من أرشيف الثورة السورية
( بمناسبة مرور سنتين على انطلاقة ثورتنا المجيدة ) ..
في الثانية والنصف بعد منتصف ليلة الجمعة ، يُطرَق باب بيت جارنا بالدور الأرضي ، وجارنا أبو عمر من أهل الحل والعقد في الثورة ، حوار قصير بنتهي بمغادرة الضيف ، سَمِعَت الوالدة طرق باب الجيران دخولاً وخروجاً ، ارتابت ، فالتوقيت يعني أن معلومة هامة وصلت إلى من تعنيه .
وفي الثامنة والنصف من صباح الجمعة ، يرسل جارنا زوجته برسالة شفوية لوالدتي : مصادر مطلعة من داخل جهاز الأمن أكدت أن تعليمات صريحة بإطلاق نار مباشر على المتظاهرين حال وصولهم ساحة العاصي ، فالمطلوب إبلاغ من تستطيع من الشباب أن يغيروا طريق المسيرة ويتجنبوا ساحة العاصي .
قرر إخواني تجنب المرور بالساحة هذه الجمعة ، ووعدتهم الوالدة بأنها هي الأخرى لن تفعل ، إنما فقط ستوصل الرسالة لمن يهمهم الأمر ، لنتجنب حمام دم ينوي الأوغاد إراقته .
انتَظرَت قريباً من المسجد الجامع ، دقائق قليلة وخرج الناس ، تجمعوا ريثما يلتحق بهم الخارجون من مساجد أخرى قريبة .
كان منظر تدفق الناس وتقاطرهم فظيعاً ، كالسواقي تنحدر نحو السهل مسرعة ، تلتقي ببعضها ، فتَعرُض الساقية وتزداد غزارة ، ويتباطأ النهر حرصاً على سلامة من فيه .
لم ترتدِ مدينة أبي الفداء ثوباً قشيباً كالذي فعلت في هذا اليوم .
يا الله !!
لم يخطر ببالي أن أعيش لأرى هذا المشهد ، ولم يكن لأحد أن يتخيله إلا يوم الحشر ، وقعُ أقدام الشباب على الأرض ، صوت هادر يتردد صداه بين جدران المباني المحيطة بالشوارع ، تتسابق النساء لرش رذاذ الماء البارد من الشرفات ، أطفالٌ بعمر الورود كان همّهم – قبل الخامس عشر من آذار - طريقة تسريح الشعر ، وأحدث هاتف محمول ، وأظرف نكتة ، وأخبار اللاعب المفضّل ، وآخر صرعة لباس ، تراهم اليوم – بعد الخامس عشر من آذار - ينافسون الشيبة والرجال من كل جانب ، يضعون أقدامهم على طريق عرفوا أنه المجد ، أقسموا أن يكون التاريخ شاهداً على أنهم كانوا بحجم الحدث ، وكأنهم إذ كانوا في أصلاب آبائهم يوم الثورة الفرنسية ، تعاهدوا إن عاشوا ثورة مماثلة أن يرى اللهَ والعالم منهم ما تقرّ به الأعين ، وقد حانت ساعة الوفاء بالعهد ، وما كان لمن انتظر اللقاء طويلاً أن يتخلف عنه .
فالحرية لا بد لها من وصيفات يقمن بزفّها ، في موكب يليق بفرحة العمر ، بل إن شئت فقل : فرحة بحجم الوطن !
وكأن المدينة كلها على موعد ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً .
تضيق الحارات بساكنيها ، فتتلقف الشوارع الضيقة بعضاً منهم ، يتتابعون في سيرهم ، حتى يصلوا أقرب نقطة من ساحة العاصي ، يغصّ الشارع بالناس على مدّ البصر ، لا ترى بقعة خالية ، أو شارعاً فرعياً يصلح لتخفيف الكثافة ، وكلما أنهى خطيبُ جمعة صلاته رفد النهر بشلال آخر ...
استوقفت الوالدة أحد الشباب الناشطين ، لتوصل له الرسالة : إن الملأ يأتمرون بكم ليقتلوكم ، فقد وردنا من مصادر مؤكدة أن أوامر صدرت بإطلاق النار على المتظاهرين مباشرة إن وصلوا ساحة العاصي ، عيني ، الله يرضى عليكم ، خلّوا الشباب ما ينزلوا من المرابط ، ويكون الهدف عند ساحة مشفى الحوراني ، بدل ساحة العاصي .
نظر إليها الشاب ، وأشار بكلتا يديه إلى الجموع الهائلة ، ذات الصوت الهادر كشلال غزير ، وقال :
* شايفة يا خالة هالناس هدول ؟ شايفة كل هالبشر ؟ من هناااااااااااااااااك ( أول الشارع ) لهناااااااااااااااااااااااااااااك ( آخر الشارع ) ؟؟؟
* إي شايفة .
* محّد منهم طلع من بيته ، وقرّر يجي لهون ، وهو ناوي يرجع على بيته !
تقول الوالدة :
عندما سمعتُ منه هذه العبارة ، بهذا الحماس ، وتلك العزيمة ، نظرتُ إلى الدنيا بطولها وعرضها ، مرّ في مخيلتي شريط ذكريات طويل ، مليء بالقهر والقمع والاستعباد ، ولاح في آخره كرامة معمّدة بالدم ، سَرَت قشعيرة في البدن حارقة ، كم أحسستُ نفسي صغيرة عندها !
إن كانت الآلاف أمامي استحضَرَت نيّة الشهادة ، فلن أستثنيها أنا ..
كانت تلك الجمعة .. في نهاية الشهر السادس من عام 2011 ، هي المليونية الأولى في حماة .
.
.
.
آخر تعديل بواسطة عابر ، 03-26-2013 الساعة 12:12 PM
|