عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 04-26-2015, 07:29 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,202
ورقة المنازعات في القطعيات؛ الحجاب، مثالاً

المنازعات في القطعيات؛ الحجاب، مثالاً
ــــــــــــــــــــ

(د. أسامة عثمان)
ـــــــــ

7 / 7 / 1436 هــ
26 / 4 / 2015 م
ـــــــــ



ليس بدعاً في الناس أن لا يجمعوا على شيء، حتى على الحق الأبلج؛ دين البشرية كافة، وخاتمة الرسالات؛ فالاختيار أخْلَقُ بالثواب والعقاب. ومن جهة أخرى، لا يستغرب اختلاف أهل العلم في الأحكام الظنية؛ لأسباب ليس هذا مقام ذكرها، ولكن المستنكر شرعاً، وعند العقلاء؛ أن يجترئ على أحكام الإسلام القطعية غيرُ المؤهلين؛ فيصادروا... ويفتئتوا...؛ لينزعوا عن تلك المحكمات قطعيّتها، وليجعلوها في مهب الريح، تختلف فيها وجهات النظر، ولا يُلزَم بها المسلمُ؛ فإن شاء اختارها، وإن شاء ردّها!

ذكر المفسرون في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَْلْبَابِ} [آل عمران:7] أنّ المحكمات هي الآيات الواضحةُ الدلالةِ البعيدةُ عن الاحتمال، وأما المتشابه، فهي عكس المحكم. وأن الهداية تكون بحمل المتشابه على المحكم، وردّها إليه، وأما من في قلوبهم مرض فيردون المحكم إلى المتشابه، ويفسرونه على حسب أهوائهم؛ لفتنة الناس في دينهم، وإيهاماً للأتْباع بأنهم يبتغون تفسير كلام الله.

وأجد هذا المعنى منطبقاً - إلى حد بعيد - على ظاهرة تنامت منذ فترة، تتمثل بمحاولات متكررة، تستهدف اختلاق التنازع حول قطعيات الدين، ومحاولة نقلها إلى دائرة الاختلاف والظن؛ لتوهينها، وبلبلة الأذهان فيها؛ ليفضي ذلك إلى عدم التمسك بها، أو الدفاع عنها.

ولعل أخطر ما في هذا الأمر أن ينزلق المسلمون، أو يُستدرجوا إلى نقاش فقهي؛ يحاولون فيه إثبات الثابت! وهو الذي لم يتطرق إليه خلافٌ فقهي على تتابع القرون، وتعاقب الفقهاء والعلماء بالنظر في النصوص والتنقيب فيها!

وإنما يجب أن تُبحَث هذه المسائلُ على صعيدها الصحيح، وهو: السياسي، وفي أحسن الأحوال: الفكري؛ لأن المثيرين لها ليسوا علماء أو فقهاء - حتى يصحَّ لهم النظرُ، أو يُقبل منهم القول، أو يُتوجه إليهم بالرد - إنما هم مفكرون مصابون بالانبهار بالثقافة الغربية، وهم بذلك - أرادوا، أم لم يريدوا - صدى لثقافةٍ غير ثقافتنا.

ونحن الآن في هذه الزاوية، لا نطمح إلى ردهم عن تلك التصورات الخاطئة، ولكن نرجو منهم خطاباً صريحاً منسجماً وموحَّدَ المنطلقات؛ حتى يتسنى لنا حسن التعامل معه، فإما أن يكون علمانياً، لا يقيم لغيرها وزناً، وهذا شأن، أو يكون إسلامياً يقبل منطلقات الإسلام مرجعيةً بيننا وحَكَماً، وهذا التحديد مهم لمصلحة النقاش المثمر، ولمصلحة الحقيقة. أقول هذا؛ لأنهم في إصدارهم للأحكام والمواقف يبدون مذبذبين؛ بين اعتماد الإسلام مرجعيةً، والزعم بأن المسلمين لا يحسنون فهمه، وبين إقصاء الإسلام بحصره في زوايا تسمح لهم بأن يتفردوا بالحياة بأهوائهم ومرجعياتهم الخاصة.

والعجيب أنك لو سألت القائلين بظنية تلك القطعيات: هل ترون في الإسلام أية قطعيات؟ لأجابوك بكلام غائم؛ من مثل: أن الأمور نسبيةٌ، وأنه لا يوجد حق مطلق، وأن الأحكام عرضةٌ للتطور! وأحياناً يفصحون فيقولون: إن هذا أمرٌ شخصيٌ يعود للإنسان نفسه، وبعضهم يرى أ ن هذه الأمور الدينية لا ينبغي أن يسمح لها بالظهور في الحياة العامة؛ حتى لا تؤثر على هُوية المجتمع العلمانية. والسؤال: إذا كان الأمرُ علمانية، ولا قيمة فيه للأحكام الدينية؛ فما جدوى التفريق بين القطعي منها والظني ؟ّ! أم أنهم - وهم يرون انحسار الفكر العلماني لصالح الإسلامي، ولله الحمد والمنة - يُضطَرون لمخاطبة المسلمين؛ لمحاولة التلبيس عليهم، بأن هذا الحكم أو ذاك ليس قطعياً، ولا ثابتاً، بل هي مجرد تفسيرات لبعض المأثورات، ولا يجوز أن تلزم...

وأتناول مثالاً على هذا، مسألة (الحجاب) التي ما زالت، ومنذ فترة، تتفاعل، على مستويات ثقافية وسياسية..

ولا بد في البدء من ملحوظة، وهي: أن المقصود من هذه الهجمة والضجة ليس الحجاب فحسب - حتى لا ينزعج البعض ممن يقول بأن الحجاب ليس أهم قضايانا - أقول: إن المقصود ليس الحجاب - على أهميته، بحد ذاته - وإنما هو بوصفه حكماً ثابتاً، وموضع اعتزاز لتمسك الفتاة والمرأة المسلمة بدينها، إنه بهذه الصفة يمثل حصناً قوياً جرى استهدافه للنفاذ إلى ما وراءه من قيم أخرى ثابتة.

وليتبين القارئ الكريم الفكرة الجوهرية في هذا المقال - وهي التلاعب بالقطعي والبلبلة المقصودة فيه، مع عدم الاكتراث بالدين أصلاً؛ قطعيّه وظنيّه - أضرب لذلك، مثالاً، مقالاً، نشر على "الحياة اللندنية"، بعنوان: (حجابٌ على الرأس؟ أم حجاب على العقل؟!) وهو يحمل مضامين فكرية، وليس مجرد موقف عابر.. مقالٌ، يجانب كاتبُه الموضوعيةَ، وينحاز لآرائه الجاهزة المبيتة، فيخلص في نهاية كلامه إلى أن الحجاب "حجابٌ على العقل"!

1- يقررالكاتب - منذ البداية - أن الحجاب ليس مقطوعاً بفرضيته:
"مهما تعددت الآراء التي تَتّصل بظاهرة فرض الحجاب على المرأة المسلمة، فمن الممكن أن يقال عنها: إنّها جميعاً مجرّدُ تأويلاتٍ! وهي، بوصفها كذلك، لا تُلْزِمُ أحداً غيرَ أصحابها. فليس هناك نَصٌّ قاطعٌ يفرض الحجابَ وفقاً لما يُريد الأصوليون الدينيون. هناك تفسيرٌ لبعض المأثورات. لكن، هل يصحّ، دينيّاً، أن يرتفعَ تَفسيرُ المأثور إلى مرتبة التشريع أو القانون؟ في كلّ حالٍ، تبقى مسألةُ الحجابِ خِلافيّةً .

وفرضيةُ الحجاب لا تحتاج إلى استفاضة عند أي قارىء للنصوص الشرعية، وليس من المناسب أن يتصدى له الكاتبُ وأمثالُه، ممن لا يدّعون علماً بالفقه وأصوله، ولا يدرجون أنفسهم في أهل الاختصاص، وهذا الافتئات على الفقه والفقهاء ، قديمِهم ومعاصرِهم، غيرُ مناسب في حق كاتب مثقف يدرك حدوده، ولا يتعداها .

2- والكاتب يبدو غيرَ جادٍ، ولا واقفاً عند رأيه السابق، وما يؤكد عدم حاجته لنقاش فكرته السابقة رؤيتُه التالية؛ إذ يرى أن الهوية العامة لمجتمعات المسلمين هي العلمانية التي يجب المحافظة عليها:
"الجامع هو – وحده - المكان الذي يتميّز فيه المسلم، مفصحاً عن (هويته) الدينية، في الغرب، (وهذا ما ينبغي أن يكون في البلدان العربية كذلك).

هو المكان الوحيد الذي يمارس فيه حقوقه الدينية كاملة. كل ممارسة خارجه، اجتماعية أو عامة، إنما هي عدوانٌ على القيم المشتركة. المؤسَّسة، وبخاصة التربوية، المدرسة والجامعة، مكانٌ مدنيٌّ عامٌّ ومشترك".

وهو بذلك يصرح برأيه الحقيقي: أن الحجاب، حتى لو ثبتت فرضيتُه بالقطع؛ فلا يجوز أن يظهر في الحياة العامة، فأين تلبس المرأةُ الحجابَ إذن؟! إذا لم يسمح لها بارتدائه في الحياة العامة؟!

3- وهو يدعو إلى وضع الحجاب تحت التصويت والخيار الديموقراطي:
"ولو وضع الحجابُ موضع اختيارٍ ديموقراطيّ لسقَطَ سقوطاً كاملاً" .

وهذا يعني تحكيم الديموقراطية في أحكام الإسلام، فما أقرته الديموقراطية يقبل، وما لم ترتضيه يرفض! وهذا إذا صحَّ أن ينطبق على دين غير الإسلام؛ فإنه لا ينطبق على الإسلام بحال؛ لأنه غير قابل للاحتواء والهيمنة، بل هو المهيمنُ - بالحق - على كل الأديان والمبادىء.

وهذا يتناقض وأصل مهم من أصول الدين، وهو توحيد الألوهية، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[يوسف:40].

وهو حين يزعم أنه لو وُضع الحجابُ تحت الخيار الديموقراطي لسقط سقوطا كاملاً؛ إنما يعبر عن أحلامه، وأمنياته التي تنفع فيها "ليت"، ولا تصلح لها "لعل"؛ لأن المسلِماتِ اللاتي يخترْنَ الحجابَ ويُصررْنَ عليه؛ لا يفعلن ذلك في مجتمعات محكومة بالإسلام وقوانينه، حتى نقول باحتمال الجبر والإكراه، بل يفعلنه في كل البلاد، حتى تلك الموغلة في علمانيتها، وهو ما يعرضهن للاضطهاد والتمييز في الحصول على العمل وغيره، وبالرغم من ذلك لا يردهن شىء عن قناعاتهن بالحجاب.

4 - وأخيراً، يُعوِز الكاتبَ الصبرُ، ويدفعه الاندفاعُ برأيه الجاهز إلى القول بأن الحجاب هو حجاب للعقل! وإني لأعجبُ، كما يعجب كلُ باحث منصف، بل كل عاقل مبصر؛ كيف يستخف الكاتب بوعي الناس، ويلقي إليهم الأحكام جزافا؟! ثم لا يأتي بأي شاهد من الواقع - الذي يصادمه - على شططه في الحكم؛ فلمْ يفسر لنا الكاتبُ كيف يمكن أن يكون حجاب الرأس حاجبا للعقل؟ وما العلاقة المنطقية بينهما؟ ولا سيما أنهم يعممون هذا الحكم المجحف حتى على المتحجبات بمحض الرغبة والإيمان، وكيف يفسِّر تقدمَ المرأة المتحجبة - حينما تعطى الفرصة – وإيجابيتَها، ومشاركاتِها الملموسة، في المجتمعات الغربية والعربية على السواء؟!

5 - وفي دوافع هذه الحملة على الحجاب - ولا سيما في الغرب، وفي فرنسا – أقول: إن للأمر أسباباً تتعلق برغبة تلك المجتمعات بدمج المسلمين، وتذويب ملامحهم الخاصة؛ ولو كانت من ثوابت دينهم، وفروضه التي لا تقبل المساومة، ولا تتأثر بالمكان، أو تتبدل بالزمان. ففرنسا مثلاً، تعاني انخفاضاً في نسبة النمو السكاني؛ لا يعانيه المسلمون هناك، والساسة الذين كانوا وراء ذاك القانون المجحف لا يريدون لمجتمعاتهم أن يشوبها ملمح آخر، ولو على المستوى الفردي الذي تكفله الحريات الشخصية، وقد لمّح الكاتب إلى هذا الخطر:
"إن عليهم أن يدركوا أن مثل هذا التمسك يتخطّى الانتهاكَ، إلى نوعٍ من السلوك يُتيح لكثيرٍ من الغربيين أن يروا فيه شَكْلاً آخرَ مِن أشكالِ (الغزو)".

وهم بهذا التقنين الخانق يأملون أحد أمرين؛ إما التنازل عن الحجاب، تحت طائلة القانون والتلويح بالحرمان من الحقوق، بما يعنيه ذلك من انهزام نفسي للمسلم، يمهد بدوره لانهزامات وانهيارات في ثوابت أخرى، حتى لا يبقى من دينهم إلا الانتساب إليه، وهو غير مضمون، بعد..

والخيار الآخر هو الرحيل عن تلك البلدان التي استوطنوها - والمفترض أنه متساوون وغيرهم من مواطنيها - بما يعنيه ذلك من صعوبات واقعية، وإشكالات للأسرة والأبناء.

وبعد؛ فهذا نمط من التناول الموجّه لقضايا مهمة في الدين؛ يغيّي - بكل الوسائل - محوَ شخصيةِ الأمة، وهويتَها، ومنظومتها الفكرية، بهزّ الثوابت والمسلَّمات، وتعريضها للزعزعة؛ بِطَرَقات وموجات متتابعة، ومدروسة، فمرة الحجاب، ومرة تولّي المرأة الولاية العامة، ومرة جواز زواج المرأة المسلمة من غير المسلم.. وغير ذلك من مسائل قد تبدو للبعض أنها سهلة، أو آراء متفرقة، لكنها تبدو خطيرة؛ حين توضع في سياقها، وتقرن بتصريحات الساسة والمفكرين الغربيين: بضرورة تغيير المناهج، وعدم تحكيم الشريعة، وإقصاء الجهاد! حتى وصل بهم الأمر إلى وضع كتاب بديل عن القرآن الكريم، أسموه (الفرقان الحق)!!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59