عرض مشاركة واحدة
  #12  
قديم 01-09-2012, 10:47 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

الفصل الحادي عشر في أن تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها و نفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة
و السبب في ذلك أنه قد عرف و ثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيلحاجاته في معاشه و إنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك و الحاجة التي تحصلبتعاون طائفة منهم تشتد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً. فالقوت من الحنطة مثلاً لايستقل الواحد بتحصيل حصته منه. و إذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد ونجار للآلات و قائم على البقر و إثارة الأرض و حصاد السنبل و سائر مؤن الفلح وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا و حصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوتلأضعافهم مرات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين و ضروراتهم. فأهلمدين أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم و حاجاتهم اكتفي فيها بالأقلمن تلك الأعمال و بقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات فتصرف في حالات الترف وعوائده و ما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار و يست***ونه منهم بأعواضه و قيمهفيكون لهم بذلك حظاً من الغنى و قد تبين لك في الفصل الخامس في باب الكسب و الرزقأن المكاسب إنما هي قيم الأعمال فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهمضرورة و دعتهم أحوال الرفه و الغنى إلى الترف و حاجاته من التأنق في المساكن والملابس و استجادة الآنية و الماعون و اتخاذ الخدم و المراكب و هذه كلها أعمالتستدعى بقيمها و يختار المهرة في صناعتها و القيام عليها فتنفق أسواق الأعمال والصنائع و يكثر دخل المصر و خرجه و يحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم. و متىزاد العمران زادت الأعمال ثانية ثم زاد الترف تابعاً للكسب و زادت عوائده و حاجاته. و استنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمها و تضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول. و كذا في الزيادة الثانية و الثالثة لأنالأعمال الزائدة كلها تختص بالترف و الغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب و رفه بعوائد من الترف لا توجد فيالآخر فما كان عمرانه من الأمصار أكثر و أوفر كان حال أهله في الترف أبلغ من حالالمصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف. القاضي مع القاضي و التاجر مع التاجرو الصانع مع الصانع و السوقي مع السوقي و الأمير مع الأمير و الشرطي مع الشرطي. واعتبر ذلك في المغرب مثلاً بحال فاس مع غيرها من أمصاره مثل بجاية و تلمسان و سبتةتجد بينهما بوناً كثيراً على الجملة، ثم على الخصوصيات فحال القاضي بفاس أوسع منحال القاضي بتلمسان و هكذا كل صنف مع صنف أهله. و كذا أيضاً حال تلمسان مع وهرانأو الجزائر و حال وهران و الجزائر مع ما دونهما إلى أن تنتهي إلى المدر الذيناعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط و يقصرون عنها. و ما ذلك إلا لتفاوت الأعمال فيهافكأنها كلها أسواق للأعمال. و الخرج في كل سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاءخرجه و كذا القاضي بتلمسان و حيث الدخل و الخرج أكثر تكون الأحوال أعظم و هما بفاسأكثر لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف فالأحوال أضخم. ثم هكذا حال وهران وقسطنطينية و الجزائر و بسكرة حتى تنتهي كما قلناه إلى الأمصار التي لا توفي أعمالهابضروراتها و لا تعد في الأمصار إذ هي من قبيل القرى و المدر. فلذلك تجد أهل هذهالأمصار الصغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر و الخصاصة لما أن أعمالهم لا تفيبضروراتهم و لا يفضل ما يتأثلونه كسباً فلا تنمو مكاسبهم. و هم لذلك مساكين محاويجإلا في الأقل النادر. و اعتبر ذلك حتى في أحوال الفقراء و السؤال فإن السائل بفاسأحسن حالاً من السائل بتلمسان أو وهران. و لقد شاهدت بفاس السؤال يسألون أيامالأضاحي أثمان ضحاياهم و رأيتهم يسألون كثيراً من أحوال الترف و اقتراح المآكل مثلسؤال اللحم و السمن و علاج الطبخ و الملابس و الماعون كالغربال و الآنية. و لو سألسائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر و عنف و زجر. و يبلغنا لهذا العهد عن أحوالالقاهرة و مصر من الترف و الغنى في عوائدهم ما يقضى منه العجب حتى أن كثيراً منالفقراء بالمغرب ينزعون من الثقلة إلى مصر لذلك و لما يبلغهم من شأن الرفه بمصرأعظم من غيرها. و بعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاقعلى غيرهم أو أموال مختزنة لديهم. و أنهم أكثر صدقة و إيثاراً من جميع أهل الأمصارو ليس كذلك و إنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر و القاهرة أكثر من عمران هذهالأمصار التي لديك فعظمت لذلك أحوالهم. و أما حال الدخل و الخرج فمتكافئ في جميعالأمصار أحوال الساكن و وسع المصر. كل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره و اعتبرهبكثرة العمران و ما يكون عنه من كثرة المكاسبة التي يسهل بسببها البذل و الإيثارعلى مبتغيه و مثله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة و كيف تختلفأحوالها في هجرانها أو غشيانها فإن بيوت أهل النعم و الثروة و الموائد الخصبة منهاتكثر بساحتها و أقنيتها بنثر الحبوب و سواقط الفتات فيزدحم عليها غواشي النمل والخشاش و يلحق فوقها عصائب الطيور حتى تروح بطاناً و تمتلئ شبعاً و رياً و بيوت أهلالخصاصة و الفقراء الكاسدة أرزاقهم لا يسري بساحتها دبيب و لا يحلق بجوها طائر و لاتأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة و لا هرة كما قال الشاعر:
تسقطالطير حيث تلتقط الحب و تغشى منازل الكرماء
فتأمل سر الله تعالىفي ذلك و اعتبر غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات و فتات الموائد بفضلاتالرزق و الترف و سهولتها على من يبذلها لاستغنائهم عنها في الأكثر لوجود أمثالهالديهم و اعلم أن اتساع الأحوال و كثرة النعم في العمران تابع لكثرته و الله سبحانهو تعالى أعلم و هو غني عن العالمين.
الفصل الثاني عشر في أسعار المدن
إعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناسفمنها الضروري و هي الأقوات من الحنطة و ما معناها كالباقلاء و البصل و الثوم وأشباهه و منها الحاجي والكمالي مثل الأدم و الفواكه و الملابس و الماعون و المراكبو سائر المصانع والمباني فإذا استبحر المصر و كثر ساكنة رخصت أسعار الضروري منالقوت و ما في معناه و غلت أ سعار الكمالي من الأديم و الفواكه و ما يتبعها و إذاقل ساكن المصر و ضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك. و السبب في ذلك أن الحبوب منضرورات القوت فتتوفر الدواعي على اتخاذها إذ كل أحد لا يهمل قوت نفسه و لا قوتمنزله لشهر أو سنته فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أوفيما قرب منه لا بد من ذلك. و كل متخذ لقوته فتفضل عنه و عن أهل بيته فضلة كبيرةتسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل القتوات عن أهل المصر من غير شك فترخصأسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية و لولا احتكارالناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن و لا عوض لكثرتها بكثرة العمران.و أما سائر المرافق من الأدم و الفواكه و ما إليها لا تعم بها البلوى و لا يستغرقاتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين و لا الكثير منهم ثم أن المصر إذا كان مستبحراًموفور العمران كثير حاجات الترف توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كل بحسب حاله فيقصر الموجود منها على الحاجات قصوراً بالغاً و يكثرالمستامون لها و هي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض و يبذل أهل الرفه و الترفأثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه.و أما الصنائع و الأعمال أيضاً في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيها أمورثلاثة: الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه، و الثاني اعتزازأهل الأعمال لخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها، والثالث كثرة المترفين و كثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم و إلى استعمال الصناع فيمهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة و منافسة فيالاستئثار بها فيغتر العمال و الصناع و أهل الحرف و تغلو أعمالهم و تكثر نفقات أهلالمصر في ذلك. و أما الأمصار الصغيرة و القليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العملفيها و ما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهمويحتكرونه في فيعز وجوده لديهم و يغلو ثمنه على مستامه. و أما مرافقهم فلا تدعوإليها أيضاً حاجة بقلة الساكن و ضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختص بالرخص فيسعره. و قد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة ما يعرض عليها من المكوس و المغارمللسلطان في الأسواق و باب الحفر و الحياة في منافع وصولها عن البيوعات لما يمسهم.و بذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية إذ المكوس و المغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة. و كثرتها قي الأمصار لا سيما في آخر الدولة و قدتدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح و يحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد. و ذلك أنهم لما ألجأهم النصارى إلى سيف البحر و بلادهالمتوعرة الخبيثة الزارعة النكدة النبات وملكوا عليهم الأرض الزاكية و البلد الطيبفاحتاجوا إلى علاج المزارع و الفدن لإصلاح نباتها و فلحها و كان ذلك العلاج بأعمالذات قيم و مواد من الزبل و غيره لها مؤنة و صارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروهافي سعرهم. و اختص قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرهم النصارى إلى هذا المعموربالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك. و يحسب الناس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهمأنها لقلة الأقوات و الحبوب في أرضهم و ليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلحاً فيماعلمناه و أقومهم عليه و قل أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدان أو مزرعة أو فلح إلاقليلاً من أهل الصناعات و المهن أو الطراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. و لهذايختصهم السلطان في عطائهم بالعولة و أقواتهم و علوفاتهم من الزرع. و إنما السبب فيغلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه. و لما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاءمنابتهم و طيب أرضهم ارتفعت عنهم الهون جملة في الفلح مع كثرته و عمومته فصار ذلكسبباً لرخص الأقوات ببلدهم و الله مقدر الليل والنهار و هو الواحد القهار لا ربسواه.
الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران
والسبب فيذلك أن المصر الكثير العمران يكثر ترفه كما قدمناه و تكثر حاجات ساكنه من أجل الترف. و تعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات و تصير فيه الأعمال كلها معذلك عزيزة و المرافق غالية بازدحام الأعراض عليها من أجل الترف و بالمغارمالسلطانية التي توضع على الأسواق والبياعات و تعتبر في قيم المبيعات و يعظهم فيهاالغلاء في المرافق و أن أوقات والأعمال فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبةعمرانه. و يعظم خرجه فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه و عياله فيضرورات عيشهم و سائر مؤونتهم. والبدوي لم يكن دخله كثيراً ساكناً بمكان كاسدالأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب فلم يتأهل كسباً و لا مالاً فيتعذر عليه منأجل ذلك سكنى المصر الكبير لغلاء مرافقه و عزة حاجاته. و هو في بدوه يسد حاجتهبأقل الأعمال لأنه قليل عوائد الترف في معاشه و سائر مؤونته فلا يضطر إلى المال وكل من يتشوف إلى المصر و سكناه من البادية فسريعاً ما يظهر عجزه و يفتضح فياستيطانه إلا من يقدم منهم تأثل المال و يحصل له منه فوق الحاجة و يجري إلى الغايةالطبيعية لأهل العمران من الدعة و الترف فحينئذ ينتقل إلى المصر و ينتظم حالة معأحوال أهله في عوائدهم و ترفهم. و هكذا شأن بداءة عمران الأمصار. و الله بكل شيءمحيط.
الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه و الفقر مثل الأمصار
إعلم أن ما توفر عمرانه من الأقطار و تعددت الأمم في جهاته و كثر ساكنه اتسعتأحوال أهله و كثرت أموالهم و أمصارهم و عظمت دولهم و ممالكهم. و السبب في ذلك كلهما ذكرناه من كثرة الأعمال و ما سيأتي ذكره من أنها سبب للثروة بما يفصل عنها بعدالوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران و كثرتهفيعود على الناس كسباً يتأثلونة حسبما نذكر ذلك في فصل المعا ش و بيان الرزق والكسب فيتزيد الرفه لذلك و تتسع الأحوال و يجيء الترف والغنى و تكثر الجباية للدولةبنفاق الأسواق فيكثر مالها و يشمخ سلطانها و تتفنن في اتخاذ المعاقل و الحصون واختطاط المدن و تشييد الأمصار. و اعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر و الشام و عراقالعجم و الهند و الصين و ناحية الشمال كلها وأقطارها وراء البحر الرومي وعظمت لماكثر عمرانها كيف كثر المال فيهم و عظمت دولتهم و تعددت مدنهم و حواضرهم و عظمتمتاجرهم و أحوالهم. فالذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجار الأمم النصرانيةالواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم و اتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. و كذا تجار أهل المشرق و ما يبلغنا عن أحوالهم و أبلغ منها أهل المشرق الأقصى منعراق العجم و الهند و الصين فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى و الرفه غرائب تسيرالركبان بحديثها و ربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر. و يحسب من يسمعها من العامةأن ذلك لزيادة في أموالهم أو لأن المعادن الذهبية و الفضية أكثر بأرضهم أو لأن ذهبالأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم و ليس كذلك فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذهالأقطار إنما هو من بلاد السودان و هي إلى المغرب أقرب. وجميع ما في أرضهم منالبضاعة فإنما ي***ونه إلى غير بلادهم للتجارة. فلو كان المال عتيداً موفوراًلديهم لما ***وا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال و لا استغنوا عن أموال الناسبالجملة. و لقد ذهب المنجمون لمما رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرةالأحوال و اتساعها و وفور أموالها فقالوا بأن عطايا الكواكب و السهام في مواليدالمشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب و ذلك صحيح من جهة المطابقة بينالأحكام النجومية و الأحوال الأرضية كما قلناه و هم إنما أعطوا في ذلك السببالنجومي و بقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي و هو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره و كثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة قي الأعمال التيهي سببه فلذلك اختص المشرق بالرفه من بين الأفاق لا إن ذلك لمجرد الأثر النجومي.فقد فهمت مما أشرنا لك أولاً أنه لا يستقل بذلك و أن المطابقة بين حكمه و عمرانالأرض و طبيعتها أمر لا بد منه. و اعتبر حال هذا الرفه من العمران في قطر أفريقيةو برقة لما خف سكنها وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقروالخصاصه. و ضعفت جباياتها فقلت أموال دولها بعد أن كانت دول الشيعة و صنهاجة بهاعلى ما بلغك من الرفه و كثرة الجبايات و اتساع الأحوال في نفقاتهم و أعطياتهم. حتىلقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته و مهماته و كانت أموالالدولة بحيث حمل جوهر الكاتب في سفر إلى فتح مصر ألف حمل من المال يستعد بها لأرزاقالجنود و أعطياتهم ونفقات الغزاة. و قطر المغرب و أن كان في القديم دون أفريقيةفلم يكن بالقليل في ذلك و كانت أحواله في دول الموحدين متسعة و جباياته موفورة و هولهذا العهد قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه و تناقصه فقد ذهب من عمران البربر فيهأكثره و نقص عن معهوده نقصاً ظاهراً محسوسا، و كاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوالأفريقية بعد أن كان عمرانه متصلاً من البحر الرومي إلى بلاد السودان في طول ما بينالسوس الأقصى و برقة. و هي اليوم كلها أو أكثرها قفار و خلاء و صحارى إلا ما هومنها بسيف البحر أو ما يقاربه من التلول و الله وارث الأرض ومن عليها و هو خيرالوارثين.
الفصل الخامس عشر في تأثل ا لعقار و الضياعفي الأمصار و حال فوائدها و مستغلاتها
اعلم أن تأثل العقار و الضياع الكثيرةلأهل الأمصار و المدن لا يكون دفعة واحدة و لا في عصر واحد إذ ليس يكون لأحد منهممن الثروة ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمتها عن الحد و لو بلغت أحوالهم في الرفهما عسى أن تبلغ. وإنما يكون ملكهم و تأثلهم لها تدريجاً أما بالوراثة من آبائه وذوي رحمه حتى تتأدى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد و أكثر لذلك أو أن يكون بحوالةالأسواق فإن العقار في آخر الدولة و أول الأخرى عند فناء الحامية و خرق السياجوتداعى المصر إلى الخراب تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها بتلاشي الأحوال فترخصقيمتها و تتملك بالأثمان اليسيرة و تتخلى بالميراث إلى ملك آخر و قد استجد المصرشبابه باستفحال الدولة الثانية و انتظمت له أحوال رائقة حسنة تحصل معها الغبطة فيالعقار والضياع لكثرة منافعها حينئذ فتعظم قيمها و يكون لها خطر لم يكن في الأول.و هذا معنى الحوالة فيها و يصبح مالكها من أغنى أهل المصر و ليس ذلك بسعيه واكتسابه إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك. و أما فوائد العقار و الضياع فهي غير كافيةلمالكها في حاجات معاشه إذ هي لا تفي بموائد الترف و أسبابه و إنما هي في الغالبلسد الخلة و ضرورة المعاش. و الذي سمعناه من مشيخة البلدان أن القصد باقتناء الملكمن العقار والضياع إنما هو الخشية على من يترك خلفه من الذرية الضعفاء ليكون مرباهمبه و رزقه فيه و نشؤهم بفائدته ما داموا عاجزين عن الاكتساب فإذا اقتدروا على تحصيلالمكاسب سعوا فيها بأنفسهم و ربما يكون من الولد من يعجز عن التكسب لضعف في بدنه أوآفة في عقله المعاشي فيكون ذلك العقار قواماً لحاله. هذا قصد المترفين في اقتنائه. و أما التمول منه وإجراء أحوال المترفين فلا. و قد يحصل ذلك منه للقليل أوالنادر بحوالة الأسواق و حصول الكثرة البالغة منه و العالي في جنسه و قيمته فيالمصر إلا أن ذلك إذا حصل ربما امتدت إليه أعين الأمراء و الولاة و اغتصبوه فيالغالب أو أرادوه على بيعه منهم و نالت أصحابه منه مضار و معاطب و الله غالب علىأمره و هو رب العرش العظيم.
الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين منأهل الأمصار إلى الجاه و المدافعة
وذلك أن الحضري إذا عظم تموله و كثر للعقار والضياع تأثله و أصبح أغنى أهل المصر و رمقته العيون بذلك و انفسحت أحواله في الترفو العوائد زاحم عليها الأمراء و الملوك و غصوا به. و لما في طباع البشر من العدوانتمتد أعينهم إلى تملك ما بيده و ينافسونه فيه و يتحيلون على ذلك بكل ممكن حتىيحصلوه في ربقة حكمه سلطاني و سبب من المؤاخذة ظاهر ينتزع به ماله و أكثر الأحكامالسلطانية جائزة في الغالب إذ العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية و هي قليلةاللبثقال صلى الله عليه وسلم الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم. تعودملكاً عضوضاً.فلا بد حينئذ لصاحب المال و الثروة الشهيرة في العمران منحامية تذود عنه و جاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك أو خالصة له أو عصبية يتحاماهاالسلطان فيستظل هو بظلها و يرتع في أمنها من طوارق التعدي. و أن لم يكن له ذلكأصبح نهباً بوجوه التخيلات و أسباب الحكام. و الله يحكم لا معقب لحكمه.
الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل ا لدول و أنها ترسخ باتصالالدولة ورسوخها
و السبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري منأحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه و تفاوت الأمم في القلة و الكثرة تفاوتاًغير منحصر و تقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها و أصنافها فتكون بمنزلة الصنائع ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه و المهرة فيه و بقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيدأهل. صناعتها و يتلون ذلك الجيل بها و متى اتصلت الأيام و تعاقبت تلك الصناعات حذقأولئك الصناع في صناعتهم و مهروا في معرفتها و الأعصار بطولها و انفساح أمدها وتكرير أمثالها تزيدها استحكاماً و رسوخاً و أكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستجارالعمران و كثرة الرفه في أهلها. و ذلك كله إنما يجيء من قبل الدولة لأن الدولةتجمع أموال الرعية و تنفقها في بطانتها و رجالها وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر منأتساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا و خرجها في أهل الدولة ثم في منتعلق بهم من أهل المصر و هم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم و تتزيد عوائدالترف و مذاهبه و تستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه و هذه هي الحضارة. و لهذاتجد الأمصار التي في القاصية و لو كانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركزالدولة و مقرها و ما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم و فيض أمواله فيهم كالماء يخضر ماقرب منه فما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد و قد قدمنا أن السلطانو الدولة سوق للعالم. فالبضائع كلها موجودة في السوق و ما قرب منه و إذا أبعدت عنالسوق افتقدت البضائع جملة ثم أنه إذا اتصلت تلك الدولة و تعاقب ملوكها في ذلكالمصر واحداً بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم و زادت رسوخاً و اعتبر ذلك في اليهودلما طال ملكهم بالشام نحواً من ألف و أربعمائة سنين رسخت حضارتهم و حذقوا في أحوالالمعا ش و عوائده و التفنن في صناعاته من المطاعم و الملابس و سائر أحوال المنزلحتى أنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. و رسخت الحضارة أيضاً و عوائدها فيالشام منهم و من دولة الروم بعدهم ستمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة. و كذلكأيضاً القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين فرسخت عوائد الحضارة فيبلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان و الروم ثم ملك الإسلام الناسخ للكل. فلم تزلعوائد الحضارة بها متصلة و كذلك أيضاً رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتصال دولة العرببها منذ عهد العمالقة و التبابعة آلافاً من السنين و أعقبهم ملك مصر. و كذلكالحضارة بالعراق لاتصال دولة النبط و الفرس بها من لدن الكلدانيين و الكيانية والكسروية و العرب بعدهم آلافاً من السنين فلم يكن على وجه الأرض لهذا العهد أحضر منأهل الشام و العراق و مصر. و كذا أيضاً رسخت عوائد الحضارة و استحكمت بالأندلسلاتصال الدولة العظيمة فيها للقوط ثم ما أعقبها من ملك بني أمية آلافاً من السنين وكلتا الدولتين عظيمة فاتصلت فيها عوائد الحضارة و استحكمت. و أما أفريقية و المغربفلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم إنما قطع الإفرنجة إلى أفريقية البحر و ملكواالساحل و كانت طاعة البربر أهل الضاحية لهم طاعة غير مستحكمة فكانوا على قلعة وأوفاز و أهل المغرب لم تجاورهم دولة و إنما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراءالبحر ولما جاء الله بالإسلام و ملك العرب أفريقية و المغرب لم يلبث فيهم ملك العربإلا قليلاً أول الإسلام و كانوا لذلك العهد في طور البداوة و من استقر منهمبإفريقية والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفة إذ كانوا برابرمنغمسين في البداوة ثم انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود على ميسرة المطفريأيام هشام بن عبد الملك و لم يراجعوا أمر العرب بعد و استقلوا بأمر أنفسهم و إنبايعوا لإدريس فلا تعد دولته فيهم عربية لأن البراير هم الذين تولوها و لم يكن منالعرب فيها كثير عدد و بقيت أفريقية للأغالبة و من إليهم من العرب فكان لهم منالحضارة بعض الشيء بما حصل لهم من ترف الملك و نعيمه و كثرة عمران القيروان و ورثذلك عنهم كتامة ثم صنهاجة من بعدهم و ذلك كله قليل لم يبلغ أربعمائة سنة و انصرمتدولتهم و استحالت صبغة الحضارة بما كانت غير مستحكمة و تغلب بدو العرب الهلاليينعليها و خربوها و بقي أثر خفي من حضارة العمران فيها و إلى هذا العهد يونس فيمن سلفله بالقلعة أو القيروان أو المهدية سلف فتجد له من الحضارة في شؤن منزله و عوائدأحواله آثاراً ملتبسة بغيرها يميزها الحضري البصير بها و كذا في أكثر أمصار أفريقيةو ليس كذلك في المغرب و أمصاره لرسوخ الدولة بأفريقية أكثر أمداً منذ عند الأغالبةو الشيعة وصنهاجة و أما المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحدين من الأندلس حظ كبيرمن الحضارة و استحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم مني الاستيلاء على بلاد الأندلس وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعاً و كرهاً و كانت من اتساع النطاق ما علمت فكانفيها حظ صالح من الحضارة و استحكامها و معظمها من أهل الأندلس ثم انتقل أهل شرفالأندلس عند جالية النصارى إلى أفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثاراً ومعظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر و ما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغربو أفريقية حظ صالح من الحضارة عفي عليه الخلاء و رجع إلى أعقابه و عاد البربربالمغرب إلى أديانهم من البداوة و الخشونة و على كل حال فآثار الحضارة بإفريقيةأكثر منها بالمغرب و أمصاره لما تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب و لقربعوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم. فتفطن لهذا السر فإنه خفي عنالناس. و اعلم أنها أمور متناسبة و هي حال الدولة في القوة و الضعف و كثرة الأمةأو الجيل و عظم المدينة أو المصر و كثرة النعمة و اليسار و ذلك أن الدولة و الملكصورة الخليفة و العمران وكلها مادة لها من الرعايا و الأمصار و سائر الأحوال وأموال الجباية عائدة عليهم ويسارهم في الغالب من أسواقهم و متاجرهم و إذا أفاضالسلطان عطاءه و أمواله في أهلها انبثت فيهم و رجعت إليه ثم إليهم منه فهي ذاهبةعنهم في الجباية و الخراج عائدة عليهم في العطاء فعلى نسبة حال الدولة يكون يسارالرعايا و على يسار الرعايا و كثرتهم يكون مال الدولة و أصله كله العمران و كثرتهفاعتبره و تأمله في الدول تجده و الله يحكم و لا معقب لحكمه.
الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران و نهاية لعمره و أنها مؤذنة بفساده
قد بينا لك فيما سلف أن الملك و الدولة غاية للعصبية و أن الحضارة غاية للبداوةو أن العمران كله من بداوة و حضارة و ملك و سوقة له عمر محسوس كما أن للشخص الواحدمن أشخاص المكونات عمراً محسوساً و تبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسانغاية في تزايد قواه و نموها و أنه إذا بلغ سن الأربعين و قفت الطبيعة عن أثر النشوءو النمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاًكذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها و ذلك أن الترف و النعمة إذا حصلا لأهل العمراندعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة و التخلق بعوائدها و الحضارة كما علمت هي التفنن فيالترف و استجاده أحواله و الكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه و سائر فنونه منالصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية و لسائر أحوالالمنزل. و للتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة و عدمالتأنق فيها. و إذا بلغ أن التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعةالشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها و أما دنياها فلكثرةالحاجات و المؤنات ائتي تطالب بها العوائد و يعجز و ينكب عن الوفاء بها. و بيانهأن، المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله و الحضارة تتفاوت بتفاوت العمرانفمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. و قد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمرانيختص بالغلاء في أسواقه و أشعار حاجته. ثم تزيدها المكوس غلاة لأن الحضارة إنماتكون عند انتهاء الدولة في استفحالها و هو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجهاحينئذ كما تقدم. و المكوس تعود إلى البياعات بالغلاء لأن السوقة و التجار كلهميحتسبون على سلعهم و بضائعهم جميع ما ينفقونه حتى في مؤنة أنفسهم فيكون المكس لذلكداخلاً في قيم المبيعات و أثمانها. فتعظم نفقات أهل الحضارة و تخرج عن القصد إلىالإسراف. و لا يجدون و ليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد و طاعتها و تذهبمكاسبهم كلها في النفقات و يتتابعون في الإملاق و الخاصة و يغلب عليهم الفقر و يقلالمستامون للبضائع فتكسد الأسواق و يفسد حال المدينة و داعية ذلك كله إفراط الحضارةو الترف. و هذه مفسدات في المدينة على العموم في الأسواق و العمران. و أما فسادأهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص فمن الكد و التعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها و ما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لونآخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق و الشر و السفسفة و التحيل على تحصيلالمعاش من وجهه و من غير وجهه. و تنصرف النفس إلى الفكر في ذلك و الغوص عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب و المقامرة و الغش و الخلابة و السرقة والفجور في الأيمان و الربا في البياعات ثم تجدهم لكثرة الشهوات و الملاذ الناشئة عنالترف أبصر بطرق الفسق و مذاهبه و المجاهرة به و بداوعيه و اطراح الحشمة في الخوضفيه حتى بين الأقارب و ذوي الأرحام و المحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم فيالإقذاع بذلك. و تجدهم أيضاً أبصر بالمكر و الخديعة يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهممن القهر و ما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة و خلقاًلأكثرهم إلا من عصمه الله. و يموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب و أهملته الدولةمن عدادها و غلب عليه خلق الجوار و إن كانوا أهل أنساب و بيوتات و ذلك أن الناس بشرمتماثلون و إنما تفاضلوا و تميزوا بالخلق و اكتساب الفضائل و اجتناب الرذائل. فمناستحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان، و فسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبهو لا طيب منبته. و لهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت و ذوي الأحساب و الأصالة و أهلالدول منطرحين في الغمار منتحلين للحرف الدنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم و ماتلونوا به من صبغة الشر و السفسفة و إذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن اللهبخرابها و انقراضها و هو معنى قوله تعالى:و إذا أردنا أن نهلكقرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً.و وجههحينئذ إن مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد و مطالبة النفس بها فلاتستقيم أحوالهم. و إذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً اختل نظام المدينة و خربتوهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواص أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنتبالخراب حتى أن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور تطيراً به. و ليسالمراد ذلك و لا أنه خاصية في النارنج و إنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هومن توابع الحضارة. ثم أن النارنج و اللية و السرو و أمثال ذلك مما لا طعم فيه و لامنفعة هو من غاية الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط ولا تغرس إلابعد التفنن في مذاهب الترف. و هذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر و خرابه كماقلناه. و لقد قيل مثل ذلك في الدفلى و هو من هذا الباب إذ الدفلى لا يقصد بها إلاتلون البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض و هو من مذاهب الترف. و من مفاسد الحضارةالإنهماك في الشهوات و الاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات البطن منالمآكل و الملاذ و المشارب وطيبها. و يتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواعالمناكح من الزنا و اللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع. إما بواسطة اختلاط الأنسابكما في الزنا، فيجهل كل واحد ابنه، إذ هو لغير رشدة، لأن المياه مختلطة فيالأرحام، فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين و القيام عليهم فيهلكون، و يؤدي ذلكإلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط المؤدي إلى عدمالنسل رأساً و هو أشد في فساد النوع. و الزنا يؤدي إلى عدم ما يوجد منه. و لذلككان مذهب مالك رحمه الله في اللواط أظهر من مذهب غيره، و دل على أنه أبصر بمقاصدالشريعة واعتبارها للمصالح.
فافهم ذلك و اعتبر به أن غاية العمران هي الحضارةو الترف و أنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد و أخذ في الهرم كالأعمار الطبيعيةللحيوانات. بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة و الترف هي عين الفساد لأنالإنسان إنما هو إنسان باقتداره على *** منافعه و دفع مضاره و استقامة خلقه للسعيفي ذلك. و الحضري لا يقدر على مباشرته حاجاته أما عجزاً لما حصل له من الدعة أوترفاً لما حصل من المربي في النعيم و الترف و كلا الأمرين ذميم. و كذلك لا يقدرعلى دفع المضار و استقامة خلقه للسعي في ذلك. و الحضري بما قد فقد من خلق الإنسانبالترف و النعيم في قهر التأديب و التعلم فهو بذلك عيال على الحامية التي تدافع عنه. ثم هو فاسد أيضاً غالباً بما فسدت منه العوائد و طاعتها في ما تلونت به النفس منمكانتها كما قررناه إلا في الأقل النادر. و إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته و صار مسخاً على الحقيقة. و بهذا الاعتبار كان الذينيتقربون من جند السلطان إلى البداوة و الخشونة أنفع من الذين يتربون على الحضارة وخلقها. موجودون في كل دولة. فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم فيالعمران و الدولة و الله سبحانه و تعالى كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن.
الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكونكراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها
قد استقرينا في العمران أن الدولة إذااختلت و انتقصت فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه و ربما ينتهي فيانتقاضه إلى الخراب و لا يكاد ذلك يتخلف. و السبب فيه أمور: الأول أن الدولة لابد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس و البعد عن التحذلق. ويدغو ذلك إلى تخفيف الجباية و المغارم. التي منها مادة الدولة فتقل النفقات و يقلالترف فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة و نقصتأحوال الترف فيها نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر لأن الرعايا تبع الدولةفيرجعون إلى خلق الدولة أما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم أو كرهاً لمايدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال و قلة الفوائد التي هيمادة العوائد فتقصر لذلك حضارة المصر و يذهب معه كثير من عوائد الترف. و هو معنىما نقول في خراب المصر. الأمر الثاني أن الدولة إنما يحصل لها الملك و الاستيلاءبالغلب، و إنما يكون بعد العداوة و الحروب. و العداوة تقتضي منافاة بين أهلالدولتين و تكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال. و غلب أحد المتنافيينيذهب بالمنافي الآخر فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعة و قبيحة. و خصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها حتى تنشألهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف فتكون عنها حضارة مستأنفة. و فيما بين ذلك قصورالحضارة الأولى ونقصها و هو معنى اختلال العمران في المصر. الأمر الثالث أن كل أمةلا بد لهم من وطن و هو منشآهم و منه أولية ملكهم. و إذا ملكوا ملكاً آخر صار تبعاًللأول وأمصاره تابعة لأمصار الأول. و أتسع نطاق الملك عليهم. و لا بد من توسطالكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة لأنه شبه المركز للنطاق فيبعد مكانه عن مكانالكرسي الأول و تهوي أفئدة الناس من أجل الدولة و السلطان فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول. و الحضارة إنما هي توفر العمران كما قدمناه فتنقص حضارتهو تمدنه. و هو معنى اختلاله. و هذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغدادإلى أصبهان و للعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة و البصرة، و لبنيالعباس في العدول عن دمشق إلى بغداد و لبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلىفاس. و بالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في مصر يخل بعمران الكرسي الأول. الأمرالرابع أن الدولة الثانية لا بد فيها من أهل الدولة السابقة و أشياعها بتحويلهم إلىقطر آخر هو من فيه غائلتهم على الدولة و أكثر أهل المصر الكرسي أتباع الدولة. أمامن الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو أعيان المصر لأن لهم في الغالب مخالطةللدولة على طبقاتهم و تنوع أصنافهم. بل أكثرهم ناشئ في الدولة فهم شيعة لها. و إنلم يكونوا بالشوكة والعصبية فهم بالميل و المحبة و العقيدة. و طبيعة الدولةالمتجددة محو آثار الدولة السابقة فينقلهم من مصر الكرسي إلى و طنها المتمكن فيملكتها. فبعضهم على نوع التغريب و الحبس و بعضهم على نوع الكرامة و التلطف بحيث لايؤدي إلى النفرة حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة و الهمل من أهل الفلح والعيارة و سواد العامة و ينزل مكانهم حاميتها و أشياعها من يشتد به المصر وإذا ذهبمن المصر أعيانهم على طبقاتهم نقص ساكنه و هو معنى اختلال عمرانه. ثم لا بد من أنيستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة و تحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة. وإنما ذلك بمثابة من له بيت على أوصاف مخصوصة فاظهر من قدرته على تغيير تلك الأوصافو إعادة بنائها على ما يختاره و يقترحه فيخري ذلك البيت ثم يعيد بناءه ثانياً. وقد و قع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي للملك و شاهدناه. و عرفناهو الله يقدر الليل و النهار.و السبب الطبيعي الأول في ذ لك علىالجملة أن الدولة و الملك للعمران بمثابة الصورة للمادة و هو الشكل الحافظ بنوعهلوجودها. و قد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدولةدون العمران لا تتصور و العمران دون الدولة و الملك متعذر لما في طباع البشر منالعدوان الداعي إلى الوازع فتتعين السياسة لذلك أما الشريعة أو الملكية و هو معنىالدولة و إذا كانا لا ينفكان فاختلال أحدهما في مؤثر في اختلال الآخر كما أن عدمهمؤثر في عدمه و الخلل العظيم إنما يكون من خلال الدولة الكلية مثل دولة الروم أوالفرس أو العرب على العموم أو بني أمية أو بني العباس كذلك. و أما الدولة الشخصيةمثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد فأشخاصها متعاقبة علىالعمران حافظة لوجوده و بقائه و قريبة الشبه بعضها من بعض فلا تؤثر كثير اختلال لأنالدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية و الشوكة و هي مستمرة علىأشخاص الدولة فإذا ذهبت تلك العصبية و دفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران ذهبت أهلالشوكة بأجمعهم و عظم الخلل كما قررناه أولاً و الله سبحانه و تعالى أعلم.
الفصل العشرون في اختصاص بعض الأمصار ببعضالصنائع دون بعض
وذلك أنه من البين أن أعمال أهل المصر يستدعي بعضها بعضاً لمافي طبيعة العمران من التعاون و ما يستدعي من الأعمال يختص ببعض أهل المصر فيقومونعليه و يستبصرون في صناعته و يختصون بوظيفته و يجعلون معاشهم فيه و رزقهم منه لعمومالبلوى به في المصر والحاجة إليه. و ما لا تستدعي في المصر يكون غفلاً إذ لا فائدةلمنتحله في الاحتراف به. و ما يستدعي من ذلك لضرورة المعاش فيوجد في كل مصركالخياط و الحداد و النجار وأمثالها و ما يستدعي لعوائد الترف وأحواله فإنما يوجدفي المدن المستبحرة في العمارة الآخذة في عوائد الترف والحضارة مثل الزجاج و الصائغو الدهان و الطباخ و الصفار و السفاج و الفراش والذباح و أمثال هذه و هي متفاوتة.و بقدر ما تزيد الحضارة و تستدعي أحوال الترف تحدث صنائع لذلك النوع فتوجد بذلكالمصر دون غيره و من هذا الباب الحمامات لأنها إنما توجد في الأمصار المستحضرةالمستبحرة العمران لما يدعو إليه الترف و الغنى من التنعم و لذلك لا تكون في المدنالمتوسطة. و أن نزع بعض الملوك و الرؤساء إليها فيختطها و يجري أحوالها. إلا أنهاإذا لم تكن لها داعية من كافة الناس فسرعان ما تهجر و تخرب و تفر عنها القومة لقلةفائدتهم ومعاشهم منها. و الله يقبض و يبسط.
الفصل الحادي و العشرون في و جود العصبية في الأمصار و تغلب بعضهم على بعض
منالبين أن الالتحام أو الاتصال موجود في طباع البشر و أن لم يكونوا أهل نسب واحد إلاأنه كما قدمناه أضعف مما يكون بالنسب و أنه تحصل به العصبية بعضاً مما تحصل بالنسب. و أهل الأمصار كثير منكم ملتحمون بالصهر يجذب بعضهم بعضاً إلى أن يكونوا لحماًلحماً و قرابة قرابة و تجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله فيفترقون شيعاً و عصائب فإذا نزل الهرم بالدولة و تقلص ظل الدولة عنالقاصية احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم و النظر في حماية بلدهم و رجعواإلى الشورى و تميز العلية عن السفلة و النفوس بطباعها متطاولة إلى الغلب و الرئاسةفتطمح المشيخة لخلاء الجو من السلطان و الدولة القاهرة إلى الاستبداد و تنازع كلصاحبه و يستوصلون بالأتباع من الموالي و الشيع و الأحلاف و يبذلون ما في أ يديهمللأوغاد و الأوشاب فيعصوصب كل لصاحبه و يتعين الغلب لبعضهم فيعطف على أكفائه ليقصمن أعنتهم و يتتبعهم بالقتل أو التغريب حتى يحضد منهم الشوكات النافذة و يقلمالأظفار الخادشة و يستبد بمصر أجمع و يرى أنه قد استحدث ملكاً يورثه عقبه فيحدث فيذلك الملك الأصغر ما يحدث في الملك الأعظم من عوارض الجدة والهرم و ربما يسمو بعضهؤلاء إلى مناخ الملوك الأعاظم أصحاب القبائل والعشائر و العصبيات و الزحوف والخروب و الأقطار و الممالك فينتحلون بها من الجلوس على السرير و اتخاذ الآلة وإعداد المواكب للسير في أقطار البلد و التختم والتحية و الخطاب بالتهويل ما يسخرمنه من يشاهد أحوالهم لما انتحلوه من شارات الملك التي ليسوا لها بأهل. إنما دفعهمإلى ذلك تقلص الدولة و التحام بعض القرابات حتى صارت عصبية. و قد يتنزه بعضهم عنذلك و يجري على مذهب السذاجة فراراً من التعريض بنفسه للسخرية و العبث. و قد وقعهذا بأفريقية لهذا العهد في آخر الدولة الحفصية لأهل بلاد الجربد من طرابلس وقابس وتؤزر و نفطة و قفصة و بسكرة و الزاب و ما إلى ذلك. سموا إلى مثلها عند تقلص ظلالدولة عنهم منذ عقود من السنين فاستغلبوا على أمصارهم و استبدوا بأمرها على الدولةفي الأحكام و الجباية. و أعطوا طاعة معروفة و صفقة ممرضة و أقطعوها جانباً منالملاينة و الملاطفة و الانقياد و هم بمعزل عنه. و أورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد. و حدث في خلفهم من الغلظة و التجبر ما يحدث لأعقاب الملوك و خلفهم و نظموا أنفسهمفي عداد السلاطين على قرب عهدهم بالسوقة حتى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبوالعباس و انتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكره في أخبار الدولة. و قد كان مثلذلك و قع في آخر الدولة الصنهاجية. و استقل بأمصار الجريد أهلها و استبدوا علىالدولة حتى انتزع ذلك منهم شيخ الموحدين وملكهم عبد المؤمن بن علي و نقلهم منإماراتهم بها إلى المغرب و محا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره. و كذا وقع بسبتة لآخر دولة بنى عبد المؤمن.
وهذا التغلب يكون غالباً في أهل السروات والبيوتات المرشحين للمشيخة و الرئاسة في المصر، و قد يدذث التغلب لبعض السفلة منالغوغاء والدهماء. و إذا حصلت له العصبية و الالتحام بالأوغاد لأسباب يجرها لهالمقدار فيتغلب على المشيخة والعلية إذا كانوا فاقدين للعصابة و الله سبحانه وتعالى غالب على أمره.
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59