عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-28-2012, 12:02 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

العالم والنص والناقد



منذ ذلك الوقت الذي هجر فيه غلين غولد، عازف البيانو الكندي، مسرح الحفلات الموسيقية حصر عمله بتسجيل الأسطوانات الموسيقية وفي التلفاز والمذياع. وهنالك شيء من الخلاف بين النقاد عما إذا كان غولد دائماً، أو أحياناً فقط، ذلك المفّسر المقنع لهذه المعزوفة على البيانو أو لتلك، ولكن ما من شك في أن أية حفلة موسيقية من حفلاته الآن حفلة خاصة جداً على الأقل. ومن المناسب هنا بحث مثل واحد عن الكيفية التي كان يعزف بها مؤخراً. ففي عام 1970 أصدر أسطوانة من عزفه السيمفونية الخامسة لبيتهوفن بألحان بيانو فرانز ليسْت. وبغض النظر عن الدهشة التي يشعر بها المرء من اختيار غولد اختياره الغريب لهذه المقطوعة (التي بدت أغرب من المألوف حتى له، وهو الغريب جداً أيضاً، لأن حفلاته المثيرة للجدل كانت تقترن سابقاً بالموسيقا الكلاسيكية أو الحديثة وحسب)، فإن هنالك عدداً من الأمور المستغربة حول هذا الانعتاق الخاص. فموسيقا بيتهوفن على ألحان بيانو ليسْت لم تكن من القرن التاسع عشر فقط بل ومن أميز مظاهره أيضاً- إن تحدثنا من زاوية العزف على البيانو- علاوة على أنها ليست مطواعة لتحويل خبرة التناغم الموسيقي إلى مناسبة بهية يستعرض العازف نفسه فيها، لا بل وغزت ميدان الآلات الأخرى لتجعل من موسيقا هذه الآلات مناسبة استعراضية يكشف فيها عازف البيانو عن مهارته. إن معظم الأسطونات تميل عموماً للظهور بمظهر التشوش والغلظة، وذلك لأن البيانو يحاول أغلب الأحيان أن ينسخ جوهر الصوت الأوركستري.
وأما السيمفونية الخامسة على بيانو ليسْت فقد كانت أقل إزعاجاً من معظم الأسطوانات، والسبب الرئيس لذلك كان التألق في تحويلها للعزف على البيانو، ولكن الصوت الذي كان يصدره غولد كان غريباً عليه حتى وهو في أصفى حالاته. فسابقاً كان صوته أصفى من كل أصوات العازفين على البيانو وأكثرها بعداً عن الزخرفة، الأمر الذي أتاح له قدرة فائقة على تحويل الألحان المتصاحبة عند باخ إلى ما يشابه الخبرة البصرية. وهكذا كانت أسطوانة ليسْت أسلوباً مختلفاً تماماً، ومع ذلك توصل بها غولد إلى أقصى درجات النجاح، وبدا بها الآن ليستيا([1]) بمقدار ما كان باخيا([2]) في الزمن الماضي.
ولكن هذا لم يكن كل ما في الأمر. فمع الأسطوانة الأساسية كانت هنالك أسطوانة أخرى تشتمل على مقابلة عادية وطويلة بعض الشيء بين غولد وبين، على ما أذكر، مدير تنفيذي لشركة تسجيلات. لقد قال غولد لمحاوره أن السبب الوحيد الذي جعله يهرب من الحفلات الموسيقية "الحية" كونه تعود عادة سيئة في العزف، تعود على نوع من المبالغة الأسلوبية. ففي جولاته في الاتحاد السوفياتي، مثلاً، كان يلاحظ أن القاعات الضخمة التي كان يمارس فيها العزف كانت تدفعه لتشويه المقاطع الموسيقية في لحن من ألحان باخ -وهنا أوضح بالعزف المقاطع المشوهة- إلى ذلك الحد الذي كان يجعله أكثر فاعلية في "أسر" مستمعيه ومخاطبتهم وهم في شرفات الطابق الثالث. وبعدئذ عزف نفس المقاطع ليبيّن أنه يعزف بمزيد من الدقة وبإغراء أقل حين يعزف الموسيقا بغياب جمهور لسماعه بشكل حقيقي.
قد تبدو على شيء من الحماقة محاولة استنباط التهكمات الصغيرة من هذه الحالة -الأسطوانة والمقابلة وتبيان أساليب العزف دون أي استثناء. ولكنها تخدم قضيتي الأساسية: إن أية مناسبة تتضمن الوثيقة والخبرة الجماليتين أو الأدبيتين، من ناحية أولى، وتتضمن دور الناقد ودنيويته، أو دنيويتها، من ناحية ثانية، لا يمكن أن تكون مناسبة بسيطة.
فاستراتيجية غولد ما هي بالفعل إلا نوع من المحاكاة الساخرة لكل الاتجاهات التي قد نطرقها في محاولتنا التوصل لما يحدث بين العالم وبين الموضوع الجمالي أو النصي. فهنا كان عازف البيانو الذي مثل ذات مرة العازف المتنسك خدمة للموسيقا، وها قد تحول الآن دونما خجل إلى عازف بسيط ذي موقع جمالي أساسي من المفروض به أن يكون أفضل قليلاً من موقع العاهرة الموسيقية. وهذا التصرف يصدر عن ذلك الإنسان الذي يسوّق تسجيل عزفه "أولاً" ومن ثم يضيف إليه، لا مزيداً من الموسيقا، بل ذلك النوع من الحضور الفوري المثير للانتباه مغتنماً فرصته في مقابلة شخصية، وهذا كله مثبت على مادة قابلة للتكرار ميكانيكياً، تلك المادة التي تتحكم بأوضح علامات الحضور الفوري (كصوت غولد وأسلوب التنفج في أسطوانة ليسْت، ونتف مقابلة عادية محشورة مع عزف خلو من التجسيد) تحت قرص أخرس مغمور وفي متناول اليد من البلاستيك الأسود.
إذا خطر غولد على بال المرء لخطرت معه أشياء مماثلة عن ظروف الأداء المكتوب.
فقبل كل شيء هنالك الوجود المادي للنص القابل للاستنساخ الذي تضاعف وتكرر تضاعفه، في أحدث مراحل عصر والتر بينيامين -عصر الاستنساخ الميكانيكي- إلى ذلك الحد الذي تجاوز تقريباً أية حدود قابلة للتصور. فكلتا المادتين، المسجلة والمطبوعة، خاضعتان لبعض القيود القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بمقدار ما يتعلق الأمر بالتطاول الأمني لإنتاجهما وتوزيعهما، غير أن السؤال عن سبب وكيفية توزيعهما فأمر آخر تماماً.
إن الشيء الأساسي هو أن النص المكتوب من ذلك النوع الذي نوليه اهتمامنا ما هو بالأصل إلا نتيجة تعاقد آني ما بين الكاتب والوسيلة. وبعدئذ يمكن استنساخه لمصلحة العالم ووفقاً للشروط المفروضة من العالم وفيه، ومهما كان حجم الاعتراض الذي يبديه الكاتب، أو الكاتبة، حيال ذيوع الكتاب وشهرته، فإن النص ما أن يصبح أكثر من نسخة واحدة حتى يصبح عمل الكاتب في قلب العالم وخارج إطار تحكم الكاتب به.
وثانياً: إن الأداء المكتوب والموسيقي كليهما مثلان عن الأسلوب، بأبسط المعاني وأقلها تبجيلاً لتلك الظاهرة البالغة التعقيد، ومرة ثانية سأستثني اعتباطاً سلسلة كاملة من التعقيدات الطريفة لأصر على أن الأسلوب هو، من وجهة نظر المنتج والمتلقي، العلامة الفارقة، القابلة للإدراك والتكرار وال*****، للكاتب الذي يحسب حساب الجمهور. وحتى لو اقتصر الجمهور على فرد بأم عينه أو اتسع ليكون العالم كله، فأسلوب الكاتب ظاهرة جزئية من ظواهر التكرار والتلقي. ولكن الشيء الذي يجعل الأسلوب قابلاً للتلقي باعتباره توقيع طريقة كاتبه، يتمثل بمجموعة من الميزات المدعوة بأسماء شتى من مثل شكل اللغة أو الصوت أو الفردية المستعصية على الاختزال.
والمفارقة هي أن شيئاً موضوعياً موضوعية نص، أو أسطوانة، يمكنه على الرغم من ذلك أن يترك انطباعاً، أو أثراً لشيء بحيوية وآنية وسرعة زوال "صوت"ما. إن المقابلة التي أجراها غولد توضح إلى حد صارخ وبمنتهى البساطة الحاجة الضمنية الدائمة للتلقي أو التمييز الذي يستدعيه النص حتى ولو كان بأقدم أشكاله المحنطة. وثمة شكل عام من أشكال هذه الحاجة هو العزف المسرحي (أو المسجل) لصوت متحدث يخاطب إنساناً ما في زمان معين وفي مكان محدد. ولذلك فإن الأسلوب، إن حظي بالنظرة التي كنت أنظر بها إليه، يحيّد اللادنيوية، أي الوجود الصامت، الذي لا يرتبط بأي ظرف ظاهرياً، لنص وحيد، فالواقع لا يؤكد أن النص، أي نص ينجو من التدمير الفوري، مجرد شبكة من القوى المتصادمة في غالب الأحيان وحسب، بل ويؤكد أيضاً أن النص في كينونته الفعلية كنص له وجود في العالم، ولذلك فإنه يتوجه إلى كل من يريد أن يقرأ، تماماً كما يفعل غولد من خلال نفس تلك الأسطوانة التي من المفروض بها أن تمثل، في آن واحد معاً، انسحابه من العالم وأسلوبه الصامت "الجديد" في العزف بدون وجود جمهور حي.
ومن المؤكد أن النصوص لا تتكلم بالمعنى العادي لهذه الكلمة. ومع ذلك فإن أي تعارض بسيط مباشر، يقال بأن له وجود جزْم، بين أولاً: الكلام، المقيد بالوضع والإسناد، وثانياً: النص كاعتراض أو إرجاء لدنيوية الكلام، لهو كما أتصور مغلوط ومفرط في التبسيط. وهاكم هنا الكيفية التي يطرح بها بول ريكوير هذا التعارض والتي يقول بأنه جاء بها بقصد التوضيح التحليلي:
إن وظيفة الإسناد في الكلام مربوطة بدور وضعية الحديث ضمن إطار تبادل اللغة نفسها: ففي تبادل الكلام يكون المتحدثان حاضرين أحدهما أمام الآخر، وحاضرين أيضاً في الإطار الظرفي للحديث، لا في البيئة المدركة حسياً وحسب، بل وفي الخلفية الثقافية المعروفة لدى المتحدثين كليهما. فالحديث، فيما يتعلق بهذه الوضعية، يكون له مغزاه الكامل: فالإسناد إلى الواقع ما هو في التحليل الأخير إلا إسناد لذلك الواقع الذي من الممكن تحديده أنه "حول" مثال الحديث نفسه، إن جاز التعبير، فاللغة... وعموم المؤشرات الظاهرية للغة تؤدي دور تثبيت الحديث في الواقع الظرفي الذي يحيط بمثال الحديث. وهكذا فإن المعنى المثالي لما يقوله المرء، في الكلام الحي، ينثني نحو إسناد واقعي، أي نحو ذلك الشيء الذي يتحدث عنه المرء...
ولكن هذه الحالة لا تبقى على حالها حين يحل النص محل الكلام... فالنص ليس بدون إسناد، ولسوف تكون بالتحديد مهمة القراءة، كتأويل، جعل الإسناد أمراً واقعاً، وعلى الأقل، في هذا الإرجاء الذي يكون فيه الإسناد معلقاً، أي أنه مؤجل، يكون النص إلى حد ما "في الفراغ"، خارج نطاق العالم أو بدون أي عالم البتة، ولذلك فمن جراء هذا الطمس لأية علاقة للنص بالعالم، يكون أي نص حراً في إقامة علاقة له مع كل النصوص الأخرى التي تأتي لتحل محل الواقع الظرفي الذي يبديه الكلام الحي(1).
ويرى ريكوير أن الكلام والواقع الظرفي يوجدان بحالة حضور، في حين أن الكتابة والنصوص توجد بحالة تعليق -أي خارج الواقع الظرفي- إلى أن يصار إلى تحقيقها كأمر واقع وتلبس لبوس الحضور من قبل القارئ الناقد، إن ريكوير يجعل هذه الحالة تبدو وكأن النص والواقع الظرفي، أو ما سوف أدعوه بالدنيوية، يلعبان لعبة الكراسي الموسيقية([3]) حيث يعترض الواحد منهما سبيل الآخر ويحل محله وفقاً لإشارات خرقاء إلى حد ما. بيد أن هذه اللعبة تجري في عقل المؤول، وهذا هو الموضع المفروض به أن يكون بلا دنيوية أو ظرفية. فالمؤول الناقد يتقلص موقعه ليصبح موقع تلك البورصة المركزية التي على أرضها تجري الصفقة التي تبين أن النص يعني (س) في الوقت الذي يقول فيه (ص).
وأما فيما يتعلق بما يدعوه ريكوير "بالإسناد المؤجل" فماذا يحل به خلال التأويل؟ بمنتهى البساطة، وعلى أساس نموذج التبادل المباشر، فإنه يعود بعد اكتسابه العافية والتحقق من جراء قراءة الناقد.
إن الصعوبة الأساسية في هذا كله هي أن ريكوير يفترض، دون أدلة كافية، أن الواقع الظرفي ما هو منهجياً وحصراً إلا ميزة الكلام، أو ميزة وضعية الكلام، أو ميزة ما كان الكتّاب يودون قوله لو لم يختاروا الكتابة بدلاً من القول. ووجهة نظري هي أن الدنيوية لا تروح وتجيء، وليست هنا وهناك بتلك الطريقة التبريرية والضبابية التي نعتمدها غالباً لتصنيف التاريخ، والتي هي بمثابة زركشة بيانية في أمثال هذه الحالات كناية عن التصور المبهم المحال القاضي بأن الأشياء كلها تحدث في الزمان. وعلاوة على ذلك فالنقاد ليسوا مجرد شرّاح كيمائيين مهمتهم تحويل النصوص إلى واقع ظرفي أو إلى دنيوية ظرفية، لأنهم هم أنفسهم أيضاً خاضعون ومنتجون للظروف التي نشعر بها بغض النظر عن مقدار الموضوعية الموجودة في مناهج النقاد. إن الشيء الأساسي هو أن النصوص لها طرق في الوجود بحيث أنها حتى في أسمى شكل لها تبقى دائماً فريسة الوقوع في شراك الظرف والزمان والمكان والمجتمع -وباختصار فهي في الدنيا ولذلك فإنها دنيوية(2).
وسواء أبقي النص مصوناً أو نحي جانباً لفترة من الزمن، وسواء أكان على رف في مكتبة أولاً، وسواء أكانت النظرة إليه بأنه خطير أولاً: فهذه الأمور عليها أن تتعامل مع وجود النص في الدنيا، وهذا أمر أكثر تعقيداً من العملية الخاصة للقراءة. إن هذه المضامين نفسها صحيحة بلا شك عن النقاد في قدراتهم كقراء وكتاب في الدنيا.
وإذا كان لاستخدامي التسجيل الذي سجله غولد لسيمفونية بيتهوفن الخامسة أي مقصد مفيد عملياً، فهو إيراد مثال عن شيء شبه نصي له طرائقه في التعامل مع الدنيا، وطرائق عديدة ومعقدة، وأكثر تعقيداً من الحد الفاصل الذي رسمه ريكوير بين النص والكلام.
فهذه التعاملات هي الشيء الذي كنت أدعوه بالدنيوية. ولكن شغلي الشاغل هنا ليس الموضوع الجمالي عموماً، وإنما النص على وجه التخصيص. إن معظم النقاد سوف يؤيدون الفكرة التي مفادها أن أي نص أدبي مثقل بطريقة ما بمناسبته، أي بالوقائع التجريبية البسيطة التي انبثق عنها. بيد أن تصخيم مثل هذه الفكرة أكثر مما تطيق يجعلها تستحق النقد المبرر لأسلوبيّ مثل ميشيل ريفاتير الذي يعمد في كتابه "النص المكتفي ذاتياً" إلى نعت تقليص النص إلى ظروفه بالمغالطة التي على أوثق ارتباط بالسيرة الذاتية أو التركيب الوراثي أو السيكولوجيا أو التشابه الجزئي(3). ولربما أن معظم النقاد يوافقون ميشيل ريفاتير بقولهم نعم، دعونا نتأكد أن النص لا يختفي تحت وطأة هذه المغالطات.
ولكنهم ليسوا على قناعة تامة، وهنا أعبر بالأساس عن رأيي وحدي، بفكرة النص المكتفي ذاتياً. فهل البديل عن هذه المغالطات المتعددة كونٌ نصي سحري وحسب، كونٌ بعده الهام عن المعنى هو، كما يقول ريفاتير، بُعد كله باطني أو عقلاني؟ أفليس هنالك من طريقة للتعامل مع النص وظروفه الدنيوية بإنصاف؟ أو ليس هناك من طريقة للتصارع مع مشكلات اللغة الأدبية إلا ببترها عن المشكلات اليومية الدنيوية التي هي أكثر إلحاحاً بمنتهى الوضوح؟
لقد وجدت طريقة للبدء بمعالجة هذه الأسئلة في مكان غير متوقع، الأمر الذي سيجعلني أميل إلى الاستطراد على ما يبدو. فكروا بذلك المضمار غير المألوف لكم نسبياً، ألا وهو التأمل العربي لعلم اللغة إبان العصور الوسطى. فالعديدون من النقاد المعاصرين مشغولون في التأمل باللغة في أوربا، أي بذلك المركب الذي يتألف من التخيل النظري والملاحظة التجريبية، والذي يسم الفيلولوجيا الرومانسية ونشوء علم اللغة في مطلع القرن التاسع عشر، ويسم كل تلك الظاهرة الغنية التي دعاها ميشيل فوكو باكتشاف اللغة. لكن ومنذ القرن الحادي عشر ظهرت في الأندلس مدرسة صقيلة التحبيك ونبوية على غير توقع من الفلاسفة النحاة المسلمين ممن مساجلاتهم سبقت مماحكات القرن العشرين بين البنويين والمبدئين، وبين الوصفيين والسلوكيين. بيد أن هذا ليس كل ما في الأمر، إذ إن زمرة من علماء اللغة الأندلسيين وجهت نشاطها ضد بعض التوجهات لدى لغويين منافسين كانوا يحاولون قلب مسألة المعنى في اللغة إلى ممارسة ملغزة ورمزية. ومن بين أفراد تلك الزمرة كان ثلاثة من علماء اللغة والنحاة المنظرين وهم ابن حزم وابن جني وابن مداعة القرطبي الذين كانوا كلهم يعملون في قرطبة خلال القرن الحادي عشر، وكانوا كلهم من أنصار المذهب الظاهري، كما كانوا كلهم خصوماً للمذهب الباطني، لقد كان الباطنيون يعتقدون أن المعنى في اللغة مخبوء في صميم الكلمات، ولذلك فإنه لا يتاح إلا كنتيجة للتأويل الباطني، وأما الظاهريون -ونعتهم هذا مشتق من الكلمة العربية التي تعني الواضح والجلي والظاهر، في حين أن نعت الباطنيين يفيد ضمنا الداخلي- فقد كانوا يدافعون عن المقولة التي مفادها أن الكلمات ليس لها إلا المعنى السطحي، أي ذلك المعنى الذي اقترن وترسخ باستعمال وظرف محددين أي بوضع تاريخي وديني.
إن الفريقين المتخاصمين تعود بهما الجذور إلى قراءة النص المقدس، القرآن، وكيفية وجوب قراءته وفهمه ونقله وتعليمه إلى الآخرين من خلال الأجيال المؤمنة اللاحقة، وذلك لأن القرآن حدث، وحدث فريد من نوعه وعلى نقيض الكتاب المقدس (the Bible) . لقد كان الظاهريون القرطبيون يهاجمون مزايدات الباطنيين الذين كانوا يقدمون الأدلة على أن مهمة القواعد نفسها (وهو النحو في اللغة العربية) ما هي إلا دعوة لنسج معاني خاصة في نص إلهي قاطع، ولولا ذلك لما كان إذاً ثابتاً ممنوعاً من التبديل. فبالنسبة لابن مداعة كان من السخف حتى ربط القواعد بمنطق الفهم باعتبار أن القواعد كعلم يتخذ لنفسه أفكاراً عن استخدام ومعنى الكلمات التي تتضمن مستوى خبيئاً تحت الكلمات وميسوراً للملقنين وحسب(4)، وفضلاً عن ذلك كان ابن مداعة يشتط إلى حد الإتيان بأمثال تلك الأفكار من ذكريات ماضي الزمان. فما أن يلجأ المرء إلى مثل ذلك المستوى حتى يصبح أي شيء مباحاً من خلال التأويل: وعندها لن يكون هنالك أي معنى محدد، ولا أي ضابط على ما تقوله الكلمات فعلياً، ولا أية مسؤولة تجاه الكلمات. فالجهد الظاهري كان يحاول، بالعقلنة، استعادة نظام قراءة للنص يتمركز فيه الاهتمام على الكلمات الظاهرية أنفسها، وعلى ما يمكن اعتباره معناها الأوحد والأبدي الذي يعبر عن وضع معين وخلال ذلك الوضع، وليس على المعاني المستترة التي من المحتمل تحميلها لها لاحقاً. إن الظاهريين القرطبيين بذلوا جهوداً حثيثة جداً في محاولتهم، على وجه التخصيص، *** نظام للقراءة يضيق الخناق إلى أقصى حد ممكن على القارئ وظروفه. ولقد فعلوا هذا بالأساس من خلال نظرية عما يجب أن يكون عليه النص.
ليس من الضروري وصف هذه النظرية بالتفصيل، ولكن من المفيد أن نشير إلى كيفية انبثاق الجدل نفسه من نص مقدس نجم سلطانه عن كونه الكلمة غير المخلوقة لله، والكلمة الملزمة لطرف واحد والمنقولة مباشرة إلى رسول في لحظة معينة من الزمن، وبشكل مناقض لهذا فإن النصوص الموجودة في صميم التراث المسيحي/ اليهودي، الذي يتمركز حول سفر الرؤيا، لايمكن إرجاعها إلى لحظة معينة ذات توسط مقدس يفضي بالنتيجة إلى دخول كلمة الله إلى الحياة الدنيا، لا بل على الأصح فإن تلك الكلمة تدخل التاريخ البشري على الدوام، خلال ذلك التاريخ وكقسط منه. ولذلك فإن مكانة هامة جداً تناط بما دعاه آرلاندز "بالعوامل البشرية" في تلقي مثل هذا النص ونقله وفهمه.(5)
وبما أن القرآن الكريم نتيجة حدث فريد من نوعه، فإن "نزوله" الواقعي في دنيوية النص، علاوة على لغته وشكله، أمور يجدر النظر إليها، إذاً، بأنها ثابتة وتامة. وعلاوة على ذلك فلغة النص هي العربية التي تصبح، لذلك السبب، لغة متمتعة بالامتياز، وناقل النص هو النبي (أو الرسول) الذي يتمتع بالامتياز أيضاً - فنص كهذا من الممكن اعتباره أن له أصلاً محدداً تحديداً مطلقاً ومن غير الممكن بالنتيجة إحالته إلى مؤول أو تأويل مخصص، على الرغم من أن هذه الإحالة هي الشيء الذي حاول الباطنيون فعله بمنتهى الوضوح (ومن المحتمل أن تكون هذه الفكرة قد جاءتهم إيحاء جراء تأثير التقنيات التأويلية في الموروث المسيحي/ اليهودي).
إن آرنالدز يورد، في دراسته لابن حزم، وصفه للقرآن بالعبارات التالية:
إن القرآن يتحدث عن أحداث تاريخية، ومع ذلك فإنه ليس بحد ذاته كتاباً تاريخياً، وإنه يكرر تلك الأحداث الماضية التي يوجزها ويخصصها، ومع ذلك فهو ليس بحد ذاته خبرة معاشة عملياً، فضلاً عن أنه يمزق تواصل الحياة البشرية، بيد أن الله لا يدخل الوضع الزمني من خلال فعل معلّق أو مدبر. وإن القرآن يثير ذكريات أفعال مضمونها يكرر نفسه إلى الأبد بطرق متجانسة مع القرآن نفسه من أمثال التحذيرات والأوامر والزواجر والعقوبات والمثويات(6). وباختصار، فإن الموقف الظاهري يتبنى تصوراً عن القرآن كله ظرفي على الإطلاق دون أن يجعل في الوقت نفسه تلك الدنيوية تهيمن على المعنى الفعلي للنص: وهذا كله هو التفادي الحاسم للحتمية المبتذلة في الموقف الظاهري.
وهكذا فإن النظرية اللغوية لابن حزم تعتمد على تحليل صيغة فعل الأمر باعتبار أن القرآن في أقصى مستوياته الكلامية الجوهرية، بناء على هذه الصيغة، نص محكوم بفعلين نموذجيين من أفعال الأمر هما: إقرأ (read or recite) وقل (Tell) (7).
فبما أن ذينك الأمرين يسيطران بكل وضوح على المظهر الظرفي والتاريخي للقرآن (وعلى فرادته كحدث)، وبما أن الواجب بأن يسيطر على استخدامات النص لاحقاً (أي على قراءاته) أيضاً، فإن ابن حزم يربط تحليله لصيغة فعل الأمر بفكرة فقهية عن الحد (hadd) ، الذي هو عبارة عن كلمة تعني الحد القواعدي المنطقي وتعني التخم بآن واحد معاً، إن ما يرشح في صيغة فعل الأمر، بين الأمرين بالقراءة والكتابة، هو الإتيان بلفظة (يقال عنها الخبر في العربية)، وقد ترجمها آرلاندز بكلمة (énancé ، وما هي إلا التحقيق الفعلي لمقصد دليل، أو لنية (niyah) . وهكذا فإن النية الدالة تصبح مرادفة الآن لا للنية السيكولوجية بل حصراً لنية فعلية، تلك النية التي هي نفسها شيء دنيوي جداً -فهي تحدث في الدنيا حصراً، وهي آنية وظرفية بطريقة محددة جداً وبطريقة على أوثق ارتباط بالموضوع أيضاً. فالتدليل على شيء لا يكون إلا باستخدام اللغة وحسب، واستخدام اللغة يعني استخدامها بناء على قواعد معينة للمفردات والإعراب، الأمر الذي يستوجب أن تكون اللغة في الدنيا ومنها أيضاً، ولذلك فإن المذهب الظاهري يرى أن اللغة تحافظ على انضباطها بواسطة الاستعمال الحقيقي، لا بواسطة الأمر المعنوي ولا بالحرية التأملية. وقبل كل شيء تقف اللغة بين الإنسان وبين اللامحدود الشاسع: فإذا كانت الدنيا عبارة عن منظومة هائلة من التشابهات بين الكلمات والأشياء المدركة بالحواس يكون عندها الشكل اللفظي -أي اللغة في استعمالها القواعدي العملي- هو ما يتيح لنا أن نعزل الأشياء المدركة المخصصة عن هذه التشابهات البالغة الترتيب. وهكذا فإن الأمانة لأمثال هذه الجوانب "الحقيقية" للغة هي، كما يقول آرنالدز عنها، نوع من أنواع ممارسة الانضباط الذاتي للخيال(8). فالكلمة لها معنى محدد مفهوم على أنه أمر جازم، وتصاحب ذلك المعنى أيضاً سلسلة تقديرية جداً من التشابهات (التماثلات) لكلمات ومعاني أخرى، أي تلك السلسلة التي تحوم بالتحديد حول الكلمة الأولى. وهكذا فإن اللغة المجازية (كما ترد حتى في القرآن)، ولولا المجاز لكانت ملصة وتحت رحمة المؤول الأمين، تشكل قسطاً من البنية الحقيقية للغة، ولذلك فإنها جزء من جماعية مستخدمي اللغة.
إن ما يفعله ابن حزم، كما يذكرنا آرنالدز، هو تصوره أن اللغة تمتلك ميزتين متناقضتين ظاهرياً: ميزة المؤسسة الصادرة بأمر إلهي، مؤسسة ممنوعة من التبديل، ثابتة ومنطقية وعقلانية وواضحة، وميزة الأداة الموجودة كأمر طارئ صرف، كمؤسسة للدلالة على المعاني الوطيدة في لفظات محددة. ولهذا السبب الذي يجعل الظاهريين ينظرون إلى اللغة بمنظار مزدوج فإنهم يرفضون تقنيات القراءة التي تعود بالكلمات ومعانيها (في العربية على الأقل) إلى الجذور التي قد يظن بأنها مشتقة منها. فكل لفظة هي مناسبتها الخاصة بها ونظراً لذلك فهي راسخة الجذور في البيئة الدنيوية التي تنطبق فيها. ولأن القرآن، الذي هو الحالة المثلى للغة مقدسة وبشرية، هو ذلك النص الذي يدمج التحدث والكتابة والقراءة والإخبار، فإن التأويل الظاهري نفسه يقبل كشيء لا مناص منه لا الفصل بين الكلام والكتابة ولا الانفصال بين نص وظرفيته، على النقيض من ذلك، التفاعل الضروري فيما بين هذه الأمور. وإن هذا التفاعل، التفاعل التأسيسي هو الشيء الذي يجعل من الفكرة الظاهرية الصارمة أمراً ممكناً.
لقد أوجزت بمنتهى العجلة نظرية معقدة إلى حد هائل، ولكن ليس بوسعي أن أدعي أن هذه النظرية كان لها أي تأثير معين في الأدب الأوربي الغربي منذ زمن الانبعاث الحضاري (Renaissance)، ولربما ما كان لها أي تأثير حتى في الأدب العربي منذ العصور الوسطى. ولكن الشيء الذي يجب أن يقع علينا وقع الصاعقة فيما يتعلق بالنظرية بأسرها هو أنها تمثل فرضية محبوكة بإتقان للتعامل مع النص كشكل دليل، وشكل فيه -وسأدلي بهذا بمقدار ما أستطيع من الدقة- الدنيوية والظرفية ومنزلة النص كحدث له خصوصيته الحسية فضلاً عن احتماله التاريخي، أشياء كلها محط الاعتبار بأنها مندمجة في النص، وأنها جزء لا يتجزأ من قدرة النص على إنتاج المعنى وتوصيله. وهذا يعني أن النص له موقع محدد يضع فيه القيود على المؤول وتأويله لا لأن الموقع مخبوء ضمن النص كسرّ، بل على الأرجح لأن الموقع موجود على نفس مستوى الخصوصية السطحية كالموضوع النصي نفسه. هنالك طرائق عديدة لتوصيل مثل هذا الموقع، ولكن الشيء الذي أريد جذب الانتباه الخاص إليه هنا هو الطموح (الذي كان عند الظاهريين إلى درجة كبيرة جداً) من جانب القراء والكتاب أن يدركوا النصوص على أنها تلك الموضوعات التي تأويلها -بفضل دقة مواقعها في الدنيا- قد استهل تواً، وأنها الموضوعات الملجومة واللاجمة للتو بتأويلهم. فأمثال هذه النصوص يصبح من ثم من الممكن الاستدلال على حاجتها في أقصى الأحوال لقراءات تكميلية كشيء مناقض للقراءات الإضافية.
***
إنني أريد الآن أن أبحث بعض تلك الطرائق التي تفرض بها النصوص القيود على تأويلها أو تلك الطريقة، إن قلنا بشكل مجازي، التي فيها قرب هيكل الدنيا من متن النص يجبر القراء على أخذ الاثنين معاً بعين الاعتبار. فالنظرية النقدية الحديثة أكدت توكيداً مفرطاً على انعدام محدودية التأويل. وثمة محاولات تجري الآن للبرهان على المقولة التي مفادها أن كل القراءات مغلوطة، ونظراً لذلك فما من قراءة أفضل من أخرى غيرها، ومن ثم فكل القراءات في التحليل الأخير، مع العلم أن عددها لا محدود على أرجح الظن، ما هي إلا تأويلات مغلوطة على قدم المساواة. إن قسطاً من هذه المقولة اشتق من تصور للنص بأنه موجود في قلب كون نصي هيليني سحري، كونه لا يمت بأية صلة إلى الواقع. بيد أنني لا أوافق على هذا الرأي، لا لأن النصوص موجودة بالفعل في الدنيا بكل بساطة وحسب، بل ولأن النصوص كنصوص تموضع أنفسها -وإحدى مهماتها كنصوص أن تموضع أنفسها- وتبقى بالفعل على ما هي عليه من خلال استقطابها اهتمام الدنيا. وعلاوة على ذلك فإن طريقتها لفعل هذا هي وضعها القيود على ما يمكن فعله بها جراء التأويل.
إن التاريخ الأدبي الحديث يعطينا عدداً من الأمثلة عن كتّاب يبدو نصهم يجسد بإدراك ذاتي الظروف الجلية لموقعه المخيل مادياً، بل والموصوف أيضاً. فثمة نموذج من الكتاب -ولسوف أبحث ثلاثة أمثلة هم جيرارد مانلي هوبكينز وأوسكار وايلد وجوزيف كونراد- يتصور عامداً متعمداً أن النص يحظى بالتعزيز من موقع منطقي يشتمل على المتحدث وجمهور المستمعين، وبذلك يكون التفاعل المقصود بين الحديث والتلقي، بين اللفظية والنصية، هو موقع النص، أي وضعه لنفسه في الدنيا.
أولئك الكتاب الثلاثة الذين ذكرتهم قاموا بعملهم الأساسي بين عام 1875 وبين عام 1915. إن موضوع كتابتهم يتباين تبايناً كبيراً جداً إلى حد يتعذر فيه وجود جوانب تشابه فيما بينها. واسمحوا لي أن أبدأ بافتتاحية صحفية لهوبكينز:
قيل عن الشتاء أنه قاس. كانت هنالك ثلاث موجات من الصقيع المواتي للتزلج، فاثالثة بدأت في 9 شباط. ما من ثلج يمكن التحدث عنه حتى ذلك اليوم. ففي بعض الأيام السابقة للسابع من شباط شاهدت عناقيد الزهور منكوسة الرؤوس. وفي التاسع من شباط تساقط الثلج ولكنه لم يستقر على رؤوس أوراق النبات. وحين نزلنا إلى حقل قريب من مخيم قيصر شاهدته أمامي على شكل طبقات من القذارة، طبقة تحت طبقة، مرسوماً في أطراف متقاطعة وحاملاً "عبارة" على ذلك السفح كله -ليس في جعبتي حتى الآن كلمة أخرى للتعبير عن ذلك الشيء الذي يأسر النظر أو الانتباه بقبضة حديدية أو رسمة حقيقية أو بمعالم بارزة أو، من جديد، بكتابة منقوشة، الشيء الذي لم يكن جمالاً ولا جوهراً حقيقياً ومع ذلك يعطي المتعة ويجعل من القبح حتى أفضل من انعدام المعنى(9).
إن باكورة كتابة هوبكينز تحاول بهذه الطريقة أن تصور مشاهد من الطبيعة بأقصى دقة ممكنة.
ومع ذلك فهو ليس بالناسخ السلبي لأن هذه الدنيا بالنسبة إليه هي "كلمة الله، تعبير أو خبر عنه".
فكل ظاهرة في الطبيعة، كما كتب في القصيدة القصيرة المعنونة بـ "حين تحترق طيور الرفاريف"، تنبئ عن نفسها في الدنيا على شكل وحدة من المفردات: "كل شيء فان يفعل شيءاً واحداً والشيء نفسه/ يطرد كل من يقطن في البيت/ الأنفس- هي نفسها، فذاتي تتحدث وتفتن/ صائحة بأعلى صوتها إن كل ما أفعله هو ذاتي: ومن أجل ذلك جئت"(11). إن معاينة هوبكينز للطبيعة، في مدخل مفكرته، معاينة ديناميكية. فهو يرى في الصقيع نية للحديث أو للإتيان بالمعنى، إذ إن طبقاته المتراكمة تأسر انتباه المرء من جراء العبارة التي تحملها حيال المعنى أو التعبير. إن مقدار استجابة الكاتب هو عين مقدار وصفه كواصف. والقارئ، مثله مثل الكاتب، مشارك كامل في استخراج المعنى كونه مضطراً للفعل كشيء فان، فالإتيان بمعنى ما حتى لو كان قبيحاً يبقى أفضل من انعدام أي معنى.
فديالكتيك الإنتاج موجود في أي مكان في عمل هوبكينز. فالكتابة إخبار، والطبيعة إخبار، والقراءة إخبار. لقد كتب إلى روبرت بريدجز في 21 مايس/ مايو في عام 1878 قائلاً من باب الإنصاف للقصيدة: "عليك ألا تقرأها تكاسلاً بعينيك بل بأذنيك، وكأن الورقة تلقيها خطابياً عليك.. فالنبرة حياة القصيدة"(12). وبعد مضي سبع سنوات حدد بمزيد من الصرامة أن "الشعر هو الطفل المدلل للكلام، له شفتان ولفظ منطوق، والواجب يقضي بنطقه، وإنجازه كاملاً لا يصح إلا بعد نطقه، وإن لم ينجز ذلك فلن يكون هو نفسه. فالإيقاع المتفجر يعيد للشعر روحه وذاته الحقيقيتين. فكما أن الشعر كلام مؤكد، فإن الكلام هو الشيء المطهر من الخبث كالذهب في الفرن. ولذلك يجب أن يكون للشعر المقومات الجوهرية للكلام، وبشكل مؤكد"(13) إن التطابق قريب جداً في ذهن هوبكينز بين الدنيا والكلمة واللفظة، التي تأتي كلها حية بعضها مع بعض كلحظة من لحظات الإنجاز، ولذلك فإنه يتصور أن الحاجة طفيفة للوساطة النقدية. إن النص المكتوب هو ما يوفر الواقع الظرفي الآني "لتلاعب" القصيدة (وكلمة تلاعب من كلمات هوبكينز). فالنص الخاص بهوبكينز كان بالنسبة إليه طفله، وكان نصاً بعيداً جداً عن الوثيقة المقرونة بغيرها من النصوص الميتة اللادنيوية، ولذلك فحين دمر قصائده تحدث عن ذبح الأبرياء، كما أنه في كل مكان يتحدث عن الكتابة على أنها ممارسة موهبته الذكورية. وفي لحظة أقصى درجات توحده في حياته، في القصيدة المعنونة ببساطة "إلى ر. ب." عبر بيولوجيا عن إلحاح شعوره بالجدب الشعري. فحين يأتي على وصف ما يكتبه الآن يقول:
واحسرتاه حينئذ إن افتقدت في أبياتي الفاترة الزخم والعصيان والترنيمة والخلق، فعالمي الشتائي، الذي قلما ينشر عبير تلك النعمة يهبكم الآن، بشيء من التحسر، تعليلنا.(14)
فبما أن نصه قد فقد الآن قدرته على احتواء وطأة الخلق، وبما أنه لم يعد ذلك الإنجاز الكبير بل استحال إلى ما يدعوه في قصيدة لاحقة "بالأحرف الميتة"، فليس بوسعه الآن إلا كتابة تعليل، الذي هو بمثابة كلام ميت "يميل نحو سند حقيقي".
لقد قيل عن أوسكار وايلد بلسان أحد معاصريه أن كل ما كان يتحدث به كان يبدو وكأنه مغلّف ضمن علامتي الاستشهاد. وهذا القول ليس أقل صحة من كل ما كتبه أيضاً، وذلك لأن مثل هذه الحالة كانت النتيجة لاتخاذ وضعية معينة (pose)، الأمر الذي عرّفه وايلد بأنه "إدراك أساسي لأهمية التعامل مع الحياة من منطلق محدد معقول"(15). أو مثلما يكيل آلغرنون الصاع صاعين لجاك حين اتهمه قائلاً: "أنت تحب دائماً أنن تجادل حول الأشياء" فأجابه " ذلك بالضبط ما جاءت الأشياء من أجله"(16)، في مسرحية وايلد المعنونة بـ "أهمية كون المرء جاداً". وبما أن أوسكار وايلد كان على الدوام مستعداً لإطلاق التعليقات الجديرة بالاستشهاد، فقد ملأ مخطوطاته بالأقوال المأثورة عن كل ما يمكن أن يتخيله المرء من موضوعات، إن ما كتبه كان المقصود به مزيداً من التعليق أو الاستشهاد، أو كان المقصود به، وهذا أهم من سابقيه، أن تعود به الجذور إلى وايلد نفسه. ومن الواضح أن هناك أسباباً اجتماعية لبعض هذا الغرور الذي لم يقم وايلد بأية محاولة لإخفائه في سخريته. "إن محبة المرء لنفسه لهي بداية قصة رومانسية طويلة طوال الحياة"، ولكن تلك الأسباب لم تكن لتنوء بعبئها على الفصاحة في أسلوب وايلد. وبعد أن آلى وايلد على نفسه على الاستخفاف بالعمل والحياة والطبيعة نظراً لنقصانها وتناثرها، اتخذ مملكة له ذلك العالم المثالي النظري الذي كانت فيه المحادثة، كما قال لآلفريد دوغلاس في كراسته المعنونة بـ "من الصميم" (De profundis) ، أساس العلاقات البشرية كلها.(17) فبما أن الشجار يعوق المحادثة كما فهمه وايلد من الحوار الأفلاطوني، فإن نمط التحادث كان يجب أن يتخذ شكل القول المأثور، فهذا القول المأثور المقتضب هو، بالمصطلح الذي أطلقه عليه نورثروب فراي، وسيلة الأداء الرئيسة لدى وايلد: لفظة موجزة متراصة قادرة على التعبير عن أطول سلسلة من الموضوعات، وعن أعظم نفوذ، وعن أدنى التباس حيال كاتبها. وحين غزا وايلد أشكالاً أدبية أخرى حولها إلى أقوال أطول من السابقة. وهاكم ما قاله عن المسرحية: "لقد تناولت الدراما، وهي أكثر الأشكال الموضوعية المعروفة للأدب، وجعلت منها أسلوباً شخصياً للتعبير، شأنها بذلك شأن القصيدة الغنائية والقصيدة القصيرة، ووسعت في الوقت نفسه مداها وأغنيتها بالشخوص". ولذلك فليس من المستغرب أن يكون قد قال: "لقد أوجزت كل الأكوان في عبارة، وكل الوجود في قول مقتضب"(18).
إن كراسة "من الصميم" تدون الدمار الذي يحل بالمدينة الفاضلة “utopia” التي كان وايلد قد بشّر بفردانيتها ولا أنانية أنانيتها في كراسته "روح الإنسان في ظل الاشتراكية". فمن حياة مفعمة بالحرية إلى السجن ومعاناة كل أصناف الشقاء، كيف، يا ترى، تأتي إنجاز التغيير؟ إن تصور وايلد للحرية يوجد في "أهمية كون المرء جاداً" حيث تتكشف الشخصيات المتصارعة على أنها أخوة في خاتمة المطاف ولمجرد أنها تقول بأنها أخوة. إن الشيء المدون (كجداول الجنود التي كان يراجعها جاك) لا يفعل شيئاً إلا توكيد كل ما كان قد قيل سابقاً بنزق، ولكن بفخامة.
فهذا التحول من الخصومة إلى الأخوة هو ماكان في ذهن وايلد لربط تكثيف الشخصية بتكاثرها.
فحين يبتلي تبادل الآراء بين البشر بانعدام حرية التحادث، وحين يكون مقيداً بالموافقة القانونية على الطبع وحسب، الأمر الذي يعني تعذر الاستشهاد به بصراحة ويعني أيضاً، لأنه حظي بالتوقيع الرسمي، أنه صار موجباً لإقامة الدعوى الجنائية فإن المدينة الفاضلة تتقوض وتتداعى. وحين أعاد وايلد التأمل بحياته في "من الصميم" تسمّر خياله من هول آثار نص واحد على حياته. ولكنه يورده ليبين كيف أنه في انتقاله من الكلام إلى الطباعة، الأمر الذي تتفاداه بمعنى من المعاني نصوصه الأخرى الأكثر حظاً من ذلك النص، وتفادته كيفما اتفق بفضل تفردها بالاقتضاب، تعرض وايلد للتدمير.
إن حسرة وايلد في المقطع الوارد أدناه تتمثل بأن النص يشتمل على أكثر مما ينبغي، لا على أقل مما ينبغي، من الواقع الظرفي. ونظراً لذلك فإن النص يصبح، بمفارقة وايلدية، عرضة للمخاطر:
إنك أرسلت لي قصيدة جميلة جداً، شعرها من أشعار الطلاب غير المتخرجين من الجامعة، لأبدي استحساني عليها: وهأنذا أجيب برسالة مليئة بالأفكار الأدبية الوهمية.. انظر إلى تاريخ تلك الرسالة. إنها تنتقل منك إلى يدي زميل كريه، ومنه إلى عصابة من المبتزين، ومن ثم نسخ منها تدور في لندن لأصدقائي، وإلى مدير المسرح الذي يجري تمثيل عملي فيه: وكل ما يخطر على البال من تفسيرات توضع فيها إلا التفسير الصحيح: فلقد ثارت ثائرة الجمعية من الإشاعات الخرقاء حتى وجب علي أن أدفع مبلغاً كبيراً من المال لأنني كتبت لك رسالة شائنة: وهذه تشكل صلب أقذع تهجم لأبيك: وإنني سوف أبرز بنفسي الرسالة الأصلية في المحكمة لأكشف لها عن حقيقة الرسالة، ولقد كانت موضع التشهير من قبل محامي أبيك الذي وصفها أنها محاولة خبيثة فياضة بالتمرد لإفساد الناشئة الأبرياء، وفي خاتمة المطاف تشكل هذه الرسالة جزءاً من الإدعاء الجنائي، ينشغل بها التاج، وينظم بها القاضي حكماً بفهم قليل وخلق كثير، وأخيراً أدخل السجن من جرائها. وهكذا تكون النتيجة لكتابتي لك رسالة رائعة(19).
ففي هذه الحياة الدنيا التي وصفها جورج إليوت([4]) بأنها تشبه "الصالة الهائلة الفياضة بالمهموسات" يمكن لآثار الكتابة أن تكون خطيرة فعلاً: "وإنها كذلك الحجر الذي ما فتئت تتقاذفه أرجل أجيال وأجيال من الفلاحين والذي قد ينكشف عن حلقات متصلة صغيرة وعجيبة لأثر ما تحت عيني ذلك العالم الذي من خلال جهوده قد يحدد في خاتمة المطاف تاريخ الغزوات ويكشف أسرار الديانات، وكذلك شيء من الحبر على تلك الورقة التي ظلت ردحاً طويلاً من الزمن كغطاء بريء أو بديلاً مؤقتاً لشيء ما يمكن أن تتفتح أمام زوج واحد من العينين اللتين توفرت لهما من المعرفة ما يكفي لتحويل تلك الورقة إلى بداية كارثة"(20) فلئن كان لاحتراس دكتور كاسوبون([5]) أي هدف على الإطلاق فإنه، بسرية مطلقة ووصية بخط اليد توصي بالتأجيل الأبدي، إحباط بداية كارثة. ومع ذلك لا يستطيع النجاح لأن إليوت على أحر من الجمر كي يبين أن ملحق الوصية، حتى الملحق الذي كان في حرز حريز، ما هو إلا نص ولذلك فإنه في الدنيا. إن العار الذي لحق بكاسوبون، على نقيض العار الذي لحق بوايلد، كان بعد مماته، بيد أن تورطهما في نوع من النصية الدنيوية يحدث لنفس السبب الذي يكمن في التزامهما بما يدعوه إليوت "بوسيلة تقود إلى التهلكة".
وأخيراً إليكم كونراد الذي سأجيء، في كل مكان من هذا الكتاب، على وصف أسلوب السرد الرائع لحكاياته، وكيف أن كل واحدة منها تحفز وتفصل مناسبة تلاوتها وتضفي عليها مسحة مسرحية، وكيف أن كل عمل كونراد مكتوب فعلاً بالكلام المنقول الثانوي، وكيف أن التفاعل بين ما يروق للعين وما يروق للأذن في عمله تفاعل رائع ومنظم ذلك التنظيم الرفيع، وتفاعل يجسد معنى ذلك العمل. فالمواجهة الكونرادية ليست ببساطة بين رجل ومصيره المتجسد بلحظة مأزق نطير، بل إنها، وبنفس الإصرار، مواجهة بين متكلم وسامع. إن مارلو هو الاختلاق الرئيس الذي اختلقه كونراد لهذه المواجهة، وهو ذلك الرجل المهووس بمعرفة أن شخصاً ما مثل كيرتز أو جيم "وُجد من أجلي، وهو لا يوجد من أجلك إلا من خلالي وحسب في خاتمة المطاف".(21)
فسلسلة البشرية - "إننا لا نوجد إلا بمقدار ما يتشبث بعضنا ببعض" -هي نقل الكلام الفعلي، والوجود، من فم إلى فم ومن ثم من عين إلى أخرى. إن كل نص كتبه كونراد يقدم نفسه على أنه لما ينته بعد وأنه لا يزال قيد التداول. "وعلاوة على ذلك، فإن الكلمة النهائية لما تُقل بعد -ولربما لن تقال البتة. أو ليست حيواتنا أقصر مما ينبغي للنطق بذلك القول الفصل الذي هو، بالطبع، من خلال كل تمتماتنا، نيتنا الوحيدة والباقية؟"(22). إن النصوص توصل التمتمات التي لن تحظى البتة بذلك القول الفصل، بتلك القولة ذات الحضور الكافي الوافي، الذي يبقى بعيداً، واهناً بعض الشيء جراء إيماءة عظيمة مثل التضحية الذاتية التي أقدم عليها جيم.
ولكن حتى لو كانت الإيماءة تختتم النص ظرفياً فإنها لا تفرغه من إلحاحه العملي بحال من الأحوال.
· لقد آن الآوان كي نشير إلى أن التراث الروائي الغربي مليء بالأمثلة عن تلك النصوص التي تصر لا على واقعيتها الظرفية فقط بل وعلى منزلتها بأنها تنجز للتو مهمة أو إسناداً أو معنى ما في الدنيا. ولسرعان ما يخطر بالبال سرفانتس وسيد هاميت([6])، ولكن الأروع منهما ريتشارد سون في قيامه بدور الناشر فقط لرواية كلاريا وهو يضع تلك الحروف بنسق متتال بعد أن فعلت ما فعلت، ويرتب أن يملأ النص بحيل الناشر ومساعدات القارئ ومضامين تحليلية وتأملات ذكريات من الماضي وتعليقات، مما يجعل مجموعة من الرسائل تتنامى لتملأ الدنيا وتحتل الفضاء كله، ولتصبح ظرفاً كبيراً وآسراً مقدار كبر وأسر نفس فهم القارئ. إن من المؤكد أن الخيال الروائي كان يتضمن على الدوام هذا التمنع عن التخلي عن التحكم بالنص في الدنيا، أو عن تحريره من الواجبات الاستطرادية والإنسانية لكل الوجود البشري، ومن هنا تجيء الرغبة (وهي الفعل الأساسي تقريباً للعديد من الروايات) للعودة بالنص وتحويله، إن لم يكن مباشرة إلى كلام، فعلى الأقل إلى ديمومة ظرفية كشيء مناقض للديمومة التأملية.
ما من روائي، على أية حال، بإمكانه أن يكون واضحاً تماماً حيال الظروف وضوح ماركس في كتابه "في الثامن عشر من شهر بروميير بالنسبة للويس بونابرت"، فما من عمل في رأيي يتحلى بمثل هذا التألق والفتنة بخصوص الدقة التي تبين الظروف (والكلمة الألمانية لها هي Umstände ) التي جعلت من ابن الأخ بديلاً ممكناً، لا كمبتكر بل كتكرار ممسوخ للعم العظيم. فالأشياء التي يهاجمها ماركس هي تلك الفرضيات البعيدة البعد كله عن النصية والقائلة أن التاريخ عبارة عن أحداث مستقلة وأن التاريخ بإمرة الأفراد الأفذاذ(23). فحين يحشر ماركس لويس بونابرت ضمن سلسلة كاملة معقدة من التكرارات يظهر فيها أول ما يظهر هيغل، وبعدئذ الرومان القدماء وثوريو عام 1789 ونابليون الأول والمفسرون البورجوازيون وأخيراً يظهر المحبطون في أحداث (1848- 1851) إذ يبدون كلهم في نسق متشابه زيفاً جدير بصلة القربى والتوالد وتزايد التفرعات والتستر تضليلاً بستار البراءة، فإنه بمنتهى الإتقان يضفي مسحة النص على الظهور العشوائي لقيصر جديد. فها هنا نحن أمام نص يوفر هو نفسه موقفاً تاريخياً دنيوياً بظروف لولاه لظلت مستورة في أضاليل "ملك المهرجين" (roi des drôrles) . إن الشيء المثير للسخرية - وهو بحاجة لذلك التحليل الذي سوف أسوقه في مقاطع فرعية من هذا الكتاب -هو كيف أن نصاً، لكونه نصاً، ولكونه يوظف كل أحابيل النص ويصرّ عليها، وأبرزها التكرار، يصبغ بصبغة التاريخ وصبغة المعضلة كل تلك الأهمية الآنية والسريعة الزوال التي اختارت لويس بونابرت ممثلاً لها.
وثمة جانب آخر للشيء الذي كنت أقوله للتو. ففي إنتاج نصوص ذات استحقاق راسخ، أو عزم أكيد، على الدنيوية، فإن هؤلاء الكتاب وهذه الأنواع الأدبية يثبتون الكلام ويجعلون منه ذلك المجس الذي به، ولولاه، لحاول نص صامت ربط نفسه بعالم المحادثة. وبتثبيت الكلام أقصد أن تبادل المواضع بين متحدث ومستمع، تبادلاً استطرادياً كثيف الظرفية، يصار إلى جعله يقوم -وأحياناً من باب التضليل- مقام المساواة الديموقراطية والحضور الثنائي في واقع الأمر بين متحدث ومستمع.
فالواقع لا يشير إلى بعد العلاقة الاستطرادية عن المساواة وحسب، بل ويشير أيضاً إلى أن محاولة النص الظهور، ظاهرياً، بأنه مفتوح ديموقراطياً لكل من قد يقرأه لمحاولة تجسد فعلاً من أفعال السوء النية. (وعرضاً نقول أن إحدى نقاط القوة في النظرية الظاهرية الإسلامية تكمن في أنها تبدد الوهم الذي مفاده أن القراءة السطحية، وهي مطمح الظاهريين، تعني أي شيء إلا الصعوبة). وإن نصوصاً طويلة طول رواية "توم جونز" تتقصد ملء الفراغ من ذلك النوع الذي لا يتاح ببساطة لأي إنسان. وعلاوة على ذلك فإن كل النصوص ترحّل بالأصل نصوصاً أخرى أو أنها، وهذا هو الأعم على الأغلب، تحل محل أشياء أخرى.
فالنصوص ما هي جوهرياً إلا، كما كان يرى نيتشه بمنتهى حدة ذهن، وقائع سلطة لا وقائع تبادل ديموقراطي(24). إنها تستحوذ على الانتباه وتجبره على التحول بعيداً عن الدنيا حتى لو كان أصل مقصدها كنصوص، مقروناً بالفاشستية المتأصلة في سلطان السلطة المتعاملة مع الكتّاب (إن التكرار في هذه العبارة توكيد مقصود على الحشو في صلب النصوص كلها نظراً لأن كل النصوص، بطريقة ما، عبارة عن توكيدات ذاتية)، يفضي إلى توطيد أركان السلطة.
ومع ذلك ففي سلالة النصوص هنالك نص أول، نص مُبدئ مقدس، إنجيل يدنو منه القراء على الدوام من خلال النص الذي أمامهم، إما كمبتهلين متضرعين وإما كملقنين ضمن عديدين في كورس مقدس معززين النص المركزي المؤسس. إن النظرية الأدبية لنورثروب تبين بوضوح أن قوة الإزاحة في كل النصوص ناجمة في خاتمة المطاف عن قوة الإزاحة الكامنة في الكتاب المقدس، الذي يستلهم الأدب الغربي برمته منه مركزيته وقوته وأسبقيته الطاغية. ومثل هذا القول لا ينطبق بشكل أقل، في الأنماط المختلفة التي بحثتها سابقاً، على القرآن. ففي التراثين اليهودي /المسيحي والإسلامي تستند هذه السلاسل على لغة مقدسة، أو شبه مقدسة، متينة، ولغة تكمن فرادتها في أنها ظرفية لاهوتياً وبشرياً.
إننا غالباً ما ننسى أن الفيلولوجيا الغربية الحديثة، التي تبدأ في مطلع القرن التاسع عشر، تنطحت لتعديل الأفكار المقبولة عموماً عن اللغة وعن أحوالها المقدسة. ولقد حاول ذلك التعديل أولاً أن يقرر أية لغة كانت الأولى وبعدئذ، عند إخفاقه في تحقيق ذلك الطموح، انتقل إلى الانحدار باللغة إلى ظروف مخصصة: زمر لغوية، نظريات تاريخية وعرقية، فرضيات جغرافية وأنتروبولوجية. وثمة مثل شيق على وجه التخصيص عن كيفية مسيرة هذه الاستقصاءات هو سيرة إيرنست رينان كفيلولوجي، لأن الفيلولوجيا كانت حرفته الحقيقية ولم يكن مضماره مضمار الحكيم المضجر. فأول عمل جاد من أعماله كان تحليله، عام 1848، للغات السامية، وهو العمل الذي حظي بشرف التنقيح والنشر في عام 1855 بعنوان "التاريخ العام والنظام المقارن للغات السامية"، ولولا هذه الدراسة لما كان بالإمكان كتابة "حياة المسيح" (Vie de Jésus) . لقد كانت الغاية من إنجاز "التاريخ العام" إطلاق الوصف العلمي بالدونية على اللغات السامية، وهي أساساً العبرية والآرامية والعربية، وقد كانت الواسطة لثلاثة نصوص مقدسة كما أشيع نطق بها الله أو أوحى بها على الأقل- التوراة والقرآن ومن ثم الأناجيل. وهكذا ففي "حياة المسيح" كان بمقدور رينان أن يدرس قولته القائلة أن النصوص المقدسة المزعومة، التي جاء بها موسى أو يسوع أو محمد، ما كان من الممكن أن تتضمن أي شيء مقدس فيها، ما دامت نفس واسطة قدسيتها المزعومة، علاوة على أن متن رسالتها للدنيا وفي الدنيا، كانت مؤلفة من مثل تلك المادة الدنيوية الضحلة نسبياً. وساق رينان الحجج للبرهنة على أن هذه النصوص، حتى لو كانت سباقة على كل النصوص الأخرى في الغرب، لا تحتل مكانة لاهوتية سامية.
لقد انحدر رينان بالنصوص أولاً من مواد ذات وساطة مقدسة في شؤون الدنيا إلى مواد ذات مادية تاريخية. فالله كسلطان سلاطين الكتّاب صارت له قيمة ضيئلة بعد التعديلية النصية والفيلولوجية التي جاء بها رينان. ولكن رينان باستغنائه عن السلطة المقدسة أحل محلها السلطة الفيلولوجية. فالشيء الذي يحل محل السلطة المقدسة هو السلطة النصية للناقد الفيلولوجي الذي تتوفر فيه تلك البراعة لعزل اللغات السامية عن لغات الثقافة الهندية/ الأوربية. إن رينان لم يجهز على الفعالية النصية الهائلة للنصوص المقدسة الساميّة العظيمة وحسب، وإنما حصرها كأشياء للدراسة الأوربية في ميدان دراسي صار يعرف لاحقاً بالاستشراق(25). فالمستشرق هو ذلك الإنسان الذي من صنف رينان، أو من صنف غوبينو، معاصر رينان، الذي كانت آراؤه موضع الاستشهاد بها هنا وهناك في طبعة "التاريخ العام "عام 1855، والذي تقوضت، بالنسبة إليه، السلسلة القديمة للنصوص الساميّة المقدسة وكأن تعويضها كان فعلاً من أفعال قتل الأقربين، مع العلم أن زوال السلطة المقدسة ييسر ظهور التشرنق العرقي الأوربي الذي يدفع طرائق البحث الغربي وكتاباته إلى حشر كل الثقافات غير الأوربية، والأدنى منها، إلى موقع من مواقع التبعية، فنصوص الاستشراق تحتل حيزاً دون أي تطور أو نفوذ، ألا وهو ذلك الحيز الذي يماثل تماماً موقع المستعمرة المفيدة للنصوص والثقافة الأوربية. ويحدث هذا كله في نفس ذلك الوقت الذي بدأت تترعرع فيه الامبراطوريات الاستعمارية العظيمة، لا بل وترعرعت بالفعل في بعض الحالات.
لقد قدمت هذا الوصف الموجز للأصل الثنائي لكل من "النقد الرفيع" والاستشراق كفرع من فروع الدراسات الأوربية لكي أتمكن من الحديث عن خطل تخيل حياة النصوص بأنها مثالية بكل دعة وأنها بلا قوة أو تصارع ومن الحديث، بشكل مناقض، عن خطل تخيل العلاقات الاستطرادية في الحديث الفعلي بأنها، كما كان ريكوير يقول عنها، علاقة مساواة بين مستمع ومتحدث.
إن النصوص تدمج المحادثة، وأحياناً بشكل عنيف. ولكن هنالك طرائق أخرى أيضاً. إن التحليل الأثري الذي أجراه ميشيل فوكو عن نظم المحادثة ينطلق من تلك الفرضية التي بشرّ بها ماركس وإنغلز في "الإيديولوجيا الألمانية"، والتي تقول أنه "في كل مجتمع إنتاج المحادثة يخضع تواً للتوجيه والاصطفاء والتنظيم وإعادة التوزيع وفقاً لعدد معين من الإجراءات التي يتمثل دورها في تحويل طاقاته ومخاطره، وفي التصدي للأحداث الطارئة، وفي التملص من ماديته التأملية المروعة". إن المحادثة في هذا المقطع تعني ما هو مكتوب وما هو منطوق.
إن وجهة نظر فوكو هي أن حقيقة الكتابة نفسها هي قلب منهجي لعلاقة القوة بين الحاكم والمحكوم إلى "مجرد" كلمات مكتوبة -بيد أن الكتابة سبيل من سبل إخفاء المادية المروعة لإنتاج محكوم ومروض على هذا النحو من الضيق البالغ. وها هو يردف قائلاً:
في مجتمع كمجتمعنا نعرف جمعياً قوانين الاستثناء. إن أوضح هذه المنغصات وأكثر شيوعاً هو ذلك الشيء المحظور. فنحن نعلم علم اليقين بأننا لسنا أحراراً في أن نقول كل ما يعن على البال.
فلدينا ثلاثة أنواع من الحظر: تغطية الموضوعات، وطقوس الظروف، المحيطة بها، والحق الممتاز أو القاصر على الحديث عن موضوع معين.
فهذه المحظورات تتداخل فيما بينها وتعزز وتكمل بعضها بعضاً لكي تشكل شبكة معقدة عرضة للتعديل على الدوام. ولسوف أشير بمنتهى البساطة إلى أن المناطق التي تكون فيها هذه الشبكة على أضيق ما يكون من التحبيك اليوم، حيث تكون مكامن الخطر أكثر عدداً، هي تلك المناطق التي تعالج السياسة والجنس... فالكلام في الظاهر قد لا يكون موضع الاعتبار الكبير، ولكن المحظورات التي تطوقه سرعان ما تكشف عن صلاتها بالشهوة والسلطة... إن الكلام ليس مجرد ترجمة لفظية للصراعات وأنظمة السلاطة... بل إنه نفس موضوع صراعات الإنسان.(26)
إن الوضع الاستطرادي، على الرغم من الصورة المثالية المبسطة التي صوره بها ريكوير، وبعيداً عن كونه نوعاً من أنواع المحادثة بين ندّين، يشبه على الأرجح تلك العلاقة غير المتكافئة بين مستعمِر ومستعمر، بين قامع ومقموع، فبعض المحدثين العظماء، ومن أبرزهم بروست وجويس، كانوا يدركون ببصر ثاقب هذا التضاد، ولذلك فإن تصويراتهم للوضع الاستطرادي تسلط عليه دائماً أسطع الأضواء السياسية/ السلطوية. إن الكلمات والنصوص على أوثق ارتباط بالدنيا وإلى ذلك الحد الذي يجعل فعاليتها، لا بل وحتى استخدامها في بعض الحالات، أمرين على علاقة بالتملك والسلطة والقوة وفرض الهيمنة. ولحظة من لحظات التقويم تحدث في الوعي الثوري لدى ستيفان ديدالوس حين يتحادث مع العميد الانكليزي للموضوعات الدراسية:
وما هو ذلك الجمال الذي يكافح الفنان للتعبير عنه من كتل من التراب، قال ديدالوس ببرودة أعصاب.
لقد بدا وكأن تلك الكلمة الصغيرة توجه رأس حربة حساسيته ضد هذا الخصم الدمث الحذر، وشعر باكتئاب شديد أن الرجل الذي يتحدث معه إنسان ريفي من منطقة بن جونسون. ففكر ملياً-: إن اللغة التي نتحدثها هي لغته قبل أن تكون لغتي. يا للبون الشاسع بين لفظ كلمات كالوطن والمسيح والجعة والسيد على شفتيه وشفتي.
إنني لا أستطيع نطق هذه الكلمات أو كتابتها دون اضطراب في الروح.
فلغته ستبقى بالنسبة لي، مع أنها مألوفة جداً وغريبة جداً، كلاماً مكتسباً. إنني لم أنحت ولم أتقبل كلماتها أنا، وصوتي يستبقيها في حالة استنفار للدفاع عن النفس. إن روحي يحل بها الاضطراب في ظل لغته(27).
إن عمل جويس تلخيص لكل تلك الانفصالات والاستبعادات والمحظورات السياسية والعرقية التي استنتها كقوانين، ومن منطلق التشرنق العرقي، الثقافة الأوربية الصاعدة إبان القرن التاسع عشر.
إن وضعية الحديث، كما يعرف ستيفان ديدالوس، قلما تضع الندين وجهاً لوجه. وعلى الأرجح فإن الحديث يضع محادثاً فوق آخر، أو إنه يرسم قانونياً جغرافية المدينة المستعمرة، كما وصف فرتز فانون، بمنتهى التألق، ذلك التطرف الذي يمكن جرّ الحديث إليه في "معذبو الأرض":
إن المنطقة التي يعيش بها المواطنون ليست تكملة للمنطقة المأهولة بالمستوطنين.
فالمنطقتان متقابلتان، لكن لا في سبيل خدمة وحدة أسمى. وامتثالاً منهما لقواعد منطق أرسطو، فالمنطقتان كلتاهما تطبقان مبدأ الانعزال المتبادل. وليس من الممكن التصالح لأن تعبيراً واحداً من هذين التعبيرين زائد عن اللزوم. إن بلدة المستوطنين بلدة ذات بناء متين كله من الحجارة والإسمنت المسلح، وبلدة تتلألأ فيها الأضواء ويغطي الإسفلت شوارعها، علاوة على أن عربات نقل النفايات تبتلع كل الفضلات وتعبر الشوارع وكأنها غير مرئية وغير معروفة وقلما تخطر على بال أحد. وأما قدما المستوطن فإنك لن تراهما بتاتاً، إلا ربما في البحر، ولكنك حتى هناك لن تكون على مقربة كافية منه حتى تستطيع رؤيتهما. فقدماه محميتان بحذاء قوي على الرغم من أن شوارع بلدته نظيفة ومستوية وخالية من الحفر أو الحجارة. إن بلدة المستوطن بلدة معتلفة على خير ما يرام، وبلدة هنية البال، ومعدتها مليئة دائماً بأشهى الأشياء. إن بلدة المستوطن هي بلدة الناس البيض، بلدة الغرباء.
وأما البلدة التي تخص الشعب المستعمر، أو البلدة الوطنية على الأقل، بلدة السود، المدينة “medina” ، البلدة الاحتياطية، فهي مكان سيء السمعة، مأهولة برجال ذوي صيت ذميم. إنهم مولودون هناك، أما أين وكيف ولدوا فأمران ينطويان على أهمية ضئيلة، كما أنهم يموتون هناك، وأما أين وكيف يموتون فأمران لا يخطران على البال. إنها عالم بلا أية سعة، إذ إن الناس تعيش بعضها فوق بعض، وأكواخهم مبنية بعضها فوق بعض. البلدة الوطنية بلدة جائعة، تتضور جوعاً وتلهث خلف الرغيف واللحم والأحذية والفحم والنور. إن البلدة الوطنية قرية ذليلة، جاثية على ركبتيها، بلدة تتمرغ بالوحل، إنها بلدة السود والأعراب القذرين.
وإن النظرة التي تنظر بها البلدة الوطنية إلى بلدة المستوطن هي نظرة اشتهاء، نظرة حسد، ونظرة تعبر عن أحلام المواطن بالتملك- كل أنواع التملك: أن يجلس إلى طاولة المستوطن، أن ينام في سرير المستوطن، مع زوجته إن كان بالإمكان، الإنسان المستعمر إنسان حسود. وهذا الشيء يعرفه المستوطن أتم معرفة، فحين تلتقي نظراتهما يتأكد من ذلك بكل مرارة، ويبقى دائماً مستنفراً للدفاع عن نفسه. "إنهم يريدون أن يحتلوا مكاننا". وهذا صحيح إذ ليس هنالك من مواطن لا يحلم مرة واحدة في اليوم على الأقل من إحلال نفسه محل المستوطن.(28)
وهكذا فليس من المستغرب أن يكون حل فانون لمثل هذه المحادثة هو العنف.
إن أمثال هذه الأمثلة تجعل من المتعذر الدفاع عن التعارض بين النصوص والدنيا، أو بين النصوص والكلام، فثمة استثناءات أكثر مما يجب، وثمة ظروف رسمية وإيديولوجية وتاريخية أكثر مما ينبغي أيضاً، تورط النص في أرض الواقع، حتى لو كان من المحتمل النظر إلى النص أيضاً بأنه ذلك الشيء المطبوع الصامت وذو الألحان غير المسموعة. وإن انسجام القوى التي تولّد النص وتحافظ عليه كحقيقة لا كشيء خيالي صامت بل كشيء ناتج يبدد تناسق حتى التعارضات البلاغية. وعلاوة على ذلك فإن اليوتوبيا النصية التي توهمها كل من ت. س. إليوت ونورثروب فراي، كل بطريقته الخاصة، والتي نقيضها المرعب إلى حد ما هو مكتبة بورجز، هي على تعارض مطلق مع الشكل في النصوص. إن فرضيتي هي أن أي تصور للنص، تصوراً متمركزاً ومتقوقعاً على نفسه، أو أي تصور، بمقدار ما يتعلق الأمر بذلك، للوضع الاستطرادي كما حدده ريكوير، يتجاهل ذلك العزم، عزم بلوغ السلطة، الذي يمكن لنصوص عديدة أن تنبثق عنه. إن الحد الأدنى للحافز في عمل بيكيت، لهو، كما أتصور، نسخة معكوسة لهذا العزم، أي طريقة لرفض الفرصة المتاحة لبيكيت من قبل الكتابة الحديثة.
***
ولكن أين، يا ترى، الناقد والنقد في كل هذه المعمعة؟ فالدراسة والتعليق والتفسير، وشرح النص explication de ****e” ، وتاريخ الأفكار والتحليلات البلاغية أو شبه المنطقية: هذه كلها أنماط من أنماط الاهتمام بالأمر النصي، اهتماماً نظامياً ووثيق الصلة بالموضوع، المطروح أمام الناقد توا وفي متناول اليد. ولسوف أركز الآن على المقالة التي هي الشكل التقليدي الذي عبر فيه النقد عن نفسه. إن الجانب المركزي المعضل للمقالة كشكل هو مكانها، وهو الشيء الذي أعني به سلسلة من ثلاث طرائق اتخذتها المقالة لتكون الشكل الذي يطرقه النقاد ويضعون أنفسهم في صميمه كي يقوموا بعملهم. ولذلك فالمكان يتضمن العلاقات وصلات القرابة التي يقيمها النقاد مع النصوص والجماهير التي يتوجهون إليها، فضلاً عن أنه يتضمن أيضاً احتلال المكان الدينكاميكي الذي يحتله نص الناقد نفسه بالشكل الذي ينتجه فيه.
فأول نمط من أنماط القرابة هو صلة المقالة بالنص أو بالمناسبة التي يحاول أن يقترب منها. فكيف تجيء إلى النص باختيارها هي؟ وكيف تدخل ذلك النص؟ ما هو التعريف الختامي لصلتها بالنص والمناسبة التي تتعامل معها؟ والنمط الثاني للقرابة هو مقصد المقالة (والمقصد الذي لدى جمهورها، كما افترضته أو خلقته المقالة) في محاولتها الاقتراب. فهل المقالة النقدية محاولة منها للتشبّه بالنص أو للذوبان فيه باختيارها هي؟ وهل تقف بين النص والقارئ، أو إلى جانب هذا دون ذاك؟ ما مقدار كثرة أو قلة التباين المضحك بين نقصانها الشكلي الجوهري (لأنها ليست في خاتمة المطاف إلا مقالة) وبين الاكتمال الرسمي للنص الذي تعالجه؟ وأما النمط الثالث من أنماط التقرب فإنه يهم المقالة كحيز تحدث فيه أنواع معينة من الأحداث كجانب من جوانب إنتاج المقالة. ما مقدار إدراك المقالة لهامشيتها بالنسبة للنص الذي تبحثه؟ وما هي الطريقة التي تسمح بها المقالة للتاريخ أن يكون له أي دور في نفس ذلك الوقت الذي تصنع فيه تاريخها هي، أي، في ذلك الوقت الذي تتحرك فيه المقالة من الابتداء إلى التوسع وصولاً إلى الخاتمة؟ وما نوعية كلام المقالة وهي تتحرك باتجاه الواقع الفعلي أو بعيداً عنه أو إلى صميمه، ذلك الواقع الذي يجسّد الحلبة التي يحدث فيها النشاط والحضور التاريخيين اللانصيين في آن واحد مع المقالة نفسها؟
وهل المقالة، في خاتمة المطاف، نص أو توسط بين النصوص، أو تكثيف لفكرة النصية، أو تشتيت للغة بعيداً عن صفحة عرضية إلى مناسبات أو اتجاهات أو حركات في قلب التاريخ ولمصلحة التاريخ؟
إن الإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة هي التيقن من مدى غرابة هذه الأسئلة في سياق البحث العام الذي يجريه النقد الأدبي المعاصر. ولكن هذا القول لا يعني أن مشكلات النقد غير مطروحة على بساط البحث، بل يعني على الأرجح أن النظرة إلى النقد هي أنه مقيد بالأساس تقييداً قاطعاً بثانوية دوره، بسوء حظه زمنياً من جراء مجيئه بعد النصوص والمناسبات التي من المفروض به أن يتعامل معها. ولئن كان من المفروغ به للتو صحة القول أن النصوص مظنة لكتلة متراصة من الموضوعات الماضيات التي يحاول النقد قنوطاً تذييل نفسه بها في الزمن الحاضر، يكون وقتئذ مجرد أصل النقد رمزاً لتأخره زمنياً لأن تأريخه كان من الماضي أكثر منه في الحاضر. فكل ما حاولت قوله سابقاً عن النص -عن ارتباطه ارتباطاً ديالكتيكياً بالزمن والحواس، أي عما في النص من تلك المفارقات التي يتبيّن من خلالها أن الحديث سرمدي على الرغم من أنه مشروط، علاوة على أنه مشحون ومتصلب سياسياً شأنه بذلك شأن الصراع بين القاهر والمقهور -فهذا كله كان بمثابة رفض ضمني لثانوية الدور المنوط بالنقد. ولكن حتى لو افترضنا، بدلاً من ذلك، أن النصوص تشكل تلك الأشياء التي دعاها فوكو بالوقائع الأرشيفية، مع العلم أن تعريف الأرشيف هو حضور النص حضوراً استطرادياً اجتماعياً في هذه الحياة الدنيا، يكون النقد عندئذ أيضاً مظهراً آخر من مظاهر الشيء الموجود. فالنقد، بكلمات أخرى، بدلاً أن يكون مقيداً بالماضي الصامت وتحت إمرته كي يتحدث في الزمن الحاضر، هو الحاضر وبشكل لا يقل عن أي نص آخر في مسيرة تبيين نفسه، أي في مسيرة كفاحه ابتغاء التحديد.
ويجب علينا ألا ننسى أن الناقد لا يستطيع أن يتحدث دون وساطة الكتابة، وفي الوقت الذي يتعامل فيه الشعر بالانطباعات الذهنية، فإن المقالة تنغمس في تلك الانطباعات انغماساً تشاطرها فيه الأفلاطونية والباطنية. ولو أن محاولة قامت، كما يتابع لوكاش، لمقارنة شتى أشكال الأدب بنور الشمس المتكسّر في موشور لكانت المقالة بمثابة الضوء فوق البنفسجي. إن ما تعبر عنه المقالة يكمن في التشوق لاحتلال منزلة المفهوم والعقلانية، علاوة على صيرورتها حلاً للمسائل الجوهرية المتعلقة بالحياة. (فلوكاش في تحليله يشير إلى سقراط بأنه الشخصية المقالاتية النموذجية، متحدثاً على الدوام عن شؤون دنيوية عاجلة في نفس الوقت الذي كانت فيه حياته كلها تنم عن أرهف وأعمق تشوق مكتوم.
(Die tiefste, die verborgenste Sehns ucht ertönt aus diesem Leben). (30)
وهكذا فإن أسلوب المقالة أسلوب ساخر بما يعني أولاً: أن الشكل واضح نقصه من زاوية عقلانيته قياساً بالخبرة المعاشة، وثانياً: أن شكل المقالة نفسه، لكونه مقالة بحد ذاته، لهو مصير ساخر قياساً بالمسائل الكبرى المتعلقة بالحياة. إن موت سقراط، في اعتباطيته وعدم علاقته بالمسائل التي كان يناقشها سقراط، يرمز تماماً إلى مصير مقالاتي، الذي يعني غياب مصير مأساوي حقيقي. وهكذا فالمقالة، على نقيض التراجيديا، ليس لها خاتمة داخلية إذ ما من شيء يمكنه أن يعترض سبيلها، أو يقضي عليها، إلا شيء من خارجها هي، مثلها مثل موت سقراط الذي كان بقرار قضائي سري ووضع حداً لحياة تساؤلاته.
إن الشكل يؤدي في المقالة نفس المهمة التي تؤديها الانطباعات الذهنية في الشعر:
فالشكل هو واقعية المقالة، والشكل هو الذي يوفر لكاتب المقالة صوتاً يتساءل به عن مسائل الحياة، حتى لو كان على ذلك الشكل أن يستغل الفن على الدوام- كتاباً أو صورة زيتية أو قطعة موسيقية- لما يبدو عليه بأنه موضوع الآني البحت لاستقصاءاته.
إن التحليل الذي ساقه لوكاش للمقالة يتماشى وتحليل أوسكار وايلد ومفاده أن النقد عموماً قلما يكون، ولا سيما شكله، بتلك الصورة التي يبدو فيها، فالنقد يعتمد أسلوب التعليق على الفن وتقويمه، بيد أنه في حقيقة الأمر ينطوي على أهمية أكبر كعملية، ناقصة وتحضيرية بالضرورة، باتجاه التقويم وإصدار الحكم. وإن الشيء الذي تفعله المقالة النقدية يكمن في البدء بخلق القيم التي بموجبها يتعرض الفن للمحاكمة. لقد قلت من ذي قبل أن الكابح الوحيد أمام النقاد هو أن مهمتهم كنقاد يحددها ويؤرخها لهم الزمن الماضي في غالب الأحيان، أي، ما كان مسبقاً من قبل موضع الخلق كعمل من أعمال الفن أو مناسبة فريدة. إن لوكاش ليقر بوجود هذا الكابح، ولكنه يبين كيف أن النقاد يكرسون أنفسهم في حقيقة الأمر لمهمة البدء بتحضير القيم للعمل الذي يودون محاكمته. ولقد عبر أوسكار وايلد عن هذا الأمر على نحو أكثر زخرفة إذ قال أن النقد "يعامل العمل الفني كنقطة انطلاق لخلق جديد"(32)، بيد أن لوكاش كان أكثر احتراساً حين قال: "إن كاتب المقالات مثال صرف عن سلفه البشير"(32)
أنا أفضّل الوصف الثاني لأن موقف الناقد، كما يتوسع به لوكاش، موقف محفوف بالمخاطر لأنه يعدّ، أو تعد، لثورة جمالية عظيمة تفضي بالنتيجة ولا بد -ويا للسخرية الكبيرة- إلى استجرار النقد إلى موقع هامشي. ولكن هذه الفكرة نفسها سوف تتحول لاحقاً من قبل لوكاش إلى وصف لتقويض التجسيد بفعل الوعي الطبقي الذي سيجعل بدوره من الطبقة شيئاً هامشياً(33). وأما الشيء الذي أرغب في التوكيد عليه هنا فهو أن النقاد لا يخلقون فقط تلك القيم التي تجري بناء عليها عملية محاكمة الفن وفهمه، بل ويجسدون في الكتابة أيضاً تلك العمليات والظروف الفعلية في الحاضر الذي تتأتى الدلالة من خلاله للفن والكتابة. وهذا يعني ما دعاه ر. ب. بلاكمور، اقتداء بهوبكينز، باستجلاب الأدب للقيام بأدائه. غير أن القول الأوضح هو أن الناقد مسؤول إلى حد ما عن تفصيح تلك الأصوات المكبوتة أو المزحولة أو الخرساء من جراء نصية النصوص. فالنصوص منظومة من القوى المتشحة بوشاح المؤسسات من لدن الثقافة المتسلطة وعلى حساب تكلفة بشرية ما لمختلف عناصر مكوناتها(34)، وذلك لأن النصوص ليست في خاتمة المطاف ذلك الكون الخيالي المؤلف من روائع خيالية على قدم المساواة كلها. فحين نظر كيتس إلى الجرة اليونانية شاهد أشكالاً بشرية جليلة تزين سطحها الخارجي، وكسا أيضاً بكساء الأمر الواقع (في اللغة ولربما لا في أي مكان آخر) تلك البلدة الصغيرة التي "تفرغت من هؤلاء الناس، وقت خشوع هذا الفجر". إن موقف الناقد موقف حساس بعض الشيء بطريقة مماثلة إذ إن عليه، فضلاً عن ذلك وفي غالب الأحيان، أن يكون موقفاً خلاقاً بصراحة، في المعنى التقليدي البياني الذي تعنيه كلمة “inventio” بالشكل الذي استخدمها فيه فيكو بمنتهى الغنى إذ تعني العثور على الأشياء وتعريتها تعرية لولاها لبقيت خبيئة تحت ستار الطاعة أو اللامبالاة أو الروتين.
والأكثر أهمية من كل الأشياء هو أن النقد دنيوي وفي الدنيا ما دام يقاوم التمركز الأحادي الجانب، وهو المفهوم الذي أدرك أنه يعمل بالتعاون مع التشرنق العرقي، والمفهوم الذي يبيح لثقافة أن تتقنع هي نفسها بقناع السلطان الخاص الذي تتحلى به بعض القيم على غيرها من القيم الأخرى. وحتى بالنسبة لآرنولد، يتأتى هذا كنتيجة لصراع يوفر للثقافة تلك الهيمنة التي تخفي على الدوام تقريباً جانبها المظلم: وبهذا الخصوص يكون كتاب "الثقافة والفوضى" وكتاب "ولادة التراجيديا" ليسا بعيدين ذلك البعد الكبير عن بعضهما بعضاً.

nnn



-2- سويفت: الفوضوي الرجعي



إن عمل سويفت معجزة وطيدة الأركان عن مقدار التعليق الذي يمكن لكتابة كاتب أن تشتمل عليه وأن تبقى، على الرغم من ذلك، كتابة معضلة، وإن كل الجهود التي حاولت إنصافه كانت في معظمها تحاول إحياءه من جديد، وذلك لأنه ليس إلا قلة من أكابر الكتاب في اللغة الانكليزية طرحوا أنفسهم بمثل هذا الإصرار العنيف في سلسلة طويلة من الكتابات الآنية التي تتحدى أي تصنيف. فإحدى الطرائق للتأكد من هذا التزمت هي أن نلاحظ أن قدرتنا على استعمال نعت "سويفتي" أكبر بكثير بالتأكيد من قدرتنا على تحديد هوية سويفت وموقعه ورؤيته. وفي كثير من الأحيان يبدو أن النعت الثاني أكثر قليلاً من ملحق بالنعت الأول، حتى لو كان سويفت يغطي بهمة كيفما اتفق ثلاثة عشر مجلداً من النثر وثلاثة مجلدات من الشعر وسبعة مجلدات من المراسلات، علاوة على صفحات لا عد ولا حصر لها من الملاحظات المقتضبة. وهكذا فإن سويفت يعاد إحياؤه بأيدي الناشرين إلى نص محدد، وبأيدي كتاب السير إلى كرونولوجيا لأحداث منذ ولادته في عام 1667 حتى مماته في عام 1745، وبأيدي النقاد السيكولوجيين إلى مجموعة من السمات، وبأيدي المؤرخين إلى حقبة، وبأيدي النقاد الأدبيين إلى نوع أدبي، إلى تقنية، إلى بلاغة، إلى موروث، وبأيدي علماء الأخلاق إلى المعايير الأخلاقية التي يقال بأنه دافع عنها. وأما هويته فقد بقيت محجوبة جداً في ظل الدعاوى التي تناولت عمله، ولئن كان هذا القول يصح دائماً عن كبار الكتاب فإنه لا يقل، في حالة سويفت، عما دعاه نورمان و. بروان بدخول البيت عنوة وترويض نمر الأدب الانكليزي.
وعلى الرغم من الفروق القائمة بين هذه الإحياءات فإن كلا منها تعتبر سويفت شكلاً من أشكال المقاومة للمرتبة التي يوضع فيها. فما من كاتب تتعايش فيه، بمثل ذلك التكامل، أنظمة المرتبة وفوضى التحدي ابتغاء الانتشار. إن التعليق الذي ساقه ر. ب. بلاكمور وجاء فيه أن "الفوضى الحقيقية للروح يجب أن تتكشف دائماً (أو أنها تكشفت دائماً) عن مسحة من الرجعية"(1)، لتعليق ينطبق على أحسن ما يرام، كما أعتقد، على سويفت، إن من الممكن الاقتراب من عمله ووسمه بأنه المواجهة الدرامية الهائلة بين فوضى المقاومة للصفحة المكتوبة وبين الالتزام الرجعي بطراز الصفحة.
فهذا الشكل من المواجهة يجسد أدق شكل أساسي لها: إنه قادر على التضاعف الكبير، متنقلاً من الفرق بين الهدر وال*****، بين الغياب والحضور، بين الفحش والاحتشام، إلى الأبعاد السلبية والإيجابية في اللغة والخيال والوحدة والهوية. وإن حياة مثل هذه المواجهة هي، إن جاز التعبير، المضمون الفعال لعقل سويفت كما نتمكن من فهمه في مقاومته الجوهرية لأية حدود ثابتة. ومع ذلك فإن حدود لهو ذلك العقل قد تحددت على ما يبدو باستبعاد كل شيء إلا المختص والمهجوس من عمل رفيع- وهنا أتذكر الإشارة الخاصة التي أشار بها سويفت إلى روحه المسحورة. إن خبرة قوة وضغط على تلك الديمومة تسوغ أن يخلع ييتس على سويفت شرف اكتشاف جنون المفكر.
إن التوتر بين كاتب بأم عينه، كوجود ممنوع من الاختزال، وبين مؤسسات الأدب الرجعية التي تساهم بها الكتابة، لتوتر ضمني بالطبع يقضي الواجب أن يأخذه الناقد بحسبانه على الدوام. وهذا التوتر يكون موضع استغلال، أكثر مما هو موضع تسامح، من قبل المناهج النقدية التي يؤكد انحيازها على المزايا السابقة في خبرة الكاتب أكثر مما يؤكد على إنتاجه الناجز. فأمثال هذه المناهج، سواء أكانت على شكل فينومينولوجيا أو فلسفة حياة "Leben sphilosophie" أو تحليل نفسي، تستقصي أبعاد الخلوة، أي ما يمكن أن ندعوها بالذرائع الأدبية التي سلطانها مؤكد إما من الداخل بناء على مقالة أورتيغا
"
pidiendo un Goethe desde dentro "([7])، أو من الجوانب كلها بناء على مقالة جان بيير ريتشارد de Mallarmé L’univers imaginaire (العالم الخيالي لدى مالارميه)، أو من الداخل بناء على مقالة برنارد مايير "جوزيف كونراد: سيرة من منطلق التحليل النفسي". وإن ما ينتج على الغالب هو وحدة كاملة رائعة وبلوغ شراكة حميمة بين الناقد والكاتب، يشكل كل منهما فيها شطراً من الآخر بمعنى من المعاني.
هنالك عدد من الشروط اللازبة الهامة التي تسبغ الحياة على هذه المبادهات النقدية.
فالنصوص التي يتناولها الفحص نصوص معضلة من كل الجوانب عدا كونها نصوصاً. أي أن الناقد ينشغل بتأويلات نص ما لا بالتساؤل عما إذا كان النص نصاً أو بتوكيد الظروف الاستطرادية التي من خلالها تمكن، أو لم يتمكن، ثمة نص مزعوم من أن يصبح نصاً. فمن الواضح على سبيل المثال أن عملاً مثل كتاب سويفت المعنون بـ "بعض التأملات حول النتائج المأمولة والمخوفة من موت الملكة" (1714) لا يحتل نفس المكانة التي تحتلها رواية "أسفار غوليفر" (1726) في آثار سويفت، ومع ذلك فإن من العسير جداً على المرء أن يقول، في أي تقرير متكامل عن آثاره الكاملة، أية مكانة يجب أن تحتلها "الأسفار.." دون الأخذ بعين الاعتبار علاقتها بكتاب "بعض التأملات..". فهل هذا العمل أقرب إلى النص من ذاك؟ فالوقائع البسيطة المتعلقة بالاستكمال أو النشر لا يمكنها أن تحدد بمنتهى السهولة ما إذا كانت هذه القطعة المكتوبة نصاً وتلك لا. وعلاوة على ذلك فإن الحشو القائل النص -الذريعة- النص ليس موضع التساؤل لأن الذريعة معروضة بأنها تستوطن النص على مستوى مختلف روحي أو زماني أو مكاني (سباق، أعمق، في الصميم)، وهكذا فإن عمل الناقد هو الجمع بين الذريعة والنص في نسق جديد من التزامن الذي يمحي الفروق بينهما - ما دام في متناول الفرد ذلك المبدأ المتسامي، مبدأ الاستعداد للتحول، الذي يحوّل شكل الفروق. فبدون مثل هذا المبدأ تبقى الذريعة خارجية، ومن ثم عديمة الجدوى. وأخيراً هنالك ادعاء مطروح عن وجود حيز مشترك للنص والذريعة والنقد، وهو الحيز الذي تصبح واضحة فيه كل الأشياء الهامة الخبيئة، والحيز الذي لا يضيع فيه أي شيء عويص، والحيز الذي كل ما يستحق القول فيه يمكن أن يقال وأن يترابط مع غيره. ولذلك ليس من باب المصادفة في شيء أن تكون هذه المناهج مناسبة على أحسن ما يكون للكتاب الرومانسيين وخلفائهم ممن كانت كل الكتابة بالنسبة إليهم مجازاً ناقصاً للوعي بمنتهى الجلاء، كما كانت الكتابة بمثابة مرايا للسمات السطحية لكل منهم. وهكذا فقد صاردين النقد جلياً باعتبار أن النقد هو الذي يصفف الأشياء بهذه الطريقة.
فالكتابة، لدى دراستها على هذا النحو، تكون أيضاً شكلاً من أشكال الديمومة الزمنية. إن اللغة الأدبية على وجه التخصيص تتضمن غرضها وتنال، من خلال جهود القارئ، دلالاتها بفضل دنيوتها: وهذا تأويل مبتذل. ومهما كانت قساوة التأويلات، فإن استمرار الحركة التسلسلية يجب أن يكون راسخاً على الدوام، حتى لو كان اتجاه تلك الحركة دائرياً في خاتمة المطاف. إن كتاب جورجز بوليت المعنون بـ "تحول الدائرة" يبين الصورة بإصرار مرعب. فالمنهج الإحيائي هو إذاً، في أحسن أحواله، مستقطب للذهن وشامل إلى حد استثنائي، وفي أسوأ أحواله يمكن أن يصبح اختزالياً واقتصارياً. وإن ما يكمن خلف المشروع الإحيائي للناقد هو ذلك الموقف الذي يشبه الشجع في الاكتساب وذلك لأن المرء لا يستطيع إحياء ما لا بحوزته. والشيء الذي يمكن احتيازه هو حصراً ما يُعتقد مسبقاً أنه هناك.
إن عمل سويفت يكافح بضراوة ضد هذا المنطلق الإيديولوجي، منطلق المصادرة الجوهرية.(2) فمعظم كتابته، باستثناء عدد قليل، كانت آنية بالتحديد: لقد كان الحافز عليها مناسبة خاصة، وكان يعمل على تخطيطها بطريقة ما بغية تغيير تلك المناسبة. وإن من الواضح أن هذا القول صحيح عن "حكاية حوض" (1704) صحته عن "مسلك الحلفاء" (1711) وعن "الفاحص" (1711) وعن "رسائل تاجر الأجواخ" (1724).
وعلاوة على ذلك فإن نشر معظم كتاباته الفردية، ومن ثم توزيعها لاحقاً، بما في ذلك "أسفار غوليفر" كانت تستحوذ على اهتمامه كحدث من وجوه عديدة، لا كفن بالمعنى الذي نفهمه لهذه الكلمة أو كاحتراف إكراماً للاحتراف نفسه. إن الشيء الذي يعترف به الراوي المهووس في "حكاية حوض"، ومفاده أن ما يقوله صحيح في لحظته وحسب، هو تلك السخرية التي تنبئ عما كان سيصير صحيحاً حرفياً عن الكتابة اللاحقة لسويفت. إن "مسلك الحلفاء" و "الروح العامة لأعضاء حزب الأحرار whigs (1714) يحدثان، كما كان بالفعل، في توزيعهما الفعلي على قارعة الشوارع بلندن، بيد أن فاعليتهما، كوسيلتين لترويج سياسة حزب المحافظين العاجلة خلال نظام هارلي/ سانت جون، تكمن أساساً في حقيقة وصولهما إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وبأسرع وقت ممكن، وعلى نحو صائب قدر ما هو ممكن. فالتوزيع والفصاحة الحاذقة هما مظهران لبعضهما بعضاً، ومظهران لحدث كانا يصبوان لتعزيزه. وما أن يؤديا دوريهما حتى يصبحا حدثين تاريخيين وقعا بالفعل، ولئن تسنى لهما البقاء، هذا إن تسنى أصلاً، فإنهما يبقيان كأثرين شاحبين يرمزان إلى مناسبة ما، وعلامتين من علامات زمن محدد عفى عليهما الزمن وحل الوهن بقوتهما الأصلية.
لقد كان سويفت نفسه على ما يبدو مهووساً بآنية الأحداث، الأمر الذي يعلل لا اهتمامه الأبدي بالمحادثة (وهي حدث كلامي) وحسب بل ويعلل عنايته المفرطة بالتاريخ، باللغة الصحيحة، وشكه الجامح بكل شيء إن لم تتوكد صحته بالخبرة المباشرة. فالصورة التي رسمها دكتور جونسون عن بوب، وهو يكتب الرسائل بعين يقظة ترنو لنشرها مستقبلاً، تتوازن بشكل جميل بالتكتة الخبيثة في كتابه المعنون بـ "حياة سويفت" الذي يتأمل فيه العميد تشكيك رجل عجوز بعبقرية ذلك الشاب الذي أصدر "حكاية حوض"، وهي حدث فرويد، وفعلاً فإن معظم القصص المشكوك بصحتها عن سويفت، سواء أجاءت على لسان السيدة بيلكينغتون أو جونسون أو نيكولاس، فيها انقطاع عجيب بالنسبة لهم. وفي نفس الحكاية نسخة منها لسويفت تناقض النسخة الثانية: وهكذا فإن السيدة بيلكينغتون تروي حكايات عن قذارة سويفت قذارة لا مسوغ لها وتروي معها حكايات أخرى يظهر فيها من أنبل بني البشر، وإن من المؤكد أن هذه الحكايات تعود إلى سويفت، بيد أن مقدار أمانتها عن سويفت مقدار بين بين، إذ كان يبدو لهذا الإنسان رجلاً حيوياً بشكل ديناميكي ورجلاً معقداً، ولذاك رجلاً استطرادياً معه، وأخيراً تلك الشخصية التي تهيمن بشكل مؤثر جداً على أشعار ييتس أو روايات جويس أو على الأعمال الكاملة لصاموئيل بيكيت. إن الفجوة بين ما قاله أو فعله سويفت عملياً وبين ما كان بالإمكان قوله عنه هي تماماً نفس تلك الفجوة التي تقوم بين كلمات منطوقة من أجل مناسبة ما بالتحديد وبين كلمات مدونة كتابياً ابتعدت عن مناسبتها تماماً. فالفرق يكون بين أحداث دقيقة، وحتى بغيضة في بعض الأحيان، وبين عقبول مباح يلتمس التأويل وإعادة التركيب. ولذلك ليس من المستغرب أن تكون للتو "حكاية حضور وأسفار غوليفر" هما أشهر "نصوص" سويفت وأن يكونا بالمحصلة ذينك النصين اللذين هدفهما من أهم الأهداف، وأكثر كتاباته التزاماً بالنص، وذينك النصين اللذين استقطبا أكثر اهتمام نقدي، فضلاً عن أنهما عملان من أكثر أعماله تعرضاً للتصنيف انطلاقاً من زاوية التقنية والجنس الأدبي.
ومع ذلك فإن هذين العملين الجديرين بقنوة المكتبة واهتمام الناقد يبدوان، بالقياس إلى أعماله الأخرى، كحدثين أراد بهما سويفت إضفاء الصبغة المسرحية على حقيقة كونه كاتباً بالفعل لما يشبه الأدب، وكاتباً كان يسخّر المؤسسات الأدبية في الوقت الذي كانت تناسبه فيه، أو في لحظات تبطّل قسري. إن رسائل سويفت الصريحة عن عمد والموجهة إلى بعض أصدقائه في لندن حول شخصية غوليفر، وهي كلها مؤشرات ومفاتيح متعددة "لحكاية حوض"، عمد لاحقاً بمنتهى الذكاء إلى دمجها في نسخ تالية من أعماله، ولكن يا لها من شواذ بمستوى شذوذ "غوليفيريانا" لسميدلي- وهذه كلها بمثابة ملحقات هزلية بالكتابة التي عرّضت نفسها مسبقاً لتهمة الملحق بالواقع. وإن ما يضفي الميزة الأدبية على بعض كتابات سويفت ويعزلها عن كراساته الدينية والسياسية العديدة هو أن تلك الكراسات مطمورة كأحداث ضمن شبكة معقدة من أحداث هذه الحياة الدنيا، في حين أن الكتابات السابقة تظهر بمظهر الكتابات الساخرة أو الأدبية أو النصية لأنها ليست بالأحداث على الإطلاق، لا بل وعلى النقيض من ذلك فإن "حكاية حوض" مكتوبة بكل وضوح لإحباط حدث ما ولصرف الانتباه الجاد عنه. ففي "الكوميديون الرواقيون" يدرس هيوغ كنير بمنتهى الروعة "حكاية حوض" ويدلي بحكمه عليها من أنها ذلك الكتاب الذي هو بمثابة محاكاة ساخرة لإسفاف ولوع الكتب بالكتابة. وإن كتاب "أسفار غوليفر" لعمل، كائناً ما يمكن أن يكون خلاف ذلك، يستخدم الفعل الماضي التاريخي كحاجز أدبي مدرك لوجوده بين القارئ وصيغة الفعل المضارع الزائفة التي تروى بها معظم مغامرات غوليفر. وهكذا فنحن إذاً مضطرون على أن نحمل على محمل الجد اكتشاف سويفت بأن الكلمات والأشياء في هذه الحياة الدنيا ليست مرشحة بتلك البساطة لتبادل الأمكنة، وذلك لأن الكلمات تنأى بنفسها بعيداً عن الأشياء إلى عالم لفظي خاص ومختلف تمام الاختلاف. ولئن حدث وتصادفت الكلمات والأشياء، هذا إن تصادفت، يكون السبب بذلك أنهما كلتاهما تتقاطعان، في أزمنة خاصة ومواتية، في ذلك المكان الذي سرعان ما تعرّفه الجماعة السياسية المهيمنة بأنه حدث، وهو الأمر الذي لا يعني بالضرورة تبادل الكلام أو التواصل. ومع ذلك فإن المغايرة بين الحدث والكتابة كشيء بديل عن الحدث لهي معارضة هامة وفعالة لدى سويفت.
وعلاوة على ذلك فإن سويفت كان على ما يبدو حساساً جداً حيال الفروق بين الكتابة والتكالم. وإن كل سعاية من هاتين السعايتين -وهذه فكرة ملائمة جداً لصرامة تفكيره- يمكن أن تتخذ لها شكلين اثنين بمقدورنا دعوة الأول منهما بالصحيح والثاني بالمغشوش. فالتكالم الصحيح هو المحادثة بالشكل الذي عرفها فيه سويفت بمقالته المعنونة بـ "تلميحات نحو مقالة عن المحادثة" (1710- 1712) من أنها أسرع منالاً من أية فكرة أخرى، وذلك لأنها ممنوعة من التشذيب والدخول في ميدان المثالية دون سواه:
إن معظم الأشياء التي يجدّ في طلبها البشر بغية بهجة الحياة العامة أو الخاصة، والتي بلغت ذلك المستوى الرفيع من التشذيب جراء فطنتنا أو حماقتنا، قلما توجد في الذهن لوحده. فصديق صدوق وزواج ناجح وشكل كامل من أشكال الحكم، بالإضافة إلى بعض الأشياء الأخرى، كلها تستلزم مقومات عديدة جداً، وجيدة جداً في أنواعها المتعددة، وتستلزم، لمزجها بعضها مع بعض، عناية فائقة جداً، بحيث أن البشر قد حل بهم اليأس من جراء محاولاتهم الوصول بمخططاتهم إلى درجة الكمال في غضون بضع آلاف من السنين:
ولكن الأمر بالنسبة للمحادثة قد لا يكون على هذه الشاكلة، وقد يكون شيئاً آخر، إذ ليس علينا هنا إلا أن نتفادى فيضاً من الأخطاء،
وهذا التفادي، على الرغم من أنه صعب بعض الشيء،
أمر قد يكون بوسع أي إنسان، علماً أن غيابه يبقي المحادثة مجرد فكرة في الذهن كالشيء الآخر.
ولذلك يبدو لي أن الطريقة المثلى لفهم المحادثة تكمن في معرفة الأغلاط والأخطاء التي تتعرض لها، ولذلك فعلى كل إنسان، من ثم، أن يصوغ لنفسه قواعد سلوك لتنظيم المحادثة بناء عليها.(3)
فثمة سبب وحيد لهذا التوكيد هو بالطبع ضرورة الوجود المادي لإنسانين على الأقل، فضلاً عن أن كل التلميحات الفرعية اللاحقة لسويفت كان المقصود بها الحفاظ على الوجود الفعلي لكل من المتحدثين أمام بعضهما بعضاً. إن قوانين المحادثة تحتل المرتبة الثانوية أمام ذلك الوجود الذي يجب أن يطغى، والذي يجب لمصلحته تسخير موضوع التكالم ونمطه وأسلوبه. وحتى في الوصف الذي يصف به سويفت موعظة دينية ينشغل بوضع حقيقة التكلم والإصغاء في موضع حدث ذي ديمومة زمنية، وهذا الأمر لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الوقائع السابقة لذلك الوجود قيد الاحترام,. ولكن هنالك على أية حال عقبة وحيدة واضحة أمام المحادثة. فالكلمات ما إن تقال في المحادثة حتى تضيع إلى الأبد، ولا يبقى منها على الأرجح إلا الذكرى اللطيفة. وأما المحادثة "المغشوشة"، التي تمثلها خير تمثيل مقالة "المحادثة المهذبة" (1738)، فهي التكلم بدون احترام الوجود بمناسبة اجتماعية ما ليست أكثر من ترخيص رسمي للتكلم: إذ إنها تحيل التكلم إلى شكلية الصيغة المبتذلة المتفقة مع الزي السائد، الأمر الذي لا يحتاج أي شيء محدد لاستهلال التكلم أو لاستبقائه مستمراً. إن الأساس المنطقي لمقالة "المحادثة المهذبة"، كما هو معروض في مقدمتها، هو أن الكلام المهذب يكلم نفسه فعلاً. فالكلام المهذب يمكن حفظه عن ظهر قلب، وهو دائماً وشح للتطبيق، وهو محدود ومغلق، وقوانينه جوهرية إليه، أي، ليس خاضعاً بالفعل لوجود المتكلم أو المستمع، ومن هنا كان "نجاح" سنوات واغ ستاف في النسخ. إن المحادثة المغشوشة محادثة، قبل أي شيء، مقتصدة وقابلة للحفظ باعتبارها تتحرك وفق كل القواعد ووفق لا أية قاعدة من القواعد في آن واحد معاً: إنها لا تعني بتاتاً أي شيء وتعني دائماً الشيء نفسه- فالمحادثة المهذبة، تواصل مطلق، لغة تستخدم بشراً.
إن آراء سويفت عن المحادثة تبقى نسبياً هي نفسها طيلة حياته، حتى لو كنا نعتبر أن أعمالاً من أمثال "مجلة إلى ستيلا"، قصائده إلى ستيلا بمناسبة عيد ميلاده، والألعاب اللاتينية/ الإنكليزية، والتجارب القشتالية، ومشاريع نادي النساخ، أشكالاً مختلفة لموضوع المحادثة. وإذا لم تكن تلك الأشكال المختلفة فإنها أقرب المواقع التي اقترب فيها سويفت لتوضيح التخوم التي تتستّر فيها المحادثة في الكتابة بمنتهى البراعة. والشيء الجدير هنا بالذكر هو أن كتابة سويفت نفسها كانت مسعى أقل تكاملاً بكثيير من المتكلم، وذلك شيء ، كما اعتقد كان يفهمه سويفت عن عمله، وكان يفهمه على نحو أشمل عن الكتابة على العموم. فثمة صيغ على غرار "الأسلوب البسيط"، وهي الصيغة التي ألصقها جونسون بكتابة سويفت، وصيغة "كلمات مناسبة في أمكنة مناسبة" (أي جعبة سويفت الخاصة)، صيغ لا تؤدي إلا خدمة طفيفة لأناقة كتابته. فالكتابة الصحيحة بالنسبة إليه ما كانت تلك الكتابة التي تتطابق مع الواقع وحسب، بل كانت الواقع بحد ذاته، والأفضل من هذا هو القول بأنها كانت حدثاً استلزمته أحداث أخرى، ومفضياً بدوره إلى أحداث أخرى أيضاً. إن أفضل الكتابات كانت أمراً، مثل "مسلك الحلفاء"، جاء في زمان ومكان رائعين. وأما الكتابة المغشوشة فكانت أمراً، على نقيض سابقه، جاء في زمان رديء وفي مكان رديء.
إن النتائج التي تترتب على هذا التصور للكتابة، وهو التصور الذي يبدو بسيطاً، ذات أهمية قصوى- لا لسويفت وحده بل ولقارئه أيضاً. تأملوا قبل كل شيء كيف أن الكتابة الجيدة نسبياً هي المتناسبة مع زمانها ومكانها. ولئن عدنا بأبصارنا إلى الخلف لوجدنا أن الكتابة الجيدة قد حدثت وانقضى أمرها، شأنها بذلك شأن الماضي. فزخمها يخور أمام الزمن الحاضر اللاحق للماضي بالنسبة للمؤرخ أو الناقد، ومن باب السخرية مجدداً أن الكاتب نفسه ليس أقل انقطاعاً عن الماضي من ذلك الزخم. وبالنسبة لسويفت كانت الحقيقة "البسيطة" تعني أشياء كثيرة جداً: فلقد كانت تعني (كما يدل على ذلك دلالة قاطعة العمل الذي أنجزه في Letcombe بعد وقت قصير من رحيل حزب المحافظين عن السلطة) أن زمانه ومكانه ككاتب ذي شأن قد حدثا وقد انقضى أمرهما أيضاً. فلقد تحول، بعد أن كان كاتباً جيداً، إلى كاتب ذكريات مشوشة، ومن ثم إلى كاتب تصورات.
فالتمييز الذي ميزه رولاند بارتيز بين "écrivant" (وهو ذلك الإنسان الذي يكتب عن موضوعات لها وجود والذي يربط بين الأحداث والأفكار) وبين "écrivain" (وهو ذلك الإنسان الذي موضوعه، إن لم يكن له ثمة وجود، هو إذاً مجرد الكتابة، بحد ذاتها)، ينطبق على التوالي على عمل سويفت في (1710- 1714) وعلى الفترات السابقة واللاحقة لهذه الفترة. وإليكم الآن هذان النصان المأخوذان من "حكاية حوض" ومن ثم من "مذكرات تتعلق بذلك التغيير الذي حدث في وزارة الملكة في العام 1710" (وهي مكتوبة في عام 1714). إن كلا النصين عرضان عن سبب الاضطلاع بعبء العمل، على الرغم من أن سويفت يتخذ لنفسه قناعاً في النص الأول ولكنه يفصح عن صوته هو في النص الثاني، وأما الشيء الصحيح جداً وعلى أحسن ما يكون من الوضوح فهو توظيف الحيلة نفسها في النصين- فالعمل الحاضر تسلية من إنتاج écrivain- كي تخلص إلى النتائج نفسها: فالأسلوب غير مباشر، وكأن الغاية إخفاء الحقيقة التي مفادها أن الموضوع الحقيقي هو فعل الكتابة نفسها. فالكاتب، لأسباب عديدة، لا يشعر أن له ما يبرر وقفة شريفة في وسط ما يقوله. إن الاستطراد في "حكاية حوض" براعة فنية، بيد أن الاستطراد في "مذكرات......." يكاد أن يصبح طريقة في حياة سويفت بعيداً عن قلب الأشياء. فسويفت، كما سنرى، ما كان بمقدوره أن يترك نفسه تتعاظم وتدخل بمنتهى الثقة في موضوع كتابته إلا في شيخوخته.
بما أن عباقرة العصر الراهن صاروا من ذوي العدد الغفير والنفوذ العظيم، فإن أكابر المسؤولين عن الكنيسة والدولة بدأوا على ما يبدو يقعون تحت عبء مخاوف مرعبة من أين يجد هؤلاء السادة، في فترات سلم طويل الأمد، الفراغ الكافي لحفر ثقوب في الجوانب الهشة للدين والحكومة. ولمنع ذلك جرى مؤخراً توظيف تفكير كبير لبعض المشاريع الخاصة ابتغاء انتزاع القوة والفاعلية من هؤلاء المسألة المرعبين لإبعادهم عن التمحيص والمجادلة في أمور دقيقة كهذه. وأخيراً استقربهم المقام على مشروع واحد، ولكنه يتطلب بعض الوقت فضلاً عن التكلفة حتى يبلغ درجة الكمال. وفي غضون ذلك فإن الخطر يتفاقم ساعة فساعة جراء تجنيد جديد لعباقرة منهمكين كلهم (وهنا ممكن الخوف) بالقلم والحبر والورق، الأمر الذي من الممكن في ساعة من ساعات الغفلة أن يتوسع ويتخذ شكل الكراسات، وشكل أسلحة عدائية أخرى، على أهبة الاستعداد للوضع الفوري موضع التنفيذ: وكان الرأي أن هناك حاجة ماسة للتفكير بحملة آنية سريعة قبل الوصول بالمخطط الأساسي إلى مستوى الكمال. وتحقيقاً لهذه الغاية، في لجنة عظيمة، قبل عدة أيام، ثمة مراقب عجيب ومهذب توصل إلى اكتشاف هام مفاده أن البحارة من عادتهم حين يصادفون حوتاً أن يلقوا له بحوض فارغ، من باب التسلية، لكي يبعدوه عن وضع يديه العنيفتين على السفينة. ولسرعان ما اصطبغت هذه الأمثولة بصبغة الأسطورة: فجرى تأويل الحوت على أن لوياثان هوبز الذي يشقلب ويتلاعب بكل المخططات الأخرى المتعلقة بالدين والحكومة، في حين أن العديد من المخططات جوفاء وجافة وفارغة وصاخبة ومتخشبة وقيد التداول. وهذا هو اللوياثان الذي يستعير منه عباقرة عصرنا المرعبون أسلحتهم كما يقال، السفينة في خطر، قول مفهوم بسهولة على أن المقصود به الكومونويلث الذي هو النموذج المضاد القديم للدولة. ولكن ما هو السبيل لتحليل الحوض، كان أمراً صعباً، إذ بعد تمحيص ومناقشة طويلين بقي المعنى الحرفي طي الكتمان: ومن ثم استن على شكل قانون الرأي القائل أنه كي تمنع هذه اللوثيانات (الوحوش الضخمة المفترسة)، من شقلبة الكومونويلث والتلاعب به (والذي هو من تلقاء نفسه عرضة للترنح) يقضي الواجب بتحويل انتباههم عن تلك اللعبة بحكاية حوض. ولما كان هنالك تصور أن عبقريتي تتوجه ذلك التوجه بكل سرور فقد خلعوا علي شرف الانخراط في أداء اللعبة.
(الأعمال النثرية، 1، 24- 25)،
وبعد أن استمريت قرابة مدة أربع سنوات، على مقدار كبير من الثقة مع الوزارة، وبعد أن كنت، لا بتلك القوة الكبيرة كما كان الاعتقاد، أو كما كان الإعلان عنها على الأقل، من قبل أصدقائي وأعدائي على حد سواء، لا سيما الأعداء، في كلا مجلسي البرلمان، ولما كان هذا قد حدث خلال فترة منهمكة جداً بمفاوضات مع الخارج، أو منهمكة بتدبير الأمور والدسائس داخل الوطن، ظننت أن من المحتمل، بعد مرور بضع سنين على ذلك، في الوقت الذي تخلى فيه المشهد الحالي عن مكانه لمشاهد عديدة جديدة سوف تبرز لاحقاً، أن تكون تسلية لأولئك الناس الذين سيكون لديهم أي اعتبار شخص لي، أو لذكراي، أن ينسبوا بعض الخصوصيات التي تسنت لمعرفتي وملاحظتي، في الوقت الذي كان من المفروض فيه، صدقاً أو كذباً، أن لي ضلعاً في سر الشؤون العامة. (الأعمال النثرية، 8/107).
فبالنسبة لسويفت، وبالنسبة للناقد، تبدو الفروق بين النصين فروقاً أدبية ثانوية ليس إلا، أنها بالأساس فروق لغوية ووجودية- وها أنذا أستخدم هذه الكلمة متردداً. فمنزلة الكتابة في الدنيا تبدلت بتبدل منزلة الواقع السياسي والتاريخي. إن سويفت يحاكي، في"حكاية حوض" التسلية، في حين أنه في المقطوعة التالية تحول بعمله إلى التسلية فعلاً. فكل عمل من العملية من إنتاج écrivain، ولو لأسباب مختلفة. وبما أن سويفت كان على أشد التصاق بذلك النظام الذي، كما ظن، في صلبه انصبت جهوده وشاركت فيه، فإن كتابته حافظت على موقع سام أعلى من موقع كل الكتابات الأخرى بين عام 1710 وعام 1714، فسياسة حزب المحافظين التي كان يؤازرها سويفت ويكتب عنها كانت سياسة في دنيا الواقع: فهنا كان écrivant. وأما معارضة حزب الأحرار فقد كانت مجرد تصور، مجرد خربشة. وهذا ما كان على الدوام أساس استراتيجيته. ولكن بعد عام 1714 لم يشغل سويفت أي موقع عدا موقع اللامنتمي من تلك الآلة المتراصة لحزب الأحرار، فها هو قد أضحى ذلك الناسخ المخربش والإنسان الذي يعد المشاريع الذهنية والذي جسده ذات مرة (في حكاية حوض) وهاجمه (في الفاحص وفي أي مكان آخر).
إن بعض الأعمال الحديثة المتعلقة بالبحث التاريخي من أمثال (أصول الاستقرار السياسي: انكلترا، 1675- 1725 لكاتبه ج. هـ. بلوم، والثورة المالية لبيتر ديكسون، وبلينغ بروك وحلقته لإسحاق كرامنيك) تبرر إحساس سويفت بالضياع. فمن وجوه عديدة تبدلت إنكلترا بعد عام 1714، بيد أن التبدل الأساسي كان في أن السلطة السياسية لم تعد تناط بشخصيات مرموقة وإنما بالآلة اللاشخصية للبيروقراطية التي استنبطها والبول وأوصلها إلى حد الكمال.
فالتبديل كان بمثابة النسخة الإنكليزية للتبدلات التي حلت ببنية المجتمع الأوربي في نهاية القرن السابع عشر، وهي تلك التبدلات التي درسها فرانز بوركينو ولوسيان غولدمان وبرنارد غروثيسين. فالأحداث لم تعد البتة تعزى للأفراد مباشرة، كما أن تلك القيم الراسخة المتعلقة بالوراثة والأرض انجرفت وتحولت إلى قيم على أتم ارتباط بالنقود وبالديْن القومي الدائم ومر كنتلية المدينة. وأما حزب المحافظين بأروستوقراطيته المرموقة، التي كانت بالنسبة لسويفت تجسد صفوة الشعب الإنكليزي، فقد أزيح عن السلطة وحلت محله أوليغارشية من حزب الأحرار من ذات المصالح الخاصة. ولئن كان سويفت ينظر في السابق إلى كراساته كأحداث لها وجود حقيقي مع الواقع السياسي كشيئين متشاكلين أو متزامنين، فقد صار بعد عام 1714 يرى أنه وكتاباته طفقوا يتكشفون مرة بعد أخرى عن ذلك التعارض الصارخ بين اللغة والواقع- اللذين يمثلان نموذجين من نماذج اللامصداقية، ونموذجين مبتورين عما دعاه، بمنتهى الحنين لماضيه، "المعاش مع العوام".
وهذا هو السبب الذي جعل دور الوطني الإيرلندي يناسبه على نحو رائع جداً: لقد كان دوراً فياضاً بالتناقضات المغيظة بين القلم والجماعة السياسية. إن اللغة المكتوبة عن الاحتجاج الإيرلندي، وهي كاملة بحد ذاتها، عملت على تفاقم الانقطاع بين ما كان (إيرلنداً) بمنتهى التعصب وبين استحالة ما كان من المحتمل أن يكون (خططاً إنكليزية استعمارية لإيرلندا). إن نصف بنس السيد وود، على سبيل المثال، كان الخطأ بعينه الذي تمكن سويفت من مهاجمته في "رسائل بائع الأجواخ"، وبالأساس من خلال التعامل مع المكيدة كمكيدة ومن خلال تصور الخطة، بتلك الأوهام الرائعة التي كان النبلاء يذهبون بها للتسوق في عربات مليئة بالنقود المغشوشة وهي تجرر من خلفهم، في عنصرها الأساس- في الخيال(4). فثمة حدث خيالي، وبالتوسيع، تلك اللغة التي تشتمل على تصورات خيالية حلا محل الأحداث الحقيقية بشكل مضحك، وهكذا فإن فكر سويفت بقي مخلصاً لحضور الأحداث، حتى ولو من خلال الهزء فقط بالأكاذيب اللفظية عن الواقع بأكاذيب بديلة، كمكيدة السيد وود.
إن ما أوجزته على عجل يستلزم المزيد من العرض والتوضيح، ولئن كان لهذا الموجز أية قيمة فهي وضعه عمل سويفت على محاور التعارضات والثغرات الأساسية التي تجعل الوصول الكامل لهذا العمل إلى القرن العشرين محدوداً جداً. وهكذا فنحن الآن أمام تحدّ من قبل أعمال كاملة حرون في وجودها كحكم سلبي على نفسها كونها لم تنجح كحدث، وهو الأمر الذي يعني انقراضها وتبددها في زمن ماض. فالتاريخ، بالنسبة لسويفت، عزز نفسه بما فيه الكفاية وما من حاجة لتأويله ما دامت اللغة مرادفة للسلطة السياسية (كما تحاول أن تبرهن رسالته العلنية إلى هارلي حول الحفاظ على اللغة الإنكليزية). ولما كان سويفت على قسط عظيم من العجرفة فإنه لم يكن ليصدق أن كتابته ما فعلت أكثر من خدمة سلطة حزب المحافظين وحسب، ولذلك فإنه كان يرى في كراساته، وهو يعود ببصره إلى غابر الأزمان، جزءاً من النظام السياسي، أحداثاً في صلب تاريخ ذلك النظام، مع العلم أن الطريقة الهوسى التي أدرك بها، في مقدم ومؤخر مسيرته الأدبية، المخاطر الكامنة في اللغة المتحررة من السلطة السياسية والواقع الاجتماعي، توحي بأنه شعر من تلقاء نفسه بالحاجة للتوكيدات على أن تحكمه باللغة كان قوياً. لقد تيقن في خاتمة المطاف أن السبيل الوحيد له كي يطمئن قلبه كان الفضح الدوري للمساوئ التي تسلم اللغة نفسها لها بمنتهى البساطة. وإن التناسق، مثلاً، بين نبذ سويفت ربة الشعر (the muse) في قصيدته المعنونة بـ "بمناسبة مرض سير وليام تامبل وشفائه أخيراً" (1693) وبين هجومه، بعد أربعين سنة، على اندفاعات "الإلهام الشعري" (في مقالته المعنونة "عن الشعر: مقطع من ملحمة"، 1733) لتناسق مذهل. إن القصيدتين التاليتين تبينان أولاً ربة الشعر منبوذة توقعاً لاحتضان الشاعر الواقع، وتبينان بعدئذ غش الشعر بالنظر لغياب موضوع حقيقي. إن الشيء الذي يتوسط بين القصيدتين هو تلك الفترة التي كان فيها سويفت شاعراً بالمصادفة ليس إلا، 1710- 1714. فتلك السنوات الأربع، في سياق كل حياة عمله، هي الفجوة التي تدوّن فيها فيض من الكلمات- كتابة وتأويلا وتذكراً- علماً أنها كلها لفظية وكلها ناقصة:
إليك أنا مدين بالانقلاب المصيري الذي انقلبه الذهن،
والذي لا زال يميل للأفكار القلقة الشقية.
وإليك أنا مدين بكل ما أجهد عبثاً لإخفائه،
ذلك الاحتقار للبلهاء، الذي يظنه البلهاء تكبراً،
ومنك أنت تنبثق الفضائل، وأية فضيلة
قد تستحيل إلى محنة، أو إلى رذيلة.
هذه هي القواعد التي تجعل المرء شاعراً عظيماً:
"إياك والاستسلام للمصلحة أو التملق أو المخاتلة،
ولا تكرس ذهنك للأفكار المأجورة،
وتعلم احتقار معونتها المرتزقة،
وليكن هذا حصنك المنيع، وسورك الفولاذي،
إياك وتعلم العمل الشائن، ولا تصفرّ أمام أي ذنب،
وبما أن المسافة التعيسة تعرقل عليك
عرض روحك، المتسربلة بهذا الستار البائس،
وبما أن فضائلك القليلة معروضة بمثل هذا التشويه،
وتثير عليك الضغينة وقتما كنت تأمل التقدير."
فجنون كهذا ما خطر ببال خيال قط،
وتبقى عرضة للخديعة، لا للمسرّة قط،
وبما أن شعاعاً واحداً مزيفاً من البهجة في العقول المريضة،
هو كل ما يعثر عليه الوهم المطمئن المسكين-
هناك تحطمت فتنتك، ومنذ هذه الساعة
أتبرأ أنا من قدرتك التخيلية،
وبما أن جوهرك يعتمد على أنفاسي،
فبنفخة واحدة يتبدد هذا الوهم كله.
(الأعمال الشعرية، 41- 42)
وكيف لمبتدئ جديد أن يتعلم
من أرواح مختلفة كيف يدرك،
وكيف يميز بين هذا وذاك،
بين نفحة الشعر أو رغبة النثر،
إذا استمع لمجرّب محنك عجوز
يرشد مبتدئاً شاباً.
"استشر نفسك، وإن وجدت
حافزاً قوياً يحث ذهنك،
حاكم الأمور محاكمة نزيهة في قلبك،
أي موضوع تجيد تدبيره على نحو أمثل،
ولئن كانت عبقريتك تميل أشد الميل
للهجاء، للمديح، أو للأبيات الهزلية،
للمراثي في مسحة تفجع،
أو لمقدمة شعرية تأتيك من يد مجهولة
انهض إذاً عند انبلاج الفجر،
واستلهم ربة الشعر، واجلس للكتابة،
أشطب، صحح، أحشر، نقّح،
أسهب، اختزل، أقحم بين السطور،
وكن حذراً، فحين تجف القريحة،
إياك أن تحك رأسك، وأن تعض أظافرك.
(الأعمال الشعرية، 571- 572)
إن القافية التي تجمع بين كلمتي "Sinner" (مجرّب) و"beginner" (مبتدئ) لقافية بليغة لأنها تربط بين المجرب المحنك وبين المبتدئ برباط وثيق لا مناص منه. فكلاهما كاتبان (écrivains)، وكاتبان يجدان في نظم الشعر تدريباً على محاولة عقيمة لحشر التأليف الأدبي في صميم العالم الواقعي. وهكذا فربة شعر منبوذة وكتابة، بشعور دفين بالضعة، معروفة حذاء الواقع: هاتان هما البداية والنهاية لسيرة مهنية راسخة بالنسبة لسويفت وبالنسبة لناقدة. إن السيرة المهنية هي تلك السيرة الأدبية التي يوجد سجلها في أعمال كان الواجب يقضي بتحويلها إلى تاريخ سياسي، ولكنها الأعمال التي تتشبث بوجودها، شأنها بذلك شأن السترلدبرغز* ، كبقايا خائرة القوى، فمقالة "عن الشعر" لا تستمد قوتها من عنف هجومها على الشعر المغشوش وحسب، بل وتستمدها أيضاً من اليأس بما مفاده أن هذا الغش في خاتمة المطاف هو ما آل إليه الشعر وقتها بالفعل. أوليست حقيقة مرة أن التوجيهات التي ساقها سويفت- هنا وفي مقالة "توجيهات إلى الخدم" (1745)، وفي "المحادثة المهذبة" وفي غير مكان أيضاً- كانت على الدوام كراسات من العمل القيم ذي الوصف المتقن؟ فالشيء الذي كان بالإمكان حينها وصفه كان الشيء الميسور المنال للغة المكتوبة، كما أن الموضوع والأداة معاً كانا بديلين فاسدين للوقائع التي ظلت خارج إطار ميدانهما. إن القدرة الإنتاجية لطاقة سويفت ككاتب ليست بحاجة للتصوير على أنها منبثقة عن تخيل نخلقه له ككاهن أنجليكاني من الممكن وصف حياته كسلسلة من الأحداث على مدى ردح من الزمن. فعلى النقيض من ذلك، نجن نسدي إليه خدمة أكبر إذا قبلنا الثغرات التي عاشها بالطريقة التي عاشها بها: أي إما على شكل خسائر فعلية أو خسائر وشيكة للموروث والتراث والموقع والتاريخ، خسائر موضوعة في قلب إنتاجه الكلامي المتهافت. وإن هذا القبول ليس بالتأويل السيكولوجي بمقدار ما هو جملة من الشروط التي تجعل من المدى الكامل لسيكولوجية سويفت أمراً ممكناً، بدءاً من الاهتمام "بقسط من الحرية" وانتهاء بالهوس بسقط المتاع.
فالأدب الحديث إذاً بالنسبة لسويفت كان يعني إزاحة الأدب القديم وحلول الحديث محله، مع العلم أن هذا الحكم هو موضع التنشيط في طول وعرض "حكاية حوض". فالكاتب الحديث يكتب خلال فقدان الموروث، وهو موجود بالنظر لغياب الكتاب القدامى الذين جرى استبعادهم من جراء ذكرى واهية للآداب الكلاسيكية. إن كتاب فرانسيس ييتس المعنون "بفن الذاكرة" يلقي النور الساطع على الاستخفاف بالطرق التقليدية لتقوية التذكر: وهذا التغيير كان هنالك أمام سويفت ليشهده بأم عينه. وهكذا فإن النور الباطني الخاص الذي يدعيه الصاحبيون أوالمشيخيون لمرشديهم يحل محل الإرث العام، وإن هذه الإزاحة هي ما تمثله "حكاية حوض". وعلاوة على ذلك فقد تقطعت أوصال التسلسل المنتظم للتطور التاريخي من جراء الثورة البيوريتانية ومقتل الملك تشارلز الأول على يد كرومويل. فكما أكدت شواذ تاريخه هو كان الاستمرار بالأساس أمراً مدبّراً بين أفرقة من ذوي المصالح، وما كان تلك العطية التي كان بوسع أي إنسان أن يحتل مكانة فيها بمنتهى الطمأنينة. وإن كراسة "عواطف إنسان من أتباع كنيسة إنكلترا" (1711) والكراسة المشؤومة المعنونة بـ"تاريخ السنوات الأربع الأخيرة من حكم الملكة آن" (1712- 13) كانتا محاولتين من سويفت لتصحيح الأفكار الواهية التي كان يعتمد عليها إحساس الأمة بتاريخها ومعناه. فلقد كان ذانك العملان تقريباً من أكثر الحكايا المعضلة والمبتذلة التي جاء بها سويفت عن ربوبية بوب والرجعية المطلقة.
وما بدأ سويفت يطرح الإطار الأرسخ الذي كان يتمنى أن يعتبره فيه المستقبل، وعلى نحو متعمد أكثر من ذي قبل، إلا في إيرلندا حوالي الثلاثينات (1730). وبما أن سويفت كان رجعياً شموساً وبالفطرة دقيق الحسبة في النقود، وكان ذلك الرجل الذي وسمه تين Taine برجل أعمال صنعة الكتابة الإنكليزية، والذي كان موقفه من الحياة ذلك الموقف الذي وصفه به نيغل دانيس إذ قال بأنه موقف معلم مدرسة، فقد كان من المناسب له أن يكون على ثقة من أن الأشياء الأخيرة التي ستقال عنه يجب أن تكون بإمرته هو، ولذلك فإن الذكرى الأخيرة التي خلّفها وراءه ستكون بالضرورة أول ما سيتنبّه المستقبل إليها، وعندئذ نظم القصيدة التي عنوانها "أشعار عن ممات الدكتور سويفت" (1731)، والتي ابتنى فيها ذلك الاستمرار الذي تمنى أن يخلده فيها إلى أبد الآبدين. ففي تلك القصيدة العصماء يختار بمنتهى الشجاعة، لا بل وبمنتهى العجرفة، أن يرى نفسه في المظهر السلبي المطلق لمماته، أي خسارة للدنيا ومكسباً للتاريخ في آن واحد معاً- ولكنه في كلتا الحالتين يرى نفسه موضوعاً نموذجياً. فتخيله لمماته، في المحصلة، جاء به من خلال القصيدة وأعطاه شكل ردود الأفعال المتناثرة على خسارة جرى تحويلها إلى حدث. وهكذا تمكن سويفت من أن يصبح جزءاً من التاريخ وسيداً له على الرغم من البلايا المعزوة للغة من قبله.
إن النقطة الأخيرة بحاجة لتوكيد خاص. لقد كان سويفت يعلم علم اليقين أنه، بمقدار ما كان الأمر متعلقاً بالأجيال التالية، إنسان ملتزم باللغة (أي متورط بها وأسير لها)، مهما كان الظن به خلاف ذلك. فبعد مماته كانت الأجيال اللاحقة سوف تتلقفه بالصورة التي كانوا سيقرأونه بها: إذ إنه لن يكون البتة منظوراً أو مسموعاً. وإن ما كان سوف يبقى منه على قيد الحياة في المستقبل لن يعدو الكلام الناتئ، شريطة أن يكون بمقدوره ترتيب ذلك الأمر بطريقة ما. ومع ذلك فقد كان يعمل بدون شك ضد نفسه. فخلال معظم حياته كان يعتمد بمنتهى الثقة على شخصيته وعلى الشخصية الكلية الوجود- أكثر من اعتماده على الصنعة الكتابية الموثوقة لكتابته. وبغض النظر عما فعله، فإن حقيقة وجوده بشكل طارئ طغت على بعزقة جهوده وعلى تباين أقنعته لصالح الكنيسة والدولة وإيرلندا والتعلم التقليدي والمبادئ الأخلاقية. ولئن كان الشعور حيال تلك المؤسسات، كما أشرت من قبل، بأنها في خطر محدق يهددها بالزوال، فقد اضطلع سويفت بعبء توكيد دوام وجودها. وإن قالبه الفكري جعله يتعهد هذه التوكيدات في شكل تقليدات مكتوبة لعدوّه، تقليدات سارت في الاتجاه المناقض مرات عديدة وأوغلت في الخيال والوهم والتشوش المزعوم. لقد كانت اللغة أداته، كما كانت أداة عدوه، ولكنه كان أكثر قدرة من غيره على استغلال المظاهر السلبية لأداته: رشاقتها ووقتيتها، وقدرتها الكامنة على الغش المثالي الذاتي المطلق. فكولريدج، كواحد من ضمن عديدين، كان يرى أن هذه المقدرة لدى سويفت بمثابة موهبته الفذة. وإن الشيء الذي كان يرى فيه العدو، العدو الذي كان يهاجمه سويفت، نتيجة محتومة لفكر متصدع، كان بالنسبة إليه المهمة المقصودة لتحليله القاهر الذاتي المنهجي والمنطقي والبارع فنياً. فهكذا كان أسلوب سويفت.
إن التهديد الذي كان يتهدد سمعته بعد مماته أمر واضح. فاليوم، مثلاً، لا نزال نقترب منه على أساس شيء من التماسك المنسوب لعمله، والتماسك الذي نعتبره متصلاً به بصلة القربى كثمرة لجهده، ولكن هذه الصلة تحديداً هي ما تتنكر لها كتابته تنكراً كبيراً.
فكراسة "اقتراح متواضع" تعلن عن نفسها على أنها فكرة أي إنسان إلا سويفت، ومع ذلك فإنها بقلمه دون أدنى شك. وهكذا فإن الحضور، كما يقول جويس في بوليسيس، أسمى شكل من أشكال الغياب. فهذا التبصّر صحيح عن اللغة قبل أي شيء آخر، وهو التبصر الموجود بشكلها المكتوب كبديل عن وجود كاتبه. إن أي بديل عن الشيء الحقيقي محكوم بسرعة الزوال، وبقانون الاستبدال اللانهائي. فلقد كان الخوف من هذا المصير هو الشيء الذي أخذه سويفت بحياته في قصيدة "أشعار...." بتركه نفسه تموت على البطاقات وفي حفلة استقبال والبول، وفي حوانيت باعة الكتب. إن حدث مماته، "النبأ الذي سرى في نصف البلدة"، خسارة مستحبة -وفقاً للقانون الساخر الذي جاء به لاروشفوكو- كخسارة "لم يعد من السهل تعويضها". ومع ذلك فبتبديد كل طاقة النبأ، الأمر الذي جاء متوازياً مع سرعة تبدل المشاهد في القصيدة المثقلة بتضييع الزمن، فإن ممات سويفت يتحول شكله من تشكيلة من الإشاعات التي تتناقلها الألسن إلى ذلك الحدث الذي لا يستطيع إطلاق حكم صائب عليه إلا صوت مجهول حيادي.
إن القصيدة محكومة بسلسلة من المفارقات المحبوكة التي ليست مجرد مفارقات بلاغية وحسب: إذ من هنا، كما أعتقد، تحتل القصيدة مكانتها الخاصة كمنطلق لأية قراءة لسويفت ولأي تحقيق لنصَّه. فهذه المفارقات ما هي كلها إلا نتائج لتلك البنية التي يتعذر الدفاع عنها والتي توحد الوجود البشري. وهذا هو التعارض فيما بين مطلقات الحياة (الولادة، الموت، الفردانية، الجماعة، أي الطبيعة بوجيز العبارة).
وبين مظاهرها الخاصة التي تشوهها وتجعلها نسبية. إن قوة هذا التعارض وعقمه يتمثلان في المطلقات التي لا تظهر فعلاً في القصيدة لأن التفاصيل تهمين عليها هيمنة كاملة. ومع ذلك فإن سويفت بمنتهى الجدارة يبيّن الأمر التالي ألا وهو أننا، في الوقت الذي نتعرض فيه للغيظ من الحالة الواهية التي آلت إليها الدنيا، نبدأ بالتأثر من الفن الرفيع الذي حول الدنيا إلى تلك الحالة الآنفة الذكر. فهذه النتيجة تماثل تماماً النتيجة التي توصلت إليها كراسة "عن الشعر".
إن المثل الذي ضربه لاروشفوكو يدخل بنا مباشرة إلى دنيا مشتقة من الطبيعة، ولكن بما أن فحوى ذلك المثل هو خطيئة الجنس البشري فإنه ينطوي بداهة على لاروشفوكو في الوقت نفسه أيضاً.
في كل الكروب التي تحل بأصدقائنا،
نراعي أول ما نراعي أغراضنا الخاصة،
وفي الوقت الذي تحدب فيه علينا الطبيعة لتهدئة بالنا،
فإنها تلفت نظرنا إلى ظرف ما لإدخال البهجة على نفوسنا.
ولذلك فإن القصيدة مفصولة تماماً عن أي ملاذ خارج إطارها، وإلى هذا السجن الهادئ يركن الراوي توا وهو يطالب "بإنش واحد كحد أقصى" ليكشف فيه عن رغبته، عن انسجامه التام مع مسيرة الدنيا، كي يرتفع فوق مستوى أقرانه. فالنسبة للكاتب يعني هذا حرفياً أن تأليفه الكلامي سيحتل مكاناً ينكره الكاتب على غيره، ويهرع سويفت دون إبطاء لتبيين فعالية ملاحظة لاروشفوكو. ولكن يجب علينا أن ننتبه كيف أن الأمثلة التي يضربها سويفت هي ما دعاها بالمزاح، لأن ما يحسد عليه بعض الأصدقاء من أمثال (بوب وغي) هو موهبتهما، علماً أن هذه الطريقة هي الطريقة السلبية لكيل المديح لهما. فحين يتهمهما، في البيتين 60 و61، بأنهما ساقاه إلى أن يبدو "عتيق الطراز" يجدر بنا أن نلاحظ التغيير الذي طرأ على لهجته: فالمزاح على الأصدقاء يخلي سبيله لاتهام خطير موجه لتلك الأوقات التي صارت ملكاً لوزراء الدولة الذين صار بمقدورهم معاملته بخشونة (وقد عاملوه بها)، وذلك لأن زمانه وحظه الطيب -في ذروة عز سلطة المحافظين- أثارا استياءهم. فلا روشفوكو سلاح ذو حدين.
ومنذ هذه النقطة فلاحقاً تصبح القصيدة محكومة بالنظام الزمني المحتوم الذي يقود أي إنسان إلى حتفه. وهذا النظام واسع بما يكفي لاحتواء لا التسليات التافهة للإنسان المتبطل وحسب بل والحكم السامي للتاريخ أيضاً. إن النقطة المركزية في الزمان هي حدث ممات سويفت المطروح، كعقدة ثابتة، في وسط ثلاث حركات تنبثق عنه وتحيط به. فقبل أي شيء هنالك حركة الانتشار التي بها نبأ ممات سويفت ينتشر في طول البلدة وعرضها. وثانياً، وهذا أقل وضوحاً من سابقه، هنالك تأريخ موضوعي يحملنا قدماً إلى الأمام إلى مستقبل بعد ممات سويفت بردح طويل من الزمن. وثالث هنالك حركة القصيدة نفسها، أي ذلك الإنش الذي يتوسع إلى أن يصبح في النهاية بنية كلامية هائلة، إن غاية القصيدة هي الإتيان بحدوث الإنتشار، فالعميد يبدأ بالموت، "فهو بالكاد يستطيع التنفس" ومن ثم يموت- “فما هي الخاتمة البهيجة؟". فالشيء الذي يتبدد ويضيع هو القسط التافه من العميد، ذلك القسط الذي صار ملكاً للناس الآخرين. إن أداة التبديد البارعة صارت ضحية الإنهاك لا لأن التاريخ ابتلعها، كما كانت عليه الحالة بالنسبة لكراسات سويفت السياسية، بل لأن السبب على الأرجح كان يكمن في أن مصدر فاعليتها هو حقارة القيل والقال، مصدر من مصادر المحادثة المهذبة التي ليس لها أية ديمومة أو وضعية حقيقية. وهذه المحادثة لا تمت، قبل أي شيء آخر، لا للعالم العمومي ولا للعالم الخصوصي، ولكنها تمت لنظام كلامي مستقل الاستقلال الناجز، أي إلى ذلك النظام الذي يطمس معالم أية علامة فارقة. وإنه لنسخة اجتماعية عن نفس ذلك النظام الذي يتغلب على الدنيا في نهاية "كومونويلث الأغبياء".
ومن الجدير بالذكر أن ممات سويفت يحدث في المحادثة، أي في اللغة- لا في مكان آخر. ولذلك ليس بوسع القارئ أو الشاعر أن يتغلغلا خلف البعد الكلامي، الأمر الذي يعني فرض معيار بشري على الطبيعة ("عالم مشتق من الطبيعة"). وهكذا فحتى موضوع على تينك الخطورة والبداهة الكبيرتين كالموت لا يمكن معالجته إلا كوظيفة من وظائف اللغة: ومن هنا يأتي التصنع البريء الذي تجيء به إرشادات الشاعر المسرحية وانتقاله المفاجئ بالمشاهد التي يترتب فيها الموت شفهياً. فالمشكلة التي يتعرض لها سويفت حينئذ هي تبيينه أن اللغة هي الحلبة التي تتصارع فيها الأعمال الأدبية بعضها مع بعض إلى أن لا يبقى في تلك الحلبة إلا أكثر الأعمال جدارة وأهمية. وإن ما يتبقى من سويفت لا يمكن وصفه، بعد ردح طويل من الزمن، إلا من قبل صوت حيادي مغفل قادر على أن يتفهم أن سويفت كان رجلاً أكبر من زمانه بكثير- وهذا دليل على ذلك الإحساس العجيب الذي كان يحسه سويفت تجاه نفسه ويتوقع فيه أن يكون مشكلة عويصة أمام المستقبل.
إن إطار المشهد الختامي للقصيدة لشيء بارع الحبكة، لا بل وأبرع الأشياء التي فعلها سويفت في حياته:
احسبوني ميتا، ومن ثم افترضوا،
أن احتشد لفيف من الناس عند الوردة،
حيث جراء حديث من هذا وحديث من ذاك،
أكبر لأصبح موضوع حديثهم،
وبينما هم يلهجون باسمي هنا وهناك،
بعضهم بالتأييد وبعضهم بدونه،
وأحد ممن لا علاقة له البتة بالأمر،
يرسم شخصيتي النزيهة.
(الأعمال الشعرية، 506)
إننا نلاحظ هنا أن الحديث من هذا ومن ذاك يستنفذ نفسه بنفسه، في حين أن سويفت موضوع الحديث، أي، موضوع التاريخ يكبر: لا بصورة تلك الشخصية التي شاخ أيضاً وضعها البشري وأكل الدهر عليها وشرب، بل بصورة الشخصية النزيهة التي تبرز لتحتل لها وجوداً أكبر فأكبر. إن مثل هذه الشخصية بإمكانها الصمود والبقاء في التاريخ كتكملة للزمن المحدد الذي تجاوز حدوده سويفت باعتباره كان أكبر منه بكثير: "فلو أنه صان لسانه وقلمه/ لبُعث كغيره من الناس الآخرين". وها هو الآن يبعث من جديد، لا كإنسان بل كموضوع. وإن عبارات الوصف متسقة تمام الاتساق تقريباً مع عبارات المبالغة، ومع العبارات المتناقضة مع عادات وتقاليد زمانه تناقضاً كبيراً إلى ذلك الحد الذي يجعل السلطة والدولة عاجزتين عن احتوائه.
مع الأمراء كان يحافظ على الذوق اللائق،
ولكنه ما وقف البتة خاشعاً أمامهم،
ومع جلالة الملكة، بارك الله بها،
كان يتحدث بحرية وكأنه يتحدث إلى وصيفتها،
إذ كانت تظن ذلك نزوة خاصة به،
وما كانت تسيء الظن بكل ما يخرج من فمه،
لقد عمل وفق موعظة داوود تماماً،
إياك أن تثق بالأمراء،
ولئن كنت تريد إثارة غيظه فعلاً
فحرّضه بذكر عبد في السلطة:
مجلس الشيوخ الإيرلندي، على سبيل المثال،
يا لكم انتقده بنفاذ صبر:
قسط من الحرية كان كل مطلبه،
من أجلها وقف مستعداً للموت،
دفاعاً عنها وقف بمفرده ببسالة،
من أجلها عرّض حياته للخطر،
مملكتان، وكأنه قام بانشقاق حزبي،
وضعتا ثمناً لرأسه،
ولكن تعذر العثور على خائن،
يبيعه مقابل ستمائة جنيها.
(الأعمال الشعرية، 507)
لقد دافعت السماء عن براءته (1-429)، ولذلك فإن سويفت يبلغ سيادته الخاصة به جراء تجاوزه الحدود المألوفة المتجسدة بالملكات والأمراء "بذوق لائق". وهنا أيضاً يصور سويفت نفسه في تلك الحالة الموقوفة عليه وحده، الوحدة بين الذوق والحرية- حالة تذكرك بعبارة بلاكمور "الفوضى الرجعية". هذا في حين أن بولسون يسمي هذه الحالة بالدمج "الذي دمج فيه سويفت بين استغلاله الساخر لوضعيته وبين تأملاته الجادة فيه". ولكنني أعتقد أن القسط الهجائي الواضح من القصيدة قد أرجأه سويفت ليس أسلوباً أو نوعاً أدبياً (وهذا ما خلص إليه بولسون)، وإنما هو على الأرجح منوال سيادته وتجاوزاته وكان بالفعل نمط وجوده المفهوم. وباختصار، كان الهجاء لقب تطرفه وكان، كما يبرهن على ذلك ميراثه لإيرلندا) البنية الموضوعية لديمومته السلبية في التاريخ.
ربما قد أجيز للعميد
أن يكنّ في سريرته فيضامن الهجاء،
وأن يبدو عازماً على عدم ضموره،
إذ لا عصر يستحقه كهذا العصر،
ومع ذلك فلم يكن الحسد من أهدافه،
لقد هجا الرذيلة وأغفل الاسم،
وما كان بمقدور امرئ أن يمتعض،
في الوقت الذي كان المقصود به الآلاف على قدم المساواة،
هجاؤه لا يشير إلى أي عيب
إلا العيب الذي بوسع كل المخلوقات تصحيحه....
"لقد تبرع بالثروة الصغيرة التي كان يملكها
لبناء منزل للبلهاء والمجانين:
وأبدى بمسحة هجاء وحيدة،
وما من أمة أرادته مقزعاً بهذا المقدار:
تلك المملكة تركها لدائنه،
وأتمنى لها قريباً صاحباً أفضل".
(الأعمال الشعرية، 512-513).
إن "الأشعار" تُسلِم سويفت للتاريخ في نهاية القصيدة. فثمة حدث حقيقي يصبح قيد التخطيط في العنصر الخيالي من اللغة ويودع بجرأة ضمن التشوش المطلق للهذر وخارج إطار العالم، إلى أن يتحول القسط الذي يجب أن يضيع إلى مكسب مؤكد "نزيه" للأجيال اللاحقة، وفي تلك العملية يموت بالطبع سويفت الإنسان وينطمر في توافه ذلك العصر الذي ما كان بمقدوره أن يسمح لسويفت بالحياة فيه، ولاتركه يعيش فيه أيضاً. فهذا الشيء يجب أن يكون مصدر الخرافة الراسخة عن جنونه- نفوره من قواعد الحشمة المألوفة التي كان نفسه يتوق إليها والتي أمانته المفرطة، في السنوات الأخيرة من حياته، أجبرته على الاعتقاد بأنها اندثرت وتلاشت. ولذلك فقد تصور نفسه بأنه عاش ومات في تلك الخسارة. ومع ذلك فإن القصيدة تبين كيف أن منفاه الإيرلندي قد أعيد إلى سابق عهده كموضوع للمحادثة، لكن لا كشخصية بتاتاً ولا ككتلة من الأعمال، بل كحضور بالنسبة لأولئك الأفراد الذين يستطيعون أن يتقبلوا، كما تقبل هو، الخراب والسلطة في آن واحد معاً. ففي ذلك الوضع، بين الدنيا والمحفوظات، يحافظ سويفت على ديمومته، شطر منه هنا وشطر هناك. فلقد كان خياله هو المقاول لتلك الصفقة الصعبة، وتحدّ عسير غاية العسر بالنسبة للقارئ في القرن العشرين.
nnn


([1]) نسبة إلى ليست وباخ.

([2]) نسبة إلى ليست وباخ.

([3]) لعبة جماعية يسير فيها اللاعبون حول الكراسي أثناء عزف الموسيقا، ويكون عدد الكراسي أقل من عدد اللاعبين بكرسي واحد. وحين تتوقف الموسيقا يخرج من اللعبة اللاعب الذي فشل في حصوله على كرسي.

([4]) الاسم المستعار للروائية الإنكليزية ماري آن كروس (1819- 80)- المترجم.

([5]) إنه إحدى الشخصيات الرئيسية في رواية للكاتبة المذكورة أعلاه، وتحمل هذه الرواية عنوان "ميدل مارش" وهو اسم البلدة الريفية الانكليزية التي جرت فيها أحداث الرواية. وهو معلم متحذلق عجوز ومتحمس دينياً يتزوج من شابة باسم دوروني بروك، وهي شخصية رئيسية أخرى ومتحمسة دينياً أيضاً للقديسة تيريزا، ولكنه يقضي شهر العسل منهمكاً "بالعبث في الأتربة العضوية بلا جدوى" كما قال ابن عمه الشاب "ويل ليدزلو"، وبعد حين من الزمن تساوره الشكوك بأن زوجته تميل إلى ابن عمه ويصبح الزواج تعيساً.
ونظراً لذلك يضيف، بمنتهى الخسة، ملحقاً سرياً على وصيته يطلب فيه حرمان زوجته من الميراث إن تزوجت مستقبلاً ابن عمه ويل. - المترجم.

([6]) السيد حامد بن إنجيلي: اسم وهمي لكاتب عربي اختلقه سرفانتس وعزا إليه قصة دون كيشوت.- المترجم

([7]) إننا بأمس الحاجة لوجود إنسان بيننا، من الداخل، كغوته- المترجم.

* السترلد برغز: في رواية "أسفار غوليفر"، كان هذا النعت هو النعت الوطني في مملكة لوغ ناغ، وقد أطلقه سويفت على أولئك الناس الذين ما كان بمقدورهم أن يموتوا، ولكنهم بعد سن الثمانين يستمرون على قيد الحياة بحالة من العجز واليأس، وعلى الرغم من اعتبارهم قانونياً موتى فإنهم يتلقون معونات زهيدة من الدولة- (المترجم).
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59