عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 02-01-2016, 09:02 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,217
ورقة موسى بن ميمون

التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي: موسى بن ميمون (3)
-------------------------------


(نبيل محمد سعيد عبدالعزيز)
ـــــــــــــ

22 / 4 / 1437 هــ
1 / 2 / 2016 م
ـــــــــــــ




بدت في آراء موسى بن ميمون الروح الهيلينية - التي اطلع عليها واستقاها من خلال مؤلفات فلاسفة المسلمين - الممتزجة بالروح اليهودية. ففي فسلفته تبدو فلسفة أفلاطون (427 - 347 ق. م)، وأرسطو (384 – 322 ق. م)، وأفلوطين (203 - 270م)، وابن سينا (370 - 428 ه)، وابن رشد (520 - 595 ه)، وابن طفيل (494 - 580ه)، والفارابي (260 - 339 ه)، ومتكلمي المسلمين من المعتزلة والأشاعرة، وكان هدفه هو التوفيق بين الدين اليهودي والفلسفات السابقة الذكر، ويبدو ذلك بوضوح في مؤلفه "دلالة الحائرين"(1). حتى أنه جعل أرسطو - الذي يصفه بأنه رئيس الفلاسفة - والمشرع الإسرائيلي في منزلة واحدة في كثير من المسائل الفكرية، وساوى بين أرسطو وموسى النبي(2).

وفي كتابه المسمى "السراج" - وسماه السراج لأنه كان بمثابة أضواء يسلطها على المدونة الكتيمة للشرع اليهودي، وقد وضعه بالعربية لأنها كانت لغة اليهود الدارجة في الديار الإسلامية(3) - وضع موسى بن ميمون أُصول العقيدة اليهودية وأركان الإيمان اليهودي كما تصورها، وهي (الأصول الثلاثة عشر) والتي تسمى عنده "قواعد الإيمان" والتي يجب أن يتمسك بها كل يهودي، ومن يكفر بإحداها فقد خرج عن اليهودية، وهي على النحو التالي:

الأصل الأول: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق تبارك اسمه هو الموجود المدبر لكل المخلوقات وهو وحدَه الصانع لكل شيء في ما مضى وفي الوقت الحالي وفي ما سيأتي.

الأصل الثاني: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق، تبارك اسمه، واحد لا يشبهه في وحدانيته شيء بأية حال، وهو وحدَه إلهنا كان من الأزل، وهو كائن، وسيكون إلى الأبد.

الأصل الثالث: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق، تبارك اسمه، ليس جسماً، ولا تحده حدود الجسم، ولا شبيه له على الإطلاق.

الأصل الرابع: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق، تبارك اسمه، هو الأول والآخر.

الأصل الخامس: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق، تبارك اسمه، هو وحدَه الجدير بالعبادة، ولا جدير بالعبادة غيره.

الأصل السادس: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن كلَّ كلام الأنبياء حق.

الأصل السابع: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن نبوة موسى كانت حقاً، وأنه كان أباً للأنبياء، من جاء منهم قبله، ومَن جاء بعده.

الأصل الثامن: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن كل التوراة الموجودة الآن بأيدينا هي التي أعطيت لسيدنا موسى.

الأصل التاسع: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن هذه التوراة غير قابلة للتغيير، وأنه لن تكون شريعة أخرى سواها من قِبْل الخالق، تبارك اسمه.

الأصل العاشر: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق - تبارك اسمه - عالم بكل أعمال بني آدم وأفكارهم، لقوله: " الْمُصَوِّرُ قُلُوبَهُمْ جَمِيعًا، الْمُنْتَبِهُ إِلَى كُلِّ أَعْمَالِهِمْ" (المزامير 33: 15).

الأصل الحادي عشر: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق - تبارك اسمه - يجزي الحافظين لوصاياه، ويعاقب المخالفين لها.

الأصل الثاني عشر: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بمجيء المسيح، ومهما تأخر فإنني انتظره كل يوم.

الأصل الثالث عشر: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بقيامة الموتى، في الوقت الذي تنبعث فيه بذلك إرادة الخالق - تبارك اسمه، وتعالى ذكره - الآن وإلى أبد الآبدين(4).

ويُعلق الدكتور حسن ظاظا - رحمه الله - على تلك الأصول بقوله: وواضح أن موسى بن ميمون قد وصل بالعقائد اليهودية في هذه الأصول الثلاثة عشر إلى المستوى الفكري الموازي لنتائج علم التوحيد وعلوم الكلام عند أئمة المسلمين، كما أن تأثره بها واضحٌ أشد الوضوح، فالخالق عنده كما يبدو في الأصل الأول من هذه الأصول قد خُلعت عليه ربوبية فلسفية لا تكتفي بما كان يكتفي به القصص البسيط في سِفر التكوين، بل وضعت من حوله الشروط والاحتياطات، فهو وحدَه الذي خلق والذي يخلق، حتى يتم النص على اختصاصه بهذه القدرة، منذ الأزل وإلى أبد الآبدين، وهو واحد ولكنه ليس في بساطة الإله الواحد الذي ورد نص التوراة بوحدانيته في سفر التثنية 6: 4 إذ يقول: "اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ" وهي الآية التي تقوم مقام شهادة التوحيد عند المسلمين. فهذا الرب الواحد المعلِن عن وحدانيته في التوراة يتركها مطلَقَة بلا قيد ولا شرط، كما أنه يجعل الإيمان به وجدانياً لا عقلانياً، إذ يقول بعد هذه الآية مباشرة: " فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ ". أما موسى بن ميمون فإنه يعلن عن وحدانية لا شبيه لها على الإطلاق، ثم ينص في الأصل الثالث على أن هذا الإله ليس بجسم ولا تحدُّه حدود الجسم، وأنه هو هو منذ الأزل وإلى الأبد، أو كما يقول في الأصل الرابع إنه الأول والآخر. ولا يكتفي بذلك بل ينص على تنزيهه - سبحانه وتعالى - عن الشريك في قوله في الأصل الخامس إنه وحدَه الجديرُ بالعبادة ولا يستحق العبادة غيره. كل ذلك يبدو فيه بوضوح أثر الفكر الديني الإسلامي الذي لم يكن معروفاً على عهد تدوين التوراة، يوم كان الإله الرب الواحد لا يعنيه إلا شعبه المختار، ولا يغضبه أن تكون للأمم الأخرى آلهة أخرى، ولا يتحرج النص التوراتي من أن يقارن - على لسان موسى النبي نفسه - بين هذا الرب وغيره من الأرباب فيقول: "مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزًّا فِي الْقَدَاسَةِ، مَخُوفًا بِالتَّسَابِيحِ، صَانِعًا عَجَائِبَ؟ 12 تَمُدُّ يَمِينَكَ فَتَبْتَلِعُهُمُ الأَرْضُ. 13 تُرْشِدُ بِرَأْفَتِكَ الشَّعْبَ الَّذِي فَدَيْتَهُ. تَهْدِيهِ بِقُوَّتِكَ إِلَى مَسْكَنِ قُدْسِكَ. 14 يَسْمَعُ الشُّعُوبُ فَيَرْتَعِدُونَ. تَأْخُذُ الرَّعْدَةُ سُكَّانَ فِلِسْطِينَ. 15 حِينَئِذٍ يَنْدَهِشُ أُمَرَاءُ أَدُومَ. أَقْوِيَاءُ مُوآبَ تَأْخُذُهُمُ الرَّجْفَةُ. يَذُوبُ جَمِيعُ سُكَّانِ كَنْعَانَ. 16 تَقَعُ عَلَيْهِمِ الْهَيْبَةُ
وَالرُّعْبُ. بِعَظَمَةِ ذِرَاعِكَ يَصْمُتُونَ كَالْحَجَرِ حَتَّى يَعْبُرَ شَعْبُكَ يَا رَبُّ. حَتَّى يَعْبُرَ الشَّعْبُ الَّذِي اقْتَنَيْتَهُ. 17 تَجِيءُ بِهِمْ وَتَغْرِسُهُمْ فِي جَبَلِ مِيرَاثِكَ، الْمَكَانِ الَّذِي صَنَعْتَهُ يَا رَبُّ لِسَكَنِكَ الْمَقْدِسِ الَّذِي هَيَّأَتْهُ يَدَاكَ يَا رَبُّ. 18 الرَّبُّ يَمْلِكُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ" (خروج 15: 11 - 18). ونلاحظ أن هذه الأبدية الأخيرة تُفهم تأويلاً، فما كانت اللغة العبرية تحتوي على كلمة صريحة لهذه الفكرة حينئذ، وهي بحرفيتها في الآية تعني (الرب يملك إلى نهاية العالم والزمن)(5).

ويضيف الدكتور حسن ظاظا قائلاً: وفي هذه الأصول الثلاثة عشر تأتي بعد ذلك عقيدة تعلن أن كل كلام النبيين حق وبخاصة نبوة موسى عليه السلام، كما في الأصلين السادس والسابع، ثم تقفز فكرة صوفية إسلامية حول صاحب الدعوة ومؤسس الدين، فكثير من متصوفة المسلمين يقولون أن العالم كله قد خلق من نور النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذهب البوصيري في البردة والهمزية. فعلى ضوء الفكرة الصوفية الإسلامية نجد موسى بن ميمون يقول في الأصل السابع أن موسى بن عمران كان أباً للأنبياء من جاء منهم من قبله، ومن أتى بعده أيضاً. وفي الأصل الثامن يأتي بأمر لم يكن معروفاً عند من قبلَه من اليهود الأقدمين وهو وجوب الإيمان بأن كل التوراة الموجودة بين أيدينا الآن هي نفسها التي أُعطيت لموسى بن عمران عليه السلام، ويستكمل فقرته في الأصل التاسع بأنها غير قابلة للتغيير، وأنه لن تكون شريعة أخرى سواها من قبل الخالق تبارك اسمه. وهو هنا يقلد المسلمين تقليداً صارخاً في اعتقادهم بأن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين، وأن القرآن هو خاتم الرسالات التي أنزلها الله إلى رسله الكرام، بالرغم من أن النبوة في بني إسرائيل بقيت مستمرة بعد موسى عليه السلام، كما أن التوراة التي بين أيدينا كانت قد ضاعت أكثر من مرة، وكانت تروى مشافهة مدة مديدة من الزمان في أوساط مختلفة من الرواة، بحيث لم تصل إلى أيدينا إلا بعد تنسيق وتجميع وزيادة وحذف. وفي الأصل العاشر يبدو أثر عقيدة الأشاعرة على فكر ابن ميمون حيث ينص على ضرورة الإيمان بإثبات علم الله بأعمال الناس ونواياهم، مقدماً بذلك للإيمان بالثواب والعقاب، في الأصل الحادي عشر. جديرٌ بالذكر أن الأشاعرة يرون بأن القضاء والقدر هو شيء سبق في علم الله لا في إرادته، فالله يعلم بعلمه الكامل الذي لا تحده حدود بما سيأتيه عباده من خير أو شر، ولكنه لم يجبرهم على شيء مما يفعلون، ولم يكتفِ موسى بن ميمون بالأخذ بفلسفة الأشاعرة هنا فحسب بل زادهم وضوحاً وشروحاً في "دلالة الحائرين". والأصلان الثاني عشر والثالث عشر فإنهما يتناولان مجيء المسيح والإيمان بالقيامة وبعث الموتى في اليوم الآخر، وهاتان العقيدتان من العقائد اليهودية الغير الموسوية والتي انبثقت في مجتمعهم في الأيام الحالكة التي عاينها بنو إسرائيل وعانوا منها، بدءاً من تصدع مملكة سليمان - عليه السلام - بعد وفاته مباشرة، مروراً بالسبي البابلي، والشتات والتشرد الروماني "الدياسبورا"(6).
----------------------------------
(1) حسن حسن كامل إبراهيم (د)، الآراء الكلامية لموسى بن ميمون والأثر الإسلامي فيها، مركز الدراسات الشرقية، سلسلة فضل الإسلام على اليهود واليهودية، العدد 7، 1424 هـ - 2003 م، ص12.
(2) المرجع نفسه، ص54.
(3) جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 2006 م، ص34.
(4) David Birnbaum, Jews, Church & Civilization, Volume III (Millennium Education Foundation 2005), p 157.
(5) حسن ظاظا (د)، الفكر الديني الإسرائيلي. أطواره ومذاهبه، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1971 م، ص 159 - 160.
(6) المرجع نفسه، ص 160 - 164.

-------------------
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59