عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 08-28-2012, 12:16 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

12- الإسلام والفيلولوجيا والثقافة الفرنسية: رينان وماسينون



إن قراء ماثيو آرنولد قد يتذكرون لوائحه الساخطة والمرتبكة التي تقارن بين الريفية الإنكليزية في الثقافة وبين نضج وكمال الثقافة الفرنسية أو الألمانية. فثمة فقرة رائعة بالانكليزية الكلاسيكية بقلم آديسون سرعان ما تكشف عن ابتذال فكرها لآرنولد حين يقارنها بجوبير، كما أن اللغة الطنانة لجيريمي تايلر تبدو سمجة للسبب نفسه عند مقارنتها بالفخامة البسيطة لجمل بوسييه. فإنكلترا ما كان لها البتة أكاديمية أدبية للإشراف على الجهد الثقافي، كما يقول آرنولد، وكان هذا النقص بركة لصالح حرية المناخ الذي أتاحه في الحياة الفكرية الإنكليزية، بيد أنه كان في الوقت نفسه عيباً لأنه لم يتمكن من منع السوقية والابتذال(1).
ثمة نقطة هامة على وجه التخصيص يأتي بها آرنولد في هذا السياق خلال بحث ما يدعوه "بعادات التصميم وغرابة الأطوار" الإنكليزية. وشاهده على ذلك يتمثل في جون وليام دونالدسون، وهو ذلك الفيلولوجي الذي حاول في عام 1854 سوق الأدلة على أن الكتاب المقدس منبثق بالفعل عن كتاب ملغز بعنوان “Jashar” (جاشار). ويقول آرنولد: "فأنا لا أتظاهر، مع أنني لست بمستشرق، بأنني أصدر حكمي على هذا الكتاب: ولكنني أترك القارئ أن يلاحظ الشكل الذي اتخذه بكل بساطة بناء على حكم مستشرق أجنبي. ورينان يسميه بـ (الاعتباط البائس)، أي الفشل الذريع باختصار، الأمر الذي قد يكون كذلك أو قد لا يكون، فأنا لست بالحكم الترضى حكومته". ويتابع قائلاً: "إن من المذهل أن تكون مقالة حديثة... قد طرحت... عملاً كهذا العمل من تأليف دكتور في جامعة كامبريدج، وكان مصيره الشجب على أوسع نطاق بأقلام النقاد الألمان". ويثابر آرنولد على الاستشهاد برينان مرة ثانية -ولكن يتحدث هذه المرة عن كتاب تشارلز فورستر المعنون بـ "إماطة اللثام عن الدين المحمدي (1829)، وهو الكتاب الذي خلب ألباب رجالات الدين الإنكليز المبجلين لأنه يصور أن محمداً كان القرن الصغير للتيس الذي يظهر في الفصل الثامن من "كتاب دانيال"، وأن البابا كان القرن الكبير". ويفسر آرنولد رينان بالقول أيضاً أن على المرء ألا يستغرب أي غلو باعتبار أن من كتب هذه الأشياء رجل إنكليزي. إن أمثال هذه التقييمات تأتي "من مستشرق وقور وعلى موضوع اختصاصه، وهي تشير إلى حقيقة واقعية -مفادها أن غياب أية سلطة ذات رأي مستنير علمي وأدبي، في هذا البلد، يجعل الزيغ... أمراً لا مفر منه"(2).
وعلى الرغم من أن آرنولد نفسه كان أقل ريفية وسذاجة من كل الكتاب الإنكليز في القرن التاسع عشر، فقد كان يجسد الثقافة الفرنسية على إتاحتها الفرص أمام الناس المتعلمين على صياغة المقولات التي كانت موثوقة وأساسية في آن واحد معاً. فلقد كان لآرنولد رأي صائب على وجه التخصيص حول الميدانين اللذين أقر بطول باع رينان فيهما، ألا وهما الفيلولوجيا والدراسات الشرقية. وحتى لو كانت فرنسا، طبقاً لما تقوله مدام دي ستايل في (من ألمانيا)، متخلفة جداً عن ألمانيا في ثروة المؤسسات الأكاديمية ومناهج الإرشاد، فإنها مع ذلك تسبق إنكلترا بأشواط كبيرة. فهذا هو هانز فان آرسليف يؤرخ في كتابه المعنون بـ "دراسة اللغة في "إنكلترا، 1780- 1860"، البطء العجيب الذي كانت عليه إنكلترا في تناولها (الفيلولوجيا الجديدة)، أي ذلك العلم الذي كانت له اليد الطولى في فرنسا وألمانيا منذ بدايات القرن. فإنكلترا لم تكن متخلفة بهذا المضمار جراء التأثير العظيم الذي أثره فيها هورن توك وحسب، بل ولأن الجامعات أنفسها لم تكن لتوفر الإمكانية الجادة للتعامل مع الفيلولوجيا إلا بعد مرور قسط طويل من ذلك القرن. ولذلك فقد كانت النتيجة أن الفيلولوجيا ظلت مقصورة في إنكلترا على "الهواة وعشاق الفن وجامعي التحف الفنية الأثرية وحدهم ليس إلا"(3). وحين تعرض كتاب بوب المعنون بـ "نظام تصريف الأفعال" في "المجلة اللندنية" في عام 1820 أشار الكاتب إلى أن "انكلترا" على الرغم من فضائلها الخاصة، لم تفعل الكثير مما كان متوقعاً منها في هذا المضمار".
وإن أي دارس مهتم ذلك الاهتمام الجاد بالفيلولوجيا كان على ما يبدو في أرجح الظن منهمكاً في بحث خاص جداً أكثر من انهماكه في تحقيق مشروع وطني كبير من ذلك الصنف الذي كان يمثله رينان في فرنسا وراسك في الدانيمارك وبوب في ألمانيا. فها هو آرسلاف يقول حتى لو كان هنالك فيلولوجي كفء كفاءة فردريك أوغسط روزن -الذي تعلم تحت إشراف ساسي في باريز ومع بوب في برلين- ما كان من الممكن أن تتسنى له وقتها حياة مسلكية مناسبة في إنكلترا إذ كان مضطراً "أن يهتبش الرزق لنفسه بكتابة المقالات عن الفيلولوجيا "للموسوعة ذات البنس الواحد"(4).
إن هذه الحالة كانت نفسها تقريباً في الدراسات الشرقية الاختصاصية التي كانت تعتمد، على الرغم من نجاحها ومقامها الرفيع الأوربيين، الاعتماد الكبير على التقدم المنظم والمنهجي (للفيلولوجيا الجديدة).
فأناس من أمثال دونالدسون وفورستر يبدوان عرضة لتبادل المواضع مع شخصيات روائية من مثل شخصية السيد كاسوبون في رواية "ميديل مارش" لجورج إليوت -تلك الشخصية التي كانت منهمكة في مهمة عقيمة كتأليف "مفتاح" لكل الأساطير، والتي كانت على جهل مطبق بأحدث ما يدور عن هذا الأمر في الدراسة الأوربية، ومن الجدير بالذكر فعلاً أن الشرق حين يظهر على تلك الوفرة في الأدب الانكليزي في مطلع العصر الفيكتوري يظهر بداهة كشيء غريب وشاذ، ولا يظهر البتة كشيء هام وأساسي بالنسبة للثقافة الأوربية المنظمة، ولكن الوضع الذي كان عليه إدوارد وليام لين كان وضعاً استثنائياً بالطبع، على الرغم من أن عمله لم يكن ينتمي بادئ ذي بدء لعالم الثقافة الرفيعة وإنما لعالم الثقافة المفيدة، ولئن كان بمقدور جورج إليوت أن يقول (تقول) في عام 1856 أن حضارتنا كلها (بمعنى عام جداً) جاءت من الشرق(5)، فمن الهام أن نتذكر لا أن كوينيه كان قد تحدث في فرنسا عن انبعاث شرقي قبل ذلك التاريخ بخمس وعشرين سنة وأن فردريك شليغل كان قد قال شيئاً من هذا القبيل في ألمانياً في عام 1800 وحسب، بل ويجب أن نتذكر أيضاً أن الاحتكاك الثقافي المتتالي لكليهما معاً مع الشرق كان بالأساس وبالحصر من خلال فرع الفيلولوجيا. وحتى هوغو كان قد أعلن عن مثل هذا الشيء في مقدمة كتاب "المستشرقون".
ولو افترضنا، علاوة على ذلك، أن الاستحقار الشهير الذي عبر عنه ماكولي في عام 1835 للأدب في اللغتين السنسكريتية والعربية يمكن اعتباره تعبيراً عن وجهة نظر أوربية عامة بخصوص الضعة الشرقية الحديثة، فإن من الصحيح إلى حد ملفت للنظر أن الشرق -والمقصود هنا الشرق الإسلامي في هذه الحالة- كان قانونياً في إنكلترا أكثر اقتراناً في غالب الأحوال بمشكلات الامبراطورية أو بعفونة التوهم منه بهيبة الثقافة الرفيعة والتعلم المنهجي والمعرفة الفيلولوجية. وإن من الواضح أن آرنولد يعني هذا ضمناً ويأسف عليه بالطبع بمقدار أسفه على ما يتلازم معه أيضاً، ألا وهو العجز الإنكليزي المطلق عن إطراء فرنسا، الأمر الذي يبدو بدوره مقروناً في معظم الأحيان بالتفاهة وبمقدار مماثل من نقصان الجدية الأخلاقية.
وهنا ليس بمقدوري أن أقاوم إغراء الإتيان على ذكر مثل طريف ودقيق عن هذا الموقف الذي يتبدى، تجاه فرنسا والمشرق، في رواية "مرتع الغرور" لثاكاري، فبكي شارب حسناء نصف فرنسية، وهي حقيقة تصمها في المجتمع الإنكليزي بأنها موضع الشبهة علاوة على أنها ليست تحديداً ذات ذوق رفيع.
إن مغامراتها شهيرة جداً إلى الحد الذي يجعلها في غنى عن التلخيص هنا، ولكن مشهداً واحداً كشّاف على وجه التخصيص من جراء الطريقة التي يدل بها على حجم النهاية الوخيمة التي قد تسوقها إليها فرنسيتها وتسلقها الاجتماعي وذوقها المشبوه. وهذا المشهد هو المشهد الذي يدور في (بيت غونت) حين تشارك بيكي، وكانت حينها لا تزال في عصمة زوجها رودون كراولي، في تمثيليات تحزيرية منظمة حول موضوع "العربدة الشرقية". وتبلغ هذه التمثيليات ذروتها في الفصل الثالث الذي تلعب فيه بيكي دور كليمانسترا (وهو الدور الذي لا يناسبها اجتماعياً، ناهيك عن ميلودرامية الدور الحمقاء القذرة).
إن ما يعد العدة لظهورها في ذلك المشهد هو الكاريكاتور التالي عن الخيال الشرقي المجنح:
ويحدث القسم الثاني من تلك التمثيلية، في الوقت الذي لا يزال فيه المشهد شرقياً. فحسن يتخذ، في ثوب آخر، وضعية زليخة المتصالحة معه تماماً. وكيسلر آغا أضحى عبداً طيعاً أسود اللون.إن الوقت وقت شروق الشمس في الصحراء، ولذلك فإن الأتراك يديرون رؤوسهم صوب الشرق ويحنون هاماتهم على الرمل، ولما لم يكن هنالك أية إبل في متناول اليد، فإن الفرقة الموسيقية تعزف بشكل فكه لحن "ها هي الإبل قادمة".ومن ثم يظهر في المشهد رأس ضخم لإنسان مصري. وهو موسيقار ويغني، ويا لدهشة المسافرين الشرقيين، أغنية من تأليف السيد واغ. وهنا ينطلق المسافرون الشرقيون بالرقص، كما يرقص بابا غينو والملك المراكشي في (المزمار *****ي).(6)
وبعد هذا المشهد مباشرة تندفع بيكي على المسرح بدور كليما نسترا "في خيمة يونانية"، في ذلك الدور الذي ابتذل ثوبها وسكونها فيه يدفع أقارب زوجها لإدانة "معروضاتها غير المحتشمة".
ولاحقاً يرتب ثاكاري، وكأنه يريد أن يصل بتلك المسألة إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، عودة ارتباط آميليا بوليام دوبين والاحتفال بذلك في (بومبرنيكل)، وهي البلدة الألمانية التي يشاهد فيها هذان الزوجان المناسبان بعضهما لبعض حفلة لأداء لا التمثيليات التحزيرية الشرقية بل (فيدليو) لبيتهوفن. وفي بلدة (بومبر نيكل) -طبقاً للوصف التفصيلي التام لثاكاري- يقوم ذلك الجسر الذي بناه فيكتور أورليوس الرابع عشر، "وفوق الجسر ينتصب تمثاله محاطاً بحوريات البحر ورموز النصر والسلم والرخاء، وقدمه فوق عنق تركي مطروح على الأرض".(7)
إن ثاكاري لا يشكل استثناء لما هو رأي مروّع تقريباً يحمله الروائيون والشعراء عن الشرق المسلم. فحكايات "ألف ليلة وليلة" مثلاً مقرونة بانتظام بالأحلام المجنحة للطفولة، وهي أحلام مفيدة، وهذا صحيح بيد أنها مطروحة بذلك الشكل الذي يتيح تناسيها سريعاً. تصوروا تصوير وردزورث لها في "المقدمة"، أو فكروا في الإعجاب الذي كانت تستثيره "ألف ليلة وليلة" في نفس نيومان أيام مراهقته، الأمر الذي كان له ميزة إضافية، في حالة نيومان، هي المساعدة في إعداده لاحقاً على الإيمان بالمعجزات. أو خذوا، من جديد، جين آير التي كانت تجد لها ملاذاً في روعة "ألف ليلة وليلة" وفي رومانسيتها اللامعقولة، ومهرباً من تجهم مطلع حياتها في منزل (ريد) ومن ثم لاحقاً في محنتها في مدرسة (لووود). وحتى آرنولد، الذي تدل قصائده العصماء نوعاً ما على أنه كان ينظر إلى تلك المادة نظرة جادة أكثر من غيره، مولعاً أحياناً بربط المبالغة الجمالية أو الأسلوبية بأشياء شرقية على العموم، وعلى الأخص بالفجاجة وقلة التحضر البذيئة. وإن أبرع الإشارات عن الشرق جاء بها عرضاً بايرون في (بيبو) حيث يقول:
عن ذاك كان بحوزتي فن الكتابة اليسيرة فماذا يجب أن تكون القراءة اليسيرة! وأنى لي أن أتسلق برناسوس، حيث عروسات الشعر يجلسن وينظمن تلك القصائد الجميلة التي لن تنقرض البتة، وأنى لي أن أسارع لطباعة حكاية آشورية أو سورية أو يونانية
(ياما أمتع الدنيا).وأسوّق عليكم عينة من أحلى عينات الاستشراق ممزوجة بالنزعة العاطفية الغربية!(8)

إن الجهود الفيلولوجية التي بذلها (لين) تبدو بمثل هذا السياق أكثر خصاباً وتفرداً منها في أي وقت مضى. فبالنسبة لمواطنيه كان الشرق مجرد ذلك المكان الذي يعمل فيه المرء أو يسافر إليه أو يجنّح مع توهماته. لقد كانت الفيلولوجيا الشرقية في إنكلترا موضوعاً ذا أهمية هامشية قصوى، أي مجرد موضوع فيلولوجي عام لا أكثر ولا أقل. وأعتقد أن من الصحيح أن نقول أيضاً أن الإسلام والمعارف العربية كانت، بالنسبة للمثقف الإنكليزي، تمثل على العموم تلك القيم والخبرات والأعراف والنزعات التي احتيازها في غاية اليسر، واستيعابها في غاية السرعة لخيال وقاد أو لطاقة قادرة على التجنيع المحبوك، حتى تكون جديرة بالاحترام. إن المعرفة المشرفية لم تحظ بأي مقام رفيع في إنكلترا إلا بعد أن مضى شوط طويل من ذلك القرن، وأطول بالتأكيد مما كان قد طواه في فرنسا بكثير، لا لأنه لم يكن هنالك أي واحد لا يعرف أي شيء عن الشرق بل لأن التشكيلات الثقافية في إنكلترا كانت تستمد حاجاتها، على نقيض فرنسا، من الدراسة الخاصة والجهد الفردي والتنور الشخصي، أكثر مما كانت تستمدها من الحاضرة والأكاديمية. ولذلك ليس من باب المصادفة في شيء أن توجد جذور الدراسة العربية والإسلامية في الموروث الإنكليزي الحديث لدى (لين)، ذلك المفكر الذي نسبياً ليس بالإنسان الأكاديمي ولا من سكان الحواضر، هذا في حين أن الموروث الفرنسي استهلته لا بل وجسدته أيضاً شخصية أساسية ومؤسساتية، أي ملكية بالفعل، مثل سيلفستردي ساسي.
فعن ساسي قال دوق بروغلي: "إن هذه المؤلفات الضخمة تتسنى للمستشرقين الذين تقاسموا فيما بينهم، علنا وجهاراً، آسيا برمتها، ألا وهي تلك المؤلفات التي تنكشف عن مواصلة حبها لحركات الصوت"(9).
هيا واسمحوا لي أن أقترح فرضيتين أو ثلاث لتوضيح هذا الفرق بين فرنسا وبريطانيا.
فالأولى هي أن المفكرين، في فرنسا بعد الثورة، خضعوا للتنظيم الملكي كي ينشروا إشعاعهم من باريز التي كانت تتحكم بهم تحكماً كاملاً تقريباً، وتمركزوا في معظمهم حصراً في مؤسسات الدولة التي كانت هدفها جعل المعرفة معتمدة على كل ما هو مأذون رسمياً من علوم وهيئات علمية ومعايير رصينة. ولقد جاء آرنولد بمثل هذه الملاحظة ولكنها كانت أضيق نطاقاً بكثير. وأما في إنكلترا، من الناحية الأخرى، فإن "التجميع الاجتماعي الجديد الذي تنامى على أساس الفورة الصناعية الحديثة ينكشف عن تطور اقتصادي مشترك واضح المعالم ولكنه لا يتقدم إلا تقدم السلحفاة في الميدان السياسي/ الثقافي"(10). وما يعنيه هذا هو أن التقدم الفكري في إنكلترا لم يكن متمركزاً، وإنما حدث جراء اقتران عضوي مع التطورات التي قامت في المضمار السياسي/ السوسيولوجي (ومن هنا جاءت هيبة وسطوة الاقتصاد السياسي)، في حين أن قيم طبقة تقليدية من ملاك الأراضي هي التي هيمنت على الثقافة في كل الزوايا كافة، مما يعني، في ميادين كالفيلولوجيا والدراسات التوراتية، أن الهيمنة كانت للآراء التقليدية التي لم تتأثر (حتى أواخر عام 1830، أو حواليه على الأقل) بالتطورات الثورية الأوربية.
وأما الفرضية الثانية فهي الفرضية التي اقترحتها أينما كان فيما يتعلق بالفرق بين الدراسات الشرقية البريطانية والفرنسية: فالإمبراطورية البريطانية كانت أقدم وأكثر اتساعاً من الإمبراطورية الفرنسية، كما أن مكانها في الحياة الثقافية الإنكليزية كواقع وكمصدر أو موضوع للمعرفة كان قائماً على اختلافها وبعدها عن المجتمع المحلي الوطني، فضلاً عن تسخيرها له أخلاقياً(11). فكروا ثانية برواية "مرتع الغرور" أو رواية "جين آير" وسوف ترون ما أحاول الإشارة إليه: ألا وهو الكيفية، مثلاً، التي يجري بها دائماً تنسيب جوسيا سيدلي إلى الهند ولاحقاً بالطبع إلى بيكي وكأن ثاكاري، على الرغم من الثروة الاستعمارية التي تتمتع بها سيدلي، كان يرغب في التوكيد على رفضه الأخلاقي والاجتماعي لاستيعابها في صميم المجتمع الإنكليزي الكيّس. وها هي بيرثا موريس، زوجة روشستر، امرأة هندية غربية، الأمر الذي يجسد حقيقة ما هي بالعرضية للدلالة على بربريتها، ومع ذلك فإن الواجب يقضي بطرد الأرواح الشريرة منها (أو الهيمنة عليها) قبل أن يستطيع روشستر الزواج من جين. فهذه هي الطريقة التي تحاول بها برونتي أن تقول لنا أن مواطني الامبراطورية الوافدين من الأطراف البعيدة مفيدون كمصدر ثروة أو كمحنة أخلاقية لكي يختبرها الرجال والنساء الإنكليزية، ولكنهم ليسوا البتة بشراً جديرين بالقبول في قلب المجتمع المتمدن. إن هذا النمط ليتكرر كثيراً في الكتابة الإنكليزية، ولكنني لا أقصد أن أقول أن الثقافة الفرنسية اتخذت لها موقفاً أكثر رأفة حيال مستعمراتها، بل إن تعاملها معها كان مختلفاً ليس إلا.
وفرضيتي الأخيرة، وقد تكون أكثر الفرضيات الثلاث أهمية، هي الفرضية المطروحة بأكثر الأشكال شفافية وتردداً. فيبدو لي في إنكلترا أن تحدي (الفيلولوجيا الجديدة) للدين كان مجهولاً إلى أن مر نصف القرن تقريباً، أي، إلى حين ظهور "مقالات وتأملات" في عام 1860 تقريباً.
إن الموقف الإنكليزي من اللغة، وفي أوساط الفيلولوجيين والشعراء بالأساس، كان موقفاً دينياً أو فلسفياً إلى حد كبير جداً. فهنالك لما يكن قد قام بعد حتى حينه ذلك الفصل القاطع بين الظاهرة اللغوية وبين الفرضيات المسيحية/ اليهودية عن أصول الأشياء (أو، فيما يتعلق بذلك الأمر، بين اللغة وبين نظرية فلسفية عن العقل) فصلاً كان سمة بارزة (للفيلولوجيا الجديدة) الأوربية. فلقد فهم كولريدج وشيلي، على سبيل المثال، مجرد تشكيلات اللغة كما كان يفهمها أي واحد في أوربا، ولكن لم يتجاوز أي منهما الأفكار عن اللغة التي كانت بمثابة معرفة بديهية لكوندياك أو هيردر أو روسو، أي قبلهما بجيل كامل، أي لم يكن أي واحد منهما، بكلمات أخرى، قادراً على فصل اللغة عن استجلاء الأفكار أو عن الدين. وعلاوة على ذلك لم يكن أي منهما، ولا الفيلولوجيا الإنكليزية كميدان بالتأكيد، قد فهم على ما يبدو اللغة بتلك اللغات الدنيوية، اللغوية المحض، التي جاءت بها (الفيلولوجيا الجديدة).
لقد جئت بهذه الافتراضات الثقافية كمقدمة لموضوعي الرئيسي الذي يتناول لا عمل رينان وماسينون وحسب بل والكيفية التي انطوى فيها عملهما على السلطة الثقافية المركزية التي كانتها في فرنسا، والكيفية التي كان بها عملهما معروفاً ومقبولاً من جمهرة المثقفين الفرنسيين على نحو أفضل مما كان عليه عمل نظرائهم في إنكلترا. إن ما أريد تبيانه هو أن رينان وماسينون كانا جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الفرنسية كل في حقبته -رينان من 1850 إلى 1900 وماسينون من 1900 إلى 1960- كي يخلعا على عملهما عن الإسلام وحتى على الإسلام نفسه منزلة وسلطة بالنسبة للجمهور الثقافي غير الاستشراقي أكبر بكثير مما كان من الممكن أن يتاح في إنكلترا ولربما في أي مكان آخر في الغرب. وبكلمات أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار مواهبهما الفذة ككاتبين نثريين ذوي أسلوب عظيم وكدارسين إسلاميين عظيمين، فإن من الجدير أن نحاول فهم الكيفية التي أتاحت وجود رينان وماسينون في فرنسا فقط، لا في إنكلترا وبالنظر لبعض الأسباب التي جئت على ذكرها حتى الآن. وأنا لا أقصد أن أظهر بمظهر القائل أن الثقافة الفرنسية هي ما أنتجت في رينان وماسينون دارسين للإسلام أسمى بالضرورة من أمثالهما في إنكلترا أو في أي مكان آخر. إن المقارنة مع إنكلترا ما هي بمنتهى البساطة إلا طريقة مفيدة لتبيان الفرق المذهل في الإنتاج والأسلوب الثقافيين.
ولكن هنالك شيء ما يجدر قوله عن أمثال هذه الفروق في الأسلوب والإنتاج. فدراسة الإسلام في الغرب كانت تعيش أزمة حادة. إن الاستشراق الغربي صار يواجه، للمرة الأولى في تاريخه، تعديات على ميادين دراسته الموقوفة عليه من قبل فروع دراسية أخرى (كالعلوم الاجتماعية والماركسية والتحليل النفسي) ومن نفس المنطقة التي كانت هدف الدراسة، والتأثير الإيجابي الخالص لأمثال هذه التعديات هو أن الاستشراق صار لأول مرة مطلوباً منه أن يتفحص بشكل انتقادي لا مجرد صواب أو خطل أسطورته ونتائجها الشكوك وحسب، لا بل وأن يتفحص أيضاً علاقته بكل من الثقافة التي استقي منها والفترة التاريخية التي جيء فيها بأفكاره الرئيسية. وهذا ما يقود إلى السؤال التالي:
كيف يكون الاستشراق قادراً على مساءلة نفسه هذه الأسئلة الحساسة، مع التسليم جدلاً بتكوين الاستشراق كميدان خاص ذي مضمار وتقاليد وتطبيقات علمية قابلة كلها للتمييز؟ وأتصور أن من الصحيح أن نقول أنه في فرنسا، حيث لعبت دراسة الإسلام دوراً مركزياً كرمى له ذاته أكبر بكثير منه في أي مكان آخر في أوربا، تجلت الروابط بين الاستشراق في إطاره العريض، وبين الثقافة والتاريخ المعاصر، على أنها أكثر بروزاً وأكثر وضوحاً وأكثر أهمية لفرع الاستشراق منها في أي مكان آخر.
ولذلك فهنالك قيمة هائلة في دراسة شخصيات نموذجية وشيقة ضمناً من أمثال رينان و ماسينون نظراً لأن مثل هذه الدراسة قد تبين لنا التعاون الواضح بين عملهما وثقافتهما: إذ من خلال الدراسات التاريخية والنقدية يتمكن المستشرقون والمؤرخون الثقافيون والفكريون ونقاد العالم الثالث للاستشراق التقليدي من أن يصدروا حكماً أفضل على الطابع الأقل وضوحاً لدراسات حيز ما" كالاستشراق في الثقافات (كهذا على سبيل المثال) الذي تستند مزاعمه لدراسة مجتمعات أخرى لا على الرأفة ولا على المقام الثقافي بل على موضوعية علمية وفضول فكري نزيه. فرأيي هو أنه حتى لو كان كل من ماسينون ورينان عبقرياً، وكل بطريقته الخاصة، وهني البال مع الثقافة التي كان يخاطبها والتي كانت تعترف بفضله، فلم يكن أي من هذين الرجلين قادراً على أن يفحص بشكل انتقادي تلك الفرضيات والمبادئ التي كان يعتمد عليها عمله. ولسوف أجادل ضمناً أن الميادين الإنسانية المحافظة على تماسكها لا بالنقد ولا بالمعرفة الفكرية، بل بالمقام الاعتباطي للثقافة (كما في فرنسا) أو بالعلم (كما في العالم الأنكلو ساكسوني)، تمحو إمكانية نوع قيم من النقد الذاتي الراديكالي الذي كان يعني، في حالة الاستشراق، الطمس الكامل لتوفر أية إمكانية للاعتراف بأن "المشرق" بحد ذاته شيء أسير التأليف، أو بكونها راغبة في الإقرار بدور السلطة في إنتاج المعرفة. ولقد كانت النتيجة، بالنسبة للاستشراق، تثبيت الذات بالذات والتستر بالطلاسم، مع تقلص حظوظه تقلصاً كبيراً في فهم رؤوف له من قبل ثقافات أخرى، أو من قبل الثقافة نفسها.
وأما من ناحية أخرى فإن رينان وماسينون يساعداننا على معرفة قسط كبير عنهما لا كمجرد رجلين في جعبتهما أشياء نيرة يقولانها عن الإسلام، بل وكرجلين يكشفان العمليات التي تصاغ بها المعرفة. والشيء الشيق عل وجه التخصيص هو أن مشكلاتهما الشخصية واهتماماتهما ونزعاتهما تشكل قسطاً كبيراً جداً من عملهما وموقعهما العامين كمستشرقين. فنحن لن نرى أن الإنسان الخصوصي لا يتدخل في شؤون الإنسان الدارس وحسب، وإنما على العكس من ذلك لأن الاستشراق الفرنسي عمل على تعزيز الشخصية ثقافياً، لا لأن تعزيز الشخصية كان أمراً يسيراً بل لأن علاقة الشخصية بالثقافة كانت شيئاً ذا أهمية قصوى(12).
وهكذا علينا أن نقرأ في ماسينون ورينان وصفاً للعلاقة بين المعرفة وبين الظروف الثقافية والشخصية، والتاريخية بالتأكيد، التي يتم فيها إنتاج المعرفة- وليس من باب المصادفة في شيء أن كان رينان وماسينون معاً حساسين حساسية خاصة تجاه المشكلة، على الرغم من أنهما واجهاها بطريقتين مختلفتين تماماً. إن كلا الرجلين يوظفان نوعاً خاصاً من أنواع الأنتروبولوجيا الثقافية المقارنة، أكثر دقة ومتعة لا أقل، مع أن السلسلة الهرمية التي يستخدمها رينان لإجراء المقارنات لسلسلة أقرب ما تكون إلى السطح، ولذلك فإنها أكثر وضوحاً وصلابة مما هي عليه عند ماسينون. ومع ذلك فإننا نلاحظ أنهما في المكان الذي يوشكان فيه أن يدركا الإسلام، يضلان طريقهما إليه في الوقت نفسه أيضاً. فهذا الدارس منهما يفهم الدين بمصطلحات دنيوية ولكنه لا يفقه في الإسلام ذلك الشيء الذي لا يزال يغذي أشياعه تغذية أصيلة، والآخر يراه بمصطلحات دينية ولكنه يتجاهل إلى حد كبير الفروق الدنيوية التي تقوم في صميم تنوع العالم الإسلامي، وفي كلا هذين الشاهدين، إذاً، يرى الاستشراق نفسه ويصاب بالعمى مما يراه.
***
واحد من الأشياء التي جذبت بالتأكيد ولا بد ماثيو آرنولد إلى ايرنست رينان لم يكن مجرد أن كتابة رينان كتابة مستنقعة بخبرة المجيء بعد فوات الأوان وحسب بل وأن رينان يقدم كل المؤشرات على أنه تخطى تلك المشكلة بمنتهى النجاح. ولكن بالنسبة لآرنولد فإن المجيء بعد فوات الأوان يعني حزناً عميقاً على المعاش في عصر لا يشبه عصر أثينا البريكليسية ولا عصر إنكلترا الأليزابيثية، مع العلم أن هذا الشعور يتخلل نثره أينما كان، ففي قصائد مثل "شاطئ دوفر" و "كنيسة روكبي" و "أشعار الذكريات" المنظومة في عام 1850، هنالك ما ينم عن مشاعر الأسى والغم لكونه افتقد في ذلك العصر شخصية عظيمة كانت تشيع في نفسه الطمأنينة -أباه ووردزورث وغوته. إن الورطة الجديدة التي صار يعيشها آرنولد هي أن ولادته كانت بعد اختفاء عصر خلاق عظيم أو اختفاء شخصية أخلاقية خلاقة عظيمة.
وهنالك ورطة مماثلة بالنسبة لرينان باستثناء أن الفاجعة الكامنة في فقدان شيء ما سرعان ما تحولت مما كان معرضاً أن يكون صدمة شخصية شلاء إلى ظفر عام، ثقافي بالأساس، بالقوة والبهجة والثقة. فكتاب "ذكريات الطفولة والشباب" يتحدث في آن واحد معاً عن فقدانه تزمته الديني والاستعاضة عنه على نحو موات بالفيلولوجيا والعقل و "علم النقد". وإن لدى رينان شيئاً طفيفاً من الاستبطان السقيم -لكنه ليس البتة في شيء من ذلك الحوار الأخفش الذي يتحاوره العقل مع ذاته لدى آرنولد- حتى وهو يتحدث عن نفسه في كتاب "ذكريات.." قائلاً أنه كان في حرب مع نفسه، إذ كان رومانسياً ضد الرومانسية، كتلة من المتناقضات، هذَّار في حديثه كالهذر الذي كان يتحدث به اللاهوتيون السكولاستيون. فدونما حرج قال رينان عن نفسه بأنه كان يفكر كرجل ويشعر كامرأة ويتصرف كطفل، غير أن طريقة المعاش هذه عادت عليه، كما يقول بضرورة ليس بقليل، "بأروع بهجة فكرية ممكنة"(13) إن الجدل اللاهوتي بين الطلبة الشباب في المعهد اللاهوتي كان يتخذ طابع الشكل النصي الواقعي، والفضل كل الفضل يعود لـ (لوهير)، أستاذه الفذ، الذي ساعد رينان على قراءة النصوص المقدسة بلغاتها الأصلية. "فلقد ثبت لي حياتي (م. لوهير)، إذ كنت بالفطرة فيلولوجياً، وكل ما أنا عليه الآن كدارس كان بفضل (م. لوهير). (14) وصادف أن تضمن هذا تلك الحقيقة التي مفادها، وفقاً لما قاله رينان نفسه، أن كلا الرجلين كانا "أنصاف مستعربين" (arabisants médiocres) .
إن النموذج الفكري الذي يدأب رينان على تدوينه دائماً هو ذلك النموذج الذي يمكنه من الإعتراف قائلاً: "وبالنتيجة تغيرت في حياتي تغيراً طفيفاً، وما ذلك إلا لأن القدر أحكم وثاقي وفق مشيئته.
وخصص لي منذ طفولتي الدور والمهمة اللذين كان علي إنجازهما مستقبلاً.(15) فللتعبير عما يعنيه أن يعيش المرء بعد استسلام معتقد ديني متكامل للتصدعات التي صدعتها فيه العقلانية - تلك هي المهمة التي أفصح عنها رينان. بيد أن ما يتعلق بتلك المهمة لهو أكثر من ذلك، كما ستكشفه تواً قراءة دقيقة. إن قسطاً وافياً مما كتبه وبحثه رينان منظم حول إشكالية زمانية وسيكولوجية خاصة بعض الشيء. فرينان، على غرار فيكو وروسو، تقبل الفكرة القائلة أن أصول اللغة والدين كانت لحظات إلهام مشابهة للنشوة الشعرية، أو ربما للنشوة الدينية “raptus” ولكن رينان على نقيض أي واحد من سلفيه لا يبذل جهداً حقيقياً لإعادة بناء، أو حتى لفهم، ما كانت عليه تلك اللحظات فيما يتعلق بمسألة خارجية. إن الإلهام لشيء يقرنه رينان دائماً بحدث حدث مرة واحد وكفى في حيز يستحيل بلوغه، حيز أقدم من زمانه وخارج إطاره أساساً في آن واحد معاً. وحين بدأ رينان بالتعارك مع أصل اللغة في عام 1848 كان راغباً تماماً بالتسليم أن الله قد يكون استهل الأشياء كافة "بالمعنى الذي من الممكن فيه نعت الله، بعد أن وضع في الإنسان كل ما هو ضروري لابتكار اللغة، بأنه كاتب اللغة". ولكن أن يتحدث المرء عن الله بهذا السياق يعني أن يستخدم، كما يتابع رينان أقواله: "عبارة وحيدة ومقلوبة" ولا سيما حين يكون هنالك مزيد من العبارات الطبيعية والفلسفية التي بوسعها القيام بذلك العمل"(16).
من المحتمل أن يكون الإلهام قد حدث أو لم يحدث، بيد أنه ليس بحال من الأحوال ذلك الشيء الذي يحاول رينان تجديده. إن ما يعتبره شيئاً مفروغاً منه هو أنه على الأرض كي يبين الكيفية التي من الممكن فيها لأشياء أخرى أن تحل محل الهيجان البدائي أو الإلهام الأصلي- إلى ذلك الحد الذي صار فيه التاريخ بالنسبة إليه مكافئاً تماماً لكتابته عن التاريخ، ومن الممكن للواحد منهما أن يحل محل الثاني، فمهمة رينان هي القول: إنك لن تستطيع أن تختبر ماضي الزمان، وإنك لن تستطيع أن تغامر بتضييع نفسك في ندب ضياع عالم بدائي بغيض وإلهام كما جنة عدن، لا تنظر إلى ما ضيعته في الواقع بأنه ضياع، لا بل وانظر إليه عوضاً عن ذلك بأنه فضيلة مواجهتي، ومواجهة كتابتي.
ولكن نادراً ما يصاغ هذا الادعاء العام للاتكال على الشخص المحض لرينان ككاتب أو عالم، وذلك لأن كتابته تشكل قسطاً من تلك المغامرة التي تتخطى حدود المغامرة الشخصية التي يدعوها "بالعلم أو علم النقد" في معظم الأوقات، والتي يكمن سبب وجودها لا في أنها تحل محل الإلهام ومحل الأفراد الذين يدعون حيازة الإلهام، بل في أنها أعادت تنظيم الوجود وأي إدراك للوجود بتلك الطريقة التي تجعل الإلهام الديني غير ضروري، إن ثقة رينان فيما تفعل واكتئابه من مهمته لا يتأتيان عن المهمة وحدها وحسب، بل يتأتيان عن كونها محط وساطة ومشروعية شخص عظيم أو مؤسسة عظيمة.. وإن ما رآه رينان بمنتهى المكر، وبمنتهى الصواب على ما أظن، هو ذلك المدى الذي كانت تعتمد فيه أمور من أمثال العبقرية والوحي أو الإلهام على توهمات الفرد أو على مواهبه الفطرية أو عباداته الشخصية. فعلى نقيض التلميذ الغجري الذي كان، لدى آرنولدد، ينتظر عبثاً هبوط وميض من السماء، انطلق رينان منطقياً بمسعاه الجاد كعالم عموماً، وكفيلولوجي خصوصاً، استناداً إلى ذلك التصور الذي مؤاده أنه إن كان هنالك ثمة سماء أو وميض، فإنه لن يكون الإنسان الذي سيستفيد منهما، فزمانه ما كان بالزمن الماضي- ألا وهو ذلك الموضع الذي يضع المرء فيه النسغ الأصلي "originale séve” الذي أشار إليه في حديثه عن الأيام الأول للوحي الديني- وإنما الزمن الحاضر، بل والمستقبل لو توخى الدقة. ولذلك كان من الضروري الغوص في معارف كالفيلولوجيا التي ابتعدت بالتاريخ عن المشكلات الوجودية للوحي الديني وجاءت به نحو ما كانت دراسته ممكنة، نحو تلك الأشياء الحقيقية التي كانت لا تزال تؤرق الجنس البشري بعد مضي ردح طويل من الزمن على خمود جذوة الهيجان البدائي (أو الوحي الديني فيما يتعلق بذلك الأمر) خموداً تاماً. وهكذا فإن الحياة المسلكية لهذا الإنسان حازت على صياغتها في صميم هذا الواقع اليسير المنال، أي في الثقافة الحديثة كما عرّفها رينان بالطبع، وتحت إشراف أساتذة مثل (لوهير) الذي أكد على أصالة المواهب الثقافية لدى ذلك الشاب.
ولكن الفيلولوجيا لا تحل بمنتهى البساطة محل الدين أو الموقف الديني حالما يبادر المرء لدراسة اللغة، بل إن الفيلولوجيا، بناء على ما يقوله رينان في "أصل اللغة" تحول اهتمام الفرد من احتمال كون اللغة نتيجة سبب خارجي وسابق (كالله مثلاً) إلى اليقين بأن اللغة كانت "تلك العضوية التي تتمتع بحياة خاصة"، الأمر الذي يوجب دراستها في "علم الحياة". وهكذا فإن الفيلولوجيا تأخذ اللغة وتعيد نقلها من الماضي إلى الحاضر، وتعيد تنظيمها ضمن "ميدانها الحقيقي"، أي ضمن "الشعور النقدي" الذي يفعل فعله في الحاضر وفي المستقبل أيضاً. وهكذا فإن مهمة الفيلولوجي يجب أن تكون الربط بين تلك اللحظة التي تلت تواً ومباشرة نزول اللغة وولادتها وبين الزمن الحاضر، وبعدئذ تبيان كيفية كينونة الشبكة الكثيفة للعلاقات بين مستخدمي اللغة واقعاً دنيوياً عنه سينبثق المستقبل. ولقد ظل رينان أميناً أمانة فائقة لهذا المشروع: فكل دراساته الدينية والفيلولوجية العميقة عالجت ما بمقدونا أن ندعوه بالعقابيل، أي تلك الحالة التي أعقبت للتو الحالة البدائية والتي شكل وجودها الوحيد، بالنسبة للفيلولوجي، لا شكل إيمان المؤمن أو شكل التعاقب النبوي أو شكل جماعة حية، بل مجموعة من النصوص التي تتيح للفيلولوجي أن يميز فيها كل تلك المساوئ والفضائل الخبيئة خلف السجود في الصلوات والإعلانات عن الإيمان والآلام التي عاناها الشهداء فلقد قام رينان بعمله بأدوات استقصاء حديثة، وكانت نقطة انطلاقه نقطة انطلاق محترف دنيوي أحكامه اعتمدت على تلك الحقيقة التي لا يرقى إليها الشك، والساخرة إلى حد كبير، والتي مفادها أن الثقافة، على الرغم من الوحي، تقدمت بالعلم الذي خلّف الدين وراءه على بعد أشواط وأشواط.
إن وجهة النظر هذه هي المسؤولة بالتحديد عن رؤية رينان للإسلام رؤية راديكالية لا تقبل المساومة. ولكن قبل إقدامي على بحث ذلك يجب علي أن أقول بضعة أشياء إضافية عن آراء رينان بخصوص الثقافة والعلم.
إن النص العويص هنا هو "مستقبل العلم" المنشور في عام 1890 بيد أنه مكتوب أصلاً في عام 1848. ويجب علي بادئ ذي بدء أن أعترف بأن الثقة العمياء للكتاب ومناخ الإجلال الذاتي فيه أمران منفران. ولكن الكتاب، كائناً ما يكون وضعه، كتاب هام جداً بالنسبة لرينان، ففيه يتقصد بمنتهى الوضوح أن يضع نفسه في صميم الثقافة الحديثة -التي هي في جوهرها فيلولوجية كما يقول -الأمر الذي يسوقه للدفاع عنها بنفس المقدار الذي يتحدث فيه عنها. إن العنوان ليفصح عن أن العلم هو المستقبل ويفصح، أكثر من ذلك، عن أن العلم سوف يغير الحياة البشرية إلى ذلك الحد الكبير الذي سيتيح حتى إدراك الله نفسه. "ولما كان القول الفصل للعلم الحديث فإنه رتب الإنسانية بشكل علمي... وبعد ترتيبه الإنسانية سيرتب أمر الله"(18) والشيء الممتع هو أن رينان يرى هذا الأمر على قدم وساق كنتيجة لتغيّر المنظور الذي نجم عن الاكتشاف العلمي الحديث. وهكذا ففي الوقت الذي كان فيه العالم القديم (وقد كان يعني بذلك العلم الديني) مغلقاً وضيقاً، فإن العالم العلمي الجديد الذي خلقه (همبولت) لعالم مفتوح وغني ومليء بالاحتمالات. فهنا تم إلغاء الماضي إلغاءً تاماً، وإعادة تقييمه بناء على معايير جديدة، وتحويله إلى شيء لا يستطيع استغلاله والعربدة فيه والشعور حياله بشعور الإبداع إلا العقل الجسور والاستقصائي عقلانياً(19). وإن ما يقصده رينان ضمناً بمنتهى الوضوح، على الرغم من أنه لا يقوله بصراحة، هو أن الثقافة الفيلولوجية التي هو ممثلها الموثوق تهيمن على ذلك الميدان العقلاني الذي برز كنتيجة للاكتشاف العلمي الحديث. وبناء على ذلك فثمة ثلاثة مواقع متحدة المركز تحظى بالمشروعية. فعلى السطح الخارجي يقوم الغلاف المادي الذي تقوم أقدم تخومه بتحديد المكان الذي يبرز منه العالم المفتوح اللاحق للعالم البدائي، وفي صميم ذلك تقوم الثقافة نفسها، تاريخية وفيلولوجية، في معالجتها كل نواتج التاريخ البشري، وفي صميم هذا الموقع الثالث، في قلبه، يجثم الفيلولوجي الذي يدفع بنشاطه التاريخ البشري إلى الأمام. إن كل موقع من هذه المواقع وكل مكان من هذه الأمكنة يعزز الآخر، علاوة على أن أي موقع من الثلاثة يجعل الاثنين الآخرين ممكنيين. "أنا الذي نقش اسمه في الصميم كي ينشر العطر على كل شيء.
وهأنذا أنظم وأقارن لكي أتوصل من ثم إلى منهج الأشياء(20). فعلى الرغم من أن تلك الأنا (moi) المتغطرسة تبدو وحيدة بأم عينها، فإنها في الحقيقة تحظى لها بالتعزيز من كل أنواع المؤسسات والشخصيات التي تمنحها السلطان والوقار: فلا همبولت وحده، بل وكوسين وبورنوف ولوهير وكوفييه وسانت هيلاري -كلهم كرينان يلعبون دوراً مركزياً بالنسبة للفعاليات الأساسية في الحياة الحديثة.
إن مقارنة عاجلة بآرنولد لشيء تنويري هنا: ففي كتاب "الثقافة والفوضى" قال آرنولد عن الناقد بأنه إذا لم يقع فريسة للمصالح الطبقية الضيقة (برابرة أو رعاع أو همج) وإذا أراد أن يكون ناقداً نزيهاً بالفعل، يجب عليه أن ينتمي إلى زمرة جريئة مكونة من رجالات الثقافة. وإن هؤلاء المخلوقات هم من يمكن أن ندعوهم بذوي المرتبة المتواضعة، ومن الواضح وضوح الشمس أن رينان ليس واحداً من هؤلاء. فكل ما حوله ينشر إشعاع سلطان المؤسسات المركزية الكبيرة كالمدارس والمعارف والهيئات الثقافية وزمر التعاون المنظمة كلها على شكل تسلسل هرمي من عمال علميين. إن مثل هذا الجهاز الدائر بمنتهى الرفق بالنسبة لرينان، لا كما دعاه آرنولد بالآلية وحسب، هو الفيض الحقيقي للوجود التالي للوجود السريع الزوال. وبعيداً عن معالجة رينان لهذا كله وكأنه مجرد ملحق ثانوي لسقم الحياة بدون إلهام، فإنه يطلق حكمه على هذا المشروع الكثيف برمته بأنه الحياة الحديثة، وبأبهى مظهر لها.
فلا عجب إذاً أن يظهر الإسلام بهذا المظهر الرديء جداً. وذلك لأن الإسلام، كما قال رينان في مناسبات عديدة جداً، هو ذلك الدين الذي لم يتظاهر مؤسسه البتة، حتى مجرد تظاهر، بالقداسة، ولم يتظاهر بالأصالة الحقيقية أكثر مما سبق بكثير. فلئن تمكن رينان من معالجة أديان منظمة كاليهودية والمسيحية بأنهما جاءتا بعد تصادف مؤسسيهما بالمقدس، فكيف كان بمقدوره أن يعامل محمداً معاملة مختلفة عما عامله كآخر وافد من الوافدين بعد فوات الأوان؟ فلا سر ولا معجزات ولا قدسية، ولا حتى نساء كما يقول في فقرة رائعة حوالي نهاية كتابه المعنون بـ "محمد وأصول المذهب الإسلامي"(21) إن الإسلام بكلمات أخرى مفتوح كله على الحاضر، ولن يبقى على قيد الحياة في المستقبل، علاوة على أنه لا يقدم أي شيء مهم لأي إنسان يحاول إحياء ماض ديني غامض في غابر الأزمان. إنه عقيم وعاجز عن تجديد نفسه تجديداً حقيقياً، ولسوف يتلاشى برمته تحت تأثير العلم الغربي الحديث.
إن تلاشي الإسلام لهو الشيء الذي تعهد رينان التعجيل به إلى حد معين، وقد فعل ذلك بالإصرار على آرائه عن الثقافة والعلم إصراراً يفضي إلى فتور أكيد. ففي عام 1883 ألقى محاضرة في السوربون بعنوان "الإسلام والعلم" وكانت بمثابة ملحق مناوئ لـِ "مستقبل العلم": فالإسلام في هذه المحاضرة هو النقيض عينه للعلم والمستقبل. إن أكثر الأشياء التي تتكشف عنها المحاضرة إصرار رينان على أن الثقافة الإسلامية هي حصراً لا بالعلم ولا بالفلسفة (كما كان قد أكد كتابه عن ابن رشد)، بل مجرد لغة (وشاهده هنا هو أبو الفرج). فلغة الإسلام، وقد انقصّت من جذورها في إلهام قديم، أو حتى في علاقة حميمة مع القداسة، ليست باللغة الملائمة لتغذية العلم. إن الإسلام ولغته العربية، على النقيض مما قيل آنفاً، يجسدان الكراهية للعقل، ونهاية الفلسفة العقلانية، وعداوة متواصلة للتقدم. "لم يكن الإسلام، بالنسبة للعقل البشري، إلا مؤذياً.(22) فلم بالضبط؟ لأنه جعل من البلدان التي حكمها "ميداناً مغلقاً". أي أن الإسلام، بكلمات أخرى، أعاد الإنسان إلى عالم البدائيين المغلق وابتعد به عن العالم المفتوح للعلم الحديث.
فيما أن الإسلام جاء بعد اليهودية والمسيحية بزمن طويل، فقد ارتبط بعصر أقدم، عصر الجهد البشري الجهيض الواهن الذي لم تكن لديه ذكرى الإلهام الفياض بالحيوية المطلوبة لإرشاده. وهكذا فإن خدمته لمن يمارس الثقافة الأوربية الحديثة كانت بمثابة الدليل السلبي لقانون التقدم.
إن المغالطة العجيبة في صميم رؤية رينان للإسلام لا تجد لها حلاًّ إلا حين نفهمه بأنه يستبقي الإسلام حياً لكي يباشر تقويضه، في كتابته الفيلولوجية، معاملاً إياه كدين لا لشيء إلا لكي يبين الجدب الأساسي في جوهره الديني، مذكراً إياناً أن الإسلام، حتى لو كانت كل الأديان أساساً بمثابة الحواشي الملحقة بإلهامات تلاشت إلى الأبد، كان مهما لأي فيلولوجي كحاشية لحاشية أخرى ليس إلا، كأثر لأثر آخر وحسب ولما كان الواقع على هذا النحو فقد كان يشكل تحدياً للفيلولوجي الذي، في حديثه دفاعاً عن الثقافة الغربية، كان يثبت المنزع الدنيوي الجديد في ذلك الحيز الفارغ المفتوح لا نظراً لاضمحلال الدين، كما كان يعتقد رينان، بل نظراً للامبالاة جوهر الدين نفسه بالعلم والثقافة تلك اللامبالاة المتواصلة، ألا وهو ذلك الجوهر الذي كان يعود إليه على غير دراية منه في كتاب إثر كتاب آخر وخلاّه بلا مساس تماماً.
فرينان لم يعالج البتة بالفعل الواقع الدنيوي للأديان في إصرارها على وجودها كما هو عليه واقع الأمر بالنسبة للإسلام، أي تلك الأديان التي لا يزال بمقدورها أن تحافظ على وجودها وأن تكون قوية حتى في عصر بوسعه أن يبرهن ثقافياً بدون أدنى شك على أن الدين شيء من غابر الأزمان. وإن هذه الورطة هي الورطة الثقافية لرينان وبؤرة العمه فيها كائناً ما كان عمق اعتقاده بنفسه أنه قد تحظى الدين وتسامى عليه.
إن كل ذلك العمل الضخم الذي أنجزه ماسينون يتوجه صوب هذه المسألة بالضبط، أي مسألة بقاء الدين على قيد الحياة: فماسينون يجلوها ويعيشها مرة أخرى ويتعلق بها، ويكتبها ويعيد كتابتها بعبقرية وتبصّر لا نظير لهما. وما هذا القول إلا طريقة أخرى للقول بأن المهمة الفيلولوجية الكامنة في صميم الثقافة الفرنسية تتعرض للتحول التام على يدي ماسينون. فها نحن الآن نتعامل مع عقل ذي شأن من نوع آخر، ومع خبرة عميقة ورائعة حتى إن تماثلاتها ودعاماتها الثقافية الجليلة ما هي إلا جمالية وسيكولوجية، وما هي بالمؤسساتية والأكاديمية كما كانت عليه الحال لدى رينان. ولكي نفهم ماسينون علينا أن نقدم كل شيء أفضل، أي على قراءة مالارميه ورامبو أكثر من قراءة سيلفين ليفي. ومع ذلك فالنظرة إلى ماسينون يجب أن تكون أنه، بشكل لا يقل عن رينان، ضمن تلك البنية العظيمة كهيمنة الفرنسية على العالم الإسلامي هيمنة ثقافية وسياسية واستعمارية. فكل منهما، بطيقة مختلفة جداً، يسلم جدلاً أن هنالك مهمة فرنسية خاصة للعالم الإسلامي وفيه، ولكن في الوقت الذي كان رينان يراها تكوين رأي عنه ابتغاء الفتك به في خاتمة المطاف، كان ماسينون يراها وجوب تفهمه والشعور بالرأفة حياله ومن ثم البقاء في آخر الأمر على انسجام مع كروبه وحاجاته وورطته القدسية. إن الموقف المعرفي لرينان من الإسلام هو، إذاً، موقف تعرية له وإصدار حكم عليه، في حين أن موقف ماسينون موقف الاحتضان والتقارب الودي. فما كان أي منهما ليشك بأن من الممكن للإسلام أن يكون موضوعاً للدراسة أمام الدارس الأوربي، باعتبار أنهما يفترضان بداهة أن الدراسة المعمقة تحل كل العقبات، وتيّسر احتياز كل الأشياء، ويمكنها تصوير أي شيء، بالحكم النقاد والنبذ بالنسبة لرينان، وبالرأفة الودود بالنسبة لماسينون.
إن ما هو على أوثق ارتباط بالموضوع بالنسبة لكل من يحاول أن يفهم نقدياً جوهر الاستشراق الحديث هو أن المرء ليواجه في قراءة رينان عقلاً نيراً قادراً على الإتيان بكل أنواع الفروق الدقيقة، ورجلاً يتجسد مشروعه الرئيسي في طي صفحة الإسلام. وإن رينان، لا الإسلام، هو الذي يخلف المرء في خاتمة المطاف طبعاً وبحوزته الانطباع عن شيء محدود وسطحي وغير حماسي. والعكس هو الصحيح عن ماسينون الذي سأحاول في بقية هذه المقالة أن أشير إلى بعض الطرائق التي يتحدى بها هذا المتبحر العظيم التحليل الروتيني، والذي يمكن اعتباره أيضاً جزءاً من الاستشراق. ففي عمله، الذي يغطي تقريباً الستين سنة الأولى من هذا القرن، يجد القارئ تجسيداً لا لمجرد تلك البانوراما الهائلة للثقافة الفكرية الفرنسية وحسب (في نسختها الكاثوليكية الرفيعة)، بل ويجد أيضاً أعظم المشكلات الكامنة في الاجتياح الاستعماري وفي الانسحاب الاستعماري. وعلاوة على ذلك فإن ماسينون يعالج أموراً معقدة كحركة الإصلاح في الإسلام، والعلاقة بين الإسلام والمسيحية والمجابهة بين العلم والوحي وعلم اللغة والأنتروبولوجيا، ومواجهة التحليل النفسي للفيلولوجيا والدين والإيمان، ويكشف قبل هذا وذاك عن تلك الصراعات التي يخوضها عقل مصقول وقوي إلى أبعد الحدود إبان تعامله مع معظم مؤسسات الإيمان ومع الثقافة التقليدية والحديثة سواء بسواء، وهو في غمرة نشاطه الدائب في الحكومة والأكاديمية والكنيسة.
فماسينون هو النقيض الحقيقي لرينان في مسألة الوحي. إذ في الوقت الذي يتحدث فيه رينان ويكتب بعد أن كان قد قرر سلفاً أن الوحي لم يعد يتعارض مع الحداثة، فإن مجمل الحياة المسلكية لماسينون تنبثق من قلب لحظة وهي في عام 1907. وهاكم هنا كيف يصف تلك اللحظة بلغة إنكليزية طريفة ومغلوطة بيد أنها مثيرة للأشجان إلى حد ما:
بعد دراستي السنسكريتية (ومخطوطات آنغور) عمدت لدراسة العربية والبلدان المسلمة، وسافرت طيلة سنوات على تخوم الصحراء العربية في أفريقيا وآسيا، وخضت كما يجب غمار صراعات عديدة، وعلى حين غرة داهمني نور الوحي. ومع أنني كنت متخفياً ووقعت ضحية الأسر على تخوم الصحراء وحقول الأرز في العراق، فما كان بمقدوري أن أتخلص من ضربة الشمس عند الظهيرة والحفاظ في الوقت نفسه على الومضات الخفيفة عند الفجر لتلك الأساطير الشعبية السلفية. وفضلاً عن ذلك عادت هذه الأساطير الشعبية حية في ذاكرتي حين اكتشفت في الإسلام رموزاً دينية مماثلة للثقافة التقليدية عند الفلاحين، وخاصة في إسلام بلدان الرياح الموسمية الممتدة من الجزيرة العربية ذات البخور إلى إندونيسيا ذات التوابل(23).
هذا مكتوب في عام 1959، أي قبل وفاته بثلاث سنوات، فماسينون يربط تلك الخبرة بالتبجيل المفاجئ الذي يحل به أبوه الفن الياباني في عام 1890، ذلك التبجيل الذي صار يشعر، على أثره، بنوع من التوقير تجاه حتى الورق الذي كانت التصاوير منقوشة عليه. إن ما كان عليه الورق بالنسبة للأب صارت عليه اللغة بالنسبة للإبن. "إن الكلام البشري ما هو إلا نداء شخصي برز إلى الوجود كي يخرجنا من أنفسنا، من بلادنا، من تربتنا، وليذهب بنا باتجاه الحب"(24). وهنالك شيء من التماثل لكلا مظهري هذه الخبرة في الاكتشاف الثاني الذي اكتشف فيه مارسيل "فرانسوا لوشامبي" لجورج صاند في مكتبة غورمانتس، حوالي نهاية "الزمن الموجود" لبروست. إن دمجاً لا إرادياً لوضعين منفصلين يجتث بلمح البصر على ما يبدو كروب المسافة والزمان والهوية. فما يفهمه ماسينون الكهل هو الهوية المادية لعمله وللفن الياباني، إذ كان بالمناسبة نحاتاً. ولكن ما يعطاه الابن في الوحي يأتيه مباشرة من الكلمة المنطوقة، علاوة على أن مهمته كفيلولوجي تتمثل في أن يرى كيف أن النصوص في لغة أجنبية تتضمن ذلك الحضور المقدس الذي تمثله أية لفظة في هذه اللغة، فضلاً عن شهادتها على وجوده.
ولكن ماسينون ليس مشوقاً لمفكر حديث لمجرد أن وحياً تسنى إليه وتذكره من ثم في عمله. ويمكننا أن نقول أن ماسينون كان، إن أعدنا صياغة قول سارتر عن فاليري، ذلك الرجل الذي كانت له حياة روحية غنية، ولكن ليس كل من لديه حياة روحية غنية بكون صنو ماسينون، فالسؤال عما يعطي حياته المسلكية قوتها الراسخة هويتها البينة من البداية حتى النهاية يمكن الإجابة عليه بعبارات فكرية. ويمكننا أن نقول، لا بمقصد تبسيط ماسينون أو الاستخفاف برأيه، أن اللغة والثقافة إن كانتا جديرتين بالمعالجة فيلولوجياً في منظور زماني كمظهرين لدراسة رموز الحقب التاريخية، كما يرى رينان، فإن مشكلات اللغة ومشكلات المهمة الفيلولوجية موضع دراسة ماسينون في صميم منظور مكاني “spatial” كمظهرين لدراسة المسافات والتمايز الجغرافي وكائنات مكانية معزولة بعضها عن بعض بصقع ما يفرض على الدارس أن تكون مهمته رسم خريطته بالدقة الممكنة، والانتصار عليه بعدئذ بطريقة أو بأخرى. فالتنظيم الكامن في العمل المترامي الأطراف لماسينون هو الحقيقة الكلية الوجود للمسافة، حقيقة تواجد وحدات منفصلة حتى في لحظة الوحي، وبكلمات أخرى يحاول ماسينون أن يختبر أساساً المسافة بين الإسلام والمسيحية كشكل مختلف عن المسافة بين الإنسان والله أو بين الكلمة والروح.
وهكذا فقد تفحص الإسلام لا كشيء بحد ذاته بمنتهى البساطة، بل كظاهرة متميزة، كشيء موضع الشعور به في الجزيرة العربية وإندونيسيا ومراكش، ولكن لا في فرنسا أو في إنكلترا على سبيل المثال. ولقد حاول مالارميه، بالطريقة نفسها تقريباً، فهم اللغة كتفاعل بين الأسود والأبيض، كما أن بروست حاول استنباط طريقة لتقليص المسافة بين الماضي والحاضر، وذلك بعد أن اختبر تماماً المسافة بينهما وحافظ على هوية الإثنين. إن منهج ماسينون لا ينبثق عن العادة المسيحية، عادة الشهادة والرأفة، وحسب، لا بل وينبثق أيضاً عن علم جمال رمزية مؤخر القرن التاسع عشر، تلك الرمزية التي يتعايش فيها شيء في اللغة مع غيابه، والتي فيها وضع الأشياء في مواضعها ونزعها منها -لعبة المبادلات التي تلعبها- هما ما تجسدهما اللغة.
هنالك أمثلة عديدة عن هذا في عمل ماسينون، إلى ذلك الحد الذي يجعل تكرير بعضها يقدم فكرة كاملة عن هذا الإجراء، وإن اهتمامه بالحلاج لمثل من أوضح الأمثلة بالتأكيد باعتبار أن الحلاج هو الشخصية الرئيسية القوية جداً في الأعمال الكاملة لماسينون. لقد كان منصور الحلاج قديساً مسلماً بغدادياً في القرن العاشر كان مصيره الاستشهاد لأنه تجرأ لا على الاقتراب مباشرة من الله وحسب بل ولأنه تحدث عن نفسه باعتباره الحقيقة أيضاً، كنوع من أنواع التجسد المسيحي الشامل. فلا لأن الحلاج نفسه جسد مثلاً من أمثلة استبدال شيء بشيء آخر في رجل واحد نفسه (البشري والمقدس كقول الحلاج أنا الحق)، بل لأن خبرات الحلاج الإسلامية تتماثل مع التصوفات المسيحية الأوربية على الرغم من ابتعادها عنها مسافة شاسعة. وضمن هذا السياق هنالك "الخبرة الصوفية ونماذج النهج الأدبي" (1927) حيث يقارن ماسينون بين التقنيات اللفظية لكتاب أوربيين من أمثال إكارت والقديس جون الصليب وكلوديل، وبين تقنيات الشعراء المسلمين المتدينين، ومن الجدير بالذكر بخصوص هذه المقارنات هو أنها لا تبين التشابهات في التعابير وحسب، لا بل وتبين أيضاً أنها دقيقة ومحكمة على الرغم من "تمايز" الظروف الجغرافية الفاصلة فيما بينها. وإن ماسينون ليحافظ، حتى في تحليلاته للمواجهات الصوفية الأوربية والمشرقية مع المقدس، على ما كنت دعوته بورطته في دراسة الرموز: إذ إن اهتمامه بالتشبه الكامل الذي يتشبهه الإنسان بالله لأقل من اهتمامه بالصراع الباطني بين الإنسان والله وبين الإنسان والإنسان، صراعاً يغامر فيه الإنسان بفقدان تطابقه مع الله.
إن التاريخ مؤلف، كما يقول ماسينون، من سلاسل مشاهدات فردية متناثرة هنا وهناك في طول وعرض أوربا والمشرق حيث يشفع بعضها لبعض وتنوب واحدتها مناب الأخرى. فالمبادلة تعني ضمناً سلسلة متواصلة من التبادل الكرار إلى ما لانهاية له، ألا وهي تلك السلسلة التي يوجد فيها شيء قادر على الحلول محل غيره بشكل مستديم. ولقد كان الإسلام، بالنسبة لماسينون، بمثابة الشيء الذي، على الرغم من ظهور الحلاج وأمثاله من حين إلى حين وعلى الرغم من كونه ديناً ابراهيمياً، من الممكن وصفه بأنه البدل الناقص للمسيحية في الشرق. فماسينون كان يرى أن الإسلام والمسيحية يتبادلان عملية الزحزحة فيما بين بعضهما بعضاً، وأن هوية الإسلام تكمن في مقاومته التجسيد المسيحي وصلابة موقفه إزاء ذلك التجسيد. ولما كان الأمر على هذا النحو فقد جذبه الإسلام إليه وقاوم الإنسان المسيحي في صميمه، على الرغم من أنه كان يتصور -وهنا مكمن العبقرية الفذة عند هذا الرجل- عمله الفيلولوجي علماً رؤوفاً كونه يفسح مجالاً للإسلام والمسيحية أن يدنو واحدهما من الآخر وأن يحل محله، مع بقائهما منفصلين لديمومة حلول واحدهما محل الآخر. وعلاوة على ذلك فإن المجموعة الخاصة التي وطد أركانها للعبادة دعيت بـ "المجموعة الدينية البدلية" التي تشير "نصوص الفرائض" فيها إلى أن "البدلية تستوجب النفاذ إلى الأعماق نفاذاً يتأتى عن الوصل بين الأعماق وبين العناية الفائقة بحياة العائلات وبين الأجيال المسلمة ماضياً وحاضراً(25).
إن ما يكمن خلف فكرة المبادلة هو النقيضة الموجودة أبداً بين الشيئين البديلين لبعضهما بعضاً. فالمسيح كقربان ما هو بمنتهى الجلاء إلا البديل الأسمى لكونه ضحية قربانية عن البشر أجمعين ولكونه ابن الله في آن واحد معاً. فالمسيحية كمنظومة دينية، كطقوس دينية، كلغة، مبنية من صميم تلك النقيضة الجوهرية. وإن صرامة منهج ماسينون لصرامة تتنطح لنقل هذه النقيضة والمبادلة الدينية إلى ميدان اللغات ومن هناك إلى العربية والإسلام.
فاللغة "حج وتزحزح روحي" وذلك لأننا لا نحبك اللغة إلا لكي نتمكن من الخروج من أنفسنا صوب آخر ما. ولكي نستحضر وهذا الآخر إلهاً غائباً، الشخص الثالث، "الغايب" كما ينعت النحاة العرب الله. ونحن نفعل هذا الشيء بغية اكتشاف كل هذه الكينونات ومطابقة الواحدة منها مع كل واحدة أخرى. فهذا ما يمكننا من نقل مشاهدتنا إلى الله، لأن الله هو الحقيقة بعد أن تقبلناه بمقتضى موافقة القلب على ذلك، وإن هذا الوجود، أو الكون (be) ، مذكور ثماني مرات في القرآن تعبيراً فيها كلها عن "كلمة الله (العقل)، ويسوع بن مريم" ويوم الدين(26).
إن ماسينون يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ويستشهد هذه المرة بمالارميه. فالكلمات تدل بمعنى ما، كما يقول، على غياب “maanque” ، بيد أن أهمية اللغة المنطوقة في العربية هي أنها (شهادة)، وإذا اشتط بنا المسار إلى شكلها النحوي الأخير فتعني (الشهيد). فلكي تشهد يعني أن تتكلم، وأن تتكلم يعني أن تخرج من نفسك صوب آخر، ان تزحزح الذات بغية إيواء آخر، أي نقيضك وضيفك، لا بل وحتى إنساناً آخر غائباً ممن غيابه يناقض حضورك أنت. ومن سخرية الأقدار أنك لن تستطيع البتة أن تتلاقى مع الآخر: فشهادتك تستطيع في أحسن الأحوال أن تؤوي الآخر، وهذا هو بالطبع ما تفعله اللغة، وهو نقيضة الحضور والغياب باستثناء أن الذات، في حالة "الشهيد"، تمحى كرمى للآخر الذي يصير من جراء محبة الشهيد أكثر بعداً، كائناً أكثر آخرية مما كان عليه من قبل. وهذه هي التضحية الأسمى، الجلال الأسمى، والنقيضة الأسمى بالطبع: إنها الخزي البشري والحب القدسي، وهي النقاء الممزِّق “déchirante pureté” لمنصور الحلاج الذي كان انتهاكه الحرمات يتمثل في أنه تجاسر على تجاوز الإسلام والانطلاق باتجاه المسيحية والله. وكما عبر عن هذه الحالة بييردو فوكو بقوله "حين يختار الله شهيداً، حتى في أكثر الميادين تواضعاً، فإن الله يحول شكل ذلك الشهيد إلى إنسان ما، إنسان يبغضه الآخرون ويعجزون عن إدراكه"(27).
فكل كتابة ماسينون برمتها تشكل كوكبة من الصور حول هذه الأفكار. فاللغة العربية عالم مغلق فيه بالتأكيد عدد من النجوم، وعالم ما أن يدخله الدارس حتى يجد نفسه في موطنه ومستبعداً عن عالمه الخاص(28). وهكذا فثمة زوج مركزي من الصور هو صورة الضيف وصورة المضيف. لاحظوا كيف أن هنالك دائماً نقيضة تستوجب المواجهة وقطباها يسمحان للمرء أن يقطع المسافة من اللغة إلى الدين وأن يعود أدراجه مرة ثانية: من العربية إلى الفرنسية، من الإسلام إلى المسيحية، ومن ثم عود على بدء مرة أخرى. وفي صميم كل قطب من النقيضة هنالك المزيد من النقيضات -ففي العربية على سبيل المثال، هنالك فروق موضحة، وهي الفروق التي تعمق الانفصال، فماسينون يسم العربية بأنها أساساً لغة التركيز والانفصال التي حروفها الساكنة على السطر بمثابة الجسد، في حين أن أحرف العلة فوق السطر أو تحت السطر بمثابة الروح، وما ذلك الوسم إلا جزء من النقيضة الأصلية عن التناوب بين الحضور والغياب. وإن الخبرات والشعائر الدينية التي يوليها اهتمامه على وجه التخصيص (كالمباهلة مثلاً)، تكرر أيضاً طقس المبادلة والمقاومة.
وعلى نحو مماثل فإن أسلوب ماسينون، وبنفس مقدار موضوعه، لأسلوب متقطع ومبتور- وقد كان بكل تأكيد واحداً من الأساليب الفرنسية العظيمة في ذلك القرن- وكأنه كان يتمنى على الدوام تجسيد البعد وتناوب الحضور والغياب، ومفارقة الرأفة والتنفير، وموضوع الإيواء والاستبعاد، والوقار والعار، والصلاة الابتهالية والحب الشفوق، وقبل هذا وذاك نجد عند ماسينون التناوب المتواصل للبعد والقرب بين الإسلام والمسيحية بحيث أن عمله كان يجسد على الدوام الفكرة الأساسية للمبادلة، للجذب والنبذ نفسيهما. ولذلك فلشكل صلاة الابتهال ضمّن ماسينون عمله الفلسفي فكرة التضحية الرحيمة البديلة، التي صيغتها المسيحية هي بالطبع آلام المسيح، والتي صيغتها اليونانية القديمة هي ما تدعى "pharmakos" ، في حين أن صيغتها الإسلامية هي الأبدال.
ومن الممكن أن تكون أفكار ماسينون عن التضحية قد جاءته من جوزيف دوميسر ومن آلفريد لويسي، بيد أنه خلع على تلك الأفكار صيغته المميزة. فلئن كانت الكلمة حضوراً وغياباً في آن واحد معاً فإن بوسع المرء أن يقول أيضاً أن الشخص الذي يعاني الآلام نيابة عن الجماعة، والذي معاناته تعود لما يدعوه ماسينون بـ "تحول الألم إلى رأفة" لهو في آن واحد معاً الشر كله والخير كله، والضحية والظالم والأجنبي والمواطن، والمنبوذ، والضيف والمضيف المقبول، والحضور والغياب. فطيلة حياته المسلكية كان ماسينون منهمكاً بمنتهى الفاعلية لا بالإسلام وحده بل وأيضاً بالمعذبين والشهداء واللاجئين والضحايا وبالعمال المغتربين، حتى في الوقت الذي كان فيه دارساً عظيماً للغة وقارئاً عظيماً للنصوص الصعبة ومفسّراً عظيماً للأديان الأخرى، وشخصية عامة مرموقة جداً. فالإسلام والعربية يثيران في نفسه الرأفة المسيحية التي حاول، على نقيض أي مستشرق آخر من ذلك القرن، أن يقلبها إلى تفهم نيّق لهما كليهما. ولقد قال في إحدى المناسبات أن معظم الفيلولوجيين في القرن التاسع عشر خلصوا إلى مقت اللغات التي درسوها، في حين أن مهمته الفيلولوجية انطلقت، على نقيض مهمة رينان، من الرغبة بعدم تكرار ذلك المقت وتحويل التنفير إلى محبة.
ولا يزال هناك شيء عجيب حيال خليط فطين جداً في هذا الرجل الثر ثروة مذهلة فياضة في معظم الأحيان بالخصاب العقلي، وبالتركيز على الشهادة، على وصمات العار، على المعاناة المجانية، على الحجاج اليائسين، على الموت، على الصحارى، على السجون، وعلى التنسك، وعلى الغياب والظلام. وإن إرث هوسمانز، عراب ماسينون، لهو أكثر من فضولي فيه. فجاك بيرك مصيب حين يقول أن ماسينون سار بالإستشراق إلى أقصى حد ممكن، وبنفس تلك الطريقة التي سار بها هيغل بالفلسفة إلى حدودها المطلقة، ومصيب أيضاً حين يقترح أن تعلق ماسينون بإبراهيم كأول سامي يجب إعادة التوازن إليه بجرعة قوية من هيراقليطس(29). إن ماسينون نفسه كان مدركاً تماماً لتحريره الاستشراق من القيود التي فرضها عليه رينان. ولقد أشار مرات عديدة إلى تلك القيود وعبر عن معارضته لتزمت ذلك الرجل عرقياً وعقلانياً، حتى إنه اشتط في كراهيته له إلى الحد الذي جعله يصادق حفيد رينان، إيرنست بيشاري، المتصوف والمعادي للنزعة الرينانية.
***
إن رينان وماسينون هما قطبا التعارض في ميدان الاستشراق: فرينان هو الحكم الفيلولوجي والدارس الفرنسي الذي يمعن النظر في أديان ذات مرتبة دنيا كالإسلام نظرة طافحة بالاحتقار، والذي يتحدث استناداً لا على سلطة أوربي علمي وحسب بل وعلى سلطة مؤسسة ثقافية عظيمة، في حين أن ماسينون هو الضيف الفيلولوجي والمسافر الروحي الفذ الذي -إن استعملنا كلمات جيرارد مانلي هوبكينز في وصف دونس سكوتس- ما عنت على باله أدنى فكرة لنسل خيط من حبيكة الحضارة الإسلامية، والذي أنجبه الغرب.
ثمة تعليق نقدي أخير يجب طرحه. أضرب من المبالغة أن نقول أن رينان وماسينون، كمستشرقين، كنقيضين وخصمين بطريقة ما، يمكن اعتبارهما أيضاً بديلين أحدهما للآخر؟ إن منطلق عمل رينان لهو بالطبع الاختلاف -أي خلافات رينان مع الدين ومع الشرق. ومنطلق عمل ماسينون هو الاختلاف أيضاً، بيد أنه أضاف الرأفة إليه -رأفته المسيحية على الإسلام التي جاءته، كما أخبره فوكو في عام 1915، "من المجابهة مع هؤلاء المسلمين الذين فرض الله علينا كلينا ثمة واجبات خاصة تجاههم"(30) ولكن بمقدار ما يقبل هذان الرجلان كلاهما ذلك الحد الفاصل بين الشرق والغرب الذي ابتني عليه الاستشراق كفرع مستنير من فروع المعرفة، فإن من الممكن اعتبارهما بديلين إحدهما للآخر، وجهين مختلفين لعملة واحدة، فكلاهما يؤديان عملهما ضمن ذلك المبنى الذي ندعوه بالدراسات الاستشراقية، والذي يسلم كلا الرجلين جدلاً أن الثقافة الأوربية/ الفرنسية قد أناطته بهما والذي أدى عملهما إلى تعزيزه. إن السؤال المطروح إن وضعنا عمل هذا قبالة عمل ذاك هو السؤال عينه الذي لا يستطيع الاستشراق طرحه فعلاً، ناهيك عن إجابته عليه- ألا وهو مسألة الشرق. فحقيقة وجوده الطاغية لكل من رينان وماسينون كانت مبعث رفض الأول له ومبعث المحاولات المتواصلة للثاني لإنقاذ الإسلام من نفسه، ولكن ولا في حالة من كلتا هاتين الحالتين كان بوسع المستشرق أن ينظر بالفعل إلى نفسه نظرة نقدية أو أن ينظر إلى ميدانه بعين النقد وبمنظور دنيوي برمته، في حين أن الأسئلة الهامة الأخرى- عن الجهد البشري، عن السلطة، عن الرجال والنساء في المجتمع- كان من الممكن طرحها والعناية بها.
وعلى الوضع الذي هو عليه استشراق ماسينون واستشراق رينان كعلم نقدي، من المفيد تطبيق الوصف الساخر الذي جاء به لوكاش: فكلاهما في "وضعية ذلك الناقد الخرافي الهندي الذي كان في مواجهة القصة القديمة القائلة أن العالم يستند على فيل. ومن ثم أطلق العنان للسؤال "النقدي" التالي: وعلى أي شيء يستند الفيل؟ وما أن يرد الجواب على أن الفيل يقف على سلحفاة حتى يعبر "النقد" علنا عن قناعته بالجواب. وإن من الواضح أنه حتى لو ثابر على إقحام أسئلة "نقدية" بمنتهى الجلاء لما تمكن إلا من تلفيق حيوان عجيب ثالث، ولما كان بوسعه أن يكتشف الحل للمسألة الحقيقية"(31).

nnn

الخاتمة: النقد الديني



إن فكرة الشرق، شأنها شأن فكرة الغرب باعتبارها قطباً مناقضاً لذلك القطب، قامت بدور اللجام لما كنت أدعوه بالنقد الدنيوي. فالاستشراق هو الخطاب المستمد من "الشرق" والمعتمد عليه. والقول عن مثل هاتين الفكرتين الكبيرتين وعن خطابيهما أن لهما شيئاً مشتركاً مع الخطاب الديني يعني القول بأن كل واحدة منهما تؤدي دور المغلاق لكل ما هو بشري من استقصاء ونقد وجهد، إذعاناً منهما لسلطان ما هو أكثر من البشري، الخارق للطبيعة، صاحب الأمر والنهي في الدنيا والآخرة. ولذلك فالدين يزودنا، كالثقافة، بنظم للسلطة وبمعايير للطقوس الدينية من تلك التي تخلص بشكل منتظم إلى فرض الخنوع أو إلى اكتساب الأشياع. وهذا الأمر بدوره يفضي إلى عواطف جماعية منظمة من ذوات النتائج المشؤومة فكرياً واجتماعياً في أغلب الأحيان. فإصدار هذه النتائج على بقائها، وإصدار غيرها من الآثار الثقافية/ الدينية، يثبتان أكثر مما ينبغي ضرورة توفر اليقين والتضامن الجماعي وحس الإنتماء إلى جماعة لدى تلك المقومات التي تبدو أنها من المقومات الأساسية للحياة البشرية. وإن هذه الأشياء لأشياء مفيدة بالطبع في بعض الأحيان. ولكن لا يزال صحيحاً أيضاً أن الشيء الذي يتيحه موقف دنيوي- وهو الإحساس بالتاريخ وبالإنتاج البشري، علاوة على شيء من الش****ة الصحية حيال مختلف أنواع الأوثان الرسمية التي تحظى بالتوقير من الثقافة والنظام -يكون مآله التقليص، إن لم يكن الحذف، من جراء الاستغاثات بذلك الشيء الذي لايمكن التفكير من خلاله وشرحه إلا بإجماع الآراء والاستغاثات بالسلطة.
وهنالك فرق كبير بين الشيء الذي وصفه فيكو في كتاب (العلم الجديد) بعالم الأمم المعقد والتعددي و "العصبوي"، وبين الشيء الذي وسمه، على نحو مناقض، بأنه ميدان التاريخ المقدس.
وإن جوهر ذلك الفرق هو أن العالم الأول يبرز إلى الوجود ويتطور في اتجاهات شتى ويتحرك صوب عدد من التأوجات، ويتداعى ليبدأ من ثم من جديد -وذلك كله بطرق يمكن تحريها لأن المؤرخين، أو العلماء الجدد، بشر وبمقدورهم أن يعرفوا التاريخ على أساس أنه من صنع الرجال والنساء. فالمعرفة تعني المبادرة لصنع شيء ما، كما قال فيكو، وما تستطيع الكائنات البشرية أن تعرفه لا يعدو أن يكون ما صنعوه، أي، ذلك الشيء التاريخي والاجتماعي والدنيوي. وأما فيما يتعلق بالتاريخ المقدس فإنه من صنع الله ولذلك لا يمكن معرفته بالفعل، على الرغم من أن فيكو كان يعلم تمام العلم أن الله، في عصر موبوء بالقساوسة كعصره، كان الواجب يقضي باحترامه وتمجيده على رؤوس الأشهاد.
وفي زماننا هذا حدث تحول عجيب جعل العالم الدنيوي -ولا سيما الجهد البشري الذي يدأب على إنتاج النصوص الأدبية- يكشف عن نفسه على أنه ليس بشرياً خالصاً وليس من الممكن إدراكه تماماً من منطلق بشري فقط، والسبب ما هو ببساطة أن هذا التحول هو نتيجة اللاعقلانية (على الرغم من وجود فيض من ذلك الشيء) ونتيجة تبسيط مفرط، إذ إن النظرة الدنيوية البحتة إلى الواقع ليست بالتأكيد ضمانة لا ضد هذا ولا ضد ذاك. والأقرب إلى المنطق هو الزيادة المفرطة في عدد الاستغاثات بالسامي على البشري، بالمجرد الغامض، بالمقدس، بالملغز والسري. فكما أسلفت القول، إن تلك التعميمات الضخمة الزائدة عن المعقول من مثل الشرق أو الإسلام أو الشيوعية أو الإرهاب تلعب دوراً متزايداً جداً في صبغ "الآخر" بالصبغة اللاهوتية المانوية المعاصرة، وأن هذا التزايد لدلالة عن مدى قوة التأثير الذي أثره الخطاب الديني على ذلك الخطاب المتعلق بالعالم التاريخي الدنيوي.
ولكن الدين عاد بطرق مختلفة، وعلى أوضح ما يكون في أعمال بعض الصناديد الدنيويين السابقين (من أمثال دانيال بيل ووليام باريت) ممن يبدو إليهم الآن أن العالم الاجتماعي/ التاريخي لرجال ونساء حقيقيين صار بأمس الحاجة للتسكين الديني. فهذا المزاج الجديد يشبه من حيث الظاهر -ولو أنه نقيضها تماماً- طوباوية إيرنست بلوش الذي كان عمله عبارة عن محاولة لمسخ الحماسة الاجتماعية الكامنة في النزعة السلفية إلى واقعة يومية. وإن ما يتبينه المرء في هذه الأيام هو الدين كنتيجة للإنهاك والعزاء والإحباط: فأشكاله في النقد، نظرياً وتطبيقياً معاً، عبارة عن تشكيلة من شلل التفكير والتردد والمفارقة المقرونة كلها بإلحاح ملحوظ على مناشدة ***** أو الطقوس الدينية أو النصوص المقدسة.
وحين ترى زمرة من النقاد النافذين الذين ينشرون الكتب الضخمة تحت عناوين من أمثال "منشأ السرية، الدستور العظيم، القبلانية والنقد، العنف والمقدس، التفكيك واللاهوت، تدرك أنك في حضرة توجه هام. إن عدد الأفكار النقدية السائدة التي جوهرها لا يعدو أن يكون نسخة عن نظرية عتيقة من البشري والظرفي ليزيد في التوكيد على هذا التوجه.
وحين القراءات الرجعية لنقاد ونظريات نقدية من الماضي -كالتداول الراهن لوالتر بنيامين لا كماركسي بل كباطني مستور، أو لنسخ عن تلك المواقف الراديكالية الناشطة كالماركسية أو الدعوة للمساواة بين الجنسين أو التحليل النفسي التي تعلي مقام الخاص والمشعوذ على مقام العام والاجتماعي -يجب النظر إليها على أنها جزء من ذلك التحول العجيب الذي يتحوله الاتجاه صوب الأديان. وما ذلك التصور الذي جاء به مارشال ماك لوهان عن فردوس تكنولوجي وما يلازمه من "عودة إلى حياة البداوة" كما يقول، إلا نذير هام لهذا الجنوح الديني المفرط والعشوائي أساساً. فهذا كله بقضه وقضيضه يعبر علناً، على ما أظن، عن تفضيل مطلق للحماية المضمونة التي توفرها منظومات الإيمان ( مهما كانت خصوصيتها) ولا يعبر عن نشاط نقدي أو وعي نقدي في الوقت نفسه.
إن تكلفة هذا الإنجراف، الذي بدأ قبل أربعة عقود خلت في (النقد الجديد) وما يعشش فيه من نزعة جمالية لا تمت بصلة للتاريخ ودينية بشكل فاضح، لتكلفة بغيضة إن عنت على البال، وهنالك كوثر من المفردات الخاصة والثابتة التي عدد عديد منها مستغلق على الفهم، وغامض عامداً متعمداً وغير منطقي بكل تقصد. وقلة من الناس ممن يستخدمون هذه المفردات اليوم قد يجدون أن بمقدورهم الموافقة مع رولان بارت على أن منظومة لغة خاصة تنزلق غالب الأحيان نحو "نوع من التبسيط والاستهزاء":
وهنالك شيء من هذا القبيل بكل تأكيد في خطاب الاستشراق، في التفكيك وفي السيميوطيقا سواء بسواء.
وإننا نجد أمامنا اليوم، بدلاً من نفاذ الإدراك والتقييم، حيزاً مكثفاً من الجهد الفكري، فضلاً عن أن تلك الموضوعات المدروسة، وقد صارت ضحية الإفراط في استبعاد العنصر البشري، باتت تستحوذ على اهتمام النقاد، في حين أن المداولات الفكرية صارت أشبه ما يكون بحوار الطرشان في غرف ضيقة. وأما ثالثة الأثافي فتكمن في ذلك التشابه المتزايد بين المحافظين الجدد السياسيين الصرحاء وبين النقاد الميالين للتدين ممن لا تتيسر، لكلا الفريقين، خصخصة الحياة الاجتماعية والخطاب الثقافي إلا من خلال الإيمان ببازار شبه ديني وديع الطابع. وهكذا فإن النقد، بعد نكوصه على عقبيه، يرفض أن يرى وشائجه مع العالم السياسي الذي يعمل في خدمته، ربما عن قصد وربما عن غير قصد. فالناقد الحديث أضحى، بعد أن كان مفكراً ذات مرة، رجل دين بأسوأ ما تعنيه هذه الكلمة.
وأما السؤال عن الكيفية التي من الممكن أن يعود بها خطاب النقاد كلهم إلى مشروع دنيوي حقيقي فهو من أخطر الأسئلة، على ما يبدو لي، التي يمكن أن يطرحها النقاد بعضهم على بعض في هذه الآونة.

nnn


__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59