عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 07-29-2013, 05:58 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,184
ورقة بريطانيا وديمقراطية المال


بريطانيا وديمقراطية المال
ــــــــــــ

بريطانيا العظمي احتالت على مصر ثلاث مرات للاستيلاء على ثرواتها:
المرة الأولى: خلال الحرب العالمية الأولي، فاستولت على كل احتياطي الذهب المصري لدعم المجهود الحربي البريطاني، ولم تلتزم سوى برد المبلغ نقدًا ورقيًّا.
والمرة الثانية: عندما أجبرت مصر على التنازل عن ديونها المستحقة في عنق بريطانيا، والمتراكمة عن الدعم المالي والخدماتي الذي قدمته مصر إلى بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
والمرة الثالثة: عندما احتضنت أموال الفساد المهربة من مصر، ولم تتعاون -ولو بكلمة طيبة- مع كل الجهود الساعية لاستعادة تلك الأموال، بل مالت سياستها إلى الاحتيال والإخفاء، كما أثبت ذلك الفيلم الوثائقي الشهير الذي عرضته "بي بي سي" البريطانية خلال العام المنصرم 2012م .
لكن يبدو أن بريطانيا تأبي إلا أن تسهم في إضاعة الحلم الديمقراطي المصري إسهامها في تبديد الثروة المصرية؛ فهي الدولة التي سارعت باحتلال مصر عام 1882م لوقف تطور الحركة الوطنية والدستورية المصرية، وكان أول ما فعلته هو إسقاط أول دستور مصري حقيقي وديمقراطي وُضع بيد أبناء الحركة الوطنية وصدر بالفعل في 8 فبراير 1882م. والحقيقة أن قراءة التاريخ المصري الحديث بموضوعية يكشف عن رغبة غربية -عبرت عنها السياسة الإنجليزية- بعدم السماح لمصر بتحقيق تحول ديمقراطي حقيقي؛ فعندما تسمع المسئولين الإنجليز وهم يتحدثون عن الديمقراطية ونشرها في العالم لا تملك إلا أن تنحني احترامًا وإجلالاً، وعندما تسمعهم يتحدثون عن الانقلابات العسكرية في الدول النامية باعتبارها فتحًا وطريقًا ممكِّنًا للديمقراطية وتعبيرًا عن وجهة نظر الشعوب؛ فلا تملك إلا أن تحاول تمالك نفسك والبحث عن دواء يقيك شر القيء.
ومن تلك النماذج التي تعبر عن انفصام في السياسة البريطانية: ما أدلى به السيد "إلستر برت" وزير شئون الشرق الأوسط في الحكومة الإنجليزية إلى وسائل إعلام -من بينها الجزيرة- عن أن الشعوب يجب أن تبحث لنفسها عن وسيلة موضوعية لقياس رأي الشعب، والديمقراطية توفر هذه الوسيلة وهي التصويت في الانتخابات؛ وفي ذات الآن يعتبر أن ما حدث في مصر -من إسقاطٍ لرئيس منتخب بالقوة نتيجة خروج المعارضة بمظاهرات ضده- إنما هو تعبير عن وجهة نظر الشعب المصري، وأنه لا يمكنه تسميته انقلابًا. ولست أدري إذا ما كان رأي "برت" سيكون هو نفسه إذا ما قام الجيش الإنجليزي بالتعبير عن آمال وطموحات متظاهري لندن خلال 2012م بإسقاط الحكومة الإنجليزية!
إن القضية قديمة قدم النظام العالمي القائم الذي تهيمن عليه ثماني دول كبرى تتحكم في مصير العالم، بحيث أصبحت الازدواجية في المعايير هي القاسم المشترك بين هذه الدول الكبرى؛ فمواقفها تتغير وتتبدل وَفقًا لمصلحة عليا ثابتة هي: "عدم المساس ببناء النظام الدولي"، وعدم السماح بدول من ذوات الحجم الكبير -كمصر- من الانتقال من موقعها الهامشي إلى موقع متقدم في المنظومة الدولية. وهذه الدول الثماني -وعلى رأسها بريطانيا بالطبع- تعلم أن مفتاح انتقال أية دولة من حال التخلف للتقدم، ومن حال التبعية للاستقلال الوطني؛ هو تحقيق الديمقراطية بمفاهيمها الثابتة وآلياتها المستقرة، وليس بمعانيها المتلوِّنة التي تُصَدَّر للعالم الثالث.
وربما كان الموقف الأمريكي أكثر وضوحًا على الدوام من الموقف البريطاني؛ فأمريكا لا تميل إلى التعامل مع الديمقراطيات الحقيقية في نطاق دول العالم الثالث، كما لا تفضِّل الدكتاتوريات الفجَّة، وتميل أكثر إلى أن يكون تعاملها مع ديمقراطيات شكلية أو دكتاتوريات مغطاة بقشرة خفيفة من عسل الديمقراطية؛ فهذا القدر من الديمقراطية الإجرائية كافٍ للولايات المتحدة الأمريكية لكي تقنع شعبها بأنها تدعم الديمقراطية ونشرها في العالم، بينما هي تكرِّس الاحتيال على الشعوب بصور فارغة لديمقراطيات إجرائية تُخفي وراءها دكتاتورية قاتمة. وتعتمد حكومات الولايات المتحدة الأمريكية في إقناع شعبها بذلك على ما يتسم به المواطن الأمريكي من عدم الالتفات كثيرًا للسياسة الخارجية، وعدم الاطلاع على ما يحدث خارج حدود ولايته.
أما الأسد البريطاني العجوز؛ فإن تباهيه بالديمقراطية وبأن أرض "الساكسون" هي التي احتضنت أول ديمقراطية في العصر الحديث، وفي ذات الوقت مساهمته في تكريس النظم الدكتاتورية عبر العالم؛ يصل إلى حد "الشيزوفرينيا"، خصوصًا مع رغبة واضحة في إقناع الشعب الإنجليزي بما لا يمكنه أن يقتنع به؛ فهذا الشعب شديد الثقافة والاطلاع على ما يجري بالعالم، كما أنه شديد الإخلاص لحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية؛ وربما يكون هذا هو السبب في هذا الارتباك الذي عانى منه المسئولون الإنجليز، عندما حاولوا الإيهام بأنهم يقومون بدور المساعدة في رد الأموال المنهوبة إلى مصر، وها هم يعانون نفس الارتباك في مسألة تتعلق بقيم الديمقراطية التي يُطالبهم شعبهم بدعمها والوقوف بجانبها؛ بينما هم يقفون بجوار ظل باهت لنظام لا يُنبئ إلا عن استبداد، ويزعمون أنه تعبير مفرِح عن ديمقراطية وليدة!
بالطبع أنا لا أتوقع أن ينجح المسئولون الإنجليز في تمرير موقفهم أمام شعبهم الإنجليزي، ولا أعتقد أنهم يأملون في ذلك؛ لأنهم على دراية بمدى تفتُّح شعبهم وإدراكه؛ وهو ما حصل في فشلهم في إقناع مجلس العموم والإعلام والشعب الإنجليزي بأنهم تعاونوا -بأي قدر من التعاون- في عملية مساعدة مصر في رد أموالها المنهوبة، رغم الإجراءات الكثيرة الفارغة، والسفريات الكثيرة التي لم تسمن ولم تُغنِ من جوع. لكن الساسة الإنجليز -وهم يدرون أنهم لا يمكنهم خداع شعبهم- يعتقدون أنهم إنما يخاطبون الشعب المصري بهذه اللغة المزدوجة، ويعتقدون أنهم أقنعوه فعلاً بأن إنجلترا كانت شديدة التعاون في رد الأموال المنهوبة، بدليل عدم استرداد فلس واحد، وها هم يقنعون أنفسهم أن موقفهم سيخدع الشعب المصري الذي سيراهم بالصورة التي تُسوِّقها السياسة الإنجليزية بأنهم مناصرون للديمقراطية وداعمون لحقوق الإنسان.
ويبدو أن مشكلة المسئولين الإنجليز أنهم -كبعض مفكرينا في الداخل- يَحيَوْن في فترة الأربعينيات والخمسينيات؛ حيث كان يمكن للأسد البريطاني أن يُقنع مَن يشاء بأي شيء، بينما الحقيقة المرة -التي يجب أن يعيها هؤلاء- أننا أصبحنا في قرن آخر وليس فقط في عَقد آخر، وأن الشعب المصري أصبح مختلفًا وأكثر وعيًا بضرورة ترسيخ الديمقراطية بقيمها الثابتة والمعروفة؛ لأنها الطريق الوحيد لانطلاق مصر نحو مستقبل تستحقه وريادة ستنالها، مهما أزعج ذلك بعضَ الساسة في أية دولة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. محمد محسوب
{التأصيل للدراسات}
ــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59