من كتاب العابرة المكسورة الجناح
ظل جاك مأخوذاً أمام لوحة أنجر " الحمام التركي " لوقت طويل لحد لم أجسر معه على إزعاج تأملاته ولحظات خلوته مع حريمه ، بعدها التفت إلي وكأنه أفاق من ذهوله ليعود إلى الواقع ، وليدعوني إلى التوجه نحو قاعة Denon لالتقاء بجاريته المفضلة La grande odalisque التي رسمها الرسام نفسه أي " أنجر " ثم قال لي :
" إن الرجال الغربيين أذكى من نظائرهم الشرقيين في الجانب المالي . ولذلك فإن الدولة هي التي تمول حريمي بكاملة . تصوري المصاريف التي سيكلفني لو كنت أؤدي فاتورات التدفئة والإنفاق على كل هؤلاء النساء العاريات في طقس باريس البارد . إن الجمهورية الفرنسية هي التي تعتني بهن ,ولذلك يمكنني أن أنساق لكل أوهامي متحرراً من كل الأعباء المادية . وكل ما علي القيام به لزيارة هؤلاء السيدات اللآئي ينتظرنني في الظل ويترقبن خطواتي في صمت ، هو أن أحزم ربطة عنقي المعقودة كالفراشة بإتقان " .
حبست ضحكتي لأننا وصلنا إلى الهدف . كنا أمام " الوصيفة الكبرى " التي رسمها أنجر سنة 1841 . أدركت للتو بأني أعرفها جيداً من خلال النسخ العديدة التي رأيتها لها في الكتب والمجلات . كانت مثالاً حقيقياً للجمال . أخبرني جاك بأن أفضل وصف لها كتب من طرف أمريكي " روبير روزنبلوم " وهو أستاذ لتاريخ الفن بجامعة نيويورك :" كائنة الحريم اللاهية التي لم يلطخ الغبار أقدامها قط . الوصيفة المستسلمة التي تبدو وكأنها لا توجد هنا إلا لبعث المتعة فينا ... إنها ترفل في بذخ مزخرف ، يحفها الطلس والحرير والفرو والريش ."( روزنبلوم ، أنجر )
صمت جاك وغرق في تأمل محظيته ويده على ربطة عنقه . لم يكن الوحيد على كل حال ، كان هناك عشرات الرجال ومن ظمنهم الكثير من السائحين ينظرون بإعجاب إلى الوصيفة الكبرى . كان الظل الذي يسود القاعة ذات السقوف العالية يزيد من جمال الإنارة الخافتة التي تغشى جسد هذه المرأة المستلقية وهي عارية ، أو بالأحرى مرتدية لإزار ملون مزين بالجواهر ويبدو أنها فوجئت بالفنان الذي يقتحم سريتها ، إذ أنها استدارت وأرسلت نظرة كما لو أنها سمعت للتو حركة وراء ظهرها .
همس لي جاك بأن هذا العري الهش يشكل السر في الجاذبية *****ية التي تمارسها الوصيفة الكبرى . ثم حكى لي أول لقاء معها ، الذي كان بمثابة لحظة قوية في تربيته . لقد قال لي بأن رؤية ولد صغير لأمرأة عارية كان من المستحيلات تقريباً عندما كنت صغيراً . وكان بإمكان الفن وحده أن يدخل رجل المستقبل إلى عالم العري الأنثوي . " لقد كنت في الحادية عشر من عمري حين صحبتنا " الأخت بندكتين " وهي معلمتنا في المدرسة الدينية بالحي إلى متحف اللوفر . وقد لاحظت التأثير الذي مارسته اللوحة علي إذ أنها همست لي : لا تنظر إليها بهذه الطريقة يا صغيري " .
لقد كان هذا العري يزعجني أنا الأخرى ، إلا أن ذلك يعود إلى أسباب مغايرة . سبق وأن قلت أن النساء لم يكن عاريات في الحريم ، لأن فاقدي العقول هم اللذين يتجولون عراة . لم تكن النساء ترتدين الثياب فقط ، ولكنهن كن في الحريم التركي الذي استوحى منه " أنجر " لوحاته ، يلبسن أزياء كأزياء الرجال ، أي سراويل فضفاضة وقمصاناً قصيرة . وقد دهش الأوربيون الذين كان لهم حظ الدخول إلى قصور السلاطين لرؤية هذه الأشباح المخنثة .
من بين هؤلاء " جان تفنو " الذي أبدى بالغ اتلدهشة عندما عاين بأن النساء في الحريم سافرات ...............
الذكاء أم الجمال ؟
لقد قتل ( إدجار ألن بو ) فعلاً شهرزاد في قصته " ألف ليلة وليلتين " ... وقد كانت طريقة قتلها فظيعة . الأدهى من ذلك أنه يعلن بأنها وجدت لذة مرضية في قتلها :" شعرت بارتياح كبير حين كان الحبل يضيق حول رقبتها . ما هو الذنب الذي ارتكبته الحاكية لتنال مثل هذا العقاب ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دمتم بخير