عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 08-28-2012, 12:06 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي


5- عن التكرار



قرابة خاتمة كتاب "العلم الجديد"، وبعد أن عرض فيكو بالتفصيل تلك الطريقة المحددة التي لا يتولى فيها الرجال صنع التاريخ وحسب بل ويصنعونه وفقاً لدورات تعاود تكرار أنفسها أيضاً، يواصل شرح الكيفية التي تصبح فيها هذه المعاودات بمثابة الأنماط العقلانية التي تحفظ الجنس البشري. وإن ذلك المقطع برمته يشبه نوعاً من التأمل الأفلاطوني في التاريخ المثالي، بيد أن تفاصيل ما يصفه فيكوليست أفلاطونية تماماً:
إن من صحيح القول أن الرجال أنفسهم هم من صنعوا تاريخ الأمم هذا (ونحن اعتمدنا هذا القول كأول مبدأ لا جدل فيه من مبادئ علمنا، بعد أن حل بنا اليأس من العثور عليه عند الفلاسفة والفيلولوجيين)، ولكن هذا العالم انبثق بدون شك عن عقل مختلف في أحيان كثيرة عن الغايات الخاصة التي كان الرجال قد وضعوها نصب أعينهم، وعقل مناقض لتلك الغايات في بعض الأحيان وأسمى منها دائماً.
فالغايات الضيقة كانت وسيلة لخدمة غايات أوسع منها، وكانت مسخرة على الدوام لحفظ الجنس البشري على سطح هذه المعمورة.
فالرجال يتقصدون إشباع شهواتهم البهيمية وهجران ذريتهم، وهم يستهلون طهارة الزواج الذي تنبثق عنه العائلات. والآباء يتقصدون ممارسة سلطتهم الأبوية بلا حدود على أتباعهم، ويخضعونهم للسلطات المدنية التي تنبثق عنها المدن. وطبقات الحكام من النبلاء تتقصد إساءة استعمال حريتها السامية على العامة، وتضطر للامتثال للقوانين التي توطد حرية الشعب.
وبعدئذ تتقصد الشعوب الحرة الإطاحة بنير قوانينها، وتصبح خاضعة للملوك. والملوك يتقصدون تعزيز مراكزهم الخاصة بالانتقاص من قدر رعاياهم بكل رذائل الانحلال، كما أنهم يعرضونهم لمعاناة العبودية على أيدي أمم أقوى. والأمم تتقصد تفكيك أنفسها، والبقايا الباقية منها تهرب إلى البراري طلباً للأمن، من حيث تبرز مجدداً كالعنقاء. وإن ما فعل هذا كله كان العقل، لأن الرجال فعلوه بمنتهى التعقل- فذلك لم يكن من فعل القدر لأن الرجال فعلوه بمحض اختيارهم، ولم يكن من فعل الصدفة لأن نتائج تصرفاتهم على هذا النحو هي نفسها إلى أبد الآبدين(!).
إن زبدة هذه الفقرة هي أن أي تفحص للوقائع الملموسة للتاريخ البشري، الأمر الذي ليس في متناول أي فيلسوف أو فيلولوجي، يكشف عن وجود مبدأ أو قوة نظام داخلي ضمن سلسلة من الأحداث التي لولاه لكانت أحداثاً فوضى. والعقل هو النظام العام للفرملة التي تكبح اللاعقلانية المتسارعة على الدوام في السلوك البشري. فمن قلب كل مثال عن حماقة الرجال تأتي تلك النتيجة التي تعمل ضد النية العاجلة للكائن البشري والتي تبدو إملاء من إملاءات العقل، الذي يتمثل هدفه الأسمى في حفظ الجنس البشري. ولكن كيف؟ بالتأكد من أن التاريخ البشري يثابر على تكرار نفسه وفق مسيرة الأحداث مسيرة محددة معينة. وهكذا فإن العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء تفضي إلى قيام الزواج، وتفضي مؤسسة الزواج إلى قيام المدن ، ويفضي نضال العامة إلى قيام القوانين كما أن صراع الجماهير مع القوانين يفضي إلى قيام الطغيان ويفضي الطغيان في خاتمة المطاف إلى الاستسلام للقوى الأجنبية. ومن صميم هذا الانحطاط الأخير تبدأ دورة جديدة انطلاقاً عن التفسخ المطلق الذي يتفسخه الإنسان في البراري.
فبدون العقل لن يكون هنالك تاريخ يتحدث بشكل لائق، وبدون التاريخ تكون الإنسانية أمراً مستحيلاً بكل تأكيد. وإن تلك الأشياء التي تجعل من التاريخ أمراً ممكناً- وهنا لا يبدو الخوف على فيكو من الحشو، كما هو شأنه في أي مكان آخر- والمؤسسات البشرية كالزواج والقوانين والأمم. وهذه المؤسسات تتكشف عن عناد هزاء، عن عقل، عازم على استبقاء الإنسان ضمن إطار التاريخ والمغزى، وأما المهزأة فهي أن الرجال يعملون على فضح "السر السائب على المستوى البهيمي" بعناد شموس حتى في ذلك الوقت الذي ينير فيه العقل الظلمة ، وبعناد مماثل باستيلاء أنماط معقولة تمنح الإنسان ذلك التاريخ الذي لولاه لذهبت شهواته الرهيبة أدراج الرياح وضاعت، بمنتهى الإصرار، هباء منثوراً. فبدلاً من التساند العشوائي هنالك الزواج، وبدلاً من الأوتوقراطية الملجومة هنالك القوانين والجمهوريات، وهكذا دواليك.
لقد جاء فيكو على وصف هذا كله في طول وعرض كتابه المعنون بـ"العلم الجديد" كشيء يجب إدراكه عاجلاً أو آجلاً أي، بدون التدخلات المغرضة لفلسفة ديكارت أو فيلولوجية إرازموس، وذلك لأن فيكو يدعي بأنه يتكلم بالضبط عن ميدان الحقيقة المجردة، فما تفعله الكائنات البشرية هو ما يجعل منها كائنات بشرية، كما أن ما تعرفه هو الشيء الذي أقدمت على فعله. فهذه المبادئ الأساسية جداً تتردد أصداؤها هنا وهناك وهنالك في كتاب "العلم الجديد". إن التاريخ البشري هو الواقع البشري هو النشاط البشري هو المعرفة البشرية.
"فالعلم الجديد" يضيف منهجياً على تلك المعادلة مساهمة الباحث: فالباحث (أي فيكو) يكتشف كل هذه العلاقات بالتعرف عليها أو، إذا استعملنا تعبيراً فيشيا (Vichian)* أفضل، بالعثور عليها من جديد (vitrovare). ولئن تضايقنا أحياناً من عادة فيكو نفسه وهو يكرر المخطط الأساسي للتاريخ البشري من بهيمية خالصة إلى عقلانية معتدلة إلى تعقل بالغ التشذيب، ومن ثم إلى بربرية جديدة وإلى بداية جديدة مرة أخرى -ولئن تساءلنا عن دقة دورة يفرضها فيكو على تشكيلة ضخمة من التاريخ البشري- لاضطررنا عندئذ لمواجهة الشيء الذي تدور حوله الدورة بالتحديد، ألا وهو مأزق تشكيلة لا نهاية لها ورعونة لا نهاية لها أيضاً. خذوا التاريخ كما أشيع عنه من أنه سلسلة دراماتيكية متعاقبة من الأطوار الديالكتيكية، وسلسلة استنتها ولفقتها بمنتهى الإصرار بشرية متنافرة فيما بين بعضها بعضاً، كما يقول فيكو على ما يبدو، وعندها سوف تتحاشون اليأس من النظر إلى التاريخ وكأنه حدث لامبرر له، وتتفاوت الضجر على قدم المساواة من النظر إلى التاريخ وكأنه يحقق مخططاً مقرراً سلفاً. ولئن كانت منزلة التكرار نفسه موضع الارتياب من زاوية نظرية المعرفة، فليس هذا بالأمر الهام: "إذ إن التكرار مفيد كطريقة لتبيان أن التاريخ والواقع كليهما معاً عن الإصرار البشري، لا عن أصالة مقدسة.
إن من الصحيح جداً تقريباً أن نقول، على ما أظن، أن التكرار بالنسبة لفيكو، كائناً ما يكون خلاف ذلك، هو شيء يحدث ضمن الواقع تماماً كما يحدث ضمن الفعل البشري في مضمار الوقائع وضمن العقل إبان مسحه ميدان الفعل. فالتكرار، والحق يقال، يربط بين السبب وبين الخبرة الصرف. أولاً: الخبرة، على مستوى المغزى، هي التي تركم المغزى حين تعود أهمية الخبرات السابقة والمماثلة. فالرجال خائفون على الدوام من آبائهم، وهم يدفنون موتاهم، ويعبرون بمنتهى الإصرار إلهاً مصوغاً في انطباعتهم الذهنية. وهذه التكرارات هي ما يقوم عليها المجتمع البشري. ثانياً: إن التكرار يتضمن الخبرة كيفما اتفق، فالتكرار هو الإطار الذي يمثل فيه الإنسان نفسه أمام نفسه وأمام الآخرين. فرب الأسرة "pater familias" البدائي يرفع من مقامه عالياً كما يفعل جوبيتر، مكرراً عجرفته، حاكماً لتلك الأسرة التي خلقها والتي يجب عليه أن يحاول تفادي إطاحتها به. وأخيراً فإن التكرار يعيد الماضي للباحث منيراً له بحثه بانتظام لا ينضب له معين. "في عتمة ظلمة حالكة تحجب أقدم مرحلة من مراحل غابر الأزمان؛ وبعيداً جداً عنا، يشع نور حقيقة سرمدي عصي على الانطفاء بتاتاً وخارج إطار الشكوك كلها: ألا وهي أن عالم المجتمع المدني كان بالتأكيد من صنع الرجال، وأن مبادئه يجب لذلك أن توجد ضمن التعديلات القائمة في عقلنا البشري ذاته(1)". فالبنسبة لفيكو يكون التكرار، سواء أكان بداية إحساس أو كتصوير أو كإعادة بناء مبنى أثري، مبدأ اقتصادياً يسبغ على الحقائق واقعيتها التاريخية وعلى الواقع معناه الوجودي. ومن الصحيح بالتأكيد أن كل تكرار لطور أو لطور جديد "corso or recorso" ما هو على العموم إلا نفس أسلافه السابقة، بيد أن فيكو حساس جداً حيال الخسائر والمرابح، أي، بوجيز العبارة، حيال الفروق القائمة في صميم كل طور كرار من أطوار الدورة.
إن استخدام فيكو لفكرة التكرار كما يفهمه يشبه إلى حد ما، شكلياً، التقنيات الموسيقية الموظفة للإتيان بالتكرار، ولا سيما تقنيات اللحن المحوري "cantus firmus" أو الألحان الثانوية الكرارة "chaconne" أو، إن جئنا على ذكر أكثر الأمثلة الكلاسيكية تطوراً، تقنيات "بدائل غولد بيرغ" لباخ (Goldberg variations). فبواسطة هذه الأحابيل ثمة لحن أساسي يثبت الألحان الفرعية التزيينية المعزوفة فوقه. وعلى الرغم من تكاثر التبديلات في الإيقاعات والأساليب والتناغمات، فإن النغم الأساسي يعاود الظهور خلالها كلها وكأنه يريد أن يعرض قوة صموده وقدرته على ممارسة التحبيك الأبدي.
وهنالك، في هذه الأشكال الموسيقية، نوع من التوتر بين مخالفة أو شذوذ اللحن الفرعي وبين ديمومة اللحن المحوري ومواصلة توكيده عقلانيته، الأمر الذي يجسد الظاهرة نفسها التي لاحظها فيكو في التاريخ البشري. فما من شيء كان بمقدور فيكو أن يقوله عن انتصار العقل على اللاعقلانية لمضاهاة ذلك الانتصار الهادئ الذي يحدث في نهاية "بدائل غولد بيرغ"، حين تعود النغمة الرئيسية بشكلها الأول الصحيح كي تطمس تلك البدائل الفرعية التي استولدتها النغمة الرئيسية بالأصل. إن استخدامات التكرار على هذا النحو تصون ميدان النشاط وتعطيه شكله وهويته، تماماً كما كان فيكو يرى في التكرار توكيداً للحقائق الجوهرية للشيء الذي دعاه بالتاريخ البشري العصبوي.
وهأنذا أستخدم كلمة عصبوي "gentile" لفيكو كمرادف لكلمة قرابة "filiation" التي ورد بحثها في الفصل التمهيدي لهذا الكتاب. ولكن الشيء الذي لا نستطيع وصفه شكلاً في الموسيقا، إلا بتشبيه جزئي متوتر إلى حد ما، هو فكرة فيكو عن التاريخ البشري كونه مولوداً، كونه ناتجاً ومنسوخاً بنفس تلك الطريقة التي يستولد فيها الرجال والنساء أنفسهم بإنجاب وخلق الجنس البشري. فالتاريخ العصبوي هو تاريخ الأسرة الكريمة الأصل "gens" والأقوام الكريمة الأصول "gentes" المولودة بداهة كل منها في حينه كي تتنامى هناك، علاوة على أنها ليست بالمخلوقات مرة واحدة وإلى الأبد من خلال قوة مقدسة واقفة خارج التاريخ. إن "العلم الجديد" كله مشغول بهذه السيرورة العصوبية التي تعبئ أفكار فيكو عن التكرار، كما إن الانطباعات الذهنية لفيكو عن السيرورة التاريخية لانطباعات بيولوجية راسخة بل، وأكثر من ذلك، أبوية راسخة أيضاً. وما تلك الفقرة التي استشهدت بها من قبل إلا دليل جيد عن ذلك القالب الذي يتحرك فيه خيال فيكو، والذي أدرك الحركة المتتالية للدورات"corsi" والدورات الجديدة"recorsi" الجديدة المتعاقبة على أنها العلاقة بين الآباء والذراري. وهكذا فإن التكرار عصبوي لأنه بنوي وسلالي.
إن التلاعب الإيتيمولوجي لفيكو بالكلمات المشتقة من "gens" كان يخلب عليه لبّه لأن تلك المشتقات لم تكن لتمثل الكيفية التي ينبثق فيها التاريخ عن الخصاب البشري وحسب بل وتمثل أيضاً الكيفية التي تكرر فيها الكلمات تلك السيرورة من خلال استخراج المتشابهات من جذور الكلمات: genitor, genialis, gentile, gentes, gens وهكذا دواليك.*
ففيكو إذاً يفهم التكرار على العموم بأن قرابة، بيد أنها القرابة المعضلة لا العشوائية الأوتوماتيكية.
ولكن أولئك الناس الذين درسوا فيكو لم يستوعبوا الكثير من الهوس بالقرابة في كتابته التاريخ، كما أنهم لم يقرنوا بين الاستقصاءات السلالية التي قام بها فيكو وبين الجهود، المعاصرة لجهوده تقريباً، في ميدان التاريخ الطبيعي لدراسة الجيل والتوالد والوراثة.
ففي كلا الميدانين، أي في دراسة فيكو للخبرة التاريخية وفي عمل موبيرتوس وبوفون في التاريخ الطبيعي مثلاً، كان تصنيف الكائنات الحية وسيلة لرصد الأطوار التي تمر وتعاود المرور بها تلك الكائنات ولكن "الحياة" كانت، وهذا شيء أهم من سابقه كما استطاع أن يبيّن كل من فيكو وبوفون، ذلك المفهوم الذي يتسامى على محض التصنيف والذي له نظامه الداخلي الخاص والمتوالد ذاتياً، والمنقول من جيل من الآباء إلى جيل آخر.
ولقد كان السؤال الجدير بالجواب يدور عن الكيفية التي ولدت بها الحياة وعن الكيفية التي استولدت نفسها بها ذاتياً، منذ ذلك الحين الذي بطل فيه النظر إلى الحياة بأنها نتيجة تدخل قدسي متواصل في شؤون الطبيعة. فالتكرار بالنسبة لفيكو ولعلماء الطبيعة في القرن الثامن عشر ما هو إلا نتيجة التناسل الفيزيولوجي، أي نتيجة الكيفية التي يؤبد فيها نفسه جيل من الجنس البشري في زمان ومكان تاريخيين، حتى أن من الممكن أن يقال أن التكرار والتناسل البيولوجي إن هما، في حقيقة الأمر، إلا صنوان.
وطبقاً لما جاء فرانواجاكوب في "منطق الكائن الحي" (La Logique du vivant) فإن فكرة التوالد نفسها برزت إلى الوجود في مطلع القرن الثامن عشر حين تنبه علماء الطبيعة إلى قدرة الحيوان على تجديد تشكيل الأعضاء المبتورة. ففي البداية كان من المعتقد أن الكائن الحي هو الذي يستولد كلاً من نفسه وشكله الخارجي المفقود لأنه يحقق خطة، أو مخططاً قبْلياً في وجوده كان بمثابة نموذج مثالي قيد الإنجاز من الطبيعة كلها. ولكن بمرور الزمن جرى التخلي عن هذه النظرية، وبدلاً منها ظهر لكل من موبيرتوس وبوفون في عقد الأربعينات (1740) أن الطبيعة تكرر نفسها أو تستنسخها بفضل طاقة داخلية كافية كما يتجلى ذلك في تنظيم المادة العضوية على شكل عناصر متجمعة بعضها مع بعض بغية توليد نفسها من الصميم. وعندما تبين أن التوالد والتجديد يفضيان إلى التشابه (أي التكرار) بشكل ثابت، كان تعليل بوفون أن جملة الصفات الموروثة، أي الضغوط على الذراري، أسيرة إرشاد الذاكرة. فالتوالد هو السيرورة التي تنتقل بها العناصر المنظمة من جيل إلى جيل لاحق وبما أنه كان من الواضح أن هذه السيرورة ليست عشوائية، وبما أن القرابة كانت تنطوي ضمناً على التشابه الشديد إن لم تكن على الدوام تكراراً فعلياً، فإن بوفون وموبيرتوس سلما جدلاً بوجود قدرة، هي الذاكرة، مهمتها توجيه انتقال الأجيال، الأمر الذي يكفل تكرار الميزات البارزة وانتقالها إلى الجيل التالي(3).
إن فيكو يعتمد نظرية مماثلة إلى حد مذهل. فالتاريخ، كما قال، ينجم عن العقل، وما هو العقل إن لم يكن الذاكرة التاريخية القادرة على الربط والتعديل والتغيير إلى أبد الآبدين. ولكن الذاكرة تكبح العقل بالأساس، فضلاً عن أنها كلها تدور عن ذلك الواقع الذي يبقى، بالنسبة للناس البدائيين أو بالنسبة لأكثر الفلاسفة المحجثين صقلاً، واقعاً بشرياً بشكل جوهري. وكائناً ما كان مقدار التغيير الذي يبدو عليها، فلن يكون بوسعها البتة أن تكون إلا بشرية إلى هذا الحد أو ذاك. إن "العلم الجديد" قد درس بنى هذا الواقع المغرق في القدم بالشكل الذي انتقل فيه من الإنسان البدائي إلى الإنسان الحديث أو بالشكل الذي أنجب فيه الإنسان البدائي، كما تبين لفيكو في إحدى ملاحظاته المذهلة التي ترقش عمله، الإنسان الحديث وكان أباه الفعلي، وكرر فيه الثاني المراحل الجنينية للإنسان الأول. فالتاريخ بالنسبة لفيكو هو المكان الذي لا يضيع فيه أي شيء بتاتاً. وإن عبارة بوب القائلة "كل ما هو موجود" تعني بالنسبة لفيكو شكلاً سابقاً ولاحقاً في آن واحد معاً، حيث يرتبط الشكلان بعضهما ببعض بما دعوته من قبل بالقرابة المعضلة.
وإن نظرية فيكو عن التكرار أكثر تشويقاً من نظرية معاصريه في التاريخ الطبيعي.
فالذاكرة بالنسبة لهم كانت هي التي توجه انتقال الأجيال، وهي التي تيسر التوالد: لكنها لم تكن هي التي تسببه ولم تكن الذاكرة لتعرض نفسها إلا في المكان، كحضور مادي لشيء ما واقف قبالة شيء آخر. إن الفرق بين بوفون ولامارك كان أن هذا الأخير جاء ببعد زماني إلى صميم الوراثة. فالزمان، لا أي مكان طبيعي عام شاسع من نوع ما، هو ما كان يربط الكائنات الحية بعضها ببعض، كتاريخ ماض عام ذي تعاقب وديمومة وإمكانية لإكمال التنظيم الجاري عبر الجيل(4). فالوراثة كانت تعني ضمناً نظرية تطورية، لا ذاكرة سلبية والجيل يعني ضمناً الصراع ، مع العلم أن هذا الشيء كان أيضاً جوهر التاريخ العصبوي لفيكو. فمع احتدام الصراع، كما بين جيل من الآباء وجيل من الأبناء، تكون ولادة الفارق، وولادة التكرار في الوقت نفسه. وبكلمات أخرى كان فيكو على دراية أن القرابة من وجهة نظر أولى هي الرجوع، ولكنها من وجهة نظر ثانية، ألا وهي وجهة نظر التاريخ باعتباره شكل الخبرة البشرية منظوراً إليه على أنه المضمار الخاص بها، فهي الفارق. فالتذبذب في فكر فيكو حيال القرابة بين التكرار أو الرجوع والفارق كان في الواقع تعبيراً عن التذبذب بين الرغبة في اللامتبدل والشامل والدائم والمعرض للتكرار من ناحية أولى، وبين الرغبة في الأصلي والثوري والفريد والطارئ، من ناحية ثانية.
فهذه التعليقات على فيكو مقصود بها تعميق مركزية الأفكار عن التكرار وصولاً بها إلى مستوى التأملات عن السيرورة الزمنية، وإلى فكرة الخصاب البشري وإلى الافتراض بأن الحقائق البشرية المرهونة زمانياً يجب اعتبارها بطريقة ما أنها تكرارات السابقة أقدم منها أو أنها فوارق عنها. وللتو هنا يجب علينا أن ننتبه إلى الكيفية التي تعامل بها النظرية النقدية الأدبية الحديثة هذه المعضلة المتعلقة بالتكرار والأصالة- ومن منطق سلالي أيضاً- على أنها مشكلة الصراع على النفوذ بين سلف أبوي قوي
وخلف بنوي لاحق.وإنني أشير بداهة هنا إلى المخطط الذي وضعه هارولد بلوم للتاريخ الشعري. واهتمامي يتمركز على الدفاع عن أن من الطبيعي أن تكون النظرة إلى انسياب الزمن، فيما يتعلق بالنظرية الأدبية وبالتاريخ العصبوي لفيكو وبالتاريخ الطبيعي وصولاً إلى داروين واحتواء له، بأنه تكرار لذلك المسار المولّد الكرار الذي يستولد فيه الإنسان نفسه أو ذريته المرة تلو المرة إلىأبد الآبدين. فالبقاء على قيد الحياة يبدو على أنه، وفقاً لمقولات جاكوب، بقاء أفضل المنجبين وأفضل المكررين. فالاستعارة العائلية عن استيلاد الأبناء، حين يتم تمديدها إلى كل زوايا النشاط البشري طولاًوعرضاً، دعاها فيكو بالشعرية، إذ إن الرجال رجال، كما يقول، لأنهم صناع ومايصنعونه قبل أي شيء آخر هو أنفسهم. فالصنع هو التكرار، والتكرار هو الدراية لأنه يصنع. وهذه هي سلالة الدراية وسلالة الحضور البشري.
إنني أتصور أن من الممكن تبيين أن القص المسرود خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الأوربيين معتمد على الأحبولة البنيوية لمناولة قصة ما من خلال الإخبار المسرود، وأن الوضع الشامل لحبكة الرواية، فضلاً عما تقدم، هو أن تعمد شخصية منحرفة لتكرار المشهد العائلي الذي بواسطته تولّد المخلوقات البشرية بتصرفاتها تلك الديمومة البشرية، ولئن كان هنالك للبطلة الروائية، أو البطل، مهمة تسمو على كل المهمات الأخرى فهي أن تكون نموذجاً مختلفاً إذ إن الأبوة والروتين ينيخان بكلكلهما عليهما. ولكي تكون هذه الشخصية نموذجاً شاذاً يعني أن تكون غريبة الأطوار، أي، شخصية لا تكرر مايكرره معظم الرجال بحكم الضرورة- ألا وهو مسار الحياة البشرية، الأب قبالة الابن جيلاً بعد جيل. وهكذا فإن الشخصية الروائية رهن التصور أنها تحد للتكرار، أي تفجير ذلك الواجب المفروض على الرجال كي ينسلوا ويتكاثروا، كي يخلقوا أنفسهم بأنفسهم ويكرروا خلقها مراراً وتكراراً دون أي انقطاع. ففي ذلك الرفض الذي ترفضه إمابوفاري في أن تكون نفس تلك الزوجة التي تطلبها منها أن تكونها طبقتها والمقاطعات الفرنسية، تصبح صلات الرحم في المجتمع موضع التحدي. إنها تلك المرأة التي كان من الممكن لفلوبير أن يكتب عنها لأن التكرار، أي شعورها بالضجر من التماثل القميء، يولد الاختلاف ألا وهو رغبتها في أن تعيش حياة رومانسية، مع العلم أن الاختلاف يفضي إلى الشذوذ الذي هو علامتها الفارقة وبلواها في آن واحد معاً.
وفي حديثي عن الرواية الأوربية الكلاسيكية الواقعية أجد نفسي مضطراً للعودة إلى الوصف المعضل الذي وصف به فيكو التاريخ البشري من أنه سلسلة من الدورات السلالية الكرارة. ومن الجدير بالذكر أن فيكو وفلوبير كلاهما على مايبدو يسخران الدورة التوليدية للزمن البشري وذلك لأن تناقضاً أساسياً يكمن ضمن تلك الدورة، في صلبها ذاته، ويكشف عنه الزمن أكثر مما يحله. وأما ما أعنيه بقولي هذا فهو مايلي: إن السلسلة المتعاقبة لصلات الرحم لدى فيكو، أي الآباء والأمهات في إنجابهم الذراري ومن ثم في إنشائهم لا العائلات وحدها بل والصراع بين الأجيال أيضاً، تخلص أن نتيجتين اثنتين. الأولى منهما مقصودة وهي: "أن الرجال يتفصدون تسويغ شهواتهم البهيمية وهجران ذراريهم". وأما الثانية فهي لا إرادية: "ويستهلون طهارة الزواج الذين تنبثق عنه العائلات. وعلى الرغم من أن تكرار التاريخ البشري يتضمن كلتا هاتين النتيجتين فإن صدعاً هاماً يقوم بينهما وبمنتهى الجلاء. فبشكل مقصود، وبطريقة طبيعية جداً وبدون وساطة، تستولد صلة الرحم لا الصراع وحده بل ونلفاها مدفوعة برغبة لإفناء ماتم استيلاده، أي هجران الذراري. ولكن بشكل غير مقصود يحدث النقيض: إذ تتوطد أركان الزواج الذي يشد الوثاق، كمؤسسة، بين الذراري والآباء. وإن هذا الصدع نفسه بين الشهوة الجنسية المقصودة وبين اعتراضها اللا مقصود من قبل المؤسسات يحدث في روايتة "مدام بوفاري". فالتاريخ في حالة فيكو، وهو الشكل نفسه للرواية لدى فلوبير، يقف إلى جانب المؤسسات ل***** ونقل وتوكيد لا سيرورة تكرار صلة القرابة التي بها يتأبّد الوجود البشري على نحو كرار وحسب، بل وعلاوة على ذلك فإن تلك المؤسسات نفسها -كالزواج أو الألفة على سبيل المثال- تصون صلة القرابة من خلال إكساء صلة التقرب كساء المؤسسة، أي تجميع الناس في وحدة لا سلالية ولا تناسلية بل في وحدة اجتماعية. إن الشيء الهام تاريخياً لفيكو لا يتمثل في أن الزواج ييسر التناسل بل يتمثل في أن الزواج كمؤسسة، باعتبار أن التناسل يحدث بشكل طبيعي وبطريقة ما (وبشكل تخريبي، قصدا على الأقل)، يفرض قيوداً رسمية على الشهوة الجنسية بغية تيسير قيام صلات التقرب كشيء مختلف عن صلات القرابة الخالصة.
وهكذا فإن مكان الأب يفقد منعته السامية. فالدوران الأبوي والبنوي، وهما الضروريان لبعضهما بعضاً على قدم المساواة في تلازمهما الطبيعي وفي عدائهما المتبادل، يبدوان بأنهما يفضيان إلى قيام علاقات أخرى، علاقات تقرب، التي يكون حضورها التاريخي والواقعي حضوراً لا لبس فيه في المجتمع البشري مثار اهتمام المؤرخ والفيلسوف والمنظّر الاجتماعي والروائي والشاعر. ولكن ثمة تعقيداً إضافياً تسلل إلى صميم هذه المقولة. فلابدّ من أنكم لاحظتم أنني في حديثي عن منشأ علاقات التقرب استخدمت عبارة ملصة بعض الشيء هي: "يفضي إلى كذا". وهذه العبارة تتفادى الاستعارات الأكثر عمومية منها من أمثال "ينجب كذا". أو "ولادة كذا" اللتين هما بمثابة الاستعارتين اللتين ماكان بمقدوري استخدامهما بدون توضيح أثناء دراستي التناقض القائم بين القرابة السلالية وبين التقرب الاجتماعي، ذلك التناقض الذي كنت أعمل على تصويره. فالرجال والنساء ينجبون كذا، وهكذا تتوالد المخلوقات البشرية. وهنا جدير بنا أن نتساءل هل نفس النوع من الوصف شيء ممكن، وهل لهذا الوصف نفس المقدار من الجدوى في بحث الظواهر الاجتماعية أو الأدبية(5)؟ وعلاوة على ذلك فضمن نظام تكرار التاريخ البشري العصبوي جدير بنا أن نطرح ذلك السؤال المتعلق بصلب الموضوع ألا وهو: ماهي الطرائق الموجودة لمعالجة الحظر المفروض رسمياً على تعاقب السلاسل الأبوية والعائلية، ماهي الأشكال ماهي الصور، إن لم تكن الطرائق التوليدية والإنسانية التي كان من الممكن أن نسخرها لأغراض أخرى دون تغيير أفكارنا عنها؟
إن هذه الأسئلةهي ماأود سبر أغوارها الآن من خلال بعض الأمثلة المحددة، مع العلم أن منطلقي سيبقى ذلك المنطلق الذي يكون فيه التكرار مرآة موظفة (أو سهلة التوظيف)، لبحث استمرارية التاريخ البشري وأبديته وتواتره. ومن بين أهم الجهود المعاصرة وأكثرها شأناً لمعالجة ظهور شيء ما لأول مرة، كاكتشاف علمي مثلاً، أو نشوء مؤسسة ما نشوءاً موثقاً بالحقائق، هي الدراسات التي أجراها فيكو حول جذور وأصول موضوعاته. فالفرق بين مايفعله في "منشأ المستوصف" و"المراقبة والعقوبة": "منشأ السجن".
وبين ماجرى فعله في تاريخ الأفكار يكمن في أن فيكو قد عقد عزمه على تبيين التطابقات بين بعض الأحداث الفريدة وبين البنى المعرفية الكرارة التي يدعوها بالمحادثة والأرشيف. إنه يبين انتصار الانتظام والتواتر على الا انتظام والفرادة: وبهذا فهو يحذوحذو جورجز كانغويهلم، وحذو توماس كوهين في هذه البلاد. ومع ذلك فإن فيكو، كما ينجلي من العنوانين اللذين ذكرتهما أعلاه للتو، مفتون بالاستعارة الإنسالية دون محاولته محاولة كافية، كما يبدو لي، أن يوفق بين صياغاته المفاهيمية الرائعة وبين استعارات التكاثر البيولوجي هذه. فخلف مصطلحاته الفنية لمنابت الجذور يكمن تشابه جزئي مقبول بين توليد البشر والمؤسسات، وذلك لأن هنالك ثمة توتر فيما يكتب، وتوتر غير محوم، لابين الفرادة والتكرار وحسب، بل وبين القرابة والتقرب كمثلين من أمثلة التكرار.
ففي وضعية فوكو، كما هي عليه الحال في وضعية هارولد بلوم وفيكو والمؤرخين الطبيعيين موبر تويس وبوفون، هنالك توافق آراء من نوع عام جداً مؤداه: أنه منذ حوالي منتصف القرن الثامن عشر، ومشكلة التغيير تتعرض، في الوقت الذي يجري تصويرها فيه في ميادين عديدة على أنها استيلاد الحياة أو تكاثرها أو نقلها من الوالد إلى ذريته، تتعرض لانتهاكات بعض القوى التي تعكّر مسيرة استمرارها. ففي التاريخ الطبيعي المكتوب في مطلع القرن التاسع عشر -مع الأخذ بعين الاعتبار استقصاءات كوفيير -تورد أمثلة عن مثل هذا الانقطاع في نظرية الاضطرابات الجيولوجية. وعلى نحو مماثل فإن نظريات الأصل اللغوي كنظرية هيردر أو روسو، التي تصور أول إنسان والد متلفظاً بأول كلمة والدة ومتربعا من ثم على عرش اللغة كما نعرفها، تتعرض أيضاً للتعكير أولاً بالعمر المعروف حديثاً، والمنّاع على التخيل، لتلك اللغات غير الغربية وغير التوراتية، وثانياً باكتشاف استحالةوصف التاريخ اللغوي، بمقدار ما يتعلق الأمر بالباحث الحديث، بأنه يتحرك على شكل سلسلة سلالية متعاقبة وبسيطة.وعلاوة على ذلك ففي ميدان ثالث، ميدان التأويل التوراتي كما جاء على وصفه هانزو. فراي، يخضع الانسجام بين سير المسيح في العهد الجديد وبين التواترات الحقيقية في حياة المسيح، ذلك الانسجام الذي ظل حتى الآن موضع التخيل بأنه سلالي، إلى التمزيق التام من قبل شتراوس وباور وآخرين(7)، وقصارى القول فإن محاولة تطبيق المصطلحات التوالدية على عالم الوقائع الملحوظة علمياً، ماهي إلا ضرب من التوقات المجازي لإيمان مغرق في القدم وحسب. فالمفارقة هي أن البحث في كل الميادين عن الأصول والتفسيرات التطورية قد تُسعّر بدلاً من أن يتعوق جراء استحالة تطبيق هذه التفسيرات، إلا كاستعارات لتحقيق الرغبة.
إن الرؤية التنبؤية لفيكو قد تنبأت بالمفارقة ولمحت إلى بدائلها ففكرة التكرار تزداد فاعلية كنتيجة للاختلافات بين الاستعارة السلالية وبين المكتشف الواقعي. وإن الأنماط الكرارة التي يبدو أن الوجود البشري والطبيعي يتشكل منها تظفر بالثقة في الوقت الذي يخسرها أصلها فيه. ومع ذلك ففي مركز الواقع البشري نفسه تنتصب حقيقة التواصل البشري التي يجعلها المرء، إن كان سيشهد فيها حقيقة تواصل تاريخي، رهينة الإنجاب البشري. فكيف يكون بوسع المرء أن يربط بين هذه الحقيقة، حقيقة تكرار الإنجاب، وبين الحقائق القاهرة لذلك التنوع والتخالف والتشتت الثقافي والتأويلي والطبيعي؟ إن من الواضح أن الإلحاح منوط بالشيء المفهوم من مقولة التكرار، وأما بالنسبة للبديلين اللذين سيبلغان الذروة أولاً في كتاب "التكرار"، لكير كيفارد وثانياً في كتاب "في الثامن عشر من شهر بروميير بالنسبة للويس بونابرت"، لماركس، ففيكو مفيد مرة أخرى. هيا وتذكروا بأنه تصور دورة واحدة تخلص إلى الانحلال الذي منه البقايا البشرية "كالعنقاء... تبرز من جديد"، وسموّا هذا التجديد بأنه من فعل مشيئة فوق طبيعية. وماهذا التجدد إلا الشكل الأول للتكرار، وأما الشكل الآخر فيقتضي ضمناً تلك الظروف التي يتمكن فيكو من أن يوضحها بتفصيلات مسهبة. نشوء الحضارة وازدهارها وانحطاطها وانحلالها النهائي. فهنا نلاحظ نموذجاً لفعل مكرور -لوجود تاريخي واجتماعي وبشري- متسم بانخفاض عام في مستوى الوجود، من الكياسة إلى البربرية. وهذا النموذج، في الوقت الذي يبدو فيه مظهره الخارجي بأنه يحذوحذو نسب سلالي، منقاد في حقيقة الأمر بقوانين داخلية من قوانين التطور والارتداد، وقوانين تاريخية واجتماعية تنتهك قوة التواصل الإنجابي المباشر.
فكتاب "التكرار" لفيكو يستغل لصالحه الفكرة الأولى عن التكرار بيد أنه يفعل ذلك، مع التسليم جدلاً بغرابة أطوار عبقرية الكاتب، بتلك الطرق التي ماكان بمقدور أحد أن يتنبأ بها حتى فيكو نفسه. إن التركيز الذي يركزه كيريغارد، في هذا الكتاب كما في كتاب "الخوف والرعدة"، لا على الفكرة العامة للتكرار بل على خصوصيته المطلقة، علىاستثنائيته. وهنا يجب علينا أن نتذكر أن الشاب في مسعاه لتكرار حبيبته الأولى وأن إبراهيم التوراتي كانا يؤمنان معاً أن مجرد القرابة، أو بمقدار مايتعلق الأمر بأيةعلاقة إنسانية كعلاقة الزوج بالزوجة أو الاب بالابن، ليست بالشيء الكافي لا أخلاقياً ولا ميتافيزيقياً. فالتكرار ليس هو التذكر، وليس هو التوقان لشيء ما ليس موجوداً هناك. إن التكرار هو "الرجوع حين يكون مدار التصور بمعنى شكلي محض"، فبالنسبةللشاعر، والفارس الإيمان أيضاً، هناك صراع بين النفس وبين كل الوجود الذي هو الله. وإن مثل هذا الصراع بمثابة معركة خاسرة لأن النفس المعزولة، وهي عاجزة عن المجاراة وعاجزة عن الكلام، رهينة تهديد الانمحاق الذاتي على الرغم من أنها لا تحلحل البتة قبضتها على الواقع، وذلك لأن التكرار لا يعني ضمناً الاستسلام بل يعني رباطة الجأش محمولة إلى نقطة اللا رجوع. فالوجود نفسه، ممثلاً بزواج ******ة من إنسان آخر أو بإتاحة كبش لإبراهيم بشكل مفاجئ، يغفر للنفس "في اللحظة التي يبدو فيها أي منهما على وشك أن يمحق نفسه". ولذلك فإن إبراهيم والشاعر يتمكنان من تملك العالم مرة ثانية ويعيدان التفاصيل الدقيقة للخبرة فيه ويرجعان إلى الواقع "بإدراك مرفوع إلى القوة الثانية التي هي التكرار"(9)، فإبراهيم يستعيد إسحاق إلى حوزته من جديد، والشاعر في كتاب "التكرار"، يقول:"هأنذا نفسي مرة ثانية. فهذه النفس التي لن يتلقفها العالم الآخر من على قارعة الطريق أمتلكها مرة ثانية. لقد انحل التناقض في طبيعتي ، وأنا موحّد من جديد. إن تلك الأهوال التي وجدت لها التعزيز والرعاية في كبريائي لم نعد تتغلغل كي تعود علي بالتخبط والتباعد"(10).
ليس من المستغرب أن تكون هذه النتيجة الدينية، وبصحبتها إحساس "بأن الوجود الذي كان قائماً، يقوم الآن"، عسيرة على الفهم. فكير كيغارد يضع هذا النوع من الخبرة في موضع المواجهة مع التأمل الهيغلي، الأمر الذي يتنافى مع فجاءة التكرار المفصّل والذي بدل ذلك يحشر الواقع مواربة في قلب تلك الأصناف،ويخرج به منها علماً أنها الأصناف التي تسلبه من نفس آنيته الواقعية والتي يحاول جاهداً كيريغارد أن يحافظ عليها مهما كان الثمن. إن كتابة كيركيغارد نفسها، ولاسيما بالأشكال التي تستفيد منها، تحاول أن تعوض عن التصدع الموجود بين ماكان قائماً وبين ما يقوم الآن. فكتاب "التكرار" مثلاً مبني بنية رواية لجيمز أو كونراد، طافح بالأطر والرواة الذي يحيطون بعمل يصعب فهمه. ومع ذلك فإن الاستعارة السلالية والإنسالية قوية جداً حتىعند كيركيغارد، الذي خطط لفلسفته عن التكرار أن تتسامى على الاستعارة حتى إنه في خاتمة بحثه يصف نفسه، قسطنطين قسطنطيوس، بأنه "كالقابلة في علاقتها بالطفل الذي تستولده، ولذلك بما أنني الإنسان الأكبر سنا فإنا الذي يقوم بالتحدث"(11)، وفي حين أن فلسفة التكرار تبقى تقرباً فإن الوسائل المستخدمة لوصفها ما هي إلا، لكير كيغارد نفسه، قرابة. ولكن التوتر القائم بين الفكرتين مسموح به لأن الإيمان، من باب الافتراض، يتيح امتلاكهما معاً. ولقد كان بمقدور فيكو أن ينعت كيركيغارد بنعت المؤرخ الديني الملتزم بالمناهج العصبوية.
هيا بنا الآن نلتفت إلى البديل الآخر، وهوالبديل القائم في كتاب ماركس المعنون "الثامن عشر من شهر بروميير بالنسبة للويس بونابرت". إن صفحاته الاستهلالية المتألقة، وكذلك المقدمة التي كتبها ماركس عام 1869 تعلن عن عدائها للفرضية التي مفادها أن التاريخ يحدث تلقائياً أو وفق نزوة إنسان عظيم مولود ذاتياً، وعلى الانفعالات الفوضوية الناجمة عن الأحداث المعقدة، وعلى غياب النظام في مناهج التحليل التاريخي المعتمدة على التشابهات الجزئية السطحية، وفي كل مكان يؤكد ماركس على الصيغة التي صار العمل من جرائها أكثر الأعمال شهرة ألا وهي: أن كل الأحداث التاريخية العالمية تحدث مرتين أولاهما كمأساة، وثانيتهما كمهزلة. فالتكرار هو الخساسة بيد أنها بالنسبة لماركس، على نقيض ماهي عليه عند سويفت في "المحادثة المهذبة"، أو عند فلوبير في "معجم الأفكار المكتسبة"، ليست مهمة من مهمات النظر إلى المجتمع البشري وكأنه منظومة مغلقة من الصيغ المبتذلة المنطوقة بمنتهى الغباء، بل نتيجة لنظرية منهجية عن العلاقة بين حدث وآخر. إن ماركس ليرغب في البقاء بعيداً عن المذهب الوضعي وعن الحتمية السوقية وعن المخطوطة أو الندم الكئيب. فلئن كان صحيحاً أن الأحداث الهامة تحدث مرتين، يكون التكرار وقتها بمثابة شكلها المكاني، في حين أن شكلها الزمني والسياسي والجمالي يكون شيئاً آخر. ولكن ما السبيبل لتبيان هذا؟
إن الواقف وراء لويس بونابرت ليس أباه بل عمه، الامبراطور العظيم، تماماً مثلما أن قدام عام 1848 لا عام 1847 بل عام 1789، وأن قبل المهزلة تقف المأساة، وأن قبل كتابة ".... الثامن عشر من بروميير...، لا مجرد كل من كتب قبل ماركس وإنما هيغل وديدرو. فالشيء الذي يحدد المواضع الصحيحة لهذه السابقات المكسوة قسراً كساء المؤسسات ، كما يقول لنا ماركس في مقدمة عام 1869، هوحدث وقع في صميم الأدب الفرنسي، وحدث مر مرور الكرام خارج فرنسا- وكل كتاب"الثامن عشر..... بروميير...."، تكرار مقنع لهذا الحدث وفقاً لعبارات ماركس أي ضربة مسددة للخرافة النابليونية" بأسلحة البحث التاريخي والنقد والهجاء والحصافة “mit den wafen der geschichts chung der kritic ,der satire und derwitzes” فإذا كان نابليون الثالث يتظاهر بأنه فعلاً نابليون الثاني، أي السليل المباشر للامبراطور، تكون مهمة المؤرخ أن يرى الوقائع كما هي عليه، أي أن الابن ماهو بالفعل إلا ابن الأخ: وهكذا فإن كتابة ماركس تطرح النسخة السلالية المنقحة عن لويس طرحاً صائباً وجدلياً، كما إنها تتعمد تعميم واقعة فرنسية، لصالح الاشتراكية العلمية كما كان على إنغلز أن يقول لاحقاً، "إن كلمة gen في Legend ، وهي كلمة منسوبة اتيمولوجياً إلى كلمتي legere وLogos، ليس لها إلا علاقة سطحية ومضللة بكلمة gen في genitor أو في genitalis. وبناء على ذلك فإن ماركس يصحح ذلك الخطأ الفادح الذي استولدته الخرافة النابليونية، والذي مفاده أن رجلاً عظيماً ينجب إبناً يرث بدوره مركز أبيه. وإن مايفعله ماركس في كتابته هو إظهار إمكانية تكرار التكرار لكتابة التاريخ مرة ثانية، أي أن نوعاً واحداً من أنواع التكرار المغصوب من قبل ابن الأخ لا يعدو أن يكون تكراراً سخرة لصلة القرابة.
إن اللغة والتمثيل ينطويان على أهمية حاسمة بالنسبة لمنهج ماركس، فاستغلال ماركس لكل الأحابيل اللفظية لا يستهدف جعل كتاب ".... الثامن عشر...... بروميير". قدوة للأدب العقلاني وحسب، لا بل وإن ماركس ليعكس في لغته فهماً أيضاً لتلك الطريقة التي ليست اللغة نفسها فيها مجرد حقيقة من حقائق الوراثة البيولوجية بكل تلك البساطة وحسب، بل وهي حقيقة ذات هوية مكتسبة أيضاً علىالرغم من انتقالها بشكل سلالي من جيل إلى آخر.
إن ثورة عام 1848 لم تجد ماتحاكيه استهزاء به أفضل من عام 1789 من بعض الزوايا، وأفضل من التقاليد الثورية لأعوام 1793 - 95 من زوايا آخرى. وبالأسلوب نفسه فإن الإنسان المتبدئ الذي يتعلم لغة جديدة يعيد على الدوام ترجمتها إلى لغته الأم: إذ ليس من الممكن أن يقال عنه بأنه اقتنص روح اللغة الجديدة وبأنه صار قادراً على التعبير عن نفسه بها بكل بساطة إلا بعد أن يتمكن من استعمالها دون الرجوع إلى لغته القديمة، وبعد أن يكون قد نسي لغته الأصلية إبان استخدامه اللغة الجديدة(13).
إن مايلمح إليه ماركس هو أن الماضي في اللغةوفي العائلات على حد سواء، ينيخ بكلكله على الحاضر ملحاً على طرح مستلزماته أكثر من إتيانه بالعون، فالخط السلالي المباشر يتمثل بالأبوة والبنوة وهو الذي سيغضي في اللغة كما في العائلة، إلىنسل مخادع شبه مشوّه، أي إلى مهزأة أو إلى لغة خسيسة. بدلاً من أن يفضي إلى نسخة وسيمة عن السلف أو الأب -إن لم يتعرض الماضي إلى تقليص قواه تقليصاً حاداً ليهيمن على الحاضر والمستقبل. ولكن ماركس يدرك، في حالة نابليون الثاني، وجود سلسلة كاملة من الضغوط التي تنشط لصالح التضليل والتي كلها تطل برؤوسها، كتشقلب الأشياء في المرايا، من صميم حافز التكرار. فهذا هو الأب، أو الأم، فارضاً بصمة على الطفل تدفعه لتكرار الماضي، وثانياً ابن الأخ متظاهراً أنه الابن، وثالثاً ذلك المسخ الأخرق (مشاراً إليه حوالي نهاية الكتيب) مطلاً برأسه قبل الأوان وبكل اصطناع كجنين يتيم، لا بل وبلا أي نسب سلالي صحيح، ورابعاً الرجل الممثل مدعياً بالانتماء إلى طبقة ما ولكنه عملياً يفرض نفسه على طبقة أخرى لترضى به ممثلاً لها (إذ كما يقول ماركس عن هذه الطبقة من صغار الملاكين"، بأنهم لايستطيعون تمثيل أنفسهم ولذلك يجب تمثيلهم")، وخامساً كل القطاعات غير المنتجة في المجتمع -كاللصوص وقطاع الطرق والمومسات والسفلة - التي تنجب هذا المخلوق وحتى الطبقة التي يدعي تمثيلها، أي جمهرة الفلاحين الملاكين الذين يقتصر دورهم في المجتمع على أن يكونوا منتجين، تعاني من تكميمه أفواهها وتدميره لها إلى أبد الآبدين. فهل هنالك إذاً مايثير العجب في أن استغلال لويس بونابرت لتراث عمه يتمركز حصراً على ذلك البند في الدستور النابليوني، الذي يشترط أن "البحث عن الأبوة [أي عن الأصل]، شيء ممنوع؟" “la recherche de la paternité est interdite”?
وبكلمات أخرى فإن لويس بونابرت يضفي الصفة الشرعية على اغتصابه السلطة باستنجاده بالتكرار في دورات طبيعية متعاقبة. ومن ناحية أخرى يكرر ماركس تكرار ابن الأخ وبذلك فإنه يسير عامداً متعمداً في اتجاه معاكس لاتجاه الطبيعة. ففي كتاب "... الثامن عشر... بروميير...."، يكون التكرار بمثابةالأداة التي يعتمدها ماركس لإيقاع ابن الأخ في فخ عالم متحلل العناصر. وبدءاً من الجملة الاستهلالية للعمل، وهي الجملة الشهيرة المقتبسة من هيغل، كان على منهج ماركس أن يكرر بغية إظهار الفرق، لا لتثبيت مزاعم بونابرت، وإيراد الحقائق بتصحيح مسيرتها الظاهرية. وتماماً كما يتكشف الابن الدعي بأنه ابن أخ بمنتهى الوضوح. كذلك حتى هيغل، الذي كان يعتبر أن تكرار حدث ما تعزيز وتوكيد لقيمته، يكون موضع الاستشهاد والانقلاب عليه. فالتكرار يبين تنزيل الطبيعة من مستوى الواقع الطبيعي إلىمستوى المحاكاة الزائفة. إن الهيبة والسلطة والقوة تنحدر بالاصل من خلال كل تكرار إلى مادة مدعاة لاحتقار المؤرخ.
حين حل كرومويل البرلمان الطويل، دخل بمفرده إلى وسطه وأخرج ساعته حتى لا يبقى دقيقة واحدة بعد الموعد الذي حدده له، وطرد خارج المبنى أعضاء البرلمان فرداً فرداً مت***باً بالذم والاستخفاف والاستهتار. وأما نابليون، مع أنه أصغر من قدوته، فذهب على الأقل إلى مجلس الخمسمائة يوم 18/ بروميير وقرأ عليه حكم إعدامه، ولو بصوت متهدج. ولكن بونابرت الثاني، الذي وجد نفسه بالمناسبة، صاحب سلطة تنفيذية مختلفة جداً عن سلطة كرومويل أونابليون، فقد فتش عن قدوته لا في حوليات التاريخ العالمي بل في حوليات (جمعية 10 ديسمبر)، في حوليات المحاكم الجنائية.(15).
ولن يكون بوسعنا إلا في نهاية العمل أن نفهم النقيض الحقيقي لجوهر التاريخ الذي نفذه بونابرت، والذي يعلن عنه ماركس حوالي البداية ألا وهو: "كل ماهو موجود يستحق الفناء"(16)، فلكي تكرر حياةكائن مالا يعني خلق حياة جديدة، بل يعني وضع الموت في المواضع الذي كان فيه حياة من قبل.
إن "الثامن عشر... من بروميير...." يجسد النقل التصحيحي للحيوية من عالم فرنسا في عام 1848، حيث كانت قد تقوضت بالموت الذي كان يقنع نفسه بالحياة، إلى صفحات النثر النقدي والعلمي لدى ماركس. فالنثر يحلل القنيص ويعطي التفاصيل الدقيقة للتنكر الذي تنكره لويس بونابرت كبديل لنابليون"، "أي البديل المزيف لنابليون"([1])، إن عمل ماركس ماهو بالمأثرة الطبيعية ولا بالتوكيد المذهل: إنه تكرار لصلة التقرب وتكرار صار ممكناً بواسطة الوعي النقدي. إنه يبشر بثورة ميثودولوجية تكون من خلالها حقائق الطبيعة، كما هو عليه الأمر في العلمين الطبيعي والبشري، موضع التفكيك، ومن ثم موضع التركيب من جديد بشكل يثير الجدل العنيف، مثلما جرى تماماً خلال القرن التاسع عشر في المتحف أو المخبر أو في غرفة الصف أو المكتبة، حيث قام تفكيك الحقائق وتركيبها في وحدات ذات معنى تعليمي، ولربما بمقصد تبيين أن القوة البشرية أكثر قدرة على تحويل شكل الطبيعة منها على تثبيت الشكل الذي هو عليه. وإن سيرورة أخرى موازية لسيرورة صلة التقرب تحدث في الفيلولوجيا وفي الرواية والسوسيولوجيا، حيث يتحول التكرار إلى مظهر من مظاهر التقنية البنيوية التحليلية. فالتكرار على أرجح الظن مقيد بالانتقال من إعادة تجميع الخبرة بشكل فوري إلى إعادة تشكيليها وترتيبها بشكل متكاثر الوساطة، الأمر الذي يفضي إلى تزايد التفاوت بين هذه النسخة وبين نسختها المكرورة، وذلك لأن الشيء المكرور لا يمكنه أن يتملص طويلاً من السخريات التي يحملها في صميمه. إن التكرار حتى في الوقت الذي يحدث فيه يثير التساؤل التالي: هل يعزز التكرار حقيقة ما أم سينزل بمرتبتها إلى تحت؟ غير أن هذا التساؤل يطرح إدراك شيئين، في المكان الذي كان فيه استرخاء لواحد منهما من قبل، مع العلم أن مثل هذه المعرفة، شأنها شأن الإنجاب. يتعذر فعلاً عكسها إلى النقيض. وبعد ذلك تتفاقم المشكلات، ولكن هل تتفاقم بشكل طبيعي أو بشكل غير طبيعي، بشكل قرابة أو تقرب؟ وذاك هو السؤال.


nnn



6- عن الأصالة



هنالك بضع طرائق أساسية تبدو فيها الاصالة، كخاصية أو فكرة، شيئاً جوهرياً بالنسبة لخبرة الأدب، ولكن الشيء الذي يخلف في الذهن نفس ذلك الانطباع هو العدو المطلق للتلميحات الفرعية عن الأصالة في تفكيرنا عن الأدب،. فالمرء لا يتحدث فقط عن كتاب بأنه أصيل، وعن كاتب بأن لديه من الأصالة مقداراً أوفى أو أقل مما لدى كاتب آخر، لا بل ويتحدث أيضاً عن الاستخدامات الأصيلة لكذا وكذا شكل ونوع وأسلوب وبنية، وعلاوة على ذلك فثمة أوصاف مختصة بالأصالة موجودة في مجمل التفكير المعني بتفصيلات أدبية من مثل الأصول والغرابة والراديكالية والابتكار والتأثير والموروث والأعراف والعصور. ومامن سبب وجيه يدعو الآن للاختلاف مع ويليك و وارن اللذين قالا بكل اقتضاب في عام 1948، أن الأصالة ماهي بالفعل إلا "مشكلة أساسية في تاريخ الأدب"(1). ولكن، ترى، مامقدار أساسية هذه المشكلة وما مقدار إصرارها على الروغان؟ وهل يجب أن تستأثر بالاهتمام التحليلي للباحث والكاتب المعلم وتلميذ الأدب؟
وأما أنا فلسوف أسوق الحجج على أن الأصالة شيء جدير بالبحث العميق، ولاسيما إن نظر المرء نظرة أكثر من عابرة إلى ذلك الاعتقاد الذي مفاده أن دراسة الأدب تلعب في العالم المعاصر دوراً نقدياً وفكرياًحاسماً ولو أنه ناقص التحديد. وأجد لزاماً علي أن أقول للتو أن أي اهتمام بهذه الخاصية الميازة نقرنه بالأدب، بغية ارتقاء هذا الاهتمام إلى أكثر من لائحة من الأمثلة (مارلو أصيل لأنه..... أو درايدن لديه أصالة لأنه.....)، لا يمكن تعزيزه على نحو مفيد إلا في مستوى من البحث ليس في العادة مقروناً بممارسة الدراسة الأدبية ، ألا وهو المستوى النظري إن العقيدة السائدة الآن هي أن الأدب هوالشيء الملموس، بشرياً واجتماعياً وتاريخياً، الأمر الذي يعني القول بأن الأدب يمدنا بأمثلة جمالية عن كل صنف من أصناف الخبرة. وأما النظرية، من ناحية أخرى، فمقرونة بالتجريدات والأفكار، أو بكل ما يتصوره تلميذ الأدب على أنه جدير بالدفاع عنه، بيدأن هذا القول لا يعني أن النظرية لا تأثير لها في أوساط الأدباء، وذلك لأن حد السطوة الذي تبلغه مختلف نظريات النقد على التلاميذ والمعلمين سواء بسواء ماهو إلا علامة من علامات التعرض للأحابيل النظرية.
إنها لمصادفة تنويرية أن ما أعنيه بالمستوى النظري للبحث مرتبط تاريخياً في الغرب. بانطباع عن الأصالة. فالموضوع الذي تناولته محاورات أفلاطون قبل غيرها، ومن ثم أرسطو من زاوية نقدية، هو العلاقة بين معرفة الأفكار (أي النظرية) وبين حياة الإنسان. لقد كان أفلاطون، كما يقول: "ويرنرجيغر": "أول من طرح الإنسان النظري كمشكلة أخلاقية في صلب الفلسفة وأول من برر حياته ومجدّها"(2)، فبين أفلاطون والجيل المؤلف من تلامذة أرسطو- علماً أن أرسطو نفسه ما تخلّى قط عن إرثه الأفلاطوني (أي عن اعتقاده بالقيمة الأخلاقية للحياة النظرية)، "الذي كان حاسماً جداً بخصوص موقفه من البحث ومن تصوره المثالي للعلم"(3)، تغير ذلك الاعتقاد تغيراً انتقل من التصور المثالي لحياة التأمل الروحي إلى الإدلاء بالبراهين لمصلحة حياة مفعمة بالنشاط، وحياة معقدة، ويشير جيغر إلى أن القصص عن الفلاسفة كانت تستخدم كأدلة عن الأصالة، أي عن ذلك السلوك الغريب الذي كان يسلكه الفلاسفة، نظرياً وتأملياً، بين الناس وهكذا...
نجد في البداية أن سقراط وأفلاطون يربطان العالم الأخلاقي بالمعرفة الفلسفية للوجود ومن ثم نرى لدى ديكاركوس [وهو تلميذ لأرسطو]، أن النموذج العملي المثالي والحياة والأخلاق مسحوبة مجدداً من تحت سلطة التأمل الفلسفي الرفيع لتستعيد استقلالها، وأن الجناح الجسور للفكر التأملي جناح مقصوص. وبتلك العملية تخور قوة النموذج المثالي للحياة النظرية. وحين نصادف الحياة النظرية بعد ذلك نجدها على الدوام عالم "العلم المحض"، ومتناقضه أيضاً مع حياة التطبيق... وماكان بمقدور الحياة النظرية أن تحرز التجديد إلا بعد تقويض الفلسفة العلمية والميتافيزيك بواسطة المذهب الش****، مع العلم أن ذلك التجديد اتخذ الآن الشكل الديني للحياة التأملية، والشكل الذي كان المثل الأعلى الرهباني منذ ذلك الزمن الذي حمل فيه عمل أفلاطون ذلك النعت.(4).
فمن هذه المناقشة يأتي التقسيم العام للعمل إلى ناشط من ناحية أولى، وإلى تأمل نظري من ناحية أخرى. وفي أحد الأوصاف المختصة يصر هذا التقسيم اليوم على وجوده في صيغةأدبية مبسطة على أنه التمييز بين الكتابة الأصيلة الإبداعية وبين الكتابة التأويلية النقدية.
وهذا التقسيم يولد تقسيماً آخر، متساوقاً معه، معناه أن الكتابة الأصيلة الإبداعية هي الأولى، في حين أن أي نوع آخر من الكتابة لهو الثانوي. وليس هنالك إلا شيء طفيف من المبالغة في القول أن دراسة الأدب في الغرب تدور تحت إشراف أناس عقولهم فياضة بهذه التمييزات.
فمن كاتب مؤلف يقترح التعامل مع سحر العمل والبوهيميا والأصالة أي قريباً من المادة الحقيقية للحياة (ونحن نجد دائماً هذا التقارب بين الواقع والأصالة)، إلى كاتب باحث ناقد يقترح صورة الكدح والسلبية والعنّة والمادة الثانوية والتنسك الباهت. وفي الوقت الذي تزايدت فيه بمرور الزمن تلك المقارنات بين العمل الأولي الأصيل والنقد كنشاط ثانوي تفاقم بخس الناقد حقه، على الرغم من ذلك التسامح الذي تسامحه الأوغسطيون الإنكليز في القرن الثامن عشر حيال مادعوه بالناقد الحقيقي. وفي هذه الايام يحظى تلاميذ الأدب بالتشجيع من خلال المنهاج الدراسي وإيديولوجيا الدراسة لكي يبتعدوا بأنفسهم عن ضبابية النقد ويقتربوا بها من المعايير الراسخة (مع العلم أن تصورات آرنولد النقدية لا تزال على نفوذها الكبير)، "للكتابة الإبداعية: فالتلاميذ يتنافسون على الملموس ولكن الحيوية تخونهم بالتحديد في الكتابة. وبما أن هذه السيرورة صارت وطيدة الأركان، صار على الأرجح يبدو ضرباً من التهافت الرخيص أن يطرح المرء الحياة النظرية الأفلاطونية الأروسطية كحياة جديرة بالدراسة المعمقة، إن لم تكن جديرة بالمعاش.
فلا إن كانت النظرية "theoria" موضع فهم صحيح, ولا إن كان الآن بالإمكان تبيان قدرة المستوى النظري للبحث على التعامل مع مسائل كالأصالة، فضلاً عن تبيان قدرته على تحددي ميادين ومناهج للدراسة أقل تحفظاً من كل مجال الخبرة المتاحة أمام الكتابة الحديثة. إن هذ المنهاج هو ما يشكل صلة الوصل، ولكنني أقصد ذلك النوع البالغ التنظيم الذي يمر مرور الكرام بالموضوعات الدارجة والعسيرة التحديد بنظرة معاصرة. فبالنظرية والبحث النظري بالشكل الجاري تطبيقهما فيه على الأدب أعني بطريقة أساسية ومتناهية التحديد ذلك الاهتمام الفعال الموقوف على الشواغل المناعة على التقليص، ألا وهي الشواغل التي لا تخص أي ميدان إلا ميدان الخبرة الفعلية عموماً والأدب خصوصاً، ومامن ميدان سوى هذا الميدان لإمكانية قيام شيء من الأمل لتوفير الدقة والتصييغ لتلك المشكلات القادرة على الإتيان بالتمييزات والقابلة للدراسة الحقيقية. إن معظم البرامج والمناهج الأدبية الراهنة نتاج وجهة النظر الإنسانية التي لم تعد تنتجها الثقافة ولا حتى الجامعة. فدراسة الكتاب والعصور الأدبية، ودراسة الأجناس والموضوعات الأدبية بين الحين والحين، كانت دائماً تفترض سلفاً معرفة اللغات الكلاسيكيةعلى الأقل، وقسطاً من التبحر في التاريخ والفيلولوجيا والفلسفة: بيد أن الأمر لم يعد الآن علىهذه الشاكلة. وهكذا فإن كلا من التلميذ والأستاذ معاً يجدان لهما البديل الأول: في "إطراء" مناقب الأدب (الذي تلعب فيه دور السقالة الفكرية بعض المصطلحات من أمثال الحس المرهف والانطباع والفطنة)، والبديل الآخر في منظومات المناهج والتقنيات المتعلقة بالدراسة (التي تسعفها الوسائل اليقظة من منظومات أخرى بإعداد النص أولاً ومن ثم بطرحه للتأويل). فالنظرية، كما أفهمها، أكثر سماحة وأكثر قدرة على توفير الدقة المتناهية من أي من ذينك البديلين.
إن القراءة والكتابة مسعيان ينطويان في الصميم على معظم الحوافز اللجوجة عند المرء لإنتاج نص وفهمه. وماهذا الأمر بالبديهي إلا لذلك الإنسان الذي لن يرى، مثلاً، أن الكتابة هي الترجمة المعقدة والمنظمة لعدد لا يحصىمن القوى وتحويلها إلى نص قابلة لحل طلاسمه. وهذه القوى تتقاطع بالأساس مع رغبة بالكتابة، وهي الخيار الذي كان له قصب السبق على الرغبة بالتحدث، بالتلميح، بالرقص وهكذا دواليك، وبمقدار مايتعلق الأمر بالرأي النظري فهنالك سؤال أولي جدير بالإجابة عنه ألا وهو لماذا كان المقصود بالكتابة أن تتخذ شكل نص معين، لا أي مسعى آخر غيره؟ ولماذا ذلك النوع الخاص من الكتابة لا نوعاً آخر؟ ولماذا، فيما يتعلق بكتابة مماثلة أخرى، في تلك اللحظة لا في لحظة أخرى؟ فالمقصود هنا هو تلك السلاسل والمجموعات والمركبات من الخيارات العقلانية التي أقدم عليها الكاتب والتي يتجسد الدليل عليها في نص مطبوع. إن الحافز اللا واعي وحتى اللا إرادي ماهو بالحصر إلا حد ذميم، بيد أنه ليس بشكل من الأشكال ذلك المسرح المقفل الباب في وجه البحث العقلاني للغة، كما بيّن فرويد وجاك لاكان في عهد أقرب من فرويد. وأما بالنسبة للقراءة فهنالك سلسلة من الأسئلة على أوثق صلة بالموضوع: فالقراءة تتقصد دائماً ذلك الهدف الذي ينطوي ضمناً على الكتابة التي نحن بصددها. لماذا نقرأ هذا ولا نكتبه؟ نقرأ لكي نفعل ماذا؟ أنقرأ بقصد التطوير أم بقصد التخصيص لغرض ما؟ وحتى في صياغة هذه الأسئلة نخلف وراءنا الكثير من الغموض والسرية المقرونين عادة باستخدامات "الأصالة" فمعظمنا لا يفعلون أكثر من النظر إلى الأصالة كسمة من سمات اهتمامنا، وسمة عرضة للإنعاش أو الاهتزاز جراء تلك الخبرةالتي تدفع بكل الأشياء الأخرى إلى المرتبة الثانية أو إلى الابتعاد عن الأنظار. وبما أن هذا النوع من الإزاحة شيء عام نسبياً، فإن من الممكن أيضاً أن تكون الأصالة إسماً لاستبدال خبرة بأخرى استبدالاً لا نهاية له، واستبدالاً عنيفاً على أرجح الظن بين الحين والحين، ولكن بدلاً من أن نترك الكتابة عند ذلك الحد يمكننا دراستها نفسها كمسعى تتفاعل فيه قوى حدودها عرضةللرصد كون بعضها مضموم وبعضها معزول وبعضها الآخر مقلوب رأساًعلى عقب. ولذلك فقيمة الكتابة كموضوع للتحليل هي أنها تحدد بمزيد من الدقة تعاقب الحضور والغياب تعاقباً يكاد أن يكون مغفلاً، وتعاقباً نقرنه، انطباعاً وإدراكاً، بالأصالة، فالحضور والغياب يكفان عن البقاء مجرد مهمتين من مهمات إدراكنا ويصبحان بدلاً من ذلك أدائين إراديين من قبل الكاتب. وهكذا فإن على الحضور أن يتعامل مع أمور كالتمثيل والتجسيد والمحاكاة والتبيين والتعبير، في حين أن على الغياب أن يتعامل مع الرمزية والتضمين والوحدة التحتية اللا واعية والتركيب. فلذلك يمكن النظر إلى الكتابة أيضاً على أنها الإطار الذي يحدث فيه منهجياً تفاعل الحضور والغياب. إن وصف ريلكه للعنصر الجوهري في فن روديه ([2]) ينطبق تمام الانطباق على المعنى الذي أقصده حين قال: "هذا السطح العظيم عظمة استثنائيةيتحلى بتبريز متنوع وقياس دقيق، ومن صميمه يجب أن تنبثق الأشياء كافة"(5).
إن كل ماجئنا على ذكره حتى الآن يترك مسألة حساسة على شيء من الغموض. فماهي وحدة الاهتمام النظري: أي ماهو الشيء الذي يركز عليه المرء في تفحصه النظري للكتابة أو القراءة؟ أو ماهو السبيل لتحديد وتمييز تخوم الفاصل المكاني أو الزماني؟ وهنا علينا أن نضع أنفسنا في زماننا نحن، ولئن كان هنالك من شيء يسم الكتابة الحديثة بسمة أساسية فهو السخط على الوحدات التقليديةمن أمثال النص والكاتب والعصر، لابل وحتى على الفكرة. فالنظرة الآن في أحسن الأحوال إلى هذه الوحدات هي أنها تؤدي خدمة مؤقتة كاصطلاحات بديلة مؤقتة في موجز متفق عليه يتضمن النصية، بيد أنها ليست في الحقيقة هي أنفسها إلا بأمس الحاجة لتوضيح وتحليل دقيقين. وكما تساءل فوكو، عند أية نقطة يبدأ نص كاتب ما وأين ينتهي، وهل بطاقة بريدية أو قائمة جرد الثياب في مصبغة بخط نيتشه تشكل حلقة في نصه المتكامل أم لا؟ ومن منطلق الكتابة، من هو سويفت أو شيكسبير أو ماركس؟ وكيف بوسع المرء أن يفهم شخصية من المفروض أن تتضمنها الحروف على الصفحة؟ وقصارى القول فإن مستويات وأبعاد الفهم الفعلي أضحت غاية في التوسع والتنوع والتخصص، كما أن استغلال الكتابة الحديثة لهذه المستويات أضحى في غاية الرسوخ -لاحظوا ذلك الاستخدام المذهل للتشابهات والأصداء والنتف والمحاكاة الساخرة لدى إليوت وجويس وكافكا ومان وبورجيس -وبيكيت- الأمر الذي صار يستدعي التفتيش عن مخطط جديد واف لتجميع تلك المستويات في وحدات مفهومة.
إن المخطط الحديث نسبياً كالأسلوب (أو الشكل اللغوي)، أو التركيب أديا إلى ولادة فروع دراسية مهمة على نحو استثنائي (كالأسلوبية وتحليل التركيب على التوالي)(7)، فهذه الفروع على ارتباط بالمناهج التقليدية كالفيلولوجيا أقل من ارتباطها بالدراسة العلمية الحديثة للغة، تلك الدراسة التي تعتمد نفسها على دراسة العموميات اللغوية التي تيسر الأداء اللغوي، فالنقد المنهجي القديم كنقد نورثروب فراي يفترض أيضاً، على الرغم من أنه غني، وجود قدرة أدبية محددة وباطنية قادرة على توليد "تركيب عويص" منظم تنظيماً دقيقاً. وأما رأيي هنا فهو أن نوعية الدراسة النظرية التي أقترحها لن تفترض جدلاً، إلا بطريقة بسيطة جداً، الحضور المسبق الشامل لتلك الإملاءات التي تضغط على الكتّاب للكتابة أكثر مما تفترض الوجود المسبق لوحدات كالرواية أو المقالة، ولكن المفترض بدلاًمن ذلك هومجموعة من الظروف أو الأحوال الدنيوية الطارئة التي منها جاء القرار بالكتابة - وهو مسار العمل المصطفى دون غيره من المسارات الأخرى. وأما وحدة الدراسة فمقيدة بتلك الظروف التي، بالنسبة للكاتب المقصود، يسرّت علىمايبدو، أو ولّدت، النية على الكتابة.
فالتمييز الذي أميزه موضح تماماً قرب نهاية "فيدروس"، (المقطع 276)، حيث يعزل سقراط "الكلمة الذكية"، أي الكلمة الحية للمعرفة عن تلك الكلمات، "المتناثرة عشوائياً، هنا وهناك... دون آباء لحمايتها". فالكلمات الأولى هي الكلمات المصقولة والمبذورة والمزروعة عن عمد، في حين أن المثاني كلمات "مكتوبة بالماء". إن مناقشة سقراط العديدة الطبقات متمركزة على الكيفية التي تكون فيها المعرفة مصوغة ومبذورة ومكتسبة بالكلمات، ألا وهي تلك العملية التي يشبهها بتشذيب حديقة ما تشذيباً منهجياً بطيئاً وبخلق أسرة ما من قبل أب نيقّ. وهنا أيضاً تتصادف النظرية والأصالة وذلك لأنه ليس من الممكن وجود أية معرفة نظرية دون أصل قابل للإدراك: فكل المعرفة الحقيقية، مهما كان شكلها، توجد ضمن مجال الشيء القابل للمعرفة، الأمر الذي يعني أيضاً أن نقول أن الشيء القابل للمعرفة لا يمكن بلوغه إلا "بالدراسة الجدلية"، بالجهد الجهيد، وقبل أي شيء بالعناية بما هو "الذرية الشرعية"، للعقل، فالدمج الذي يدمج فيه سقراط المعرفة النظرية بأعز إنتاج الإنسان، أي ذريته، يؤكد على ماهو في غالب الأحيان في مجاهل النسيان، أي على التجاور بين مهمة بشرية خاصة وملموسة وبين الحاجة لنية عامة نظرية ومجردة. وعملياً فإن سقراط يدفع ذلك التجاور إلى مزيد من التقارب بقوله أن الأهلية النظرية ماهي إلا بمثابة الوالد للمشاغل العملية: ومن هنا يتأتى وجود صلة القربى.
إن هذه الحقيقة بمنتهى البساطة لمن أخصب الحقائق المتاحة للفكر البشري. فهي موجودة عند ماركس بكل ذلك الجلاء، بيد أنها موجودة أيضاً لدى هيغل وكانط وفرويد، فضلاً عن وجودها في أية كتابة تقرّب بين التواصل والأصالة، كما هي عليه الحال في الرواية، فسقراط لا يتحدث ببساطة عن النية لإخضاع النظرية للتطبيق، بالشكل الذي يعرضها فيه الشعار المطروح، بل ويعزز أيضاً الصلة المباشرة بين معرفة مجردة، مما يجعلها محترسة، وبين حافز عملي. وبشكل معكوس ومثير لمزيد من الدهشة، فإن هذه الحقيقة تخلف في الذهن أرسخ الانطباعات عن تحملها مسؤولية أي توسع نظري علىحساب النية العملية. وأما طول الزمن الذي ظل فيه هذا الأمر موضع إهمال الدراسات الأدبية فهو من المهمات التي وسمها جورج لوكاش ورولاند بارثيز بأنها تجسيد الأشياء، أي توشيحها وشاح الأساطير، مع العلم أن الأشياء لا تكتفي بالظهورأنها موجودة ومفترضة وطبيعية وغير متبدلة وحسب، بل وتستبعد آثار أصلها وآثار أية فكرة قد تشير إلى أنها كانت نتيجة نظرية ما، أو سيرورة كان تصميمها يتقصد، بالضبط تغييب أية نظرية أو سيرورة على الإطلاق(8)، ولذلك فدراسة الأدب على أنه كتابة مفترضة ذات عطالة ذاتية، وذات قدسية في النصوص أو الكتب أو القصائد أو المسرحيات، تعني معاملة الشيء الذي ينبثق عن رغبة في الكتابة وكأنه شيء طبيعي وملموس -مع الإشارة إلى أن تلك الرغبة متواصلة ومتنوعة، ومجردة وغير طبيعية إلى حد بالغ باعتبار أن "الكتابة" ماهي إلا ذلك النشاط الذي لا يرتوي البتة باستكمال نص مكتوب. وهكذا فما من شيء إلا الشغف النظري في المجرد -الشغف الشامل بالشيء المرشح دوماً للمعرفة، على الرغم من خضوع الشغف لاحتمالات عديدة -ربما يستطيع أن يتعامل مع حافز أصيل (مناع على التقليص)، لا حدود له بمنتهى الوضوح. وإن بمقدور المرء، والحق يقال، أن يأتي بالأدلة المقنعة على أن من الأفضل النظر إلى الكتابة المعاصرة بأنها تخلف الشؤون العملية عن اللحاق بركب الرغبات النظرية واللا عملية، وحتى الطوباوية، وذلك لأن كتابة رواية أو قصة، كما هوعليه الحال بالنسبة لكتاب خرافات من أمثال بورجز وبينشون وغارسيا ماركيز، هي رغبة في سرد قصة ما أكثر بكثير مما هي رغبة في قصة مسرودة.
وثمة اعتراض مشروع علىهذا النوع من المحاجة وهو أنني خلطت معرفة شيء ما كالكتابة بفعل إنتاج الكتابة.ومع ذلك ففي "فيدروس" وفي آيون وفي الجمهورية وفي القوانين"، يعزل أفلاطون الفيلسوف عن الفنان، والعارف عن الصانع المسوؤل أخلاقياً والمتصوف عن العامل، ولكن مثل هذا النوع من الاستدلال ليس بالتوجه الصحيح إلا جزئياً لأنه يتجاهل أساساً إلحاح سقراط في "فيدروس" على تقريب العاشق من عاشق المعرفة، أي الفيلسوف، مع العلم أنه يحجب نعت "الحكيم"، عنهما كليهما معاً.
لأن ذلك النعت لقب عظيم لا يخص إلا الله وحده - وأما نعتهم بعشاق الحكمة أو الفلاسفة فهو لقبهم المتواضع والمناسب.
فيدروس: هذا شيء ملائم تماماً.
سقراط: وأما ذلك الإنسان الذي لا يستطيع أن يترفع على مؤلفاته وتجميعاته التي مر عليه ردح طويل من الزمن وهو يرقعها ويخزمها، ويضيف إليها بعض الأشياء ويحذف منها بعض الأشياء، فمن الممكن دعوته بمنتهى الإنصاف بأنه شاعر أو صانع كلام أو صانع قانون (المقطع 278).
ولربما على نحو أقل شاعرية من سقراط، يمكننا أن نترجم "عشاق الكتابة"، "بالراغبين في الكتابة"، أو "بالتواقين للكتابة"، الأمر الذي يترتب عليه أن الناقد، مثله مثل الروائي، هو كاتب يتوق للكتابة بالكتابة. فعلى ذلك المستوى النظري والعملي يعمل السعي لإنتاج الكتابة على توحيد (أ)، الأصالة كنيّة مناعة على التقليص لإنجاز نشاط محدد مع (ب)، الأصالة كعمل لا بديل له مفض إلى الكتابة، ولئن كان واحدهما هو ذلك الروائي الذي ينتج رواية أو ذلك الناقد الذي ينتج عملاً عن تلك الرواية، فكلاهما أصيلان سواء بسواء وفقاً لتلك المصطلحات التي كنت أستعملها والتي هي مصطلحات خاصة باعتراف الجميع. فالسؤال عما إذا كان واحدهما أكثر أصالة من الآخر يعني المخاطرة باستنتاجات سوسيولوجية من نفس الصنف الذي يتأتى من الحديث عن المساواة في رواية "المدجنة"، ولكن حتى ذلك النوع من الاستنتاج يستلزم شيئاً أكثر شبهاً بدقة بيير ماشيري أو لوسيان غولدمان منه بدقة أورويل.(9).
هنالك مثلان عن النقد معتمدان على بعض هذه المنطلقات المنطقية سرعان مايخطران على البال، أولهما من لوكاش وثانيهما من الكلاسيكي الفرنسي جان بيير فيرنان. فكتاب "نظرية الرواية"، يضطلع بعبء البحث عن ماهية الوعي الأصيل الذي يسرّ ظهور الرواية، مع التسليم جدلاً بتوفر مجموعة معينة من الظروف الفكرية والسيكولوجية والروحية. إن المذهب الذي ذهبه لوكاش كان لتحديد مهمته في صياغة ماكان عليه الحافز الروائي بالأصل وذلك لأول مرة، علماً أنه ماكان بمقدوره أن يفعل هذا إلا لأن الرواية، ولأول مرة أيضاً، كانت قد وصلت إلى مرحلة من التطور أتاحت ورود التعابير الواضحة عن الرواية بأسلوب لا روائي.(10). وأما مقالات فيرنان عن التراجيديا اليونانية فمعتمدة(كتحليلات نيتشه)، على افتراض مفاده أن تلك التراجيديات ماكانت بدائل عن الأفكار، وإنما كانت "أشياء"، مقصود بها بالأصل أداء عمل أصيل، وهكذا فإن التراجيديا تحدث على شكل ذلك الابتكار الذي هو بمثابة شيء جديد جدة أساسية في كل وجه من الوجوه، فالتراجيديا تقع في لحظة مشروطةجداً حين "تمثل المدينة اليونانية نفسها على المسرح....... وحين تمثل، وهذا أهم الأشياء كافة، أمورها المعضلة ذاتها"، ويخلص فيرنان إلى تقريره أن هذه الأمور المعضلة تدور حول ذلك التغيير العسير الذي طرأ على التصور العمومي للإنسان عن نفسه، ألا وهو التغيير الذي "ماكان بالإمكان تخيله، ولا معاشه، ولا حتى التعبير عنه إلا من خلال شكل التراجيديا وحده دون سواه من الأشكال الأخرى....... فكل مشكلات المسؤولية ودرجات النية والعلاقة بين العامل البشري وأفعاله والآلهة والعالم معروضة من خلال التراجيديا، وماكان بالإمكان عرضها إلا من خلال شكل التراجيديا وحسب"؟(11)، إن هيغلية لوكاش لم تكن وقتها قد تعرضت لتنقيح ماركسيتها، ولذلك فإن
"النظرية" في الطور الأولي لتفكيره كانت لاتزال تعشش في ميدان مثالي فسيح. ولكن الأمر لم يكن على هذا النحو في نظريةفيرنان عن لحظة التراجيديا. إذ بالنسبة إليه كانت اللغةتحتل منزلة مادية وذات استخدامات بالغة التنظيم في الشكل التراجيدي، ومع ذلك لماذا كلا هذين الناقدين يلحان، شأن هذا كشأن ذاك علىالصعوبات البالغة لفهم الشكلين اللذين كانا يدرسانهما؟ وإن السبب ليكمن في أن الرواية والتراجيديا كلتاهما يعودبهما القدم إلى أصل تجريدي، روحي أو مادي، ألا وهو ذلك الأصل الذي يتعذر إدراكه تواً أو كاملا، فهاتان النظريتان، خلافاً للنظرية التأويلية لديلثي، لا تلجآن إلى حدس متجانس يتجاوز العمر الشفاف للوثائق المدروسة. إن التراجيديا والرواية كلتاهما تعودان إلى فترة زمنية ضائعة إلى أبد الآبدين. ولذلك فإن أصالة الشكلين ماهي، بأدق المعاني، إلا نوع من الضياع الذي تحاول كتابة الناقد التوصل إليه.
فالأصالة بأحد معانيها الأولية، إذاً، يجب أن تكون ضياعاً، وإلا فإنها ستكون تكراراً، أو إن بمقدورنا أن نقول أن الأصالة، بمقدار ماهي مفهومة على هذه الشاكلة، هي الفرق بين فراغ بدائي وبين تكراردنيوي مؤكد، إن كيركيغارد، كواحد من ضمن العديد من الفلاسفة، لم يكن يرى أي تناقض (في مضمار الخبرة الدينية) بين التكرار والأصالة، بيد أننا عموماً نقرن التكرار إما بمرتبة دونية(المأساة في المرة الأولىوالمهزلة في الثانية)، وإما بعودة اعتراضية، وأما نيتشه فقد كان مهووساً، ولربما لأنه كان فيلولوجيا، بدراسة. سلاسل الأنساب انطلاقاً من الأصناف المختلفة للأصالة..وهكذا فكلمة "Ursprung" (التي تتطابق مع الأفكار التي جئت على بحثها آنفاً بخصوص لوكاش وفيرنان) تعني الظهور الأول والشفاف والأصيل، في حين أن كلمة "Enstehung"، تعني الظهور التاريخي لظاهرة ما، بدء انبثاقها "point de surgissement" أي (نوعية تلك الأصالة التي حللها توماس كون، وجورجز كانغيهيلم في تحليلاته التفرد(12)، كما أن كلمة "Hurkunft" تعين الأصل والمصدر اللذين تنبثق عنهما الأصالة.(13).
ومع ذلك فما نيتشه وماركس وفرويد إلا أولئك الكتاب الذين يقوم في عملهم تناسق رائع بين المحاولات الرامية لوسم الأصالة (الثورة،نشدان الحقيقة، اللاو عي) وبين المحاولات الرامية لتنسيق ظروف الخبرة البشرية وتكييفها، وتخطيطها. وهكذا فلكل ثورة يجب أن تتوفر ولابد مجموعة من الظروف المتكررة بحيث تكون النتيجة، بناء على مقولة فوكو، تحول الاصالة الحقة كنوع من المصطلحات المطلقة إلى ضرب من الاستحالة (14)، فالتفرد البشري، ومن ثم أية أصالة مقرونة بالمسعى البشري، لهومهمة من مهمات تلك القوانين التي تتسامى علىالقوانين الفردية، والتي تشكل النماذج (السيكولوجية والاقتصادية والفكرية)، التي ندعوها بالتاريخ من حيث توثيقه بآلاف السجلات المكتوبة. ولذلك فالتاريخ المكتوب ماهو إلا تذكر مضاد، نوع من المحاكاة الساخرة للتذكر الأفلاطوني، وتذكر مضاد يتيح المجال لتمييز الأشياء الأصلية والأولى والحقيقية من خلال التأمل. فالإدراك التاريخي بالنسبة لنيتشه، وفق مقولة فوكو، إن هو إلا محاكاة ساخرة في اعتراضه التذكر، ومفصال فيما يتعلق بالتواصل، وهدام بالنسبة للمعرفة. وبما أن تمييز الأصالة يتزايد عسراً فإن وصف سماتها يتزايد دقة بدوره، وهكذا في خاتمة المطاف فقد انتقلت الاصالة من كونها مثلاً أفلاطونياً، وتحولت إلى شكل مغاير ضمن نموذج طاغ أكبر منها.
إن اللغة لتلعب لها دوراً عظيماً في هذا التبدل. فكل لفظة، مهما كان حجم تفردها، يجب فهمها على أنها جزء من شيء آخر، ولذلك من الجدير بالذكر أن الثورة التي ثارها (آرنو)* كانت بالتحديد ضد هذا النوع من الاتساق. وعلى الرغم من ذلك فإن نتيجة الفهم هي أن النموذج الكبير يروض الفعل المنفرد، وأن ترتيب اللغة يتجاوز الخصائص حتى خصائص النص المكتوب. فالصلة بين الشيء المفهوم وبين اللغة لصلة وثيقة جداً إلى الحد الذي جعل فرويد، مثلاً، يتخذ من الترتيب الكلامي ميداناً له لاستكشاف الشيء غير المفهوم. ولذلك فالكتابة تعني شيئاً أكثر مما يعنيه التحدث (أي أنها تلك الحالة التكميلية(15) كما نعتها ديريدا)، وذلك لأن ظهور الكتابة وحده يعطي التوكيدات عن الاتساق والمعنى اللذين يتنكر لهما تبعثر الحديث وتشتته هنا وهناك. فالكتابة يمكنها، كما اكتشف مالا رميه فيما بعد، أن تستغني حتى عن أي كاتب يوم قال: "إن العمل الفني المحض يعني ضمناً استتار الشاعر كمتحدث وإسلامه المبادهة بتلك الوسيلة للكلمات ولقوة تباينها المحشود"(16)، إن الكتاب المقدس، وهو المخزن الذي لما ينضب ولا يمكن أن ينضب للكتابة برمتها، يقف فوق الكتب الخاصة كلها.
وهيا بنا الآن نعود إلى ذلك السؤال الذي سألناه من قبل ألا وهو: ماهي وحدة الكتابة التي نستطيع أن ندرس فيها تفاعل التكرار والأصالة؟ فتلك الوحدة لم يعد بالإمكان أن تبقى مجرد عمل أو كاتب وحسب، باعتبار أن كلا من هذين العنصرين يطمح للكتابة-مع التسليم جدلاً بوجود منطلق نظري متكامل -خلف مثل هذه الحدود الوظيفية. ولكن بما أن الوقت ولا القدرة يتيحان للمرء دراسة الكتابة كلها، يصبح من الضرورة بمكان تحليل النية أو الرغبة المقصودة التي حيثما كان بالإمكان فك الرموز وتحويلها إلى لغة عادية، تنبثق عنها بالأصل مجموعة من الكتابة المحددة على وجه التخصيص. وإن مثال الكتابة المحدثة هنا يعطي درساً قاسياً، بيد أنه مقنع، للناقد النظري لكل العصور التاريخية الأخرى، وذلك لأن المرء ليس بوسعه أن يعلم الأدب أو يكتب عنه اليوم دون أن يكون متأثراً بطريقة ما بالوضع الأدبي المعاصر. وليس هنالك بحال من الأحوال أية سمة مترابطة منطقياً لوسم هذا الوضع مقدار ترابط سمة تذمره العميق من الوحدات والأجناس الأدبية والتوقعات من الأزمنة الماضية. ولذلك فمن العجب العجاب أن تكمن أصالة الأدب المعاصر، في خطوطها العريضة، في تجريد أسلافه من الأصالة أو من علو المقام.
وهكذا فأفضل طريقة لدراسة الأصالة لا تتمثل بالتفتيش عن أول شواهد لظاهرة ما، وإنما تتمثل على الأرجح في رؤية نسخة طبق الأصل عنها، أو نسخة موازية لها، أو محاكاة ساخرة لها. أونسخة مكرورة عنها، أو في رؤية أصدائها -أي النظر إليها بتلك الطريقةالتي حول فيها الأدب نفسه إلى موضوع أساسي للكتابة. إن الشيء الذي يدور حوله الخيال الحديث أو المعاصر أقله تقييد شيء ما في كتاب، في حين أن أكثره يدور حول إعتاق شيء ما من كتاب بواسطة الكتابة. وأما إنجاز هذا الاعتاق فيكون بطرق مختلفة عديدة: فجويس يعتقه "الأوديسة" في دبلن، وإليوت يحرر نتفاً من فيرجيل، وبترونيوس في مجموعة من العبارات المتهافتة. فالكاتب قلما يفكر بالكتابة الأصيلة، وأكثر مايفكر به هو تكرار الكتابة: فصورة الكتابة تتبدل من مخطوطةأصلية إلى نص مواز، من جرأة عشوائية إلى إنجاب مقصود (فيه الجناس الاستهلالي لدى هوبكينز يعني التماثل)، من اتساق الأصوات إلى لحن أساسي مكرور. وبما أن الكتاب ما عادوا يستهلون مكاناً جديداً، فهم يميلون لرؤية زمانهم كفترة انقطاع. فهذا هوفيليب سولرز يعبر عن ذلك على النحو التالي:"إن حياة كاتب ما إن هي إلا فترة انقطاع. فالعمل الذي يمارسه الكاتب، والذي يبدوعقيماً في الظاهر، علاوة على اللعبة التي يبدو عليه بأنه يلعبها كلاهما على علاقة بالمستقبل في حقيقة الامر، ذلك المستقبل الذي نعرفه جميعنا على أنه مكان كل العمل الذي يستخدم الرموز. فالأدب ينتمي إلى المستقبل، وليس المستقبل بتاتاً، كما قال مالارميه، "أكثر من الصدمة الناجمة عن الشيء الذي كان الواجب يقتضي فعله قبل فعل الأصل أو قربه".(17).
إن الكثير مما كنت أقوله عن تحول شكل المصطلحات التخييلية التي تمكننا الآن من فهم الأصالة تعبر عنه باختصار تلك العبارة النقدية الفرنسية التالية: "Le refns du commencement" "رفض البدأة، وبما أن إدراكنا الناتي لأنفسنا ككتاب قد تبدل من كوننا المبدئين المتوحدين (وهنا يخطر على البال هوبكينز مرة ثانية)، إلى كوننا عاملين في ميدان البدأة المتواصلة السابقة (أي السالفة على الدوام)، فإن من الممكن قراءة الكاتب بأنه ذلك الفرد الذي كان حافز تاريخياً أن يكتب دائماً في هذا العمل المعين أو ذاك لكي يحرز، كما أحرز مالا رميه، استقلالية الكتابة التي لا تعرف أية حدود. فالكتاب المقدس أسطورة الكتابة، وقلما كان حقيقتها البتة. إن التماثل المدعوم بالعديد من الصفحات والسنوات، كالتماثل القائم بين دبلن وآتيكا على سبيل المثال، يسوق الكاتب لا نحوكتاب آخر وإنما على الأرجح نحو "كتابة مطردة". والأكثر فتنة فما سبق هوحالة توماس مان في رواية "دكتور فاوست". فالأسلوب الفني الرائع لتلك الرواية، كما بيّنه العديدون من النقاد، يكمن في تركيب العناصر المتباينة (المونتاج)، والصدى. فكل من مان وشخصيته الرئيسية في الرواية يتقنان فن الاستبدال والتغلب والمحاكاة إلى أبد الآبدين.
إن أصالتهما تتجسد في ممارسة هذه اللعبة إلى أن يتوصلا إلى حالة من الفراغ -تقويض الحضارة والأخلاق الغربية، والنكوص بالأصالة إلى الصمت من خلال التكرار. فالحلف الذي أقامه أدريان لافركون مع الشيطان يعطيه هبة التميز الفني طيلة سنوات عديدة، بيد أنه منذ أقدم أيامه، ومنذ استهلال الرواية، يظهر عليه وعلى مان الفتون بالتماثلات والمحاكاة الساخرة، والسبب بذلك يعود حصراً إلى أن الطبيعة نفسها، حتى الطبيعة، تستنسخ نفسها بأعجب الطرق: فالشيء اللاعضوي يحكي العضوي، وشكل يستنسخ شكلاً آخر، وهكذا دواليك. وهكذا فإن بنية الرواية، ناهيك عن موضوعها الرئيسي، مصوغة من بدأة ورجعة الكتابة، إذ إن ثمة نصاً مبدئاً أصلياً (Cantus firmus) يتعرض للمحاكاة مراراً وتكراراً حتى يفقد، في خاتمة المطاف، سمو شأنه.
إن معالجة مان لهذا كله في رواية لها شبيه غريب بمقالة كتبها ليوسبيتزر. فمقالة "الدراسة العلمية للغة والتاريخ الأدبي"، ماهي إلا بعد إلقائها على شكل محاضرة للمرة الأولى في برينستون عام 1945، السيرة الذاتية المهنية لسبيتزر، أي وصفه لتطور نظريته الفيلولوجية وممارسته لها، إذ يروي فيها الافتتان الذي حل به منذ مجيئه إلى أمريكا بالجذر اللغوي وتطوره (إتيمولوجيا) لكلمتي "conudrunm" و "quandary". وإن سبيتزر ليكتشف، أثناء تتبعه تقلب البنية اللفظية لهاتين الكلمتين، أن البحث الإيتيمولوجي يبين الكيفية التي تجري فيها "عملية التحريض لمجرد تكتل من الأصوات". فهاتان الكلمتان تنبثقان من جذرين لاتينيين وفرنسيين عامين، ولذلك فإن مشتقاتهما تحتوي على "Calembuor"، (تورية) و"Carrefour" (تقاطع طرق)، و"quadrifurcus"، (كلمة لاتينية بمعنى تقاطع طرق)، و" calembourdaine"، التي تتحول في تطور ما إلى
conimbrum وconundrum و quonundrum ، وأخيراً إلى quandery، ولذلك فإنه يخلص إلى مايلي.
إن تقلب وتقطع أسرة الكلمة (Conundrum - quandary) يشكلان الدليل على الموقع الذي تحتله الكلمة في البيئة الجديدة.
ولكن التقلب الواضح في كلماتنا الإنكليزية كان سمة لكلمة calembredaine - calembour)، حتى في البيئة البيتية. فأسرة هذه الكلمة الفرنسية، كما أسلفنا القول، كان خليطاً من جذري كلمتين على الأقل، وهكذا يقضي الواجب أن نستنتج أن التقلب مرتبط أيضاً بالمضمون الدلالي: فكلمة تعني "التورية أو النزوة"، تسلك مسلك النزوات بمتهى البساطة - مثلها بذلك تماماً مثل الكلمات الدالة على "الفراشة"، في كل لغات العالم(18).
إن أي قارئ لرواية "دكتور فاوست" سوف يرى الآن للتو المقدار الكبير من الإيحاء الذي تحظى به الروية من مجمل هذا الخط من الاستدلال، لا لأن أدريان الراشد محاط في ميونيخ بزمرة مساخر من عائلته الأصلية في قيصر شخيرن ليس إلا، بل ولأن توقانه لفعل ماكان يفعله أبوه، أي "تأمل تلك المساخر"، يبقى على حاله أيضاً. وحوالي بداية الكتاب يصف زيتبلوم فراشة، بأنها "ذات عرى شفاف"، وذلك لأن مظهر وعادات هيتبرا إزميرالدا، التي تشبه مظهر وعادات فراشة النباتات، خداعة جداً.
لم يكن على جانحي هيتبرا إلا بقعة سوداء بنفسجية ووردية، وماكان بمقدور المرء أن يرى فيها أي شيء آخر سوى تلك البقعة، وحينما كانت تطير كانت تبدو كتويج تذروه الرياح. وبعدئذٍ كان هنالك فراشة النباتات التي كان فوق جانحيها خيط مثلث الألوان، في حين أنهما في سافلتيهما كانا يشبهان بدقة عجيبة ورقة النباتات، لا في الشكل والتعريق وحسب بل وفي الاستنساخ الدقيق لعيوب صغيرة كنقاط ماء زائفة وناميات صغيرة من ثآليل وفطور وما شابه ذلك. وحين كان ذلك المخلوق الفطن يحط رحاله بين أوراق النباتات ويطوي جناحيه، كان يختفي جراء التكيف تماماً حتى إن ألد أعدائه كان يعجز عن تمييزه.... لأن المرء لا يستطيع أن يعزو تلك الحيلة لنباهة الفراشة وحساباتها. أجل، أجل، إن الطبيعة تعرف ورقتها بمنتهى الدقة: إنها لا تعرف كمالها وحسب بل وتعرف ثغراتها وعيوبها العادية، وهي تكرر مأربة أوحفاوة مظهرها الخارجي في مضمار آخر، كما تفعل على سافلة هذه الفراشة، فراشتها، بغية تضليل الآخرين وإبعادهم عن مخلوقاتها..... فهذه الفراشة صانت نفسها، إذاً، كونها صارت متوارية عن الأنظار.(19).
إن هذه الأوصاف تنبئ بغواية أدريان من قبل المومس، بالشعار المستتر في موسيقاه، وبحلفه مع الشيطان، ألا وهي تلك الأمور التي تعزى عموماً إلى هيتيرا إزميرالدا، فدهاء الفراشة وظيفة من وظائف الطبيعة، كما أن فكرة فراشة متقلبة تردد أصداء طبيعة اللغة من خلال تأملات سبيتزر، وفي حالتي الفيلولوجي والروائي معاً، علاوة على ماقيل أعلاه، لا.
تعزى البتة عملية الاستنساخ والتكرار لأي شيء أكثر تشخيصاً من "الطبيعة"، وهكذا فبمقدورنا أن نقول أن الأصالة لا تكمن لا في اللغة ولا في العناصر باعتبار أنهما كليهما يجعلان من المستحيل عملياً قيام أية محاولة للتمييز فيما بين الأصيل وبين نسخته التقليدية، وماهذا الأمر إلا استنتاج على المستوى الأول، في حين أننا نلاحظ كقراء، على المستوى الآخر، التدخل الشخصي الذي يتدخله كل من سبيتزر كفيلولوجي ومان كروائي وأدريان كشخصية فاوستية. في أعمال وسط متقلب لكي يوضحوا فيه نظام التناسق البارع. وهكذا فإن ممارسة السلطة الفردية، يحوّل العناصر تحولاً كافياً لتوريط الفرد في مهمة تشغيلها: سبيتزر كفيلولوجي وأدريان كموسيقار شيطاني.
لقد تعمدت عن قصد تأجيل طرح السؤال التالي: هل كان مان تحت وطأة "تأثير" سبيتزر؟ وذاك التأجيل كان لأن مثل هذا السؤال يثير ولا بد مشكلة الأصالة، علماً أنني كنت بالفعل على مايبدو ألمح إلى أن الناقد أكثر أصالة، بمعنى ما، من الكاتب الأصلي. ولكن ذلك ليس بيت القصيد. فمساجلتي تتقصد إلقاء مسؤولية الأصالة على كل مهنة تعنى "بتشغيل" اللغة، وإن مان وسبيزر نفسيهما لا يقران، من وجهة نظري النظرية، بوجود أية أصالة قائمة بحد ذاتها "perse" لأن الطبيعة واللغة نظامان من أنظمة الاستنساخ ليس إلا. وانطلاقاً من المعقول فإن الأصالة، من الناحية الأخرى، هي تلك السمة المكتشفة في أي من الكاتبين نكتشفه أولاً وهي، علاوة على ذلك، في انطباعاتنا عن الجدة والقوة مغرقة في الذاتية إلى ذلك الحد الذي يحول بينها وبين أي تحليل مؤكد. ولكن جراء التحول من الكتابة الأصلية إلى الكتابة المثيلة يقوم تحول أخطر أيضاً في تصور الأصالة التي تصبح الآن سمة من نوع ما للعبة مركبة. وأما مسؤولية الكاتب فهي التحكم بهذه اللعبة التي تترك له أولها حرية الخيار تماماً فيما يتعلق بأمور من أمثال نقطة البدء والمركز الذي تتمحور عليه الكتابة وهكذا دواليك. ومع ذلك فمسؤوليات الكاتب هذه ليست بالأفكار المجردة أو الضمنية التي تتكدس فوق اللغة من لدن ناقد ما، ولكنها أفكار جوهرية مادياً للكتابة نفسها. وهنا أقصد أساساً الإحساس الفعلي بالبعد أو القرب من "الموضوع"، المنوط بالكتابة، والإحساس الذي تحسه الكتابة من أنها مادياً متساوية في الامتداد الزماني أو المكاني مع ما تقوله.
وتقليدياً كان العرف الزماني في الدراسة الأدبية استذكارياً. فنحن ننظر للكتابة أنها كانت محط الاستكمال قبل حين من الزمان. ولذلك فإن الناقد يعيد لنص من النصوص معناه الأصلي، أي ذلك المعنى الذي يحسب الخيال قد ضاع خلال الزمن أو التقنية. لابل وإننا الآن حتى أقل احتمالاً أن نهتم بتلك الدراسة التي تبين علاقة نص ما بالمرحلة المعاصرة إلا، كما أسلفت القول، لدواعي مجاراة الزي السائد وحسب، ولكن يالعمق المزيد من التحدي الذي تطرحه ثمة نظرية للدراسة التي نعتبر الكتابة ثمرة شيء يترعرع في صميم الكتابة: الأمر الذي كان من اكتشاف مالارميه. وهكذا فإن الهدف الأسمى للكتابة، ولربما الهدف النهائي، هو الوصول إلى ذلك الكتاب الذي يراه التطور كمنظومة كتب، أي نوعاً من أنواع المكتبات الناشطة التي يكمن مفعولها في التحريض على الإتيان بأشكال من الحرية الانضباطية التي تتحول تدريجياً كي تصبح أمراً واقعاً، فإذا كان للأصالة كتصور تلك القدرة على ضغط الزمن لأمد طويل جداً والرجوع به إلى سمو مفقود في أحسن الأحوال، وإلى طوباويات مستعادة في أسوأ الأحوال، لكان هذا سبباً وجيهاً لإعادة توجيه دراستنا منهجياً نحو المستقبل. وإن الانقلاب بالمنطلق إلى هذا الوضع البالغ التطرف له، كما قال فوكو وغيلز دي لوز، أثر تجريد الفكر من صبغته الأفلاطونية.(20)، إذا ما الشيء الذي يمكن أن يكون أكثر أفلاطونية من رؤية الأدب كمحاكاة (بالنظر شزراً إليه)، والخبرة كشيء أصيل، والتاريخ كخط مستقيم من منبعه حتى الزمن الراهن؟ وفي الوقت الذي ينكشف فيه هذا النوع من الاستقامة الخطية للاهوت الذي هي عليه في حقيقة الأمر، يصبح فيه بالإمكان قيام واقع دنيوي للكتابة. فالتعبير الذي ساقه فوكو عن ذلك الواقع هو نظام الخطاب "l’order du dudiocours" بيد أننا نستطيع أن نميز فيه أصالة الكتابة أصالة حقيقية ذات تركيب هائل، في وشائجها المعقدة مع العالم الاجتماعي، وهي تسير في اتجاه معاكس لاتجاه الطبيعة.
nnn





7 - الدروب المطروقة والمهجورة
في النقد المعاصر




لا يزال من صحيح القول أن المقتطفات الأدبية المختارة عن النظرية والنقد الأدبيين الحديثين، المجموعة استجابة لمطلب النصوص النظرية، تساعدنا في أن نخمن قيام مقدار واف وتشكيلة واسعة من العمل الجاري في هذه الأيام(1). ولكن على الرغم من أن هذه المقتطفات معينة في كونها مؤشراً عما يمكن اعتباره بأن الكتلة الرئيسة للنظرية الأدبية، إلا أنها غير مُعينة جداً في مساعدتنا على تقدير مدى التحسن أو السوء الذي بلغه النقد الأدبي على العموم.
فالأمر لا يقتصر على معرفة الشيء الذي يمكن مقارنته بالنقد الحديث أو المعاصر (فهل هو النقد الكلاسيكي؟ أو النقد التقليدي؟ أم هل هو مع النقد قبل جيل مضى؟ وما معنى الجيل في النقد، بالمناسبة؟) يكاد يكون من المستحيل أن تحمل القراء، أو نقاداً أقل احترافاً من غيرهم بكثير، على الاتفاق حول أغراض النقد أو حول جدواه. وأمر أكثر إشكالاً هو التمييز القائم في أغلب الأحيان بين النظرية النقدية وبين النقد العملي، أو بين نظرية شيء ما وبين توجيه النقد إليه أو عنه. وإن من المستغرب جداً أن يكون هنالك احتمال باكتفاء المحجاجين النقديين المتحذلقين بيافطات وطنية فجة (كفرنسي أو أوربي قبالة إنكليزي أو أمريكي)، في التعامل مع هذه التمييزات وفي السماح لها باحتلال مساحات واسعة جداً في مضمار التعصب الفكري. وأما فيما يتعلق بالأسماء فحدّث ولا حرج ففراي وليفيز يثيران مشاعر غير لائقة، في الوقت الذي قد يثير فيه ديريدا وليفيز مشاعر أكثر فظاظة حتى. إن النقد الجيد، بمعنى النقد المستحسن، من الممكن لذلك أن يقترن بالشأن الأخلاقي الأنغلو/ ساكسوني، بالتوكيد التقويمي بنوع معين من الاهتمام بالأداء الأسلوبي، وبتوكيد على القراءة الواقعية كشيء متناقض مع شيء مجرد (وأجنبي) من مثل فلسفة زائفة أو عمومية. ولئن وقفت على الطرف الآخر من هذا الشرك لوجدت نعوتا، كالإقليمي وغير النظري وغير المعضل وغير المدرك لذاته، تطلق سهامها على الخصم، وبعد كل هذا وذاك فبمقدور المرء أن يطوّح بكلمات من أمثال البنية ودلالة اللفظة والتأويل، وبتلك الكلمة التي تحتل أقصى ركن تقريباً في الجانب المضاد، ألا وهي كلمة التفكيك. وإن أي قارئ من قراء الصحف الأدبية يعرف مخزون كلا الجانبين معاً، وقد ينتابه السأم منهما كليهما أيضاً، وبمقدار ذلك السأم الذي يتعرض أو تتعرض إليه جراء أي انتقائي يحاول استخدام كل المفردات الانشقاقية ليصنع منها أطروحة مناقضة مبهمة. بيد أن بمقدور المرء أن يقول، على غرار مقولة مؤرخ انطباعي، أن هنالك أشياء تقال عما يدور في النقد المعاصر في هذه الأيام ألا وهي تلك الأشياء التي تمثل الزي السائد. فما هي، ترى، الافتراضات التي تعتمدها المقتطفات الأدبية حيال اهتمام قرائها بالنقد المعاصر في الوقت الذي تتظاهر فيه أنهم بالنقد المعاصر يفهمون "ذلك النقد الذي ليس بوسع المرء أن يتجاهله" أو ذلك "النقد الذي يظهر، جراء غرابته، بمظهر الزي السائد أو صاحب السلطان الفكري المحض لكي يجعل الناس يصدقون بأنه ممثل النوع المعاصر أوحتى طليعته ربما؟
إن سؤالاً من هذا النوع لا يتظاهر بأنه يجيب على بعض المعضلات الأساسية التي يواجهها النقد، لا ولن يتخطى أيضاً، منذ البدء، مستوى الممارسة المفيدة التي يستطيع المرء بها أن يرسم حدود الميدان النقدي بغية اقتراح تغييرات لصالحه أو ترميم بعض الثغرات فيه. ولئن كان لهذه المقتطفات أن تؤدي أية وظيفة حقيقية - بغض النظر عن كونها طرائق مريحة للقارئ لكي يتشبث بتلابيب بعض المقالات الشاردة -فهي أن تجعل المرء يظن بأنها تشكل توافق آراء النقاد في هذه الأيام، وأساساً في متناول اليد تفترض بأنه دقيق، ومنه تطلق عملها هي، وإليه تستجيب، وبناء عليه تحدد أنفسها، أي حلفاءها وخصومها، ففي قبول مثل هذا الاساس يفترض النقاد أيضاً اساساً لهذا الاساس وقد يقولون، دون مراوغة مفرطة، أن هذه المقتطفات وما تمثله تتقصد أن تكون مختلفة عن غيرها من المقتطفات وتوافقات الآراء السابقة، التي هي مختلفة بدورها عن سابقاتها أيضاً وهكذا دواليك. إن من الواضح أن التغيير النقدي أقل تعاقباً وفجائية من ذلك، ولكن هيا بنا نسلم جدلاً بوجود مسحة من التغيير تتضمنها هذه المقتطفات وتستغلها أيضاً.
فالنقد في أمريكا في هذه الآونة أكثر عالمية، بطريقة واضحة تماماً مما كان عليه منذ أول عقدين من عقود هذا القرن، إن مجموعة ماكسي دوناتو المعنونة بـ "الجدل البنائي"، تسجل بمنتهى التوثيق ذلك التدخل الفرنسي الدائب على مايبدو في الخطاب النقدي الأمريكي، مثلها مثل مؤتمر عام 1966 الذي اشتملت محاضر جلساته المنشورة على أول تجميع هام للنقاد الأجانب في الولايات المتحدة. فالتدخل الفرنسي أدى فضلاً عن ذلك إلى انفتاح الأبواب والنوافذ على بقية أوربا، أولا على الأقاليم والبلدان الرومانسية (كجينيف وإيطاليا علىوجه التخصيص)، ومن ثم على مناطق كألمانيا والاتحاد السوفياتي. إن هذه النزعة العالمية الجديدة أحيت بالفعل الاهتمام بالتوجهات القديمة أو الوطنية التي ماكانت معروفة من قبل إلا للاختصاصيين، كتوجهات س.س. بيرس.، كما أحيت الاهتمام بفيلولوجيين من أمثال أورباخ وكيرتيوس وسبيزر، وبالشكلين الروس أيضاً.
فثمة نتيجة هامة بالنسبة لمن كان يمارس النقد ويكتب بالإنكليزية، ولمن كان يهتم بالمسائل النظرية، كانت تآكل مركزية الدراسات الإنكليزية. إن المقالة الشهيرة لريتشارد بويرير في مجلة بوليتاركن "قضايا" المنشورة في عام 1970 أفصحت عن هواجس الناقد الناطق بالإنكليزية حيال الموقف الذي كان يعتمده النقاد، بدءاً بآرنولد وانتهاء بليفيز، والذي مفاده أن الواجب يقضي بالعثور على محورنا الأخلاقي مبسوطاً في الكلاسيكيات الإنكليزية(2)، فالمحكات تعرضت للتحول إلى فاعلية، كتلك التي دعاها "بارثيز"، بالفاعلية البنيوية والكتابة"(3)، أو إلى كينونة منعوتة بالأدب الحديث بعد أن خلع عليها التصور مقداراً أوفى من الاتساع. وما تلك العبارة الأخيرة إلا من عنديات ليونيل تريلينغ التي كانت، حين استخدمها لأول مرة في عام 1961، تردد أصداء الاحتجاج ضد آرنولد على وجه التخصيص. ولما كان آرنولد يرى أن الناقد الأمثل هو ذلك الناقد الذي يتحدث، مع العلم أن أرنولد نفسه كان الناقد الذي وضع عمله الدراسات الإنكليزية في قلب البرنامج الأدبي في الولايات المتحدة بكل تأكيد، عن نوع من الأدب الحديث الذي يشتمل على كل من ديدرو ومان وفرويد وجيد وكافكا، كان رأيه ذاك إعلاناً هاماً عن مقدار اتساع المدى العالمي والديالكتيكي الذي أضحى عليه النقد الناطق بالإنكليزية.(4).
لم يعد على أوثق ارتباط بالموضوع أن يكون الناقد النبيه الشاب قد تلقى دورات تعليمية في (المجمع الإنكليزي)، باللغة الفرنسية عن الكتاب الفرنسيين وحسب، لابل وصار عليه الآن أن يقضي ردحاً طويلاً من الزمن في قراءة بارثيز وديريدا وتودوروف وجينيت، وأن يستشهد بهم أيضاً. وعلاوة على ذلك ثمة مفردات جديدة -سمّها إن شئت فرنسية/إنكليزية،- طفقت تطرح مصطلحات من أمثال " bricolage و décodage, decoupage"،([3]) بشيء من الثقة أن فهمها سيكون بمقدور أي إنسان. وحفنة من المحظوظين كانت سوف تستشهد تطرّبا بكل من زوندي وبينيامين وأدورنو ومايرو إنزينبيرغ وباختين وإيكو ولوتمان، وبالطبع بجاكبسون الكلي الوجود، وهكذا لم يعد موضع الاعتراض أن تعتمد مقتطفات من النظرية الأدبية ذلك الاعتماد الكبير علىالعمل العالمي كشيء مناقض للعمل المحلي على وجه الحصر. فبالتحول الذي تحوله (النقد الجديد)، مما كان يبدو تزمتاً ضيقاً في أفق التفكير إلى الانغماس الذي انغمسه أحياناً هذا (النقد الجديد) في النزعة العالمية، كان التكامل المعزول للدراسات الإنكليزية- ككتلة من النصوص، كموروث، كموضوع، كنبرة صوت، كفرع دراسي محكم جيد التحديد - هو الذي عانى الأمريين في هذا التحول.
إن بمقدور المرء أن يدعو هذه الخسارة بأنها خسارة للموضوعية، أي بمعنى الحالة الموضوعية، فأفكار عن الحدود والتخوم، وبصحبتها أفكار عن كل مايتعلق بالوطن من أدب وجنس أدبي وعصر ونص بأم عينه وكاتب، يبدو أنها وهنت فالسهولة التي كان بوسع المرء أن يؤكد فيها أن الحركة الرومانسية هي كذا وكذا، أو أن الموروث هو ثمة أعمال معينة مرتبة وفق ترتيب معين، جرى استبدالها إما بنظرية أوبأمثلة تطبيقية عن المقاصد النصية.إن نظرية بارثيز النقدية، بتوكيداتها على الكتابة “écriture” وعلى التخفيف من غلواء كاتب ما (كما في حديث بارثيز عن راسين)، وعلىنص كلي النفوذ (كما جاء في([4]) Z/S) وعلى نص مثير كما في " “Le plaisir du ****e” ، (متعة النص)، تصور بدقة معقولة ذلك التحول الذي تم في نوع من أنواع النزوع التاريخي المصبوغ بصبغة موضوعية والمتمركز على الدراسات الإنكليزية أو الفرنسية كمحور له، إلى نوع من أنواع الأدوات النقدية العالمية التي تأتيها الأهمية من فاعليتها لا من، بحال من الأحوال، المادة الأدبية التي قد تعززها وقد لاتعززها. ومن العجب العجاب أن قيداً معيناً قد فعل فعله على جامعي المقتطفات الذين جاؤوا بمقتطفاتهم من بارثيز وتودوروف وأغفلوا، في الوقت نفسه، من بين أكثر النحاة أصالة كلا من كريستيفا وسوليرز وجان بيير فاي، وآخرين من عصبة مجلة “Tel Quel”([5]) التي عمدت لاحقاً بالطبع للتنكر لماضيها اليساري وآلت إلى تذكرة مزعجة عن ذلك التقلب الكبير الذي تتقلبه الأنماط الفكرية.
فمن ناحية أولى كان يبدو أن المفردات النقدية العالمية لم تكن تتقصد النصوص أو الموروثات وإنما تتقصد حالة من الوجود قد يحق لنا أن ندعوها بالنصية، ومن الناحية الأخرى تبرز ثمة معتقدات بديلة أخرى لتحل محل الأفكار القديمة عن الكاتب أو العصر أو العمل أو الجنس الأدبي. وكما هو عليه الحال دائماً مع النقد، تظهر الأهمية فجأة على بعض الكتاب القدماء. فكروا في دانتي أو دون “Donne” و "النقاد الجدد"، وفكروا في هولدرلين فيما يتعلق بها ييداغر، وفكروا في روسو وآرتود وباتيل وسوشور وفرويد ونيتشه بالنسبة لأواخر النقاد، "الجدد"، إن هؤلاء الكتاب يحظون بشرف معاملة المبادئ التي ليس على النصوص كنصوص أن تتخطاها ولا حاجة بها لذلك. فالعودة إليهم تعني، كما عاد لاكان إلى فرويد، توطيد أركانهم كقديسين مصونة لهم مشروعيتهم بالولاء الصادق. وأما النتيجة المشؤومة بالنسبة للنقاد الموالين فهي أنهم، حتى لو لم يستعملوا صورة آرنولد ذات التحجر المهيب كمرادف لقيمة سامية، ليسوا أقل عرضة لسلطة متأتية من أعمال وكتاب مبجلين. ولكن الجدير بالملاحظة يكمن في ذلك الاختزال النقدي الجديد الذي يبعث على الجنون، إذ بدلاً من مناقشة نقطة ما تميل الأمور على الأغلب إلى الأسناد الباهت لنيتشه أو فرويد أوآرتود أو بينيامين -وكأن الاسم وحده يحمل قيمة كافية لإبطال أي اعتراض أو لتسوية أي نزاع. ففي معظم الأحيان لا يحمل الاستشهاد معه أي تمييز كالقول أن المقطع الفلاني في العمل الفلاني أفضل من غيره من المقاطع أو أكثر إفادة منها، لا بل والواقع أقل من هذا في بعض الأمثلة الهزلية الواردة عفو الخاطر، إذ ما من حاجة تدعو لذلك لأن الاسم والإسناد كافيان. بحد ذاتهما.
إن الشرعة الجديدة تعني أيضاً ماضياً جديداً، أو تاريخاً جديداً كما تعني، لمزيد من سوء الحظ، ضيق أفق جديد. فأي قارئ للنقد الفرنسي الحديث سوف يعتريه الذهول حين يتيقن أن كانيث بيرك، الذي تناول إنتاجه الضخم أول ما تناول بحث العديد من المسائل والمناهج التي ينهمك بها الفرنسيون الآن. إنسان مغمور(5)، فهل هذا الشيء نتيجة الجهل أو الاستخفاف أو الحذف المقصود إيديولوجياً؟ ومثال آخر، وهو المثال الذي يجب عدم تحميل الأوربيين ملامته طبعاً، هو موقف التبيّع الذي يتبع به النقاد الأمريكيون أقرانهم الأوربيين. ولكن الشيء الذي يبدو هذراً على وجه التخصيص هو تلك الطريقة التي يتحذلق بها أحد النقاد أو ينتقد عمل ناقد جليل كبارثيز أوديريدا وقلما تنطبق على المعايير التي حتى لا تقرها أصلاً. وعلى نفس الشاكلة هنالك اتجاه واضح لتفادي البحث التاريخي باعتباره، من حيث الجوهر، أقل أهمية من التأمل النظري. فمقالات ديريدا عن روسو وكوندياك، إن اكتفينا بمثلين بارزين، فرّخت سلسلة كاملة من التقليدات التي كانت كلها هزيلة تاريخياً ونصياً هزال مقالات ديريدا(6).
فماذا، ترى، عن الخطاب النقدي السائد نفسه، أو، بمزيد من الدقة، ماذا يفعل الخطاب النقدي؟ وهنا سوف أتحدث عن ذلك المعتقد البديهي"، “apriori” السامي الذي يبدو بأنه يوجه اهتمام النقاد إلى جانب هام واحد من جوانب الخبرة الأدبية: ألا وهو الجانب الوظيفي، ففي معظم ضمائم المقتطفات، وفي الأساليب النقدية السائدة، التي تمثلها هذه المقتطفات، نجد أن الناقد يتحدث عما يفعله نص ما، وعن كيفية عمله، وعن كيفية انضمام بعضه لبعض ليفعل أشياء معينة، وعن كيفية كون النص منظومة متكاملة ومتوازنة ككل، إن هذا النوع الخاص من النزوع الوظيفي كان له أثر مفيد بنفس المقدار الذي قد يبدو فيه بأنه فكرة مهزولة عن الأدب، وذلك لأنه تخلى عن تلك البينات البلاغية الفارغة التي لا تفعل أكثر من الإعلان عن عظمة عمل ما وعن قيمته الإنسانية وما شابه ذلك، مع العلم أنه أتاح للنقاد، من جانب آخر، أن يتحدثوا حديثاً جاداًوتقنياً ودقيقاً عن النص. فالنقد الذي كان يمارسه الأكاديميون أو الصحافيون أو الهواة، كان في العادة موضع الاعتبار بأنه فرع من الأدب المحض “belles - letters”، ناهيك عن أن عمل الناقد كان، حتى ورود "النقد الجديد"، الإنكليزي والأمريكي، إطراء عمل ما أمام القراء العاديين وأمام النقاد الآخرين سواء بسواء، وأما النقد الوظيفي فإنه يعمل انفصالاً حاداً جداً بين جماعة النقاد والرأي العام، وذلك بالاستناد إلى الفرض القائل أن كتابة عمل أدبي والكتابة عن عمل أدبي ما هما إلا وظيفتان اختصاصيتان بلا أي مرادف أو موجب بسيط لهما في الخبرة البشرية اليومية. ولذلك يجب على المفردات النقدية أن تؤكد على المميزات المناهضة للميزات الطبيعية وحتى البشرية التي يتميز بها السلوك الكلامي في اللغة المكتوبة. وبما أن الفرضيات التطورية تبدو مشوهة على وجه التخصيص بمقدار ما يتعلق الأمر بالأدب - إذ لا يمكن تقليص الكتابة بتلك البساطة إلىماض طبيعي أو إلى حافز طبيعي أو إلى لحظة سابقة تجريبياً - فإن النقاد سيهجرون دربهم للتفتيش عن لغة تقنيية ليس لها استخدام ممكن آخر سوى وصف وظائف النص.
وثمة قرار سابق لهذا القرار القاضي باستخدام مفردات تقنية محض موجود في النقد الذي جاء به إ.أ. ريتشاردز الذي لم يستخدم بالطبع مصطلحات لغوية علمية، علماً أن ما يميزه، وإمبسون أيضاً، عن (النقاد الجدد)، الأمريكيين كان بحثه عن الدقة النقدية دون أية مداهنات لهيبة الأدب أوهيبة الخبرة اليومية. فالدقةفي التعامل مع الأدب تتأتى بالنسبة إليه من استخدام الكلمات، والكلمات لا يمكن أن تكون دقيقة، إلا من خلال علم الكلمات إثر تنقيتها من التزييف أو العواطف أو الشوائب. وإن الشيء الذي عزله عن أقرانه كان اهتمامه اللاحق بالإنكليزية الأساسية “Basic English” ، فضلاً عن استعاراته المتواصلة من اللغة العادية أو من الفلسفة النفعية والسيكولوجيا السلوكية والتجريبية. والصحيح الإضافي عن عمله صحيح أيضاً عن النقاد الذين أنا بصدد بحثهم الآن: فإغراءات المفردات النقدية التقنية المحض تفضي إلى سقطات مؤقتة في نوع من أنواع التزمت العلمي. وفي أمثال هذه اللحظات تصبح القراءة والكتابة مثلين من أمثلة الإنتاج المنظم والمصنف منهجياً، وكأن العوامل البشرية المعينة لا تمت بصلة لهذا الأمر. فكلما ضاقت النواة اللغوية (ولنقل مثلاً في نقد غريماس أو لوتمان)، زادت منهجية المدخل وزيادات علمية المذهب الوظيفي.
ففي معظم الأحيان تعود التعريفات بالقارئ إلى المنهج باعتبار أن أحد مقاصد المذهب الوظيفي هو تكميل أداة التحليل مقدار تكميل أي فهم لأشغال النص. وهكذا ففي الوقت الذي يتوفر فيه الذوق السليم لناقد نبيه كبارثيز لمعرفة الفرق النوعي بين إيان فلامينغ وبلزاك، يكون ما يقوله عملياً أن الأخير يشتغل على نحو أفضل من الأول (أي أن الأخير أكثر استجابة لقراءة بارثيز قراءة دلالية([6]) صرفة). فهذا القول يشبه تقريباً القول بأنك تستطيع كتابة قصة إن كنت تعرف قواعد التأليف، الأمر الذي لا يكفل بمنتهى الوضوح مثل هذه النتيجة، ولكن التعرض الدائم لمخاطر محاباة الوظيفة، يتمثل لأغراض عملية، في إعطاء القارئ إحساساً مرضياً ثابتاً منتظماً بالرهبة من الأماكن المغلقة. وبما أن العلاقة بين العمل والناقد علاقة ذاتية الأحكام وذاتية التأبيد. وبما أن الطابع المخصص الذي يطبع تلك العلاقة طابع مقصور عليها ونظامية، فإن القارئ لا يمكنه أن يتوقع إلا الحصول على معرفة من النوع المؤكد والمغلق سلفا جراء التعريفات الأولية. فأنت تختبر النص وهو يدفع الناقد للعمل، والناقد يبيّن النص إبان عمل النص: إن محصلة هذه التقاطعات ماهي بمنتهى البساطة إلا أنها حدثت. وهكذا فإن البراعة النقدية مقصورة جداً على تغيير تناسق كلمات العمل وتحويلها إلى مثل عن المنهج.
إن معظم عظماء النقاد منهجيون، الأمر الذي قد لا يعنى إلاأنهم قادرون على توضيح وعقلنة معرفتهم المبدئية بالأدب، بيد أنه يعني في الوقت نفسه أنهم غير خائفين من جعل مناهجهم وكتابتهم مشوقة بحد ذاتها ومتناسقة فكرياً، أكثر بكثير من عمل أو مناسبة ما. ولكن أمثال هذه التحديات نادرة بالنسبة للنقاد الأقل شأناً. فهم يستخدمون العمل كي يجعلوه يعمل، وهو الشيء الذي يقوم به كما أن منهجهم يبين فاعلية العمل، وهيي الشيء الذيي يحتازه على الدوام على الدوام، وهكذا دواليك دون إي إحساس بالقوى المتضاربة التي تشكل أساس المنهج أو بمكمنها الجوهري في الحياة الفكرية.
إن الميزة العظيمة لكتاب ديريدا المعنون بـ "البنية والإشارة والتلاعب بالألفاظ في خطاب العلوم الإنسانية"، هي تبيانه المنهج وهو يدور حول نفسه في نفس تلك اللحظة التي يحقق فيها أعظم انتصاراته، لإحراز سلاسة أكثر جدة وأكثر تميزاً أيضاً. ويردف ديريدا قائلاً أن "خطر العقم والتعقيم كان دائماً ثمن السلاسة(7)، ويلمح بشجاعة مناسبة إلى أنه على استعداد لدفع الثمن طواعية. ولكن ليست هذه المقولات إلا مقولات متميزة جيء بها بعد التيقن التام من أن منظومة المناهج المعاصرة تخطر على البال في لحظة معينة من لحظات الوعي الذاتي البشري، ولا تجيء عشوائياً جراء التفكير، بمنهج ما ومن ثم استخدامه حسب مشيئة المرء. إن مقالات من أمثال مقالات ديريدا يمكن العثور عليها بين الحين والحين في المقتطفات الأدبية، وأما قيمتها فتكمن في توضيحها الإحساس بقوى المنهج المتضاربة وجذورها الراسخة في صلب النشاط الفكري، الأمر الذي يحسّن بعدئذٍ إدراكنا أن الخطاب النقدي المعاصر معارض في مواقفه لكل ماهو سلالي - سواء أكان ذلك يتعلق بالعمل أو بالناقد أو بالمعرفة أو بالواقع. فما أن آل النقد المعاصر إلى اليتم، جراء المقالات النقدية المتطرفة لكل من فرويد وسوشور ونيتشه، بخصوص الجذور والموروثات والمعرفة نفسها، حتى نال استقلاله المنهجي باحتلاله موقعاً فعالاً في هذا العالم. إن النقد المعاصر لا يؤمن بالتواصلات التقليدية الموروثة (كالأمة والأسرة والسيرة والعصر)، بل ويرتجل نظاماً، بأفعال تأتي كيفما اتفق من وحي عفو الخاطر “bricolage” ، في أغلب الأحيان، من صميم انقطاع نهائي. فثقافته ثقافة نفي الغياب ومعارضة التمثيل، وثقافة جهل (كما كان يعبر عنها بلا كمور مراراً وتكراراً).
ولكن الجهل المكتسب أو الموهوب ليس بشيء وضيع. فكل أكابر النقاد الذين يكتبون في هذه الآونة يجعلون من أنفسهم أدوات نقدية ومنذ الوهلة الأولى، وذلك لأن جهلهم الافتراضي يجعل من الممكن العثور على حقائق هامة عن دراسة الأدب، وعلى مناهج هامة لتلك الدراسة. هيا وتأملوا كوكبة من النقاد فيها كل من أورباخ وسبيتزر وبلا كمور وبارثيز وجينيت، ممن حياتهم المسلكية تغطي قرناً من الزمان تقريباً، على الرغم من وجود مقدار كبير من التشابك فيما بين بعضهم بعضاً، فهم كلهم موجودون ضمن إطار المقتطفات الأساسية. وإن كلاً منهم، بادئ ذي بدء، ذلك القارئ الذي تعلّمه لصالح النص والذي منهجه من النص، علاوة على أن الاختلافات فيما بينهم واسعة جداً نظراً للطريقة التي يسوس بها كل منهم جهله.
ومع ذلك فما من واحد منهم يهتم ذلك الاهتمام الكبير بالفروق الدقيقة بين النظرية السقيمة والتطبيق أو بين النقد الأدبي وبين الفيلولوجيا والفلسفة وعلم اللغة والسيكولوجيا والسوسيولوجيا. فمنهجهم العام، والحالة على ماهي عليه، منهج توحيدي لأنه يحول الشيء الذي يبدو مادة دخيلة، أو الشيء الذي يبدو في بعض الحالات مادة وهمية وتافهة، إلى أبعاد على صلة وثيقة بالنص.
وإن بعض هذه العناصر تبدو غريبة على المألوف إلى حد الابتذال، لا بل وإنها لتبدو على هذه الشاكلة على نحو متعمد. ولكنني أظن أن تعمد هذه الغرابة ماهو إلا خطة أساسية من خطط الخطاب النقدي المعاصر، بما في ذلك خطاب نورثروب فراي. فالنصوص، بالنسبة للناقد، نصوص لا كرموز لشيء آخر بل كزحزحات لأشياء أخرى (ومفردات فراي مفيدة هنا)، إذ أن النصوص انحرافات عن الوجود البشري ومبالغات عنه ونافيات له، فضلاً عن أنها في بعض الأحيان ظواهر للمبالغة والتمزيق. إن الأسلوب لايمثل الكاتب، شأنه بذلك شأن القول أن سبر الكتّاب هي الكتاب. فحقائق الأسلوب، بدلاً من ذلك، توجد جنباً إلى جنب في علاقة تقرب من النص الذي يشكل بحد ذاته قسطاً من بنية تقرب تتغذها العناصر الغريبة على المألوف. فهذا كله لا يعدو أن يكون النتيجة المعروفة جداً للموقع المهزول الذي تحتله الذاتية بالقياس إلى النص. وما أن تلاشى الإيمان الشائع بأن معطيات "تين"، (العرْق واللحظة والبيئة)، هي مايرهق ويكبل الكاتب كمنتج لنصه حتى صار ناقد كجورجز باوليت يتقبل قبل أي شيء آخر، علماً أنه ذلك المدافع الصنديد عن الوعي الإبداعي الخصب، شذوذ الذات عن المألوف وعرضيتها وتزعزعها، أمي تقلبها وخواءها أمام النص. "فالقراءة إذاً هي ذلك الفعل الذي يتعرض فيه للتحوير المبدأ الذاتي الذي أدعوه بالأنا، بتلك الطريقة التي لا يعود لي فيها الحق بأن أعتبره حصراً ذاتي أنا"(8)،
إن مايجعل هذه المقولات فعالة منهجياً، كشيء مناقض لكونها بينات عن التعاطف الجياش بين الناقد والنص، هو أن الهوية الصحيحة للناقد، أي نقطة انطلاق العمل، ليست بالذات التجريبية (نفس الذات التي تأكل وتتسوق وتتنفس وتموت)، وليست بالقناع الرسمي.
فالهوية النقدية، أي المنهج الموثوق والمأذون للناقد في تعامله مع النصوص، مبنية على قاعدة لغوية ومصبوغة بصبغة المؤسسة على الأرجح، لا على قاعدة سيكولوجية أو اجتماعية أو تاريخية.وهذامايعني بالنتيجة أن النظرة إلى اللغة هي أنها جماعة مؤلفة من مستخدمي اللغة، لا مجرد أداة شاقولية للتواصل. وإن مثل هذه الجماعة على تشابك ذاتي فيما بينها طبعاً، ولكن لها قوانينها التي تعطيها النظام والترابط المنطقي والوضوح. فالمنهج النقدي -لدى أورباخ أو سبيتزر أو بلاكمور أو بارثيز أو باوليت -شيء فعال لأن أي مظهر، من مظاهر اللغة له دلالته، مع العلم أن الإتيان بالدلالة هو تحديداً المقدرة الأساسية للغة. وإن مايهم الناقد هو الكيفية التي تدل بها اللغة، والشيء الذي تدل عليه، والشكل الذي تعتمده لذلك.
ولسرعان ماتنفتح على مصاريعها أبواب نطاق واسع من الاحتمالات. فهل هذه الدلالة اللغوية مقصودة، وهل كلها متكافئة بعضها مع بعض، وهل هذه الدلالة متعمدة تاريخياً أو سوسيولوجيا أكثر من تلك، وكيف تؤثر واحدتها بالأخرى؟ - إن جدول الخيارات أمام الاهتمام النقدي يمكن توسيعه حتى يشتمل على أي عمل نقدي. وبما أن النقاد من المفروض بهم أن يكونوا قراء أذكياء قبل أي شيء آخر، فإن دورهم بعد ذلك ينحصر في الدور الفعال والديالكتيكي ولاشيء سواه. فعملهم -أي وجودهم، دورهم - هو الذي يحدد الدلالة كموضوع للدراسة والتحليل. وهكذا فإن تاريخ النقد الأدبي هو، كما تسهب في تبيانه مقتطفات ها زارد آدامز، تاريخ الوساطات النقدية، مما يعني، بطريقة أخرى، قولك أنه تاريخ حصول النقاد على الهوية من جراء إضفاء الدلالة على بعض الموضوعات اللغوية لمصلحة الناقد أولاً، ومن ثم لمصلحة غيره من النقاد والقراء الآخرين(9)، فالهوية النقدية هي الأحبولة التصويرية لبعض الأشياء المعينة والمحددة شكلاً في اللغة. إن دراسة تاريخ النقد ماهي في الواقع إلا فهم تاريخ الأدب من زاوية نقدية. فتاريخ كهذا عليه أن يعثر، وليس بشكل أقل مما وصف به فرانسوا جاكوب تاريخ البيولوجيا، "على الكيفية التي استلمت فيها بعض الموضوعات للتحليل، وبذلك صار من الممكن لميادين بحوث جديدة أن تحظى رسمياً بنعت العلوم".(10).
***
ولكن الموقف الوظيفي في الخطاب النقدي يتسم بقيود مؤسفة.فأي موقف وظيفي يبالغ في كثرة اهتمامه بالعمليات الشكلية للنص، في الوقت الذي يبالغ فيه بقلة اهتمامه بمادية النص. وبكلمات أخرى فإن النطاق المفروض بعمليات النص أن تكون عليه يميل إلى أن يكون إما داخلياً برمته أو بلاغياً بأسره، حيث لا يتعدى دور الناقد فيه دور الإنسان الأوحد المتلقي.
فالنص، من الناحية الأولى، موضع التخيل بأنه يعمل منفرداً ضمن نفسه، أي متمتعاً بامتياز حيازته مبدأ التلاحم الذاتي أو إن لم يكن على شكل امتياز فباحتيازه له كمبدأ بديهي خبط عشواء وعلى ارتباط به، في حين أن النص، من الناحية الأخرى، موضع الاعتبار بأنه بحد ذاته سبب كاف للإتيان ببعض التأثيرات المحددة على أي قارئ مثالي. ولكن النص في كلتا هاتين الحالتين لا يبقى كما كان عليه من قبل بل يتعرض للمسخ والتحول إلى ما دعاه ستانلي فيش بالشيء الاصطناعي الذي يستنفد نفسه بنفسه. ولربما تكون النتيجة على غير توقع أن النص يصبح مصبوغاً بصبغة المثالية، أو الجوهرية، بدلاً من بقائه موضوعاً ثقافياً من نوع خاص كما هي عليه حقيقته في واقع الأمر، وله سببيته ودوامه وصموده وحضوره الاجتماعي، أي كل تلك الأمور التي تشكل حقاً من حقوقه الخاصة.
إن بعض المحذوفات المهمة من المقتطفات تدل على سطوة هذا الانحياز المثالي واللامادي. فميشيل فوكو قلما يوجد في تلك المقتطفات، على الرغم من أنه أحرز مرتبة التقديس في وقت أحدث عهداً وبكل جدارة. كما أن أورباخ وسبيتزر -اللذين يعني بحثهما الفيلولوجي أساساً لا بالقراءة بل بوصف أنماط ديمومة النص -ضحيتا سوء التمثيل المطلق إلى الحد الذي يجعل القراء ذوي التثقيف الهزيل يفترضون (إن لم يقرؤوا المقالتين أو الثلاث عن سبيتزر وأورباخ)، بأنهما كانا على الأرجح نسختين عتيقتين عن بروكس أووارين. وأما لوكاش فيبرزكمحجاج غليظ في دفاعه عن الواقعية لأن أقرانه في المقتطفات يطنبون بإطراء التفرد الفني وبقيمة الصقل الجمالي. فالمختارات من عمله هي نفسها وعلى نسق واحد في كل المقتطفات النقدية، وبالنتيجة فهي مملة وعلى نسق واحد أيضاً كونها مختارة بمنتهى البساطة للإتيان بالملل والبرهنة على ماركسيته(11). وإن تلك المقتطفات، حتى وهي تبذل الجهد الجهيد لإعطاء فكرة ما عن مدى براعة الوظيفيين في الأسلوب كوسيلة أساسية من وسائل فعالية النص. لا تقتبس شيئاً من أعمال ميشيل ريفاتير أوم.أ.ك.هاليدي، أو غيرهما من كبار الأسلوبيين. وعلاوة على ذلك فإن مثل هذا النقد التاريخي المحرّف الذي تطرحه المقتطفات لا يمكنه أن يتماثل في انفصاله عن التاريخ الثقافي السوسيولوجي مع كتابة تاريخ الأفكار على نحو مباشر، والذي يملأ صحائف الصحف المتبحرة به، فهذا الاستخفاف بالتاريخ يفسد المادة المقتبسة نفسها في الوقت الذي لا يمت فيه التاريخ بأية صلة لصلب الموضوع. إن مقتطفات "غراس" عن "النظرية الأدبية الأوربية"، الحديثة، تتحلى بتصوير رائع بدون إنغاردن، أو بدون سارتر كاتب "ماهو الأدب؟"، و"نقد العقل الديالكتيكي"، أو بدون هايدغر كاتب "الوجود والزمن".
إن هذه التشويهات تنجم جزئياً عن فوضى خاصة تضرب أطنابها في النقد الحديث نفسه. فالنقد، كفرع من فروع المعرفة، لم يعر من الاهتمام إلا أقله لتاريخه كفرع من فروع المعرفة أيضاً. وإن إحدى سمات النقد الحديث تتمثل بالرغبة في كتابة النقد عن النقاد الآخرين. بيد أن من النادر نسبياً أن نجد نقاداً ممن يتولون العناية بالتواريخ النقدية حول النقد نفسه. فمن صحيح القول أن هنالك جهوداً موسوعية كجهود رينيه ويليك، ولكن يجب أن نسأل عن السبب الذي يجعل التاريخ النقدي يفضل دائماً التاريخ النقدي الموسوعي (من كتيب ومرجع ومقتطفات)، وقلما يعني بنقد التاريخ النقدي، وخير دليل على ذلك يتجسد بمثلين حديثين ممتازين هما: كتاب فرانك نتريشيا بعنوان "في إثر النقد الجديد"، وكتاب جيوفري هارتمان بعنوان: "النقد في مهب الريح"، إذ يشذان عن القاعدة ويبرهنان على ذلك التفضيل العام. فمثل هذا التاريخ سيفضي ولاشك إلى إمعان النظر في الضغوط الاجتماعية والسياسية التي تنيخ على النقد، مع العلم بأنه سوف يستدعي الاهتمام بالسؤال الذي يدور عن الوقت الذي يكون فيه النقد فرعاً من فروع المعرفة وعن الوقت الذي لا يكون فيه كذلك. وقصارى القول فإن الاهتمام النقدي بالنقد باعتباره ظاهرة فكرية في إطار تاريخي واجتماعي يتعرض للمقاومة بتلك الطرق التي تتماثل تماماً مع الطرق التي أدرجتها في لائحة عن المواقف الوظيفية. فالنظرة إلى النقد هي أنه الشيء الذي يفعله النقاد، بصرف النظر عن ظروفهم الدنيوية أو الأرشيفية. إن الإتيان بالنقد معناه فعلك ماكان موضع الفعل على الدوام، ودون التحدث عن أي تغيير أوماض.
وأما بالنسبة لجامع المقتطفات فإن اختيار هذا أواستبعاد ذاك، فأمر يمليه على الأغلب مجرد استغلاق إدراك احتمال الاختيار عليه، وذلك لأن فهم المقتبسات شيء أصعب حتى من فهم كتاب كامل، إذ إن الترزيم أكثر صلة بذلك التجميع من الدقة التاريخية لابل ومن الدقة الجمالية أيضاً. بيد أن الحالة ليست دائماً على تلك الشاكلة. إن ما نكتشفه، حينئذٍ، هو ذلك التفادي المقصود المتعمد للنقد الذي يتمركز حول النص كشيء مغاير للمناسبة النقدية، أي كشيء أكبر تاريخياً ومادياً من تلك المناسبة. ففي هذه الحالة أقصد بالمادية تلك الطرائق التي يكون فيها النص. مثلاً معْلماً، موضوعياً ثقافياً نجدّ في طلبه، نحارب من أجله، نتملكه أو ننبذه أو نناله في زمن معين. وعلاوة على ذلك فمادية النص تتضمن أيضاً مدى سلطانه. فلماذا ثمة نص يتحلى بالرواج في وقت من الأوقات، وبالعودة إلى الذهن في أوقات أخرى، وبالانطواء في مجاهل النسيان في وقت ثالث؟ (12)، إن صيت الكاتب “fama”، أي شهرته ومنزلته، ليس شيئاً مستديماً بحال من الأحوال، وللسبب السابق نفسه. فهل تعليل هذا التحول، أو هذا التقلب على الأقل، ضمن عمل الناقد؟ إنه ضمن عمله على ما أعتقد. وصار الآن ضرورة أكثر إلحاحاً ولاسيما بعد أن عمد فوكو إلى توسيع وصقل إمكانات تمحيص المبادئ تاريخياً وعلمياً إلى هذا المستوى الرفيع.
إن منهج فوكو يقضي بدراسة النص كجزء من أرشيف يتألف من أحاديث تتألف بدورها من مقولات. وباختصار فإن فوكو يتعامل مع النصوص كجزء من منظومة انتشار ثقافي -منظومة ذات انضباط صارم وذات تنظيم محكم، واختراقها عسير. ويحاول فوكو أن يبرهن على أن كل ماهو مطروح في ميدان كالخطاب الأدبي أو الخطاب الطبي لا يمكن إيراده بالشكل الذي يرد فيه إلا بأعظم الطرق اصطفاء وبقليل من الاهتمام بالعبقرية الفردية(13)، وأما أنا فقد سقت الحجج للبراهين على أن أشياء مماثلة تحدث حين تدور البحوث عن ثقافات وشعوب أخرى. ولذلك فكل مقولة إن هي إلا جهد مادي يستهدف تجسيد حيز معين من الواقع بمقدار من الاصطفاء قدرالمستطاع. ولكن هنالك طرائق أخرى للتعامل مع مادية النصوص، وهذه الطرائق ليست بالأقل نقصاً من جراء انعدام توافق الآراء عليها. فنقيض التجسيد كما بحثه فوكو، وهو لا يقل مادية عن التجسيد، يكمن في النفوذ الأدبي بالشكل الذي عمل على تنظيره حديثاً وج.بيت أولاً ومن ثم هارولد بلوم على نحو أكثر تحبيكاً.(4). إن البيئة هنا تشكل أيضاً قسط من الماهية باعتبار أن افتراضهما مفاده أن كل كاتب، ولاسيما الكاتب الرومانسي بعد عصر ميلتون، يدرك مادياً تقريباً أن أسلافه يحتلون ذلك الميدان الشعري الذي يتمنى أن يملأه بشعره الآن، فالتصارع بين النصوص بالنسبة للشاعر ليس، كما يقول بلوم، نزهة استجمام ممتعة، وإنما معركة ضارية تتساقط فيها حراب معمعتها من كل حدب وصوب في صميم موضوع أشعار الشاعر الجديدة، لا بل وتصبح موضوعها نفسه أيضاً. إن مادية النص هنا هي ماهو عليه الشعر، في حين أن التساؤل عما إن كان بمقدوره أن يكون نصاً شعرياً أم لا فشيء ليس بديهية من البديهيات بالنسبة للشاعر. فكل شطر، بوجيز العبارة، عبارة عن مأثرة، عبارة عن حيز مخطوف من بين براثن السلف، وحيز يعبئه الشاعر بكلماته التي يتوجب على شاعر لاحق أن يتعارك معها حين يؤون الأوان. إن عائلة الشعر الرومانسي،كما يصورها بلوم، تلد شعراً دفاعياً، إبناً أسير التقييد والقلق الدفاعي.
فالشيء الذي يتشاطره كل من فوكو وبلوم وبيت هوأن عملهم يدور حول الموقع الذي يحتله النص في هذا العالم، وهو يحتله لنفسه فعلاً. إن العالم الذي يختاره فوكو هوعالم الثقافة بالطبع، وهو العالم الذي يدعوه "بفرع من فروع المعرفة"، في حين أن عالم بلوم وبيت هو عالم الفن. وهذا مايشبه تقريباً القول بأن النقد يجب أن يكون في العالم على الدوام ، وبأن أي عالم سيكون وافياً بالغرض تماماً. بيد أن ذلك التصورماهو إلاتصور متهافت، مع العلم بأنه التصور الذي حاولت سابقاً صقله قليلاً في هذا الكتاب. ولكن الجدير بالذكر أن الخطاب النقدي المعاصر يعيش خارج إطار أي عالم في هذه الأيام وفي حالة خدر بين الحين والحين، لا بالمقارنة مع فوكو وبيت وبلوم ليس إلا، بل وبالمقارنة مع ذلك التجاهل غير المعقول لعمل ريموند شواب(15)، فمع الأخذ بعين الاعتبار أن الكثير من العمل القيم فعلاً والجاري في أمريكا الآن في مضمار النظرية والدراسة الأدبيتين عمل يتناول الحركة الرومانسية (ولاحظوا بالمناسبة أن المقتطفات التي أمامنا هزيلة إلى حد لافت للنظر بخصوص الدراسات النقدية لمبادئ الشعر وأشكاله أو فيما يتعلق. بمختلف النظريات عن الأداء الشعري)، ليس هنالك أي سبب وجيه على مايبدو لاستبعاد شواب. إن فرضيته في كتابه المعنون بـ "الانبعاث الحضاري الشرقي"، (La Renaissance orientale) لفرضية بسيطة ألا وهي: أن من المتعذر فهم الحركة الرومانسية مالم يؤخذ بالحسبان شيء من المكتشفات اللغوية والنصية العظيمة التي قامت عن الشرق خلال مؤتمر القرن الثامن عشر ومقدم القرن التاسع عشر. ولكي تتوفر القناعة بمثل هذه الفرضية يجب تعزيزها بمقدار هائل من التفاصيل المستمدة من التاريخ والسوسيولوجيا والأدب والاستشراق الأكاديمي نفسه ومن الفلسفة وعلم اللغة أيضاً. ولما كانت التفاصيل متوفرة لدى شواب فإنه ينظمها، علماً أن هذا التنظيم أقرب لصلب الموضوع بالنسبة لمنظرٍ نقدي، بمنتهى الفخامة لا وفق مخطط تنقيص مستقيم بل في ضوء تحليل رائع لعملية تلقيح ثقافي، بدأت تدريجياً ومن ثم تسارعت باطراد، تلفح بها الشرق بالثقافة والمجتمع الأوربيين، إن وجهة نظر شواب تكمن في أن النصوص ماهي إلا نتيجة مجابهة بين أفكار مألوفة وأفكار غريبة، بيد أن هذه المجابهة ظرفية ومادية إلى حد بالغ، كما حين يغامر بحياته آنكويتيل دوبرون في محاولة منه للأطباق على نصوص الزند آفيستا في مرفأ سيورات بالهند، ومن ثم يترجم تلك النصوص لمصلحة الثقافة الأوربية ككل. إن تلك الوقائع المتعلقة بأمثال هذه المجابهات، وهي بالمناسبة وقائع لا عدّ ولا حصر لها ودقيقة في بعض الأحيان، يتقصد تسخيرها شواب لدعم رأيه عن التغيير الذي طرأ على المؤسسات الثقافية الأوروبية كنتيجة لتلقيها الشرق. فبعض النصوص الخاصة تحظى بالنظر إليها من ذلك المنظور الذي يستطيع أن يجذب إليه لا الصالون الأدبي وحده، بل والمتحف والمخبر والأكاديميات العلمية وحتى المؤسسات البيروقراطية والحكومية.
إنني أستشهد بشواب وفوكو وبيت وبلوم كرموز لاتجاه مفتوح لا يمن فيه حمل النقد على محمل الجد إلا إذا كانت الدراسة سوف تتناول الأدب بطريقة مدركة ذاتها بذاتها - وطريقة ذات بعد مكاني وزماني أكبر مما هي عليه الآن، على الرغم من أنها لاتنطوي في الوقت نفسه.
على بعد نظري أقل. وهنا ليس من المنطق في شيء أن أستفيض في وصف المكاني والزماني لأن الواجب يقضي أن يكون من الواضح أنني أقصد بهما الدنيوي والتاريخي. فالأدب من إنتاج الكائنات البشرية في صميم الزمان وفي قلب المجتمع، وهي أنفسها الأدوات التي تحرّك تاريخها الفعلي كما أنها، علاوة على ذلك، تلعب أدوارها في ذلك التاريخ بشكل مستقل إلى حد ما. لقد افترض النقد الطليعي المعاصر، لسبب ما، أن العلاقات فيما بين النصوص بعضها بعضاً، وفيما بين النصوص والمجتمع شؤون تحت رعاية الهيكل العلوي، أو تحت رعاية ذلك الشيء المدعو بالدراسة التقليدية، ولكن ذلك الافتراض ليس موثقاً إن كان المرء يقصد بالعلاقة بين النصوص والمجتمع شيئاً كالتعقيد المنسوب لها من قبل بنيامين (تلميذ بودلير)، أو غولدمان في "الإله الخبيء"، “Le Dieu cashé” أولوكاش. فالدراسة التقليدية المزعومة قلما كانت تتحلى بتينك الدقة والرؤيا المنهجيتين اللتين يتحلى بهما أمثال هؤلاء النقاد. بيد أن النقاد ذوي الشأن يتميزون بتلك الميزة والعظيمة التي مؤداها أن الأدب يكون قيد الإنتاج من جراء نصوص أخرى وشعراء آخرين، في صميم توادهم لا رغم أنوفهم. لقد اشتط شواب وفوكو أكثر مما ينبغي في تحديد القيود الاجتماعية والخارجية المفروضة على الإنتاج. فضلاً عن تحديد النظم الاستطرادية والثقافية (أي الداخلية)، التي تحفز الإنتاج الأدبي وتستوعبه.
إن كيل الإطراء والإعجاب لهؤلاء النقاد الفياضيين تاريخياً لا يعني بحال من الأحوال غض الطرف عن المعضلات التي تعتور نظريتهم وممارستهم. ولكنهم، من منطلق المعرفة، لم يقولوا أي شيء متميز بذلك الحسم القاطع الممل والنيّرتقنيا ليسم أداء نقدياً بنيوياً “critifact” إن دفعتنا الحاجة لنحت كلمة جديدة لوصف شيء لا يعدو أن يكون في واقع الأمر أكثر من كلمة تحليلية جديدة. ومع ذلك ففي رأيي أن عمل شواب وفوكو يبالغ في إضفاء القيمة على التغيير الدرامي، علماً أن هذا القول نفسه ينطبق تماماً على بيت وبلوم لأنهم كلهم يعتبرون التاريخ الأدبي دراما ثابتة إلى حد ما تتوالى فيها العصور العظيمة، بخطى متثاقلة، عصراً إثر عصر آخر. وهكذا فإن التاريخ يصبح في جوهره ، حينئذٍ، "سلسلة متوالية على نسق واحد على الرغم من أن الشيء الذي يعقب الشيء الآخر موصوف بتفاصيل بالغة التعقيد وعلى أنساق شتى. وفي عهد أحدث حاول فوكو، محاولة مبرمجة تقريباً، أن يفهم التاريخ النصي في ضوء تلك الوقفات النسبية التي دعاها (اقتباساً من براوديل): "بالتحركات البطيئة للحضارة المادية"(6)، ولربما إن إعادة التركيز هذه على الكيفية التي تحافظ بها النصوص على التاريخ، بدلاً من تبديله على الدوام، ماهي إلا عودة إلى الاهتمام القديم الذي كان يهتمه فوكو برايموند روسيل: "إن آلية روسيل لا تختلق الوجود، وإنما تحافظ على الأشياء في صميم الوجود"(17).
ترى، ماهو ذلك الشيء الذي يحفظ النصوص في صميم الواقع؟ وماهو الشيء الذي يؤدي إلى رواج بعض النصوص واختفاء بعضها الآخر؟ وكيف يصور الكتاب لأنفسهم "أرشيف"، زمانهم الذي ينوون وضع نصهم فيه؟ وماهي مراكز الانتشار التي من خلالها تروج النصوص؟ فمثلاً ماهي النظائر التي كانت موجودة في الثقافة الإنكليزية في مطلع القرن التاسع عشر لتلك الأكاديميات الفرنسية والصالونات الأدبية العلمية الباريزية كوسائط للانتشار القومي والتنظيمات الثقافية؟ إن نظرية غولدمان عن البنى المتماثلة لاتمضي قدماً إلى الأمام بما يكفي حتى للبدء بالإجابة على هذه التساءلات، على الرغم من أنها تستبق بعضها. وعلاوة على ذلك فنحن بحاجة أن نفهم، وبمنتهى الدقة الدور الذي تلعبه الدراسة النقدية في إنتاج الأعمال "الأدبية"، علماً أن هذه القضية هي المسألة التي أثارها بشكل جاد كل من أوسكار وايلد ونيتشه، وعلى سبيل المثال، ما مقدار الأثر الذي خلفته على الشعر تلك المكتشفات الفيلولوجية العظيمة المعاصرة للحركة الرومانسية الأوربية، مع التذكير بأن كولريدج والأخوين شليغل وهولدرلين وشاتوبريان وغيرهم كانوا كتاباً من ذوي الاهتمام العميق بتلك المكتشفات؟ ماهو المنهج الذي بحوزتنا حتى نشبّه منهجياً أمثال هذه المؤسسات الكلامية، في عصر اجتماعي معين، بالسرد القصصي أو الفيلولوجيا أو التاريخ؟ ماهي الطريقة التي ترتبط بها الإتيمولوجيا في الفيلولوجيا بتفاقم الحبكة في الرواية؟ فلئن تدعو كل هذه الأشياء بالظواهر النصية لجواب قلما يحظى بالقناعة، بيد أنه الجواب الوحيد المتاح لنا حتى حينه. ففي أية لحظة، يا ترى، بالنسبة للتاريخ الأدبي تقوم الصدوع في العلاقات بين اللغة والفلسفة والدين، وهي الميادين التي وضعت موضع التراصف في نهاية القرن الثامن عشر، ومتى يقوم التقارب الجديد بين اللغة والتاريخ الطبيعي (ولاسيما التشريح المقارن)، بحلول الثلث الأول من القرن التاسع عشر؟ هيا وفكروا في القرب بين لوك، وستيرن، ومن ثم فكروا في الكيفية التي يأتي فيها معاً بعد جيل واحد بلزاك وكيوفيير أوجيوفري دي سانت هيلير. ومامن سؤال بهذا المضمار عن استمداد الأفكار بل عن رواجها الضمني، أو عن تكرار رواجها إن كنا نحبذ هذا التعبير.
إن أي اهتمام بهذه الأسئلة ومثيلاتها يجب أن يجرّ النقاد إلى أعماق الأساس المنطقي لعملهم. فإحدى الخسائر المؤسفة في الخطاب النقدي المعاصر هي إحساس النقاد ذات مرة بأن عملهم لا يعدو أن يكون مغامرة فكرية. وثمة تقليد سابق، وهو التقليد الذي دام حتى منتصف القرن الثامن عشر، كان يتمثل في أن النقاد كانوا يعتبرون حياتهم ذات قيمة مثلى، حتى إن سيرتهم الدراسية كانت نوعاً أدبياً مفروغاً منه. وفي كلا هذين المثلين كان مايفعله النقاد، أي كيفية مضيهم من عمل إلى آخر وكيفية صياغتهم مشاريعهم، يلقى معاملة حيز ذي مغزى من خبرتهم المنهجية، لامعاملة نزهة استجمام. وإن ما أقصده في التنبيه إلى هذه الجوانب التاريخية من الممارسة النقدية هو إبداء مصادقتي على قيمتها بالنسبة لمستقبل الخطاب النقدي. فمن منطلق بيداغوجي هنالك كل الأسباب الوجيهة لاعتبار اختيار موضوع ما وصياغته بأنهما لا بداية مشروع نقدي وحسب بل والمشروع النقدي نفسه. ولو تيسر لنا الحصول على بعض التقارير من النقاد عن الشيء الذي قادهم إلى مشروع معين، أي عن سبب وكيفية صياغة ذاك المشروع، وعن كيفية اضطلاعهم بعبء تكميله وفي أي سياق، لانفتحت أمامنا الفرص لدراسة مستقبلية من نوع هام جداً، ولكان بمقدورنا أن نفهم لا وحدنا توا وإلى الأبد أن النقد يخلق موضوعه -دون أية مشكلات متناثرة هنا وهناك بمنتهى البساطة جديرة بالمعالجة -ولكان أيضاً بمقدور النقاد الشباب أن يفهموا أن النقد ماهوإلا تلك الفاعلية التي تتمثل مقاصدها الأساسية في توطيد أركان المعرفة وتعاظم الخطاب النقدي وانعتاقه من التقييد إلى الحرية النسبية، ولئن كان النقاد يشعرون اليوم بالشلل جراء الصعوبة المحض في العثور على موضوع يكتبون عنه، فالسبب يعود إلى أنهم لما يحققوا بعد دور الخلق المستقل في مضمار النقد.
إن الخطاب النقدي لا يزال أسير الشرك الساذج المتمثل بوضع الأصالة قبالة التكرار، والشرك الذي يخلع التصنيف الأول على كل النصوص الأدبية الجديرة بالدراسة، في حين أن التصنيف الثاني مقصور منطقياً بالأساس على النقد وعلى كل ماهو غير جدير بالدراسة. فأمثال هذه المخططات مدعاة لشلل مهلك كما سبق وسقت الأدلة على ذلك. وهي على خطأ حين تعتبر اتساق معظم الإنتاج الأدبي بأنه أصالة، في الوقت الذي تصرفيه على أن العلاقة بين "الأدب"، والنقد ماهي إلا علاقة أصل بفرع، فضلاً عن أنها تتغافل في الأدب التقليدي وفي الأدب الحديث، سواء بسواء، عن استخدام التكرار ذلك الاستخدام التأسيسي الهام والعميق -كموضوع وأداة والبيستميولوجيا وأنطولوجيا. ولربما أن نظرة كهذه إلى التكرار لم تبلغ مبلغ الانجلاء إلا في القرن التاسع عشر (كما هو عليه الأمر لدى كير كيغارد وماركس ونيتشه)، على الرغم من أن كيريتوس وأورباخ قد علمانا أن الحالة لم تكن فعلاً على تلك الشاكلة. فلئن أخذنا الفن الروائي كمثل إضافي لوجدنا أن بناءه أقيم، منذ بداياته الأولى، حول تلك الصورة الملصة للعائلة التي نجد فيها أن الديمومة الظرفية الكرارة لها أسيرة التصادم مع بروز البطل "الأصلي" بشكل مباغت. ترى، ماهي الغاية عن هذا الاطراد الشكلي إن لم تكن حفظ و***** وتكرار شكل الرواية في صميم "الحركات البطيئة للحضارة المادية؟".
وأما فيما يتعلق بالعلاقات، من حيث القيمة، بين الأصالة وبين أفكار الجدة، أو الأولوية أو "الأول" - فهذا أمر عويص. فكل النقاد يسلمون بداهة أن هنالك علاقة مابين عمل عظيم وبين أسبقيته. إن نظرية بلوم عن النفوذ مبنية حول هذا التصور الذي مفاده أن عملاً عظيماً يتحلى بالسلطة لأنه كان الأول، أي لأنه جاء قبل غيره من الأعمال وجاءته السلطة بحق الشغعة. وإن أمثال هذه الأفكار تحمل معها الآن فهماً بمنتهى الوضوح لمعنى أن يكون العمل هو الأول أو أنه جاء أولاً. فضرورة مثل هذا الوضوح البيولوجي -فهو بيولوجي لأن "الأول" يعني في السياق "الأب"، و"الثاني" يعني "الابن" - بالنسبة لبلوم ليس البتة موضع تساؤل، وليس بحال من الأحوال شيئاً عرضياً لدى استخدامه له في بحثه عن إساءة قراءة الشعر. وأما بالنسبة لغيره من النقاد الآخرين فإن الأولوية مرتبطة ارتباطاً واهياً تقريباً بالجدة، بالمجيء أو الحدوث أولاً، بأسبقية بسيطة، وكأن التاريخ يشبه سلسلة من الأطفال المولودين الواحد بعد الآخر من الماضي حتى الحاضر إلى مالا نهاية له “ad infinitum” فتصور الزمن التاريخي الاجتماعي مثل هذا التصور التسلسلي التوالدي الممنوع من التقليص ليحجب تماماً تلك المشكلة الطريفة المتعلقة بالنشوء، زد على أنه التصور الذي لا تحظى فيه الظواهر الثقافية بشرف الأسبقية أو الولادة العجائبية، بل تلقى معاملة جمهرة من الأفكار التي لاتنفك عن النشوء "دوماً وأبدا في الخطاب(18). وإن الأحداث الثقافية لا يكون مآلها أحسن الفهم حين تكون موضع النظرة وكأنها كائنات بشرية مولودة في يوم معين، إذ أن الماضي ليس زمرة من أمثال تلك الولادات، فضلاً عن أن الزمن لا يتحرك كالساعة على شكل لحظات متفردة.
فلئن كان تاريخ العلم قدتعلم أن يتعامل مع مشكلة النشوء، فلم لا تتعلم ذلك النظرية الأدبية؟ وماهي الحدود التي تحدد تسخير دورة الحياة البشرية كنموذج للتاريخ الأدبي"؟ وما مدى الفائدة بالفعل من منهج نقدي قائم على وحدات مجسّمة للأصالة كالعمل" أو الكاتب أو الجيل وما شابه ذلك"؟ وأية مفردات بمقدورنا أن نستخدم من تلك المفردات التي تعالج العامل البشري وتعالج أيضاً خطاب البنية الأدبية ذلك الخطاب الكرار غير المشخص.
فهنالك أسئلة صعبة جديرة بالإجابة، ولكن لا مناص منها لتطور ذلك الخطاب النقدي الذي سيكون جاداً فكرياً ومستجيباً اجتماعياً بأعراض المعاني الإنسانية.وليس من الممكن ديالكتيكياً تحديد القوة الحقيقية للتهديدات التي تحيق، في التاريخ الأدبي والمؤسسات الأدبية؛ بالترابط المنطقي أو النظام إلا إذا حدث مثل ذلك التطور وحسب. فما من سبيل لإدراك هذه المخاطر مادامت النظرة إلى التاريخ الثقافي على أنه سلسلة خاملة من الولادات والميتات. فإذا كانت الثقافة مصونة مادياً، لن يكون بوسعها إذاً أن تكون معتمدة على أحداث بل على مؤسسات مبنية بأيدي الرجال والنساء، مع العلم أن هذه المؤسسات تتمتع أيضاً بتاريخ مستقل خاص بها.
إن النقيض الديالكتيكي للحضارة المادية الكرارة التي ما فتئت أشير إليها هو مجموعة من القوى المتحالفة التي دعاها بلا كمور بشكل جماعي باسم “Moha”(19)، والتي حضورها في الحياة البشرية يزعج ويبدد المفهوم الذهني للقسر الذي تمارسه الثقافة. فواحد من تلك الإنجازات المتميزة التي أنجزها النقد التحليلي النفسي كان محاولة التعامل مع "الموها ـ Moha"، ولكن مؤشرات العصاب، أومجرد الرغبة في اعتبار هذه القوة شاذة ثقافياً (وحصرها بعد ذلك بنقائص الفنان العصابية)، هي ماكانت تخلص إليه تلك المحاولة في أغلب الأحيان. وإن تزايد الاهتمام حديثاً في فرنسا بنيتشه وفرويد أنقذ الموقف، مع أننا لا نزال بأمس الحاجة لوصف يزيد في تحديد المكان الذي دخلت فيه الموها إلى ميدان الأدب. وما هذا التيار في التحليل النقدي إلا التيار الذي استهله بمنتهى الفاعلية جورجز باتيل في عام 1933، بمقالته المعنونة بـ "مفهوم الأعباء" (La Notion de dépense) (20)، علاوة على أن الاضطلاع بعبء تأريخ زمان هذا التحدي لم يقم به إلا كتاب "توقان الإنسان للفوضى)، لمورسى بيكهام وكتاب "الذات إبان إنجازها"، لريتشارد بويرير.(21).
إن تفاعل النظام واللا نظام يؤطر المعنى الشتيت بالأصل للنص الأدبي. ولكن ضمن ذلك الإطار هنالك نسق كامل من الأسئلة التطورية المهملة منذ ذلك الهجوم الذي شنه على المغزى ويمات وبيردسلي في بحر عام 1944-1945، والذي بقي كاسحاً على قدم وساق في مقالة ويمات القوية المعنونة بـ"سفر التكوين: التعريج على مغالطة من جديد" (22)، وبالتأكيد على المرء أن يشعر بأن تلك الثنائيات - من أمثال الذاتية /الموضوعية والداخلي/ الخارجي والكاتب/ القصيدة وهلم جرا- التي يتشبث بها ويمات وآخرون تنتزع ثمناً باهظاً جداً فيما يتعلق بالفهم والإدراك.
وعلاوة على ذلك هناك فيض كبير من الأدب الحديث الذي يتوصل إلى القراء كي يقوموا بقفزات مقصودة للولوج في ذات الكاتب وفي ذواتهم هم (راجعوا مقالة تريلينغ المعنونة بـ "حول تعليم الأدب الحديث" أومقالة بلاكمور المعنونة بـ "سنوات الكوارث ـ Anni Mirabiles")(23). فالحدود الصارمة بين النفس والموضوع أو بين الذات والعالم تشجع قيام فرع تعليمي مفيد ولو أنه أولي، مع العلم أن تلك الحدود لا تصف شيئاً أكثر من واقع تحليلي. "إن أي مظهر من الظواهر الفكرية والغنية ما هو إلا من عمل كاتبه وحده دون سواه علاوة على أنه يعبر عن فكره وعن طريقة شعوره، بيد أن هذه الطرائق التي تعبر عن التفكير والمشاعر ليست كينونات مستقلة فيما يتعلق بأفعال وسلوك الناس الآخرين. وقد لا يكون بالإمكان فهمها. على الرغم من وجودها، إلا في ضوء علاقاتها الذاتية الداخلية التي تمنحها كل مغزاها وغناها"(24)، فإذا اعتبرنا هذا لشيء من المسلمات، كما يعتبهر غولدمان، تتمثل مسؤوليتنا عندئذٍ في الإقدام على المغامرة خلف البقية الباقية من الحدود.
وهكذا لا أرى أية فائدة خاصة في الإصرار على القول بأن القصيدة موضوع قائم بأم عينه وموجود بشكل مستقل عن أي سياق: إذ أن من الواضح أنها ليست بكذلك. فكل قصيدة أو شاعر تعبير بالإكراه عن تكتلات جماعية. وأما ما يصبح مشكلة نظرية طريفة بالنسبة للنقد فهو تجديد الكيفية أو الزمان أو المكان الذي يمكن فيه القول عن الشاعر أو القصيدة بأنه تعبير طوعي (شخصي ومقصود)، عن الاختلاف والجماعة، فهنا أصل التكوين ليس بالفكرة التجريبية البسيطة كتاريخ الولادة، وليست له أية قوة تطورية خاصة للإتيان بالتوضيح، ولا بعدو أن يكون إلا اختباراً ذهنياً للتأويل النقدي. وإن الاعتراف بأن ما بحوزتنا الآن ليس أكثر من بضع فرضيات عن الإنتاج الأدبي لشيء مختلف جداً عن القول دون تحفظ أن من غير الممكن بتاتاً وجود فرضية تطورية مرْضية. فالتطرق التدميري لما هو في خاتمة المطاف بحوزة الناقد كوجود تاريخي مرهف الحس -ألا وهو القدرة على صياغة مظان تطورية - لتنكر صارخ لقسط مامن إنسانية الناقد ذكراً كان أم أنثى، وذلك لأن المظان التطورية، من مثل كيفية أو سبب تقيّض الكتابة للعمل الفلاني، ليست بأسانيد وحيدة الاتجاه تعزو عملاً ما إلى سيرة أو مجتمع ما أو إلى شيء آخر، شأنها بذلك شأن الدراسات النصية أو الصنمية التي ليس عليها دائماً أن تستبعد السياق التاريخي الذي يغلف النص. إن المظنة التطورية تقر وجود فكرة العامل البشري في صميم العمل -مع أنها ليست بحد ذاتها فكرة جسورة. ولكن الالتزام بالتأويل العقلاني وفق هذه الأسس يشتط إلى حد احتوائه، كقسط من الديالكتيك، وعي الناقد نفسه في صياغته ماهو فاعل، أو ماهي فاعلة. فمن الواضح أن هذا الوعي يتزايد ويخضع للصقل في نفس فعل صياغة طريقة نقدية.
ولربما أن إحدى الطرائق لتخيل المسألة النقدية للتكوين الفني هي النظر إلى النص على أنه ساحة دينامية، لا كتلة جامدة، من الكلمات، وهذه الساحة لها سلسلة معينة من الصلات، أي منظومة من المجسات (التي دأبت على دعوتها بصلات التقرب)، الكامنة جزئياً والفعليةجزئياً: بالنسبة للكاتب وللقارئ ولحالة تاريخية ولغيرها من النصوص وللماضي والحاضر سواء بسواء. فبمعنى من المعاني ما من نص يبلغ نهايته وذلك لأن سلسلة صلاته المحتملة خاضعة للتمديد على الدوام بواسطة أي قارئ إضافي. وها قد صار من الواضح الآن أن مهمة الناقد بادئ ذي بدء أن يفهم الكيفية التي صيغ ويصاغ بها النص (مع العلم أن الفهم في هذه الحالة فعل تخيلي). فما من تفصيل من التفصيلات بالغ التفاهة شريطة أن تكون دراسة المرء موجهة بمنتهى العناية نحو النص ككل ثقافي وفني حيوي.ولذلك فإن الناقد يقلد أو يكرر النص في تمديده له منذ البدء إلى أن يصبح كلاً متكاملاً، على غرار بيير مينارد. أو على غرار بروست في معارضاته (pastiches)، لفلوبير وبلزاك ورينان والأخوين غونكور. ففي التحولات التي أجراها بروست على الكتاب الذين قلدهم، كان يضع نصب عينيه هدف تقديمهم مروراً بهم من فتحة في ممر حتى نهايته. ومامن سبيل لنا إلا الاستنساخ حتى نتمكن أن نعرف الشيء الذي كان قيد الإنتاج وما معنى الإنتاج الكلامي بالنسبة لكائن بشري: وهذا جوهر المبدأ الفيشي([7]) Vichian الامر الذي لا ينطوي على فعالية أقل بالنسبة للناقد الأدبي الذي يعتبر أن أصل التكوين لعمل بشري ما هام وعلى أوثق ارتباط بصلب الموضوع مقدار أهمية وارتباط وجود العمل.

nnnn

* أي تعبيراً معادياً للسامية والشيوعية- المترجم.

* معانيها على التوالي: أسرة أو عشيرة كريمة الأصل، أسر أو عشائر كريمة الأصل، قرابة أو عصبية، زوجية، خصية أو أب- المترجم.

([1]) المترجم ـ “als den Ersatzmann Napoleons”

([2]) أوغست روديه، نحات فرنسي، (1840-1917)، مشهور بتصويره الهيئة البشرية، المترجم.

([3]) عفو الخاطر: bricolage.
حل الألغاز: décodage.
تزويق: découpage - المترجم.

([4]) - عنوان دراسة نقدية بهذا العنوان. لرولان بارت _ (المترجم).

([5]) - كما هو أو كما هي - المترجم.

([6]) قراءة على ضوء علم دلالات الألفاظ أو الكلمات - المترجم.

([7]) المبدأ الفيشي:معاداة السامية والشيوعية، المترجم.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59