عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-19-2012, 11:34 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

وإذا كان المبدع هو الذي ينجز النص و"ينظم" تراكيبه؛ فإن المتلقي هو الذي يوظف خبرته اللغوية، وغير اللغوية مستكشفاً العلاقات بين الدوال ومدلولاتها، ويتوصل إلى مقاصد الناظم، ويصير للفهم والتأويل شأنهما البالغ حينها فـ( إن العبارة/النص...هي نفسها موضع الفهم أو التأويل لدى المتلقي، فالمتكلم يقوم بعملية تشفير للمعنى الذي يقصده، والمتلقي يقوم بعملية فك لهذا التشفير، ولكي تكون هاتان العمليتان على مستوى واحد أو لكي يتحقق التراسل بينهما، وتتحقَّق بذلك وظيفة الكلام، لا بد أن تحمل العبارة نفسها معايير تشفيرها، وأن يكون المتلقي نفسه على دراية بهذه المعايير) ([1] ). ولأجله يشرك عبد القاهر المتلقي في إكمال مفهوم النظم، وهو متلقٍ خاص توازي خبرته بالنص خبرة صاحبه"الناظم"، فيكون مبدعاً في القراءة كما كان المؤلف مبدعاً في النظم، وتكون القراءة عملاً إبداعياً يماثل في تراميه وتغوره ترامي النص وتغوره، ولذلك يقول عبد القاهر:( فإنك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه، ثم ما كل فكر يهتدى إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه. فما كل أحد يفلح في شق الصدفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة) ([2] ) ويقول عبد القاهر في نص آخر إن من النصوص ما كان دون معناه(حجاب يحتاج إلى خرقه بالنظر، وعليه كم يفتقر إلى شقِّة بالتفكر، وكان درراً في قعر بحر، لا بد له من تكلف الغوص عليه، وممتنعاً في شاهق لا يناله إلا بتجشم الصعود إليه، وكامناً كالنار في الزند لا يظهر حتى يقتدحه، ومشابكاً لغيره كعروق الذهب، لا تبدي صفحتها بالهوينى بل تنال بالحفر عنها، وبعرق الجبين في التمكن منها) ([3] ) ويؤمن عبد القاهر بمشاق الوصول إلى أسرار النظم وفهم مراميه فقارئ النص(قد تحمل فيه المشقة الشديدة وقطع إليه الشقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى دره حتى غاص، وأنه لم ينل المطلوب منه حتى كابد منه الامتناع والاعتياص) ([4] )ولعل هذا هو سبب ما في النظم من اللذة والمتعة التي يجدهما المتلقي فإنه(ما شرفت صنعة ولا ذكر بالفضيلة عمل إلا لأنهما يحتاجان من دقة الفكر، ولطف النظر، ونفاذ الخاطر إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على من زاولهما، والطالب لهما؛ لتعرف فضل الرماة في الأبعاد والسداد، فرهان العقول التي تستبق، ونضالها الذي تمتحن قواها في تعاطيه هو الفكر والروية والقياس والاستنباط) ([5] ). لقد كان مفهوم نظرية النظم يستوجب من عبد القاهر الإلحاح المستمر على متلقٍ مخصوص سمته الأولى الفكر والروية، والنظر والتدبر، والدقة واللطافة، وعليه نفهم إصرار عبد القاهر على متعة الكشف بعد النصب والتعب.
المتلقي الخاص هو من يكون في طَوْله الوقوف على دقائق التركيب، وإدراك الفروق بين احتمالاتها، فدخول "إن" على الجملة، أو عدم دخولها ليس سواء كما يرى عبد القاهر في قول بشار:
بكرا صاحبيّ قبل الهجير

إنّ ذاك النجاح في التبكير

(هل شيءٌ أبين في الفائدة، وأدل على أن ليس سواء دخولها، وأن لا تدخل؛ أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها، وتأتلف معه، وتتحد به حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغاً واحداً، وكأن أحدهما قد سبك في الآخر؟ هذه هي الصورة حتى إذا جئت إلى "إن" فأسقطتها، رأيت الثاني: منهما قد نبا عن الأول، وتجافى معناه عن معناه، ورأيته لا يتصل به، ولا يكون منه بسبيل، حتى تجيء بـ"الفاء"، فنقول:"بكِّرا صاحبي قبل الهجير، فذاك النجاح في التَّبكير"، و"غَنَّها وهي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء"، ثم لا ترى "الفاء" تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة، ولا ترد عليك الذي كنت تجد بـ"إن" من المعنى) ([6] ) فبين معاني النحو فروق كثيرة، ووجوه مختلفة على الناظم أن يلم بها، وأن يحسن بعد ذلك التخير ضمن دائرة النحو، وأن يتوخى منها الملائم للمقام فليس من فضل ولا مزية كما يقول(إلا بحسب الموضع وبحسب المعنى الذي تريد، والغرض الذي تؤم وإنما سبيل هذه المعاني –أي معاني النحو-سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقش فكما أنك ترى الرجل قد تهدّى الأصباغ التي عمل منها الصور والنقوش في ثوبه الذي نسج من ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها وتقاديرها، وكيفية مزجه، وترتيبه إياها إلى ما لم يتهد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، كذلك حال الشاعر، في توخيه معاني النحو، ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم) ([7] ).وفي تلقي الصور البيانية يتكئ عبد القاهر على تكثير تلك الصورة وأثرها في نفس المتلقي، وهذه النظرية التأثيرية في جودة الأدب جزء من تفكير سيكولوجي أعم يطبع كتاب الأسرار كله بطابعه، وعبد القاهر لا يفتأ يدعو إلى تجربة الطريقة النفسانية التي يسميها المحدثون الفحص الباطني، وذلك أن تقرأ الشعر وتراقب نفسك عند قراءته وبعدها تتأمل ما يعروك من الهزة والارتياح والطرب والاستحسان وتحاول أن تفكر في مصادر هذا الإحساس(فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت فانظر إلى حركات الأريحية، مم كانت وعند ماذا ظهرت؟) ([8] )، ثم يعود عبد القاهر فيعول على ذوق المتلقي في فهم دقائق النظم، والوقوف على أسراره، متخذا من البصيرة منفذاً للنص، كما في قوله(فانظر إلى نحو قول البحتري:
دان على أيدي العفاة وشاسع
عن كل ندٍ في الندى وضريب

كالبدر أفرط في العلو وضوؤه
للعصبة السـارين جـد قريب

وفكر في حالك وحال المعنى معك، وأنت في البيت لم تنته إلى الثاني، ولم تتدبر نصرته إياه، وتمثيله له فيما يُملى على الإنسان عيناه، ويؤدي إليه ناظراه، ثم قسهما على الحال وقد وقفت عليه، وتأملت طرفيه، فإنك تعلم بُعْدَ ما بين حالتيك، وشدة تفاوتهما في تمكن المعنى لديك، وتحببه إليك ونبله في نفسك، وتوفيره لأنسك، وتحكم لي بالصدق فيما قلت، والحق فيما ادعيت) ([9] ) أي أن عبد القاهر يجعل ذوق المتلقي هو الفيصل الأخير في إدراك دقائق النظم ومزاياه. وبلغ من عناية عبد القاهر بذائقة المتلقي أنه كان يكرر غير مرّة أن مَنْ لا ذوق له لن يدرك أسرار النظم، ولا جمالياته، وأن الذائقة إحساس لا يكتسب بالتعلّم، وإنما هي موهبة وفطرة، قليل من الناس من يتوافر عليها، وعدمها عند المتلقي(ليس الداء فيه بالهين. ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مسعفاً، والسعي منجحاً؛ لأن المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها، وتصور لهم شأنها أمور خفية، ومعان روحانية أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها، وتحدث له علما بها حتى يكون متهيئاً لإدراكها، وتكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، ومن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر، فرق بين موقع شيء منها وشيء، ومن إذا أنشدته قوله:
لي منك ما للناس كلهم
نظر وتسليم على الطرق

وقول البحتري
وسأستقل لك الدموع صبابة
ولو آن دجلة لي عليك دموع
وقوله:
رأت فلتات الشيب فابتسمت لها
وقالت:نجوم لو طلعن بأَسْعُد
أنق لها وأخذته الأريحية عندها، وعرف لطف موقع"الحذف" و"التنكير" في قوله:"نظر وتسليم على الطرق"وما في قول البحتري:"لي عليك دموع". من شبه ***** وأن ذلك من أجل تقديم "لي" على" عليك" ثم تنكير الدموع. وعرف كذلك شرف قوله:" وقالت نجوم لو طلعن بأسعد" وعلو طبقته، ودقة صنعته. والبلاء والداء العياء أن هذا الإحساس قليل في الناس، حتى إنه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه في شعر يقوله أو رسالة يكتبها الموقع الحسن، ثم لا يعلم أنه قد أحسن) ([10] ) ومن النصوص التي يربط فيها عبد القاهر بين ذوق المتلقي ومفهومه للنظم موازنته بين قول عنترة:
يُتابِعُ لا يبتغي غيره
بأبيض كالقبس الملتهب

وقول امرئ القيس:
جمعت ردينياً كأن سنانه

سنا لهب لم يتصل بدخان
إذا يقول:( فإنك ترى بينهما من التفاوت في الفضل ما تراه مع أن المشبه به في الموضعين شيء واحد هو شعلة النار، وما ذاك إلا من جهة أن الثاني قصد إلى تفصيل لطيف، ومرّ الأول على حكم الجمل، ومعلوم أن هذا التفصيل لا يقع في الوهم في أول وهلة، بل لا بد فيه من أن تتثبت وتتوقف وتتروَّى وتنظر في حال كل واحد من الفرع والأصل، حتى يقوم حينئذ في نفسك أن في الأصل شيئاً يقدح في حقيقة الشبه، وهو الدخان الذي يعلو رأس الشعلة، وأنه ليس في رأس السنان ما يشبه ذلك، وأنه إذا كان كذلك كان التحقيق وما يؤدي الشيء كما هو، أن تستثني الدخان وتنفي، وتقصر التشبيه على مجرد السنا، وتصور السنان فيه مقطوعاً عن الدخان، ولو فرضت أن يقع هذا كله على حد البديهة من غير أن يخطر ببالك ما ذكرت لك، قدرتَ محالا لا يتصور) ([11] ) وبعبارة أخرى يعلي عبد القاهر من شأن المتلقي في إتمام فهم مجازات المبدعين، فالمجاز وإن كان انتقال اللفظ عن موضعه، واستعماله في غير ما وضع له، إلا أن المتلقي الخاص يتجاوز حروف اللفظ إلى إحالات اللفظ، ففي قولنا عن الرجل"أسد" يدرك المتلقي أننا-كما يقول عبد القاهر- لا نقصد(أنه في معنى شجاع على الإطلاق، وإنما التجوز هو في أن ادعينا للرجل أنه في معنى الأسد فالتجوز مآل الأمر فيه إلى المعنى وحده. فإذا وصف أحدهم رجلاً بقوله:" هو كثير رماد القدر" عرفنا أنه أراد أن الموصوف كثير القرى والضيافة فلم نعرف ذلك من اللفظ نفسه، وإنما بما أحالنا إليه هذا اللفظ)([12] ). فالاستعارة تثبيت للمعنى عن طريق المشابهة، والمتلقي يستدعي البعد التشابهي بين اللفظ المذكور وما يحيل إليه فـ(إنك لا تقول: "رأيت أسداً" إلا وغرضك أن تثبت للرجل أنه مساو للأسد في شجاعته، وجرأته وشدة بطشه وإقدامه، وفي أن الذعر لا يخامره، والخوف لا يعرض له، ثم تعلم أن السامع إذا عقل هذا المعنى لم يعقله من لفظ "أسد" ولكنه يعقله من معناه، وهو أنه يعلم أنه لا معنى لجعله أسداً مع العلم بأنه رجل إلا أنك أردت أنه بلغ من شدة مشابهته للأسد ومساواته إياه مبلغاً يتوهم معه أنه أسد بالحقيقة) ([13] ).
وعلى ما سبق يدرج عبد القاهر ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز في مفهومه الواسع للنظم الذي هو مرد الإِعجاز القرآني،فـ(لا يُتصوَّر- أي المجاز والاستعارة- أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوّخ فيما بينها حكم من أحكام النحو، فلا يتصور أن يكون ههنا "فعل" أو"اسم" قد دخلته الاستعارة، من دون أن يكون قد أُلِّف مع غيره، أفلا ترى أنه إن قدر في "اشتعل" من قوله تعالى: (واشتعل الرأس شيباً)ألا يكون "الرأس" فاعلاً له، ويكون"شيبا" منصوباً عنه على التمييز، لم يتصور أن يكون مستعاراً؟ وهكذا السبيل في نظائر الاستعارة فاعرف ذلك) ([14] ). وينص عبد القاهر على أن جمالية الاستعارة والفنون البيانية، لا يتبينها المتلقي إلا من خلال النظم، فروعة الاستعارة تعود إلى مراعاتها معاني النحو وأحكامه كما في حديثه عن قول الشاعر:
الليلُ داجٍ كَنَفَا جِلْبِابِه
والبينُ محجورٌ على غُرَابِهِ
(ليس كل ما ترى من الملاحة؛ لأنْ جعل للّيل ***اباً، وحجر على الغراب، ولكن في أن وضع الكلام الذي ترى، فجعل "الليل" مبتدأ، وجعل"داج" خبراً له وفعلاً لما بعده، وهو"الكنفان" وأضاف ال***اب إلى ضمير"الليل" ولأن جعل كذلك "البين" مبتدأ، وأجرى محجوراً خبرا عنه، وأن أخرج اللفظ على "مفعول" يبين ذلك أنك لو قلت:" وغراب البين محجور عليه، أو"قد حجر على غراب البين" لم تجد له هذه الملاحة. وكذلك لو قلت: قد دجا كنفا ***اب الليل"، لم يكن شيئا) ([15] )، ويعقد عبد القاهر الصلة بين نظم التركيب واستحسان المتلقي للاستعارة، فيرى أن ترتب عناصر التركيب؛ الذي يكسر المألوف، عبر آلية التقديم والتأخير هي ما ينتج جمالية الاستعارة، ويورد عبد القاهر مثالاً على هذا بيت أبي تمام: سالتْ عليه شعابُ الحيّ حين دعا أنصارَه بوجوه كالدنانير فحسن الاستعارة في البيت(إنما تم لها الحسن، وانتهى إلى حيث انتهى بما توخّى في وضع الكلام من التقديم والتأخير، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة ذلك ومؤازرته لها، وإن شككت فاعمد إلى الجارّين والظرف فأزل كلاّ منهما عن مكانه الذي وضعه الشاعر فيه، فقل:"سالت شعاب الحي بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره" ثم انظر كيف يكون الحال،. وكيف يذهب الحسن والحلاوة، وكيف تعدم أريحيتك التي كانت، وكيف تذهب النشوة التي كنت تجدها) ([16] ). وإذ يتفاوت موقف المتلقي من الاستعارة الواحدة حين ترد في مواضع مختلفة، استملاحا أو غيره؛ فإن عبد القاهر يتخذ من ذلك معياراً يقيس به جمالية الاستعارة، فـ(إنك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في عدة مواضع ثم ترى لها في بعض ذلك من ملاحة لا تجدها في الباقي. مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظ"الجسر" في قول أبي تمام: لا يطمع المرءُ أن يَجْتابَ لجّته بالقول ما لم يكن جسراً له العمل وقوله:
بصرت بالراحة العظمى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب

فترى لها في الثاني حسناً لاتراه في الأول، ثم تنظر إليها في قول ربيعة الرقي: قولي نعم، ونعم إن قلت واجبة قالت عسى، وعسى جسر إلى نعم فترى لها لطفا وخِلابة وحسنا ليس الفضل فيه بقليل) ([17] ). والتمثيلُ عند عبد القاهر مثل الاستعارة، فالمعنى المراد فيه لا يعرفه المتلقي عن طريق اللفظ، (وإنما يعرفه من مجموع المعاني فالمغزى من قول يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد حين بلغه أنه يتلكأ في بيعته:"أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً، وتؤخر أخرى، إذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيتهما شئت والسلام" هو التردد بين الأمرين، وترجيع الرأي فيهما، وأن هذا المعنى لا يعرف من لفظ التقديم والتأخير أو من لفظ الرِّجْل، (وإنما يتأتى من المعاني الحاصلة من مجموع الكلام التي هي أدلة على الأغراض والمقاصد) ([18] ). كما يبدو المتلقي قسيما للمبدع في نظرة عبد القاهر إلى البديع، المؤسسة على المخادعة والإيهام بين القسيمين، فالمتلقي يرتهن بالمألوف؛ والمبدع يصدمه، ويخرج على مألوف صاحبه، كما في حديثه عن الجناس إذ يراه المتلقي تكرارا وإعادة، فإذا المبدع يوهم بالتكرار ويتجنبه فاللفظ واحد لكن المعنى مختلف، وعليه فالحسن في البديع عامة لا يرجع إلى الألفاظ في ذاتها، لأن الألفاظ لا توصف بالحسن أو القبح ويفرق عبد القاهر بين تجنيس قبيح كتجنيس أبي تمام:
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت
فيه الظنون أمذهبٌ أم مُذْهبُ
وبين تجنيس حسن كتجنيس البستي:
ناظراه فيما جنى ناظراه
أو دعاني أمت بما أودعاني

إذ ينكر أن يكون القبح في الأول والحسن في الثاني إلى الألفاظ، (لكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول، وقويت في الثاني. وذلك أنك رأيت أبا تمام لم يزدك بـ"مَذْهبٍ ومُذْهبٍ" على أن أسمعك حروفا مكررة لا تجد لها فائدة إن وجدت، إلا متكلفة متمحلة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك أنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفّاها) ([19] ) والفائدة من خواص تركيب الألفاظ، وما ينتج عنها من معنى، أو بعبارة أخرى: النظم محل الفائدة، وليس اللفظ، ثم يقرر عبد القاهر:( فقد تبين لك أن ما يُعطى التجنيس من الفضيلة أمر لم يتم إلا بنصرة المعنى، إذ لو كان باللفظ وحده، لما كان فيه إلا مستحسن، ولما وجد فيه إلا معيب مستهجن ولذلك ذم الاستكثار منه والولوع به) ([20] ). وفي موضع آخر يصير المتلقي عند عبد القاهر محور التجنيس، تحسينا وتقبيحا(فإنك لا تستحسن تجانس اللفظتين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل-المتلقي –موقعاً حميداً، فترى الشاعر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك كأنه لم يزدك، وقد أحسن الزيادة ووفاها).
ويسن عبد القاهر للمتلقي قانونا يحاكم به بلاغة اللون البديعي، متخذا من إحساس المتلقي بالتكلف والاعتساف المعيار الأول في الحكم بالحسن أو القبح، ويأتي الزلل في البديع عند عبد القاهر حين يجور المبدع على المعنى، ويحيف مع اللفظ(ومن ههنا رأيت العلماء يذمون من يحمله تطلب السجع والتجنيس على أن يضيم لهما المعنى، ويدخل عليه من أجلهما، وعلى أن يتعسف في الاستعارة بسببهما، ويركب الوعورة، ويسلك المسالك المجهولة...وذلك أنه لا يتصور أن يجب بهما، ومن حيث هما، فضل، ويقع بهما مع الخلو من المعنى اعتداد) ([21] ). لقد كان عبد القاهر في نصوصه التي كتبها عن النظم إنما ينشئ تصوراً متكاملاً للتلقي، وإن المتلقي الذي ظل حاضراً على الدوام في ذهن عبد القاهر، فهو القسيم الموضوعي للمبدع، بحيث يمكننا القول إنه كان يبدع نظرية في التلقي إلى جانب نظريته في الإبداع المعروفة بالنظم.











مصادر البحث ومراجعه

- أحمد المعتوق:
مفهوم الأسلوب، مجلة التوباد، العدد15، ذو الحجة 1413هـ ص4-19.
- عبد القاهر الجرجاني:
أسرار البلاغة، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة،(د.ط)، 1404هـ1984م.
دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 1412هـ-1991م.
- عزالدين إسماعيل:
قراءة في(معنى المعنى عند عبد القاهر، فصول، المجلد السابع، العددان الثالث والرابع، القاهرة، 1987م ص 36-46.
- فتحي أحمد عامر:
نظرية العلاقات عند عبد القاهر، مجلة الفكر العربي، العدد:25، السنة العاشرة 1989م ص70-83.
- محمد عبد المنعم خفاجي:
أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، مجلة الشعر، مصر، العدد23، السنة 8،ص ص(117-121).
- مصطفى ناصف:
قراءة في دلائل الإعجاز، مجلة فصول، المجلد الأول، العددان: الثاني والثالث، القاهرة،1981م. ص ص33-45.















[1]. عز الدين إسماعيل، قراء ة في معنى المعنى عند عبد القاهر، مجلة الفصول، المجلد7، العددان الثالث والرابع، القاهرة،1987م،ص44.


[2]. أسرار البلاغة،141.

[3]. المصدر السابق،143.

[4]. نفسه،ص145.

[5]. نفسه،ص148.

[6]. الدلائل، ص316.

[7]. المصدر السابق،ص87-88.

[8]. نفسه،ص85.

[9]. أسرار البلاغة،ص116.

[10]. الدلائل، ص547-549.

[11]. أسرار البلاغة، ص163، 164.

[12]. انظر الدلائل،ص431.

[13]. المصدر السابق،ص432.

[14]. الدلائل،ص393.

[15]. المصدر السابق، ص102-103.

[16]. نفسه، ص99.

[17]. نفسه، ص78-79.

[18]. نفسه، ص440-441.

[19]. نفسه، 524.

[20]. أسرار البلاغة،ص8،7.

[21].الدلائل523.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59