهومها عن كل النظريات الأخرى الفلسفية والاشتراكية والمادية الغربية بأن قال: "الحرية جعل قانوني، وليس حقاً طبيعياً، فما كان للإنسان ليصل إلى حريته لولا نزول الوحي، وأن الإنسان لم يخلق حراً، وإنما ليكون حرّاً".
وعرفها الدكتور رحيل محمد غرايبة[4] الحرية بأنها: "أصل مركوز في فطرة الإنسان. وجعلها مناط الابتلاء، كما جعل العقل مناط التكليف. فالله –عز وجل- الذي خلق الإنسان وكونه أراده عاقلاً حراً، ثم أناط به الخلافة في الأرض وإعمارها، وفق منهج تشريعي عبادي متسق مع نواميس الكون وحركة الموجودات".
والملاحظ أن مرجع جميع هذه التعاريف -وغيرها- إلى جامع واحد، وحقيقة مشتركة واحدة، هي القدرة على الفعل والاختيار. دلت عليها ألفاظ متعددة، وبصور مختلفة. ولذا لم يتحصل لدى الانتقال من تعريف لآخر أمراً يضيف على التعريف الأول شيئاً يذكر سوى التبسيط والتوضيح فقط.[5]

مفهوم الحرية عند الغرب والمسلمين:

أولا: عند الغرب:
=========

استخدم مصطلح الحرية في العالم الغربي للدلالة على رفض الأنظمة العبودية والإقطاعية في العصور الوسطى. وترسخ بعد انتصار الثورات التي ألغت الإقطاع وأقامت الأنظمة الجمهورية. واستمر حتى صار يحمل دلالة تعادل صيغة تقرير المصير الفردي والجماعي، وفي درجة الاستقلال الذاتي الذي تشجع عليه وتبيحه (الديمقراطية)، وفي طبيعة العملية الديمقراطية، وفي مجال أوسع للحريات الأخرى الأكثر خصوصية، والتي هي من صلب طبيعة العملية الديمقراطية، أو أنها من المتطلبات الضرورية لوجودها.[6]
فعرّفها الغرب بأنها الانطلاق بلا قيد، والتحرر من كل ضابط، والتخلص من كل رقابة، حتى ولو كانت تلك الرقابة نابعة من ذاته هو، من ضميره. فلتحطم وليحطم معها الضمير إن احتاج الأمر، حتى لا يقف شيء في وجه استمتاعه بالحياة، وحتى لا تفسد عليه نشوة اللذة. ومعنى هذا ترك الإنسان وشأنه يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء، وهكذا بدون قيود ولا ضوابط، ولا رقابة. وعلى المجتمع أن يسّلم بذلك الحق، وعلى الحكومة أن تحافظ على تلك الحرية وتحميها. فلا دين يحكم النفوس، ويكبح جماحها، ولا أخلاق تهذب طباعها وتوقظ مشاعرها، وتثير فيها روح النخوة والغيرة والإباء، ولا مثل ولا فضائل تقاس على أساسها الأعمال خيرها وشرها، ولا حياء يمنع ارتكاب الشطط والمجاهرة بالمنكر.[7]
فالأمريكان يزعمون أنهم أصحاب حقوق الإنسان، وأن الفرنسيين ليسوا سوى مقلدين لهم، وحجتهم أن وثيقة (إعلان الاستقلال) تحمل تاريخ 1776م فهي أسبق من الثورة الفرنسية, وقد جاء في مقدمة الوثيقة التي وضعها ممثلو الولايات المتحدة الأمريكية: "إننا نعد الحقائق التالية من البديهيات: خلق الناس جميعا متساوين، وقد منحهم الخالق حقوقا خاصة لا تنزع منهم: الحياة، الحرية، السعي وراء السعادة".[8]
ويزعم البريطانيون أنهم الأسبق في ميثاق الشرف الأعظم "الماجنا كارتا"، والذي تمت صياغته في 12 حزيران 1215م. وهو نص عام مكون من ثلاث وستين مادة؛ وجهه الملك إلى العامة والخاصة في البلاد. تنص المادة الأولى على أن الحرية ممارسة كل الحقوق والحريات، وحرية الانتخاب لكنيسة إنكلترا، وكذلك منح حقوق عديدة لكل الأشخاص الأحرار المقيمين في المملكة. وهي تقيد حق التصرف الملكي بالأموال العامة. ويعطي الميثاق في المادة (13) كل الحريات والتقاليد الحرة القديمة في البر والبحر، لكل المدن والقرى في البلاد. كما أعطت الوثيقة ضمانات للمحاكمة والإدانة، وحظرت الاعتقال والسجن ونزع الملكية والنفي، أو إعلان شخص حر خارجا عن القانون خارج محاكمة عادلة.[9]
ويرى بعض المفكرين أن العرب سبقوا الغرب في إقرار حقوق الإنسان، وذلك في حلف الفضول. ذلك أن مكة المكرمة أضحت في الفترة التي سبقت الإسلام مركزاً تجارياً هاماً، وازدهرت إثر هزيمة الحبشة برئاسة أبرهة، واحتدام الصراع بين الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية. وأثرى أهل مكة، وتشابكت المصالح، فنشأت معها أحلاف عديدة منها حلف الفضول![10]

ثانيا: عند المسلمين:
===========

خص الله تعالى الإنسان بالعقل والإدراك والتمييز. وأمر بحفظ حقه في حرية التفكير والتعبير مادام ذلك في حدود الشرع ومصلحة الجماعة. لا يقهر على أمر, ولا يقصر على رأي, ولا يمنع من إبداء الرأي والاجتهاد فيه, لأن في هذا قوام "نموه العقلي"، واتساع مداركه، وشحذ تفكيره, ومبادرته الإيجابية في بناء حياته الخاصة وفلسفته ونظرته للحياة, وتحقيق طموحاته المستقلة, ومساهمته الفعالة في بناء حياة الجماعة، وتطوير نظمها وتراثها الفكري والعلمي والحضاري, وتمكينها من بلوغ أهدافها المرجوة لخير جميع أفرادها. ومفهوم الحرية من المنظور الإسلامي يتحقق من خلال الحقوق والواجبات، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، لأن الحقوق من دون أن تقيد بالواجبات تجعل الفرد غير مرتبط بالآخرين، وقد يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الآخرين عليه، وبذلك يصبح انفرادياً في تعامله قاصراً عن أداء واجباته.[11]
فالحرية في الإسلام لا تعني الفوضى وارتكاب الموبقات والمنكرات باسمها؛ واستباحة محارم الله تعالى والانغماس في الشهوات المحرمة. فالحرية التي تبيح هذه المحظورات هي فوضى، وتصور خاطئ للحرية. وقد صحح الإسلام هذا التصور الخاطئ، وقرر حرية الناس منذ ولادتهم، وأنه لا يجوز استعبادهم، كما لا يجوز تقييد حرياتهم، وكل حق لهم، يقابله واجب عليهم، ليكون هناك توازن في الحياة والتعايش مع الآخرين. لذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسلفها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم هلكوا، وهلك الناس جميعهم، وإن منعوهم نجو، ونجى الناس جميعاً)[12]. وقد عزز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته المطهرة وسيرته العطرة مبدأ الحرية، سواء في التفكير أم في التعبير، أم في إعمال الرأي والاجتهاد في أمور الدين والدنيا؛ حرصاً منه على تكوين الشخصية المستقلة المتماسكة القوية لدى المسلم.[13]

تحديد ضوابط الحرية في الإسلام:
--------------------

الحرية في الإسلام ليست سائبة, ولا مطلقة حتى تهوي بصاحبها إلى قاع الضلال الروحي ودرك الانحطاط الأخلاقي؛ بل هي حرية واعية منضبطة. فإذا خرج بها الإنسان عن أحكام الدين ونطاق العقل وحدود الأخلاق ومصلحة الجماعة تمت مساءلته ومحاسبته، وإيقافه عند حده ورده عن غيه, منعاً لضرر الفرد والجماعة, وفساد الدين والدنيا.[14]
ومن يضع الحدود والقيود على الحريات عليه أن يكون له العلم الكامل بالإنسان وحاجاته وميوله وتركيبته وما يصلحه وما يفسده في الماضي والحاضر والمستقبل؟ وهل هناك أحد يعلم الصنعة إلا صانعها؟! وهل يعلم ما يصلح الإنسان وما يفسده إلا الله؟! يقول الله تعالى: ((أَلا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ))[15]. فما من مسلم يؤمن بوجود الله إلا ويؤمن بأن الله هو أولى وأحق من يشرع المنهج السليم الذي يصلح الإنسان, يقول تعالى: ((ومَا كَانَ لِمُؤمِنٍ ولَا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم ومَن يَعصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَـلَالًا مُبِينًا))[16].
ولا يعني بطبيعة الحال إقرار الإسلام للحرية أنه أطلقها من كل قيد وضابط؛ لأن الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى التي يثيرها الهوى والشهوة. ومن المعلوم أن الهوى يدمر الإنسان أكثر مما يبنيه، ولذلك منع من اتباعه. والإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه مدني بطبعه، يعيش بين كثير من بني جنسه، فلم يقر لأحد بحرية دون آخر، ولكنه أعطى كل واحد منهم حريته كيفما كان، سواء كان فرداً أو جماعة، ولذلك وضع قيوداً ضرورية، تضمن حرية الجميع.

وتتمثل الضوابط التي وضعها الإسلام في الآتي:
---------

ألا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه.

ألا تفوت حقوقاً أعظم منها، وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.

ألا تؤدي حريته إلى الإضرار بحرية الآخرين.

وبهذه القيود والضوابط ندرك أن الإسلام لم يقر الحرية لفرد على حساب الجماعة،كما لم يثبتها للجماعة على حساب الفرد؛ لكنه وازن بينهما، فأعطى كلاً منهما حقه.[17]
-------------------------------------------
[1] انظر: لسان العرب, ابن منظور: ج4/181.
[2] الدكتور فتحي بن عبدالقادر الدريني تميز في أصول الفقه والفكر, ولد في مدينة الناصرة بفلسطين عام 1923م, وتوفي في الأردن عام 1/6/2013م.
[3] علال بن عبدالواحد الفاسي تميز في الفكر والأدب والسياسة, ولد في مدينة فاس بالمغرب عام 1910م, وتوفي في 13/5/1974م.
[4] محمد حمد محمود الرحيل الغرايبة, رئيس المكتب السياسي وعضو المكتب التنفيذي لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن, تميز في السياسة وحقوق الإنسان, ولد في الأردن عام 1950م.
[5] انظر: ثقافة حقوق الإنسان, عبدالحسين شعبان: ص44.
[6] انظر: روبرت دال, ترجمة نمير عباس مظفر، ص517.
[7] انظر: مفهوم الحرية, علي فقيهي: ص5- 6.
[8] المرجع السابق: ص7.
[9] انظر: مفهوم الحرية, علي فقيهي: ص11.
[10] المرجع السابق: ص12.
[11] انظر: فلسفة التربية الإسلامية في القرآن والسنة, عبدالحميد الزنتالي: ص196.
[12] رواه البخاري, باب: هل يقرع في القسمة والاستهام فيه: ج8/399.
[13] انظر: فلسفة التربية الإسلامية, مرجع سابق: ص198.
[14] المرجع السابق: ص459.
[15] الملك: 14.
[16] الأحزاب: 36.
[17] انظر: مفهوم الحرية, علي فقيهي: ص14.



------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59