و فيما يخص ما رُوي من أنه –أي محمد بن أبي بكر- ضرب عثمان عندما دخل عليه ، فقد عثرتُ على روايتين صرّحتا بذلك ، فقالتا أنه لما دخل عليه و شدّه من لحيته ثم تركه ، أخذ مشقصا و ضربه به على رأسه[1] . لكنهما- أي الروايتان- لا يصحان ، لضعف إسناديهما[2] ، و مخالفتهما للروايات السابقة الذكر . و مع ذلك فيوجد ما يُشير إلى أنه عندما ترك عثمان لم ينصرف عنه دون تحريض ، فقد روى ابن أبي بكر الهيثمي[3] أن محمدا عندما ترك عثمان استدعى رجلا ممن كانوا معه ، فأخذ الرجل مشقصا و ضرب به رأس عثمان[4] .
و بذلك يتبين لنا أن ما قاله ابن كثير في تبرئة محمد بن أبي بكر من قتل عثمان بيده هو قول صحيح ، ، لكن ذلك لا يعني أنه لم يشارك في التحريض و الإعانة على قتله ، فذلك صحيح و ثابت في حقه .
و أما السادس –أي كنانة بن بشر التجيبي- فقد عثرتُ على أربع روايات ذكرت أنه هو الذي قتل عثمان[5] . لكنها هي الأخرى لا تصح ، لأنها ضعيفة الأسانيد[6] ،و تخالفها روايات سبق ذكرها ،و أخرى تأتي قريبا .
و السابع – أي محمد بن أبي حذيفة- لا يُعرف أنه جاء مع رؤوس الفتنة إلى المدينة ، و لا شارك في قتل عثمان، إلا أن الحافظ ابن عساكر روى أن محمد بن أبي حذيفة ،و كنانة بن بشر ضربا عثمان بسيفيهما فقتلاه ،و هو يقرأ في المصحف ، فسقطت قطرة من دمه على قوله تعالى : (( فسيكفيكَهُمُ الله ))[7]-سورة البقرة/137- . لكن هذا الخبر لا يصح ، لأن إسناده ضعيف[8]، و تخالفه الروايات الصحيحة و الضعيفة التي ذكرناها آنفا، و ترده أخبار أخرى صحيحة ذكرت أن محمد بن أبي حذيفة بقي بمصر ،و استولى على الحكم بها عندما غادرها عبد الله بن سعد بن أبي سرح متوجها إلى عثمان[9].
و آخرهم –أي جبلة بن الأيهم[10]- الراجح أنه هو قاتل عثمان ، فقد عثرتُ على أربع روايات صحيحة الأسانيد[11]، رواها كِنانة مولى صفية أم المؤمنين-رضي الله عنها- و مفادها أن كنانة قال أنه رأى قاتل عثمان ،و هو من أهل مصر يُقال له جبلة بن الأيهم ، قتله و خرج يصيح و يقول : أنا قاتل نعثل[12]-أي عثمان- .
لكن ذلك لا يعني أن رؤوس الفتنة الآخرين أبرياء ، و إنما المقصود أن جبلة بن الأيهم هو الذي قتله بيده، و الباقون شاركوا في قتله بالتحريض،و الإعانة و الضرب . و إذا كان هؤلاء يتحملون وزر قتل الخليفة الشهيد ذي النورين عثمان بن عفان ، فهل كانت للصحابة مشاركة في قتله ؟ .
رابعا : هل شارك الصحابة في قتل عثمان ؟ :
زعمت بعض الروايات أن الصحابة بالمدينة هم الذين حرّضوا رؤوس الفتنة على الثورة على عثمان ،و كاتبوهم بالقدوم إليه لقتله ،و أنهم شجّعوهم على ذلك ،و رضوا بقتله . فهل هذا الزعم صحيح ؟ .
أولا هذا زعم باطل ، لأن الروايات[13] التي زعمت ذلك أسانيدها ضعيفة، و تخالفها روايات أخرى صحيحة الأسانيد[14] . أولها –أي الضعيفة- ما ورد في كتاب الإمامة و السياسة[15] من أن رؤوس الفتنة عندما رجعوا إلى المدينة ثانية ، اخرجوا كتابا للصحابة نسبوه إليهم ، فحواه أنهم هم الذين كتبوه و أرسلوه إليهم يطلبون منهم المجيء إلى المدينة ليُخلّصونهم من عثمان الذي ظلم و بدّل السنة ،و افسد الدين و الدنيا[16] .و هذه الرواية غير صحيحة ، لأن راويها ذكرها بلا إسناد ،و هذا وحده كاف لردها كلية ، لأنها فقدت شرطا أساسيا من شروط صحة الخبر و تحقيقه ، و من ثم فهي تصبح مجرد دعوى فارغة ، و الدعوى لا يعجز عنها أحد ،و هي رأس مال المفاليسن علميا .
[1] ابن سعد: الطبقات، ج3 ص: 73-74 . و الطبري: التاري× ج 2ص: 177 .
[2] رواهما محمد بن عمر الواقدي ، و هو ضعيف كذاب. الذهبي: الميزان، ج3 ص: 194.و ابن الجوزي: الضعفاء، ج 3 ص : 87 .
[3] خبره مقبول ، لأن رجاله ثقات ما عدا وثاب، و هو معروف دون أن يُذكر فيه جرحا و لا تعديلا . الهيثمي: المصدر السابق، ج 7 ص: 231.و ابن أبي حاتم : الجرح و التعديل ، ج 9 ص: 48 .
[4] الهيثمي: نفسه ج 7 ص: 231 .
[5] ابن حجر: الإصابة، ج 5 ص: 654 .و الطبري: التاريخ، ج 2 ص:177 .
[6] الأولى رواها ابن حجر بلا إسناد ، و الثلاث الباقية في كل منها محمد بن عمر الواقدي، و هو ضعيف متروك ، متهم بالكذب.
[7] ابن عساكر: المصدر السابق، 39 ص: 408 .
[8] من رجاله : محمد بن هشام المستملي،و الحسين بن عبد الله العجلي، لم أعثر عليهما في كتب الجرح و التعديل، و قال الهيثمي عن الأول ، أنه لم يجد من ذكره ، ( مجمع الزوائد، ج 1 ص: 324 ) فهما إذن مجهولان .
[9] هذه الروايات سبق ذكرها في مبحث الكتاب المزور من هذا الفصل .
[10] يُوجد رجلان مشهوران بهذا الاسم ، الأول غساني دخل في الإسلام ثم ارتد عنه زمن عمر بن الخطاب، و الثاني مصري، و هو الذي نتكلم عنه في بحثنا هذا . ابن سعد : الطبقات، ج 1 ص: 265
[11] الأولى رواها ابن سعد و رجالها : احمد بن عبد الله بن يونس ،و زهير بن معاوية، و كنانة مولى صفية، و هؤلاء ثقات . ( انظر: ابن أبي حاتم: الجرح و التعديل، ج 2 ص: 75.و ابن حبان : الثقات ، ج5 ص: 339 .و العجلوني: معرفة الثقات، ج2ص: 228 .و ابن حجر: النقريب، ج 1 ص: 462 ) ز الثاني رواها إسحاق بن راهويه ، و ذكر المحقق أنها مقبولة ( مسند إسحاق بن راهويه، ق: 4-5 ، ج 1ص: 262) و الثالثة رواها ابن عبد البر، و رجالها : أسد بن موسى الأموي،و محمد بن طلحة بن مصرف،و كنانة مولى صفية ، و هؤلاء ثقات . ( الذهبي: ج10ص: 162، 163 .و العجلوني: معرفة الثقات، ج2 ص: 241 ) و الرابعة ، رواها الحاكم : المستدرك ، ج 3 ص: 114 ) ، و هي نفسها التي ذكرناها في الرواية الثالثة .
[12] هو لقب أطلقه الأشرار على عثمان بن عفان، لأنهم شبهوه برجل مصري طويل اللحية يسمى نعثلا ، و النعثل هو ذكر الضباع . الذهبي: الخلفاء الراشدون ، ص: 257 .
[13] التي عثرتُ عليها .
[14] سيأتي ذكرها قريبا إن شاء الله .
[15] هذا الكتاب منسوب لابن قتيبة (ت 276ه) ،و نسبته إليه غير ثابتة ،و الراجح أنه مكذوب عليه ، و ليس هنا مجال هذا الكتاب منسوب لابن قتيبة (ت 276ه) ،و نسبته إليه غير ثابتة ،و الراجح أنه مكذوب عليه ، و ليس هنا مجال إثبات ذلك .
[16] الإمامة و السياسة ، ج 1 ص: 52-53 .