الموضوع: تفسير السعدي
عرض مشاركة واحدة
  #338  
قديم 12-25-2013, 07:59 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,197
ورقة

تفسير سورة مريم

ــــــــــــــــــــــ


مكية
ــــــ


يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ( 12 ) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ( 13 ) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ( 14 ) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ( 15 ) .
دل الكلام السابق على ولادة يحيى، وشبابه، وتربيته، فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة، أي: بجد واجتهاد، وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه، وفهم معانيه، والعمل بأوامره ونواهيه، هذا تمام أخذ الكتاب بقوة، فامتثل أمر ربه، وأقبل على الكتاب، فحفظه وفهمه، وجعل الله فيه من الذكاء والفطنة، ما لا يوجد في غيره ولهذا قال: ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) أي: معرفة أحكام الله والحكم بها، وهو في حال صغره وصباه.
( و ) آتيناه أيضا ( حَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) أي: رحمة ورأفة، تيسرت بها أموره، وصلحت بها أحواله، واستقامت بها أفعاله.
( وَزَكَاةً ) أي: طهارة من الآفات والذنوب، فطهر قلبه وتزكى عقله، وذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة، والأخلاق الرديئة، وزيادة الأخلاق الحسنة، والأوصاف المحمودة، ولهذا قال: ( وَكَانَ تَقِيًّا ) أي: فاعلا للمأمور، تاركا للمحظور، ومن كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، وكان من أهل الجنة التي أعدت للمتقين، وحصل له من الثواب الدنيوي والأخروي، ما رتبه الله على التقوى.
( و ) كان أيضا ( بَرًّا بِوَالِدَيْهِ ) أي: لم يكن عاقا، ولا مسيئا إلى أبويه، بل كان محسنا إليهما بالقول والفعل.
( وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ) أي: لم يكن متجبرا متكبرا عن عبادة الله، ولا مترفعا على عباد الله، ولا على والديه، بل كان متواضعا، متذللا مطيعا، أوابا لله على الدوام، فجمع بين القيام بحق الله، وحق خلقه، ولهذا حصلت له السلامة من الله، في جميع أحواله، مبادئها وعواقبها، فلذا قال: ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) وذلك يقتضي سلامته من الشيطان، والشر، والعقاب في هذه الأحوال الثلاثة وما بينها، وأنه سالم من النار والأهوال، ومن أهل دار السلام، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى والده وعلى سائر المرسلين، وجعلنا من أتباعهم، إنه جواد كريم.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ( 16 ) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ( 17 ) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ( 18 ) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ( 19 ) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ( 20 ) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ( 21 ) .
لما ذكر قصة زكريا ويحيى، وكانت من الآيات العجيبة، انتقل منها إلى ما هو أعجب منها، تدريجا من الأدنى إلى الأعلى فقال: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ ) الكريم ( مَرْيَمَ ) عليها السلام، وهذا من أعظم فضائلها، أن تذكر في الكتاب العظيم، الذي يتلوه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، تذكر فيه بأحسن الذكر، وأفضل الثناء، جزاء لعملها الفاضل، وسعيها الكامل، أي: واذكر في الكتاب مريم، في حالها الحسنة، حين ( انْتَبَذَتْ ) أي: تباعدت عن أهلها ( مَكَانًا شَرْقِيًّا ) أي: مما يلي الشرق عنهم.
( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ) أي: سترا ومانعا، وهذا التباعد منها، واتخاذ الحجاب، لتعتزل، وتنفرد بعبادة ربها، وتقنت له في حالة الإخلاص والخضوع والذل لله تعالى، وذلك امتثال منها لقوله تعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وقوله ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) وهو جبريل عليه السلام ( فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) أي كاملا من الرجال في صورة جميلة وهيئة حسنة لا عيب فيه ولا نقص لكونها لا تحتمل رؤيته على ما هو عليه فلما رأته في هذه الحال وهي معتزلة عن أهلها منفردة عن الناس قد اتخذت الحجاب عن أعز الناس عليها وهم أهلها خافت أن يكون رجلا قد تعرض لها بسوء وطمع فيها فاعتصمت بربها واستعاذت منه فقالت له ( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ) أي ألتجئ به وأعتصم برحمته أن تنالني بسوء ( إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) أي إن كنت تخاف الله وتعمل بتقواه فاترك التعرض لي فجمعت بين الاعتصام بربها وبين تخويفه وترهيبه وأمره بلزوم التقوى وهي في تلك الحالة الخالية والشباب والبعد عن الناس وهو في ذلك الجمال الباهر والبشرية الكاملة السوية ولم ينطق لها بسوء أو يتعرض لها وإنما ذلك خوف منها وهذا أبلغ ما يكون من العفة والبعد عن الشر وأسبابه
وهذه العفة - خصوصا مع اجتماع الدواعي وعدم المانع - من أفضل الأعمال
ولذلك أثنى الله عليها فقال وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ فأعاضها الله بعفتها ولدا من آيات الله ورسولا من رسله
فلما رأى جبريل منها الروع والخيفة قال ( إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ) أي إنما وظيفتي وشغلي تنفيذ رسالة ربي فيك ( لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ) وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه فإن الزكاء يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة واتصافه بالخصال الحميدة فتعجبت من وجود الولد من غير أب فقالت ( أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) والولد لا يوجد إلا بذلك؟!!
( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ) تدل على كمال قدرة الله تعالى وعلى أن الأسباب جميعها لا تستقل بالتأثير وإنما تأثيرها بتقدير الله فيري عباده خرق العوائد في بعض الأسباب العادية لئلا يقفوا مع الأسباب ويقطعوا النظر عن مقدرها ومسببها ( وَرَحْمَةً مِنَّا ) أي ولنجعله رحمة منا به وبوالدته وبالناس
أما رحمة الله به فلما خصه الله بوحيه ومن عليه بما من به على أولي العزم وأما رحمته بوالدته فلما حصل لها من الفخر والثناء الحسن والمنافع العظيمة وأما رحمته بالناس فإن أكبر نعمه عليهم أن بعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فيؤمنون به ويطيعونه وتحصل لهم سعادة الدنيا والآخرة ( وَكَانَ ) أي وجود عيسى عليه السلام على هذه الحالة ( أَمْرًا مَقْضِيًّا ) قضاء سابقا فلا بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء فنفخ جبريل عليه السلام في جيبها
-----------------------------------------------
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59