الموضوع: عمران دمشق
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-11-2015, 08:49 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,222
ورقة سكان دمشق وخصائصهم

سكان دمشق وخصائصهم
ــــــــــــــ

(د. محمد مطيع الحافظ)
ــــــــــــ

22 / 6 / 1436 هــ
11 / 4 / 2015 م
ــــــــــ



لمحات في تاريخ دمشق السياسي والعمراني والعلمي
----------------------

(2) سكان دمشق وخصائصهم
--------------------

مِن الصعب تحديد المِقدار الذي دخل في الدمشقيين من دم الآراميين أو الروم، أو من دم الأنباط والعرب، أو من سائر العناصر الأخرى التي تديَّرت هذه البلدة، وامتزجت بسكانها الأصليين؛ ذلك لأنَّ من العادة أن تدخل في المدن الكبرى أجناس مختلفة مِن الخَلق في كل دور من أدوار الدول، وفي كل عصر من عصور التاريخ، فيتعذَّر وضع إحصاء لكثرة ما يدخل فيها ويَخرج منها في كل عقد، فما الحال بعشرات من العقود أو عشرات المئات من الأعوام؟!

اتَّصلت هجرة العرب قبل الإسلام وبعده إلى هذه الديار اتصالاً لم ينقطع، وكان من أكبر الحوافز إلى ذلك شؤون دينية، وعلمية، واقتصادية، وآفات سماوية، وربما جاءت القبيلة برمَّتها أو أكثرها وتفرَّقت في أحشاء القُطر، فأصاب حاضرتَه قسطٌ غير قليل منها، لا شك أن الكتلة الأولى من العرب الذين أووا إلى دمشق كانوا من غسان على كثرة، ومن التنوخيين والسبئيين الذين سكنوا داريا والنبطيين على قِلة؛ يقول اليعقوبي: "وكانت دمشق منازل غسان وبطون من قيس، وبها جماعة من قريش"، وقال غيره: إذا جُزتَ جبل عاملة تريد قصد دمشق وحمص وما إليها، فهي ديار غسان من آل جفنة وغيرهم، وإلى قيس ويَمن يرجع مجموع أصول القبائل العربية المهاجرة، وهم الذين يُطلق عليهم اسم العشران جمع عشير.

كَثرت العناصر في الشام على عهد الإسلام، فنزل في بعض أرجائها جاليات من الفُرس، وبعدها قبائل التُّركمان، نزلوها منذ عهد السلجوقيِّين، ثم انهال عليها الأكراد والقوقازيون من الجراكسة والطاغستانيين والكرج، ثم الهنود والأفغانيون والمغاربة والأرمن، يتكلَّمون بلغتهم أولاً، ويتعلمون لغة البلاد حالاً، وفي هذا العصر انتشرت الفرنسية والإنكليزية وغيرها من لغات الغرب، إلا أن العربية ما زالت تستغرق كل طارئ، وكل غريب نزل دمشق يَلقف هو وأولاده هذه اللغة (اللهجة)، ويندمج في أهلها، فتُصيِّر منه البُوتقة العربية رجلاً عربي اللسان، يُصبح بعد بطنين عربيًّا بلسانه وعواطفه.

وانتفع الدمشقيُّون بهذا الاختلاط، وكان مِن تَمازُج الجنس الآري بالساميِّ خاصة نسل جميلٌ متين، فيه أجمل خصائص هذين الجنسين، أو الأجناس السائرة التي امتزج دمها بدماء أخرى، وبهذا الاختلاط كَثُر الذكاء والمضاء، وتوفَّر في أهلها الحزْم والعزم؛ على ما أشار إلى ذلك الباحثون في طبائعهم.

ورأينا الدماشقة يجدُّون ويَهزلون، وجدهم جدٌّ، وهزلُهم هزل، ورأيناهم وقد جعلوا لبلدهم طابعًا خاصًّا في مرافقها ومعالمها ومساكنها، يكاد لا يَجتمع مثله في عاصمة من عواصم الشرق القريب، وكان الدمشقيُّون على الأيام، إذا عانوا التجارة جاؤوا في الصفِّ الأول بين تجار الأقطار المجاوِرة، وإذا مارسوا الصناعة تقدَّموا على غيرهم وأتقنوا عملهم، وإذا انقطعوا إلى الزراعة قلَّبوا وعمروا وغرسوا، وإذا تولوا الأعمال السياسية والإدارية والحربية والدينية كانوا على الأغلب مثالاً صالحًا، وظهر منهم تجار في منتصف القرن العشرين كان لهم نصيب وافرٌ في التجارة في شرق الأردن وفلسطين، وكانت امتدَّت أيديهم إلى قسم عظيم من تجارة بيروت، كما استولوا على جزء من تجارة مصر، فنازعوا فيها الرومي والإيطالي، وغلبوهما في بعض الأحيان.

ومنهم مئات، كان لهم من صبرهم ودأبهم ما أعانهم على الاستئثار بقسط من تجارة العراق وإيران، أما في المهاجر فليسوا فيها دون سائر الشاميِّين، إلا أن سكان الجبال أصبر على شظف العيش من سكان السهول، ويغلب على التاجر الدمشقي النظام، كما يغلب عليه التدقيق والحِرص في الغالب، لا يُفرِط ولا يفرِّط، ويُحافظ على شرف توقيعه، فيؤدِّي ما يُفرض عليه أداؤه من دَين في حينِه، وفي بعض الإضرابات في سبيل الاستقلال، وهو إضراب دام خمسين يومًا جملة، ما تلكَّأ تاجر واحد عن تأدية ما استحق عليه للمصارف، وحاولت السلطة الفرنسية أن تُكره التجار على فتح مخازنهم وحوانيتهم، فلما أبَوْا فتحَت هي محال تجاراتهم، وصرفَت منها الحراس، وقطعَت عنها النور؛ لتَحمل أصحاب الأسواق على معاوَدةِ أعمالهم متى أوجسوا خيفة من اللصوص على أموالهم، فما مدَّ أحدٌ يدَه إلى شيء؛ لأنَّ السارقين والطرارين تعاهَدوا، وما شكا أحد من الفُقراء جوعًا في بلدة كان رزقُ أكثر سكانها مَناط عملهم اليومي، فقام أهل السعة بإطعام أرباب الفاقة، فلم يُسمع حِسُّ تذمُّر ولا تأفُّف، ولم يسجل غير دبيب المطالَبة الصامتة بالحق المسلوب، وهذا مما يُستغرب من مدينة عظيمة فيها أصناف من الخَلق، وسكانها مع الضواحي لا يقلون عن نصف مليون من النفوس في تلك الفترة.

والدمشقيون من أكثر العرب حنينًا إلى بلادهم إذا اغتربوا، وإذا اغتَنى الدمشقيُّ قليلاً لا يلبث أن يعود إلى مسقط رأسه.

وفي الدمشقي قوة التأقلُم، إذا دخل بلاد الترك أو الهند أو فارس أو أرض الإفرنج تعلَّم في الحال لغة البلاد التي نزلها، أما مَن تعلَّموا لغة من تلك اللغات الغربية في المدارس فإنهم يتكلَّمون بها ويَكتبونها كأهلها، وهكذا كان لنا أدباءُ بالتركية، وأدباء بالفرنسية، وأدباء بالإنكليزية.

ومع كثرة إقبال الدمشقيين على الأخذ من مدارس الترك آخر عهدهم؛ ليكون منهم قضاة وضباط ورجال إدارة، حتى ليظنهم من يراهم في عهد العثمانيين الأخير أنهم تترَّكوا جملةً واحدةً هم وذراريهم، فإنهم ما لبثوا في الانقلاب العثماني سنة 1908 أن عادوا إلى العناية بلغتِهم، وبدؤوا يقلبون أسماء أولادهم - وكان بعضها تركيًّا - إلى أسماء عربية صرفة، ورجعوا عن مدحت ورفعت وحمدي ورمزي ورشدي وكزيدة وناديدة وباكيزة إلى زهير وعدنان وغسان وزياد وصفوان وأسامة ومروان وريمة وتميمة ورباب.

وينطوي الدمشقي على شيء من حبِّ التقليد، ويتلقَّفُ الأمور الجديدة بصدر رحب، وإن كان في الغالب أقرب إلى المحافظين، ويبعد في الجملة عن الإسفاف، وينزع إلى التجمُّل والاستغناء، وفيه شيء من عزة النفس والتمجُّد والكرم، وكثيرًا ما تراه يتوسَّع في عمله ويتسع في الإنفاق، حب الاستكثار من المكاسب، وأنت إذا جئت تبحث في نفسه تجده من العامَّة أو ممَّن يقرب منهم، دعا إلى ما دعا، وعُني بما عُني؛ تقليدًا لأبيه أو عشيره أو جاره، وفي الغالب أن يكون للرؤساء الذين يُخاطبونه باللسان الذي يفهمه سلطان عليه؛ ولهذا كانت دمشق أول بلد طالب بالوحدة العربية بعد الحرب العالمية، وأول بلدٍ صبا إلى الجامعة الإسلامية، وأول بلد ساءه تقسيم الديار الشامية إلى دويلات صُغرى، وسعى جهده لضم الشمل بعد انبتاته، وإذا وقع حيف على العراق أو على فلسطين أو غيرهما بكَت دمشق أول الباكين، وعاونت ما استطاعَت في تَخفيف النكبة، وإذا أصاب المصريَّ والحجازي شيء من الخير، فرحت كأنه لها.

وفي دمشق خصائص القرى وخصائص المدن، وبينا تراها راقدة كقريةٍ آمنة إذا بها تهبُّ هبة آنيَّة لمطلب تريده وهي تراه حسنًا، وأنت إذا أنعمت النظر في الأمر وقلبت الرأي في ثورتها تشهَد أنها ابنة ساعتها، ولكنها كانت تتخمَّر زمنًا في صدور العقلاء من بَنيها، وما ظهروا بما ظهروا إلا عند الضرورة الشديدة.

والدمشقيُّ يعطف منذ القديم على الغريب، حتى يكاد يفرط فيما تقتضيه واجبات الضيافة والمجامَلة، هكذا علَّمه بنو أُمية - على ما يظهر - يوم كانت دمشق لا عاصمة الإسلام، بل عاصمة الدنيا.

والدمشقي يحنو على الفقراء، ويكثر برَّهم، ولا سيما في الأعياد والمواسم والمآتم، وما زال يعاضد الجمعيات الخيرية التي ألَّفها فريق من أهل الخير والحمية، تعول الفقراء، وتعلم اليتامى والأميين من الشباب، وقد قام المحسنون من تجارهم في منتصف القرن العشرين بمشروع "المواساة"، فتبرَّعوا له بمبالغ عظيمة، وأنشؤوا بما جمَعوا مستشفى عظيمًا (المواساة) ودارًا للعجَزة.

ومِن طبْع الدمشقي ألا يؤخذ بالعنف، وهو يلين حتى مع خصمِه، ويهشُّ في وجه من يكرهه، فكما أنه يحسن معاملة كل إنسان على اختلاف الدِّين واللسان، يحبُّ أن يعامل على هذه الصورة، فإذا لم يلقَ مِثل هذا من مخاطبه وعشيره وشريكه ينفِر منه في باطنه، ولا يُظهر له عداوة ولا خصومة ولا حقدًا - على الأغلب - ولكنه يعتزله بلطفٍ؛ لأنه اشتهر برقَّة الحاشية واللطف والأدب.

واشتهر النساء الدمشقيات بجمال طلعتهنَّ، وحسنِ هندامهنَّ، ورقيق لهجتهِنَّ، وهنَّ في الإجمال ربات بيوت، ومربيات أولاد، عُرفْن بصبرهنَّ وجرأتهن على الاغتراب، وإذا اغتربَت الدمشقية كوَّنت لها بيئةً خاصة؛ كأن تؤلِّف من بنات بلدها مجتمعًا، وتطبَع البيت الذي تدخله بطابعها؛ من النظافة، وحسن الإدارة، والاقتصاد على الأكثر، ومنهنَّ أوانس وعقائل رحلْن إلى القاصية وما نزلْنَ عن أصالتهنَّ بعد طويل الاغتراب، ولا نسينَ أهلهنَّ وديارهنَّ، ويزداد عطف الدمشقيِّ على الدمشقي والدمشقية على الدمشقية كلما تناءت الديار التي صاروا إليها.

وإنَّ الزيَّ الذي تتزيا به المرأة الدمشقية ليَسري إلى نساء القُطر على أسرع وجه، ويَحظى بالقبول عندهنَّ بدون مناقشة؛ وذلك لأن الدمشقيات كن يسارعْنَ إلى النقل عن المرأة التركية، وأمسَين يُقلِّدن المرأة المصرية، ويأخذن عن المرأة الغربية مباشرة، فيُخرجْنَ الزيَّ الجديد كأنه من اختراعهنَّ وبنات أفكارهن، وما تخترعه دمشق في هذا المعنى تُقبل عليه النفوس، كما يُقبِل الغرباء على التزوج من الدمشقيات؛ لصفات فيهنَّ قد لا توجد في غيرهن.
---------------------------
المصادر والمراجع
---------

اقتباس واختصار وزيادة من:
• "تاريخ دمشق"؛ لابن عساكر.
• "خطط الشام"، و"دمشق مدينة ***** والجمال"؛ للأستاذ محمد كرد علي.
• "الأعلاق الخطيرة"؛ لابن شداد.
• "منتخبات التواريخ لدمشق"؛ للحصني.
---------------------------------
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59