عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 01-09-2012, 10:32 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

و من القائلين بنفي اشتراط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني لما أدرك عليهعصبية قريش من التلاشي و الاضمحلال و استبداد ملوك العجم من الخلفاء فأسقط شرطالقرشية و إن كان موافقاً لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده و بقيالجمهور على القول باشتراطها و صحة الإمامة للقرشي و لو كان عاجزاً عن القيام بأمورالمسلمين و رد عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره لأنه إذا ذهبت الشوكةبذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية و إذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضاً إلىالعلم والدين و سقط اعتبار شروط هذا المنصب و هو خلاف الاجتماع.
و لنتكلم الآنفي حكمة اشتراط النسب ليتحقق به الصواب في هذه المذاهب فنقول: أن الأحكام الشرعيةكلها لا بد لها من مقاصد و حكم تشتمل عليها و تشرع لأجلها و نحن إذا بحثنا عنالحكمة في اشتراط النسب القرشي و مقصد الشارع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصلةالنبي صلى الله عليه و سلم كما هو في المشهور و إن كانت تلك الوصلة موجودة و التبركبها حاصلاً لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت فلا بد إذن من المصلحة فياشتراط النسب و هي المقصودة من مشروعيتها و إذا سبرنا و قسمنا لم نجدها إلا اعتبارالعصبية التي تكون بها الحماية و المطالبة و يرتفع الخلاف و الفرقة بوجودها لصاحبالمنصب فتسكن إليه الملة و أهلها و ينتظم حبل الإلفة فيها و ذلك أن قريشاً كانواعصبة مضر و أصلهم و أهل الغلب منهم و كان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة و العصبيةو الشرف فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك و يستكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهملتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم و عدم انقيادهم و لا يقدر غيرهم من قبائل مضر أنيردهم عن الخلاف و لا يحملهم على الكرة فتتفرق الجماعة و تختلف الكلمة.
والشارع محذر من ذلك حريص على أتفاقهم و رفع التنازع و الشتات بينهم لتحصل اللحمة والعصبية و تحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنهم قادرون على سوق الناسبعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف عليهم و لا فرقة لأنهم كفيلونحينئذ بدفعها و منع الناس منها فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب و هم أهل العصبيةالقوية ليكون أبلغ في انتظام الملة و أتفاق الكلمة و إذا انتظمت كلمتهم انتظمتبانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب و انقادت الأمم سواهم إلى أحكامالملة و وطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات و استمر بعدها فيالدولتين إلى أن أضمحل أمر الخلافة و تلاشت عصبية العرب و يعلم ما كان لقريش منالكثرة و التغلب على بطون مضر من مارس أخبار العرب و سيرهم و تفطن لذلك في أحوالهم.
و قد ذكر ذلكابن إسحاقفيكتاب السيرو غيره فإذا ثبت أن اشتراط القرشية أنما هو لدفعالتنازع بما كان لهم من العصبية و الغلب و علمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر و لا أمة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها و طردنا الملةالمشتملة على المقصود من القرشية و هي وجود العصبية فاشترطنا في القائم بأمورالمسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا منسواهم و تجتمع الكلمة على حسن الحماية و لا يعلم ذلك في الأقطار و الآفاق كما كانفي القرشية إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة و عصبية العرب كانت وافيةبها فغلبوا سائر الأمم و إنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبيةالغالبة و إذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا لأنه سبحانه إنما جعل الخليفةنائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم و يردهم عن مضارهم و هومخاطب بذلك و لا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه ألا ترى ما ذكره الإمام ابنالخطيب في شأن النساء و أنهن في كبير من الأحكام الشرعية جعلن تبعاً للرجال و لميدخلن في الخطاب بالوضع. و إنما دخلن عنده بالقياس و ذلك لما لم يكن لهن من الأمرشيء و كان الرجال قوامين عليهن اللهم إلا في العبادات التي كل أحد فيها قائم علىنفسه فخطابهن فيها بالوضع لا بالقياس ثم أن الوجود شاهد بذلك فإنه لا يقوم بأمر أمةأو جيل إلا من غلب عليهم و قل أن يكون الآمر الشرعي مخالفاً للأمر الوجودي و اللهتعالى أعلم.
الفصل السابع و العشرون في مذاهب الشيعة في حكم الأمامة
إعلم أن الشيعة لغة هم الصحب و الأتباع و يطلق في عرف الفقهاء و المتكلمين من الخلفو السلف على اتباع علي و بنيه رضي الله عنهم و مذهبهم جميعاً متفقين عليه أنالإقامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة و يتعين القائم بهابتعيينهم بل هي ركن الدين و قاعدة الإسلام و لا يجوز لنبي إغفاله و لا تفويضه إلىالأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم و يكون معصوماً من الكبائر و الصغائر و أنعلياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله و سلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة و لا نقله الشريعة بل أكثرهاموضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة.
و تنقسم هذه النصوصعندهم إلى جلي و خفي فالجلي مثل قوله:من كنت مولاه فعلي مولاه.قالوا و لم تطرد هذه الولاية إلا في علي و لهذا قال له عمر أصبحت مولى كلمؤمن و مؤمنة و منها قوله:أقضاكم عليو لا معنى للأمامةإلا القضاء بأحكام الله و هو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله:أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم.و المراد الحكمو القضاء و لهذا كان حكماً في قضية الإمامة يوم السقيفة دون غيره و منها قولهمن يبايعني على روحه و هو وصي و ولي هذا الأمر من بعديفلميبايعه إلا علي.
و من الخفي عندهم بعث النبي صلى الله عليه و سلم علياً لقراءةسورة براءة في الموسم حين أنزلت فإنه بعث بها أولاً أبا بكر ثم أوحي إليه ليبلغهرجل منك أو من قومك فبعث علياً ليكون القارىء المبلغ قالوا: و هذا يدل على تقديمعلي. و أيضاً فلم يعرف أنه قدم أحداً على علي. و أما أبو بكر و عمر فقدم عليهمافي غزاتين أسامة بن زيد مرة و عمر بن العاص أخرى و هذه كلها أدلة شاهدة بتعيين عليللخلافة دون غيره فمنها ما هو غير معروف و منها ما هو بعيد عن تأويلهم ثم منهم منيرى أن هذه النصوص تدل على تعيين علي و تشخيصه. و كذلك تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإمامية و يتبرأون من الشيخين حيث لم يقدموا علياً و يبايعوه بمقتضى هذهالنصوص و يغمصون في إمامتهما و لا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردودعندنا و عندهم و منهم من يقول أن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخصو الناس مقصرون حيث لم يصغوا الوصف موضعه و هؤلاء هم الزيدية و لا يتبرأون منالشيخين و لا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأن علياً أفضل منهما لكنهم يجوزون إمامةالمفضول مع وجود الأفضل.
ثم اختلفت نقول هؤلاء الشيعة في مساق الخلافة بعد عليفمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنص عليهم واحداً بعد واحد على ما يذكر بعد و هؤلاءيسمون الإمامية نسبةً إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام و تعيينه في الإيمان و هيأصل عندهم و منهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشيوخ و يشترط أن يكونالإمام منهم عالماً زاهداً جواداً شجاعاً و يخرج داعياً إلى إمامته و هؤلاء همالزيدية نسبة إلى صاحب المذهب و هو زيد بن علي بن الحسين السبط و قد كان يناظر أخاهمحمداً الباقر على اشتراط الخروج في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زينالعابدين إماماً لأنه لم يخرج و لا تعرض للخروج و كان مع ذلك ينعى عليه مذاهبالمعتزلة و أخذه إياها عن واصل بن عطاء و لما ناظر الإمامية زيداً في إمامة الشيخينو رأوه يقول بإمامتهما و لا يتبرأ منهما رفضوه و لم يجعلوه من الأئمة و بذلك سموارافضة و منهم من ساقها بعد علي و ابنيه السبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهمامحمد بن الحنفية ثم إلى ولده و هم الكيسانية نسبة إلى كيسان مولاه و بين هذهالطوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصاراً و منهم طوائف يسمون الغلاة تجاوزوا حدالعقل و الإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة. إما على أنهم بشر اتصفوا بصفاتالألوهية أو أن الإله حل في ذاته البشرية و هو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى فيعيسى صلوات الله عليه و لقد حرق علي رضي الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم وسخط محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه فصرح بلعنته والبراءة منه و كذلك فعل جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه ومنهم من يقول إن كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخرليكون فيه ذلك الكمال و هو قول بالتناسخ و من هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد منالأئمة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعين لذلك عندهم و هؤلاء هم الواقفية فبعضهميقول هو حي لم يمت إلا أنه غائب عن أعين الناس و يستشهدون لذلك بقصة الخضر قيل مثلذلك في علي رضي الله عنه لم أنه في السحاب و الرعد صوته و البرق في صوته و قالوامثله في محمد بن الحنيفة و إنه في جبل رضوى من أرض الحجاز.
و قال شاعرهم.
ألا أن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء
علي و الثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان و بر و سبط غيبته كربلاء
و سبط لا يذوق الموت حتى يقود الجيش يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل و ماء
و قال مثله غلاة الإمامية و خصوصاً الاثنا عشرية منهم يزعمون أن الثانيعشر من أئمتهم و هو محمد بن الحسن العسكري و يلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم فيالحلة و تغيب حين اعتقل مع أمه و غاب هنالك و هو يخرج آخر الزمال فيملأ الأرض عدلاًيشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتابالترمذيفيالمهدي و هم إلى الآن ينتظرونه و يسمونه المنتظر لذلك، و يقفون في كل ليلة بعدصلاة المغرب بباب هذا السرداب و قد قدموا مركباً فيهتمون باسمه و يدعونه للخروج حتىتشتبك النجوم ثم ينفضون و يرجئون الأمر إلى الليلة الآتية و هم على ذلك لهذا العهدو بعض هؤلاء الواقفية يقول أن الإمام الذي مات يرجع إلى حياته الدنيا و يستشهدونلذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصة أهل الكهف و الذي مر على قرية و قتيل بنيإسرائيل حين ضرب بعظام البقرة التي أمروا بذبحها و مثل ذلك من الخوارق التي وقعتعلى طريق المعجزة و لا يصح الاستشهاد بها في غير مواضعها و كان من هؤلاء السيدالحميري و من شعره في ذلك
إذا ما المرء شاب له قذال وعللهالمواشط بالخضاب
فقد ذهبت بشاشته و أودى فقم يا صاحنبك على الشباب
إلى يوم تتوب الناس فيه إلى دنياهمقبل الحساب
فليس بعائد مافات منه إلى أحد إلىيوم الإياب
أدين بأن ذلك دين حق وما أنا فيالنشور بذي ارتياب
كذاك الله أخبر عن أناس حيوامن بعد درس في التراب
و قد كفانا مؤونة هؤلاء الغلاة أئمة الشيعة فإنهملا يقولون بها و يبطلون احتجاجاتهم عليها و أما الكيسانية فساقوا الإمامة من بعدمحمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم و هؤلاء هم الهاشمية ثم افترقوا فمنهم من ساقهابعده إلى أخيه علي ثم إلى ابنه الحسن بن علي و آخرون يزعمون أن أبا هاشم لما ماتبأرض السراة منصرفاً من الشام أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس و أوصىمحمد إلى ابنه ابراهيم المعروف بالإمام و أوصى هو إلى أخيه عبد الله بن الحارثيةالملقب بالسفاح و أوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقب بالمنصور و انتقلت فيولده بالنص و العهد واحداً بعد واحد إلى آخرهم و هذا مذهب الهاشمية القائمين بدولةبني العباس و كان منهم أبو مسلم و سليمان بن كثير و أبو سلمة الخلال و غيرهم منشيعة العباسية و ربما يعضدون ذلك بأن حقهم في هذا الأمر يصل إليه من العباس لأنهكان حياً وقت الوفاة و هو أولى بالوراثة بعصبية العمومة و أما الزيدية فساقواالإمامة على مذهبهم فيها و إنها باختيار أهل الحل و العقد لا بالنص فقالوا بإمامةعلي ثم ابنه الحسن ثم أخيه الحسين ثم ابنه زيد بن علي و هو صاحب هذا المذهب و خرجبالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل و صلب بالكناسة و قال الزيدية بإمامة ابنه يحيى منبعده فمضى إلى خراسان و قتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن حسن بنالحسن السبط و يقال له النفس الزكية، فخرج بالحجاز و تلقب بالمهدي و جاءته عساكرالمنصور فقتل و عهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة و معه عيسى بن زيد بن علي فوجهإليهم المنصور عساكره فهزم و قتل إبراهيم و عيسى و كان جعفر الصادق أخبرهم بذلك كلهو هي معدودة في كراماته و ذهب آخرون منهم إلى أن الامام بعد محمد ابن عبد اللهالنفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر، و عمر هو أخو زيد بن علي فخرج محمدبن القاسم بالطالقان فقبض عليه و سيق إلى المعتصم فحبسه و مات في حبسه و قال آخرونمن الزيدية أن الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الذي حصر مع إبراهيم بن عبدالله في قتاله مع منصور و نقلوا الإمامة في عقبه و إليه انتسب دعي الزنج كما نذكرهفي أخبارهم و قال آخرون من الزيدية أن الإمام بعد محمد بن عبد الله أخوة إدريس الذيفر إلى المغرب و مات هنالك و قام بأمر ابنه إدريس و اختط مدينة فاس و كان من بعدهعقبه ملوكاً بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم. و بقي أمر الزيدية بعدذلك غير منتظم و كان منهم الذاعي الذي ملك طبرستان و هو الحسن بن زيد بن محمد بنإسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين السبط و أخوه محمد بن زيد ثم قام بهذهالدعوة في الديلم الناصر الأطروش منهم، و أسلموا على يده و هو الحسن بن علي بنالحسن بن علي بن عمر و عمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة و توصل الديلممن نسبهم إلى الملك و الاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم. و أماالإمامية فساقوا الإمامة من علي الرضى إلى ابنه الحسن بالوصية ثم إلى أخيه الحسينثم إلى ابنه علي زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق ومن هنا افترقوا فرقتين فرقة ساقها إلى ولده إسماعيل و يعرفونه بينهم بالإمام و همالاسماعيلية و فرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم و هم الاثنا عشرية لوقوفهم عندالثاني عشر من الأئمة و قولهم بغيبته إلى آخر الزمان كما مر فأما الإسماعيليةفقالوا بإمامة اسماعيل الإمام بالنص من أبيه جعفر و فائدة النص عليه عندهم و إن كانقد مات قبل أبيه إنما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصة هارون مع موسى صلوات اللهعليهما قالوا انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم و هو أول الأئمةالمستورين لأن الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر و تكون دعاته ظاهرين إقامةللحجة على الخلق و إذا كانت له شوكة ظهر و أظهر دعوته قالوا و بعد محمد المكتومابنه جعفر الصادق و بعده ابنه محمد ****** و هو آخر المستورين و بعده ابنه عبد اللهالمهدي الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في كتامة و تتابع الناس على دعوته ثمأخرجه من معتقله بسجلماسة و ملك القيروان و المغرب و ملك بنوه من بعده مصر كما هومعروف في أخبارهم و يسمى هؤلاء نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل و يسمون أيضاًبالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور و يسمون أيضاً الملحدة لما فيضمن مقالتهم من الإلحاد و لهم مقالات قديمة و مقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمدالصباح في آخر المائة الخامسة و ملك حصوناً بالشام و العراق و لم تزل دعوته فيهاإلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك بمصر و ملوك التتر بالعراق فانفرضت. و مقالةهذا الصباح في دعوته مذكورة في كتابالملل و النحلللشهرستاني.و أما الاثنا عشرية فربما خصوا باسم الإمامية عندالمتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه الأكبرإسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنص على إمامة موسى هذا ثم ابنه علي الرضا الذيعهد إليه المأمون و مات قبله لم يتم له أمر ثم ابنه محمد التقي ثم ابنه علي الهاديثم ابنه محمد الحسن العسكري ثم ابنه محمد المهدي المنتظر الذي قدمناه قبل و في كلواحدة من هذه المقالات للشيعة اختلاف كثير إلا أن هذه أشهر مذاهبهم و من أراداستيعابها و مطالعتها فعليهبكتاب الملل و النحللابن حزموالشهرستانيو غيرهماففيها بيان ذلك و الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم و هو العليالكبير.
الفصل الثامن و العثسرون في انقلاب الخلافةإلى الملك
إعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل و أن الشرائع و الديانات و كل أمر يحل عليه الجمهور فلا بدفيه من العصبية إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه.
فالعصبية ضرورية للملةو بوجودها يتم أمر الله منها و في الصحيح ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ثموجدنا الشارع قد ذم العصبية و ندب إلى إطراحها و تركها فقال: إن الله أذهب عنكمعبية الجاهلية و فخرها بالآباء أنتم بنو آدم و آدم من تراب، و قال تعالىإن أكرمكم عند الله أتقاكمو وجدناه أيضاً قد ذم الملك و أهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق و الإسراف في غير القصد و التنكب عنصراط الله و إنما حض على الإلفة في الدين و حذر من الخلاف و الفرقة، و أعلم أنالدنيا كلها و أحوالها مطية للآخرة و من فقد المطية فقد الوصول، و ليس مراده فيماينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه منأصله و تعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهدالاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقاً و تتحد الوجهة كما قال صلى الله عليه و سلم:من كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و منكانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.فلميذم الغضب و هو يقصد نزعه من الإنسان فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصارللحق و بطل الجهاد و إعلاء كلمة الله و إنما يذم الغضب للشيطان و للأغراض الذميمةفإذا كان الغصب لذلك كان مذموماً و إذا كان الغضب في الله و لله كان ممدوحاً و هومن شمائله صلى الله عليه و سلم و كذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكليةفإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه و إنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتمالهعلى المصالح ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية و كذا العصبية حيثذمها الشارع و قاللن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم،فإنمامراده حيث تكون العصبية على الباطل و أحواله كما كانت في الجاهلية و أن يكون لأحدفخر بها أو حق على أحد لأن ذلك مجال من أفعال العقلاء و غير نافع في الآخرة التي هيدار القرار فأما إذا كانت العصبية في الحق و إقامة أمر الله فأمر مطلوب و لو بطللبطلت الشرائع إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل و كذا الملك لما ذمهالشارع لم يذم منه الغلب بالحق و قهر الكافة على الدين و مراعاة المصلح و إنما ذمهلما فيه من التغلب بالباطل و تصريف الآدميين طوع الأغراض و الشهوات كما قلناه، فلوكان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله و لحملهم على عبادة الله و جهاد عدوه لميكن ذلك مذموماً و قد قال سليمان صلوات الله عليه: ربي هب لي ملكاً لا ينبغي لأحدمن بعدي.
لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبؤة و الملك. و لما لقيمعاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه منالعديد و العدة استنكر ذلك و قال: أكسروية يا معاوية فقال يا أمير المؤمنين أنا فيثغر تجاه العدو و بنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب و الجهاد حاجة فسكت و لم يخطئه لمااحتج عليه بمقصد من مقاصد الحق و الدين فلو كان القصد رفض الملك من أصله لم يقنعهالجواب في تلك الكسروية و انتحالها بل كان يحرض على خروجه عنها بالجملة و إنما أرادعمر بالكسروية ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل و الظلم و البغي وسلوك شبله و الغفلة عن الله و أجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس وباطلهم و إنما قصده بها وجه الله فسكت، و هكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك وأحواله و نسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل فلما استحضر رسول الله صلى اللهعليه و سلم استخلف أبا بكر على الصلاة إذ هي أهم أمور الدين و ارتضاه الناس للخلافةو هي حمل الكافة على أحكام الشريعة و لم يجر للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل و نخلةيومئذ لأهل الكفر و أعداء الدين فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبهوقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره و قاتلالأمم فغلبهم و أذن للعرب بانتزاع ما بأيديهم من الدنيا و الملك فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي رضى عنهما و الكل متبرئون منالملك منكبون عن طرقه و أكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من عضاضة الإسلام و بداوةالعرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا و ترفها لا من حيث دينهم الذي يدعوهمإلى الزهد في النعيم و لا من حيث بداوتهم و مواطنهم و ما كانوا عليه من خشونة العيشو شظفه الذي ألفوه، فلم تكن أمة من الأمم أسغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز فيأرض غير ذات زرع و لا ضرع و كانوا ممنوعين من الأرياف و حبوبها لبعدها و اختصاصهابمن وليها من ربيعة و اليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها و لقد كانوا كثيراً مايأكلون العقارب و الخنافس و يفخرون بأكل العلهز و هو وبر الإبل يمهونه بالحجارة فيالدم و يطبخونه و قريبا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم و مساكنهم حتى إذا اجتمعتعصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد صلى الله عليه و سلم زحفوا إلىأمم فارس و الروم و طلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق فابتزوا ملكهم واستباحوا دنياهم فزخرت بحار الرفه لديهم حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعضالغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها فاستولوا من ذلك على مالا يأخذه الحصر و هممع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد و كان علي يقول: يا صفراء و يابيضاء غري غيري و كان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقلتهايومئذ و كانت المناخل مفقودةً عندهم بالجملة و إنما يأكلون الحنطة بنخالها ومكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم قال:المسعوديفي أيام عثمان أفتى الصحابة الضياع و المال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسونو مائة ألف دينار و ألف ألف درهم و قيمة ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرهما مائتاألف دينار و خلف إبلاً و خيلاً كثيرةً و بلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعدوفاته خمسين ألف دينار و خلف ألف فرس و ألف أمة و كانت غلة طلحة من العراق ألفدينار كل يوم و من ناحية السراة أكثر من ذلك و كان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألففرس و له ألف بعير و عشرة آلاف من الغنم و بلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً و خلف زيد بن ثابت من الفضة و الذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلفمن الأموال و الضياع بمائة ألف دينار و بنى الزبير داره بالبصرة و كذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية و كذلك بنى طلحة داره بالكوفة و شيد دارة بالمدينة وبناها بالجصو الآجر و الساج و بنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق و رفع سمكها و أوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات و بنى المقداد داره بالمدينة و جعلها مجصصة الظاهر و الباطن وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار و عقاراً و غير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهممن كلامالمسعودي.فكانت مكاسب القوم كما تراه و لم يكنذلك منيعاً عليهم في دينهم إذ هي أموال حلال لأنها غنائم و فيوء و لم يكن تصرفهمفيها بإسراف إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم و أنكان الاستكثار من الدنيا مذموماً فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف و الخروجبه عن القصد و إذا كان حالهم قصداً و نفقاتهم في سبيل الحق و مذاهبه كان ذلكالاستكثار عوناً لهم على طرق الحق و اكتساب الدار الآخرة فلما تدرجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها و جاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه و حصلالتغلب و القهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه و الاستكثار من الأموال فلميصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة و مذاهب الحق، و لماوقعت الفتنة بين علي و معاوية و هي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق و الاجتهادو لم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمهمتوهم وينزع إليه ملحد و إنما اختلف اجتهادهم في الحق و سفه كل واحد نظر صاحبهباجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه و إن كان المصيب عليا فلم يكن معاوية قائماً فيهابقصد الباطل إنما قصد الحق و أخطأ و الكل كانوا في مقاصدهم على حق ثم اقتضت طبيعةالملك الانفراد بالمجد و استئثار الواحد به و لم يكن لمعاوية أن يدفع عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها و استشعرته بنو أمية و من لم يكن علىطريقة معاويه في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه و استماتوا دونه و لو حملهممعاوية على غير تلك الطريقة و خالفهم في الانفراد بالأمر لوقوع في افتراق الكلمةالتي كان جمعها و تأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة و قد كان عمر بنعبد العزيز رضي الله عنه يقول: إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر لو كان لي منالأمر شيء لوليته الخلافة و لو أراد أن يعهد إليه لفعل و لكنة كان يخشى من بنى أميةأهل الحل و العقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة. و هذاكله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية فالملك إذا حصل و فرضنا أنالواحد انفرد به و صرفه في مذاهب الحق و وجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه و لقد انفردسليمان و أبوه داود صلوات الله عليهما بملك بنى إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك منالانفراد به وكانوا ما علمت من النبؤة و الحق و كذلك عيد معاوية إلى يزيد خوفاً منافتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهدإلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به صالحاً و لا يرتاب أحد في ذلك و لا يظنبمعاوية غيره فلم يكن ليعهد إليه و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا اللهلمعاوية من ذلك و كذلك كان مروان بن الحكم و ابنه و أن كانوا ملوكاً لم يكن مذهبهمفي الملك مذهب أهل البطالة و البغي إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا فيضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد يشهدلذلك ما كانوا عليه من الاتباع و الإقتداء و ما علم السلف من أحوالهم و مقاصدهم فقداحتج مالك في الموطأ بعمل عند الملك و أما مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعينو عدالتهم معروفة ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك و كانوا من الدين بالمكان الذيكانوا عليه و توسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة و الصحابةجهده و لم يهمل. ثم جاء خلفهم و استعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم و نسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها و اعتماد الحق في مذاهبهافكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم و أدالوا بالدعوة العباسية منهمو ولي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان و صرفوا الملك في وجوه الحق و مذاهبهما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح و الطالح ثم أفضى الأمرإلى بنيهم فأعطوا الملك و الترف حقه و انغمسوا في الدنيا و باطلها و نبذوا الدينوراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم و انتزاع الأمر من أيدي العرب جملة و أمكن سواهم والله لا يظلم مثقال ذرة. و من تأمل سير هؤلاء الخلفاء و الملوك و اختلافهم في تحريالحق من الباطل علم صحة ما قلناه و قد حكاهالمسعوديمثله في أحوال بنى أمية عن أبي جعفر المنصور و قد حصر عمومته و ذكروا بنيأمية فقال: أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع و أما سليمان فكان همهبطنه و فرجه و أما عمر فكان أعور بين عميان و كان رجل القوم هشام قال و لم يزل بنوأمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه و يصونون ما و هب الله لهم منه معتسلمهم معالي الأمور و رفضهم دنياتها حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانتهمتهم قصد الشهوات و ركوب اللذات من معاصي الله جهلاً باستدراجه و أمناً لكره معاطراحهم ***** الخلافة و استخفافهم بحق الرئاسة و ضعفهم عن السياسة فسلبهم اللهالعز و ألبسهم الذل و نفى عنهم النعمة ثم استحضر عبد الله ابن مروان فقص عليه خبرهمع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح قال أقمت ملياً ثم أتاني ملكهم فقعدعلى الأرض و قد بسطت لي فرش ذات قيمة فقلت ما منعك عن القعود على ثيابنا فقال إنيملك و حق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله ثم قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم ؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا و أتباعنا قال: فلم تطئونالزرع بدوابكم و الفساد محرم عليكم ؟ قلت: فعل ذلك عبيدنا و أتباعنا بجهلهم قال:فلم تلبسون الديباج و الذهب و الحرير و هو محرم عليكم في كتابكم ؟ قلت: ذهب مناالملك و انتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا، فأطرقينكث بيده في الأرض و يقول عبيدنا و أتباعنا و أعاجم دخلوا في ديننا ثم رفع رأسهإلي و قال: ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنهنهيتم و ظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز و ألبسكم الذل بذنوبكم و لله نقمة لمتبلغ غايتها فيكم و أنا خائف أن يحل بكم العذاب و أنتم ببلدي فينالني معكم و إنماالضيافة ثلاث فتزود ما احتجت إليه و ارتحل عن أرضي فتعجب المنصور و أطرق فقد تبينلك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك و أن الأمر كان في أوله خلافة و وازع كل أحد فيهامن نفسه و هو الدين و كانوا يؤثرونه على أمور دنياهم و أن أفضت إلى هلاكهم وحدهمدون الكافة فهذا عثمان لما حصر في الدار جاءه الحسن و الحسين و عبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه فأبى و منع من سل السيوف بين السلمين مخافةالفرقة و حفظاً للإلفة التي بها حفظ الكلمة و لو أدى إلى هلاكه. و هذا علي أشارعليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية و طلحة على أعمالهم حتى يجتمعالناس على بيعته و تتفق الكلمة و له بعد ذلك ما شاء من أمره و كان ذلك من سياسةالملك فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام و غدا عليه المغيرة من الغداة فقال: لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق و النصيحةوأن الحق فيما رأيته أنت فقال علي: لا و الله بل أعلم أنك نصحتني بالأمس و غششتنياليوم و لكن منعني مما أشرت به زائد الحق و هكذا كانت أحوالهم في إصلاح دينهم بفساددنياهم و نحن:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك و بقيت معاني الخلافة منتحري الدين ومذاهبه و الجري على منهاج الحق و لم يظهر التغير إلا في الوازع الذيكان ديناً ثم انقلب عصبيةً و سيفاً و هكذا كان الأمر لعهد معاوية و مروان و ابنهعبد الملك و الصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد و بعض ولده ثم ذهبت معانيالخلافة و لم يبق إلا اسمها و صار الأمر ملكاً بحتاً و جرت طبيعة التغلب إلى غايتهاو استعملت في أغراضها من القهر التقلب في الشهوات و الملاذ و هكذا كان الأمر لولدعبد الملك و لمن جاء بعد الرشيد من بني العباس و اسم الخلافة باقياً فيهم لبقاءعصبية العرب و الخلافة و الملك في الطورين ملتبس بعضهما ببعض ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب و فناء جيلهم و تلاشى أحوالهم وبقى الأمر ملكاً بحتاً كماكان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركاً و الملك بجميع ألقابهو مناحيه لهم و ليس للخليفة منه شيء و كذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة معالعبيديين و مغراوة و بني يفرن أيضاً مع خلفاء بني أمية بالأندلس و العبيديينبالقيروان فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولا ثم التبست معانيهما واختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة و الله مقدر الليل والنهار و هو الواحد القهار.
الفصل التاسع و العشرون في معنى البيعة
إعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم لهالنظر في أمر نفسه و أمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك و يطيعه فيما يكلفه بهمن الأمر على المنشط و المكره و كانوا إذا بايعوا الأمير و عقدوا عهده جعلوا أيديهمفي يديه تأكيداً للعهد فأشبه ذلك فعل البائع و المشتري فسمي بيعةً مصدر باع و صارتالبيعة مصافحةً بالأيدي هذا مدلولها في عرف اللغة و معهود الشرع و هو المراد فيالحديث في بيعة النبي صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة و عند الشجرة وحيثما و ردهذا اللفظ و منه بيعة الخلفاء و منه أيمان البيعة كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك فسمي هذا الاستيعاب إيمان البيعة و كان الإكراه فيهاأكثر و أغلب و لهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاةعليه و رأوها قادحةً في أيمان البيعة، و وقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه وأما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليدأو الرجل أو الذيل أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كانهذا الخضوع في التحية و التزام الآداب من لوازم الطاعة و توابعها و غلب فيه حتىصارت حقيقيةً عرفيةً و استغنى بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصللما في المصافحة لكل أحد من التنزل و الابتذال المنافيين للرئاسة و صون المنصبالملوكي إلا في الأقل ممن يقصد التواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصه و مشاهيرأهل الدين من رعيته فافهم معنى البيعة في العزف فإنه أكيد على الإنسان معرفته لمايلزمه من حق سلطانه و إمامه و لا تكون أفعاله عبثاً و مجاناً و اعتبر ذلك من أفعالكمع الملوك و الله القوي العزيز.
الفصل الثلاثون في ولاية العهد
إعلم أنا قدمنا الكلام في الإمامة و مشروعيتهالما فيها من المصلحة و أن حقيقتها للنظر في مصالح الأمة لدينهم و دنياهم فهو وليهمو الأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته و يتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته و يقيم لهممن يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما و ثقوا به فيماقبل و قد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه و انعقاده إذ وقع بعهد أبي بكررضي الله عنه لعمر بمحضر من الصحابة و أجازوه و أوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضيالله عنه و عنهم و كذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة بقية العشرة و جعل لهم أنيختاروا للمسلمين ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان و على علي فآثر عثمان بالبيعة على ذلكلموافقته إياه على لزوم الاقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده فانعقد أمرعثمان لذلك و أوجبوا طاعته و الملأ من الصحابة حاضرون للأولى و الثانية و لم ينكرهأحد منهم فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته.
و الإجماعحجة كما عرف ولايتهم الإمام في هذا الأمر و أن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون علىالنظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعةً بعد مماته خلافاً لمن قال باتهامهفي الولد و الوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد فإنه بعيد عن الظنة في ذلككله لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفيالظنة في ذلك رأساً كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد و إن كان فعل معاوية مع وفاقالناس له حجة في الباب و الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنماهو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس و اتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليهحينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم و هم عصابة قريش و أهل الملةأجمع و أهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها و عدل عن الفاضلإلى الفضول حرصاً على الاتفاق و اجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع.
وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابرالصحابة لذلك و سكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحقهوادة و ليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك و عدالتهممانعة منه و فرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيءمن الأمور مباحاً كان أو محظوراً كما هو معروف عنه و لم يبق في المخالفة لهذا العهدالذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير و ندور المخالف معروف ثم إنه وقع مثل ذلك منبعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق و يعملون به مثل عبد الملك و سليمانمن بني أمية و السفاح والمنصور والمهدي و الرشيد من بني العباس و أمثالهم ممن عرفتعدالتهم و حسن رأيهم للمسلمين و النظر لهم و لا يعاب عليهم إيثار أبنائهم و إخوانهمو خروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فأنهم كانواعلى حين لم. تحدث طبيعة الملك و كان الوازع دينياً فعند كل أحد وازع من نفسهفعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط و آثروه على غيره و وكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلىوازعه. و أما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملكو الوازع الديني قد ضعف و احتيج إلى الوازع السلطاني و العصباني فلو عهد إلى غير منترتضيه العصبية لردت ذلك العهد و انتقض أمره سريعاً و صارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.
سأل رجل علياً رضي الله عنه: ما بال المسلمين اختلفوا عليك و لميختلفوا على أبي بكر و عمر فقال: لأن أبا بكر و عمر كانا واليين على مثلي و أنااليوم وال على مثلك يشير إلى وازع الدين أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بنموسى بن جعفر الصادق و سماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك و نقضوا بيعته و بايعوالعمه بن المهدي و ظهر من الهرج و الخلاف وانقطاع السبل و تعدد الثوار و الخوارج ماكاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده فلا بدمن اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور و القبائل والعصبيات و تختلف باختلاف المصالح و لكل واحد منها حكم يخصه لطفاً من الله بعباده وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هوأمر من الله يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً منالعبث بالمناصب الدينية و الملك لله يؤتيه من يشاء، و عرض هنا أمور تدعو الضرورةإلى بيان الحق فيها.
فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته فإياكأن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد فإنه أعدل من ذلك و أفضل بل كانيعذله أيام حياته في سماع الغناء و ينهاه عنه و هو أقل من ذلك و كانت مذاهبهم فيهمختلفة و لما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه فمنهم منرأى الخروج عليه و نقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين و عبد الله بن الزبير رضيالله عنهما و من اتبعهما في ذلك و منهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة و كثرةالقتل مع العجز عن الوفاء به لأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بنى أمية و جمهور أهلالحل و العقد من قريش و تستتبع عصبية مضر أجمع و هي أعظم من كل شوكة و لا تطاقمقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدعاء بهدايته و الراحة منه و هذاكان شأن جمهور المسلمين و الكل مجتهدون و لا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم فيالبر و تحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم.
و الأمر الثاني هو شأنالعهد مع النبي صلى الله عليه و سلم و ما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي رضي الله عنهو هو أمر لم يصح و لا نقله أحد من أئمة النقل و الذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية و أن عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنه لم يقع و كذا قول عمررضي الله عنه حين طعن و سئل في العهد فقال: إن أعهد فقد عهد من هو خير مني يعنيأبا بكر و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه و سلم لم يعهد وكذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي صلى الله عليه و سلميسألانه عن شأنهما في العهد فأبى على من ذلك و قال إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيهاآخر الدهر و هذا دليل على أن علياً علم أنه لم يوص و لا عهد إلى أحد و شبهةالإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون و ليس كذلك و إنماهي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق و لو كانت من أركان الدين لكان شأنهاشأن الصلاة و لكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة و لكان يشتهر كمااشتهر أمر الصلاة و احتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهمارتضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أنالوصية لم تقع. و يدل ذلك أيضاً على أن أمر الإمامة و العهد بها لم يكن مهما كماهو اليوم و شأن العصبية المراعاة في الاجتماع و الافتراق في مجاري العادة لم يكنيومئذ بذلك الاعتبار لأن أمر الدين و الإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليفالقلوب عليه و استماتة الناس دونه و ذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها فيحضور الملائكة لنصرهم و تردد خبر السماء بينهم و تجدد خطاب الله في كل حادثة تتلىعليهم فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد و الإذعان ومايستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة و الأحوال الإلهية الواقعة و الملائكة المترددةالتي وجموا منها و دهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة و الملك و العهد والعصبية وسائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك القبيل كما وقع فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلكالمعجزات ثم بفناء القرون الذين شاهدوها فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً و ذهبتالخوارق و صار الحكم للعادة كما كان فاعتبر أمر العصبية و مجاري العوائد فيما ينشأعنها من المصالح و المفاسد و أصبح الملك والخلافة و العهد بهما مهماً من المهماتالأكيدة كما زعموا و لم يكن ذلك من قبل فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي صلى اللهعليه وسلم غير مهمة فلم يعهد فيها ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشيء بما دعتالضرورة إليه في الحماية والجهاد و شأن الردة و الفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والترك كما ذكرناه عن عمر رضي الله عنه ثم صارت اليوم من أهم الأمور للإلفة علىالحماية و القيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة والتخاذل و منشأ الاجتماع و التوافق الكفيل بمقاصد الشريعة و أحكامها.
و الأمرالثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة و التابعين فاعلم أن اختلافهمإنما يقع في الأمور الدينية و ينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة و المداركالمعتبرة و المجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد منالطرفين و من لم يصادفه فهو مخطئ فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمالالإصابة و لا يتعين المخطئ منها و التأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً و إن قلنا إن الكلحق و إن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ و التأثيم و غاية الخلاف الذي بين الصحابةو التابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية و هذا حكمه و الذي وقع من ذلك فيالإسلام إنما هو واقعة على مع معاوية و مع الزبير و عائشة و طلحة و واقعة الحسين معيزيد و واقعة ابن الزبير مع عبد الملك فأما و واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتلعثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة علي و الذين شهدوا فمنهم من بايع و منهممن توقف حتى يجتمع الناس و يتفقوا على إمام كسعد و سعيد و ابن عمر و أسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة و عبد الله بن سلام و قدامة بن مظعون و أبى سعيد الخدري و كعب بنمالك و النعمان بن بشير و حسان بن ثابت و مسلمة بن مخلد و فضالة بن عبيد و أمثالهممن أكابر الصحابة و الذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدمعثمان و تركوا الأمر فوضى حتى يكون شورى بين المسلمين لمن يولونه و ظنوا بعلي هوادةفي السكوت عن نصر عثمان من قاتله لا في الممالأة عليه فحاش لله من ذلك.
و لقدكان معاوية إذا صرح بملامته إنما يوجهها عليه في سكوته فقط ثم اختلفوا بعد ذلك فرأىعلي أن بيعته قد انعقدت و لزمت من تأخر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دارالنبي صلى الله عليه و سلم و موطن الصحابة و أرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلىاجتماع الناس و اتفاق الكلمة فيتمكن حينئذ من ذلك و رأى الآخرون أن بيعته لم تنعقدلافتراق الصحابة أهل الحل و العقد بالآفاق و لم يحصر إلا قليل و لا تكون البيعة إلاباتفاق أهل الحل و العقد و لا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم و إنالمسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أولاً بدم عثمان ثم يجتمعون على إمام وذهب إلى هذامعاوية و عمرو بن العاص و أم المؤمنين عائشة و الزبير و ابنه عبد الله و طلحة وابنه محمد و سعد و سعيد و النعمان بن بشير و معاوية بن خديج و من كان على رأيهم منالصحابة الذين تخلفوا عن بيعة علي بالمدينة كما ذكرنا إلا أن أهل العصر الثاني منبعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة علي و لزومها للمسلمين أجمعين و تصويب رأيه فيما ذهبإليه و تعيين الخطأ من جهة معاوية و من كان على رأيه و خصوصاً طلحة و الزبيرلانتقاضهما على علي بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التأثيم عن كل من الفريقينكالشأن في المجتهدين و صار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصرالأول كما هو معروف.
و لقد سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفين فقال: والذي نفسي بيده لا يموتن أحد من هؤلاء و قلبه نقي إلا دخل الجنة يشير إلى الفريقيننقلهالطبريو غيره فلا يقعن عندك ريب في عدالة أحد منهمو لا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت و أقوالهم و أفعالهم إنما هي عن المستندات وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السنة إلا قولاً للمعتزلة فيمن قاتل علياً لم يلتفتإليه أحد من أهل الحق و لا عرج عليه و إذا نظر ت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين فيشأن الاختلاف في عثمان و اختلاف الصحابة من بعد و علمت أنها كانت فتنةً ابتلى اللهبها الأمة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم و ملكهم أرضهم و ديارهم و نزلواالأمصار على حدودهم بالبصرة و الكوفة و الشام و مصر و كان أكثر العرب الذين نزلواهذه الأمصار جفاةً لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه و سلم و لا ارتاضوابخلقه مع ما كان فيهم من الجاهلية من الجفاء و العصبية و التفاخر و البعد عن سكينةالإيمان و إذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين و الأنصار منقريش وكنانة و ثقيف و هذيل و أهل الحجاز و يثرب السابقين الأولين إلى الإيمانفاستنكفوا من ذلك و غضوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم و كثرتهم ومصادمةفارس و الروم مثل قبائل بكر بن وائل و عبد القيس بن ربيعة و قبائل كندة و الأزد مناليمن و تميم و قيس من مضر فصاروا إلى الغض من قريش و الأنفة عليهم، و التمريض فيطاعتهم و التعلل في ذلك بالتظلم منهم و الاستعداء عليهم والطعن فيهم بالعجز عنالسوية و العدل في العدل عن السوية و فشت المقالة بذلك و انتهت إلى المدينة و هم منعلمت فأعظموه و أبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر.
بعث ابن عمرو محمد بن مسلمة و أسامة بن زيد و أمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئاً و لا رأواعليهم طعناً و أدوا ذلك كما علموه فلم ينقطع الطعن من أهل الأمصار و مازالتالشناعات تنمو و رمي الوليد بن عقبة و هو على الكوفة بشرب الخمر و شهد عليه جماعةمنهم و حده عثمان و عزلة ثم جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمال وشكوا إلى عائشة و علي و الزبير و طلحة و عزل لهم عثمان بعض العمال فلم تنقطع بذلكألسنتهم بل وفد سعيد بن العاصي وهو على الكوفة فلما رجع اعترضوه بالطريق و ردوهمعزولاً ثم انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصحابة بالمدينة و نقموا عليهامتناعه من العزل فأبى إلا أن يكون على جرحة ثم نقلوا النكير إلى غير ذلك من أفعالهو هو متمسك بالاجتهاد و هم أيضاً كذلك ثم تجمع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينةيظهرون طلب النصفة من عثمان و هم يضمرون خلاف ذلك من قتله و فيهم من البصرة والكوفة و مصر وقام معهم في ذلك علي و عائشة و الزبير و طلحة و غيرهم يحاولون تسكينالأمور و رجوع عثمان إلى رأيهم و عزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلاً ثم رجعوا و قدلبسوا بكتاب مدلس يزعمون أنهم لقوة في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم و حلفعثمان على ذلك فقالوا مكنا من مروان فإنه كاتبك فحلف مروان فقال ليس في الحكم أكثرمن هذا فحاصروه بداره ثم بيتوه على حين غفلة من الناس و قتلوه وانفتح باب الفتنةفلكل من هؤلاء عذر فيما وقع و كلهم كانوا مهتمين بأمر الدين ولا يضيعون شيئاً منتعلقاته.
ثم نظروا بعد هذا الواقع و اجتهدوا و الله مطلع على أحوالهم و عالمبهم و نحن لا نظن بهم إلا خيراً لما شهدت به أحوالهم و مقالات الصادق فيهم و أماالحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفةللحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقهلا سيما من له القدرة على ذلك و ظنها من نفسه بأهليته و شوكته فأما الأهلية فكانتكما ظن و زيادة و أما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش و سائر الناس و لا ينكرونهو إنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق و أمر الوحي و ترددالملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم و ذهبت عصبية الجاهلية و منازعها ونسيت و لم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية و الدفاع ينتفع بها في إقامة الدينو جهاد المشركين و الدين فيها محكم و العادة معزولة حتى إذا انقطع أمر النبؤة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد فعادت العصبية كما كانت و لمن كانتو أصبحت مصر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل فقد تبين لك غلطالحسين إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه و أما الحكم الشرعي فلم يغلط فيهلأنه منوط بظنه و كان ظنه القدرة على ذلك و لقد عذله ابن العباس و ابن الزبير و ابنعمر و ابن الحنفية أخوه و غيره في مسيره إلى الكوفة و علموا غلطه في ذلك و لم يرجععما هو بسبيله لما أراده الله.
و أما غير الحسين من الصحابة الذين كانوابالحجاز و مع يزيد بالشام والعراق و من التابعين لهم فرأوا أن الخروج على يزيد و إنكان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج و الدماء فأقصروا عن ذلك و لم يتابعواالحسين و لا أنكروا عليه و لا أثموه لأنه مجتهد و هو أسوة المجتهدين و لا يذهب بكالغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين و قعودهم عن نصره فإنهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد و لم يروا الخروج عليه و كان الحسين يستشهد بهم و هو بكربلاء علىفصله و حقه و يقول سلوا جابر بن عبد الله و أبا سعيد الخدري و أنس بن مالك و سهل بنسعيد و زيد بن أرقم و أمثالهم و لم ينكر عليهم قعودهم عن نصره و لا تعرض لذلك لعلمهأنه عن اجتهاد و إن كان هو على اجتهاد و يكون ذلك كما يحدالشافعيوالمالكيوالحنفيعلى شرب النبيذ و اعلم أن الأمر ليس كذلك و قتاله لميكن عن اجتهاد هؤلاء و إن كان خلافه عن اجتهادهم و إنما انفرد بقتاله يزيد و أصحابهو لا تقولن إن يزيد و إن كان فاسقاً و لم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهمصحيحة و اعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً و قتال البغاة عندهم منشرطه أن يكون مع الإمام العادل و هو مفقود في مسئلتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيدو لا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه و الحسين فيها شهيد مثاب و هو على حق واجتهاد و الصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضاً و اجتهاد و قد غلط القاضيأبو بكر بن العربي المالكيفي هذا فقال في كتابه الذي سماهبالعواصم و القواصمما معناه:
إن الحسين قتل بشرعجده و هو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل و من أعدل من الحسين فيزمانه في إمامته و عدالته في قتال أهل الآراء و أما ابن الزبير فإنه رأى في منامهما رآه الحسين و ظن كما ظن و غلطه في أمر الشوكة أعظم لأن بني أسد لا يقاومون بنيأمية في جاهلية و لا إسلام. و القول بتعين الخطاء في جهة مخالفة كما كان في جهةمعاوية مع علي لا سبيل إليه. لأن الإجماع هنالك قضى لنا به و لم نجده ها هنا. وأما يزيد فعين خطأه فسقه. و عبد الملك صاحب ابن الزبير أعظم الناس عدالة و ناهيكبعدالته احتجاج مالك بفعله و عدول ابن عباس و ابن عمر إلى بيعته عن ابن الزبير و هممعه بالحجاز مع أن الكثير من الصحابة كانوا يرون أن بيعة ابن الزبير لم تنعقد لأنهلم يحضرها أهل العقد و الحل كبيعة مروان و ابن الزبير على خلاف ذلك و الكل مجتهدونمحمولون على الحق في الظاهر و إن لم يتعين في جهة منهما و القتل الذي نزل به بعدتقرير ما قررناه يجيء على قواعد الفقه و قوانينه مع أنه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحريه الحق هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة و التابعين فهمخيار الأمة و إذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص بالعدالة و النبي صلى الله عليهو سلم يقول:خير الناس قرنيثم الذين يلونهم مرتين أوثلاثاً ثم يفشو الكذب فجعل الخيرة و هي العدالة مختصة بالقرن الأول و الذي يليهفإياك أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم و لا يشوش قلبك بالريب في شيء مماوقع مهم و التمس لهم مذاهب الحق و طرقه ما استطعت فهم أولى الناس بذلك و ما اختلفواإلا عن بينة و ما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق واعتقد مع ذلك أناختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم و يجعله إمامه وهادية و دليله فافهم ذلك و تبين حكمه الله في خلقه و أكوانه و اعلم أنه على كل شيءقدير و إليه الملجأ و المصير و الله تعالى أعلم.
الفصل الحادي و الثلاثون في الخطط الدينية الخلافية
لما تبين أن حقيقة الخلافةنيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين و سياسة الدنيا فصاحب الشرع متصرف في الأمرين أمافي الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية الذي هو مأمور بتبليغها و حمل الناس عليها و أماسياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري و قد قدمنا أن هذا العمرانضروري للبشر و أن رعاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت و قدمنا أن الملك و سطوتهكاف في حصول هذه المصالح.
نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنهأعلم بهذه المصالح فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميا و يكون منتوابعها و قد ينفر إذا كان في غير الملة و له على كل حال مراتب خادمة و وظائف تابعةتتعين خططاً و تتوزع على رجال الدولة وظائف فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينهالملك الذي تكون يده عاليةً عليهم فيتم بذلك أمره و يحسن قيامه بسلطانه و أماالمنصب الخلافي و إن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الدينييخص بخطط و مراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين فلنذكر الآن الخطط الدينيةالمختصة بالخلافة و نرجع إلى الخطط الملوكية السلطانية.
فاعلم أن الخططالدينية الشرعية من الصلاة و الفتيا و لقضاء و الجهاد و الحسبة كلها مندرجة تحتالإمامة الكبرى التي هي الخلافة فكأنها الإمام الكبير و الأصل الجامع و هذه كلهامتفرعة عنها و داخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية و تنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم.
فأما إمامة الصلاة فهي أرفعهذه الخطط كلها و أرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. و لقد يشهد لذلكاستدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على استخلافه فيالسياسة في قولهم ارتضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس و إذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجدفي المدينة صنفان مساجد عظيمة كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة. و أخرى دونهامختصة بقوم أو محلة وليست للصلوات العامة فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلىالخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلواتالخمس و الجمعة و العيدين و الخسوفين و الاستسقاء و تعين ذلك إنما هو من طريقالأولى و الاستحسان و لئلاً يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامةوقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عندهواجباً و أما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران و لا تحتاج إلىنظر خليفة و لا سلطانا و أحكام هذه الولاية و شروطها و المولى فيها معروفة في كتبالفقه و مبسوطة في كتبالأحكام السلطانيةللماورديو غيره فلا نطول بذكرها و لقد كان الخلفاء الأولون لايقلدونها لغيرهم من الناس. و انظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الأذان بالصلاةو ترصدهم لذلك في أوقاتها. يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها و أنهم لم يكونوا مستخلفينفيها. و كذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم استئثاراً بها و استعظاماً لرتبتها.
يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه قد جعلت لك حجابهً يأبى إلا عن ثلاثة صاحبالطعام فإنه يفسد بالتأخير و الأذان بالصلاة فإنه داع إلى الله و البريد فال فيتأخيره فساد القاصية فلما جاءت طبيعة الملك و عوارضه من الغلظة و الترفع عن مساواةالناس في دينهم و دنياهم استنابوا في الصلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان و فيالصلوات العامة كالعيدين و الجمعة إشارةً و تنويهاً فعل ذلك كثير من خلفاء بنيالعباس و العبيديين صدر دولتهم.
و أما الفتيا فللخليفة تصفح أهل العلم والتدريس و رد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك و منع من ليس أهلا لها وزجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك منليس له بأهل فيضل الناس. وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم و بثه و الجلوس لذلك فيالمساجد فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان الولاية عليها و النظر في أئمتهاكما مر فلا بد من استئذانه في ذلك و إن كانت من مساجد العامة فلا يتوقف ذلك. علىإذن. على أنه ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين و المدرسين زاجر من نفسه يمنعه عنالتصدي لما ليس له بأهل فيضل به المستهدي و يضل به المسترشد و في الأثر أجراكم علىالفتيا أجراكم على جراثيم جهنم فللسلطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه المصلحة منإجازة أو رد.
و أما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصبالفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي و قطعاً للتنازع إلا أنه بالأحكامالشرعية المتلقاة من الكتاب و السنة، فكان لذلك من وظائف الخلافة و مندرجاً فيعمومها و كان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم و لا يجعلون القضاء إلى منسواهم. و أول من دفعه إلى غيره و فوضه فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء معهبالمدينة و ولى شريحاً بالبصرة و ولى أبا موسى الأشعري بالكوفة و كتب له في ذلكالكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة و هي مستوفاة فيه يقول أما بعد: فإنالقضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذله و آس بين الناس في وجهك و مجلسك و عدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك و لا ييأس ضعيفمن عدلك البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر. و الصلح جائز بين المسلمين إلاصلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً و لا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي فيالباطل الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة ثم اعرف الأمثالو الأشباه و قس الأمور بنظائرها و اجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينةً أمداً ينتهيإليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه و إلا استحللت القضاء عليه فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرى عليه شهادةزور أو ظنيناً في نسب أو ولاء، فإن الله سبحانه عفا عن الإيمان و درأ بالبينات. وإياك و القلق و الضجر و التأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم اللهبه الأجر و يحسن به الذكر و السلام.
انتهى كتاب عمر و إنما كانوا يقلدونالقضاء لغيرهم و إن كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة و كثرة أشغالها منالجهاد و الفتوحات و سد الثغور وحماية البيضة، و لم يكن ذلك مما يقوم به غيرهملعظم العناية فاستحقوا القضاء في الواقعات بين الناس و استخلفوا فيه من يقوم بهتخفيفاً على أنفسهم و كانوا مع ذلك إنما يقلدونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء و لايقلدونه لمن بعد عنهم في ذلك. و أما أحكام هذا المنصب و شروطه فمعروفة في كتبالفقه و خصوصاً كتب الأحكام السلطانية. إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاءالفصل بين الخصوم فقط ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغالالخلفاء و الملوك بالسياسة الكبرى و استقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع معالفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجورعليهم من المجانين و اليتامى و المفلسين و أهل السفه و في وصايا المسلمين و أوقافهمو تزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه و النظر في مصالح الطرقات والأبنية و تصفح الشهود و الأمناء و النواب و استيفاء العلم و الخبرة فيهم بالعدالةو الجرح ليحصل له الوثوق بهم و صارت هذه كلها من تعلقات وظيفته و توابع ولايته. وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم و هي وظيفة ممتزجة من سطوةالسلطنة و نصفة القضاء و تحتاج إلى علو يد و عظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين وتزجر المتعدي و كأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه و يكون نظره في البيناتو التقرير و اعتماد الأمارات و القرائن و تأخير الحكم إلى استجلاء الحق و حملالخصمين على الصلح و استحلاف الشهود و ذلك أوسع من نظر القاضي.
و كان الخلفاءالأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس و ربما كانوا يجعلونهالقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي أدريس الخولاني و كما فعله المأمونليحيى بن أكثم و المعتصم لأحمد بن أبي داود و ربما كانوا يجعلون للقاضي قيادةالجهاد في عساكر الطوائف و كان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالطائفة إلى أرضالروم و كذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس فكانت توليههذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب.و كان أيضاً النظر في الجرائم و إقامة الحدود في الدولة العباسية و الأمويةبالأندلس و العبيديين بمصر و المغرب راجعاً إلى صاحب الشرطة و هي وظيفة أخرى دينيةكانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاًفيجعل للتهمة في الحكم مجالاً و يفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم و يقيمالحدود الثابتة في مالها و يحكم في القود و القصاص و يقيم التعزيز و التأديب في حقمن لم ينته عن الجريمة.
ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدول التي تنوسيفيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان كان له تفويض من الخليفة أولم يكن و انقسمت وظيفة الشرطة قسمين منها وظيفة التهمة على الجرائم و إقامة حدودهاو مباشرة القطع و القصاص حيث يتعين و نصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجبالسياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية و يسمى تارةً باسم الوالي و تارةً باسم الشرطةو بقي قسم التعازير و إقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً فجمع ذلك للقاضي مع ماتقدم و صار ذلك من توابع وظيفة ولايته و استقر الأمر لهذا العهد على ذلك و خرجت هذهالوظيفة عن أهل عصبية الدولة لأن الأمر لما كان خلافةً دينيةً و هذه الخطة من مراسمالدين فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب و مواليهم بالحلف أو بالرقأو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، و لما انقرض شأن الخلافةو طورها و صار الأمر كله ملكاً أو سلطانا صارت هذه الخطط الدينية بعيدة عنه بعضالشيء لأنها ليست من ألقاب الملك و لا مراسمه ثم خرج الأمر جملة من العرب و صارالملك لسواهم من أمم الترك و البربر فازدادت هذه الخطط الخلافية بعداً عنهم بمنحاهاوعصبيتها. و ذلك أن العرب كانوا يرون أن الشريعة دينهم و هل النبي صلى الله عليه وسلم منهم و أحكامه و شرائعه نحلتهم بين الأمم و طريقهم، و غيرهم لا يرون ذلك إنمايولونها جانباً من التعظيم لما دانوا بالملة فقط. فصاروا يقلدونها من غير عصابتهمممن كان تأهل لها في دول الخلفاء السالفة.
و كان أولئك المتأهلون بما أخذهمترف الدول منذ مئتين من السنين قد نسوا عهد البداوة و خشونتها و التبسوا بالحضارةفي عوائد ترفهم و دعتهم، و قلة الممانعة عن أنفسهم، و صارت هذه الخطط في الدولالملوكية من بعد الخلفاء مختصةً بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار و نزلأهلها عن مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم و ما هم عليه من الحضارة فلحقهم منالاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف و الدعة، البعداء عن عصبية الملك الذينهم عيال على الحامية، و صار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة و أخذهابأحكام الشريعة، لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. و لم يكن إيثارهم فيالدولة حينئذ إكراماً لذواتهم، و إنما هو لما يتلمح من التجمل بمكانهم في مجالسالملك لتعظيم الرتب الشرعية، و لم يكن لهم فيها من الحل و العقد شيء، و أن حضروهفحضور رسمي لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحل و العقد إنما هي لأهل القدرة عليه فمنلا قدرة له عليه فلا حل له و لا عقد لديه. اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم، وتلقي الفتاوى منهم فنعم و الله الموفق. و ربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراءذلك و أن فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء و القضاة من الشورى مرجوح و قدقال صلى الله عليه و سلم:العلماء ورثة الأنبياءفاعلم أنذلك ليس كما ظنه و حكم الملك و السلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلا كان بعيداً عن السياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك لأنالشورى و الحل و العقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أوترك، و أما من لا عصبية له و لا يملك من أمر نفسه شيئاً و لا من حمايتها و إنما هوعيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها اللهم إلاشوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في الاستفتاء خاصة. و أما شوراه فيالسياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية و القيام على معرفة أحوالها وأحكامها و إنماإكرامهم من تبرعات الملوك و الأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين و تعظيممن ينتسب إليه بأي جهة انتسب و أما قوله صلى الله عليه و سلمالعلماء ورثة الأنبياءفاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتف به إنما حملوا الشريعة أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات و كيفيةالقضاء في المعاملات ينصونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم و لايتصفون إلا بالأقل منها و في بعض الأحوال و السلف رضوان الله عليهم و أهل الدين والورع من المسلمين حملوا الشريعة اتصافاً بها و تحققاً بمذاهبها. فمن حملهااتصافاً و تحققاً دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيري و من اجتمع لهالأمران فهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التابعين و السلف و الأئمة الأربعة و مناقتفى طريقهم و جاء على أثرهم و إذا انفرد واحد من الأمة بأحد الأمرين فالعابد أحقبالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد لأن العابد ورث بصفة و الفقيه الذي ليس بعابد لميرث شيئاً إنما هو صاحب أقوال بنصها علينا في كيفيات العمل و هؤلاء أكثر فقهاءعصرناإلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و قليل ما هم.
العدالة: و هي وظيفة دينية تابعة للقضاء و من مواد تصريفه و حقيقة هذه الوظيفةالقيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم و عليهم تحملاً عند الإشهاد وأداء عند التنازع و كتباً في السجلات تحفظ به حقوق الناس و أملاكهم و ديونهم و سائرمعاملاتهم و شرط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية و البراءة من الجرح ثمالقيام بكتب السجلات و العقود من جهة عباراتها و انتظام فصولها و من جهة إحكامشروطها الشرعية و عقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه و لأجل هذهالشروط و ما يحتاج إليه من المران على ذلك و الممارسة له اختص ذلك ببعض العدول وصار الصنف القائمون به كأنهم مختصون بالعدالة و ليس كذلك و إنما العدالة من شروطاختصاصهم بالوظيفة و يجب على القاضي تصفح أحوالهم و الكشف عن سيرهم رعاية لشرطالعدالة فيهم و أن لا يهمل ذلك لما يتعين عليه من حفظ حقوق الناس فالعهدة عليه فيذلك كله و هو ضامن دركه و إذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة عمت الفائدة في تعبين منتخفى عدالته على القضاة بسبب اتساع الأمصار و اشتباه الأحوال و اضطرار القضاة إلىالفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذاالصنف و لهم في سائر الأمصار دكاكين و مصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحابالمعاملات للإشهاد و تقييده بالكتاب و صار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذهالوظيفة التي تبين مدلولها و بين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح و قد يتواردانو يفترقان و الله تعالى أعلم.
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59