عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 02-18-2012, 07:26 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الفصل السادس: الجانب الخلقي والسلوكي

تبدو أهمية الاعتناء بالجانب الخلقي والسلوكي من خلال أمور: الأول: أن حسن الخلق منزلة عالية في الدين، ويكفي في ذلك أن الله تبارك وتعالى عدَّه من صفات المتقين {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:133) وأثنى تبارك وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4). وأعلت السنة النبوية من منزلة حسن الخلق، ومما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"(1)، وجعل صلى الله عليه وسلم أحاسن الناس أخلاقاً أحبهم إليه وأقربهم منه مجلساً فقال: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً…" (2)، وجعل صلى الله عليه وسلم حسن الخلق شأن خيار الأمة فقال: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً" (3). وقد عني السلف بهذا الجانب عناية تليق به، وتناوله مَنْ كَتَبَ في أدب العالم والمتعلم، وعقد طائفة من مصنفي كتب الحديث أبواباً في ذلك، بل صنَّفوا مصنفات مستقلة فيه، وكان هذا التصنيف في مرحلة مبكرة، مما يعني أنه لم يكن من باب الترف الفكري، أو من فضول العلم، بل عدُّوه مما ينبغي أن يبدأ به طالب العلم. الثاني: أن مرحلة الطفولة والشباب هي المرحلة التي تتأصل فيها الجوانب الأخلاقية والسلوكية بشكل يصعب تغييره فيما بعد، فالأخلاق الحسنة أو السيئة التي تتأصل في النفس في هذه المرحلة تصحب الإنسان في الأغلب بقيةَ عمره. الثالث: أن الحياة والأوضاع الاجتماعية المعاصرة تشهد خللاً في الميدان الخلقي والسلوكي، والمؤسسات التعليمية لا تولي هذا الجانب القدر اللائق به. الرابع: أن الخلق مرآة تنعكس فيها شخصية المرء، ويقيسه الناس بها، وكثير من الناس يجد القبول والمكانة لدى الآخرين بل ربما أعطوه فوق منزلته لخلقه الحسن، وفي المقابل كثيرٌ ممن يرفضه الناس وينفرون منه يكون الباعث على ذلك سوء خلقه، وربما كان فيه صلاح وعلم وخير. لذا فأولئك الذين يُعدَّون لقيادة الناس وتوجيههم ودعوتهم هم أول من يحتاج للتخلق بالخلق الحسن، حتى يربوا الناس على ذلك ويصبحوا قدوة لهم، وقبل ذلك حتى يقبل الناس عليهم ويسمعوا منهم، وقد امتن الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن رزقه الرحمة واللين، وأخبر أنه لو فقد ذلك لتركه الناس وأعرضوا عنه فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159). لهذه الاعتبارات وغيرها كان الجانب الخلقي والسلوكي ميداناً مهماً من ميادين التربية. الهدف العام في الجانب الخلقي: تنمية الأخلاق الحسنة. يعدُّ هذا الهدف عنواناً جامعاً شاملاً لجوانب التربية السلوكية والخلقية، وسائر الأهداف إنما هي فرع له وتفصيل. ولقد جاء الشرع بالحثِّ على محاسن الأخلاق والنهي عن مساوئها مطلقاً، ونصَّ على جوانب من الخلق الحسن، وجوانب من الخلق السيئ، وترك جوانب من تفصيل ذلك وضوابطه لأعراف الناس التي تختلف باختلاف الزمان والمكان. فالمروءة ومعاليها من محاسن الأخلاق، بل هي مرتبطة بالعدالة وقبول الشهادة والرواية، لكن تفاصيل ما يخرم المروءة وما لا يخرمها تختلف باختلاف الزمان والمكان، والكرم خصلة كريمة محمودة باتفاق العقلاء، وقد حضَّ عليها الشرع بل ربطها بالإيمان "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"، لكن أساليب الكرم وتطبيقاته تحكمها أعراف الناس من عصر لآخر. ومع أهمية تفاصيل جوانب التربية الخلقية، إلا أن ذلك لا يغني عن النظرة المجملة التي تسعى لغرس الخلق الحسن لدى المتربي في الجملة، بحيث يصبح هذا الخلق سجية له وطبيعة، ويسعى لتمثل معالي الأخلاق والبعد عن سفاسفها. وسائل للتربية الخلقية والسلوكية: تدور معظم جوانب التربية الخلقية والسلوكية حول هدف واحد هو غرس محاسن الأخلاق، وتنقية النفس من ضدِّها، وما ذُكر إنما هو تفريع وتفصيل لهذا الهدف. ومن ثم فالوسائل المعينة على تحقيق الجوانب الأخلاقية تملك قدراً من الاشتراك، ومن هذه الوسائل: 1 - القدوة الحسنة: يمثل سلوك الأب والمعلم عاملاً مهماً في بناء الجانب الخلقي، وحين لا يتمثل المربي الخلق الحسن، تكون نهاية كثير مما يقوله مع مَنْ يربيه عندما يتلفظ به. إن الأب أو المعلم الذي يكون سريع الغضب والانفعال، أو الذي يعطي المواقف أكثر مما تحتمل، لا يمكن أن ينتج جيلاً يتسم بالحلم والأناة. وكذا حين يكثر المربي من تذكير من يربيه بسلبيات الماضي وأخطائه، فلن يغرس لديه العفو والتسامح. ومن ثم يتأكد في حق المربي مراجعة سلوكه وخلقه مراجعة هادئة بين آونة وأخرى، ويحزم مع نفسه في التخلق والتأدب بما يريد أن يغرسه لدى من يربيهم، والعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، كما قال صلى الله عليه وسلم. وقد كان المربي الأول صلى الله عليه وسلم قدوة للمربين من بعده في تعامله، يحكي ذلك عنه خادمه أنس -رضي الله عنه- حين يقول: "فخدمته في السفر والحضر ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا؟ "(4). 2 - الاعتناء بشمائل النبي صلى الله عليه وسلم: لقد اختار الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم واصطفاه لحمل الرسالة،وها هو عبد الله بن مسعود صاحبه رضوان الله عليه يشهد على ذلك ويقول: " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه؛ فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ"(5). وقد وصفه عز وجل بذلك فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) وقال أيضا:ً{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159). ويصفه أنس بن مالك -رضي الله عنه- بقوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له أبو عمير -قال: أحسبه فطيماً- وكان إذا جاء قال:"يا أبا عمير، ما فعل النغير؟" نغر كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا(6). وسئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن(7). وقد اعتنى طائفة من أهل العلم بجمع شمائله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، وأُلِّفت في ذلك مؤلفات خاصة. فيجدر أن تكون هذه الموضوعات ميداناً مهماً يتدارسه الشباب ويعتنون به. وينبغي ألا يقتصر الأمر على مجرد الدراسة النظرية بل يتجاوز ذلك فيسعى المربي لاستخدام وظائف التفكير العليا، والسعي للمقارنة واستخلاص النتائج وتطبيق ذلك على الواقع. 3 - مجالسة العلماء الربانيين: العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم حملة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله، ومن ثَمَّ كان لا غنى لطالب العلم عن صحبتهم ومجالستهم والتأدب بأدبهم، وقد اعتنى السلف بذلك وأكدوا على أن مهمة العالم لا تقف عند مجرد التحديث وسماع المرويات، بل تتجاوز ذلك إلى تعلم السمت والأدب والهدي. قال ابن المبارك: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاكتسب حلماً وعلماً ثم قيده بقيد ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد قال أبو العالية:"كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه"(8). وقال إبراهيم:"كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله"(9). وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال:"يابني، اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إلي من كثير من الحديث"(9). وقال ابن وهب: ما استفدت من أدب مالك أكثر مما استفدت من علمه. ومن ثم فلا غنى للشاب عن مجالسة أهل العلم الربانيين والاستفادة من علمهم وسمتهم وخلقهم، وحري بالمربي أن يسعى لتعزيز هذا الجانب، ومن وسائله: 1- الالتزام بحضور دروسهم ومجالسهم. 2- زيارتهم واللقاء بهم بين آونة وأخرى. 3- استقبالهم ودعوتهم لزيارة أنشطة الطلاب وبرامجهم. وحري بالذين مَنَّ الله عليهم بقدر من العلم أن يعطوا الناشئة من أوقاتهم ويحتسبوا ذلك في صالح ما يقدمون. 4 - دراسة أبواب الأدب والسلوك: لقد اعتنى السلف في مرحلة مبكرة بالآداب والسلوك، وكان من مظاهر هذه العناية: 1- تصنيف كتب خاصة بالأدب والسلوك بعامة، وبأدب طالب العلم والمعلم بخاصة، ومن ذلك: الأدب المفرد للبخاري، أخلاق العلماء للآجري، جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله لابن عبد البر، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي، والفقيه والمتفقه وغيرها. 2- أن كثيراً من المصنفين في الحديث عقدوا أبواباً في كتبهم للأدب والزهد. 3- اعتبارهم الأدب والسلوك باباً من أبواب العلم يُتعلم ويُعتنى به، بل يُرحل من أجله. إن الاعتناء بهذه الدراسات، واختيار مواد مناسبة منها تعرض للناشئة في برامجهم ومناهجهم العلمية يمكن أن يسهم في بناء الجانب الخلقي وتربيته لديهم. ومن نتائج الاعتناء بهذه الدراسات ربط الناشئة بحياة السلف وكتبهم، وهو أمر تفتقده كثير من المناهج التربوية المقدمة للناشئة اليوم. 5 - الثناء على المواقف الإيجابية: كما أن نقد المظاهر السلبية مطلب تربوي يسهم في تصحيحها وتقويمها، فالثناء على المواقف الإيجابية يسهم في تعزيزها. والثناء قد يكون ثناء على صفة أو سلوك معين، وقد يكون ثناء على فرد أو طائفة. وقد كان صلى الله عليه وسلم يستخدم هذا الأسلوب، فمن ثنائه على الصفات قوله صلى الله عليه وسلم:"الحياء خير كله"(10). ومن ثنائه على الطوائف قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية؛ فهم مني وأنا منهم"(11). ومن ثنائه على الأفراد قوله لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" (12). أهداف فرعية في التربية الخلقية والسلوكية: وهذه الأهداف الفرعية تؤدي إلى تحقيق الهدف العام المتمثل في بناء الخلق الحسن: 1 - تنقية النفس من الأخلاق السيئة: إن بناء الخلق الحسن في النفس لابد أن يصاحبه تنقيتها مما ترسب لديها من الأخلاق السيئة، أو ما يسمى ب(التخلية ثم التحلية)؛ ذلك أن الشاب قد ينشأ في بيئة يغلب عليها الخلق السيئ أو يصحب صحبة غير صالحة فيألف الخلق السيئ ويصبح جزءاً من طبيعته، ومن ثم لابد من جهد يُبذل في اقتلاع هذه الصفات وتنقية النفس منها. وحين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يوصيه أوصاه بقوله: "لا تغضب" فاستقلَّ هذا الرجل هذه الوصية وكرر سؤاله، فكرر عليه النبي صلى الله عليه وسلم الوصية نفسها: "لا تغضب" ورددها مرراً (13). 2 - تحقيق العفة والبعد عن الفواحش: وهو هدف له أهميته وخطورته، فقد حذَّر صلى الله عليه وسلم من شأن الفواحش، وبيَّن خطورتها على الأمة، وأنها أشد الفتن التي تركها بعده، فعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"(14). ولعظم شأن حفظ الفرج، جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مما تُضمن به الجنة، فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة"(15). ويتأكد هذا الجانب والعناية به في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن وأشرعت أبوابها، وصارت وسائل الإغراء والإثارة تلاحق الشباب والفتيات في كل موطن. ولما كانت هذه المشكلة من أكثر ما يتساءل عنه المربون، رأيت أن أبسط الحديث فيها وأتوسع أكثر من غيرها. إن نقطة البداية الصحيحة في التعامل مع هذه المشكلة تتمثل في سلوك أسباب الوقاية منها قبل وقوعها، ومن أسباب الوقاية: 1- التوعية بمخاطر الانسياق وراء دواعي الشهوة المحرمة، وخطورة الفواحش وآثارها، وقد حذَّر من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، حين أخبر أن هذه الفتنة من أخطر الفتن التي تواجه أمته. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أكثر ما يدخل الناس النار، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: "تقوى الله وحسن الخلق"، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: "الفم والفرج"(16). 2- تيسير فرص الزواج المبكر، كما أوصى بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"(17). وقد عُني سلف الأمة بذلك الأمر، روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً (18). وفي رواية لأحمد بن منيع: وذلك قبل أن يخرج وجهي (أي يلتحي). وقال طاوس: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج (19). ولقد اهتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بتزويج الشباب، فكانوا يحثون الآباء على تزويج أبنائهم، فيقول عمر رضي الله عنه: "زوجوا أولادكم إذا بلغوا، ولا تحملوا آثامهم" (20).وقد نادى عقلاء الغرب بالزواج المبكر ورأوا فيه حلاً للمشكلات التي يعانون منها، يقول ول ديورانت: "كان البشر في الماضي يتزوجون باكراً، وكان ذلك حلاً صحيحاً للمشكلة الجنسية، أما اليوم فقد أخذ سن الزواج يتأخر، كما أن هناك أشخاصاً لا يتوانون عن تبديل خواتم الخطبة مراراً عديدة، فالحكومات التي ستنجح في نص القوانين التي تسهل الزواج الباكر ستكون جديرة بالتقدير؛ لأنها تكشف بذلك أعظم حل لمشكلة الجنس في عصرنا هذا". وينبغي السعي لتذليل العقبات المادية التي تقف دون الزواج، من خلال الدعم والمساعدة، وإقناع الشباب بأن الزواج لن يكون بوابة للفقر والفاقة، قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور:32). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النكاح سبب لعون الله وتوفيقه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله "(21). وينبغي كذلك تذليل العقبات النفسية والاجتماعية التي قد تكون عائقاً عن المبادرة بالزواج. 3- سد الذرائع التي توصل وتقود إلى مقارفة الفاحشة، وقد عني الشرع بذلك، ومعظم آيات سورة النور تتحدث حول هذا الجانب. ومما ينبغي أن يراعى في ذلك: 3-1- التفريق بين الأبناء والبنات، وبين الأبناء مع بعضهم في المضاجع، وقد أمر بذلك صلى الله عليه وسلم فقال: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع" (22)، وينبغي مراعاة ذلك في الدور والمدارس التي يبيت الطلاب فيها. 3-2- غض البصر، وقد أمر الله تعالى به، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بغض أبصارهم، ونهاهم عن إطلاقه، والنظر الحرام هو البداية الأولى، وهو الشرارة التي توقد نار الشهوة. بل إن الأعداء الذين لا يحكمهم دين ولا خلق بدؤوا يدركون أهمية غض البصر وأثره في العفة، يقول أحد العلماء الألمان: "لقد درست علم الجنس وأدوية الجنس فلم أجد دواء أنجح وأنجع من القول في الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...} (النور:30)". 3-3- الابتعاد بالمتربين عن الأماكن التي يكثر فيها الاختلاط والتبرج، ويتعرضون فيها للنظر الحرام، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من ذلك فقال: "إياكم والجلوس في الطرقات"، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها، فقال: "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقَّه" قالوا:وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (23). فلما كان الجلوس في الطريق سبباً للوقوع في المخالفة والمعصية نهاهم عن الجلوس في الطريق ابتداءً. 3-4- الابتعاد بهم عن المجالس التي يكثر فيها الحديث عن أمور النساء وأخبارهن، كما يجري في مجالس بعض كبار السن الذين يتساهلون كثيراً في الحديث في ذلك، وأقل ما في هذا أنه مخل بالمروءة والأدب، إن سلم صاحبه من الإثم(24). 3-5- الابتعاد عن الخلوة بالأمرد، وقد حذَّر السلف من ذلك مع أنهم أهل الورع والتقى، ومن ذلك ما رواه البيهقي في الشعب عن بعض التابعين قال: "كانوا يكرهون أن يحدَّ الرجل النظر إلى الغلام الجميل" (25). وروى أيضاً عن بعض التابعين: "ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه" (26). وروى عن الحسن بن ذكوان قال: "لا تجالسوا أولاد الأغنياء؛ فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى" (27). وروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال:دخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه غلام صبيح، فقال: "أخرجوه؛ فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً، ومع كل غلام بضعة عشر شيطاناً" (28). وقد اقتضى الواقع التربوي اليوم ضرورة مخالطة هؤلاء ومعاشرتهم، ومما يزيد المشكلة كون كثير من المربين غير متزوجين، فالدعوة إلى المنع من اللقاء بهم غير واقعية، والحاجة لمخالطتهم ينبغي ألا تشغل المربين عن مراعاة الضوابط الشرعية في معاشرتهم، والبعد قدر الإمكان عن الخلوة وما في حكمها. 3-6- إبعاد الفتيان عن التشبه بالنساء، أو المبالغة في التزين والعناية بالمظاهر، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال(29). هذه بعض الذرائع التي يمكن أن تكون طريقاً للوقوع في هذه الشهوة المحرمة. ومهمة المربي فيها تتمثل في إبعاد هذه الذرائع عن البيئة التربوية وتنقيتها منها، وتوجيه المتربين إلى البعد عنها، وإغلاق الأبواب التي تقودهم إلى الحرام. 4- إبراز النماذج والقدوات في العفة والتسامي، ومن أعظم هذه النماذج ما ذكره الله تبارك وتعالى من قصة يوسف عليه السلام، والعناية بهذه القصة ودراستها ومقارنة ذلك بالواقع وإغراءاته مما ينبغي أن يكون له نصيب مهم في المناهج والبرامج التي تقدم للشباب والفتيات اليوم. 5- تقوية الإرادة والعزيمة في النفس، والأخذ بزمامها، وتعويدها ألا يستجيب لها في كل ما تدعو إليه وتأمر به، وسيأتي الحديث عن عوامل تقوية الإرادة في الجانب النفسي بمشيئة الله. 6- تنمية دافع الحياء: والحياء له أثره الكبير في حماية صاحبه من مواقعة الرذائل، ولذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم مقولة العرب: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" مما أدركه الناس من كلام النبوة الأولى(30). وحين اجتمع الحياء مع خشية الله لدى امرأة من المسلمين غاب عنها زوجها التزمت طريق العفة، وهاهي تعبر عن ذلك بقولها: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرّقني ألا خليل أداعبه فلولا خشية الله والحياء لحُرِّك من هذا السرير جوانبه "ومن فضل الله أن درجة الحياء تزداد لدى البالغ أكثر من المراحل السابقة؛ لتكون وقاية للشاب البالغ" (31). 7- إشغال الشاب بمعالي الأمور وملء اهتماماته ووقته بالأعمال الجادة المثمرة، فهي تصرف طاقته، وتشغله عن التفكير في الشهوات، وتبعده عن مواطنها. 3 - حفظ اللسان والمنطق: لقد أعلى الشرع منزلة حفظ اللسان، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" (32)، قال ابن حجر رحمه الله: "فالمعنى من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه، وأدى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال وكفه عن الحرام…وقال ابن بطال: دلَّ الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه, فمن وُقي شرهما وُقي أعظم الشر" (33). وحفظ اللسان والمنطق يشمل البعد عن الألفاظ المحرمة شرعاً، سواء كانت متعلقة بحق الله، أم بحق المخلوق كالسبِّ والشتم والسخرية، ويشمل بذاءة اللسان، والتصريح بما يستحيا منه، وهذا الأمر مما شاع للأسف واعتاده طائفة من الناس، وأهل الصلاح والتقى أولى بأن يبتعدوا عنه، فهو مظهر من مظاهر قلة الحياء، وخلق من أخلاق السوقة وأهل السوء. ومن الأدب الشرعي أن يكنى عما يستحيا منه، فجاءت التكنية في نصوص الكتاب والسنة عن الجماع بإتيان الرجل زوجته، {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ} (البقرة:222) "إذا أتى أحدكم أهله"، بل كنَّى العرب عما يخرج من الإنسان باسم موضعه الغالب وهو المكان المنخفض، ثم جاءت الألفاظ الشرعية بالتكنية عنه ب(قضاء الحاجة)، ولا يأتي التصريح إلا حين الحاجة إليه لبيان حكم لا يُبين إلا به، أو لإقامة حدٍّ وحكم شرعي. وحفظ اللسان يحتاج إلى ترويض ومجاهدة للنفس، وتعويد لها على المنطق الحسن، واختيار الألفاظ والبعد عن الفحش، وهذا مما يشق ويحتاج لمجاهدة، قال ابن القيم رحمه الله: "ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار، ويتورع من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة، يطلق لسانه في الغيبة والنميمة والتفكه في أعراض الخلق، وربما خصَّ أهل الصلاح والعلم بالله والدين والقول على الله ما لا يعلم، وكثير ممن تجده يتورع عن الدقائق من الحرام، والقطرة من الخمر، ومثل رأس الإبرة من النجاسة؛ لا يبالي بارتكاب الحرام" (34). 4 - التربية على الجدية: إن من يعد للدعوة إلى الله تبارك وتعالى ونصرة الدين يعد لمهمة عالية لا يقوم بها إلا الجادون الصادقون من الناس، ومن ثم كان لابد من الاعتناء بتنشئة جيل جاد يكون أهلاً لتحمل المسؤولية والقيام بتبعة نصر الدين والذبِّ عنه. ومن الأمور التي تعين على غرس الجدية: 1- أن يكون المربي شخصية جادة، يرى فيه تلامذته القدوة الحسنة والنموذج الصادق. 2- التعامل بجد مع الأمور الجادة، فالبرامج الجادة، والمقترحات والأفكار الجادة لا ينبغي أن يكون فيها مجال للهزل. 3- الانضباط في المزاح فهو البوابة للتربية الهزيلة، ومن صور الانضباط في ذلك: 3-1 قلة المزاح وعدم الإكثار منه؛ فإن من كثر كلامه كثر سقطه. 3-2 ألا يخرج المزاح عن الوقار والهيبة التي ينبغي أن يتسم بها طالب العلم، وله أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يخرجه المزاح عن وقاره وسمته. 3-3 ألا يكون المزاح في غير المواطن المناسبة له. 4- الاقتصاد في برامج الترويح والتعامل معها باعتدال(35). 5 - التربية على العزة والشجاعة: من الصفات التي تمثل أهمية بالغة في بناء شخصية الداعية إلى الله عز وجل: العزة والشجاعة. العزة التي تدفعه إلى الاستغناء عما في أيدي الناس، أو التطلع إلى نوالهم وتوقيرهم، والشجاعة التي تدعوه إلى اتخاذ القرار المناسب حين يحتاج إليه، وتدعوه للانتصار على نفسه حين تدعوه بداعي العجز أو الهوى، ثم هي بعد ذلك تهيئ المرء للمهام العظام حين تُراد منه، من قول كلمة الحق والجهاد في سبيل الله حين ترفع الأمة رايته. ويتأكد هذا المعنى اليوم؛ إذ إن معظم مجتمعات المسلمين لا تغرس هذه المعاني في نفوس الناشئة؛ بل هي تعودهم الاستكانة والخضوع، والخوف والخور حتى من الأشباح. وهذه الأخلاق ميدان للتفريط والإفراط، ومن ثم فهي تفتقر إلى الاتزان، فالغلو في العزة يحولها إلى أنفة وكبر واعتداد بالنفس وتمسك بحظوظها، والغلو في الشجاعة يحولها إلى تهور وطيش وسفه. وقد أمر الشرع بخفض الجناح للوالدين، ووصف من نالوا منزلة حبهم لله وحبه لهم بالذلة على المؤمنين. ومما يعين على تحقيق هذا الجانب: 1- الاعتدال في أسلوب تعامل التلميذ مع أستاذه، والبعد عن الغلو في الخضوع والتعظيم، كما يفعل جهلة أهل البدع. 2- الاعتدال في العقوبة وترك الإغلاظ فيها، فكثير ممن يُقسى معه في العقوبة تنشأ لديه عقد من الخوف والخور. 3- عدم التحقير والإهانة، والبعد عن الألفاظ التي تنبئ عن قلة الاحترام والتوقير، والخطأ يعالج باعتدال، وليس مبرراً لاستخدام أساليب التحقير والمهانة؛ فإن اعتياد الشاب على سماعها من معلمه ووالده يضعف العزة لديه، ويهيئه لتقبل الهوان. 4- التعويد على تحمل المخاوف الطبيعية، وعدم المبالغة في التخوف عليه من الانفراد والخروج في المكان المظلم ونحو ذلك، كما تفعل كثير من الأمهات. 6 - التربية على الوقار ومعالي المروءة: من شروط تحقق العدالة: البعد عما يخل بالمروءة، ومن ثم كان مما ينبغي أن يُتعاهد في الناشئ غرس معالي المروءة ورعايتها. لذا فقد اعتنى من كتب في أدب المتعلم بهذا الجانب، ذكر ابن جماعة في آداب الساكن بالمدرسة "ولا يتمشى في المدرسة، أو يرفع صوته بقراءة أو تكرار أو بحث رفعاً منكراً، أو يغلق بابه أو يفتحه بصوت…ونحو ذلك، لما في ذلك كله من إساءة الأدب على الحاضرين والحمق عليهم" (36). وذكر منها "ويتجنب ما يُعاب؛ كالأكل ماشياً، وكلام الهزل غالباً، والبسط بالنعل، وفرط التمطي والتمايل على الجنب والقفا، والضحك الفاحش بالقهقهة" (37). لذا على المربي الحرص على أن يبعد عن البيئة التربوية كل ما يخل بالمروءة، وأن يبتعد هو عن ذلك ليكون قدوة حسنة لطلابه، وأن يتدارس معهم هذه الآداب والأخلاق. 7 - التربية على السمت والهدي الحسن: كان السلف رضوان الله عليهم يعنون بالسمت والهدي والأدب، ويعدونه باباً من أبواب العلم لا ينفصل عنه. قال مالك: "إن حقاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى من قبله" (38). وقال إبراهيم: "كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله" (39) وقال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم" (39) وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن: "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث" (39) وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: "يا بني، اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إلي من كثير من الحديث" (39) 8 - التربية على الأدب مع الأكابر: من محاسن الأخلاق رعاية الأكابر وإنزال الناس منازلهم، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم منزلة هذا الخلق فقال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا"(40). وارتباط الطالب مع معلمه وطول لقائه معه يقود إلى التبسط ورفع الكلفة، مما يدفع ببعضهم إلى إساءة التعامل مع الأكابر والجفاء بحقهم. ونحن بحاجة إلى أن يحضر الشاب مجالس الكبار، ويشاركهم أحاديثهم وحوارهم، وفي الوقت نفسه يرعى الأدب معهم وينزل الناس منازلهم. ومما يسهم في تحقيق هذا الجانب - بالإضافة إلى التأكيد عليه والتناول المعرفي-: 1- تنبيه الشاب بصورة مناسبة حين يتجاوز حدود الأدب مع غيره، مع مراعاة ألا يولد ذلك لديه النفرة من مجالسة الكبار ومشاركتهم أحاديثهم. 2- احتفاظ المربي بقدر من الاتزان في التعامل مع مَنْ يربيه، بحيث تبقى الصلة صلةً بين معلم وطالب، وبين أب وابنه، ولا تتحول إلى صلة زمالة وصداقة؛ فلا يفرط في المزاح، ولا يتعامل معه بما ينافي وقار الكبار. 3- عند وقوع بعض التجاوزات من الطالب ينبغي على معلمه أن يتعامل معها بطريقة مناسبة، فتقبلها يعزز هذا التصرف لديه، ويشعره بأنه تصرف مقبول، والإغلاظ معه يولد آثاراً غير حميدة، ومن ثم فتجاهل التصرف بطريقة لبقة تشعره بأن هذه الكلمة وهذا الموقف غير مناسب، وتغني عن التصريح. هذه الطريقة في التعامل مع هذه المواقف - التي كثيراً ما تقع- تسهم في وضوح الصورة بين ما ينبغي فعله مع الأكابر وما لا ينبغي. 4- أن يلمس ممن يربيه رعايته هو لهذا الجانب، بتوقير معلميه واحترامهم، والاعتراف لهم بالفضل والسابقة، ولو صار الآن زميلاً لهم، بل لو فاقهم في بعض المجالات، وهذا دأب أهل العلم الذين تربوا عليه، نراهم يقدرون شيوخهم ويلهجون بالثناء عليهم والدعاء لهم، مع أن بعضهم قد يكون ممن فاق شيخه علماً وشهرة. وأن يلمس التلميذ من معلمه الأدب مع الكبار وأهل العلم والرأي ولو خالفهم في بعض آرائهم؛ فحين يرى الطالب ذلك كله من معلمه يترك فيه أثره بإذن الله عز وجل. 9 - التربية على رعاية آداب المجالس: للمجالس آداب لابد من رعايتها والاعتناء بها، وورود هذا التوجيه في القرآن الكريم دليل على أهمية ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} (المجادلة11)، وورد الأمر برعايتها في السنة النبوية، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم - وفي حديث أبي عوانة: من قام- من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به"(41). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه"(42). ومهما قام المربي بتوجيه من يربيه وتعليمه آداب المجالس، فإنه ما لم يشارك في هذه المجالس، فيحضر فيها، ويقول رأيه، ويشارك في الحديث…، ما لم يُوضع أمام التجربة العملية فلن يكفي البناء المعرفي المجرد. ولذا كان الصغار والشباب يحضرون مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، بل ويقتربون منه، ولم يُعدَّ ذلك سوء أدب أو مدعاة له. فقد أكل عمرو بن سلمة وهو غلام صغير في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وطاشت يده في الصحفة، وكانت هذه المشاركة فرصة ليعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أدباً من آداب الطعام، وبقي هذا النص يستدل به المسلمون على مدى الزمان، فعنه - رضي الله عنه - قال: أكلت يوماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فجعلت آكل من نواحي الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مما يليك" (43). وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم والأشياخ عن يساره، فقال: "يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ " قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحداً يا رسول الله، فأعطاه إياه(44)، والاستدلال بهذا النص لا يقف عند حدود حضور هذا الشاب مجلسه صلى الله عليه وسلم، بل كان عن يمينه وبجواره، ولم يعد أحد من الحاضرين ذلك من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من وصية عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: " وجالس بهم أشراف الرجال وأهل العلم منهم، وجنِّبهم السفلة والخدم فإنهم أسوأ الناس أدباً…". ومما يعين على ذلك أيضاً تدارس آداب المجالس والتعرف عليها، والاعتناء بالمجالس التي يجلسها الطالب ولو مع زملائه وأقرانه؛ فتراعى فيها آداب المجالس ليكون ذلك سلوكاً وسمتاً لهم لا يحتاجون إلى تكلُّفه. وربما أدت الخلطة وزوال الكلفة بينهم إلى الإخلال ببعض هذه الآداب، فلا بد حينئذ من تصحيح ذلك، والتأكيد على أن الأدب لا ينبغي أن يتجاوز بحجة ذلك. 10 - التربية على الرجولة والخشونة والبعد عن الترف: إن من إفرازات الحضارة المعاصرة اليوم أن غدت بعض مجتمعات المسلمين تعاني من انتشار مظاهر الترف، مما ولَّد جيلاً من المترفين لا يطيق حياة العزيمة والجد، وهو جيل يبحث عن الراحة والكسل، ويتقاعس عن معالي الأمور. ومن ثم أصبح على التربية اليوم عبءٌ أكثر من ذي قبل، وصارت بحاجة إلى أن تجعل غرس معاني الرجولة والبعد عن حياة الترف والترهل هدفاً من أهدافها التربوية. ومن وسائل الوصول إلى هذا الهدف وتحقيقه: 1- غرس مفهوم الجدية، وبيان مساوئ حياة الترف والبطالة. 2- التقليل من مظاهر الترف في البرامج المقدمة للشباب، مع مراعاة الاعتدال والتدرج في ذلك، ولتكن البداية في إيجاد فرق بين حياة الشاب في المنزل، وحياته في مثل هذه البرامج، بل الواجب على الأب أن يخفف من مظاهر الترف في تربيته لأبنائه. 3- تنظيم بعض البرامج الجادة كالرحلات والبرامج العلمية التي تعوِّد الشباب والأبناء على الجدية والرجولة، وعلى التخلي عن بعض ما اعتادوه من حياة مترفة منعمة(45). 11 - التربية على العزيمة والبعد عن الكسل: العجز والكسل داءان ينخران في الإنسان، ويقعدان به عن مصالح دينه ودنياه، وحين يعتاده المرء يصبح سجية له؛ فتثقل نفسه، وتضعف همته، وتفوته مجالات الخير في الدنيا والآخرة، والعاجز الكسول هو الذي "لا يزال في حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله الذي خُلق له مصدوداً منكوساً، قد أسام نفسه مع الأنعام راعياً مع الهمل، واستطاب لقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمَّر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله" (46). ولسوء هذين الداءين كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منهما؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر" (47). وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبعد عن العجز فقال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" (48). ولا بد من المبادرة بتخليص الشاب من هذه الخصلة الذميمة في وقت مبكر قبل أن تستفحل وتتحول إلى خلق يصعب اقتلاعه. ومما يعين على ذلك تعويده على الاستيقاظ المبكر، وعدم طول البقاء في الفراش، وتعويده على المبادرة إلى إنجاز الأعمال وترك التسويف، والاتزان في أوقات الراحة وترك الإطالة فيها. كما أن المرء يحتمل في حياة الجماعة ما لا يحتمله لوحده، فمعيشته أجواءً جادة مع صحبته وممارسته لأنشطة تحيي العزيمة، مما يعينه على التحمل وترك الإخلاد إلى الراحة. 12 - التربية على اغتنام الأوقات: الوقت هو عمر الإنسان وهو حياته؛ فالمرء أيام كلما مضى يوم مضى بعضه كما قال الحسن رحمه الله. والمسلمون اليوم يعانون من إهمال الوقت وتضييعه، ويديرون أوقاتهم بطريقة سيئة، وللصالحين وطلبة العلم نصيب من ذلك. إننا قد لا نبالغ إذا قلنا: إن الرجل الجاد في تعامله مع وقته ينتج أضعاف ما ينتج أقرانه، ومن ثم فالتربية التي تعنى بغرس احترام الوقت وحسن اغتنامه ستخرج جيلاً يؤدي أضعاف ما يؤديه غيره. ومما يعين على ذلك: 1- معرفة أحوال السلف في حرصهم على أوقاتهم واغتنامهم لها، ففيها عبر عظيمة؛ فهي تعلي الهمة وتزيد العزيمة، وتجعل المرء يحتقر نفسه وجهده(49). 2- الاستفادة من الأساليب الحديثة في إدارة الوقت والتعامل معه(50). 3- التعويد على استغلال أوقات الانتظار، وعدم بقائه في المنزل ينتظر صاحبه وهو فارغ غير مستفيد من وقته. 4- التعويد على القراءة؛ لتصبح سجية وطبيعة له، فمن لا يقرأ يصعب عليه أن يستفيد من وقته. 5- الانضباط قدر الإمكان في المواعيد والأوقات، وتعويد الشاب على احترام أوقات غيره. 6- ترك أوقات فراغ للشاب؛ وعدم إشغاله طيلة الوقت، وتوجيهه إلى أنشطة يمكن أن يستثمر فيها وقته؛ فمن لم يكن لديه وقت فراغ يتعامل فيه بمفرده فلن يعتد على اغتنام وقته(51). 13 - التربية على النظام في الحياة والتفكير: تسود الفوضوية اليوم في حياة المسلمين، وتسيطر على جوانب كثيرة من حياتهم، فحياة المنزل، والعلاقات الاجتماعية، والمؤسسات الإدارية…كلها تتسم بالفوضوية. ويبدو أثرها على نمط تفكيرهم، فأفكارهم تبدو غير مركزة ولا محددة، وكذا حديثهم وحوارهم. وهذه السمة العامة في المجتمع لابد أن تترك أثرها على الدعاة والمربين - كما سبق في أكثر من موضع- ومن ثَمَّ كان لابد من الاعتناء بالتربية على النظام في الحياة والتفكير. ومن وسائل تحقيق ذلك: 1- اعتناء المعلم بتنظيم أفكاره وخواطره حين يعرضها. 2- تنظيم الحوار والنقاش الذي يدار في الفصل، من خلال تركيز المعلم على تحديد جوانب الاتفاق والخلاف، وحصر دائرة النقاش، وإجادة الاستماع للآخرين….إلخ. 3- التنظيم غير المتكلف في البيئة المنزلية والمدرسية وسائر المؤسسات التربوية، ووجود أنظمة واضحة محددة يعتاد الجميع على الالتزام بها.

-------------------

الحاشية:

(1)رواه أحمد (24492) وأبو داؤود (4798). (2) رواه الترمذي (2018). (3) رواه البخاري (6035) ومسلم (2321). (4) رواه البخاري (2768) ومسلم (2309). (5) رواه أحمد (3589). (6) رواه البخاري (6203) ومسلم (659). (7) رواه مسلم (746). (8)رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (409). (9)جامع بيان العلم وفضله(1/127). (10)رواه مسلم (37). (11)رواه البخاري (2486) ومسلم (2500). (12)رواه مسلم (18). (13)رواه البخاري(6116). (14)رواه البخاري (5096). (15)رواه البخاري(6474). (16) رواه أحمد (7847) والترمذي (2004) وابن ماجة (4246). (17) رواه البخاري (5066) ومسلم (1400). (18) رواه البخاري (5096). (19) رواه ابن أبي شيبة (4/127). (20) أورده ابن الجوزي في مناقب عمر (208) وانظر: بدير محمد بدير، منهج السنة النبوية في تربية الإنسان، مكتبة الدعوة الإسلامية بالمنصورة، الطبعة الثانية، 1413ه ص(120). (21) رواه الترمذي (1655) والنسائي (3218) وابن ماجه (2518). (22) رواه أحمد (6650) وأبو داود (495). (23) رواه البخاري (6229) ومسلم (2121). (24) مما يؤسف له أن بعضاً من المنتسبين للصلاح والعلم الشرعي يكثر حديثهم في ذلك بصورة لا تليق. (25) شعب الإيمان (5395) 4/358. (26) شعب الإيمان (5396) 4/358. (27) شعب الإيمان (5397) 4/358. (28) شعب الإيمان (5405) 4/360. (29) رواه البخاري (5885). (30) رواه البخاري (3483). (31) دور الأسرة في تربية أولادها في مرحلة البلوغ. ص377. (32) رواه البخاري (6474). (33) فتح الباري (11/315). (34) عدة الصابرين ص 70. (35) سيأتي الحديث عن الترويح بشيء من التفصيل في الجانب الاجتماعي. (36) تذكرة السامع والمتكلم (282). (37) تذكرة السامع والمتكلم (299). (38) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/165). (39) جامع بيان العلم وفضله (1/127). (40) رواه الترمذي (1920) وأبو داود (4943) وأحمد (6896). (41) رواه مسلم (2179). (42) رواه البخاري (6269) ومسلم (2177). (43) رواه البخاري (5377) ومسلم (2022). (44) رواه البخاري (2351) ومسلم (2030). (45) انظر حول موضوع الترف مجلة البيان، ع 85، 86. (46) مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزية (1/46). (47) رواه البخاري (2823) ومسلم (2706). (48) رواه مسلم (2664). (49) انظر في ذلك: قيمة الزمن عند العلماء لعبد الفتاح أبي غدة. (50) انظر: إدارة الوقت لنادر أبي شيخه. (51)يعمد بعض المربين إلى إشغال معظم وقت الشاب حفاظاً عليه، ولا شك أن المقصد خير، لكن ذلك يعوده على انتظار أن يشغل الآخرون وقته، وحين يتهيأ له فراغ فقد لا يتعامل معه بصورة صحيحة، إضافة إلى أن ذلك يشغله عن القيام بواجباته المدرسية، ويعزله عن ارتباطاته الاجتماعية، وربما تضايق بعض الآباء من هذا المسلك.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59