عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 02-19-2012, 12:07 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

«بند العولمة الخامس»:

اليهود في عالم القطب الواحد


المسألة اليهودية محظورة اليوم؛ إن كل الذين ترهبهم حساسية هذا الموضوع يزجون به, عن قصد أو بغير قصد, في غياهب معاداة السامية. تفضل الأسرة السياسية والعلمية الصمت. كان في الإمكان قبول هذا الأمر لو أن التاريخ قدّر لهذه المسألة أن تظل لاحقاً أيضاً في حال "السبات".
إنني أنطلق من مقدمة مغايرة: إن بانتظار حضارتنا في بداية الألف الثالث هزات وتطورات أخرى غير مرئية. وسيُطرح في سياقها الكثير من المسائل المصيرية, ومن بينها المسألة اليهودية, في صيغ جديدة, وربما غير متوقعة. لذلك من الخطر الشديد إبقاء هذه المسائل غير مطروقة, ومحافظةً على شكل عقد ومخاوف في اللاوعي. وفاقاً للنظرية النفسية التحليلية يعطي التلفظ بالعقد المخفية ضمانات إضافية بعدم اقتحامها المفاجئ منظومة قراراتنا, وتضفي على سلوكنا علنية أكبر ولياقة عقلية أكبر. ويخيل أن المسألة اليهودية بالذات هي المسألة الأكثر رزوحاً تحت ثقل المخاوف والعقد. إن التلفظ بغير المطروق والمخفي في هذه المسألة يعطينا إمكانات إضافية من أجل الحفاظ عليه في جو واقعيتنا ورقابتنا الحضارية.
"نهاية التاريخ" بالأمريكية


يبدو أن القدر قد حكم على اليهود أن يكونوا "عولميين". فوضعهم مزدوج المعنى ذاته باعتبارهم شخصيات وقفت منذ القدم على تخوم الثقافات من غير أن تتطبع حتى النهاية في الوسط الذي أقامت فيه, ومن غير أن تتقبله حتى النهاية, يكوِّن نفسية ذلك الانسلاخ ذاته, الذي عرَّفناه سابقاً على أنها مقدمة ذاتية رئيسية للعولمة.
إن الوعي اليهودي المعاصر ينظم تراتيبية خاصة من ثلاثة أنواع للعولمة - العولمة الغرائبية المرتبطة بالأوهام حسنة النية حول النظام العالمي الجديد, والعولمة الباطنية المرتبطة بالإحساس العالمي للنخب الكوسموبوليتية غير المدرك من "جماهير السكان الأصليين", وأخيراً عولمة الدولة العظمى الإمبريالية, المرتبطة بادعاءات الولايات المتحدة الأمريكية العولمية.
يحب اليهود اليوم أمريكا حباً متعصباً. وينتهي الحديث مع المفكرين اليهود المعاصرين دائماً تقريباً بإطراء الرسالة الأمريكية في العالم وبالنعوت المزدرية بحق الوطنيين السلفيين, المقاومين لمشيئة عصرنا العولمية, التي تجسدها هذه الرسالة. إن أي تشكيك بالحق الأمريكي في تنظيم كوكبنا يلاقى بردة فعل الإحساس بالإهانة, حتى يكاد يخيل أن الولايات المتحدة الأمريكية هي "أرض ميعاد" اليهودية. بماذا يمكن تفسير هذا الموقف البعيد عن التعددية (البليورالية), والمرتبط بالاستعداد لوضع البيض كله في سلة واحدة أو, بكلمات أخرى, بالاستعداد لتقاسم الخطر الناجم عن المغامرة الأمريكية الناظمة للعالم؟
المرجح أن الأمر يتلخص في أن اليهود صدّقوا أمريكا مرتين. أولاً, صدّقوا أنها تجسد فعلاً مُثُل "المجتمع المفتوح" الكلاسيكية, هذا المجتمع الخالي من حواجز التمييز العنصري والأوهام التي تعيق تطبع الغرباء تطبعاً ناجحاً. وثانياً, صدّقوا أن المخططات الأمريكية لإدارة العالم هي واقعية حقاً وليس ثمة أي بديل حقيقي لها – وكل السيناريوهات الأخرى تقود البشرية إلى الفوضى أو إلى الديكتاتوريات العسكرية. في هذا القسم من الرأي يختلف الفرقاء. يفترض بعضهم أن اليهودية العالمية تستخدم الولايات المتحدة من أجل تحقيق أهدافها, وبعضهم الآخر – وأنا من بينهم - يفترض أن أمريكا في هذه الحال تستغل آمال اليهود وتخدع وعيهم.
إنني لا أتحدث عن من يصنفون كمساعدين للمسيحيانيين الأمريكيين سعياً وراء الأجر الجيد - هنا لا يجوز الحديث عن تلاعب, وإنما عن صفقة. إنني أتحدث عن الأوهام حسنة النية, التي تولد المتعصبين.
احتكاماً إلى بضع مؤشرات ثمة الكثيرون من اليهود ينتظرون مرة أخرى "نهاية التاريخ", وينتظرون معها الحل "النهائي" للمسألة اليهودية. ارتبط هذا الحل النهائي في بداية القرن بالأممية الشيوعية, التي ستزيل, لا الحدود والحواجز القومية وحدها, بل والقوميات ذاتها أيضاً مع اللغات القومية - وبذلك تحوِّل البشرية كلها إلى ديسبورة سعيدة, لا تعرف وطناً. يرتبط حل المسألة اليهودية الآن بـ "المجتمع المفتوح" العولمي. أمس كانت لا تزال ملحوظة في خطوط كفاف هذا المجتمع المفتوح بضعة ملامح من المشروع التنويري, المؤسس على فرضيات العمومية والتعددية والديمقراطية. اليوم صار يبرز على نحو مكشوف أكثر المحتوى الإمبراطوري.
يبدو الأمر وكأن العالم اللاغربي كله تقريباً غارق في الشر, وتحويله إلى أرض المعياد مستحيل. ليس ثمة لزوم أيضاً لوضع الآمال على قوى التقدم المُغْفلة, التي تنقل آلياً الإنسانية السعيدة نحو المستقبل المشرق. ويبقى مخرج وحيد: الاتكال على أمريكا في تنفيذ رسالة الرقابة الديمقراطية على غالبية الكوكب غير الديمقراطية. الضمانات لليهود في هذا العالم المليء بالشك مرتبطة بالحضور العولمي الأمريكي. بالتالي ينبغي أن تضعف إلى أقصى حد كل السيادات الذاتية القومية القادرة على معارضة هذا الحضور, وينبغي أن تفرض الرقابة العالمية الأمريكية في كل مكان, وينبغي أن تَنْفَذ إلى كل شيء.
واضح أن الحديث في أثناء ذلك ما عاد يدور عن ذلك الوعي, الذي ينتظر بدماثة تطور النزعات الموضوعية التي تقود باتجاه محدد مسبقاً. يدور الحديث عن اختيار الموقف المرتبط بالمخاطرة والصراع والضراوة. في الواقع إذا عُلِّقت الآمال كلها على الحماية الأمريكية العولمية فإن من الضروري قدر الإمكان تقويض موقف الدول القومية في العالم كله وتقويض الموقف الوطني "الدفاعي" القابع خلفها. صار الناس المحتفظون بهذا الموقف يُعتبرون أعداء أمريكا وأعداء اليهود بآن معاً, إنهم الغالبية الحمراء – البنية الشريرة التي تعيق الحل النهائي لمسائل بناء العالم بالطريقة الصحيحة الوحيدة.
لنسأل أنفسنا السؤال التالي: ألسنا نتعاطى مع إصدار حكم نهائي جديد على التاريخ الإنساني قبل الأوان؟ ألا ندفع الإنسانية هنا باستعجال نحو النهاية, التي لا تناسبه, والتي لا تعتبر في حقيقة الأمر نهاية؟
هل يمكن التأكيد بأن أميركا ستنجح في مهمة وضع اليد نهائياً على العالم؟ فعبر تاريخ الإنسانية الممتد منذ آلاف السنين وحتى الآن لم يشهد أحد مثالاً لهذا. لقد نشأت الإمبراطوريات العالمية وظهرت مشاريع الاحتلال التي هزت العالم, لكن كان يمر بعض الوقت وتتناثر "الدول الألفية" مثل منزل من ورق اللعب. وكان يخيَّل لحاملي هذه المشاريع في كل مرة أن كل شيء قد حسم نهائياً "ولا قدر آخر".
إذاً فلنتخيل أن اليهود في أغلب البلدان التي لا زالت تقاوم الادعاءات الإمبراطورية العولمية الأمريكية قد اكتسبوا في نظر السكان المحليين سمعة راسخة بأنهم "طابور خامس" أمريكي, ثم انهار المشروع الأمريكي: ألن تفوح من هذا رائحة المجازفة الكبيرة جداً لكل من ربط مصيره بهذا المشروع قبل الأوان وبغير تبصر؟
وحتى إذا تخيلنا أن الاحتلال الأمريكي للعالم قادم فعلاً فهل تبدو السيطرة الأمريكية كافية للتدخل السريع والفاعل في جميع "أطراف العالم " المحتلة بهدف الحؤول دون الأعمال المعادية للسامية وضمان الرفاهية والاستقرار لليهود؟ ألن يكون لدى الإدارة العالمية الكثير من الهموم الأخرى, حتى تركز قواها كلها من أجل حل المسألة اليهودية وحدها؟
أخيراً, من غير الممكن استثناء الخطر الآخر: ألن تتغير شعارات فاتح العالم ذاته ومبادئه حين تتكلل خططه بالنجاح؟ وإذا ما بدا للمحتل مفيداً استخدام ديماغوجية معاداة السامية من أجل توطيد السلطة في المواقع وخداع جماهير السكان الأصليين, فهل سيقدر على التغلب على هذا الإغراء؟ باختصار, ووفاقاً للعديد من الاعتبارات, يبدو الحل الحالي "الأحادي" للمسألة اليهودية المرتبط بالتوجه الاستثنائي نحو الولايات المتحدة الأمريكية ورسالتها العالمية, أقل إيثاراً من الحل التعددي التقليدي, المرتبط بتطبيع اليهود في بلدان إقامتهم وبعلاقتهم الوفية بالسكان المحليين.
لنتناول الآن المسألة من جانب مغاير. حين يدار الحديث عن ذلك الشعب ذي التقاليد القديمة مثل هذا القدم, والذي سطر صفحات ناصعة في تاريخ البشرية الوجداني, وفي مسيرة تشكيل وعيها التاريخي لذاتها, فإن اعتبارات التوفيق والأمن البراغماتية هي غير كافية على نحو جلي. يخيَّل لي أن "صيغة خلاص" اليهود الأمريكية أكثر إثارة للشك في الحسابات الكبرى من الحسبة التي تبدر عن الوعي الاستهلاكي المعاصر المتعطش إلى التوفيق المادي والراحة والأمن فقط.
تدخَّل اليهود في تاريخ إمبراطورية عالمية رائعة وغريبة عنهم – هي الإمبراطورية الرومانية, وقد أوقع هذا التدخل أحد أعظم انقلابات الإنسانية الروحية المتعلقة بحل مسألة التناسب بين الجسدي والروحي, بين القوة والأخلاق, بين المفيد والعادل, حلاً جديداً. وبعد ذلك, وحتى قيام ثورات العصر الحديث العظيمة وقف اليهود إلى جانب المستائين والمظلومين, ورموا معهم القفاز في وجه القوة المتسيدة غير المعتادة على مواجهة المقاومة. كان الطبع اليهودي منذ قديم الزمان مناهضا للاستبداد وملهماً في المواقف التي تطلبت إهانة القوة المتغطرسة وتقديم الوعد للضعفاء الذين يفتحون أفقاً تاريخياً جديداً نوعياً.
هل نستطيع القول إن التوجه "المركزي الأمريكاني" الحالي لعدد كبير من اليهود يتماشى مع هذا التقليد العظيم؟ ليس مرجحاً أن أشياع "الرسالة العولمية" الأمريكية الحاليين بسيطون إلى هذا الحد ليصدقوا أن الدافع الحقيقي للتوسع الأمريكي الجيوسياسي هو الاهتمام فعلاً بحقوق الإنسان. سيبدو تمظهر الرقة الساذجة أمام سياسة عالم القطب الواحد الأمريكية غير مقنع ومزيف إلى درجة أن عزة النفس البسيطة لا تسمح بالتعبير عنه. إن المركزية الأمريكية اليهودية الحالية لا تعبر عن الحماسة والحنين العاطفيين بقدر ما تعبر عن الاتكال على القوة والسلطة.
إن المنهج التوحيدي اليهودي الذي ناهض عبر القرون التجارب الوثنية لخلق الأصنام والإغراءات بالنجاح اللحظي, يكاد أول مرة في التاريخ يسلم مواقعه لشياطين الغرور الاستهلاكي التافه والخنوع المتباهي برعاية القوة العالمية.
نفسياً, يمكن تفسير هذه التبدلات في الوعي, المرتبطة بتحول الخنوع والخوف إلى فخر وتحول الضعف إلى "قوة حديدية" عديمة المشاعر. لنتذكر أن المفوضين البلاشفة كانوا يؤكدون دائماً على "الأناس الحديديين" الجدد الذين يدوسون الأخلاق القديمة. لكن "إنسان البلشفية الحديدي" انتفض في وجه الأقوياء, مدافعاًً عن الضعفاء, وبذلك كان مخلصاً لتعاليم الإرث الروحي اليهودي – المسيحي.
يتحدث الوثنيون الجدد الحاليون بلغة مغايرة. إنهم يظهِرون أول مرة بعد الانقلابات الفاشية في أوربا احتقارهم للعرق الدوني, عرق المنحوسين وغير القادرين على التكيف. وليس مهماً أن العنصرية في هذه الحال لا تستخدم معايير أنثربولوجية يثبتها علم الجينات بل تستخدم, أساساً, معايير السوق والمعايير الاقتصادية. لقد أُكسِبت نظرية السوق اليوم ملامح الاصطفاء الطبيعي العنصري الذي لا يرحم غير القادرين على التكيف - حتى لو تبين أن الحديث يدور عن غالبية البشرية.

بعث أم انحطاط

هيا بنا نمعن الفكر في الآفاق المختلفة في الحالين: حين يدور الحديث عن اتحاد الأقلية اليهودية مع الأغلبية المظلومة وحين يدور الحديث عن الحال المعاكسة – عن اتحادها مع الأقوياء, ومع سادة العالم اليوم ضد الأغلبية المنحوسة و"السلفية".
واضح أن ما ينتظرنا هنا ليس فقط العواقب السياسية الخاصة التي ما زالت غير متكهن بها كثيراً. يدور الحديث عن التحدي الحقيقي للتقاليد الإنسانية العالمية كلها, التي اعتُبِرت نقطة انطلاقها انقلابات "الزمن المحوري" العظيم التوحيدية. وعلينا في المقام الأول أن نقرر النتائج الأخلاقية. تفترض العولمة المركزية الأمريكية "ثورة أخلاقية" حقيقية, محفوفة بالتشكيك بأحكام الوعي الكلاسيكية جميعها, المتعلقة بالتضامن مع المحرومين وبروح الرأفة والحساسية الأخلاقية.
ليس من قبيل المصادفة أن تجد كلماتٌ مثل "العدالة الاجتماعية", "المساواة", التضامن", "التعاطف" مكاناً لها بين عداد الكلمات التجديفية في اللغة العولمية الحديثة, إلى جانب "الوطنية" و"خدمة الوطن" و"الإخلاص للتقاليد الشعبية". إننا نرى هنا, من جهة, تحدياً لأخلاق التنوير السياسية, المُسخّرة لخدمة الفقراء وغير المتنورين. ومن جهة أخرى تحدياً للأخلاق الإنسانية العامة بمجملها, فحيث يدور الحديث عن وجوب نزع أي حواجز تَعوق اصطفاء السوق الطبيعي يصير المستهدف هو الإحساس الأخلاقي ذاته. لم يشهد تاريخ البشرية بعد مثل هذا القدر من الاتكال الصريح على القوة والنجاح المتحولين إلى مؤشرين مطلقين وقيمين للجودة, وإلى معيارين نهائيين لكل من هو جدير بالعيش على الأرض, ولكل من هو غير جدير بذلك. أليس في مثل هذا الموقف – والكثيرون من المنظرين والمؤلفين اليهود لا يأنفون من لعب دور طلائع مؤيدي هذا الموقف - مغامرة مزدوجة؟
أولاً - تؤكد هذه المغامرة أسوأ مخاوف "السكان الأصليين" من اليهود ومن "أخلاقهم الطائفية تجاه جماعتهم", إنها, بكلمات أخرى, تؤكد أسوأ فرضيات معاداة السامية.
وثانياً - هذه مغامرة داخلية, تمس تحديداً الآفاق الروحية وسمعة اليهودية في العالم. يدور الحديث في هذه الحال عن دوافع الإبداع الروحي ومنابعه. بدا التاريخ اليهودي على مر الكثير من القرون وكأنه انشطر مخلفاً أنموذجين متطرفين. نجد في الجهة الأولى أنموذج المرابي والصيرفي والتاجر, الذين يتحدد نجاحهم بمقياس الابتعاد عن الأخلاق العامة وبعلاقتهم غير العاطفية مع محيطهم الاجتماعي. ونرى في الجهة الأخرى أنموذجات ساطعة ومتوهجة على نحو غير عادي وتصبو إلى تقاليد القداسة والنبوة العظيمة, ولا تسمح للنار المقدسة بأن تنطفئ في عالمنا البارد. ليس ثمة أي شك في أن أنصار العولمة لن يسمحوا بانقطاع التقاليد التجارية - الرِبوية, وما يسمونه اليوم اقتصاد السوق يذكرنا أكثر ما يذكر بالمراباة القديمة عديمة الخجل المرتبطة بالديسبورة المترحلة لكهنة العجل الذهبي, وليس بأخلاق ويبر البروتسانتية.
في هذا السياق يبدو مغايراً تماماً أفق التقليد الآخر, الذي تدين لـه اليهودية بمتناقضات مصيرها التاريخي العظيمة وسمعتها الوجدانية. والمخاطرة بأن يختفي التناقض اليهودي العظيم اليوم من العالم, وبأن نحصل على نمطية أحادية عوضاً عن الازدواجية الغامضة في المصير والوعي اليهوديين, كبيرة جداً. لكن هل سترضى الأنفة اليهودية بمثل هذا الحل لمصيرها, وهل يكفيها أن تُعتَبر تجسيداً لأخلاق النجاح التجارية الاستهلاكية؟
إنني أتبنى موقف "نقد القدرة على الفكر" الكانطي([1]), حيث يجري التفريق بين أفقي الموهبة والعبقرية في الثقافة. الموهبة لدى كانط واقعية جداً وتمتاز بمقدرتها على تجنيد جميع المقدمات المتوافرة, ونَظْمها في إطار منطق واحد يقود إلى نتيجة ناجحة. أما العبقرية لدى كانط فهي على الأرجح رومانسية أكثر منها واقعية, وتحمل تجلياتها طابعاً صوفياً - إنها ليست من هذا العالم, إنها تحتوي استجابة لعالم جبلي آخر, ونور نجوم أخرى.
ونسأل أنفسنا إذ نترجم هذا إلى اللغة المعاصرة: هل ثمة علاقة بالإلهام الإبداعي الكبير لنشوات الوعي الأخلاقية – الدينية المنطلقة إلى ما وراء أفق هذا العالم, الذي لا تكتسب فيه الأهميةَ الحاسمةَ إلا الثمار الناضجة وشروط البداية فقط؟
ألا يكون نفاد الأفكار التأسيسية الكبرى, التي يتحدث عنها اليوم الكثيرون من محللي الثقافة والعلم, متعلقاً, تحديداً, بالفتور الكبير الذي أصاب الوعي الأخلاقي – الديني, وبما فعله بالثقافة جيل العصر ما بعد الديني الثاني؟ لقد برز الملحدون الأوائل, كما حزر دوستويفسكي, كمتعصبين للإيمان - وإلا لماذا كانوا سيتعصبون؟ لقد آمن الثوريون الحانقون ومناهضو الاستبداد وبناة الجنة على الأرض بأعجوبة التحول والميعاد والمتناقضات, التي أوصت بها المسيحية: عن النعيم النهائي للفقراء بالروح, الذين سيرثون الأرض, وعن نعيم المطرودين بسبب من الحقيقة, ونعيم الحزانى والودعاء. إن داروينييّ العولمة الاجتماعيين الجدد يُقومون الأفق أمام الفقراء والحزانى والودعاء على نحو مغاير. إنهم غير ميالين لأن يروا في الواقع المحيط وفي التاريخ الإنساني مؤشرات "البعد الآخر", التي لا تقود قط إلى حيث يشير منطق الاصطفاء الطبيعي, والتحليل البراغماتي كله. هل الوعي العقلاني تماماً والبراغماتي قادر على القيام بفتوحات عظيمة في الثقافة؟ ألا يتهددنا فقدان البعد الثاني المتسامي نحو الصوفية اليهودية - المسيحية, نحو الذرى الجبلية, بأن نفقد في الوقت نفسه الإلهام الإبداعي الكبير وبتحويل فروع الثقافة كلها إلى خدمة المنفعة؟
لمن الثقافة والعلم مدينان بالإضاءات والاختراقات الأعمق: ألأولئك الذين يوجههم الطلب الاجتماعي المصاغ بدقة, وحال السوق, أم لأولئك الذين لا يتبعون المنفعة بل الإلهام السامي؟ حتى قواعد العلم الاجتماعية البعيدة عن النشوات الروحية الصوفية تشير إلى الفرق الواضح بين دوافع المعرفة التطبيقية والتأسيسية, فالأخيرة مرتبطة بتجنيد منابع الروح الإبداعية غير النفعية.
لنعد إلى المسألة اليهودية. هل سيوافق اليهود, في حال معرفتهم الدقيقة لا للعواقب السياسية وحدها, بل الروحية أيضاً, على تجاوز الازدواجية في مصيرهم ووعيهم نهائياً لصالح الاتجاه الواحد والمعنى الواحد, الذي يروج له براغماتيو العولمة, أي لصالح الثقة التامة بهذا العالم الذي تحددت فيه تراتبية المنتصرين والمهزومين, القادرين على التكيف وغير القادرين عليه, المختارين والمنبوذين؟
إن القطيعة مع غالبية الكوكب غير القادرة على التكيف لصالح حلف المنتصرين وسادة هذا العالم ليست محفوفة بالمخاطرة السياسية وحدها.

هذه القطيعة محفوفة بفقدان تلك البكرية الروحية, وبفقدان فتوحات الوعي النبوي المنتشي, التي ارتبط بها ذلك القدر من المرات الكثيرة التي دان بها العالم بالقيادة الروحية لليهود.
يعني هذا في حقيقة الأمر فقدان التماثل المتسامي نحو التقاليد التوراتية, ونحو نص العهد القديم الذي تنبأ بالظفر النهائي, لا لذلك الذين انتسب إلى أسياد هذا العالم ليقاسمهم نجاحاتهم, بل لذلك الذي لم يفزع غير مرة من نبذه, ولذلك الذي يحسن الانتظار.
يجازف اليهود المتكيفون مع وضع السيادة الأمريكية في العالم بما هو أكبر من المخاطرة البراغماتية - إنهم يجازفون بتسخيف التاريخ اليهودي كله, ويغامرون بموت الأسطورة اليهودية في الثقافة. لقد بلغت معضلة التاريخ اليهودي الأزلية اليوم حدتها القصوى. إما التطبع النهائي الذي لا عودة عنه في معسكر المنتصرين, معسكر أسياد هذا العالم, وإما الحفاظ على التماثل غير المرتبط بمؤشرات اللغة والعرق التجريبية بقدر ما هو مرتبط بالحل المحدد لمسألة الرسالة. إذا تبين أن سيادة أمريكا في العالم عولمية حقاً ونافذة إلى كل مكان فإن على اليهود, الذين جعلوا خيارهم لصالحها, أن يذوبوا وسط المنتصرين. إن أي انتكاسةِ عزلةٍ, وأي تباعد سيكونان خطرين إلى أقصى حد بسبب من استياء جماهير الأطراف المحتلة من ممارسات "الطابور الخامس" الشهير. ما كان "البند الخامس" سيئ الصيت, الذي يُشبَّه منذ اليوم بممارسات "الطابور الخامس", ليبقي لليهود أي خيار آخر غير الذوبان كلياً بين المنتصرين, وغير التأمرك الخارجي والداخلي. وقد بتنا نلحظ اليوم بعض أعراض هذا التقمص اليهودي لـ "عرق الأسياد" الأمريكي. يبدو هذا لبعضهم انبعاثاً, لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الشريحة التي ولدتها التقاليد اليهودية النبوية الكبيرة فإن الأنسب هو الحديث عن خطر الانحلال.
لكن علينا أن نقول إن لهذا القدر من "تأمرك" الوعي اليهودي الجماعي مقدماته ذات الطابع ما فوق الفردي أو ذات الطابع البنيوي. يتلخص الأمر في أن لدينا اليوم تطابقاً مذهلاً في عمليات ازدواج بنى الوعي التي تشمل أمريكا الرسمية و"الطليعة الليبرالية" اليهودية في بلدان العالم المختلفة. وتبرز هذه الازدواجية في اللحظة ذاتها التي يجري فيها تقرير مصير الإرث الأعظم من موروث البشرية – أي إرث التنوير (الحداثة).

ربط التنوير مصيره, من بين مستويات دينامية الارتقاء الإنسانية الثلاث الممكنة - العولمي (الكوكبي), والقومي (ما فوق الإثني), والقبلي (الإثني), بالمستوى الثاني. صارت حقبة التنوير حقبة تشكيل الأمم الموحدة الكبرى عن طريق صهر الإثنيات المتجاورة والثقافات الفرعية في جماعات اجتماعية تاريخية كبيرة, تكتسب فضاءً اقتصادياً وسياسياً – حقوقياً وتعليمياً – إعلامياً كبيراً موحداً. إذا رمزنا إلى توافقية المستويات العولمي والقومي والمحلي بالأحرف ع – ق – م فإن صيغة التنوير ستبدو خصوصاً بعبارتها الفرنسية الكلاسيكية على النحو التالي: 0 - ق – 0 (يسحب المستويان العولمي والمحلي إلى خارج القوسين, وتكتسب العبارة المستوى الأوسط – القومي).
أنتج التاريخ الثقافي والسياسي الألماني صيغته المغايرة بعض الشيء:
0 -ق - م (يسحب المستوى العولمي إلى خارج القوس باعتباره تجريداً, وتصير العبارة العملية مؤلفة من تزاوج المستويين القومي والمحلي الإثني الإقليمي مع سيادة القومي غير المشروطة). نضيف على الفور أنه حتى هذا التنازل الخاص للبداية المحلية والإثنية القومية قد لعب دوره الدراماتيكي في تاريخ الشعب الألماني السياسي والوجداني.

وها نحن نلحظ اليوم محاولة إعادة تشكيل بنية الحداثة ذاتها عن طريق تحريك جهود التقدم كلها من المستوى القومي الأوسط إلى المستوى العولمي. والذي ينشِّط هذه المحاولة هو المجمع الإمبراطوري الأمريكي والديسبورة اليهودية المؤيدة لـه في المناطق. يدك الأمريكيون حصون الدول المستقلة الكبيرة القومية بآلتهم الصناعية - العسكرية والمالية والدبلوماسية, أما الديسبورة اليهودية فتنخرها بـ "تهكمها" الذي يطال كل شيء ويفتته. لقد خدم هذا التهكم اليهودي قضية التنوير في وقت ما خدمة أمينة على الرغم من أن الدافع إليه ربما لم يكن تنويرياً بقدر ما كان مرتبطاً بفرضية الشعب المختار القديمة. كانت قضية التنوير في زمنها في حاجة إلى رجالات ينتفضون بقوة ضد الأصنام القديمة وكذلك ضد كل ما هو فاسد وبدائي ومحلي. لقد نظف "التهكم" التنويري المكان لعموميات التقدم – الفضاءات الموحدة الكبيرة, المخصصة من أجل تحقيق ذات الإنسان الجديد, الذي ما عاد يمثل خصوصيةً إثنية إقليمية ومحلية, بل أمةً سياسيةً موحدة, في أسسها, ودينامية وناظرة لا إلى الماضي بل إلى المستقبل.

صار رجال الفكر اليهود, غير المقيدين من حيث التعريف بالوسط الإثني المحلي وعاداته, معاوني التنوير الأنشط في عملية التنظيف هذه. يحرم إله إسرائيل الغيور تحريما تاماً عبادة الآلهة الأخرى وخلق الأصنام. لذلك تغذى التهكم اليهودي, الموجَّه منذ قديم الأزل ضد الأصنام الوثنية الغريبة عن اليهودية, بعقدتي العهد القديم التفوق والشعب المختار. لم يشعر اليهود بالأسف على أصنام الآخرين؛ لكنهم شعروا بالوقت نفسه بالغيرة منها باعتبارهم أناساً مرشحين تقليدياً للاحتكار ككهنة إيديولوجيين ومرشدين للبشرية – ورثة طائفة اللاويين.
كان من الصعب على عمل التنوير التنظيفي الموجه ضد الأصنام القديمة كلها أن يكون نافذاً وغير مهادن إلى هذا الحد لولا طباع الطليعة اليهودية, التي أضفت على كل جديد في الحداثة شكلاً راديكالياً أعظمياً. لكن كمن في هذا أيضاً خطر مرتبط بازدواجية بنية الوعي اليهودي ذاتها. كان صعباً جداً على الطليعة التقدمية اليهودية الالتزام عند وسط التنوير الذهبي - على مستوى الدولة – الأمة. لقد راحت تنجذب, باعتبارها ديسبورة كوسموبوليتية غير مرتبطة بأطر الإخلاص الوطني, نحو"العولمة", نحو مستوى "مواطني العالم" غير المقيدين بأي قوانين قومية. وكانت لا تفعل شيئاً, باعتبارها مجموعة إثنية خاصة مجروحة ويحركها الإحساس بالتكافل والتضامن تجاه أفرادها, غير الانزلاق نحو مستوى الباطنية القبلية والغمز التآمري لأقرانهم في القبيلة. مع العلم أن مفهومي الباطني والقبلي هذين قد تضافرا على نحو عجيب وغامض حتى أن إجراءات معرفتهما وفصلهما كانت صعبة جداً ليس فقط على المراقبين من الخارج بل على الطليعة اليهودية نفسها.

المُلْك والقداسة


تلخص التناقض الدراماتيكي في أن المحاولات اليهودية لجعل الحداثة راديكاليةً, وإكسابها شكل ثورات سياسية وثقافية لا تقبل الحلول الوسط قد انقلبت في أحيان كثيرة إلى سقوط في سلفية العهد القديم القبلية. بهذا المعنى يبدو ذا دلالة كبيرة جداً مصير الفكرة الاشتراكية التي استحوذ عليها المفوضون البلشفيون واحتكروها.
بدأت الاشتراكية, على غرار غالبية الحركات العظيمة في عصر الحداثة, تتطور في مستوى الدولة – الأمة الأوسط (غير العولمي). لقد أكسبها هذا رسوخَ العمليةِ التاريخيةِ الطبيعية, المرتبط بتحقيق الذات من قبل الأمم العظمى الخارجة من التنوير والتي تحل مشاكل مستقبلها على شكل إبداع ذاتي مستقل. كان في مقدور كل شعب من الشعوب أن يحقق بطرقه الخاصة مُثُل الاشتراكية الملهمة والمُعْدية, التي تؤلف خلاصة إرث أوربا التنويري العام. كمنت خصوصية التنوير الأكثر نفعاً في فطرية نبضه: لم تكن أهدافه ومقاييسه ومثله مصوغة بطريقة مذهبية متشددة ما ومفروضة على الأغلبية, بل عكست أفضل آمال هذه الأغلبية ذاتها, التي اجتاحتها روح الحداثة من غير أن تلحظ هي نفسها ذلك. ليس مصادفة أن المنورين كانوا يتوجهون على الدوام إلى الإنسان الطبيعي وإلى "طبيعته" – كانوا يشمئزون من العلاقة الوصائية - المتعالية بالجماهير, التي وثقوا بـ "عقليتها" وثوقاً كاملاً. فكيف كانت ستبدو الاشتراكية المتماشية مع أحكام الطبيعة التنويرية هذه؟
واضح أنها لا يمكن أن تكون شيئاً يتنافى مع تجسيد مطلب الشعوب الاجتماعي الناضج, ومع التعبير عن آمالها. لنتذكر شعارات البلشفية الأولى, التي سرقتها من حزب الأغلبية – حزب الاشتراكيين الثوريين (الإسير): "السلم للشعوب", "الأرض للفلاحين", "المصانع للعمال". هذه الشعارات, التي عكست المرحلة الديمقراطية العامة من الثورة الاجتماعية الناضجة, لم تكن تحتوي في ذاتها على أي شيء دوغمائي – فئوي, ولا على أي باطنية مصطنعة غريبة عن الفكر الشعبي السليم. لم تغتصب مثل هذه الاشتراكية ولو قليلاً "طبيعة" الإنسان اليهودي الجديد وتطابقت مع المبدأ المعبر عن كرامته: "أن يكون سيد نفسه" – أن يكون شخصية مستقلة غير خاضعة لوصاية, وتلتزم بأسمى مثل العدالة.
كان مبدأ وحدة العمل والملكية هو التعبير الأسمى عن هذه "العدالة الطبيعية". ينبغي أن تعود الأرض لأولئك الذين يعملون بها – أي للفلاحين؛ والمنشآت الصناعية لأولئك الذين يكدحون فيها – أي للتعاونيات العمالية. وفي حال تحقيق روسيا ذلك كانت ستحصل على مجتمع الاشتراكية التعاونية, الخالي من المذهبيات المتطرفة الضيقة مثل رفض السوق والمال, ومن الإنتاج وفاقاً لخطة واحدة مصوغة من قِبل بيروقراطية الرقابة القوميسارية المتكوِّنة والعارفة بكل شيء.
كان ينبغي أن يبرز المنتجون التعاونيون والأفراد في المدن والأرياف كمنتجي بضائع لا يملكون أي امتيازات خاصة من خارج السوق, وكمتحررين من ضغط المجموعات السابقة صاحبة الامتيازات. إن الشخصية المركزية لمثل هذه الاشتراكية الشعبية ليست ما يسمى البروليتاريا, بل المستثمر الكادح المستقل. وهذا يمكن أن يكون إما مستثمراً فردياً (أسرياً) مزارعاً أو حرفياً, وإما مستثمراً تعاونياً في المؤسسات التعاونية في المدن. يدل نطاق الحركة التعاونية ذاته في روسيا, التي شملت عشية الانقلاب البلشفي عشرات الملايين من السكان ذوي المبادرة الذاتية, على الطابع التاريخي الطبيعي الناضج لهذه الثورة الاجتماعية الاقتصادية. فما الذي يفعله في هذه الظروف المفوضون البلشفيون الذين استولوا على السلطة؟
إنهم يراقبون تفتح الحياة العفوي هذا كله بغيرة كهنة التعاليم الأممية العظيمة, المهددة بأن تبقى من غير عمل. لقد جابهوا اشتراكية الفلاحين والعمال الروس العفوية والمحرومة من أي نوع من أنواع الصرامة المذهبية بالمذهب الاشتراكي العولمي, الناضج في عقول موسى الجديد - مرشد الجماهير العمياء والعنيدة وغير العارفة "بمصالحها الحقيقية".
عموماً, فيما يخص موسى هذا – والحديث يدور عن ماركس, فإن من الضروري أن ندقق مشيرين إلى أنه كان في الوقت نفسه وريثاً لفكرة العهد القديم حول الشعب المختار وابن التنوير المؤمن بأن التقدم إجمالاً يتطابق مع تحقيق ذات الإنسان اليهودي الجديد. لقد تجلت الميول السلفية لدى ماركس إلى فكرة الشعب المختار, التي تجبرنا على تذكر الأصل القديم ما قبل المسيحي, في أن المكان في المجتمع الاشتراكي المقبل لديه لن يكون مخصصاً للجميع بل استثناءً للبروليتاريا التي سينبغي عليها أن تكون حفارة قبر الطبقات الأخرى.
لكن ماركس على الأقل, واحتكاماً لكل شيء, وثق تنويرياً بالمبادرة التاريخية الحرة لهذه الطبقة. يستعرض مؤسس البلشفية الخطوة الجديدة على طريق انسلاخ التعاليم الفئوي عن الاختبار التجريبي وعن مصالح الجماهير اليومية. فحتى الطليعة البروليتارية, كما هو معروف, لم تكن تستحق ثقته الحقيقية, لأن "الوعي الاشتراكي "الصحيح", كما يعلن في مؤلفه "ما العمل؟", لا تستطيع تكوينه حتى البروليتاريا بقواها الخاصة: من يكوِّنه هم كهنة ماركسيون خاصون, يبثون في الجماهير البروليتارية ما لا تحتويه في ذاتها وهو – الوعي الاشتراكي الصارم. تنتج عن هذه الصرامة المذهبية اشتراكية مختلفة تماماً, ليس فيها ما هو مشترك مع العلنية والبساطة التنويريتين, - تنتج اشتراكية المفوضين الفريسيين – الأوصياء على "العقيدة" وحماتها.
خيل للمفوضين البلاشفة أول الأمر أنهم يقدمون, عوضاً عن نسخة الاشتراكية الوسطية والمتهاودة والاشتراكية الديمقراطية والمذنبة بالتنازلات لـ "الفوضوية البرجوازية الصغيرة", الأنموذج الصحيح الوحيد, والمنطقي الجريء والذي لا تشوبه شائبة مذهبياً. صار التنوير ذاته عندهم موضع شك لبساطته تحديداً – أي تطابقه مع نبض التحرر العفوي وتحقيق الذات الذي تمَلَّك جماهير البشر في عصر الحداثة. لقد شهرّوا بكل المساعي الديمقراطية العامة والشعارات باعتبارها متهاودة وغير كافية ومشوبة بروح الحلول الوسط مع البرجوازية البغيضة.
إلغاء الرقابة غير كاف من أجل حرية الكلمة الأصيلة, والدساتير الديمقراطية غير كافية من أجل حرية الإبداع السياسي, والتشريعات المتعلقة بالمسألة العمالية غير كافية من أجل حل هذه الأخيرة حلاً فعلياً, إلخ...
وها هم نقاد "الديمقراطية البرجوازية" المحدودة أولئك يمسكون بزمام السلطة ويشكلون بسرعة كبيرة وعلى نحو لم يلحظوه هم أنفسهم مجتمعاً مفصلاً وفاقاً لأنموذج فوق سلفي, خيل أن التاريخ قد دفن أمثاله نهائياً.
وهنا تباغتنا التناقضات الأكثر إثارة للغم في تلك الاشتراكية غير الراغبة في أن تكون شعبية وقومية, وإنما عولميةً موحَّدةً, وغير أمينةً لمشيئة الحياة بقدر ما هي أمينة للنص المقدس. ويسقط على نحو مفاجئ مغالو الحداثة البلشفيون في سلفية العهد القديم القبلية وفي اللاحداثة المنهجية وفاقاً للقانون الغامض القاضي بتحول العولمي إلى قبلي ما إن يتحطم المصطلح الوسط – القومي العام.
لنأخذ أحد أحجار الزاوية في هذا المذهب, وهو مبدأ التخطيط البيروقراطي الشامل. تكتشف الثورة الاقتصادية البلشفية هنا تحديداً ملامح اللاحداثة المنتهية. هل يمكن في الواقع تصور أن حياة هذا المجتمع الكبير الاقتصادية, بعلاقاتها ومبادراتها ووسائطها التي لا تحصى كلها, يمكن أن تضبط بمجموعة أوامر مركزية مقرة مسبقاً؟ واضح في الواقع أن أنموذج المجتمع الصغير ينبعث هنا – أي أنموذج مشاعات أفراد القبيلة, الذين بعضهم يعرف بعضاً معرفة شخصية ويديرون اقتصاداً عينياً. لقد قدمت الطوباوية البلشفية اللاسوقية, تحديداً, الشكل المحول لهذا الاقتصاد العيني, الخارج من أطر معايير المجتمع الصغير الطبيعية والمتطلب, لهذا السبب, إقامة بيروقراطية شاملة.
يعتبر جديدُ البلشفية في البناء الدولتي السياسي والإيديولوجي شكلاً آخر أشد إثارة للانطباعات من أشكال التحول المعكوس من "ما فوق المعاصَرة " إلى ما فوق السلفية. لا يستطيع أي مراقب أن لا يذهل من القدر الذي تذكِّرنا به المُثل الشيوعية ما فوق الحداثية عن المجتمع اللادولتي بمُثُل إسرائيل في العهد القديم في زمن عصر القضاة. المجتمع الموجَّه والمدار من الكهنة – القضاة, هو, حتى وفاقاُ لمعايير الشرق القديم, عبارة عن أنموذج غير مأنوس للملل التيوقراطية تيوقراطيةً راسخة, حيث لا يراقب السلوك الخارجي فقط وإنما نمط أفكار الملة نفسه.
إن هذه اللهفة على المجتمع, المرتكزة على مبادئ العقائدية النافذة إلى كل شيء وعلى الإلهام المنتشي المستمر, تشير إلى أنموذج الوعي القبلي اليهودي الأقدم. يرى هذا الوعي أن أي دولتية تقصر رقابتها على سلوك الأتباع الخارجي, وغير مبالية بالضرورة بما يكنونه في سرائرهم, هي امتهان لا يطاق لكل ما ينبغي في نهاية الأمر تدبيره على الأرض. لا ينتقد مثل هذا الوعي "عنف الدولة" انطلاقاً من المواقف التنويرية التي تترك للمواطنين حرية تقرير الذات الداخلية الوجدانية, وإنما من مواقف التيوقراطية الكهنوتية مع ما تحمله من رقابة مستبقة على الأفكار والآراء.
يعكس سفر الملوك الأول في العهد القديم المواجهة بين المُلك والقداسة, وبين البيروقراطية الإدارية الدولتية الباردة والوصاية الكهنوتية الدافئة (لا بل الحارَّة),. حين توجه الحاكم صموئيل طالباً النصيحة من الله ذاته للرد على طلب الشعب المتعب من الوصاية الكهنوتية الشاملة والراغب على الأقل في إضفاء شيء من أجواء الحياة الاجتماعية على رقابة الدولة القيمية الحيادية (البيروقراطية العقلانية), أجابه الله بروح الواقعية المتشائمة قائلاً: "اسمع لصوت شعبك في كل ما يقولون لك. فهم لا يرفضونك أنت, بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم". (التوراة, صموئيل الأول 8: 1 - 7). منذ ذلك الحين والوعي اليهودي محتفظ بالحنين إلى المجتمع الأصيل, غير المطلع على أحكام المُلك الخارجية, لكن المذعن لأحكام القداسة الداخلية وحدها.

إن تاريخ الدولتية البلشفية السياسي – العقائدي كله هو عبارة عن تضاد بين الملك والقداسة, تضاد بين العقلانية البيروقراطية الإدارية والعقائدية الحزبية الكهنوتية. ويتوافق ابتلاع الدولة المتنامي من قِبل الحزب توافقاً تاماً مع أنموذج العهد القديم هذا, الذي يرشد إلى التضييق على المُلك بالكهنوت كما يرشد إلى مَثَل اجتماعي وثقافي سامٍ.
سيناريوهات من أجل روسيا

يعاد اليوم من جديد, في العصر ما بعد السوفييتي, إنتاج جدلية ما فوق الحداثة هذه, المنقلبة إلى ما فوق سلفية تحت ضغط أولئك الذين جذبتهم الحمية الإصلاحية الحانقة إلى طريق الليبرالية الراديكالية. عام 1917 قررت الطليعة البلشفية اليهودية جعل الفكرة الاشتراكية راديكاليةً بنقلها من مجال تقرير الذات القومي العفوي ووضعها على سكة الأرثوذوكسية الكهنوتية لعولميي الأممية الثالثة. عام 1991 تقرر الطليعة الديمقراطية اليهودية, التي يساورها شك بالرأسمالية الشعبية العفوية (الاستقلالية الاقتصادية الجماهيرية) لا يقل عن شك البلاشفة بالاشتراكية التعاونية الشعبية, جعل الفكرة الليبرالية الكلاسيكية راديكالية مخضعة إياها لحَرْف التعاليم الجديدة العظيمة الصارم– "مدرسة شيكاغو"([2]). لقد اضطررت غير مرة إلى الكتابة عن أن المقدمات الاجتماعية والاجتماعية الاقتصادية للرأسمالية الشعبية كانت متوافرة في الحقيقة في روسيا مع حلول عام 1991.
اقتربت إيداعات السكان المصرفية منذ بداية الثمانينيات بمجملها من 500 مليار روبل (بأسعار ذلك الوقت). وحُفظ في المستودعات ما يسمى المنسقات (المعدات غير المركبة) بقيمة هذا المبلغ نفسه تقريباً. لو سمح إصلاحيونا لهذين التيارين بالالتقاء عن طريق بيع المنسقات الحر, ولو سمحوا كذلك بأشكال من تشجيع المبادرات الاستثمارية الجماهيرية مثل تأجير المعدات وإتباع سياسة ضريبية – إقراضية تشجيعية, لقامت الثورة الرأسمالية الشعبية الاقتصادية في روسيا. لقد كان الطريق أمامها ممهداً تماماً أيضاً بفضل التطور الحاصل إلى ذلك الوقت في منظومة القيم الجماهيرية. أجاب أغلب المشاركين في الاستفتاء بين عامي 1992 و1993 عن السؤال حول معتقدهم الرئيسي في الحياة بأنهم يريدون أن يكونوا أسياد أنفسهم. بيد أن هذه الثورة الاقتصادية الشعبية لم تحدث في روسيا. وعوضاً عن ذلك اتخذ الرفاق في الحزب في اجتماعهم الحزبي المغلق (عن الشعب) قراراً بالخصخصة الوظيفية, وهذا ما افترض نزع ملكية إيداعات السكان واحتكار النشاط الاستثماري من قِبل الأشخاص الواردة أسماؤهم في اللوائح المعدة سلفاً.
"أطلقوا الأسعار" قبل الإعلان عن الخصخصة؛ وبهذا الشكل أفرغ التضخم المنفلت في أسابيع معدودة مدخرات غالبية الشعب. وقد ساعد في ذلك إلى حد كبير تحويل الحسابات غير النقدية إلى حسابات نقدية تبين أن أصحابها معتمدون مسبقاً من قائمة الأسماء الحزبية – الشبيبية والأمنية.
إنني بعيد عن فكرة نسب هذه الخطة إلى ورثة الباطنية القديمة. لم يكن في أساس هذه الخصخصة الوظيفية أرثوذوكسية مذهبية, بل كانت فيه أسفل أنواع براغماتية طائفة الموظفين. وفي مقابل وضع المالكين الجديد وافقت هذه الطائفة على تسليم البناء القديم.
لكن هنا كان ثمة دور لا غنى عنه لمغالي النص المقدس الجديد (الليبرالي هذه المرة) الأرثوذوكس اليهود. وفي الواقع: كيف كانت ستبدو هذه الخصخصة الوظيفية من غير حجة نظرية عقائدية؟ كانت ستبدو نهباً عادياً لملكية الدولة من قبل أولئك الذين كانت مفاتيح الصوامع الحكومية في أيديهم بحكم الوظيفة.أما الحجب المتعمد لعملية الخصخصة عن "الغرباء" الذين هم أفراد الشعب الروسي نفسه فكان سيبدو غير ليبرالي البتة, ولا يتماشى مع روح "المجتمع المفتوح".
ههنا كانت قد نضجت "التعاليم العظيمة" الجديدة. عموماً, تعتبر استعارة النظريات المنفصلة, بالأخص ذات الطابع الذرائعي, أنموذجية في المراحل التحديثية. لكن ما الذي تفعله في أثناء ذلك فئة المثقفين الوطنيين؟ إنها تسعى أولاً إلى أقلمة التعاليم المستوردة مع الظروف المحلية, من غير أن تخجل من تكييفها؛ وثانياً, تعطي الأفضلية للتجربة الواقعية من غير قيد أو شرط في حال التنافر الحاسم بين النظرية المستعارة والتجربة المحلية.
كان سلوك الأرثوذوكس التلموديين مغايراً تماماً. فعوضاً عن أقلمة النظرية مخففين من حدة حوافها المذهبية, راحوا يشددون بحماسة كبيرة على هذه الحواف, أما الحياة الواقعية المرتبطة بالإرث القومي الثقافي – التاريخي فأعلنوها مرضاً ينبغي استئصاله.
في أثناء ذلك كانت النظريات المستعارة تتغير بما في ذلك إلى معاكساتها مباشرةً, لكن المواجهة المبدئية للأساس وللتجربة الشعبية وحتى للفكر السليم البسيط ظلت تتكرر على الدوام. حين كانت النظرية الماركسية هي الدارجة وضعها مطبقوها البلاشفة في تضاد مع العفوية الوطنية البرجوازية الصغيرة, التي تولد الرأسمال "كل يوم, وكل ساعة, وفي كل مكان وعلى النطاق الجماهيري" (لينين). حين صار رأس المال هو المثال, والفزاعة هي الاشتراكية أعلن أن التربة القومية الروسية تحديداً معادية منذ البدء للرأسمالية وتولد الاشتراكية الأبوية, المرتبطة عضوياً, كما تبين, بتقاليد المشاعية والجماعية الروسية.
لم تظهر هذه التحولات في الوعي اليهودي على هذا النحو الخطير في روسيا وحدها. تعطينا ألمانيا المثال الأقرب نسبياً على هذا. فبعد الاحتلال الأمريكي لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وضع المفكرون اليهود من المدرسة الفرانكفورتية([3]) – أدورنو وفروم وفرانكل برونسيفيك وليفنسون([4]) – على الفور مشروع بحث بعنوان "الشخصية المتسلطة"([5]), حيث برهنوا على العلاقة العضوية غير المنفصمة بين الفاشية والتقاليد والعقلية القومية الألمانية. تبين أن جذور العقلية الفاشية ممتدة إلى عهد الإصلاح, وأن رائد الفاشية الرئيسي هو لوثر([6]). اختصاراً, لا يمكن التغلب على الفاشية في ألمانيا من غير تحطيم نواة التقاليد القومية الألمانية ذاتها - وأنموذجها الأصلي البروتستانتي.
يمر بعض الوقت وتتحول ألمانيا من عدو أمريكا الرئيسي لتصير حليفها وشريكها الرئيسي. وهنا يتذكر المفكرون اليهود نظرية ماكس ويبر عن المقدمات البروتستانتية للرأسمالية, وتتحول حياة التقشف البروتستانتية على هذا النحو من تجسيد للشر النازي إلى ما يكاد يكون المقدمة الرئيسية للفضائل الليبرالية كلها – من اقتصاد السوق إلى دولة القانون.
أما المجسِّد للشر الشمولي منذ الآن فهو الشعب الروسي بعقليته وتقاليده المشاعية. صارت المشاعية الروسية إلى جانب الإرث البيزنطي والجماعية الأرثوذوكسية تُشخِّص دور المهد للشمولية المعاصرة. على هذا النحو تصب مكافحة الشمولية السوفييتية, كما صبت مكافحة النازية في وقت ما, في بوتقة التنظيف الإثني العميق المنفذ بطلب من "المنتصرين" وتحت إشرافهم. استعيض عن التحليل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بأنثربولوجيا عرقية ذات شكل خاص, الهدف منها إماطة اللثام عن إرث السكان الأصليين غير القابل للإصلاح, والذي يضع الشعب الروسي في علاقة صِدام لا يقبل المهادنة مع المعاصَرَة الديمقراطية. تقدَّم الثورة البلشفية على أنها ترميم مشاعي, أما الطبقة الفلاحية الروسية فتقدَّم على أنها أغلبية مشاعيين حنينيين منتفضة ضد المعاصرة, وفارضة على الأقلية الحضرية آسيويتها المرمَّمة.

بمثل هذه الصيغة الإيديولوجية المفبركة تصير الحقائق التاريخية بغير أهمية. أما الحقيقة فهي أن الأغلبية الفلاحية في روسية قد أسقطت بقوة الحزب البلشفي في انتخابات المجلس التأسيسي في تشرين الثاني من عام 1917. سارت الشمولية في روسيا من المدينة إلى القرية, ومن مراكز العواصم إلى الأرياف, ومن النظرية الغربية المستعارة إلى الممارسة السياسية, وليس بالعكس. ارتبط انتصار البلشفية, كانتصار "الليبرالية" الحالية, بأفضلية الأقلية المنظمة في المدن والمتمتعة, بالإضافة إلى ذلك, بالدعم الخارجي القوي أمام الأغلبية الريفية المفككة. وحينذاك لم تكن الغالبية رجعية قط. لم يكن ترميم المشاعة على الإطلاق هو ما شَرَع مغتصبو السلطة البلاشفة, الذين خبأوا ديكتاتوريتهم خلف واجهة "جمهورية السوفييتات", يغرون الأغلبية الفلاحية به. بل أغروا الفلاحين باعتبارهم "مُلاكاً برجوازيين صغاراً", يسعون إلى الحصول على الأرض من أجل الاستعمال الشخصي. لقد تسلح البلاشفة بشعار الاشتراكيين الثوريين (الإسيريين) هذا مؤقتاً بهدف الاحتيال.
حين رسخ المفوضون سلطتهم خاضوا حرباً ضد "البيئة البرجوازية الصغيرة" الفلاحية, متسلحين بمثل المجتمع المنظم عقلانياً, الشبيه بالآلة. وسرعان ما اتخذت هذه الحداثة البلشفية هيئة معسكر اعتقال هائل.
الادعاء, كما يفعل الليبراليون اليوم, بأن عهر الحرب الأهلية الدموي والتحويل القسري إلى التعاونيات نابع عن تعبير"المشاعيين" العفوي عن الذات يعني تزويد الجلادين بأدلة البراءة, والإلقاء بالذنب على الضحية. لكن أدلة البراءة هذه لا تقدم من باب المصادفة. فالتحديث البلشفي, و"اللبرلة " الحالية مؤسسان على رهاب الروس, الذي يغذي طاقتهما الشيطانية. ونظام الأمس ونظام اليوم هما نظاما حرب الأقلية الأهلية ضد الأغلبية, وهذا ما يفسر تقاربهما المعاصر الذي يبدو غامضاً إلى حد كبير.
لماذا إذاً بدت للغرب هذه الوشاية الليبرالية بحق الأغلبية الروسية قريبة من الحقيقة؟ أولاً, لأن من مصلحة الغرب اليوم أن يقدم انتصاره في "الحرب الباردة" لا باعتباره تقسيماً إمبريالياً جديداً للعالم, بل باعتباره تفوقاً للمعاصَرة الديمقراطية على قوى السلفية العدوانية المظلمة. وثانيا, لأن الغرب قد شارك في المؤامرة مع مخصخصي ملكيتنا الموظفين, أملاً في أن يحصل مقابل الدعم الذي يقدمه على تساهلات كومبرادورية في قضية إعادة توزيع الأراضي والثروات ما بعد السوفييتية. لقد دس "صبية شيكاغو" في روسيا يدهم في تدبيج تلك الوشاية بحق الشعب السوفييتي, التي أرسلت بمنتهى الإخلاص إلى أمريكا.
ما إن أوضحوا للرأي العام كله أن الذهنية القومية والتقاليد الروسية هي العائق الرئيسي أمام إصلاحات السوق حتى صارت "واضحة تماماً" سياسة إقصاء الشعب عن الخصخصة. كان الإصلاحيون سيسرون بتقاسم الملكية مع الشعب لولا أنه, أولاً, غير مستعد للحصول عليها بسبب من مشاعيته وجماعيته المتأصلتين, وثانياً لأن ائتمانه عليها يحمل الكثير من المخاطرة لأنه سيبددها ويذروها بالتطابق التام مع روحه "الفوضوية" القومية. باختصار, لم يقدم الإصلاحيون الحاكمون أنفسهم لا في عملية البناء الاقتصادي ولا في عملية البناء السياسي كديمقراطيين يحترمون سيادة الشعب, بل قدموا ذاتهم كعولميين لا ينظرون إلى هذا الشعب إلا من عليائهم العولمي المتاح لهم وحدهم.
وههنا يبدأ القانون المشؤوم يفعل فعله: ما إن يتسلح المحدِّثون بالأفق العولمي الخالص مهملين المستوى القومي حتى تتسم تطبيقاتهم الإصلاحية بغرابات اللاحداثة المنهجية.
بم تميَّز, في حقيقة الأمر, ما يسمى "العلاج بالصدمة"؟ إن النظرية التحديثية تعرف مثل هذه الصدمات: والحديث هنا عن الأزمة المستحكمة بالفروع, والحِرَف المتقادمة, وبالأقاليم الخاملة. تتطور نقاط التقدم الأمامية – أشكال الإنتاج المستوعبة للعلوم و"أقطاب النمو" على حساب الهزات الحساسة في "الأطراف" الاقتصادية. هكذا هي تصورات الحداثة الكلاسيكية. لكن ما الذي نملكه بنتيجة الإصرار المذهبي لدى حداثيينا؟
كانت سياستهم الرئيسية هي تحديداً نقاط الاختراق ما بعد الصناعي الأمامية التي تكونت سابقاً في روسيا. دُمِّرت بأسرع الوتائر الصناعات العلمية الواسعة, وقلصت مخصصات العلم والثقافة والتعليم. وتميز الجو الذي نشره "الإصلاحيون" في المجتمع الروسي بنوع من التحدي المنهجي الغامض للتنوير.
يتطلب التنوير رفع حصة تعليم الشباب في المجتمع وتأخير فترات انخراطهم في الحياة الحرفية؛ أما إصلاحيونا فسعوا إلى سد الطريق الموصل إلى بنية التنوير التحتية أمام الشباب, وعادوا إلى استغلال جهد الأطفال (قانوناً يسمح بذلك ابتداءً من سن الرابعة عشرة), وضيقوا مجال التأهيل النظري العام لصالح ممارسة الحرف. وسارعوا في كل مكان ازدهرت فيه روح الاختبار العلمي التقني, والمطامح التجديدية إلى إخمادها معلنين بطلانها وفاقاً لمعيار الربحية الاقتصادية. إنهم يلصقون بإلحاح بأكثر الأمم قراءةً في العالم ثقافة "الجمل المقتضبة" الأمريكية المستوردة, والبدائية عديمة الحياء, التي تستغل مجال الغرائز الإنسانية. صار أنموذج الراتسيو (العقل) التنويري بكل ما فيه من حب استطلاع سام يخلي المكان لأنموذج أولئك الذين يعيشون على الأفعال المنعكسة البدائية والذين لا يستجيبون إلا للمتعة أو المنفعة الآنيتين.
تكوَّن انطباع جاد بأن قراراً قد اتخذ في مكان ما على المستوى العولمي ينص على أن "هذا البلد" غير جدير بإنجازات التنوير السامية, ونصيبه أن يقدم العبيد الرخيصين للسادة من عداد "المليار الذهبي". إنهم يغرسون, عوضاً عن فضاء الحداثة الكبير الواحد, موزاييكاً من الفضاءات المعزولة التي بعضها لا يتعاطى مع بعض؛ وعوضاً عن عموميات التنوير السامية الغطرسات والنزاعات المحلية والعدوانية العامة والشك المستغل من قِبل الزعماء القبليين الحريصين على الصدقات الأجنبية.
إنهم, عوضاً عن الاقتصاد المعاصر المنتج, الذي يكوِّن ذخراً مديداً للمستقبل على هيئة دراسات علمية وتقنية مبشرة, يغرسون مراباة جشعة لا تبني شيئاً قط, وتبدد الثروة القومية المكونة من قبل, وتسمم بالإضافة إلى ذلك الجو بروح الفساد. إنهم, باختصار, يغرسون لاحداثة منهجية وعدوانية تبرر هجومها على التنوير معتمدة على توصيات "مدرسة شيكاغو", وتوجيهات صندوق النقد الدولي. وتستخدم في أثناء ذلك معايير الربحية الاقتصادية باعتبارها إجراءاً لذم كل ما هو معد للمستقبل, وكل الاستثمارات في "الرأسمال البشري", لصالح ما هو قادر على *** الفائدة العاجلة. يتولد شك في أن "قصر نظر السوق" هذا الذي لا يطيق الاستثمارات طويلة الأمد من أجل المستقبل يخفي وراءه نفسية النهّابين المستعدين للهرب, والذين يحتاجون إلى السيولة حالاً, ولا يخفي حسابات ما من أجل غد البلاد.
قد يكون الأكثر إثارة للفضول كامناً في أن سلفية اللاحداثة لم تشمل السكان الأصليين, المحكوم عليهم بالسقوط نحو المجتمع ما قبل الصناعي وحدهم, بل شملت أيضاً, كما يظهر, نخبة العولميين المحليين المتحكمين بهذه العملية كلها, والذين يضبطون ساعاتهم على نحو حثيث على التوقيت الغربي.
لولا هذه الحقيقة لكان في الإمكان نسب مفارقات العولمة السلفية استثنائياً إلى نوايا معيدي بناء العالم, المقررين من جديد أي الأقاليم على الأرض ينبغي أن تدخل في عداد المتطورة, وأيها ينبغي إرساله نحو الأطراف, حتى لو كان لديها من قبل ذخيرة ما بعد صناعية. لكن قانون التبدل المشؤوم – أي تحول العولمي إلى قبلي, وما فوق الحداثي إلى المتخلف - يبرهن على فاعليته على مثال نخبة العولميين ذاتها.
أولئك الناس, الذين يستخفون بغطرسةٍ بالمفاهيم "البدائية" مثل المصلحة الوطنية, والأهداف والأولويات القومية يظهِرون, انطلاقاً من موقف الواقعية العولمية التي لا يراها أحد سواهم, نفسيةَ الطائفة القبلية المنحلة, المنسلخة عن معايير المجتمع الكبير وأخلاقه, والمليئة بالغمز التآمري الدنيء والتي تخضِع "مبادراتها العولمية" كلها للمصالح العشائرية البحتة. يولِّد الانسلاخ عن الأهداف القومية الكبرى حتماً, وخلافاً للخطاب العولمي كله, الأخلاق العشائرية, الرافضة لكل المعايير والأحكام الإنسانية لصالح الأنانية الطائفية.
يدهش اليوم الجميع من سقوط الحضارة الغامض, التي بدت عاجزة أمام موجة الإجرام الشاملة. إن أحد تفسيرات هذه الظاهرة هو تدمير القوانين الثقافية القومية الكبرى على يد العولميين, المستعجلين لوضع يدهم على العالم كله. وعندئذ يصيرون هم أنفسهم ضحايا هذا التفكيك: ما إن يختل "وسط الحداثة الذهبي" –الأمم السياسية الواحدة - لصالح الادعاءات العولمية حتى ينشط في الحال شياطين عصر ما قبل التنوير اللدودين – البدايات القبلية والعشائرية والمافيوية الربوية. يفسر الدور المشئوم لليهود في هذه العملية بأنهم, نتيجة انسلاخهم الطبيعي عن بدايات السكان الأصليين القومية, ونتيجة للشك والتوجس الذي يشعرون به نحو الدولتية المتينة, يتميزون بحرص خاص على العولمة. لكن هذه الأسبقية في العولمة تتحول إلى أسبقية في أي نوع من أنواع الانحرافات المافيوية, وغيرها من مظاهر "الأخلاق العشائرية من أجل الأتباع".
لقد شوهت أزمة "وسط الحداثة الذهبي" على نحو غامض سِيَر الناس, الذين كان في مقدورهم أن يصيروا في إطار الأفق القومي الكبير السابق شخصيات مرموقة تماماً, وقادرة على خدمة التنوير السامي.
لو لم تحل العولمة مع إغراءاتها باستباحة كل شيء حكومي لكان في مقدور بيريزوفسكي([7]) أن يترك أثره في الرياضيات. لقد حرفته العولمة بإمكانات مختلفة تماماً – وها نحن نرى أمامنا نصاباً محتالاً ذا ميول مافيوية جلية, ولا يأنف من الأعمال الإجرامية بما فيها تهريب رؤوس الأموال أو الاتصال بالشخصيات الشيشانية المجرمة.
في رحاب الفضاء – الزمن القومي الكبير ابتسم أمام تشوبايس([8]) مستقبلُ عالمِ اقتصادٍ ومجرِّبٍ رائع؛ أما في الرحاب التي تشابك فيها العولمي بالعشائري فخرجت شخصية تجمع بين المناصب الحكومية و"الكتبية" الإشكالية, التي تخفي وراءها أبسط أنواع الرشوة. ومن هذه الأمثلة اليوم – الآلاف. بمقدار ما "يتعولم" العنصر اليهودي في روسيا (أقصد, طبعاً, القسم الداخل في عداد النخبة الحاكمة اليوم), مبتعداً عن الأهداف الدولتية – القومية الكبرى, يصير في الوقت نفسه إجرامياً على مرأى الأعين مكتسباً الملامح المافيوية. تشمل هذه العملية اليوم فعلياً النخبة الحاكمة كلها في روسيا, ومفاصلها وتنوعاتها كلها. والخصوصية المميزة للمُرَكِّبة اليهودية هي أنها لا تكتفي بالممارسات الشاذة فعلياً, فطباعها وغطرستها تجبرانها على البحث عن شرعنة هذه الممارسات بوسائل التعاليم الجديدة, التي تستخف بمعايير الأخلاق الخجولة القديمة.
يتميز العولميون, إضافة إلى ذلك, بالخوف الكبير, الذي يكون طبيعياً عند الانسلاخ عن التقاليد القومية الكبيرة وعند الاعتماد الكلي على ضبابية العالم العولمي. ويتجلى هذا الخوف مرة أخرى أحدُّ ما يتجلى لدى اليهود. معروف ذلك الخوف الذي شعر به "الثوريون الذين لا يلينون" حين أذنبوا وأذنبوا بحق الدولتية الروسية بعد أن حولوا "الحرب الإمبريالية" إلى أهلية. لقد أجبرهم هذا الخوف على أن يستعجلوا بشتى الأشكال الثورة البروليتارية العالمية, التي لن تشطب الحساب كله وحسب, وإنما ستبدأ كما كان متوقعاً بتدمير الغول المقيت – أي الدولتية الروسية. إن العولميين المعاصرين, الذين تسنى لهم ارتكاب عدد لا يقل من الذنوب بحق الدولتية الروسية, قادرون على استعجال حرب عالمية. على كل حال إنهم لا يخجلون من استعجال الأمريكيين في تنفيذ مهمتهم بالتحرك نحو الشرق, ولا يخجلون من أن يروا في تحرك الناتو شرقاً الضمانة الوحيدة للديمقراطية الروسية (ك. بوروفوي, س. كوفاليوف, ف. نوفودفورسكايا وغيرهم).
كلما صار العالم أحادي القطب, أي كلما صار خالياً من الأنداد الحقيقيين للسيادة الأمريكية على الكوكب, شعر في روسيا بالأمان "طابور العولمة الخامس", الذي لا يشتكي من المضايقات غير الموجودة أصلاً والتي لا يمكن لها أن توجد اليوم بسبب من الطابع الكومبرادوري للسلطة نفسها, وإنما من عدم وضوح الآفاق أمامه على المدى البعيد في "هذا البلد".
في تلك الأثناء لا ينفك مهندسو عالم القطب الواحد الأمريكيون يعرضون قانون التحول ذاته - أي تحول العولمة إلى مركزية أثنية, وتحول عبادة "ما فوق القومي" إلى تشجيع القومية الضيقة. يشجع العولميون الأمريكيون بكل الوسائل روح الانفصالية والتطرف القبلييين في سعيهم إلى تفكيك الدول المستقلة الضخمة باعتبارها حاملة لمبدأ السيادة القومية "المتقادم". فقد دُبِّرت ضد يوغسلافيا, الدولة ذات السيادة, حرب لحماية انفصاليي كوسوفو. ويجري اليوم دعم الانفصاليين والمتطرفين الشيشان ضد روسيا التي لم تفقد بعد تماماً سيادتها. وفي أثناء ذلك لا يشعر العولميون بالقلق من أن "المناضلين من أجل الاستقلال" الذين يحمونهم هم بكل معنى الكلمة منبوذو الحضارة المتسلحون بأشد الممارسات إجراميةً – بدءاً من الاتجار بالمخدرات وحتى الاتجار بالرقيق.
صارت إيديولوجية حقوق الإنسان العولمية وأخلاق "مواطنو العالم" متلازمتين تماماً مع شياطين السلفية القبلية المندفعين إلى العلن, مستغلين ضعف البنى القومية - التنظيمية للحداثة الكلاسيكية.
الخلاص للمختارين أم للجميع؟

لنتجه ختاماً نحو السؤال عن أي مآل قريب يمكن أن تؤول إليه العولمة اليهودية. بغض النظر عن ارتباطها بـ "الرسالة العالمية" الأمريكية فإن الأمر يستحق أن نفصل مصالح اليهود الحقيقية, وأمنهم عن مغامرة عالم القطب الواحد الأمريكية.
ينبغي اعتبار كل الذين يراهنون عليها وحدها مقامرين مولعين جداً كي يكون في الإمكان ائتمانهم على مصير الشعب اليهودي. منذ أن بدأ تاريخ هذا الشعب واستمر مضت عدة آلاف من السنين؛ وخلال هذا الوقت تناوب عدد عظيم من أدعياء السيادة على العالم. لكن خيط التاريخ اليهودي لم ينقطع. ومن المحتمل أن المخرج من المأزق العولمي الحالي مرتبط بإعادة تشكيل أنموذج العولمة القياسي ذاته المحفوف اليوم بصدامات لا تنتهي بين العولمي والقومي وبالالتقاء غير المتوقع بين العولمة والمركزية الإثنية وغير ذلك من مظاهر اللاحداثة. إن الخيار اليوم لا يبعث على السرور: إما انتصار حاملي العولمة أحادية القطب, القاسمين العالم إلى جنس السادة القادرين على التكيف والأغلبية المنبوذة غير القابلة للتكيف, مما يعني تحول القسم الأكبر من الكوكب إلى أحياء يهودية محاصرة(غيتو)([9]), وإما مقاومة ناجحة من قبل الأغلبية المعبأة من جديد, وملاحقة لا ترحم للعولميين مع كل أعوانهم من السكان الأصليين. وسيعني هذا وذاك ثأر اللاحداثة من الحداثة, وحلول غسق التنوير التام على كوكبنا.
تتلخص المشكلة في كيف نبعث عموميات الحداثة السامية ونؤكد من جديد أفق الإنسانية التاريخي الواحد, الذي يشجبه اليوم العولميون وما بعد الحداثويين.
يعود العالم إلى السؤال الذي طرح على البشرية مع بزوغ فجر الحقبة المسيحية والذي يمس آفاق الخلاص المقبل: هل الخلاص خلاص الشعب المختار وحده أم خلاص الجميع. يلعب اليوم دور "الشعب المختار" "المليار الذهبي", محتكر الحق بدخول المستقبل ما بعد التصنيعي المنقذ. يدفع مبدأ الشعب المختار السلفي, الذي لا يزال يخيم على الوعي اليهودي, إلى محاولات التآمر الانفصالي مع حملة "العولمة الظافرة" الأمريكيين - من خلف ظهور الشعوب الأخرى.
يغامر التاريخ اليهودي ضمن هذا الأفق بالانقطاع. ففي حال نجاح الرسالة العولمية الأمريكية اليهود مهددون بالذوبان في المجتمع الاستهلاكي الأمريكي, الذي تغذيه موارد العالم المحتل كلها. وفي حال الفشل سينتظرهم تسديد حسابات هذه المغامرة المزلزلة للعالم كلها. عموماً, ليست الآفاق واحدة حتى في الحال الأولى. فما إن يتمكن "المركز العالمي" الأمريكي من دور سلطان العالم, حتى يبدأ يهتم بحماية فضاء امتيازاته من غزوات "الأطراف البربرية". سيعطيه التوجه الحالي نحو شَبْكِ العولمة بالمافيا المبررَ المقنع من أجل ذلك.
وتبدو من الأهمية بمكان بهذا الخصوص موجة فضائح المافيا الروسية التي اجتاحت أمريكا. هناك لا تُقلِقُ أحداً حقيقة أن غالبية ممثلي هذه المافيا الذين سلطت عليهم الأضواء هم أشخاص ذوو كنى غير روسية. لذلك فإن وفاء الحامي الأمريكي لـ "شركائه" السابقين ومساعديه يحمل طابعاً متقلباً جداً. ما إن يتغير الوضع حتى يتبدل الدعم حالاً إلى لفظ وملاحقات. إن الأفق الأقرب إلى الواقعية هو الوقوع بين مطرقة أمريكا التي تخوض الحرب العالمية بكامل وعيها "الدفاعي" العسكريتاري المتوطد وسندان الأمم المعاد تعبئتها من جديد, والهابّة من أجل مجابهة سادة العالم. تتماثل عولمة اليوم مع الاشتراكية التي سقطت منذ وقت قريب في دغمائية التناول أحادي الشكل والسعي إلى وضع البيض كله في سلة واحدة.
تبدو الإستراتيجية التعددية, المرتبطة بتعددية الأشكال واستخدام العديد من البدائل, أفضل بكثير. ينبغي الاعتراف بأن تعددية الأمم العظمى المتشكلة, والتي تكوِّن كل واحدة منها قياس النمو الخاص بها فتدلي بذلك بدلوها في حصالة الإنسانية العولمية, هي الإنجاز الأهم لعصر الحداثة, الذي ينبغي صونه من أجل المستقبل. المدرسة الفعلية للتجربة اليهودية في العالم مرتبطة بالاستيعاب الإبداعي لجملة هذه القياسات ووضع إجراءات التناول المقارن. لا ترتبط خصوصية اليهود الإبداعية المنتجة بطرح أحكام دوغمائية مطلقة جديدة عوضاً عن الفائتة, وهذا ما تدّعيه كما يبدو العولمة الأمريكية المركزية الحالية, وإنما بتحويل المطلق إلى نسبي, وأحادي الشكل إلى متعدد الأشكال, والسكوني إلى دينامي.
يحلم اليهود بنهاية الأوديسة التاريخية الطويلة, المرتبطة بالحياة وسط الشعوب الأخرى, وبنهاية الحاجة إلى التطبع الناجمة عن ذلك. إنهم يريدون مواجهة وضعهم كأشخاص على مشارف الثقافات العولمية والجزئية, و"المنسلخة" والمتطبعة في الوقت نفسه بأفق مواطن العالم النهائي - المرتحل غير المرتبط بأي عوائق محلية.
ويرغبون, بطبيعة الحال, في أن يكونوا رحل ذوي امتيازات, على العكس من الجماهير المنبوذة والمحرومة من الحقوق, التي تهدد صفوفها بالتكاثر من غير نهاية بسبب من إعادة التقسيم الجيوسياسي العولمي للعالم. يحارب اليهود الوطنية ومتطلبات المسؤولية الوطنية كما حاربوا من قبل سمة الحضرية. لكن محاربة الحضرية كانت محاربة من أجل المساواة؛ أما محاربة الوطنية وضرورة الخضوع للقوانين المدنية المحلية فهي حملة من أجل الامتيازات.
يهدِّد هذا الفارقُ بتغيير أفق اليهودية الاجتماعي والسياسي, وتحويلها من حليف للحركات الديمقراطية العظمى من أجل المساواة والعدل إلى عدو مكشوف للجميع. ويبقى معروفاً اتكالها على الحماية والرعاية الأمريكية, إلى درجة يبدو معها من غير المرجح أن يزداد الود نحوها من جانب الشعوب المضطهدة على يد سادة العالم الأمريكيين. إن الرهان المغامر على انتصار الولايات المتحدة الأمريكية "الكامل والنهائي" على العالم كله يهدد بإحباط لم يشهد له التاريخ اليهودي مثيلاً.



([1]( - إيمانويل كانط (1724 -1804) فيلسوف ألماني ومؤسس الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. أهم أعماله "نقد العقل الخالص", "نقد العقل التطبيقي". كوَّن الاعتراض على علاقات التبعية للنظام الإقطاعي الخلفية الاجتماعية للتعاليم الأخلاقية الكانطية لذلك فهو يعتبر من وجهة النظر هذه منظِّراً للبرجوازية الناشئة. لم يكن كانط فيلسوفاً وحسب, بل كان عالماً أيضاً, إذ كان من أوائل الذين وضعوا نظرية علمية عن تشكل الشمس والأجرام السماوية (المترجم).

([2]( - مدرسة شيكاغو هي أحد الاتجاهات المعاصرة في الفكر الاقتصادي. تتبنى مواقف الليبرالية الجديدة, وقد تأسست في أواسط الستينات من القرن العشرين. أبرز ممثليها فريدمان, هايت, سايمونس, ستيغلير. (المترجم).

([3]( - المدرسة الفرانكفورتية في الفلسفة وعلم الاجتماع الألمانيين, استمرت من الثلاثينات وحتى السبعينات من القرن العشرين في معهد الأبحاث الاجتماعية في فرانكفورت على الماين (منذ عام 1931). أهم ممثلي هذه المدرسة هم هوركهايمر وأدورنو وماركوزه وفروم وهابيرماس. تمتزج في "نظرية المجتمع النقدية" الفلسفية – الاجتماعية طريقة ماركس النقدية في تناول الثقافة البرجوازية مع أفكار الديالكتيك الهيغلي والتحليل النفسي الفرويدي. (المترجم).

([4]( - تيودور أدورنو (1903 – 1969) فيلسوف وعالم اجتماع وموسيقي ألماني. ممثل المدرسة الفرانكفورتية. تبنى نقد الثقافة والمجتمع ("جدلية التنوير", عام 1948, بالاشتراك مع هوركهايمر), وأفكار "الجدلية السلبية". أنجز أدورنو ومساعدوه في بداية الأربعينيات دراسة "الشخصية المتسلطة" باعتبارها المقدمة الاجتماعية والنفسية للفاشية. إيريكس فروم (1900 -1980) فيلسوف وعالم نفس واجتماع ألماني – أمريكي. الممثل الرئيسي للفرويدية الجديدة. هاجر منذ عام 1933 إلى الولايات المتحدة. استند إلى فكرة التحليل النفسي والوجودية والماركسية, وسعى إلى حلّ تناقضات الوجود الإنساني الأساسية – بين الأنانية والغيرية, وبين الملكية والوجود, وبين "الحرية من" السلبية و"الحرية من أجل" الإيجابية. رأى طريق الخروج من أزمة الحضارة المعاصرة في تكوين "المجتمع الصحي" المؤسس على مبادئ الأخلاق الإنسانية وقيمها السامية, وبإعادة التناغم إلى العلاقة بين الفرد والطبيعة, أهم أعماله "الهروب من الحرية" (1941), "التحليل النفسي والدين" (1950), "ثورة الآمال" (1964). إلزا فرينكل برونسيفيك
(1908 – 1958) ارتبطت شهرتها بمساهمتها الكبيرة في العمل الجماعي "الشخصية المتسلطة" وكذلك بتحديدها التجريبي لمفهوم عدم القدرة على احتمال اللاتحديد. (المترجم).

( ([5] - Adorno T., Frenkel -Brunswik E., Lendinson D. and Sanford R. The Autoritarian Personality. N -4. 1950.
وقد أدلى فروم بدلوه في هذا المشروع بكتابيه "الهروب من الحرية" (1941) "والإنسان من أجل نفسه" (1947).

([6]( - مارتن لوثر (1483 – 1546) – صاحب حركة الإصلاح في ألمانية التي أرسى بدايتها خطابه في فيتينبرغ (1517) الذي تقدم فيه بـ 95 قضية ترفض صكوك الغفران, وترفض العقائد الجامدة الأساسية في الكاثوليكية. مؤسس الحركة اللوثرية. ترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية مؤكداً بذلك على اللغة الألمانية الأدبية العامة. (المترجم).

([7]( - بوريس بيريزوفسكي ( تولد عام 1946) رجل دولة روسي, عضو مراسل في أكاديمية العلوم الروسية (1991), أخصائي في مجال الرياضيات الحاسوبية. شغل منذ عام 1996 منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي. من أشهر الأغنياء في روسيا, وكان على علاقة وثيقة بأسرة الرئيس الروسي السابق يلتسين, ثم اضطر إلى مغادرة روسيا بسبب من الخلافات مع الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. (المترجم).

([8]( - أناتولي تشوبايس (تولد عام 1955) رجل دولة روسي. شغل من 1991 وحتى 1994 منصب رئيس لجنة الدولة في روسيا الاتحادية لإدارة ملكية الدولة. ومن 1994 حتى 1996 منصب النائب الأول لرئيس إدارة الرئيس الروسي, ومن 1996 – حتى 1997 منصب نائب رئيس الحكومة. من أشهر شخصيات الحقبة ما بعد السوفييتية في مجال الإصلاحات والاقتصاد الليبرالي (المترجم).

([9]( -الغيتو قسم من المدن كان يخصص لإقامة اليهود الجبرية في الكثير من مدن القرون الوسطى, وقد اختفت هذه الأحياء في النصف الأول من القرن التاسع عشر, ثم أعادها النازيون في الحرب العالمية الثانية, وهي موجودة في بعض الدول المعاصرة مثل غيتو الزنوج أو حي الزنوج في نيويورك. (المترجم).
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59