الموضوع: أسواق النخاسة
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 04-17-2013, 09:54 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,202
29 أسواق النخاسة


أسواق النخاسة
ـــــــــــــــــــــــــ

{ محمود محمد شاكر }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


مَا زِلْتُ أُضْحِكُ إِبْلِي كُلَّمَا نَظَرَتْ إِلَى مَنْ اخْتَضَبَتْ أَخْفَافُهَا بِدَمِ
أُسِيرُها بَيْنَ أَصْنَامٍ أُشَاهِدُهَا ولا أُشاهِدُ فيها عِفَّةَ الصَّنَمِ هكذا يقول المتنبي في صفة أصحاب السلطان الأدبي والسياسي مِن أهل عصره، ولا يزال هذا ينطبق إلى اليومِ على البلاد الشرقيَّة والعربية إلاَّ قليلاً قليلاً.
لقد أذكرتني أشياءُ رَمَتْ إلى ما كنت أَسُوس النفس على تناسيه ونبذه والتباعد عنه، ولكن صِناعة الأدب هي من بين الصناعات أشدُّها التحامًا بالحياة، لا، بل الأصول النفسية التي تقوم عليها وبها أسواقُ المجتمع الإنساني، وهي ترمي بالأديب في تنُّور متسعِّر من نزاع الغرائز والشهوات والأحقاد، وهو بين اثنتين: إما أن ينحط في هوى غرائزه التي تثيرها هذه النار الآكلةُ، فيفسد بفسادها، وإمَّا أن يتحصَّن دونها، فيروض غرائزه الوحشية، حتى تألفَ وتنقاد لحكم العقل النبيل والعواطف السامية.

فكذلك يوطن نفسه على الحرمان والألم والتفرُّد والوحشة، ثم على الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة بين تَضَرُّم النزغات المستبيحة، وبين زهادةِ النفس المتورِّعة المطمئنة، وكان أحقَّ الناس بالتسامي ومطاولة الغرائز في هذه الحرب الموقدة - الأدباءُ، فالأدب في أصله تنزيهٌ للنفس وكبحٌ من جماحها، ورفق في سياستها، فإذا انقلب الأدب تضرية للوحوش الرابضة في الدم من الطبائع والغرائز، خرَج عن أصله، وفقدت ألفاظه معانيَها، وصارت أسواقُ الأدب تعتمد في معاملتها على البغي والظُّلم والعدوان والتهجُّم والاستبداد، وفقدت كلَّ معاني الحرية والعدل والإنصاف والتمييز بين الخبيث والطيب، وهي أصولُ الفطرة الأدبية السامية.

إنَّ الأديب الحرَّ ينتفض تَقَزُّزًا واشمئزازًا كلَّما انبعثت رُوح حقارة المجتمع من وراء الرِّمم الأخلاقية المموَّهة بالنفاق، والتي أقيمت عليها أصنامٌ منصوبة للعظمة الباطلة الجوفاء، وهو أشدُّ انتفاضًا وانتفاضًا حين يرمي بصره إلى الأدب والعِلم، وهذه المعاني السامية فيرى الأدباء والعلماء أذلاَّء مستعبدين قد خضعت أعناقهم للحاجة والضرورة والبؤس، فهُم نواكس الأبصار إلى الأرض بين يدي فئة منهم، قد أخذوا عليهم أفواه الطرق المؤدية إلى بعض الرِّزق، حين واتاهم القدر ببعض السُّلطان والجاه والسيطرة، وأقامتْهم الشهرة الذائعة أنصابًا تهوي إليه الأغراض، وتُناط بها الوسائل، وتعتمد عليها الحكوماتُ في تقدير العِلم والأدب وأهلهما، والعاملين عليهما، وكذلك لا يستطيع أديبٌ أو عالم أو فيلسوف أن يجتاز إلا بإجازة مِن أيديهم وبأختامهم، وإلاَّ أن يشهدوا له شهادة التقدير، وأن يعبُروا له السِّعرَ في تسعيرة السُّوق الأدبي الذي أقامتهم الحظوظ عليه حكَّامًا ومقوِّمين.

إنَّ الشُّهرة والشهادة هما شيئان لا قيمةَ لهما في العِلم والأدب، فبناءُ العلم على نجاح التجرِبة، واستواء المنطق وإقرار العقل، وبناء الأدب على صِدْق الإحساس، وحِدَّة الإدراك وسمو العاطفة، وقوة الحشد وبراعة العبارة والأداء، فإذا لم تكن الشهرة من هذا تستفيض وعنه تَشرع، فما غناؤها على صاحبها إلا بعض الأباطيل التي تنفش في عقول الأمم الضعيفة والأجيال المستعبدة بالأوهام والتهاويل.

والشهادة ما هي إلا إجازة الدولة لأحد من الناس، أنه قد تحرَّر من طلب العلم والأدب على القيود التي تتقيَّد بها المدارس والجامعات في أنواع بعينها من الكلام، وأنَّه قد حصل في ورقة الامتحان ما فُرض عليه تحصيله بالذاكرة، ثم ترفع الشهادة يدَها عن معرفة ما وراء هذا التحصيل وما بعده، وما يصير إليه من الإهمال أو النسيان أو الضعف أو الفساد.

فحين يغادر أحدهم الجامعة حاملاً شهادته، مندمجًا في زحمة الجماعة، تفقد الشهادة سلطانها الحكومي - أو هكذا يجب أن يكون - ولا يَبقى سلطانٌ إلاَّ للرجل، وأين يقع هو من العلم أو الأدب أو الفن؟ وهل أصاب أو أخطأ؟ وهل أجاد أو أساء؟ وهكذا فهو لا ينظر إليه إلاَّ مغسولاً غفلاً من مكياج الدبلوم والليسانس والماجستير والدكتوراه... وما إليها، وإذًَا، فأوْلى ألاَّ ينظر إليه عن شهادة قوم لم يكن سبيلُهم إلى التحكُّم في أسواق العِلم والأدب إلاَّ الشهادات المستحدثة، والشُّهرة النابغة على حين فترة وضعف واختلاط وجهل، كان في الأمَّة حين كان أقلُّ العِلم وأشَفُّ[1] الأدب يرفعان صاحبهما درجاتٍ من التقدير والإجلال والكرامة.

إنَّ هذه التجارة التي تقوم على استعباد العلم والعلماء، والأدب والأدباء - تجارةٌ باغية ينبغي أن تَفْنى نخاستُها وأن تُغلقَ أسواقها، وينبغي أن يتحرَّر الأدباء والعلماء المستعبدون قليلاً من أغلال الضرورات المستحكمة؛ ليحاربوا بغي هذه التجارة بالنبل والسمو والترفُّع، وليهتكوا تلك الأستارَ الحريرية الرفيعة المسدلة على بيوت الأوثان الجاهلية التي تستعبد الأحرارَ باستغلال ضراعة الضرورة والحاجة والفقر، ينبغي...

وينبغي لكاتب هذا الباب الجديد في "الرسالة" أن يرفع القلم عند هذا القدر الآن، ويعود إليه بالتفصيل والبيان فيما يُستقبل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ

{شبكة الألوكة }
ـــــــــــــــــــــــــــــــ



المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59