عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 11-11-2012, 01:59 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي جنايات أرسطو في حق العقل و العلم







جنايات أرسطو في حق العقل و العلم
- مظاهرها ،آثارها ، أسبابها-
- قراءة نقدية لكشف جرائم أرسطو في حق العقل و العلم -






الأستاذ الدكتور
خالد كبير علال
دار المحتسب
-الطبعة الأولى- الجزائر-
1432/2011









لتحميل الكتاب اضغط على الرابط التالي
- جنابات أرسطو في حق العقل والعلم: مظاهره، آثارها، أسبابها - د. خالد كبير علال

حجم الملف 17 تقريباً ميغا


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على النبي الكريم محمد بن عبد الله ،و على آله و صحبه ، و من سار على دربه إلى يوم الدين ، و بعد: أفردتُ كتابي هذا لنقد فكر الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس ( ت 322 ق م )) ، قصد الكشف عن جرائمه التي ارتكبها في حق العقل و العلم ، و غابت عن كثير من أهل العلم قديما و حديثا . و قد عنونته ب : جنايات أرسطو في حق العقل و العلم – مظاهرها ، آثارها ، أسبابها - . و قد سميتُها جنايات لأنها ليست أخطاء عادية ، و إنما هي أخطاء غير عادية ،كثيرة و خطيرة و فادحة ، نتيجة انحراف أرسطو عن منطق البحث الاستدلال العلميين ، بقصد و بغير قصد .

و قد اخترتُ الكتابة في نقد الفكر الأرسطي بالطريقة التي اتبعتها في كتابي هذا ، لأنها أصبحت أمرا ضروريا لابد منه لأمرين أساسيين: الأول هو أنه على الرغم ما أظهرته العلوم المعاصرة و بعض الدراسات النقدية الحديثة الجادة من كثرة أخطاء أرسطو و انحرافاته المنهجية ، و خطورته على العقل و العلم ، فإن التيار الأرسطي المعاصر نهض من جديد على مستويين بارزين : الأول السعي لإعادة الاعتبار للفكر الأرسطي بحق و بغير حق ، و بطريقة غلب عليها التحريف و الغلو ،و التدليس و التغليط من جهة . و إغفال و طمس و تبرير الجوانب السلبية من فكر أرسطو من جهة أخرى . و من مُمثلي هذا التيار: الباحث مُصطفى النشار في كتبه التي أصدرها حول فكر أرسطو و الفلسفة اليونانية ، منها: نظرية العلم الأرسطية ،و نظرية المعرفة عند أرسطو .

و المستوى الثاني هو تبني الرشدية الحديثة للفكر الأرسطي ، لأنه هو الأرضية التي يقوم عليها الفكر الفلسفي عند ابن رشد الحفيد .و بما أنه لا فكر رشدي دون فكر أرسطي ، وجدت الرشدية الحديثة نفسها مُضطرة لتبني الفكر الأرسطي و الدفاع عنه بحق و بغير حق . و من ممثلي هذا الاتجاه محمد عابد الجابري و مدرسته ، و قد أظهر ذلك صراحة في كتابيه : تكوين الفكر العربي ، و بُنية الفكر العربي .

و أما الأمر الثاني فمفاده أنه بما أن ما قام به هؤلاء فيه إفساد كبير للعقل و العلم ،و فيه تحريف لكثير من حقائق التاريخ ،و فيه غلو في تعظيم أرسطو و التعصب له بالباطل ، و فيه إحياء لأفكار دهرية شركية صابئية تفسد الفكر و السلوك ،و فيه إخفاء كبير لسلبيات و أخطاء و انحرافات فكر أرسطو ؛ فقد أصبح من الضروري التصدي لهم و للفكر الأرسطي بهدم أُسس فكر أرسطو ، هدما علميا يقوم على الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . و بهذا يُشل هذا التيار من أساسه بانتقادنا للفكر الأرسطي من جهة ،و يأخذ فكر أرسطو مكانه الذي يستحقه بلا إفراط و لا تفريط من جهة أخرى .

و أما لماذا كتبتُ في هذا الموضوع الفلسفي ،و أنا مُتخصص في التاريخ الإسلامي ؟ . فالجواب واضح ، هو أن تخصصي الدقيق ليس في التاريخ الإسلامي عامة،و إنما هو في التاريخ الفكري للفرق الإسلامية ، و الفكر الفلسفي عند المسلمين جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ من جهة ،و هو امتداد للفكر الفلسفي اليوناني من جهة أخرى . و لا يمكن نقد الفكر الفلسفي عند الفلاسفة المسلمين نقدا صحيحا و كاملا إلا بدراسة الفكر اليوناني عامة و الأرسطي خاصة .

هذا فضلا على أن من حق أي باحث أن يكتب في أي موضوع إذا كان مُطلعا عليه ،و مُتمكنا منه ،و لا يُشترط فيه أن يكون مُتحصلا على شهادة علمية تشهد له بتخصصه في الموضوع الذي كتب فيه. فليست الشهادة هي التي تُكسب العلم و الكفاءة ،و إنما العمل و الاجتهاد هما اللذان يُكسبان العلم و الكفاءة العلمية . فكم من إنسان له شهادة في تخصص ما ، لكنه عاجز أن يكتب فيه مقالا نقديا واحدا !! . و لا يحق لأي إنسان أن يحتكر علما لمجرد أن له شهادة فيه ، فمن حق غيره أن يكتب فيه ما دام قادراً على الكتابة فيه . و من يُصر على الإنكار عليَّ ، فأنا لن أتراجع عن موقفي ،و بيّني و بينه الدليل ، لا الشهادات و لا التخصصات ، و لا الأشخاص و لا الألقاب.

و أما فيما يخص منهجي في نقدي لأرسطو و فكره ، فسأكون صارما بالحق و لا أتعاطف معه ،و لا أبحث له عن الأعذار و المُبررات ،و لا أُدَلِلَه كما دلّلَه المدلول . لكني من جهة أخرى لا أكذب عليه ،و لا أُحرّف كلامه ،و لا أُحمّله ما لا يحتمل . فهذا حقه عليَّ الذي تفرضه الموضوعية و الأمانة العلمية .

و سأعتمد في نقدي لأرسطو و فكره على ثلاثة أصول صحيحة ، منها أنطلق و إليها أَحتَكِمُ ، هي : الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح .

و أما بالنسبة للمصادر التي اعتمدتُ عليها في كتابي هذا فقد حرصتُ على الاعتماد على كتب أرسطو أولا ، فإذا تعذر عليّ الرجوع إليها اعتمدتُ على الكتب المتخصصة في الفلسفة اليونانية عامة ،و الأرسطية خاصة . ثم بعدها اعتمدتُ على المصنفات الفلسفية و التاريخية العامة التي تُفيد في موضوع كتابي هذا ، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . كما رجعتُ إلى كتب أخرى متنوعة استفدتُ منها في ردودي و انتقاداتي لمختلف قضايا الفكر الأرسطي في الإلهيات و الطبيعيات و الإنسانيات . و هذه المصنفات موجودة في قائمة المصادر و المراجع ، في آخر الكتاب ، لم أر كبير فائدة في أعادة ذكرها هنا ، فمن أرادها فهي في قائمة المصادر و المراجع .

و أُشير هنا إلى أن بحثي هذا لم أُقمه على اصطياد و انتقاء مجموعة مُتفرقة من أخطاء أرسطو ، ثم نفختها و جعدتها ، و إنما هو عمل علمي شامل لأعمال أرسطو أقمتُه على قاعدة عريضة و أساسية من أخطاء أرسطو و انحرافاته المنهجية في كل مجالات العلوم التي كتب فيها . و هي قاعدة تضمنت مئات الأخطاء و الانحرافات و الجنايات ، ذكرتها – مع كثرتها- كعينات فقط من باب التمثيل لا الحصر ،و ضربتُ صفحا عن أخطاء أخرى كثيرة جدا . و أنا في عملي هذا لا أدعي الكمال ، فهو عمل بشري عرضة لمختلف الأخطاء و النقائص ، كغيره من أعمال الإنسان الأخرى . لكنني اجتهدتُ قدر المستطاع لبلوغ الهدف المنشود ،و يبقى المجال مفتوحا للاعتراضات و الانتقادات و الزيادات .

و أخيرا أسأل الله سبحانه و تعالى التوفيق و السداد ،و الإخلاص في القول و العمل ، و هو الموفق لما يُحبه و يرضاه ، و على الله قصد السبيل .
أ ، د : خالد كبير علال
1432 ه/ 2011م – الجزائر-


















الفصل الأول
مظاهر جناية أرسطو على العقل و العلم في الإلهيات

أولا: الله تعالى في فلسفة أرسطو
ثانيا: نشأة الكون و مكوناته في فلسفة أرسطو
ثالثا: حركة الكون في فلسفة أرسطو
رابعا : الغائية و الوظيفية في الكون عند أرسطو
خامسا: مصادر إلهيات أرسطو














مظاهر جناية أرسطو على العقل و العلم في الإلهيات

اتخذ الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس (ت 322 ق م ) مواقف فلسفية كثيرة تتعلق بالجانب الإلهي من هذا العالم ، كوّن بها نسقا فكريا ، و شرحها- من خلاله- ،و أقام عليه فكره المتعلق بالعلوم الطبيعية و الإنسانية. فما هي أساسيات إلهياته ؟ ، و ما هي مظاهر جناياتها على العقل و العلم .
أولا : الله تعالى في فلسفة أرسطو :
أطلق أرسطو على الله سبحانه و تعالى اسم : المحرك الذي لا يتحرك ، و هو عنده جوهر أزلي مفارق للمادة ، غير متحرك بالضرورة . و هو المبدأ الذي يتوقف عليه الكون ، و العقل الأول و المحرك الأول . و لا بد أن يكون بطبيعته لا يتحرك ،و القول به أمر ضروري ، لأن تسلسل المحركات إلى ما لا نهاية هو محال ، فلابد إذن من أن تنقطع السلسلة عند محرك أول لا يتحرك . و هو أسمى الموجودات ، و لا يُوجد عنده معقول أسمى من ذاته ، فهو عاقل و معقول[1] .

و قال فيه أيضا : (( فإن كان الإله كحالنا في وقت ما فذلك عجب ، و إن كان أكثر ، فأكثر عجبا فله كذلك . و هو حياة ، لأن فعل العقل الحياة ،و ذلك هو الفعل. و العقل الذي بذاته ، و له حياة فاضلة و مؤبدة . فنقول إن الإله حي أزلي في غاية الفضيلة ، فإذا هو حياة ، و هو متصل أزلي ، و هذا هو الإله ))[2] .

و قال أيضا : (( كل متحرك فواجب ضرورة أن يكون يتحرك عن شيء ما ... و لما كان المتحرك يتحرك عن شيء فواجب ضرورة أن يكون كل متحرك أيضا في مكان ، فإنما يتحرك عن غيره . و المحرك أيضا عن شيء آخر ... إلا أن ذلك ليس يمر بلا نهاية ، بل لابد من أن يقف عند شيء ما ، هو أولا سبب الحركة ))[3] .

و وصف الله تعالى بأنه هو مبدأ الموجودات و أولها ، و غير متحرك بالذات و لا بالعرض ، و هو محرك الحركة الأولى الأزلية[4] . وذكر أن المعقول عند الناس ليس هو العاقل ، لكن العقول التي ليست من الهيولى- و هي الإلهية- فإنه يلزم أن (( يكون المعقول منها، و العقل ،و فعل العقل شيئا واحدا بعينه))[5] .

و من ذلك أيضا أنه قال : المحرك الذي لا يتحرك متصف بالكمال لكنه خالٍ من القوة و ما تنطوي عليه من قابلية التحرك أو الصيرورة ، فهو المحرك الذي لا يتحرك، لأنه لو كان ينطوي على أي قدر من القوة لامكن انقطاع الحركة ،و هو محال ، فأوجب وجود محرك لا يتحرك ، حرّك المتحرك الأزلي الذي هو السماء الأولى- الفلك المحيط [6] .

و إله أرسطو لا يفعل شيئا أبدا ، و ليست له رغبات ، و لا إرادة و لا هدف ،و هو (( حيوية خالصة ، لدرجة أنه لا يعمل أبدا ،و هو كامل كمالا مُطلقا ؛ لذلك ليس بمقدوره أن يرغب بأي شيء ؛ فهو لا يفعل شيئا ، و عمله الوحيد هو التفكر في جوهر الأشياء ... فإن وظيفته الوحيدة هي التفكر في ذاته ))[7] .

و زعم أرسطو أنه يستحيل على ذلك الإله أن يُدرك غير ذاته ، لأن القول بخلاف ذلك يعني أن الإدراك مرتبط بشيء آخر غير الذات الإلهية ، يتوقف عليه ذلك الإدراك. كما أن إدراكه للعالم المتغير يُؤدي إلى تغير في المدرك له ، و هو الإله . و كما أن ذلك الإدراك يعني وجود شيء أشرف من جعل الإدراك هو موضوعه-أي ذاته – و لا يجعل الإله أفضل الموجودات ،و لم يكن وجوده أفضل الوجود ، و إنما هو قوة قابلة للإدراك . و بما أن الإله عند أرسطو فعل محض وجب أن (( ثمة أشياء لا يُعقل أن يُدركها العقل الإلهي )) ، و عليه فإن (( العقل الإلهي يُدرك ذاته لأنها أفضل الموجودات ، فهي إذاً إدراك بلا إدراك ، أو عقل للعقل ))[8] .
و إله أرسطو ليس هو صانع العالم ،و لا يعلم عنه شيئا، و لا يُعنى به ، فهو عله غائية للعالم ، لأنه معشوق له و ليس علة فاعلة له . فهو يفعل ضرورة لا اختياراً ، و يتأمل ذاته أزليا ، فهو إذن العقل و العاقل و المعقول[9] .

و يرى أرسطو أن الإله بما أنه عقل فهو إما أن يكون (( عاقلا لذاته أو لشيء آخر ... و إن كان عاقلا لشيء آخر فما يخلو أن يكون عقله دائما لشيء واحد ، أو لأشياء كثيرة . فمعقوله على هذا منفصل عنه ، فيكون كماله إذن لا في أن يعقل ذاته لكن في عقل شيء آخر . إلا أنه من المحال أن يكون كماله بعقل غيره ، إذ كان جوهرا في الغاية من الإلهية و الكرامة و العقل. و لا يتغير فالتغيرّ فيه انتقال إلى الأنقص،و هذا هو حركة ما ، فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل لكن بالقوة ... و إذا كان هكذا – أي الوجود بالقوة- فلا محالة يلزمه الكلال و التعب من اتصال العقل بالمعقولات . و من بعد فإنه يصير فاضلا بغيره كالعقل من المعقولات ، فيكون ذلك العقل في نفسه ناقصا و يُكمل بمعقولاته . و إذا كان هذا هكذا فيجب أن نهرب من هذا الاعتقاد بها . مالا يُبصر بعض الأشياء أفضل من أن يُبصر))[10] .

و أُشير هنا إلى موقف ابن رشد مما قاله أرسطو و دفاعه عنه في قوله السابق ، فأنكر أن يكون أرسطو جعل الإله جاهلا بغيره ، و لا أنه يعلم الكليات دون الجزئيات ؛ ثم قال : (( و الحق أنه من قِبل أنه يعلم ذاته فقط يعلم الموجودات بالوجود الذي هو علة في وجوداتها . مثال ذلك من يعلم حرارة النار فقط فإنه لا يُقال فيه : إنه ليس له بطبيعة الحرارة الموجودة في الأشياء الحارة علم ؛ بل هذا هو الذي يعلم طبيعة الحرارة بما هي حرارة . و كذلك هو الأول سبحانه هو الذي يعلم طبيعة الموجود بما هو موجود بإطلاق الذي هو ذاته . فكذلك كان اسم العلم مقولا على علمه سبحانه ، و علمنا باشتراك الاسم . و ذلك أن علمه هو سبب الموجود ، و الموجود سبب لعلمنا ، فعلمه سبحانه لا يتصف بالكلي ،و لا بالجزئي ، لأن الذي علمه كلي فهو عالم للجزئيات التي هي بالفعل بالقوة ، فمعلومة ضرورة هو علم بالقوة ، إذ كان الكلي إنما هو علم الأمور الجزئية ، و إذا كان الكلي هو علم بالقوة و لا قوة في علمه سبحانه ، فعلمه ليس بكلي ، و أبين من ذلك ألاّ يكون علمه جزئيا ، لأن الجزئيات لا نهاية لها ،و لا يحصرها علم ، فهو سبحانه لا يتصف بالعلم الذي فينا ،و لا بالجهل الذي هو مقابله ، كما لا يتصف بهما ما شأنه ألاّ يُوجد فيه واحد منهما . فقد تبين إذاً وجود موجود عالم لا يتصف بالعلم الذي فينا ،و لا بالجهل الذي فينا ،و لا يُغاير وجوده علمه ))[11] .

و أقول : إن معظم ما قاله أرسطو عن الإله غير صحيح ،و قد وقع في أخطاء فادحة ، منها ما يُضحك ، و منها ما تُثير الاستغراب و التعجب ، و منها ما يشهد قطعا على أن أرسطو لم يكن على منهج صحيح في تناوله لموضوع الألوهية . و الدليل على ذلك الشواهد الآتية:
أولا : إنه لا يصح القول بأن الإله لا ينطوي على أي قدر من القوة ، لأنه لا يُمكن أن يكون الإله كذلك ، بدليل الأمرين الآتيين : الأول هو أن من صفات الإله الأزلية الضرورية أنه قوي ، و إلا ما كان ربا و لا خالقا . و هذا أمر بديهي فأرسطو إما جاهل ، أو مُتبع لهواه. و الثاني هو أن الكائن الحي مهما كان نوعه و صفاته فلابد من أن ينطوي على قوة ، و إلا ما كان حيا .
و ثانيا : لا يصح وصف الله تعالى بأنه المحرك الذي لا يتحرك ،و أن القول بذلك ضروري ، لأمرين أساسيين : الأول هو أن الله سبحانه هو الخالق لهذا العالم و ليس هو المحرك له . و الأدلة العقلية و الشرعية و العلمية شاهدة على أن الكون مخلوق و ليس أزليا ،و لا هو مُتحركا فقط[12] . و هذا يستلزم أن نصف الله تعالى بالخالق ، و لا نصفه بالمحرك الذي لا يتحرك .
و الأمر الثاني هو أن صفة الحركة ليست عيبا و لا نقصا، ،و هي من صفات الكائن الحي. فإذا وصفنا الله تعالى بها ، فهي صفة كمال في حقه ،و تليق به سبحانه . و لا يصح النظر إلى هذه الحركة نظرتنا إلى الحركة التي يتصف بها المخلوق ،و هذا هو الخطأ الذي وقع فيه أرسطو ، فنفاها بدعوى أنها نقص و تفيد التغير ، لكنه نسي أو تناسى بأنه وصف الإله بعكس تلك الصفا عندما نفاها عنه ، و هي أنه وصفه بصفة السكون ، فيكون قد شبهه بالجمادات ،و هي صفة نقص لا صفة كمال بالنسبة للمخلوق .
علما بأن كلا من صفتي الحركة و السكون لهما وجهان : نقص ،و كمال ؛ فالمخلوق المتحرك اتصافه بالحركة هي صفة كمال بالمقارنة إلى الكائن غير المتحرك . لكنها مع ذلك قد تكون صفة نقص عندما تكون دليلا على الحاجة ، فيتحرك هذا الكائن ليقضي حاجته ، لأنه لا يستطيع قضاءها دون أن يتحرك . و نفس الأمر ينطبق على المخلوق الجامد ، فهو يستطيع أن يقضي حاجاته جامدا كالأشجار التي تأخذ حاجياتها من الغذاء دون أن تنتقل إلى مكان آخر ؛ لكن بعضها لا يستطيع توفير حبوب التلقيح بنفسها ، لأن الأمر يتطلب تنقلها ،و بما أن هذا غير ممكن في حقها ، فهي في حاجة إلى غيرها ليوفر لها ذلك . فتتدخل مخلوقات أخرى توفر لها ذلك ، من إنسان ،أو طيور ،أو حشرات ،أو رياح .

لكن كل ذلك لا ينطبق على الله تعالى لأن صفاته كلها كمال لا نقص فيها ،و هي صفات أزلية تابعة لذات الله الفعال لما يريد . و منها صفتا الحركة و السكون ، فاتصاف الله تعالى بهما لا نقص فيه أبدا ، و قد دلت النصوص الشرعية على اتصاف الله تعالى بهما في نصوص كثيرة ، على أساس أنه سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } سورة الشورى:11-، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } سورة الإخلاص:1-4- ، و {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } سورة طه:5- ، و {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }سورة الفجر:22 - ، و { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }سورة الأعراف:143- ، و في الحديث الصحيحعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له ))[13] . و بما أن المخلوق الذي يتصف بصفتي الحركة و السكون أكمل ممن يتصف بأحدهما ،و بما أن الله تعالى هو الخالق العظيم المتصف بصفات الكمال و المخالف للمخلوقات ، فإن اتصافه بالحركة و السكون ليس نقصا و لا عيبا و لا عجزا ،و إنما هما صفتا كمال في حقه سبحانه .

و بناءً على ذلك فإنه لا يصح ما زعمه أرسطو من أنه من الضروري أن يكون الإله أزليا غير متحرك . لأن الصواب هو أن يُقال : إنه من الضروري أن يكون الإله أزليا متصفا بكل صفات الكمال التي لا نقص فيها أبدا . و بما أن صفة الحركة ليست نقصا في حقه سبحانه فمن الضروري أيضا أن يكون اتصاف الله تعالى بها هو من كمال ذاته و صفاته .
و أُشير هنا إلى أن من غرائب أرسطو و سفسطاته أنه أكثر التأكيد على أن الإله مُحرك لا يتحرك ، حتى أنه يجعل القارئ يعتقد أن أرسطو يقول بأن هذا الإله هو الذي تولى عملية التحريك عن إرادة و قصد . لكن الحقيقة خلاف ذلك تماما و هي أن إله أرسطو ليس هو المحرك الفعلي و الحقيقي للعالم . و قد سبق أن ذكرنا أقواله في ذلك التي نصت على أنه نفى من أن يكون للإله فعل ، أو علم بغيره ، أو أنه حرّك العالم عن إرادة و قصد ، و صرّح أيضا بأن إلهه كان معشوقا للعالم من دون أي قصد منه و لا فعل . و هذا يعني أنه لا يصح أن يُوصف الإله بأنه المحرك الفعلي و الحقيقي ، لأنه وَصْف فيه تغليط و تدليس و سفسطة . مع أن الحقيقة هي أن الكون-حسب زعم أرسطو- هو الذي تحرك من داخله فكان عاشقا لمعشوقه . و سنزيد هذا الموضوع تفصيلا في المبحث الثالث من هذا الفصل بحول الله تعالى .

و ثالثا إن قول أرسطو:(( كل متحرك فواجب ضرورة أن يكون يتحرك عن شيء ما )) هو حكم عام لا يصدق على كل كائن ، و إنما يصدق على المخلوقات و لا يصدق أبدا على الخالق . و عليه فإنه لا يصح أن يُقال: إن كل كائن لا بد له من بداية ، أو لابد أن يكون حادثا . فهذا لا يصح لأن الكائن قد يكون مخلوقا حادثا ،و قد يكون خالقا أزليا . و نفس الأمر ينطبق على المتحرك ، فقد يكون خالقا أزليا ،و قد يكون مخلوقا حادثا . و عليه فلا يصح قول أرسطو ، و يصح أن نقول : كل متحرك مخلوق فهو حادث بالضرورة ،و كل متحرك خالق فهو أزلي بالضرورة .
و بناء على ذلك فإن قول أرسطو بأن كل متحرك واجب ضرورة أن يتحرك عن شيء قبله ، و هكذا إلى أن يجب أن نتوقف عند محرك لا يتحرك . فهو توقف ذاتي يقوم على الرغبة أكثر مما هو توقف علمي موضوعي صحيح ، لأنه يُمكن أن يُقال : لماذا لا يكون ذلك التأثير المتبادل بين المحرك و المتحرك تأثيرا أزليا دائما أبديا ، على طريقة أرسطو نفسه عندما قال بأزلية العالم و الحركة ، و كونها حركة دائرية[14] ؟ . و بما أن الكون ليس أزليا شرعا و عقلا و علما[15] ، فإن رأي أرسطو لا يصح ،و فرضنا الذي ذكرناه اعتراضا على أرسطو لا يصح هو أيضا . فطريقة أرسطو في طرحه لذلك الموضوع غير صحيحة و يجب تركها و التخلي عنها ،و طرح الموضوع بطريقة أخرى صحيحة توافق الوحي الصحيح ،و العقل الصريح ،و العلم الصحيح ، مفادها : يجب ترك طريقة المحرك الذي لا يتحرك ،و علاقته بالكون الذي حرّكه ،و إحلال محلها مقولة : إن الكون مخلوق ، و لا بد له من خالق خلقه . و عليه فلا المخلوق خالق ،و لا الخالق مخلوق ،و بذلك يتوقف التعليل ،و هو توقف منطقي بديهي ،و لا يصح الاستمرار فيه ، لأنه لا يصح طرح تساؤل : من خلق الخالق ، لأن الخالق ليس مخلوقا ، و لو كان مخلوقا ما كان خالقا ، و بما أنه خالق فهو ليس مخلوقا . فهو الأول و الآخر ، و المتقدم و المتأخر ،و الأزلي و السرمدي الذي ليس قبله شيء ،و لا بعده شيء .

و رابعا إن زعمه بأن الإله خالٍ من القوة مع اتصافه بالكمال، فهو زعم باطل مردود على أرسطو . لأنه من الثابت عقلا أنه لا حي دون قوة ، و لا إله دون قوة . و بما أن الله تعالى هو الحي القيوم ،و إله هذا الكون و خالقه فإنه بالضرورة قوي متين ، لا يعجزه شيء في الأرض و لا في السماء ، فهو سبحانه كما وصف نفسه : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ }سورة هود:66- ، و { الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }سورة الحشر:23 - .
و الحقيقة إن زعم أرسطو بأن الإله خالٍ من القوة ، هو من أغرب أخطائه و أفحشها ،و لا يصح الوقوع فيه أبدأ ، بل هو من أغرب أباطيله و خرافاته و سفسطاته !! . و هو قد تحجج بقوله : لو كان الإله ينطوي على أي قدر من القوة لأمكن انقطاع الحركة[16] . لكنه مبرر لا يصح ، و لا يصدق على الله تعالى ، لأن صفاته تعالى - منها القوة – هي صفات أزلية ،و هو سبحانه فعال لما يريد . و هذا يستلزم عدم انقطاع أو توقف أية صفة من صفاته ، فهو سبحانه الأزلي بذاته و صفاته الفعال لما يريد ،و يخلق ما يشاء و يختار .

و خامسا إن زعم أرسطو بأن الإله لا يعقل- بمعنى يعلم- غيره ،و إنما يعقل ذاته فقط ، بدعوى أن هذا هو الكمال ،و عقله لغيره نقص و لا يصح في حقه . فهو زعم باطل ، و قول مُضحك و مردود على صاحبه . لأن الكمال الكامل الذي يتصف به الله تعالى يستلزم أن يكون كاملا في علمه أيضا ، و هو أنه يعلم ذاته و غيره علما كاملا شاملا لا نقص فيه . لأن الذي يعقل و يعلم ذاته فقط ناقص ،والذي يعقل و يعلم غيره فقط ناقص هو أيضا ،و هذان الأمران لا يصحان في حق الله تعالى ، فهو سبحانه يجمع بين الأمرين ، يعقل و يعلم ذاته و غيره بصفة كمال لا نقص فيها أبدا .
علماً بأن أرسطو قد طرح موضوع علم الله بطريقة ناقصة ، فحصره في احتمالين فقط : إما أن يعقل ذاته ، و إما أن يعقل غيره . و هذا طرح ناقص تضمن احتمالين غير صحيحين ، و غاب عنه الاحتمال الثالث ،و مفاده : أو أنه يعقل ذاته و غيره . و هذا هو الصحيح الموافق للعقل الصريح ،و الوحي الصحيح . فكمال العلم الإلهي يستلزم انه سبحانه يعلم ذاته و غيره علما كاملا شاملا لا نقص فيه .

و أما المبررات التي تحجج بها أرسطو ، فهي لا تصمد أمام المناقشة البديهية الموضوعية . أولها إنه ذكر أن القول بخلاف رأيه يعني أن الإدراك الإلهي مرتبط بشيء آخر غير الذات الإلهية ، يتوقف عليه ذلك الإدراك[17] . و هذا تبرير لا يصح ، لأن إدراك الله تعالى شامل كامل لا نقص فيه ،و الله تعالى غني بذاته غِنى مطلقا ، و ليس مرتبطا بأحد ، و لا تابعا له في ذاته و لا صفاته . و كيف يكون تابعا لغيره ، و كل ما سواه هو من مخلوقاته و مُفتقر إليه ؟؟!! ، و هل يُعقل أن يكون الخالق تابعا لمخلوقاته ؟؟!! . فالصحيح هو أن إدراك الله تعالى ، هو من صفاته الأزلية يدرك به ذاته و غيره إدراكا كاملا لا نقص فيه ،و لا يصح وصفه بما زعمه أرسطو .

و مبرره الثاني مفاده هو أن إدراك العالم المتغير يُؤدي إلى تغير في المدرك له و هو الإله[18] . و هذا اعتراض باطل يدل على أن صاحبه جاهل بالله تعالى ، لأن زعمه هذا يصدق على المخلوق لا على الخالق . فهذا الرجل جعل علم الله كعلم الإنسان يتغير حسب تغير معلوماته ، و توسع معارفه . و قياسه هذا باطل ، لأنه في غير محله . فَعِلم الله تعالى انكشاف تام شامل مُطلق ، لا يحده زمان و لا مكان ،و لا تعوقه حواجز و لا عوالم ،و لا يتصف بالزيادة و لا بالنقصان . و قولنا هذا يُوجبه العقل الصريح ، و قد نص عليه الوحي الصحيح أيضا . فلا يمكن أن يكون إدراك الخالق كإدراك المخلوق ،و لا يمكن أن يكون ناقصا كنقصان إدراك مخلوقاته ،و لا يمكن أن يكون تابعا لها . و أما من الوحي الصحيح فالأدلة على ذلك كثيرة جداً ، منها قوله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ }سورة الرعد:9- ، و {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }سورة التوبة:78- ، و {عالم الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }سورة سبأ:3- ، و {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }سورة طه:7- ، و {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }سورة غافر:19 - .

و أما المبرر الثالث -الذي تحجج به- ، فمفاده هو أن أرسطو ذكر أن إدراك الإله لغيره دون ذاته يعني أنه يُوجد شيء أشرف من إدراكه لذاته ،و هذا عند أرسطو غير مقبول ، مما جعله يزعم بأنه توجد أشياء لا يُعقل أن يعقلها الإله[19] . و هذا اعتراض لا يصح ، لأن الصواب ليس كما قال الرجل ، و إنما هو أن الله تعالى لا يعلم ذاته فقط ،و لا يعلم غيره فقط ، و إنما يعلم ذاته و غيره معا ، يعلمها علما شاملا كاملا ،و هذا هو الأشرف والأكمل ، و الأجدر و الأليق . و نسي أرسطو أو تناسى أن قوله بأن الإله يعلم ذاته فقط ، يتضمن وصفا له بالعجز من حيث أراد أن يُنزهه ، فأخطأ في المنهج و النتيجة.

و أما مبرره الرابع-الأخير الذي تحجج به- فمفاده أن أرسطو ذكر أن عقل الإله لغيره يجعل كماله في غيره لا في ذاته . لكن من المحال أن يكون كماله في غيره ، لأنه جوهر غاية في الإلهية و الكرامة و العقل ، و لا يتغير لأن التغير فيه انتقال إلى الأنقص ، و هذا حركة ما ، فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل ،و إنما بالقوة ،و هذا يُؤدي لا محالة إلى أنه يُلزمه الكلال و التعب من اتصاله بالمعقولات ، فيصير فاضلا بغيره ، و يصبح ناقصا في نفسه ،و يكمل بمعقولاته ، لذا يجب أن نهرب من هذا الاعتقاد ،و ما لا يُبصر بعض الأشياء أفضل من أن يُبصر[20] .
و مبرره هذا غير صحيح ،و هو يندرج ضمن مبرراته السابقة ، و فيه تغليط و تدليس و سفسطة . لأن كمال الله تعالى هو كمال ذاتي أزلي مُطلق ليس تابعا لمخلوقاته في أي صفة من صفاته ،و لا يصح حصر علم الله و إدراكه بين أمرين : إما أن يعلم ذاته ، و إما أن يعلم غيره ، و هذا لا يصح ،و قد سبق أن بينا وجه الصواب في ذلك . فهذا الرجل أمره غريب جدا ، لا أدري هل هو لم يكن يدرك ما قلناه ، أو أنه كان يتعمد القول برأيه السابق الظاهر البطلان ؟ ! .

فعلم الإله و إدراكه و عقله لذاته و لغيره كل ذلك هو من مُستلزمات الألوهية على أساس من الشمولية و الكمال المُطلقين . و لا يصح وصف إدراك الله و علمه بمخلوقاته بأنهما تغير و انتقال و نقص ، فهذا اعتراض صبياني ، أو كلام جاهل بالله لا يعي ما يقول . لأن الله تعالى كامل و أزلي بذاته و صفاته ،و فعال لما يريد ، عالم الغيب و الشهادة ، و علمه شامل كامل مُطلق بلا حدود ، لا تحده حدود الأزمان و لا الأكوان و الأماكن . و قد أوصله جهله بالله إلى أنه زعم أن علم الله بغيره يُوصله إلى التعب و الكلال !!! . و هذا قول مُضحك ،و عورة من عورات أرسطو ،و جريمة من جرائمه في موضوع الإلهيات ، فهل يصح في العقل البديهي أن الله الخالق العظيم يصيبه التعب و الكلال ؟؟!! . و قوله هذا سبقه إلى القول به كفار بني إسرائيل عندما زعموا أن الله عندما خلق الكون تعب فارتاح في اليوم السابع ، فسجل ذلك القرآن الكريم ،و رد عليهم و على أمثالهم ، في قوله سبحانه : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }سورة ق:38- ، و {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }ق38- .
و بناء على ذلك يجب علينا أن نهرب من الاحتماليّن اللذين طرحهما أرسطو ، و لا نهرب فقط من الاحتمال الذي حذّرنا منه ،و لا نرضي بما قرره كحل جزافي ، عندما قرر أن ما لا يُبصر بعض الأشياء أفضل من أن يُبصر . فهذا كلام باطل ، إذا صح في حق بعض المخلوقات ، فإنه لا يصح أبدا في حق الله تعالى الخالق العظيم ، الفعال لما يُريد ، المُتصف بصفات العظمة و الجلال و الكبرياء .
و أما تأويل ابن رشد الحفيد لموقف أرسطو و دفاعه عنه ، فهو تأويل تحريفي لقول الرجل و مصادم له . لأن أرسطو نصّ صراحة على أن الإله يعقل ذاته فقط و لا يعقل غيره ،و قد أشرنا إلى مبرراته التي تحجج بها ،و قرر من خلالها أن الإله يعقل ذاته فقط . و عليه لا يصح لابن رشد و لا لغيره أن يُحرّف كلام أرسطو ،و لا يُقوّله ما لم يقله ،و ما لم يُرده . فلا تأويل مع الكلام الواضح المُحكم القطعي الدلالة .

و ابن رشد قد مارس التأويل التحريفي[21] مع كلام أرسطو ، و هو واضح التهافت ، لأنه عندما قال : إن عقل الإله بذاته يتضمن عقله و علمه بغيره . هو قول لا يصح لأمرين : الأول هو أن أرسطو أعلن صراحة أن الإله لا يعقل إلا ذاته ، فنفى أن يكون يعقل غيرها ،و من ثم سقط الاحتمال الذي تعلق به ابن رشد . و الثاني هو أن القول بأن الإله لا يعقل إلا ذاته ، لا يتطلب ،و لا يستلزم أنه يعلم غيره لأن القول قد نفى ذلك من جهة ، كما أنه حتى إذا أبعدنا النفي ، فإن القول واضح في حصر عقل الإله لذاته ،و من ثم فهو لا يستلزم عقله و علمه بغيره من جهة أخرى .
و أما قول ابن رشد بأن علم الله ليس كليا و لا جزئيا ،و لا يصح وصفه بذلك ؛ فهو زعم باطل ، لأن علم الله تعالى علم شامل كامل ،و مع أنه مُخالف لعلم مخلوقاته ، فإنه بالضرورة العقلية و الشرعية ، أنه سبحانه يعلم بكل ما في الكون بكلياته و جزئياته . و هذا يقوله العقل البديهي ،و نص عليه القرآن الكريم مرات عديدة ، منها قوله سبحانه : {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }سورة التوبة:78- ، و {عالم الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }سورة سبأ:3- ، و {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }سورة طه:7- ، و {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }سورة غافر:19 - .

و فيما يخص قول ابن رشد من انه لا يصح وصف علم الله بأنه علم بالكلي ،و الكلي هو علم بالقوة ،و لا قوة في علمه . فهذا التعليل ينطبق على المخلوق ، لأن علمه يتكون من العلم بالفعل و العلم بالقوة . و أما الله تعالى فعلمه شامل كامل أزلي لا نقص فيه، و لا يصح وصفه بأنه علم بالقوة ،،و قد أصاب ابن رشد في نفي كون علمه تعالى بالقوة . لكنه مع ذلك فهو سبحانه يعلم بكل ما في العالم بكلياته و جزئياته ،و علمه ليس نقصا و لا عيبا ،و إنما هو كمال ما فوقه كمال . لكن علمه بالكلي لا يتطلب ما حذّر منه ابن رشد ، لأن ما حذّر منه ينطبق على المخلوق لا على الخالق .

و لا يصح من جهة أخرى نفي ابن رشد لصفة علم الله بالجزئي ، بدعوى أن الجزئي لا نهاية له . فهذا كلام باطل مُثير للضحك و الاستغراب ، لا يصح و لا يجوز نسبته إلى الله تعالى ،و إنما هو يصدق على المخلوق لا على الخالق . فالله تعالى عالم بكل شيء علما كاملا شاملا مُطلقا لا تغيب عنه جزئيات و لا كليات ،و كلامنا هذا لا يحتاج إلى دليل ، لأنه من بديهيات العقل الصريح و الوحي الصحيح . و ليس صحيحا أن الجزئيات لا نهاية لها ، فهذا زعم باطل بناه ابن رشد على زعم أرسطو القائل بأزلية الكون ،و استمراية الحركة و التوالد أزلاً و أبداً . و هذا زعم لا يصح ،لأن الكون له بداية و ستكون له نهاية[22] ، و هذا يستلزم أن جزئياته محدودة ،و ليست لا نهائية . و حتى إذا افترضنا جدلا أن الكون أزلي ، فإن الله تعالى يعلم بكل جزئياته و كلياته اللانهائية ، لأنه سبحانه علام الغيوب لا يعزب عنه شيء في الأرض و لا في السماء .
و بناء على ذلك فإنه يتضح منه أن ما فعله ابن رشد هو عملية تأويلية تحريفية للدفاع عن موقف أرسطو في نفيه لعلم الله بغيره ،و لم يكن الهدف منه تفسير كلامه تفسيرا علميا موضوعيا صحيحا . فمارس ذلك التأويل التحريفي محاولة منه لدفع الشناعة التي لحقت بأرسطو عندما نفى عن الله عقله و علمه بغيره . و يُؤيد ذلك أيضا تصرف ابن رشد غير العلمي في كلام أرسطو ، و يتعلق بقول أرسطو: (( فلا محالة أنه يُلزمه الكلال و التعب من اتصال العقل بالمعقولات )) . هذا القول لم يذكره ابن رشد في تفسيره لكتاب أرسطو : ما بعد الطبيعة ، فقد نقل كلامه الذي نصّ فيه على أن الإله لا يعقل إلا ذاته ،و أوّله تأويلا تحريفيا كما سبق أن بيناه ؛ لكنه أسقط قول أرسطو المتعلق بالكلال و التعب ((فلا محالة أنه يُلزمه الكلال و التعب من اتصال العقل بالمعقولات )) . هذه العبارة موجودة في النص الأصلي لكتاب ما بعد الطبيعة في مقالة اللام ،و كانت معروفة لدى أهل العلم في العصر الإسلامي ،و قد أوردها الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه درء تعارض العقل و النقل[23] . فلماذا لم ترد عند ابن رشد عندما نقل نص أرسطو ؟! ، و هل أسقطها عمدا ، أو سقطت منه سهوا ؟ ! . الأرجح عندي هو انه تعمد إسقاطها ، لأنه عندما دافع عن أرسطو في موقفه السابق بالتحريف و التغليط ، وجد تلك العبارة مخالفة للعقل و الشرع ، و كاشفة لخطأ أرسطو ، و جالبة له الشناعة ،و ناسفة لدفاعه التأويلي ، أسقطها من النص الذي نقله من كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو . و هذا عمل ليس من العلم ،و لا من الدين ،و لا من العقل في شيء ، و إنما هو عمل تحريفي تغليطي إجرامي .

و أخيرا- خامسا- إن أرسطو قد أقام فكره حول الإله و صفاته على متناقضات ، تشهد بنفسها على ضعف فكره و تهافته ،و بطلان معظمه . فمن ذلك أن أرسطو يقول بوجود أزلييّن ، هما: الإله و العالم ، الأول مُحرك بلا قصد و لا إرادة من دون أن يتحرك ، و الثاني يتحرك بسبب تأثره بالمحرك الذي لا يتحرك ، كتأثر العاشق بمعشوقه من دون تبادل للعشق . و هذا تناقض واضح ، لا يصح في العقل و لا في المنطق ، لأن المفروض بديهة التسوية بين الأزلييّن و الجمع بينهما في الذات و الصفات ، لأنه لا يُوجد أي مبرر منطقي صحيح للتفريق بينهما . لكن أرسطو فرّق بينهما من دون أي دليل صحيح ، إلا رغبته الشخصية ، و هي ليست دليلا ، و إنما هي رغبة تندرج ضمن المزاعم ،و المزاعم ليست أدلة ،و لا يعجز عنها أحد ، و لا قيمة لها في ميزان البحث العلمي الصحيح ، إذا لم تكن معها أدلتها و براهينها الصحيحة .
و المثال الثاني -من تناقضات أرسطو- يتعلق أيضا بالأزليين : الإله و الكون ، الأول لا قوة فيه ، و الثاني فيه قوة ، و هذا تناقض واضح ، و لا يصح القول به . لأنه بما أنهما كائنان حيان أزليان بينهما علاقة كعلاقة العاشق بمعشوقه ، فإن هذا يستلزم أنهما يتصفان بالقوة و الحركة ،و لا يصح التفريق بينهما دون دليل عقلي صحيح . لكن أرسطو لم يلتزم بذلك و فرض رغبته على هذين الأزليين فجعل أحدهما له قوة ، و الآخر لا قوة له . و هذا فعل لا يصح ، و ما هو إلا زعم مردود على صاحبه ،و ليس من العلم و لا من المنطق الصحيح ،و لا من الموضوعية في شيء .


[1] أرسطو : كتاب الطبيعة ، حققه عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة ، القاهرة ، 1965 ، ج 2 ص: 845 و ما بعدها. و ماجد فخري : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 125 ، 131 ، 132 . و ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول، المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، 1958 ، ص: 84، 99 . أرسطو : مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة ، مُلحقة بكتاب أرسطو عند العرب لعبد الرحمن بدوي، ط2 ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1978 ، ص: 3 ، 4 . و أرسطو : مقالة الجما من كتاب ما بعد الطبيعة ،، ملحقة بكتاب الميتافيزيقا لإمام عبد الفتاح إمام ، ص: 267 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي: أرسطو و المدارس المتأخرة ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، د ت ، ج 2 ص: 192 .

[2] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ط1 ، دار إدريس ن سوريا ، 2007 ، ج 3 ص: 316، 317 .

[3] أرسطو : الطبيعة ، ج 2 ص: 733 ، 735 .

[4] أرسطو : مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة ، مُلحق بكتاب أرسطو عند العرب ، ص: 4 .

[5] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 364 .

[6] ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 131 .

[7] ول ديورانت : قصة الفلسفة ، ص: 114

[8] ماجد فخري: أرسطو المعلم الأول ، ص: 100 ، 101 .

[9] علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي: أرسطو و المدارس المتأخرة ، ج 2 ص: 192 ، 201

[10] أرسطو : مقالة اللام من كتاب أرسطو عند العرب ، ص: 9 .

[11] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 367-368 .

[12] سنثبت حدوث الكون و بطلان زعم أرسطو بأزليته ، في المبحث الثاني من هذا الفصل .

[13] البخاري : الصحيح ، حققه محمد زهير بن ناصر الناصر ، دار طوق النجاة1422 هـ ج 2 ص: 53 .


[14] سيأتي توثيق ذلك في المبحثين الآتيين .

[15] سنوثق ذلك في المبحث الثاني من هذا الفصل .

[16] ماجد فخري: الفلسفة اليونانية ، ص: 131 .

[17] ماجد فخري: أرسطو : المعلم الأول ، ص: 100 .

[18] نفسه ، ص: 100 ، 101 .

[19] ماجد فخري: أرسطو ، ص: 100، 101 .

[20] سبق توثيق ذلك .

[21] إن ابن رشد الحفيد معروف بتأويلاته التحريفية ، و عنها أنظر كتابنا : نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد ، و الكتاب منشور ورقيا و إلكترونيا .

[22] سنفصل في موضوع أزلية الكون و خلقه في المبحث الثاني من هذا الفصل .

[23] ج 10 ، ص: 357 ، 377 .
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59