الموضوع: أسواق النخاسة
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-17-2013, 09:59 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,202
29

معهد الصحراء بيت الحكمة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتب صديقي إسماعيل مظهر - في مقتطف يناير سنة 1940م - كلمة بليغةً يصف فيها رهين المحبسين، محبِس الصحراء، ومَحْبس النسيان، وهو معهد الصحراء القائم على مشارف الصحراء المترامية، في مصر الجديدة، وقد شيَّده الأسد المصريُّ الملك فؤاد - رحمة الله عليه - من ماله خاصَّة؛ ليكون مأوى للعلماء الذين يدرسون طبائعَ الصحراء ومعادنها وأجواءَها، ولكنَّه لم يتمَّ بناؤه لما عرض من مرض الملك العالِم، ثم وفاته على شدة الحاجة إلى جُرأته وإخلاصه وعزمه، وإنفاذ هذا العزم بالبصيرة والحكمة والمثابرة.

وكنتُ كلما صحبتُ أخي إسماعيل لبعض الرِّياضة، تهاوينا إلى البيداء المقفِرة الصامتة بأحزانها الحائرة، وسرنا نتقاوَدُ[2] في جوفها فترمي بنا أرُجلنا إلى بناء شامخ، قد أَقْعى على ربوة من الأرض، كأنما يتجمّع للوثبة، ومع ذلك فأكاد أجدُ في سمعي بيان هذا الأعجم الصموت، وهو يُهَمهِمُ بأنَّاته من ذُلِّ الوحشة والأسر والنسيان والخراب، فأنشد إسماعيل قول الرضىِّ:
وَلَقَدْ رَأَيْتُ بِدَيْرِ هِنْدٍ مَنْزِلاً أَلِمًا مِنَ الضَّرَّاءِ وَالحَدَثَانِ
أَغْضَى كَمُسْتَمِعِ الْهَوَانِ تَغيَّبَتْ أَنْصَارُهُ وَخَلاَ مِنَ الأَعْوَانِ
وكان هذا البناء المسكين همَّةً من همم الملك النبيل - رحمه الله - ولقد سمعت أنه قد أحاطه بما يزيد على عشرة أفدنة ليقومَ فيها، وفي متنزهاتها، وليؤدِّي أهله إلى صحراء مصر المجهولة حقَّها من الدَّرْس والكشف والاستنباط.

هذا، وقد ضَرَع إسماعيل إلى خليفة فؤاد في ملكه وعلمه وعزمه وبصيرته، إلى الفاروق صاحب مصر الأعلى وحاميها وهاديها إلى الخير، أن يُتمَّ ما بدأ الملك الأول من البناء، وأن يُعيد لملكه الزاهرِ تاريخَ العرب والعربيَّة في عصر المأمون الذي أنشأ "بيت الحكمة"، وجعله مُسْتَقرَّ النَّقَلة، من العلماء الذين استوعبوا نقل حكمة يونان إلى اللِّسان العربي؛ فأسَّسوا للعلم ملكًا لم يطاوله في العصور إلاَّ عظمة المأمون، قال:
"ومعهد الصحراء - يا مولاي - عظيمٌ متسع الأرجاء اتساعَ العقل الخالد الذي فكَّر في إنشائه، فهل نطمع في أن يُضم إليه بضعة علماء يقفون جهودَهم على ترجمة علوم أوروبا إلى اللغة العربية؟ وفي مصر - يا مولاي - علماء أقعَدَهم النسيان عن العمل، ومنعهم الخجل عن السؤال، وعزَّ عليهم أن يهينوا العِلْمَ باستجداء العطف، أنطمعُ - يا مولاي - أن تفيضَ عليهم من فضلك الواسع ما يَسدُّ حاجتَهم من حطام الدنيا، ليكونوا نواةً لبيت الحكمة في عهدك، فيتركوا للأجيال القادمة آثارًا لا يبزها - من حيث الأثرُ في العالم العربي - إلاَّ عظمتك، ولا يفوقها في الجلالة إلاَّ جلالتك؟".

وكل أديب وعالم ومفكر في العالم العربي يضم صوته إلى صوت إسماعيل في هذه الضراعة النبيلة إلى وارث مُلْك مصر ومجد العرب، ويستيقن في قلبه أن الفاروق سيحمي العالم والأدب بحماية ملكية، ترفع عنه الظلمَ والاستعباد، وتحرِّر العلماء والأدباء من غطرسةِ الأدعياء المتشدقين بقليل العِلم ومنقوص الأدب، ممَّا أطاقوه وحملوه بفضل الرِّحلة إلى أوروبا بضعَ سنين، تزودوا فيها بالمعاشرة والمخالطة - لا بالدرس والمثابرة - بعض ما جهله أصحابُ الفضل والعلم والأدب من قومهم؛ لقعودهم - بالضرورة والعجز - عن مثل الذي ساروا إليه، وهم بالعِلم والأدب أَقْوَم، وعليه أحرص، وطبائعهم إليه أشدُّ انبعاثًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59