عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 10-12-2014, 08:34 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,202
ورقة

فتح أزمير ذريعة لهدم الإسلام والشرع (2)
ـــــــــــــــــــــــــ

النص المحقق من كتاب: "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"
-----------------------------------------------

فإن كان فتح أزمير للدولة العثمانية التي كان مصطفى كمال وأصحابه ممَّن تربى بنعمتها، ووضَع نفسه تحت أَمرِها ونَهيها، فهم عَصوها وبغَوا عليها، ثم هدَموها وأرادوا أن يَمحقوا اسمها ورسمها، حتى إن واحدًا منهم اقترح سنَّ قانون يأمر الأمة[1] بتجريد طربوشاتهم عن زرٍّ معلق عليها؛ لكونه من آثار الدولة العثمانية، فإن أوجبَ كلُّ فتح فاز به قائدُ جيشٍ حقَّ البغي والوثوب على دولته المَتبوعة له وأميرِه المعظَّمِ شأنُه، فويل للدول مِن القائدين الفائزين، وإني أتعجَّب مِن المرشال (فوش)، و(اللنبي) وأمثالهما؛ لماذا لم يتحكَّموا، ولم يَبغوا على دولهم، فإن قلت: إن مصطفى كمال وأصحابه عصَوا دولتهم قبل فتح أزمير؛ لكونها آمرة بالصبر على احتلال اليونان بها، ومِن أجلِ أنها ساقَت عليهم الجيش كاليونان وحكمَت عليهم بالإعدام، قلت:
أولاً: ليس من حق الجيش وقائده أن يَحكُم في سياسة دولته، ويعمل برأيه على خلاف رأيها؛ لأن موقف الجيش[2] في الدولة إنما هو موقف أداة الإجراء، لا مصدر الأحكام والآراء، وإن كان رأي دولته متضمِّنًا لما يشقُّ احتماله على الأمة، ألا يرى أن جيش الألمانيين مع كونه أقوى بكثير من جيشنا، ما خرج عن طاعة حكومته التي عقدت معاهدة (فرساي)، مع كونها في غاية الشدة والثِّقل على أعناق الأمة الألمانية!

وثانيًا: إن خروج الكماليِّين عن طاعة أمير المؤمنين لم يتولد من مقاتلتهم والحكم بالإعدام عليهم، بل تولدت مقاتلتهم والحكم بالإعدام عليهم من خروجهم عن الطاعة؛ حتى إنهم توجهوا وهجموا على الآستانة قبل التوجه إلى أزمير، فقوتلوا بعد ذلك، على أنه لو كان هذا الخروج لاسترداد أزمير، ولم يكن مقصودًا لهم بذاته، لانتهى وزال بحصول أمر الاسترداد.

(2)
وإن قلنا: إن ذلك الفتح للإسلام ولإعلاء كلمته، فهم فارَقوا الإسلام بعد ذلك؛ لما أنهم فرَّقوا بين حكومتهم وبين مقام الخليفة وجرَّدوه عن نفوذه، وقد بينا أن ذاك التفريق تضمن تلك المفارقة؛ لأن الخلافة صفتها المميزة عبارة عن الرئاسة الدينيَّة التي تَستتبِع الحكومة الدنيوية الجسمانية، وبعبارة أخرى كون المسلمين تحت حكومة رجل، وكون ذلك الرجل تحت حكومة الدِّين لنيابته عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حكومته بين أمته، فلما جُرِّدت الحكومة عن الخلافة، وصارت حكومة عادية زمنية، ولم يكن فرق بينها وبين حكومة الخلافة إلا كونها غير مقيَّدة بقيد النيابة وحكومة الدين عليها، فلا جرم صار معنى افتراق الحكومة عن الخلافة افتراقها عن الديانة، ومع ذلك فإنهم كثيرًا ما قد صرَّحوا بأن تجريدهم الخلافة عن السلطة والتفريق بينهما إنما وقع بقصد التفريق بين الدنيا والدين، وكان فتح أزمير عملاً واجتهادًا في سبيل تلك الدنيا التي جرَّدوها عن الدين لا في سبيل الدين، وليس في ذلك الفتح نصيب للدِّين إلا تَجريده عن نفوذه وتبعيده عن حكومته[3]، فهم بما أفادهم فتح أزمير مِن القُدرة والجراءة أظهروا خُلَّتهم اللادينيَّة، والغافل يستدلُّ به على دفاعهم عن بيضة الإسلام، مع أنهم الذين ترقَّبوا فرصة لافتراس دين الإسلام بادِّعاء احتراس الإسلام، وقد وجَدوها في فتح أزمير، فلو كان كل مَن حلَّ بأزمير وأحرزه ناصبًا نفسه للدفاع عن بيضة الإسلام مِن غير أن ينظر إلى حال الفائز ظاهره وباطنه، وما صدر منه، لكان اليونان الذين حلُّوا قبل هذا بأزمير ناصبي أنفسهم للدفاع عن بيضة الإسلام، وإذا كان مصطفى كمال لما تغلَّب على أزمير تغلَّب على دين الإسلام، فماذا يعود مِن هذه الغلَبة للإسلام؟ وماذا يَعود للمسلمين بصفة أنهم مسلمون؟ ولئن كانت أزمير شرَّ ذريعة وشر قوة في أيدي الكماليِّين لهدمِ ما كان للدين من الحكم على الحكومة في تركيا، فلعنة الله على أزمير وعلى فتحها واستردادها، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 36]، وإن قومي الأتراك إن نالوا شوكة وقوة وعُدموا دينهم، فلا تؤسيني قوتهم؛ بل تُضاعِف أسفي؛ لأنهم ليسوا - إذًا - بقومي؛ بل أعداء ديني، ولا يَسرُّني قوة الأعداء[4].

ومما لا يَجوز أن يُغرَّ به العاقل؛ بل يدلُّ على تلاعبهم بالأفكار الإسلامية - تصريحُهم عند إعلان حكومتهم الجمهورية بأن دين الدولة الإسلام، وليس معنى ذاك التصريح مرجعة منهم إلى الإسلام، بل مراجعة جديدة إلى مخادَعة المسلمين في أقاصي البلاد الذين استاؤوا مِن مُروقهم عن الدِّين، لكن ذلك فرية ما فيها مرية، وقول يُناقضه فعل؛ بل ينقضه أقوال، وقد صرَّح مندوبهم في لوزان وغيره أن حكومتهم لادينيَّة، وأن جمهوريتهم ليست بجمهورية إسلامية، فكيف يتَّفق هذا مع ذلك، ومؤسِّسو هذه الحكومة الجمهورية هم بأعيانهم مؤسِّسو الحكومة التي تقدمتها، وهي حكومة المجلس الوطني، التي فاتَها هذا التصريح عند إنشائها، بل اقترنت بها التفرِقة بين الخلافة والحكومة التي هي بمنزلة التصريح بضدِّ الإسلام، وأبيت هذه التفرقة أيضًا في الحكومة الجمهورية على حالها؛ ولأنَّ مُناقشة الديانة وضدها ما زالت تجري في صحفهم حال كون الذين يَختارون الخطة اللادينية عبارة عن أنصار الحكومة الجمهورية ومؤسسيها مثل جلال نوري بك وأغا أوغلو أحمد بك وضيا كوك آلب بك، والذين يلتزمون الخطة الدينية مثل صاحب جريدة (توحيد أفكار) في جانب المعارضين للحكومة.

ويجب للمصريين أن يتذكروا هذه المناقشة والاختلاف، التي طالما بحثَت عنها صحفهم وتبحث الآن، إلا أن الصحف المصرية لا تصرِّح كون الحكومة في هذا الاختلاف متَّفقة بل متحدة مع أصحاب الخطة اللادينيَّة تصريحًا تامًّا، وتحيل ذلك إلى إمكان تفهُّم الحقيقة بتصنيف الرجال المختلفين في هذه المسألة، وتعيين مواقفهم في داخل الحكومة أو خارجها، فبينما دام الخلاف والمناقشة؛ إذ أُعلنت الجمهورية بغتة مع التصريح بالديانة، على عكس ما ينتظر ويستدلُّ مِن جرَيان المباحثات، فثبت أن هذا التصريح ليس بمبني على الحقيقة والإخلاص، بل جعل ذلك ضم إيلاف إلى وحش الجمهورية مسوقًا لتحسينها في الأسماع، فقد دلت المناقشات التي تقدَّمت إعلانها على مشروعين: الجمهورية والإلحاد، يدعو لهما فريق، ويضادُّهما فريق؛ فالفريق الأول لما رأوا صعوبة في قَبول مشروعيهما معًا، اجتزوا بإعلان أحدهما وإضمار الآخر إضمارًا وقتيًّا، مع أنه أعلن ذلك أيضًا مِن قبلُ في ضمن تفريق الحكومة عن الخلافة، وفي صراحة أقوال وأفعال، وليست هذه المناداة بالديانة رجوعًا منهم إلى الإيمان بعد الكفر كما ذكرنا، بل من قبيل ما دل عليه قوله تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: 14].

وتؤيد كل ما ذكرنا مقالةٌ رئيسية انتشرت في جريدة (ابلري) لسان حال مصطفى كمال في الآستانة بتاريخ 24 من شباط 1340 هـ، وعنوان المقالة: "التضاد وإدارة المصلحة"، والشطر الثاني من العنوان يطلق في اللغة التركية على قول أو فعل يُراد به قضاء الحاجة الوقتية، ولا يقترن بدافع الصدق والإخلاص، وفي تلك المقالة هذه الكلمات نصُّها عُنينا بتعريبها؛ لتكون عبرة للمُعتبر، ويقظة للغافل الذي أبطأ في يقظته كل الإبطاء: "إن مجلس الأمة فصَل بين الخلافة والحكومة، وما باله حتى الآن لم يُلغِ الوزارة والمحاكم الشرعيتين؟ نريد أن نعيش عيشة لادينية ثم نبحث في قانون الأسرة عن الأزواج الأربعة، كلما تواصَينا بفكِّ الدنيا عن الدين، جرَينا على عكس ذلك المبدأ أو نقع في مهاوي التضاد، فإذا نظرنا إلى آخر شكل لقانوننا: "التشكيلات الأساسية" الذي كتبْناه بمديد تنقب وتأهب وشجاعة، فأول تضادٍّ يُصادم النظر فيه:
(1) أن دين الدولة الإسلام.
(2) أن أهالي تركيا يُسمَّون بالترك.
(3) أن في الجمهورية التركية حرية الوجدان.

فلنقف عند هذه الأسس؛ نفك السلطنة عن الخلافة، ثم نبحث حتى الآن عن دِين رسمي، فما هذه الحميَّة، وما مخلل الملفوف ذاك[5]؟ فإذا كنا نمشي على التضاد وإدارة المصلحة والجبانة، فلا نمشي عليها في دورة الجمهورية، وإلا فعالم يضحك منا لا يثق بجدِّنا وإخلاصنا، فهل نحن نَخدع أنفسنا أو نخدع العالم؟".

ولا يكون دين الحكومة دين الإسلام بمجرد أن يقال: إن دينها كذلك، مع أن القرون الماضية والحالية كلها قائمة على خلافه، ويأباه التفريق بين الخلافة والسلطة قبل هذا وإبقاؤهما الآن مفترقتَين؛ لأن كون الحكومة متديِّنة بدين الإسلام لا يتحقَّق إلا بجعل الدِّين عاملاً وذا نفوذ في الحكومة، والحال أن الحكومة خرجت عن رِبقتها وقطعَت تدخُّله فيها بتفريق الخلافة عن السلطة، كما أثبتنا ذلك وأوضحناه في هذا الكتاب على طوله، والحاصل أن ديانة الأمة تتصوَّر لها جهتان وحيثيتان[6]؛ الأولى: كون أفرادها منتسبين إليها ومقيدين بها باختيارهم التام، غير مخاطَبين في ذلك بأمر أحد أو نهيه يبلغ درجة السلطة، فهذه ديانة الأمة بالنظر إلى أحوالهم الانفرادية، ثم إن لهم حالة الجمعية وحالة الحكومة، ودين الإسلام لما لم يَعزُب عن عنايته ورقابته حال الإفراد وحال الجمعية معًا، بل كان شديد العناية والعلاقة بالأحوال الاجتماعية والمدنية، فلا جرم كان شرطًا لصحة أن تعد الأمة أمةً مسلمة إسلامُ فردها الحكمي وشخصيتها الاجتماعية والسياسية كإسلام أفرادها الجزئية، بكون هذا الفرد الحكمي أيضًا منقادًا لأحكام الشريعة الإسلامية ومعترفًا بها، فإن أذعَنت الأمة لأحكام الإسلام وحدانًا ولم تُذعن لها في حالة الجمعية والحكومة التي تمثِّل فرد الأمة الحكمي، ما صحَّ إسلامها، وإذا اختارت الأمة حكومة لا تعترف بكونها تحت مراقبة الأحكام الشرعية، بل تكون حرة مُطلَقة العنان؛ كما صرح بذلك في برنامج حزب الخلق - أعني: حزب مصطفى كمال - وكما تمناه ضيا كوك آلب إمام الاتحاديين وواضع أساس الجمهورية الكمالية وأنكر خلافه حيث قال: فالأمة بمجرد اتخاذهم بطوعهم حكومة لهم كتلك، يَنخلِعون عن بُردة الإسلام عندي قطعًا، ويَنخلِع عنها مَن ارتاب في ذلك أيضًا، ولا ينفعهم ديانتهم من حيث أفرادهم، ما لم يُقرُّوا بحكم الدِّين وحكومتهم عليهم، بل يكون ذلك ارتدادًا منهم بجملتهم؛ كما حكمنا به قبل هذا بسنَة في مقالتنا التي نشرناها بالمقطم والأهرام، ولا نفتؤ نَحكم به.

فإن قلتم: إن الحكومة التي وضعتْ نفسها تحت قيود الدين كيف تكون حرة ومستقلة؟ وهذا السؤال مماس للداء العُضال الذي حدا المُتفرنِجين إلى الفصل بين الحكومة والدين، لكنا نقول بحول الله وتوفيقه: إنا إذا اعتقدنا أن دين الإسلام نعمة للمسلمين وسعادة لهم في دنياهم وأُخراهم، وأنه داخل في مُشخصات شعوب المسلمين الذين يَشعرون بها أنفسهم، ويعدونها من مزاياهم النفسية، فلا يُنافي حريتهم واستقلالهم كون حكومتهم ممنوعة من التخطي إلى ما وراء حدود الدين، كما أن كونها ممنوعة بالطبع عن العمل بما يُغاير الوطنية والشعائر الكلية، لا يُنافي الحرية والاستقلال.

وهنا مزلقَة فِكرية يجب أن ننبِّه عليها؛ وهي أنَّا إذا أحببْنا الحرية، وأطربْنا مكانها عند النفوس الشريفة، فلا بد أن نريد بها حرية الأمم تجاه الحكومات، لا حرية الحكومات في القيام بأمور الأمة، حتى إن الزيادة في حرية الحكومة تضرُّ بحرية الأمة وتَنقصها؛ ولهذا يحب جدًّا أن تكون الحكومة في معاملاتها مع الأمة مقيَّدة بقوانينها، والإدارة القانونية مَثل سائر في الترقي والتمدن، والمراد بها أن تُثبت الحكومة لقاء الأمة وتبرَّ في عهدها الذي تضمنُه قوانينها، وأن تتجنَّب التزحزح عنها أو التلاعب بها، ثم إن هذا الثبات وعدم التزحزُح، وإن كان عبارة عن ألا تَخرُج الحكومة في أعمالها عن قوانينها إلى أن تُبدِّل تلك القوانين، وكان فرق يبن ذاك الخروج عنها وبين الإكثار في تبديلها، ثم المشْي الجديد على القوانين الجُدد، إلا أن الثاني أيضًا لا يَخلو مِن أن يكون تلاعبًا بالقوانين، ولا يوجد عظيمُ فرقٍ بين تخطِّي القوانين بإهمالها وبين تخطيها بإبدالها، ولا يجوز أن يجعل القوانين المسنونة لتَحول بين النفوس وأهوائها آلاتٍ بيد الحكومة لإجراء الأهواء، وكون التبديل باختيار الأمة لاقترانه بآراء نوَّابِها غير مجدٍ في استئصال المَحاذير، إذا لم يكن آراء النواب في الحقيقة آراء الأمة بعينها وإن عدَّت كذلك، دعُوا آراءَ النواب في تركيا؛ لأنهم ليسوا بنواب الأمة، فضلاً عن أن تكون آراؤهم آراءها، بل ابحث عن النواب الحقيقيِّين، ولهذا يحتاج في بعض البلاد إلى توثيق القوانين الصادرة مِن البرلمان بعرضها على الأمة، مع أن الأمة نفسها أيضًا تحتاج إلى رقيب مِن نفسها ودساتير أولية فكرية وأدبية ارتكزت فيها تقيها الخطأ والزلل في اجتهادها الذي تَبني عليه قوانينها[7]، وبعد ذلك ربما يتقاصَر أكثر أفراد الأمة أن يُراقب القوانين ويُماشيها، لا سيما إذا جعلت عرضةً للتبديل، أو سنَّت على خلاف طبيعتها الأولى أو الثانية، ويذكر هنا مثالاً مِن قوانين حكومة أنقرة؛ فقد حكمَت على لطفي فكري بك بمُقتضى قانون الخيانة الوطنية السالب حق الانتقاد على بعض مبادئها، وكيف ذهل عنه فكري بك مع كونه نقيب المحامين بالآستانة، ولم يتقدم عهدُه ليطرأ عليه النسيان، حتى استمدَّ عند الدفاع عن نفسه في محكمة الاستقلال من تفسير القانون بأنه لا يَمنع حرية الكلام، ولا يكون به أن يمنعه، وإني ألفت النظر إلى أن واضعي ذلك القانون بحُجَّة حرية الحكومة في سَنِّ القوانين كيف اضطهدوا الحرية، ورأس الخطيئة أن تعدَّ الحكومة - بل الأمة - نفسها حرة في سَنِّ أي قانون شاءت.

[1] يُشير إلى إرغام الشعب التركي على ارتداء القبَّعات، ومحاكمة الرافضين للبسِها بواسطة محاكمات صورية غاشمة سُمِّيت "محاكم الاستقلال"، والأصحُّ تسميتُها "محاكم الإذلال"؛ فقد اتَّخذها مصطفى كمال سوطًا رهيبًا يُلهب به ظهور كل مُعارضيه، وقد سخط الناس على ما أُرغموا عليه مِن لبس القبعة الأوربية أكثر مما سخطوا من أي إجراء آخَر اتخذتْه الحكومة الجمهورية؛ جب، وجهة الإسلام (ص: 209).
[2] اعتمد مصطفى كمال على الجيش في تنفيذ أغراضه، وقد مر بنا قول الشيخ مصطفى صبري: "إن المعسكر كان في زمن الآلة وقوة الظهر لسياستهم، فتفرَّقت تلك الآلة في الدولة الكمالية، وغدَت عاملةً بنفسها"، وكان شيخُنا سابقًا لعصره بمثل هذا الرأي؛ حيث ذهب إلى أن حُكام تركيا الجدُد لا يَستندون إلى الشرعية، ويَعني بها الأحزاب السياسية المعبِّرة عن إرادة شعبية حقيقية، فاستخدموا الجيش أولاً كأداة، ثم تولى رجاله بعد ذلك الأمور بأنفسهم، وهو أسلوب الانقلابات العسكرية التي انتشرَت في دول العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، فهل هي مجرَّد مصادَفات؟ أم أن وراءها مخططات مرسومة بعناية ودهاء؟
نعود إلى أتاتورك الذي احتال للجمع بين القوة العسكرية والشرعية المُستندة إلى إرادة شعبية، فهداه تفكيره إلى إنشاء "حزب الشعب"، الذي أخذ يَحكم باسمه، فكيف تكوَّن هذا الحزب، وما هم أعضاؤه؟
يجيبُنا على ذلك أرمسترونج بقوله: "إنه يطمَع في أن يَصير دكتاتورًا، ولكن علامَ يَعتمِد في بلوغه غايته أن الجيش الذي يؤيده اليوم سوف يَنسى انتصاراته وأمجاده غدًا حين يتقادَم به العهد في أحضان السلام والفقر وحفنة من أنصاره مِن النواب المُستعدِّين لتأييده بمُسدَّساتهم، لن يستطيع أن يُرهب بهم الجمعية والبلاد كل حين، وإذًا ينبغي أن يكون له سند غير القوة، أن يَخلق آلة سياسية محارِبة يتَّخذها سلاحًا له، وهنا نحن في لجانِ المُقاومة المحليَّة التي أنشأها في الأقاليم، بمعاونة رؤوف ورفعت سنة 1919، والتي كانت نواة المنظمات الشعبية للمُجنَّدين التي طردت الإنجليز واليونانيين من البلاد وقادتها إلى النصر، ولما كانت هذه المنظمات التي يلتهب أفرادها وطنية وحماسة ذات صبغة عسكرية؛ أي: تخضع لأمره مباشرة، فقد قرَّر أن يَحملها إلى آلة حزبية منظَّمة تخضَع لإشرافه، وتُصبِح الحاكم الفِعلي لتُركيا وفي وسعه أن يُطلق عليها "حزب الشعب"، ويمنَح كل لجنَة منها سُلطة اختيار عمدة القرية وواعظها وناظر مدرستها ومدير شُرطتِها وبريدها وكنَّاسي شوارعها، ومِن هنا تَرتبِط اللجان به ارتباطًا شخصيًّا؛ بحيث يَنعكِس على كل منها نجاحه أو فشله"؛ (المصدر نفسه ص: 196/197).
[3] هذه هي القضية الرئيسة التي خصَّص لها المؤلف أكبر عنايته في كتابه؛ لأن نزع "الحاكمية" عن الإسلام حوَّلتْه إلى عاطفة فردية وسُلوك شخصيٍّ، وقضى على شوكته وسلطانه في المجتمع والدولة.
[4] تلخيص الكلام أنه لا شبهة لأحد مِن المسلمين في داخل تركيا أو خارجها أن الكماليين وحكومتهم تلاعبوا بأحكام الدين، وأتوا ما يدلُّ على استخفافهم بها مِن قول أو فعل، وقلَّما يمضي يوم إلا وتُخبِر عنهم الصحف بشيء من ذلك، ولعلَّ القراء المسلمين المخلصين المستبْقين لهم مودة وعاطفة إلى الحكومة التركية مُنتقلة من ماضيها إلى حالتها الحاضرة، بعدما رأوا لا مَندوحة عن تصديق ما قلتُه فيهم، يودُّون لو كنت اجتزأت في نقدي عليهم بالانتقاد الديني والعلمي، غير مُجاوِز به مِن مسلك النصيحة إلى معترك السياسة، ودون أن أُناضلهم في تلك الساحة؛ لكي أعلم أن الأمور مُنتهية إلى السياسة، ومنها يَستفيد كل خير أو شر قوة الوجود في الخارج ابتداءً وبقاءً، وأن المساعي المتعلِّقة بمصلحة العامة إن تجرَّدت عن السياسة تذهب هباءً وهواءً، وكل نصيحة لا تؤيدها السياسة، فهي بمنزلة تَضرُّع العاجز إن شاء المنصوح له يسمعه مع كون المسألة أهمُّ مِن أن تكون معلَّقة على نصَفتِه أو سماحته، وإن شاء يضحك مِن عجز الناصح، وربما يعاقبه عليه إن لجَّ.
والذين جرَّدوا الدين في ديارنا عن السياسة كانوا هم أو إخوانهم لا يرَون الاشتغال بالسياسة لعلماء الدين؛ بحُجَّة أنه لا يَنبغي لهم وينقص مِن كرامتهم، ومُرادهم حكر السياسة وحصرها لأنفسهم، ومُخادَعة العلماء بتنزيلهم منزلة العجَزة، فيُقبِّلون أيديهم ويُخيلونهم بذلك أنهم محترمون عندهم، ثم يفعلون ما يشاؤون بدين الناس ودنياهم محرّرين عن احتمال أن يجيء إليهم مِن العلماء أمر بمعروف أو نهي عن منكر، إلا ما يعدُّ مِن فضول اللسان، ويَكمُن في القلب، وذلك أضعف الإيمان؛ فالعلماء المعتزلون عن السياسة كأنهم تواطؤوا مع كل الساسة صالحيهم وطالحيهم على أن يكون الأمر بأيديهم، ويكون لهم رواتب الإنعام والاحترام، كالخليفة المتنازل عن السلطة وعن نفوذ سياسي، ولما أن الله - تعالى - هداني من قديم إلى التنبُّه لمكايد السياسيِّين ذوى المبادئ اللادينية، وواجب علماء الدين لقاءهم، ما تنحَّيتُ عن المُجاهَدة في غمرات السياسة، لا على اتخاذ الدِّين آلة للسياسَة، بل على جعل السياسة آلة للدِّين، مُستخدَمة في تعزيزه وتنفيذه؛ لكونها أقوى الآلات ممثلة لقوة الحكومات، فإن فاتنا الظفَر في زمان أصبحت فيه نصرة الدين مهلكةً أو متعبَة، وأصبح هو وناصره غريبًا، فلا يفوتنا جهد المقلِّ في الواجب المُعضل، على أنَّا موقنون بأن الظفر النهائي لنا، فإن لم يكن في الدنيا، ففي الآخرة.
رأيت في بعض الصحف العربية منشورًا لجماعة مِن علماء الإسلام الذين جمعهم البيت الحرام مِن بلاد وأمم إسلامية بموسم الحج الشريف في السنَة الراحلة، يَصفون فيه حالة المسلمين في أَمسِهم الدابر ويومهم الحاضر، ويدعونهم إلى الاستمساك بعرى الشريعة السمحاء، ويرون أن العِلَّة في انحطاط المسلمين هي تركهم العمل بدِينهم، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإهمالهم سنَّة نبيهم والسير على هَديِها، ويَستشهِدون على ذلك بتاريخهم المجيد؛ فقد سادوا الدنيا وشادوا أيام استمسَكوا بهذا الدين؛ حتى جُبيت لهم الأرض ودانت لعزِّهم في طولها وعَرضِها، فلمَّا تولوا، أزاغ الله قلوبهم، وأذهب ريحَهم، وحاقت بهم أسباب الانحطاط والمذلَّة.
نِعمَ ما قالوا، وحبذا ما فعلوا مِن إذاعة ذلك المنشور الذي لم يُعرِب إلا عن الصدق والحقِّ، ولم يُنبئ إلا عن نيَّة طيبة وفِكرة شريفة، ولكن لا أرى لهذا السعي المُحتَرم عظيم جدوى عملية إن لم يُتبِع أولئك العلماءُ الكرام عملَهم ذاك باستعمال الأدوات السياسيَّة لتنفيذ ما أوصوا به المسلمين في منشورهم مِن الخُطَط التي يُريدون أن ينتهجها المسلمون؛ لأن أشدَّ البواعث على المفاسد، أو أقوى الموانع مِن المصالح في الأمم إنما هي الحكومات المُتولية عليهم، وخطاب هؤلاء العلماء الكرام الذي يكون تعلقه بحال الفرد أكثر منه بحال الجمعية، يلزَم أن يتوجَّه إلى تلك الحكومات، فما دام لم تُساعدهم الحكومات على ما يَستهمُّون المسلمين به في منشورهم، فذلك المنشور لا يُسمن ولا يغني مِن جوع، ولا ينهض بالمسلمين مِن الهجوع، وصفوة الكلام أن الأحوج إلى النصيحة إنما هي الحكومات، ولكنهنَّ لا يقبلنَ نصيحة لا توجد وراءها سيطرة، فالواجب للعلماء أن يغرسوا في الأمم الإسلامية تلك السيطرة الرشيدة التي تَهتدي بها حكوماتهم طوعًا وكرهًا إلى صراط مستقيم، لا تفضلاً منهنَّ، وإلا فيتمادين في أهوائهنَّ وتتدهور الأمم مِن ورائهنَّ إلى مهاوي الانحطاط والضلال، أو تنجم في الأمم سيطرة جاهلية تَبذُر بذورَها شياطينُ الإنس، فتهدي الأمم وحكوماتها إلى هاوية البوار (م. ص).
ويتَّصل ذلك برأيه عدم فصل السياسة عن الدين - كما بيَّنا - وإلى هذا الرأي أيضًا يذهب الزعيم المصري الشاب مصطفى كامل الذي وضع نصب عينيه طوال حياته خدمة القضية المصرية باستثارة الحمية الإسلامية في النفوس، ولم يرَ غرابة إذا تكلم على "المسألة المصرية مِن الوجهة الدينية الإسلامية؛ فإن السياسة لا انفصال لها عن الدين، وبالإحساسات الدينية تُقاد الأمم أسهلَ ما تُقاد بالاعتبارات السياسية".
وقد فجَّر الزعيم الشاب بهذا الرأي قُنبلتَين لعلهما يُثيران رواد الفكر السياسي والمؤرخين؛ فقد حسم النزاع حول فصل الدين عن السياسة، ووجَّهنا إلى إسلامية الثورة المصرية سنة 1919؛ "مصطفى كامل - المسألة الشرقية" (ص: 279)، مطبعة الآداب بمصر، سنة 1898م.
[5] تعريب مثل تركي. (م. ص).
[6] فتقَت تصرُّفات الحكومة الكمالية إزاء "الخلافة" هذه المسألة الهامة التي نظنُّ أنها لم تُبحَث في العصر الحديث قبل الشيخ مصطفى؛ لافتقاد الداعي لها، أمَا وقد حدَث، فإن رأيه غير مسبوق إليه فيما نعلم؛ إذ اشترط لإسلام الأمة شرطَين: الأول: كون أفرادها مسلمين، والثاني: حكم الدولة بالإسلام.
[7] تتضمَّن هذه الصفحة وما بعدها نظرات ثاقبة للمؤلف، تتناول نقد النظام البرلماني؛ حيث لا يوثق فيه بالقوانين الصادرة مِن المجالس النيابية؛ لأنَّها قد لا تُعبِّر تعبيرًا صادقًا عن رأي الأمة، فضلاً عن عجز سلطة المراقبة في التنفيذ، فهل تنبَّه إلى إحدى أزمات الأنظمة الديمقراطية في هذا الوقت المُبكِّر؟
وهنا تُصبح المقارنة مفيدة إذا اطلعنا على رأي الفيلسوف المسلم المعاصر "رجاء جارودي"؛ حيث وضع يده على إحدى أزمات النظام السياسي الغربي، متتبِّعًا إياه منذ نشأته كفكرة فلسفية عند "روسو" إلى تطبيقاته العملية في شكل إنشاء أحزاب وقيام برلمانات؛ يقول جارودي: "وقد انطلق جاك روسو في "العقد الاجتماعي" مِن مفهوم مجرَّد حول "الفرد"، ولم يكن يستطيع تصوُّر عملية اندماج الفرد بالمجتمع إلا عبر هذه الأسطورة التي سماها "الإرادة المشتركة"، وقد تجلَّت تاريخيًّا في برلمانات وأحزاب لم تُحقِّق إلا الوصاية على الشعب والمزيد مِن الاستلاب؛ لتصل إلى "ديمقراطية" كاريكاتورية ليستْ مُشاركة الشعب فيها إلا وهمًا وخديعة"؛ جارودي: "ما يعد به الإسلام"، ترجمة: قصي أتاس، وميشيل واكيم، دار الوثبة- دمشق سنة 1982 م.
وإذا صحَّ هذا بدول أوروبا؛ حيث لا ينكر أحد درجة الوعي والثقافة واليقظة التي بلغتها الشعوب هناك، فماذا يمكننا القول في البلاد "النامية"؟ إن وصف "الكاريكاتورية" الذي أطلقه جارودي على الديمقراطية الغربية يُصبح هنا أكثر انطباقًا!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59