عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-28-2013, 08:04 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,033
ورقة بين تعجل نصر الله وتحقيق السنن الإلهية


بين تعجل نصر الله وتحقيق السنن الإلهية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ

23 / 12 / 1434 هـ
28 / 10 / 2013 م
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(يحيى البوليني)
ــــــــــــــــــــــ




حينما تشتد المحن على أهل الحق وتزدحم عليهم صنوف الابتلاء ويرون أنهم ضحوا بكل ما يملكون في سبيل نصرة هذا الحق وتحملوا غاية ما يستطيعون , تتطلع أعينهم إلى السماء ينتظرون رحمات تثبت قلوبهم وتعينهم على الطريق.

لكنهم حالة كونهم في محنتهم منتظرون لتفريج كربتهم يتعرضون لألم من نوع خاص , فهم بين إيمانهم بصدق الآيات الكريمة التي تثبت نصرة الله للمؤمنين ودفاعه عنهم ويقينهم بصدق وعد الله بالفرج وتأييد الحق وإعلاء كلمته ممن جهة , ومن جهة أخرى حين لا يرون - بحسب رؤيتهم الذاتية - بصيص أمل نحو تحقيق النصر ولا يجدون اقترابا لأدنى ملمح من ملامحه , فيخشون أن يكونوا قد انحرفوا عن بعض الطريق أو فرطوا في شئ من الثوابت ولذلك لا يستحقون ان يكونوا من الجيل الذي يتنزل عليه النصر لتقصير منهم.

إنه ألم من نوع خاص لا يعرفه إلا المؤمنون عندما تضطرب بعض نفوس إخوانهم ليس شكا في المنهج ولا في صدق من بلّغه , ولكن انتظارا وتعجلا لتحقيق وعد الله , وشفاء لما في صدروهم من الجروح التي جرحوها من أعداء الله.

ويجهل أعداؤهم كنه هذا الألم, فيظنون أن المؤمنين يتألمون من طول الطريق ومن عناء الابتلاءات أو يتبرمون من قضاء الله فيهم أو الم بهم شك في غاية الطريق أو صحته. وقد يظن البعض أن طول الطريق وتأخر النصر عن المؤمنين علامة على عدم رضا الرحمن عن مسلكهم ولا عن طريقتهم "".

وينتظر بعض المؤمنين لحظة النصر لا لتحقيق نفع دنيوي ولكن لكي يروا تحققه على أيديهم, ليحققوا الغاية التي يتمنوها , ولتشفى صدورهم ممن ظلموهم وليروا أعداء الله المتعاظمين المتجبرين المتكبرين, يرونهم صاغرين أذلة , ويرون العزة ماثلة أمامهم لله ولرسوله وللمؤمنين . "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ".

ويتصور بعض المؤمنين أنه من تمام الوعد الإلهي بتحقق النصر أن يتحقق على أيديهم وفي حياتهم , ويروه بأعينهم , ولهذا يبتهجون باقترابه , ويحزنون على ابتعاد تحقيقه أمام اعينهم , وتتعلق قلوبهم باللحظة الأخيرة وخاصة لمن يتعرض للآلام الكثيرة المتعاقبة , فيدعو الله بتعجيل نصره وبتفريج كرب المؤمنين كما جاء خباب بن الارت رضي الله عنه وهو الذي كان يلقى أذى في مكة ( فقد كان مسترقا عند أم أنمار بنت سِباع الخزاعية التي كانت تعذبه بالحديد والنار, فكانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره ورأسه وكان قومها وأتباعهم من المشركين يلوون عنقه ويجذبون شعره ويلقوه في النار ويسحبوه عليها فما يطفئها إلا شحم ظهره, فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانا) , فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في جوف الكعبة ليشكو له ما به " فقال: (شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا ؟، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)[1].

لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم من شكوى الخباب, فله الحق أن يشكو من مصابه وألمه , وقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ارحم عليهم من آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم, ولكنه عتب على المستعجلين للانتصار المتعجلين لقطف الثمار , وعتب على من ضاقت صدورهم بتأخره , ومن تصور انه لابد لكل مسلم ان يرى النهاية السعيدة المنتظرة , يراها في حياته ويشهدها بنفسه ويحزن إن غابت أو ابتعدت عنه.

يغضب لأن عددا من المسلمين لا يتصور طبيعة المعركة وأنها ليست معركة بسيطة تنتهي في زمن قليل , فهي المعركة الأولى والأخيرة في حياة البشرية, هي معركة بين الحق والباطل , وأن هذه الحرب حرب وجود وبقاء , لا تنتهي إلا بإزاحة أحدهما للأخر وإنهاء وجوده, ولهذا سيطول أمد المعركة وما كل جيل من أجيال الأمة إلا حلقة واحدة من حلقات سلسلة الصراع الذي بدأ من بداية الخليقة بين الشيطان وأوليائه وبين أهل الحق , وهي معركة لن تنتهي إلا بنهاية الخليقة لان الفرصة التي َمنحت للشيطان هي إلى يوم يبعثون "قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم".

ويغضب النبي صلى الله عليه وسلم لان استبطاء النصر يورث الحزن وينبت الوهن في النفوس , وأن ضمان ثبات القلوب والأقدام –بعد العقيدة الراسخة في الله سبحانه– في المعرفة الكاملة لتبعات الطريق وآلامه وغايته ومنتهاه والفهم الدقيق لطبيعة المعركة وسمات العدو وأساليبه.

وهنا لابد للمؤمنين جميعا أن يوقنوا بأنه لا تلازم بين حياة المسلم وتحقيق الغايات, كما أنه ليس في كل تأخير لتحقيق النصر انحراف أو زيغ من المؤمنين, فنواميس الكون لابد وأن تجري ولابد لسنن الله أن تمضي, فللنصر سنن وقوانين على المستوى العام والخاص, ولا يعجل الله عز وجل بعجلة أحدنا.

وعلى سبيل المثال, فعلى مستوى من سبقونا من أفاضل هذه الأمة المسلمة من أنبيائها وعلمائها وخيارها ومن هم الأسوة الصالحة لنا, وذلك منذ بداية دعوة الإسلام, لا نجد كثيرا منهم شهد تحقق نصر الله في حياته, فقد عانى موسى عليه السلام ما عاناه مع فرعون ثم مع بني إسرائيل ولم يطعه اليهود ولم يدخلوا القرية المقدسة التي أمرهم بالدخول فيها "قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ" فانتهى أمره بأن قال لربه "قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ" ومات موسى وهارون عليهما السلام وبنو إسرائيل في التيه, فلم يدخلا القرية المقدسة ولم يريا تحقيق النصر على أيديهما.

وقتل زكريا عليه السلام كما قتل عدد كبير جدا من الأنبياء ولم يروا نصرا, وقتل يحيي عليه السلام ورفع عيسى عليه السلام للسماء وهم على الأرض يقتلون شبيها له يظنونه هو, وما رأي عيسى عليه السلام تحقق النصر على يديه أو في حياته.

وقتلت سمية في التعذيب الشديد , وقتل زوجها عامر ولم يشهدا مصرع قاتلهما فرعون الأمة أبي جهل, وقتل مصعب الذي كان أندى وأعطر فتى في مكة ولم يجدوا ما يكفنونه به, فعن خَبَّابٍ قَالَ "هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا وَإِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا ثَوْبًا كَانُوا إِذَا غَطَّوْا بِهِ رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا غَطَّوْا بِهِ رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَطُّوا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ"[2].

نعم في مثل محنة خلق القرآن نذكر جميعا إمام أهل السنة الإمام أحمد ونذكر ثباته وصموده في وجه الفتنة وحده حتى انقشعت وزال طغيان ابن أبي دؤاد مسعر الفتنة وعلت السنة مرة أخرى ودحرت البدعة فجزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين, نذكر هذا عندما نريد أن نتمثل لحظة نصر الأمة ونريد أن نشهدها بأعيننا.

لكننا في نفس الوقت يغيب عن أذهاننا في هذه المحنة ذكر رجال آخرين ثبتوا على طريق الإمام أحمد وماتوا على الطريق فلم يتراجعوا, وثبتوا على قول الحق لكنهم ما شهدوا نصرة الحق في حياتهم, مثل الإمام أبي عبد الله أحمد بن نصر الخزاعي الذي قتله الواثق لرفضه القول بخلق القرآن ثم قطع رأسه وصلبها مدة طويلة.

ومنهم أيضا محمد بن نوح الذي مات مقيدا بالسلاسل في سبيل قولة الحق الذي أمر المأمون بحمله هو والإمام أحمد إليه في طرسوس فحملا إليه بأغلالهما فأما محمد بن نوح فمات في أثناء الطريق قبل أن يصل وأما الإمام أحمد ومرافقوه فبلغهم وفاة المأمون قبل وصولهم فعادوا إلى بغداد, فمات محمد بن نوح في قيده ولم يشهد انتصار الحق واستعلائه على الباطل المنتفش.

المسئولية جماعية والحساب فردي

إن تحقيق الأهداف الإسلامية تتطلب العمل بجهود فردية حينا ومجتمعة أحيانا أكثر, ولكن هذه المسئولية الجماعية تنتهي عند حد واحد وهو أداء كل فرد لما يقع عليه من مسئولية. وحين يلقى الإنسان ربه سبحانه لن يسأله عن تحقيق الأهداف الإسلامية العامة بل سيحاسبه عما قدم هو تجاه ما كلفه الله من أعمال , فمسئولية تحقيق نصر الأمة ستظل دوما مسئولية جماعية تقع على أفراد الأمة جميعا كل بحسب طاقته ومسئوليته, لكن الحساب سيكون فرديا فلينظر كل منا فيما قدمت يده وليبحث عن حلول تجاه تقصيره هو ككيان فردي تصب جهوده في صالح جهود الأمة وتعرقل معاصيه وآثامه وتقصيراته مسيرة الأمة نحو تحقيق أهدافها الكبرى.



--------------------------------------------


[1] رواه البخاري، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع": 4450
[2] رواه الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ

----------------------------------------
{التأصيل للدراسات}
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59