الموضوع: سعديا جاؤون (1)
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 02-22-2016, 08:57 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,202
ورقة التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي: سعديا جاؤون (3)

التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي: سعديا جاؤون (3)
ــــــــــــــــــــــــــــــ

(نبيل محمد سعيد عبدالعزيز)
ـــــــــــــ

13 / 5 / 1437 هــ
22 / 2 / 2016 م
ــــــــ








ترجم سعديا جاؤون التوراة من اللغة العبرية إلى اللغة العربية التي كانت قد أخذت مكانتها بين اليهود بدلاً من اللغة الآرامية، وقد حاول سعديا في ترجمته أن يجعل النص التوراتي بسيطاً في متناول عقلية وإدراك القارئ العادي. ومهد سعديا لكل سفر من الأسفار التي ترجمها بمقدمة يشرح فيها الهدف من هذه الترجمة، والهدف من السفر نفسه، وما يكون قد اشتمل عليه السفر من أحداث ومدلول تلك الأحداث. وكانت ترجمته العربية خالية من الصفات التشبيهية حيث تخلص فيها من التجسيم والتشبيه وخلع الصفات البشرية على الله تبارك وتعالى. ومن ذلك قوله في تفسير سفر تكوين 1: 26(*)، حيث نجد سعديا يقول: " وقال الله نصنع إنساناً بصورتنا يشبهنا مسلطاً..." فهو يقصـد من شرحه هنا أن الله - سبحانه - سيخلق إنساناً على هيئته في الحكم والقيادة.(1)
وكتب سعديا عن التوراة تفسيرين، وهي طريقة اتبعها مع بقية أسفار العهد القديم، التي تناولها بالترجمة والشرح والتفسير.
التفسير الأول: وهو عبارة عن نقل النص من العبرية إلى العربية، أو على حد تعبيره التفسير البسيط أو القصير، وإن كانت ترجمته العربية لا تعتبر في الواقع ترجمة بمفهومها الضيق، ولكنها ترجمة في معظمها تفسير وتوضيح، أحياناً بإضافة كلمة واحدة، أو بإضافة حرف فقط، ولقد نبه بنفسه إلى ذلك في مقدمته لترجمة الأسفار الخمسة حيث قال: "ولما رأيت ذلك رسمت هذا الكتاب تفسير بسيط نص التوراة فقط محرراً بمعرفة العقل والنقل، وإذا أمكنني أن أودع إياه كلمة أو حرف ينكشف به المعنى والمراد لمن يقنعه التلويح من القول فعلت ذلك وبالله استعين على كل مصلحة أقصدها من أمر دين ودنيا". وقد كتب هذه الترجمة أو هذا التفسير القصير كما يتضح من قوله في مقدمة التفسير إلى جماهير الشعب اليهودي في عصره الذين تعلموا وفهموا اللغة العربية كما فهمها.
أما التفسير الثاني لسعديا على التوراة: فهو التفسير الطويل والذي أشار إليه أيضاً في مقدمة ترجمته لأسفار موسى الخمسة بقوله: " وإن كان هو أراد بعد ذلك الوقوف على تشريع الشرائع العقلية وكيفية صناعة السمعية، وبماذا يزول طعن كل طاعن على قصص في الكتاب طلب ذلك من الكتاب الآخر إذ هذا المختصر ينبهه على ذلك ويقتضيه قصده".(2)
ويعد تفسير سعديا جاؤون للتوراة تحولاً جوهرياً وأساسياً في تفاسير التوراة ومناهج المفسرين، حيث وضع لتفسيره أسساً من القوانين المعجمية ومبادئ النحو ومناهج التفسير العقلي.(3) كما يعد تفسير سعديا المحاولةَ الأولى المنظمةَ لليهود في تفسير النص التوراتي بظاهره وعدم التكلف في تحميل الألفاظ معنى مجازياً إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك.(4)
واتخذ سعديا جاؤون سبيل النقل والعقل في شرحه وتفسيره كما اعتمد على المأثور من أقوال السلف، وهو ما يطابق منهج الإمام محمد بن جرير الطبري(**) - رحمه الله - في التفسير والذي كان معاصراً لسعديا، وإن كان يكبره سناً إذ ولد الطبري عام 224هـ وتوفي في بغداد عام 310هـ.(5) ويمكن أن نقف على التشابه الواضح بين منهج كلٍّ من الإمام الطبري وسعديا في التفسير، مما يؤكد تأثُّر الأخير بالمنهج الإسلامي ونقله عنه بما يتلاءم مع ظروف وطبيعة النص العبري. بيد أننا عندما نقارن بين الالتزام بأسس تطبيق المنهج عند كلٍّ من الإمام الطبري وسعديا، نجد الإمام الطبري يوثق ما يقتبسه بإرجاع الأقوال إلى قائليها عن طريق سلسلة من الرواية والسند، بينما نجد أن سعديا لم يشر إلى شيء من ذلك على الإطلاق، ولولا أنه قد عين بنفسه في مقدماته أنه يعتمد على النقل وما يُجمع عليه القوم لَمَا أمكن القول بتفسيره بالمأثور. ولعل ذلك يرجع إلى أنه كان ينقل النص العبري إلى اللغة العربية في قالب تفسيري حاول فيه أن يتضمن آراء السلف وما اتفق عليه أحبار اليهود في أمور العقيدة والشريعة دون أن يذكر سنداً أو رواية كما فعل الإمام الطبري.(6)
ونجد الأثر الإسلامي أيضاً جلياً في مفاهيم سعديا جاؤون في مسألة المُحكم والمتشابه، حيث يقول الرابي سعديا جاؤون في مقدمته للتوراة: "بما أن أسس أغراض المقرا (التوراة) هي الثلاثة معارف المذكورة آنفاً وهي: الفكرة والنص والمأثور، وبما أن كل قول يكون بالضرورة إما محكم (موضوع لتفسير واحد) أو متشابه (يتأول على كل وجه)، وبما أن كل نص قائم على هذا النموذج، والتوراة على هذا المنوال، وحيث إن التوراة وضعت بإحدى اللغات، فمن الضروري على كل مفسر أن يفهم أي قول يتطابق مع الأفكار السابقة عليه ومع المأثورات المتأخرة مثل المحكم، وأما ما لا يتطابق مع هذين الاثنين، يكون كالمتشابه". ومن الواضح تبني سعديا جاؤون هذا المفهوم استناداً إلى التقسيم الذي ورد في الآية الكريمة }هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ{ ]آل عمران: 7[.(***)(7) حيث لا توجد في التوراة أدنى إشارة - من قريبٍ أو من بعيد - لمثل تلك التقسيمات أو المفاهيم والمصطلحات.
كما ظهر تأثر سعديا جاؤون أيضاً بمنهج علماء المسلمين في تعامله مع مسألة الغريب والمشكل من ألفاظ التوراة؛ فسعديا في شرحه لنص التوراة وجد فيها بعض الألفاظ التي لم يتكرر ورودها، ولم يعرف لها أصلاً معيناً، فجمعها وأحصاها في كتابه المسمى تفسير السبعين لفظة المفردة، وقيل إنها تسعين. وأخذ في شرحها عن طريق تتبع أصولها بالمقارنة بينها وبين اللغتين الآرامية والعربية، وكما اعتبر المسلمون عبدَ الله بن العباس - رضي الله عنهما - أولَ من نبه إلى الدراسات اللغوية المقارنة في الإسلام بشرحه غريبه ومشكله، كذلك اعتبر اليهود سعديا جاؤون في كتابه السبعين لفظة المفردة مؤسس علم فقه اللغة المقارن.(8)
جدير بالذكر أن التأثير الإسلامي امتد على سعديا جاؤون في تفسيره للتوراة ليصل إلى تأثره بالهجاء المستخدم في القرآن الكريم والذي أُخذ مما رواه علماء الرسم عن المصاحف التي أرسلها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى البصرة والكوفة وبقية الأمصار الإسلامية، والذي يعرف بالخط العثماني أو الرسم العثماني للمصحف(****). ففي ترجمة سعديا وكتابته العربية بالخط العبري يقول: "قال الله للثعبان إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم، وجميع وحش الصحراء، وعلى صدرك تسلك وتراباً تأكل كل أيام حيوتك". وفي مقدمته للترجمة عندما يتحدث عن الشرائع الواردة في التوراة يقول: "كمياتها وكيفياتها غير منصوصة في الكتاب مثل كمية الصلوة وكمية الزكوة". فمن الهجاء المستخدم هنا لألفاظ (حيوتك، الصلوة، الزكوة) نجد أنه قد استخدم رسم المصحف العثماني نفسه في ذلك ورسم الألف واواً، كما في قوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ{ ]البقرة: 153[. وقوله: }وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَآتَى الزَّكَوةَ{ ]البقرة: 177[. وقوله - جل شأنه -: }وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ{ ]البقرة: 179[.(9)
-------------------------
(*) جاء النص كما يلي: (وَقَالَ اللهُ: "لِنَصنَع الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَمِثالِنا، ولْيَتَسَلَّطْ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وطَيْرِ السَّمَاءِ والْبَهَائِمِ، وَجميع وُحوش الأَرْضِ، وكُلِّ ما يَدِبُ على الأرضِ"). انظر: الترجمة العربية المشتركة للكتاب المقدس، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، لبنان، العهد القديم - الإصدار الثاني 1995م، الطبعة الرابعة.
(1) عبد الرازق أحمد قنديل (د)، الأثر الإسلامي في الفكر الديني اليهودي، مركز بحوث الشرق الأوسط، جامعة عين شمس، 1984م - 1404 هـ، ص 188، ص 431.
(2) المرجع نفسه، ص 188 - 190.
(3) موشيه مردخاي تسوكر، التأثير الإسلامي في التفاسير اليهودية الوسيطة (من مقدمة كتاب: تفاسير الرابي سعديا جاؤون لسفر التكوين)، ترجمة: أ. د. أحمد محمود هويدي، مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة، سلسلة فضل الإسلام على اليهود واليهودية، العدد 6، 2003 م، ص 18، ص 43.
(4) عبد الرازق أحمد قنديل (د)، مرجع سابق، ص 430.
(**) أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، الإمام الجليل، المجتهد المطلق، صاحب التصانيف المشهورة، وهو من أهل آمل طبرستان، ولد بها عام 224هـ، ورحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، سنة 236هـ، وطوف في الأقاليم، فسُمع بمصر والشام والعراق، ثم ألقى عصاه واستقر ببغداد، وبقي بها إلى أن توفاه الله سنة 310هـ. انظر: محمد حسين الذهبي (د)، التفسير والمفسرون، مكتبة وهبة، القاهرة، الجزء الأول، ص 147.
(5) عبد الرازق أحمد قنديل (د)، مرجع سابق، ص 425 - 426.
(6) المرجع نفسه، ص 430، ص 432.
(***) تجدر الإشارة إلى أنه قد تعددت الآراء في تعريف المحكم والمتشابه المذكورين في هذه الآية الكريمة، بيد أننا إذا نظرنا إلى سياق الآية نخلص إلى ترجيح رأي الإمام الطيبي - رحمه الله - في قوله أن المحكم هو اتضح معناه، والمتشابه بخلافه. انظر: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، المجلد الثالث، ص 3 - 12.
(7) موشيه مردخاي تسوكر، مرجع سابق، ص 47.
(8) عبد الرازق أحمد قنديل (د)، مرجع سابق، ص 435.
(****) عرَّف الزركشي الرسم العثماني بقوله: خط يُتبع به الاقتداء السلفي، كما سماه المارغني بالخط الوقفي. وتعددت تعاريف العلماء للرسم العثماني في الاصطلاح، فعرفه الجعبري بأنه: مخالفة الرسم القياسي ببدل أو زيادة أو أصله أو فرعه أو رفع لبس ونحوه. وقيده المارغني بقوله: علم تعرف به مخالفاتُ خطِّ المصاحف العثمانية لأصول الرسم القياسي. وعرفه الزرقاني بأنه: الوضع الذي ارتضاه عثمان بن عفان ومن كان معه من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - في كتابة كلمات القرآن الكريم وحروفه. وعرفه محمد طاهر الكردي بأنه: ما كتبه الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - من الكلمات القرآنية في المصحف العثماني على هيئة مخصوصة لا تتفق مع قواعد الكتابة. انظر: نمشة بنت عبدالله الطواله، إعجاز الرسم القرآني بين المثبتين والنافين، مجلة الدراسات القرآنية، الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه، العدد 10، 1433هـ، ص 400.
(9) عبد الرازق أحمد قنديل (د)، مرجع سابق، ص 192 - 193.



---------------------------
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59