عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 11-20-2013, 12:57 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

المـال اليهــودي
Jewish Money
«المال اليهودي» عبارةتتواتر في الأدبيات المُتداوَلة عن أعضاء الجماعات اليهودية، وهي عبارة تفترض وجودثروة (ضخمة) يمتلكها اليهود ويوظفونها بالطريقة التي تروق لهم. ولعل أساس العبارةهو دور اليهود كجماعة وظيفية تجارية تمتلك رأسمال توظفه في التجارة البدائية والرباويدر عليها ربحاً (كان النبيل الإقطاعي يستولي على معظمه). ونظراً لوجود هذاالرأسمال خارج العملية الإنتاجية الزراعية، فقد بدا كما لو كان مستقلاً. أما فيالمجتمعات الرأسمالية المتقدمة، فقد تَركَّز أعضاء الجماعات اليهودية في قطاعاتاقتصادية بعينها، فكان يبدو كما لو كان اليهود عنصراً مستقلاً.

ويذهب البعضإلى أن هذا المال اليهودي هو سر قوة اليهود، فهم يوظفونه في شراء النفوذ وفي ممارسةالسلطة وفي تخريب الضمائر وإفساد العباد. وهذه أيضاً تهمة لها جذورها، فأعضاءالجماعات اليهودية كانوا يشترون المواثيق والحماية والمزايا من الملك أو الأمير،كما أنهم تركزوا في كثير من القطاعات المشينة في المجتمعات الحديثة (البغاء - المجلات الإباحية).

وكما هو واضح، فإن ثمة أساساً موضوعياً أو مادياً لكلالتهم، ومع ذلك يظل الواقع أكثر تركيباً من التهم الاختزالية البسيطة ومن الواقعالمادي المباشر. فالمال اليهودي في المجتمع الإقطاعي كان بالفعل في قبضة أعضاءالجماعات اليهودية، ولكنهم هم أنفسهم كانوا في قبضة الأمير الإقطاعي، وكانتالمواثيق الممنوحة لهم تتحدث عن تبعيتهم للأمير تبعية المملوك للمالك.وكانت بعضالمواثيق تشير إلى هذا بشكل مجازي، بينما كان البعض الآخر يشير إليه بشكل حرفي.

والمال اليهودي في العصر الحديث لا يختلف كثيراً عن المال اليهودي فيالعصور الوسطى في الغرب. فرأس المال اليهودي يتحرك حسب حركة رأس المال المحلي الذييتحرك بدوره حسب حركة رأس المال العالمي. ولعله بعد عمليات التدويل المختلفة التيخاضها العالم، وظهور النظام العالمي الجديد والشركات متعددة الجنسيات، زادت تبعيةالمال اليهودي وتناقصت مقدرة الرأسمالي من أعضاء الجماعات اليهودية على التحكم فيرأس ماله.

وكل هذا لا ينفي ما يلي:

1
ـ أن هناك رقعة من الحريةللرأسمال اليهودي يتحرك فيها، خصوصاً إذا تماثلت الظروف.

2
ـ أن كثيراً منالقرارات السياسية التي اتخذها غير اليهود كانت تَصدُر عن الإيمان بوجود هذا المالاليهودي، ومن ثم أخذه صانع القرار في الحسبان وهو يتخذ قراره، أي أن المال اليهودي (في هذه الحالة) عنصر مؤثر تأثيراً لا يتناسب بتاتاً مع قوته الفعلية.


العجز اليهودي (بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة(
Jewish Powerlessness
«العجز بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة» عبارة ظهرت مؤخراً في الأدبيات الصهيونية وغيرها، وهي عبارة تحاول أن تفسر المسألةاليهودية على أنها تتلخص في افتقار اليهود إلى السيادة القومية وعدم مشاركتهم فيصنع القرار. وتعود هذه الحالة (حسب التصور الصهيوني) إلى عام 70م عندما قام تيتوسبهدم الهيكل رمز السيادة القومية وأصبح اليهود جماعات مشتتة ليست لها سيادة قوميةمستقلة، يوجد أعضاؤها خارج نطاق مؤسسات صنع القرار بعيداً عن أية سلطة، وبالتاليأصبحوا غير متحكمين في مصيرهم. ويستند هذا النموذج التفسيري إلى عدة افتراضاتاختزالية من بينها تَصوُّر أن العبرانيين القدامى والعبرانيين اليهود، أي اليهودحتى عام 70م، كانوا يمارسون سيادة قومية كاملة. وهذا أمر مشكوك فيه. فلقد كانالعبرانيون ـ حسب ما وصلنا من معلومات - أقناناً أو عبيداً أو قبائل رحلاً. وبعدالتسلل العبراني في كنعان، ظل العبرانيون جيوباً متفرقة لا تمتلك كثيراً من السيادةالقومية. والاستثناء الوحيد من هذه الصورة العامة هو حكم كلٍّ من داود وسليمان (المملكة العبرانية المتحدة) الذي لم يدم أكثر من أربعين عاماً بسبب الغياب المؤقتللقوى العظمى في الشرق الأدنى القديم. ثم ظهرت الدويلتان العبرانيتان اللتان كانتاتتبعان في سياستهما إما آشور وبابل أو مصر أو آرام دمشق. وقد دام حكم الحشمونيينفترة قصيرة لا تزيد على مائة عام، بدأت بتوقيع معاهدة مع روما (القوة العظـمىالصـاعـدة) وانتهـت بتَدخُّل بومـبي في تعيين الملـك الحشموني.

ويفترض هذاالنموذج التفسيري أيضاً وحدة المصير اليهودي ووحدة أعضاء الجماعات. وهذا أمر يتناقضتماماً مع الحقائق التاريخية، فقد كان مصير كل جماعة يهودية يتحدد بآليات وحركياتالتشكيل الحضاري والسياسي الذي تواجدت داخله.

ويُنكر هذا النموذج التفسيريأن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا في كثير من الفترات، شأنهم شأن أعضاء الجماعاتالدينية والإثنية الأخرى، يشاركون في السلطة من خلال المؤسسات التقليدية للحكم. فالمجتمعات التقليدية كان لها نظامها الخاص في تقسيم السلطة بحيث تسيطر السلطةالحاكمة على الجيش والسياسة الدولية. أما الشئون الأخرى، وضمنها الأمن الداخلي،فكان تسييرها يتم عن طريق مؤسسات الإدارة الذاتية.

ثم يفترض هذا النموذجالتفسيري وجود إدارة وسيادة يهودية مستقلة، وهو افتراض خاطئ تماماً. ففي العصرالحديث، يشارك أعضاء الجماعات، منفردين أو مجتمعين، في السلطة وفي صنع القرار منخلال مؤسسات الدولة الحديثة (البرلمانات والأحزاب السياسية). فعلى سبيل المثال،يُعدُّ تعيين هنري كيسنجر وزيراً للخارجية الأمريكية، وهو من أهم المناصب السياسيةفي العصر الحديث، تعبيراً عن هذا الشكل من أشكال المشاركة في السلطة. وبالمثل فإناللوبي الصهيوني شكل آخر لهذه المشاركة؛ حيث يشكل بعض أعضاء الجماعة اليهودية قوةضغط داخل الكونجرس الأمريكي تقوم بممارسة الضغط لصالح الدولة الصهيونية. وهذه هيإحدى الآليات الأساسية للنظام السياسي الديموقراطي في الغرب.

وسيجد الدارسالمدقق لهذا النموذج التفسيري أن المفكرين الصهاينة، ومعظمهم من أصول إشكنازية شرقأوربية، حين يتحدثون عن العجز بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة، إنمايفكرون في تجربة أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا ابتداءً من العصور الوسطى حتىبداية القرن الحالي. ولذا، فإن المقولة تحمل شيئاً من الصحة إن تَحدَّد مجالهاالدلالي على هذا النحو.

ومن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية في العصورالوسطى في الغرب، كانوا تجاراً ومرابين وأقنان بلاط وأرندا ويهود بلاط، وكلها أشكالمختلفة من أنماط الجماعة الوظيفية، وكانوا كذلك قريبين دائماً من الحاكم ملتصقينبه، كما كانوا يشكلون أدواته الطيعة في عملية الاستغلال وامتصاص فائض القيمة منالجماهير. ولكنهم، مع هذا، لم يشاركوا في صنع القرار، فقد كانوا منبتي الصلةبالجماهير وتعوزهم القوة العسكرية، وهذا ما جعلهم في حالة عجز واعتماد كامل علىالحاكم الذي كانت ثقته بهم تتزايد لأنهم لا يشكلون أية خطورة عليه بسبب عجزهم عنالاستيلاء على السلطة أو لعدم وجود أساس من القوة يؤهلهم للمطالبة بنصيب فيها.

وقد طرحت الصهيونية نفسها على أنها الحركة التي ستحل هذه الإشكالية وتضعنهاية لعجز اليهود وعدم مشاركتهم في السلطة عن طريق تأسيس دولة يهودية مستقلة ذاتسيادة. وذلك على اعتبار أنه، مهما تكن مشاركة أعضاء الجماعات في صنع القرار، فإنهذا القرار يظل في النهاية غير يهودي، ويظل اليهودي بالتالي مهدداً في أية لحظةبسحب البساط من تحت قدميه. وفي هذا المقام، يُشار دائماً إلى ألمانيا النازية حيثكان كثير من يهود ألمانيا يشغلون، حتى ظهور النازية (عام 1933)، مناصب حكوميةوسياسية قيادية. وينسى الصهاينة أن النظام السياسي الألماني لم يَحرم أعضاءالجماعات اليهودية وحدهم من المشاركة في السلطة، فقد حَرَم قطاعات كبيرة من الشعبالألماني والشعوب الأخرى التي سيطرت عليها القوات الألمانية من أية سلطة أو إرادةمستقلة.

والأهم من ذلك كله أن الاستعمار الصهيوني كان استعماراً عميلاً منذبداية الاستيطان، كما أن شرعيته لم تكن تستند إلى قوة اليهود أو إلى حركة جماهيريةوإنما استندت إلى وعد أصدرته القوة الإمبراطورية الصاعدة في الشرق وإلى الضماناتالعسكرية التي قدَّمتها، أي أن النمط الذي ساد أوربا حتى القرن التاسع عشر، داخلالتشكيل السياسي الغربي، عاد وأكد نفسه بحيث أصبح المستوطنون الصهاينة عنصراًقريباً من القوة الإمبريالية الحاكمة لصيقاً بها، ولكن القرار الخاص بالسياسةالاستعمارية الدولية ظل من اختصاص الحاكم الإمبريالي، أي أن الصهاينة أسسوا فينهاية الأمر دولة وظيفية ليست لها إرادة مسـتقلة؛ بل وعاجـزة عن البقـاء والحركةبدون الدعـم الإمبريالي.

لكن الدولة، بعد إنشائها، تمتعت بشيء من الاستقلالالنسبي نتيجة تَصارُع القوى الإمبريالية فيما بينها على مناطق النفوذ في الشرقالأوسط. ومع صعود قوة الولايات المتحدة وتزايد اعتماد المستوطن الصهيوني على الدعمالأمريكي، تناقص الاستقلال اليهودي وتضاءل تحكم الإسرائيليين في مصيرهم، وأصبحتالمؤسسة الحاكمة الإسرائيلية تتخذ قراراتها وعيونها على الممول الموجود في واشنطن. ومن المتوقع أن يزداد هذا الاتجاه مع تزايد الرفض العربي للمُستوطَن الصهيوني.

وقد وجدت إشكالية العجز طريقها إلى التفكير الديني اليهودي، فيذهب ريتشاردروبنشتاين إلى أن اليهودية الحاخامية قد ولَّدت لدى اليهود استعداداً كامناًللاستسلام والخنوع والخضوع والعجز. ولا يمكن تفسير تعاون المجالس اليهودية في أوربامع القوات النازية واشتراكها في تسليم اليهود إلى النازي إلا بالتراث الحاخامي الذييجعل من العجز والسلبية فضيلة. أما إرفنج جرينبرج، فقد ساهم في تطوير ما يُسمَّى «لاهوت البقاء» الذي يجعل الحصول على السيادة هدف التاريخ اليهودي الزمنيوالمقدَّس، ويجعل دستـور إسـرائيل كتاب إسرائيل المقدَّس، ويجعل دولة إسرائيلالتجسد الحقيقي لهدف التاريخ اليهودي (تيلوس).

وتجدر ملاحظة أن مصطلح «عجزاليهود» يُستخدَم في الكتابات الدينية، وخصوصاً الأرثوذكسية، للإشارة إلى أن اليهودشعب مختار ذو صلة خاصة بالإله، وأن هذه العلاقة الخاصة تجعله يقف خارج التاريخليشهد على الأمم، ولذا فإنه لابد أن يظل خارج نطاق السلطة والسيادة. والمصطلح، فيهذا السياق، لا يحمل أية تضمينات قدحية، بل العكس هو الصحيح إذ أن العجز هنا يصبحعلامة من علامات الاختيار.

البابالثالث: إشكالية العبقرية والجريمة اليهودية


العـــبقرية اليهوديـة
The Jewish Genius
كلمة «عبقرية» تعني مجموعة من السمات الخاصة لا تفترض بالضرورة تَميُّزاً أو علواً مثلما نقول «عبقرية المكان» حيث لكل مكان عبقريته الخاصة، أو «عبقرية اللغة الإنجليزية» حيث لكل لغة عبقريتها الخاصة. وحينما تُستخدَم العبارة بهذا المعنى في الكتابات الصهيونية (أو غيرها) كأن يُقال «العبقرية اليهودية»، فهي تشير عادةً إلى «الخصوصية اليهودية» (انظر: «الخصوصية اليهودية»). ولكن هذا الاستعمال نادر، والاستعمال الشائع هو أن تشير كلمة «عبقرية» إلى درجة من درجات التَميُّز إلى جانب الخصوصية. وعبارة «العبقرية اليهودية» تفترض وجود عبقرية يهودية مستقلة، وأن العباقرة اليهود يتمتعون باستقلال عما حولهم، وأن وجودهم مؤشر على تَميُّز اليهود ككل، ولذا نجد حديثاً مستفيضاً عن فضل العباقرة اليهود على الحضارة الإنسانية وعن زيادة عددهم بالنسبة للعباقرة من الشعوب والأقليات الأخرى.

لكن الحديث عن «العبقرية اليهودية» لا يختلف بنيوياً، في واقع الأمر، عن حديث المعادين لليهود عن «الجريمة اليهودية» أو عن «عبقرية اليهود المتأصلة في ارتكاب الموبقات والسرقة والفساد». فالحديث عن العبقرية اليهودية، تماماً مثل الحديث عن الجريمة اليهودية، يَصدُر عن تَصوُّر أن اليهودي «يهودي» وحسب أو يهودي بالدرجة الأولى ثم أمريكي أو روسي بالدرجة الثانية أو الثالثة، وأن ما يحدد سلوكه (عبقريته في الخير والشر) هو البُعد اليهودي في وجدانه ورؤيته. كما يتفق الصهاينة والمعادون لليهود على اختزال اليهودي وتجريده من أي سياق اجتماعي أو تاريخي أو إنساني وعلى وضعه على هامش التاريخ أو خارجه، حيث يقف ليساهم فيه بعبقرية فذة، أو يحاول تخريبه بكل ما أوتي من قوة ودهاء وحيلة وعبقرية إجرامية.

ولو نظرنا إلى العباقرة اليهود، بعد أن نضعهم في سياقهم التاريخي المتعيِّن، سنكتشف على الفور أن مقولة «العبقرية اليهودية» لا تملك مقدرة تفسيرية عالية. وسيظهر قصورها التفسيري حينما نسأل عن تلك السمات "اليهودية المشتركة" بين عباقرة مثل فيلون (الفيلسوف الذي عاش في العصر الهيليني)، وشعراء العرب اليهود (في الجاهليـة)، وموسى بن ميمون (المفكر الديني اليهودي الذي عاش في العالم الإسلامي في القرن الحادي عشر)، وفرويد (المفكر النمساوي اليهودي الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر)، وشاجال (الفنان التشكيلي الذي عاش معظم حياته في النصف الأول من القرن العشرين)، وبرنارد مالامود (الروائي الأمريكي الذي عاش في النصف الثاني من القرن العشـرين). والإجابة الوحيـدة هي أن مثل هذه السمـات المشتركة غير موجودة. وإن اكتشف أحد عناصر يهودية مشتركة بين كل هؤلاء العباقرة، فإن تصنيفهم على أنهم يهود بالدرجة الأولى لا يفيد كثيراً في فَهْم فكرهم أو طبيعة مساهمتهم في التراث الإنساني. فيهوديتهم المشتركة ليست ذات مقدرة تفسيرية أو تصنيفية عالية، ولابد لنا أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كل واحد منهم حتى يتسنى لنا الإحاطة بها. فموسى بن ميمون كاتب عربي أندلسي كان يؤمن باليهودية وتفاعُل مع التراث العربي الإسلامي. ومن خلال هذا التفاعُل نضجت عبقريته العربية، ولم تكن اليهودية سوى أحد العناصر في تكوين هذه العبقرية (وحتى هذه اليهودية كانت قد اصطبغت بصبغة إسلامية). وقصص برنارد مالامود تنتمي إلى التراث الأدبي الأمريكي لأن كاتب هذه القصص تأثر بتقاليد هذا الأدب وأتقن اللغة الإنجليزية الأمريكية وكتب روايات أمريكية تعالج موضوعات أمريكية يهودية. وحين صرح شاجال ذات مرة لمجلة تايم بأنه غير مهتم باليهودية، قامت الدنيا ولم تَقعُد، وأرسل كثير من القراء برسائل احتجاج أوضحوا فيها تأثُّـر شاجال باليهودية الحسيدية. وقد يكون هذا أمراً صحيحاً، ولكن شاجال يظل نتاج الحركات الفنية في أوربا في القرن العشرين، وبخاصة في روسيا وفرنسا. وقد تكون لبعض لوحاته نكهة حسيدية، خصوصاً أنها تعالج موضوعات يهودية مثل التوراة والحاخام، ولكنها تظل مع هذا لوحات رسمها فنان روسي فرنسي متأثر وبعمق بالتراث المسيحي!

وإذا ما تركنا مجال الفنون والإنسانيات، يصبح الحديث عن العبقرية اليهودية عبثاً وهراء لا طائل من ورائه. فبأي معنى يمكننا أن نقول إن نظرية النسبية قد تَوصَّل إليها أينشتاين من خلال عبقريته اليهودية، وكأن أينشتاين كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشـافات باهـرة دون جهود من سبقه من علماء مسيحيين وبوذيين؟ وهل كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشافات دون وجوده داخل الحضارة الغربية الحديثة؟ وإلا فبماذا نفسر عدم ظهور علماء طبيعة متفوقين تَفوُّق أينشتاين بين يهود الفلاشاه الإثيوبيين؟

ويُلاحَظ أن نسبة المتعلمين والمخترعين بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي مرتفعة. ولكن هذا أمر طبيعي وينطبق على كل أعضاء الأقليات في أي مكان حينما تتاح أمامهم الفرصة. لكن أعضاء الأقلية يخضعون، مع ذلك، في معظم الأحيان إن لم يكن كلها، لدرجة تَقدُّم وتَخلُّف المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه، فإن تَقدَّم تَقدَّموا وإن تخلف صاروا متخلفين. ولذا لم يكن هناك عباقرة يهود بين العرب إبَّان فترات الانحلال في الحضارة العربية حين أُغْلقَت فيها الحلقات الفقهية والمدارس التلمودية العليا في العراق بسبب انتكاس الحضارة العربية، بينما ازدهر الفكر العربي اليهودي في الأندلس بسبب ازدهارها.

وحتى لو رصـدنا العبقرية اليهودية بشكل مطلق، كما يفعل الصهاينة، فإننا سنكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية، لم يلعبوا دوراً كبيراً في خلق الحضارة الإنسانية. فحينما ظهر العبرانيون على مسرح التاريخ منذ عام 1200 ق.م. رعاةً رُحَّلاً، كانت الإمبراطورية الفرعونية في مصر قد شيدت مئات المعابد والأهرامات والسدود، وكان الفن المعماري وعلوم الفلك المصريان قد وصلا إلى قمم شامخة. وحينما تأسست المملكة العبرانية المُوحَّدة على يدي داود وسليمان، لم تكن هذه المملكة سوى مملكة صغيرة ازدهرت في غياب القوى الإمبراطورية العظمى في الشرق الأدنى القديم، واعتمدت حضارياً على الدول والأقوام المجاورة اعتماداً كاملاً. أما في مجال الأدب والفن والفكر، فلا توجد أية مسـاهمة حقـيقية من جـانب العبرانيين في تراث العالم القـديم، ولا نسمع عن عباقرة يهود في فن الهندسة المعمارية (على سبيل المثال). ولا يأتي ذكر اليهود في الكتابات اليونانية أو الرومانية إلا بوصفهم شحاذين ومصدر ضيق لكُتَّاب مثل شيشرون. وإذا نظرنا إلى الحضارة العربية إبَّان فترة نهضتها، فإننا نجد أن دور اليهود كان مقصوراً بالدرجة الأولى على الترجمة والنقل من اللغات الأجنبية. وقد دفعهم اضطلاعهم بوظيفة الجماعة الوظيفية الوسيطة التي يعمل أعضاؤها بالتجارة الدولية في العالم القديم إلى معرفة العديد من اللغات، كما جعلهم ناقلين لحضارات الآخرين. ولم يكن يوجد شاعر كبير أو مفكر فلسفي عربي مشهور يعتنق اليهودية، فكنت ترى بينهم الأطباء والصيادلة والتجار حيث ظلوا مرتبطين بالإنتاج اليومي المادي، ولكن لم يُوجَد بينهم الفنانون أو المفكرون. وبعد أن انتقل مركز الحضارة إلى الغرب، ظل الأمر على ما كان عليه. ففي شرق أوربا، التي كانت تضم غالبية يهود العالم (يهود اليديشية)، ظلت الجماعات اليهودية غارقة حتى أذنيها في التأملات القبَّالية. وكانت الحـياة العقلية في الجيتو منفصـلة عن العـالم الخارجي، هذا في الوقت الذي كانت أوربا تعيش عصر نهضتها. ولذا لا نجد في أدب وحضارة العصور الوسطى أو عصر النهضة مفكراً أو رساماً أو أديباً يهودياً واحداً شهيراً. بل إن المفكرين اليهود الذين ظهروا خلال هذه الفترات الطويلة، مثل الحاخام عقيبا أو راشي أو موسى بن ميمون، كانوا مهتمين بأمور دينية يهودية ذات أهمية إنسانية محدودة. كما نعرف أنهم كانوا بلا ثقَل يُذكَر داخل مجتمعاتهم، فمـوسى بن ميمون لم يكـن معـروفاً باعتباره مفكراً دينياً، وإنما باعتباره طبيباً ومؤلف كتب في الطب وحسب. وما من شك في أن اقتصار نشاط اليهود على نشاطات إنسانية معيَّنة دون غيرها أمر طبيعي للغاية من أقلية تلعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة المنعزلة اقتصادياً ووجدانياً بسبب وظيفتها.

ونحن لا نسمع عن العباقرة اليهود إلا مع بدايات ظهور الرأسمالية والعلمانية. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن إسبينوزا، أول فيلسوف يهودي غربي في العصر الحديث، ظهر في هولندا مهد الرأسمالية الحديثة. ومما له دلالة بالمثل ظهور إسبينوزا من بين اليهود السفارد المتمتعين بمستوى حضاري مرتفع بسبب احتكاكهم بالحضارة الإسلامية، على عكس اليهود الإشكناز الذين تَدنَّى وضْعُهم الحضاري داخل الحضارة المسيحية. وقد كان إسبينوزا أيضاً من أوائل المفكرين العلمانيين الذين طرحوا انتماءهم اليهودي جانباً، فلم يكن إبداعه وبروزه نتيجة انتمائه اليهودي، وإنما تم هذا الإبداع وذلك البروز رغماً عن هذا الانتماء وبسبب رفضه (وذلك مع عدم إنكار أن التراث اليهودي القبَّالي لعب دوراً مهماً في تحديد معالم فكره أو في تأكيد الواحدية المادية الكونية والاتساق الهندسي عنده واللذين يشكلان جوهر نسقه الفلسفي).

العباقــرة مـن أعضاء الجماعـات اليهوديـة
Geniuses from the Jewish Communities
ظل العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية يساهمون في بناء الحضارة الأوربية باعتبارهم أوربيين علمانيين أولاً وأخيراً، أي أن يهودية العبقري لم تكن العنصر الأساسي في إسهامه. وقد زادت هذه المساهمة بازدياد انتشار القيم الليبرالية ثم الثورية في الغرب والشـرق، إذ أن هذه القيم فتحـت المجال أمام أعضاء الجماعات اليهودية.

ونحن لا نُنكر أثر البُعد اليهودي في تكوين العبقري اليهودي، فأثر القبَّالاه اللوريانية واضح تماماً على تفكير إسبينوزا وفرويد وجاك دريدا فيلسوف التفكيكية. كما نرى أن للمدرسة التفكيكية (في النقد والفلسفة) علاقة قوية بمدارس التفسير الدينية اليهودية، وأن اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تحوي داخلها عناصر كثيرة متناقضة (بعضها عبثي وبعضها عدمي أو غنوصي) تتيح للعبقري اليهودي استعداداً كامناً (أكثر من غيره) لاكتشاف مثل هذه التيارات في المجتمع والتعبير عنها بطريقة مباشرة. كما أن البُعد الحلولي الكموني القوي في اليهودية ولَّد استعداداً كامناً قوياً لدى أعضاء الجماعات اليهودية لتَقبُّل المنظومة العلمانية (وهي منظومة حلولية كمونية). ولكن يجب أن نشير أيضاً إلى أن البُعد اليهودي ذاته هو نتاج تفاعل اليهود مع ما حولهم من حضارات، فالغنوصية هي حركة سادت الشرق الأدنى القديم وتأثرت بها اليهودية. كما أن العبقري اليهودي قد يكون لديه استعداد كامن لاكتشاف شيء ما، لكن هذا الشيء سيظل جزءاً من تشكيل حضاري غير يهودي، بمعنى أن الحركيات النهائية هي حركيات الحضارة التي يعيش فيها اليهودي. فمهما كان علم فرويد مثلاً بتراث القبَّالاه، لا يمكن تَخيُّل أن بوسعه التوصل إلى نظرياته وهو في اليمن (التي يعرف حاخاماتها القبَّالاه اللوريانية بطريقة تفوق فرويد وحاخامات أوربا في عصره). ففرويد هو نتاج مجتمع فيينا في أواخر القرن التاسـع عشـر بكل ما كان يحويـه من إبـداع وانحـلال وتركيب وتَخثُّر.

ويُلاحَظ أن بعض المؤلفين والرسامين اليهود في الحضارة الغربية بدأوا، منذ نهاية القرن التاسع عشر، في تناول مضامين يهودية في أدبهم وفنهم. ولكن مثل هؤلاء لا يختلفون البتة عن المؤلفين غير اليهود الذين يتناولون مضامين يهودية، ذلك أن طريقة التناول ـ بكل مزاياها وعيوبها ـ تظل جزءاً من التشكيل الحضاري الغربي. إن سول بيلو وفيليب روث ـ وكلاهما كاتب أمريكي يهودي ـ يتناولان شخصيات أمريكية يهودية، إلا أن أدبهما لا يمكن أن يُصنَّف أدباً يهودياً، وعبقريتهما لا تُصنَّف كعبقرية يهودية إذ يظل هذا الأدب أدباً أمريكياً مكتوباً بالإنجليزية، ينتمي إلى التراث الأدبي الأمريكي ولا يمكن فهمه خارج هذا التراث، وتظل عبقريتهما نتاج تفاعلهما مع محيطهما الحضاري. وهما في هذا لا يختلفان عن جيمس جويس في رواية يوليسيس حينما جعل أحد أبطال روايته يهودياً، ومع هذا لم يصنفها أحد باعتبارها من عيون الأدب اليهودي، شأنها في هذا شأن رائعة شكسبير تاجر البندقية .

وفيما يتصل بالعبقريات التي تنتجها إسرائيل، فإن الأمر يتوقف على جنسية العبقري، فإن كان هذا العبقري إسرائيلياً فهو تعبير عن العبقرية الإسرائيلية، أما إذا كان من أصل روسي أو ألماني فهو عبقري روسي أو ألماني، أي أن العبقرية اليهودية تظل مقولة مجردة لا وجود لها إلا بين صفحات الكتب الصهيونية أو المعادية لليهود. وبدلاً من ذلك، يتعيَّن علىنا أن نتحدث عن «عباقرة يؤمنون بالدين اليهودي»، أو عن «عباقرة ذوي بعد إثني يهودي»، وينتمون إلى الحضارات الإنسانية المختلفة في مختلف الأماكن والأزمان.

ومن الأمور الجديرة بالدراسة نسبة العباقرة بين الإسرائيليين ومدى اختلافها عن مثيلتها بين الدول التي حققت معدلات التحديث والتصنيع والتقدم التكنولوجي والعلمي نفسها. وكل المؤشرات تدل على أنها غير مختلفة على الإطلاق، وإن كان الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة.

بـــــروز اليهـــــــود وتَمــيُّـزهـــم
Jewish Eminence and Distinctiveness
جاء في المعاجم العربية «تميَّز الشيء» بمعنى «بدا فضله وانفصل عن غيره»، و«برز بروزاً» بمعنى «فاق الآخرين في فضل أو علم»، و«برَّز الشيء» معناها «أظهره وبيَّنه». ومن الموضوعات الأساسية التي تتواتر في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود، موضوع «بروز أعضاء الجماعات اليهودية وتَميُّزهم» في كثير من مجالات النشاط والمعرفة الإنسانيتين بنسبة تفوق بمراحل نسبتهم إلى عدد السكان في المجتمعات التي يعيشون في كنفها. ودارس تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية سيجد قرائن على كلٍّ من البروز الإيجابي والتميز في الخير والإبداع، والبروز المشين والتميز في الشر والهدم والإجرام. أما البروز الإيجابي، فعليه من الأدلة الكثير، مثل: كثرة عدد العباقرة والمهنيين بين أعضاء الجماعات اليهودية، ونسبة التعليم المرتفعة بينهم، وارتفاع دخولهم. أما البروز المشين، فهناك أيضاً مؤشرات كثيرة عليه، مثل: اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بالربا عبر العصور الوسطى في الغرب بل واحتكار هذه المهنة في بعض المناطق، واشتغالهم بتجارة الرقيق في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ثم اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر، بتقطير الخمور والاتجار فيها، وتهريب البضائع والرقيق الأبيض، وبكثير من الأعمال الطفيلية غير المنتجة.

ويُلاحَظ أن أي مؤشر على بروزهم الإيجابي قد يُعدُّ مؤشراً على بروزهم المشين، فالثراء (وهو عادةً مؤشر على حركية الإنسان وذكائه) يُعتبَر من منظور آخر دليلاً على عدم الانتماء وعلى الرغبة في الثروة وفي مراكمتها دون أية تحفظات أخلاقية. كما أن التميُّز الوظيفي لليهود هو أيضاً من علامات البروز الإيجابي والمشين، بل إن الجيتو ذاته كان علامة من علامات البروز، إذ كان اليهود يسعون للحصول على إذن بإقامته والإقامة فيه ليتمتعوا داخله بالمزايا الممنوحة للجماعة اليهودية والمقصورة عليهم وليعزلهم عن بقية السكان الأمر الذي يُيسِّر لهم إدارة مؤسساتهم الدينية والقضائية والتربوية الخاصة. ولكن الجيتو أصبح بالتدريج هو المكان الذي يتعيَّن عليهم البقاء فيه، وهكذا تحوَّل من ميزة إلى قيد.

ويذهب كثير من الدارسين إلى أن بروز بعض أعضاء الجماعات اليهودية من أهم الأسباب التي ت*** عليهم عداء أعضاء الأغلبية من غير اليهود؛ وهو تعميم متعسف. فقد كان البروز يؤدي أحياناً إلى مثل هذه النتائج، كما حدث في ألمانيا النازية. ولكن، في إسبانيا الإسلامية أو أمريكا العلمانية، لم يؤد البروز والتميز إلى أي عنف أو تمييز ضد أعضاء الجماعة اليهودية. أما في بولندا، خصوصاً في أوكرانيا التي ضمت من منظور التطورات التاريخية اللاحقة أهم الجماعات اليهودية عبر التاريخ، فإن بروزهم قد أدَّى دون شك إلى استجلاب السخط عليهم لا بسبب البروز في حد ذاته وإنما بسبب طبيعته، إذ أن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا قريبين من الطبقة الحاكمة عملاء لها، في إطار الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا، وبذا أصبحوا عنصراً استيطانياً تجارياً يمثل الأرستقراطية البولندية في وسط فلاحي، وعنصراً يهودياً ينوب عن عنصر كاثوليكي في وسط أرثوذكسي أوكراني، يتحدثون اليديشية أو البولندية في وسط يتحدث الأوكرانية، أثرياء في وسط من الفقراء والمعدمين. وقد تَحوَّل أعضاء الجماعة اليهودية إلى أداة يمسك بها النبلاء في وارسو يعتصرون بها الفلاحين. وحينما يكون البروز على المستويات الطبقية والدينية والثقافية، فإن الانفجار الشعبي يكون ساحقاً ماحقاً، وهذا ما حدث مع انتفاضة شميلنكي.

وقد يتشابك التَميُّز المشين مع التَميُّز الإيجابي، فمع نهاية القرن التاسع عشر كان يهود البلاد الغربية قد حققوا صعوداً طبقياً ومكانة اجتماعيـة عالية وهو ما يعني تَميُّزاً يهودياً إيجابياً. ثم وصل يهود اليديشـية، وكانوا متخلفين فقراء تتفشى بينهم الأمراض الاجتماعية المختلفة كما تَفشَّى التعصب الديني، وكان هذا يعني تَميُّزاً يهودياً مشيناً، وحدث تَشابُك بين الجماعتين أدَّى إلى إحساس المجموعة الأولى بالحرج ثم إلى فَزَعها. ومن هنا فقد كان من أهداف الصهيونية أن تُبقي ليهود الغرب تميزهم الإيجابي، وأن تُريحهم من يهود اليديشية بتَميُّزهم المشين عن طريق توطينهم في فلسطين.

ويحاول الصهاينة تفسير بروز وتميُّز بعض أعضاء الجماعات اليهودية على أساس طبيعة اليهود والخصوصية اليهودية والجوهر اليهودي والعبقرية اليهودية، وهو منطق خطر للغاية لأن البروز والتميُّز اليهودي الإيجابي إن فُسِّر على أساس الطبيعة اليهودية، فلابد من تفسير البروز والتميز المشين على الأساس نفسه أيضاً. وهذا ما لا يحجم عنه أعداء اليهود بل وبعض الصهاينة (خصوصاً العماليين).

ويُلاحَظ أن اليهودي الذي يحقق اندماجاً في مجتمعه ويسلك سلوك الآخرين، لا يرصد أحد سلوكه باعتباره سلوكاً عادياً. ولكن حينما ينخرط بعض أعضاء الجماعات اليهودية في أنشطة مشينة أو متطرفة كأن يصبحوا أعضاء في جماعات ثورية أو ماسونية أو يحققوا قدراً عالياً من الثراء، فإن أعداء اليهود يتجاهلون اليهود العاديين والفقراء ويتناسون العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية ويرصدون بعناية فائقة الأنشطة المشينة وحدها. وحينما يحقق البعض الآخر من أعضاء الجماعات اليهودية بروزاً إيجابياً، فإن الصهاينة يؤكدون ذلك ويستبعدون كلاً من اليهود العاديين وهؤلاء الذين حققوا بروزاً مشيناً. وربما إذا أُخضعت الظاهرة للدراسة الإحصائية المتأنية لاكتشفنا أن بروز اليهود في الخير والشر إنما هو خاضع لآليات اجتماعية ليسوا مسئولين عنها، وأن نسبة المتطرفين بينهم، في الخير والشر، قد لا تختلف كثيراً عن النسبة السائدة في المجتمع، أو عن النسبة السائدة بين أعضاء الأقليات على وجه العموم في أي مجتمع.

ومما يُظهر عدد اليهود المتميِّزين أكثر من حقيقته أن دارسي الجماعات اليهودية ينظرون إليهم كما لو كانوا يُشكِّـلون كلاًّ واحداً. ومن هذا المنظـور، فإن يهود اليمن والولايات المتحدة والصين وإثيوبيا وجنوب أفريقيا وجنوب أمريكا، كلهم يهود في نهاية الأمر. ومن هنا، فإن البحث عن البارزين فيهم داخل أية جماعة يتم دون أية دراسة إحصائية تبيِّن العلاقة بين نسبة هؤلاء البارزين إلى المعدل السائد في كل مجتمع. كما يتجاهل الدارسون أن تَركُّز اليهود في قطاعات وعلوم بعينها يؤدي إلى كثرة البارزين فيها (مهنة الطب والعلوم الطبيعة وعالم التجارة والموسيقى وعلم الاجتماع). ولكن هذا يعني أيضاً غيابهم عن قطاعات وعلـوم أخرى كثيرة أو ندرتهم فيها. كما أنهم يتجاهلون اللحظة التاريخية، فبروز اليهود في مجتمع ما في لحظة تاريخية معينة لا يعني بالضرورة بروزهم الدائم في كل زمان ومكان.

ويتبنَّى أعداء اليهود منهجاً مماثلاً، فهم يركزون على اليهود الذين حققوا بروزاً مشيناً في بعض المجتمعات، وكأن جميع اليهود يُكوِّنون كلاًّ واحداً ولا يقارنون نسبة اليهود الذين حققوا مثل هذا البروز قياساً إلى المعدل الإحصائي السائد في المجتمع، كما أنهم يهملون أخيراً اليهود الذين حققوا بروزاً إيجابياً. ونحن نذهب إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية يحققون البروز والتميز داخل الحضارة التي يعيشون في كنفها وبسبب عناصر موجودة داخلها لا على الرغم منها. وتعود معدلات إبداعهم (وإجرامهم) لا إلى التراث اليهودي وإنما إلى العناصر الحضارية والاجتماعية التي تكوِّن محيطهم الحضاري والاجتماعي.
ويمكننا أن نحاول رصد أسباب بروز وتَميُّز أعضاء الجماعات اليهودية، مقسمين الأسباب إلى قسمين: أسباب عامة تسري على أعضاء معظم الأقليات في العالم، وأخرى مقصورة على اليهود في الحضارة الغربية الحديثة. ولنبدأ بالأسباب العامة:

1 ـ يتسم أعضاء الأقليات في جميع المجتمعات بشيء من البروز نظراً لاختلافهم في بعض النواحي أو في كثير منها عن أعضاء المجتمع.

2 ـ يتميَّز أعضاء الأقليات في المجتمعات التقليدية، بل وأحياناً في المجتمعات الحديثة، تَميُّزاً وظيفياً إذ يضطلعون بوظائف دون غيرها.

3 ـ يسكن أعضاء الأقليات في المجتمعات التقليدية في أماكن مقصورة عليهم وهو ما يساعد على هذا البروز، وقد قطن أعضاء الجماعات اليهودية في الجيتو.

4 ـ تتسم المجتمعات الغربية بأنها مجتمعات لا تضم أقليات كثيرة، وذلك على عكس المجتمعات الشرقية الفسيفسائية، ولذا فإن أقلية تكاد تكون وحيدة مثل الأقلية اليهودية تحقق بروزاً غير عادي.

5 ـ لا شك في أن من يوجد في المدينة يحقق بروزاً لا يحققه عادةً من يكون في الريف، وقد تركزت الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي في العصر الحديث في المدن.

6 ـ ولا شك أيضاً في أن ارتباط أعضاء إحدى الأقليات بالطبقات الحاكمة يساهم في زيادة بروزهم، وقد ارتبط أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الوسيط في الغرب بالطبقات الحاكمة.

7 ـ يكون أعضاء الأقليات دائماً واقعين تحت ضغط نفسي يدفعهم إلى إثبات تفوقهم أمام أنفسهم وأمام الآخرين، ومن ثم فهم يجتهدون في أن يُساهموا في الإبداع الحضاري بدرجة تزيد عن المعدل السائد في المجتمع. ولذا يُلاحَظ في معظم الأحيان أن نسبة المتعلمين والمخترعين (في قطاعات معيَّنة) من بين أعضاء الأقليات مرتفعة نوعاً (ويُلاحَظ الشيء نفسه بالنسبة للإجرام والانحراف).

8 ـ عضو الأقلية عادةً ما تكون لديه عقلية نقدية في رؤيته للمجتمع (بسبب عدم إحساسه الكامل بالأمن والاستقرار)، وهو ينظر لمنظومة المجتمع الدينية والقيمية نظرة شك. وهذه النظرة النقدية الحادة تخلق تربة خصبة للإبداع التفكيكي، وربما التركيبي أيضاً.

9 ـ عضو الأقلية يتسم بروح الريادة وبالحركية، الأمر الذي يجعله سبَّاقاً إلى الخير والشر.

أما بروز أعضاء الجماعات اليهودية وتَميُّزهم داخل الحضارة الغربية على وجه التحديد فيمكن تفسير كثير من جوانبه من خلال مُركَّب من الأسباب والنماذج التفسيرية المترابطة:

1 ـ يُلاحَظ ارتـباط تَميُّز أعضاء الجماعات اليهودية بتَصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع. وليس من قبيل الصدفة أن أول عبقري يهودي حقق تَميُّزاً وبروزاً لا داخل سياقه اليهودي وإنما داخل سياق الحضارة الغربية ككل هو إسبينوزا، فيلسوف الحلولية والكمونية. ويمكن القول بأن العباقرة اليهود في الغرب الحديث يحققون التميز والبروز لا بمقدار تعبيرهم عن يهوديتهم وإنما بمقدار تخليهم عنها. ولعل أصدق شاهد على هذا هو إسبينوزا نفسه الذي حقق بروزه وتَميُّزه بمقدار ابتعاده عن اليهودية، ثم تبعه ماركس وفرويد وأينشتاين وكلهم يهود ملحدون، أي يهود غير يهود، تبرأوا من يهوديتهم.

ويمكن القول بأن الجماعات اليهودية في أوربا كانت تُعَدُّ، مع اندلاع الثـورة الفرنسـية، أكثر قطاعات المجتمع تَخلُّفاً وهامشـية. إلا أن معظم يهود العالم الغربي كانوا مع انتصاف القرن من أكثر القطاعات علمانية وحداثة. وقد تبعهم وبسرعة يهود اليديشية من شرق أوربا، سواء من بقي منهم داخل الاتحاد السوفيتي أو من هاجر منهم إلي الولايات المتحدة.

2 ـ يُلاحَظ أن علمنة النخب اليهودية (قيادات اليهود الثقافية) تمت بسرعة فائقة وبشكل كامل وجذري، كما تمت علمنة الجماهير اليهودية بشكل كامل وقاس وفجائي ومخطط من قبَل الدول المطلقة المختلفة (الدولة الفرنسية أو النمساوية أو الروسية). واستمرت هذه العملية حتى بعد أن حكمت هذه الدول نظم ليبرالية أو ثورية. وقد أدَّى هذا إلى انقطاع واضح بين انتمائهم الديني وتراثهم من ناحية، ووجودهم في العصر الحديث من الناحية الأخرى، ولذا فإنهم لم يحتفظوا بقيمهم الدينية التقليدية إلى جانب الرؤية العلمانية التي اكتسبوها. ويُلاحَظ كذلك أنهم لم يحتفظوا بأية رواسب دينية من خلال الرموز العلمانية ذات الأصول المسيحية، إذ أنهم لا يشتركون أصلاً في هذه الرموز باعتبارهم يهوداً. كما أن غالبية أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربـا وجميع يهـود الولايـات المتحـدة وكندا وأمريكـا اللاتينيـة، عناصـر مهاجـرة، وبالـتالي فهـم عناصر حركية متحررة من القيم والمطلقات تبحث عن الحراك الاجتماعي.

وقد أدَّى كل هذا إلى علمنة اليهود بشكل حاد وبمعدل يفوق معدلات العلمنة بين معظم قطاعات المجتمع الأخرى. ولذا، أصبح أعضاء الجماعات اليهودية من أكثر العناصر تَحرُّراً من القيم التقليدية وغير التقليدية في المجتمعات الغربية، وأصبح الإنسان اليهودي في الغرب هو الإنسـان الحـديث بشـكل نماذجي متبـلور، لا انتماء له ولا جذور، لا يشعر بحرمة أي شيء وينزع القداسة عن الإنسان والعالم. ومن ثم أصبح أعضاء الجماعات اليهودية من أكثر العناصر مقدرة على التحرك في المجتمع العلماني الحديث وأصبح لديهم من الكفاءات اللازمة للتعامل مع المجتمع العلماني الجديد أكثر مما لدى بقية أعضاء هذا المجتمع من المسيحيين أو حتى العلمانيين ذوي الجذور المسيحية، فاستطاعوا أن يحققوا بروزاً وصعوداً بدرجة تفوق ما يحققه أقرانهم من القطاعات البشرية الأخرى في المجتمع، ولكنه صعود من يستطيع أن يسبح مع التيار بكل قوة، لا أن يسبح ضده فيعوقه ويصده.

وقد لاحَظ أحد وزراء داخلية روسيا القيصرية وجود اليهود بأعداد كبيرة في الحركات الثورية، فبيَّن له أحد الحاخامات أن الشباب اليهودي كان بعيداً كل البعد عن الحركات الثورية والفوضوية حينما كان يتلقى تعليماً دينياً تقليدياً، وأن هذه الظاهرة لم تَبرُز إلا بعد أن انخرطوا في المدارس العلمانية التي أسسها القياصرة.

3 ـ ويمكن أن نضيف إلى هذا أن اليهود كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة في المجتمع الغربي لعدة قرون، فأصبحت سمات الجماعة الوظيفية من سماتهم الأساسية. ويوجد أعضاء هذه الجماعات داخل المجتمع وخارجه في وقت واحد، فهم على هامشه لا يخضعون لقوانينه، ولكن عليهم التعامل معه، ولذا كان عليهم أن يفهموا هذه القوانين، حيث إن علاقاتهم بالمجتمع علاقات موضوعية غير حميمة، فهم ينظرون إلى المجتمع بطريقة تحليلية تفكيكية تعاقدية نقدية، وخصوصاً أنهم من القرب بحيث يمكنهم فهم آلياته، كما أنهم بعيدون بقدر يُمكِّنهم من الاحتفاظ بالمسافة النقدية. وأعضاء الجماعات الوظيفية هم من أولى القطاعات في المجتمع التي تتم علمنتها وتجريدها من القداسة، وصبغها بالصبغة الموضوعية. وبالتالي، فإن أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة هم أول من يحمل الفكر العلماني النفعي الدنيوي وينشره ويذيعه.

4 ـ يُقال إن النزعة المشيحانيّة عند اليهود، والتي أخذت شكلاً علمانياً عند المثقفين اليهود الغربيين، تساهم في إضعاف الأواصر التي تربط بين اليهودي وبين المعطيات التاريخية والاجتماعية، الأمر الذي يجعله أكثر رفضاً للمجتمعات التي يوجد فيها، وأشد عمقاً في نقده لها، وأكثر موضوعية. ويُلاحَظ أن المثقفين اليهود من أكثر العناصر تطـرفاً في الحـركات الثورية والفـوضوية والعدمية (تروتسكي ـ روزا لوكسمبورج... إلخ).

5 ـ ويمكننا هنا أن نحاول تقديم فرضية تلقي بعض الضوء على بروز المثقفين اليهود في الحضارة العلمانية، وهذه الفرضية تستخدم نموذج الحلولية الكمونية (وتَصاعُد معدلاتها داخل النسق الديني اليهودي وداخل الحضارة الغربية) لتفسير هذا التَميُّز. ويمكن القول أن ثمة تشابها بنيويا شبه كامله بين وحدة الوجود الروحية (لا موجود إلا هو، أي الإله) ووحدة الوجود المادية (لا موجود إلا هي، أي المادة). وهنا، فإننا نذهب إلى أن بروز المثقفين اليهود في الحضارة الغربية بدأ حينما بدأت هذه الحضارة في تَبنِّي أنساق فكرية حلولية كمونية (البروتستانتية - النزعة الإنسانية الهيومانية - النزعة العقلانية المادية). فهؤلاء المثقفون اليهود، بخلفيتهم الحلولية، وبإنكارهم إمكانية تجاوز المادة كانوا مهيئين بشكل كامل لامتلاك ناصية الخطـاب الحضـاري العلـماني، ومن ثم تحقـيق البروز من خـلاله. ولعل الأهمية المركزية لإسبينوزا تتضح من خلال هذا النموذج التحليلي. فهو أول مثقف يهودي حقق بروزاً واضحاً في العصر الحديث، ويعود هذا إلى أنه ربط بين النسقين الحلوليين، الروحي والمادي، وعادل بين الإلهي والطبيعي، ومن ثم فقد عَلْمَن الحلولية تماماً وجعلها تصب في الأنساق المادية والعلمية.

6 ـ يُلاحَظ أيضاً تَركُّز اليهود في حقل الإعلام، خصوصاً في الصحافة والإذاعة، وهو ما جعلهم في موقع يُمكِّنهم من تسليط الأضواء على الأنشطة التي يقومون بها وإعطائها من الأهمية ما تستحق وربما أكثر مما تستحق. كما أن اليهود الجدد متمركزون في المدن، وهي مراكز صنع القرار في كل أنحاء العالم. فضلاً عن أنهم بانتقالهم إلى الضواحي لم يبعدوا كثيراً عن هذه المراكز، إذ أن معظم أعضاء النخبة في الولايات المتحدة يوجدون في هذه الضواحي. ويمكن أن نضيف أيضاً أن ارتفاع دخل المواطن الأمريكي اليهودي بالنسبة إلى المعدل القومي قد زاد من بروزهم، وكذلك تمركزهم في بعض المهن البارزة، مثل الطب والجامعات والمراكز العلمية.

7 ـ ويجب التأكيد ـ كما أسلفنا ـ على أن بروز المثقفين اليهود في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا يعود إلى أنهم يهود، بل إلى أنهم أمريكيون يوجدون داخل الحضارة الغربية، وهي الحضارة المهيمنة على معظم المصادر الطبيعية في العالم، والتي نجحت في تأسيس بنيتها التحتية، وبالتالي بإمكان أي شخص ينتمي إليها أن يُحقِّق كل إمكانياته الفكرية والإبداعية.

كما أن الحضارة الغربية، بسـبب هيمنتها على معظم أرجـاء العـالم، تنسب لنفسها صفة العالمية وتسلط عليها الأضواء. والمفكرون البارزون من أعضاء الجماعات اليهودية يتمتعون بهذه المزايا. ولعل ظاهرة العرب من أصل مصري أو لبناني أو فلسطيني وغيرهم (فاروق الباز ـ إدوارد سعيد) ممن يُحقِّقون بروزاً في الحضارة الغربية تُلقي بعض الضوء على الظاهرة نفسها بين أعضاء الجماعات اليهودية. فلو قُدِّر لهؤلاء البقاء في بلادهم فلربما أُجْهضَت إمكاناتهم بسبب الحدود المادية. وربما حتى لو تحققت إمكاناتهم لما وُصفت بالعالمية ولما سُلطت عليها الأضواء.

هذه هي بعض العناصر التي تَصلُح في مجملها لتفسير معظم جوانب هذه الظاهرة. ومع هذا يجب ألا نَسقُط في الاختزالية والواحدية بألا نعطي أية قدرة تفسيرية للبُعد اليهودي في تَميُّز العباقرة (والمنحرفين) من أعضاء الجماعات اليهودية. وكل ما نفعله هنا هو أننا ننكر على مثل هذا البُعد أية أولوية أو مركزية تفسيرية. فالبُعد اليهودي لا يُفسِّر تَميُّز اليهود وبروزهم ولكنه يُساهم ولا شك في تفسير حدَّته ودرجته ونسبته.

ويمكننا أن نقول إن آليات المجتمع العلماني التي أدَّت إلى بروز اليهود هي ذات الآليات التي قد تؤدي إلى اختفائهم وانصهارهم، فالمجتمع العلماني يزداد ترشيداً وتطبيعاً ويتطلب من أعضائه كافة أن يُعيدوا صياغة ذاتهم حتى تزداد كفاءتهم في الأداء العام، وهو ما يعني ضرورة التخلص من كل الخصوصيات والنتوءات. فإنسان عصر الاستنارة والعقل المادي إنسان عالمي لا يتمتع بأية خصوصية. كما أن عملية الدمج في المجتمع العلماني لا تتم من خلال الدمج بين هويات دينية وإثنية مختلفة وإنما تتم من خلال نزع جميع الهويات أو إخفائها أو تهميشها حتى يكتسب الجميع هوية علمانية عامة تُزيد كفاءتهم في الأداء في رقعة الحياة العامة. وبما أن أعضاء الجماعات اليهودية ليسوا استثناء من القاعدة، فنحن نتنبأ بأن يتزايد اندماجهم وانصهارهم في الغرب إلى أن يختفي بروزهم ويصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الآلة ذات الكفاءة الكبرى.

الجريمة اليهودية
Jewish Crime
«الجريمة اليهودية» مصطلح يفترض وجود جرائم ذات خصوصية يهودية (أي جرائم مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية وتتبع نمطاً بعينه وتأخذ أشكالاً بعينها). ومن ثم، فإن يهودية اليهودي هي النموذج الذي يمكن من خلاله تفسير وتصنيف السلوك الإجرامي لبعض أعضاء الجماعات اليهودية. وحيث إننا لم نعثر على مثــل هذا النموذج، فإننا نؤثر استخدام مصطلح «المجرمون من أعضـاء الجماعات اليهودية» باعتبـار أن النمـوذج الكـامن وراءه ذو مقـدرة تفسيرية وتصنيفية أعلى، كما أنه ينطوي على دعوة إلى أن يدرس الباحث كل حالة إجرامية يرتكبها عضو من أعضاء الجماعات اليهودية على حدة، داخل ملابساتها الخاصة وإطارها الحضاري.

ولا يمكننا التحدث عن «الجريمة اليهودية» أو «خصوصية الإجرام اليهودي» تماماً كما لا يمكننا الحديث عن «الجوهر اليهودي» أو عن «التاريخ اليهودي» أو عن «العبقرية اليهودية»، إذ أن الجماعات اليهـودية في العالم لا تعيـش تحت ظروف خاصة بها مقصورة عليها. ولذا، فإننا نجد أن معدلات الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية لا تختلف بشكل جوهري عن المعدل السائد في المجتمع أو بين الأقليات الأخرى في المجتمع. ولذا، فنحن نتحدث عن «المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية».

المجرمــون مــن أعضــاء الجماعــات اليهوديـة
Criminal Elements from Jewish Communities
من المعروف أن النسق الأخلاقي الذي تطرحه العقيدة اليهودية (حينما تكون تعبيراً عن الطبقة التوحيدية الكامنة فيها) يشبه، في كثير من الوجوه، الأنساق الأخلاقية التي تطرحها الديانات السماوية. فالقتل والزنى والسرقة والشذوذ الجنسي والجماع مع المحارم، كلها أمور مُحرَّمة يعاقب عليها القانون الديني. ولتفسير السلوك الإجرامي لأحد أعضاء الجماعات اليهودية، لابد من العودة لحركيات وقيم المجتمع الذي يعيش فيه هذا اليهودي، ولابد من دراسة القوانين الاجتماعية والجنائية والظروف الاقتصادية والعناصر الأخرى كافة.

ومع هذا، يمكن ملاحظة أن بعض الأنماط المتكررة يمكن تفسيرها على أساس أن الجماعات اليهودية تُشكِّل أقليات وجماعات وظيفية، علماً بأن أعضاء الأقلية يخضعون عادةً لحركيات المجتمع ولكنهم يشعرون بها بشكل أكثر حدة، كما توجد بينهم دوافع وضوابط مختلفة إلى حدٍّ ما عن تلك التي توجد في المجتمع ككل. ولكن، قبل الاسـتمرار في الدراسة، تجب الإشارة إلى أن بعض الأرقام الموجودة لدينا غير موثوق فيها بسبب عنصرية النموذج الإحصائي والتفسيري الذي تم بمقتضاه جمع المادة. كما أصبح العكس صحيحاً الآن؛ إذ ترفض كثير من الدول الغربية أن تكشف عن الانتماء الديني أو الإثني للمجرم خوفاً من إشاعة صورة عنصرية كريهة عن أعضاء الأقليات. وبعد هذا التحفظ، يمكن القول بأنه قد لُوحظ، على سبيل المثال، أن نسبة الجريمة بين أعضاء الجماعة اليهودية تكون أحياناً أقل من النسبة العامة في المجتمع، وقد تكون مساوية لها أو أعلى منها، ولكن لكل وضع تفسيره. ويمكن استخدام الأحكام الصادرة ضد أعضاء الجماعة كمؤشر. ولكننا لن نقدِّم هنا عرضاً لأنماط الجريمة بين العبرانيين وأعضاء الأقليات اليهودية عبر التاريخ وفي مختلف المجتمعات، ذلك لأن مثل هذا العرض سيشغل حيزاً ضخماً، إلى جانب أن ما نهدف إلىه في هذا المدخل هو أن نُبيِّن مدى الخصوصية أو العمومية في ظاهرة الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية. ولهذا، فإننا سنركز على العصر الحديث وحسب.

ثمة تباين واضح بين معدل الجريمة بين أعضاء الجماعة اليهودية ومعدلها بين أعضاء مجتمع الأغلبية الذي يعيشون في كنفه، فمعدلات الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية كانت منخفضة قبل منتصف القرن التاسع عشر ثم أخذت في التزايد بعده إلى أن وصلت إلى معدلات ضخمة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ثم أصبحت معدلات الجريمة بينهم لا تختلف كثيراً عن المعدلات السائدة في المجتمع. ولتفسير هذا التباين، يمكن القول بأن أعضاء الأقلية يتمتعون عادةً بدرجة أعلى من التماسك العائلي والتضامن الاجتماعي، وأن هناك مؤسسات دينية واجتماعية (وهي عادةً مقصورة عليهم) تقوم بعملية الرقابة الداخلية والضبط الاجتماعي والأخلاقي. كما أن أعضاء الأقليات يخضعون دائماً لرقابة شديدة من أعضاء الأغلبية، خصوصاً في فترات التعصب والتمييز العنصري. وهذه الرقابة الخارجية الصارمة من شأنها أن تجعل عضو الأقلية حذراً يراقب سلوكه ولا يُقبل على ارتكاب الجريمة أو التفكير فيها إلا في أضيق الحدود وللضرورة القصوى. ولا شك في أن تَميُّز اليهود مهنياً ووظيفياً كان له دور في ذلك، وكان هذا يعني المزيد من البروز ومن ثم المزيد من الرقابة.

لكل ما تَقدَّم، نجد أن تَزايُد انعتاق أعضاء الجماعات اليهودية واندماجهم يؤدي إلى تَزايُد معدل الجريمة بينهم، وهذه مفارقة لاحظها أيضاً دارسو وضع المرأة. فكلما ازدادت مساواة المرأة بالرجل، في الحقوق والواجبات، زاد معدل الإجرام بين النساء، فكأن تحرير المرأة يعني أن تصبح مثل الرجل في الخير والشر، وأن تُتاح أمامها فرص متساوية للخير والشر على حدٍّ سواء. وقد لُوحظ أن معدل الجريمة بين يهود المجر في أوائل القرن العشرين مرتفع عنه بين يهود روسيا مثلاً. ولا يمكن تفسير هذا إلا على أساس أن يهود المجر كانوا أكثر الجماعات اليهودية انعتاقاً واندماجاً. وقد لوحظ أيضاً أن معدل الجريمة بين يهود ألمانيا (الذي كان منخفضاً) تَساوَى تقريباً مع النسبة العامة في المجتمع في الفترة ما بين عامي 1882 و1910، وذلك مع تَزايُد اندماج اليهود وازدياد معدل التعليم بينهم وتَحسُّن وضعهم الاقتصادي. وقد لاحَظ ليتشنسكي أن معدل الأحكام الصادرة ضد يهود النمسا من المتعلمين كان يزيد بواقع 50% مقارناً بمعدل الأحكام الصادرة ضد يهود جاليشيا الفقراء الجهلاء. أما في هولندا، فكان معدل الجريمة بين أعضاء الجماعة اليهودية أقل من المعدل على المستوى القومي في عام 1902. ومع تَزايُد انعتاقهم واندماجهم، أصبح المعدلان متساويين. أما في البلاد العربية، فيُلاحَظ أن معدل الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية قَلَّ بعد إعلان دولة إسرائيل، ربما بسب زيادة الرقابة وتشديد القبضة عليهم.

ولابد أن هناك استثناءات كثيرة من هذا النمط، ففي الولايات المتحدة يُلاحَظ أن معدل الجريمة بين المهاجرين اليهود يصل أحياناً إلى نصف المعدل على المستوى القومي في الجيل الأول ثم يتزايد بالتدريج مع الجيل الثاني، ومع الجيل الثالث يقترب معدل الجريمة من المعدل العام. ومن المعروف أن أعضاء الجيل الثالث في الولايات المتحدة من أبناء المهاجرين هم الذين يصلون إلى معدلات عالية من الاندماج والأمركة بحيث يصبحون أمريكيين مائة في المائة. وهذا النمط ينطبق كذلك على معظم الدول الاستيطانية.

ومع هذا، توجد ظاهرة عكسية وهي أن معدل الجريمة بين العناصر المهاجرة في قطاعات حرفية أو طبقية معينة قد يكون أعلى من نظيره بين أعضاء المجتمع المضيف. كما أن الجماعات المهاجرة تتخصص في أنواع من الجريمة غير معروفة في المجتمع أو كانت موجودة فيه بشكل جنيني وحسب. ويعود هذا إلى أن العناصر المهاجرة هي دائماً عناصر رائدة، وأعضاء الأقلية المهاجرة الباحثون عن الحراك الاجتماعـي لا يلتزمون بقيم خلقية ولا يشعرون بالولاء نحو المجتمع الجديد، كما أنهم في العادة شخصيات حركية قادرة على إدراك الثغرات في المجتمع وعلى التسلل منها. وبالفعل، نجد أن جماعات من المهاجرين اليهود كوَّنوا في الثلاثينيات عصابات جريمة منظمة (مافيا) في نيويورك تمارس نشاطات المافيا المختلفة من ابتزاز وتهريب مخدرات واغتيال نظير أجر والبغاء، واستمرت في ذلك حتى الخمسينيات. (وقد كُشف النقاب مؤخراً عن أن عصابات الجريمة المنظمة اليهودية قد دعمت الحركة الصهيونية مالياً وسياسياً، واشتركت في جمع التبرعات لها، بل واستخدمت نفوذها مع بعض حكام أمريكا اللاتينية المتعاونين مع عصابات الجريمة المنظمة لتهريب السلاح للمستوطنين الصهاينة(
وقد ظهرت الجريمة المنظمة أيضاً بين المهاجرين اليهود السوفييت والإسـرائيليين في الولايات المتحدة، وتُعَدُّ لوس أنجلـوس من أهم مراكزها. ولعل تَفشِّي الجريمة بين المهاجرين السوفييت هو أحد الأسباب التي دعت أمريكا لإغلاق أبوابها أمام المزيد من المهاجرين السوفييت. ومن الطريف أن أعضاء هذه العصابات اليهودية قد تخصصوا في ابتزاز أعضاء الجماعة اليهودية إلى جانب ممارسة النشاطات الإجرامية العادية والعامة. ويبدو أن هذه العصابات بدأت تمارس نشاطها في إسرائيل وفي بعض دول الشرق الأوسط. ومن الظواهر التي يجب تسجيلها أيضاً أن أفراد عصابات المافيا في الولايات المتحدة (وهم من أصل إيطالي في العادة) يستعينون في الغالب بمحامين من بين أعضاء الجماعة اليهودية للدفاع عنهم في جرائمهم ولإدارة أعمالهم المشينة.

وقد فوجئ الصهاينة بأن المهاجرين اليهود قادرون على ارتكاب جميع الجرائم الخطيرة مثل القتل والاغتصاب والسرقة في بلدهم. ولكن هذا يعود دون شك إلى إحساس المستوطنين بأنهم مواطنون يتمتعون بكل الحقوق السياسية والضمانات القانونية، ومن ثم تخف عمليات الرقابة الخارجية التي كانوا يخضعون لها كأعضاء أقلية. ومما لا شك فيه أن العقيدة الصهيونية التي تشجع على العنف والاغتصاب تلعب دوراً في استثارة الاستعداد الكامن أو القابلية لدى المستوطنين الصهاينة لارتكاب الجرائم بمعدل يفوق نظيره في المجتمعات الأخرى التي تعيش تحت الظروف نفسها.

وداخل هذه الأنماط العامة، يمكننا أن نكتشف نمطاً آخر وهو أن وضع أعضاء الأقليات قد يزيد قابليتهم لارتكاب جرائم دون أخرى. فعلى سبيل المثال، نجد أن أعضاء الجماعات اليهودية يرتكبون الجرائم ضد الملْكية وكذلك جرائم القتل بمعدل أقل من المعدل القومي. وربما يعود هذا إلى مستواهم التعليمي المرتفع وقلة استهلاكهم للمواد الكحولية، وإلى عملية الضبط الاجتماعي التي تمارسها الجماعة مع أعضائها ويمارسها المجتمع مع الجماعة ككل. وعلى أية حال، فالملاحَظ أن معدل الجرائم التي يرتكبها أعضاء الجماعة يرتفع مع تزايد معدلات الاندماج والعلمنة.

ولكن يُلاحَظ أن ثمة جرائم يزيد معدل ارتكابها بين أعضاء الجماعة عن المعدل العام السائد في المجتمع، وهي الجرائم التي يتم فيها انتهاك الحرمات والتي تتطلب من صاحبها التخطيط وإعمال العقل وتحقِّق لمرتكبها عائداً سريعاً (أي تتطلب المهارات نفسها التي يتطلبها الاضطلاع بوظائف الجماعة الوظيفية). ومن هذه الجرائم ما يُسمَّى «جرائم الآداب». ففي تونس، كان أعضاء الجماعة اليهودية يمثلون 1.7% من مجموع السكان، ومع ذلك كانت نسبة النساء اليهوديات المسجلات في جرائم الآداب تفوق هذه النسبة كثيراً. وكانت نسبة الأحكام الصادرة ضد أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا لارتكاب أعمال غير أخلاقية تفوق كثيراً (مرتين ونصف) نسبة الأحكام الصادرة ضد أعضاء الأغلبية.

ومن الجرائم المماثلة، جرائم التزييف والغش التجاري. ومن المعروف أن هذه الجرائم انتشرت بين أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر في الغرب إلى درجة اضطرت معها الحكومات إلى استصدار تشريعات خاصة. ويبدو أن تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في القطاع التجاري من المجتمع التقليدي ساعد على ذلك، فهو قطاع لم يكن يعرف نظام الضرائب ولم يكن يرتبط بشبكات الرأسمالية الرشيدة من مصارف ووسائل نقل أو غيرها. ولذا، كان التهرب من الضرائب، وكذلك تهريب البضائع، جزءاً عضوياً من مثل هذا النشاط التجاري، كما أن تَركُّز كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في المناطق الحدودية والمدن شجع على هذا الاتجاه. وقد استمر هذا النمط حتى الوقت الحاضر. ويبدو أن لأعضاء الجماعات اليهودية دوراً ملحوظاً في ترويج المخدرات في الولايات المتحدة، كما يوجد عدد لا بأس به من الجواسيس من بين أعضاء الجماعات اليهودية في الدول الغربية.

ويمكن هنا أن نسأل: ما الفعل الإنساني الذي يشكل جريمة؟ فعلى سبيل المثال، تُعَدُّ الثورة ضد نظام مُستغل عملاً بطولياً من منظور الثوار، ولكنها تُعَدُّ جريمة ضد أمن الدولة يعاقب عليها القانون من منظور القائمين على النظام. والعكس صحيح، فدعم نظام مُستغل ظالم جريمة من منظور المدافعين عن العدالة، ولكنه واجب وطني من منظور القائمين على النظام، أي أن مسألة المنظور في غاية الأهمية في دراسة الجريمة.

ويمكـننا الآن أن نتنـاول الجرائم المرتبطة بأمن الدولة والنظام العام. ويُلاحَظ أن معدل ارتكاب أعضاء الجماعات اليهودية لمثل هذه الجرائم يتناسب طردياً مع معدل التمييز العنصري ضدهم، ومن ثم فإن الأحكام الصادرة ضدهم تَصلُح مؤشراً على نوعية المعاملة التي يلقاها أعضاء الجماعات اليهودية وعلى معدل الإعتاق والاندماج. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كان حوالي 30% من المسجونين السياسيين في روسيا القيصرية من الشباب اليهودي. وفي عام 1907 كان اليهود يشكلون 4% من عدد السكان، ومع هذا نجد أن ما يزيد على 17% من الجرائم التي ارتُكبت ضد أمن الدولة والنظام العام ارتكبها أعضاء في الجماعة اليهودية. وفي بولندا (1924 ـ 1937)، كان 43.6% من الجرائم التي ارتكبها اليهود جرائم ســياسية، وتنخفض النسبة إلى 25% في ألمانيا (1899 ـ 1902)، وإلى 6.25 في هولندا (1931 ـ 1933). وقد لوحظ إبَّان الستينيات أن عدد الشبان اليهود في الولايات المتحدة الذين يشتركون في المنظمات اليسارية والتظاهرات يبلغ 30%، بينما كانت نسبتهم إلى عدد السكان لا تزيد عن 2.5%. ولكن هذه النسبة أخذت تتناقص مع زيادة هيمنة الجو المحافظ على يهود الولايات المتحدة.

ويمكن أن ننظر إلى المسألة من جانب آخر، وهو مدى مساعدة أعضاء الجماعات اليهودية للنظم المستغِلة والظالمة، باعتبار أن ذلك أحد أشكال الجريمة. ففي جنوب أفريقيا، في عصر التفرقة اللونية، على سبيل المثال، كان يُلاحَظ وجود أعضاء الجماعة اليهودية بشكل واضح في المؤسسات الأمنية. ويمكن أن نطرح هنا الدعم اليهودي للدولة الصهيونية باعتباره شكلاً من أشكال الإجرام. بل إن زيارة إسرائيل للسياحة، وهي شكل من أشكال الدعم الاقتصادي والمعنوي لها، تشكل دعماً للاستعمار الاستيطاني الذي استولى على أرض فلسـطين، ومن ثم يمكن تصنيفـها على أنها عمل إجرامي.

ويمكن النظر إلى الإجهاض أيضاً باعتباره قضية أخلاقية، فهو قد يكون (كما يرى البعض) حقاً مشروعاً للمرأة (إذا نظرنا إليها كفرد وحسب لا كأم وكائن اجتماعي)، وقد يكون جريمة يعاقب عليها القانون (إن أُخذ البُعد الاجتماعي والأخلاقي في الاعتبار). ويُلاحَظ هنا وجود عدد كبير من الأطباء اليهود بين أولئك الذين يجرون عمليات الإجهاض في الولايات المتحدة وفي غيرها من البلاد.

ولابد أن ارتكاب أعضاء الجماعة اليهودية جرائم الغش التجاري والآداب، وهي جرائم بارزة تمس حياة الجماهير الشعبية مباشرة، كان له أكبر الأثر في تغذية الأنماط الإدراكية السلبية التي تستند إليها أدبيات معاداة اليهود. ومما يجدر ذكره أن الأدبيات الصهيونية، بتأكيدها خصوصية اليهود، تَقبَل (نظرياً على الأقل) إمكانية أن تعبِّر هذه الخصوصية عن نفسها من خلال الجريمة اليهودية. ولابد أن نضيف هنا أيضاً أن الصهاينة يرون أن الشخصية اليهودية تصبح شخصية إجرامية مدمرة في المنفى لأنها شخصية مُقتلَعة لا انتماء لها، ومن هنـا فإن المفكرين الصهاينة يحذرون دول العالم من وجود اليهود فيها.

ويبدو أن المؤسسة الصهيونية تقوم في الوقت الحاضر بتصدير الجريمة إلى أنحاء العالم. فالشرطة الإسرائيلية تشجع المجرمين على الهجرة إلى خارج إسرائيل كوسيلة للتخلص منهم، فيستقرون في كل أنحاء العالم، خصوصاً في هولندا وألمانيا الغربية حيث يسيطرون على كثير من النشاطات الإجرامية التي من أهمها البغاء. وقد دخلت كلمات عبرية كثيرة على لغة الجريمة في العالم، خصوصاً لغة القوادين السرية في أوربا. ويُقال إن لغة القوادين في أمستردام هي العـبرية، ولعـلها لغة سرية خليط من الهولندية والعبرية. كذلك تُصدِّر إسرائيل مرتزقة إلى الخارج لتدريب قوات تجار المخدرات في كولومبيا أو حرس بعض رؤساء دول أمريكا اللاتينية.

وتوجد الآن مافيا إسرائيلية قوية مركزها لوس أنجلوس، ولكنها منتشرة في كل أرجاء الولايات المتحدة. وقد بدأت هذه العصابات نشاطها بفرض إتاوات على فقراء اليهود (عادةً من بقايا يهود معسكرات الإبادة)، ثم دخلت عالم المخدرات وجرائم الغش التجاري. ويبلغ عدد أعضاء قيادة المافيا الإسرائيلية نحو 100 عضو. وتعقد سلطات الأمن الأمريكية مؤتمراً قومياً كل عام لمناقشة نشاط المافيا الإسرائيلية.

عتاة المجـرمين من أعضـاء الجماعـات اليهـودية في العــصر الحـديث
Famous Criminals from Jewish Communities in Modern Times
يوجد الكثير من المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية ولا يمكن تفسير تَميُّزهم في الإجرام بناء على يهوديتهم، ولنبدأ بإدوارد ديفيس (1816 ـ 1841) وهو لص أسترالي يهودي وُلد في إنجلترا، وأدين عام 1832 بتهمـة السـرقة وحُكم عليه بالترحيل إلى أسـتراليا لمدة سبع سنوات. وفي أستراليا، نجح في الفرار من سجنه عام 1839 وكوَّن عصابة من السجناء الهاربين قامت على مدى عامين بالإغارة على المدن الصغيرة والقرى بقطع الطريق على المسافرين، الأمر الذي أثار الرعب في نفوس الكثيرين. وقد اتخذت هذه العصابة لقب «عصابة الولد اليهودي». وكان ديفيس يعتبر نفسه «روبين هود أستراليا »، لأنه كان يسرق من الأغنياء ويعطي الفقراء، كما كان يرفض استخدام العنف إلا دفاعاً عن النفس. وجاءت نهايته بعد أن قتلت عصابته صاحب متجر في إحدى غاراتها، الأمر الذي دفع السلطات لتكثيف البحث عنه. وقد ألقي القبض عليه، وعلى عدد آخر من أفراد عصابته عام 1840، وأدين بتهمة القتل وحُكم عليه بالإعدام.

وديفيس ينتمي إلى نمط من اللصوص يمكن تفسيره من خلال دراسة درجة السخط الشعبي والاستقطاب الطبقي، فهو ليس مجرماً بالمعنى المألوف وإنما مجرم يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء. ولكن النمط الأكثر شيوعاً هو المجرم المتميِّز من أعضاء الجماعات اليهودية الذي يمكن تفسـير سـلوكه باســتخدام نموذج العلمانية الشاملة والنيتشـوية.

ولنبدأ باثنين من أهم المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية وهما ريتشارد لويب (1905 ـ 1936) وفروينتال ليوبولد (1904 ـ 1975). كان لويب وليوبولد من خريجي الجامعة، وكانا أيضاً من أبناء الأسر اليهودية الثرية في الولايات المتحدة. وفي عام 1924، قررا أن يرتكبا جريمة بلا دافع فقاما باختطاف صبيّ في الرابعة عشرة من عمره ثم قتلاه. وقد حُكم على أحدهما بالسـجن مدى الحياة، وحُكم على الآخر بالسـجن لمدة تسـعة وتسـعين عاماً. وقد قُتل لويب في السجن وأُعفي عن ليوبولد. والجريمة التي ارتكبها لويب وليوبولد ليس لها مضمون يهودي واضح أو كامن، فدوافع المجرمين ليست إنسانية تقليدية، فهما لم يكونا مدفوعين بدوافع اقتصادية (فهما من أعضاء الطبقة الثرية في الولايات المتحدة) أو دوافع جنسية (فهما لم يغتصبا الصبي المخطوف). ولفهم هذه الجريمة، لابد أن نصنفها على أنها جريمة حديثة تماماً، فمرتكباها افتقدا المعنى في حياتهما الرتيبة وقررا استرجاع شيء من المعنى عن طريق شكل من أشكال الإثارة الشديدة. وقد وجدا الإثارة في ارتكاب جريمة بلا دافع، أي أن الأداء الإجرامي الكفء أصبح غاية في ذاته، فهي جريمة محايدة تتم بلا حب أو كره أو غاية، وهي جريمة كاملة، يفترض فيها أنها من الدقة والإحكام بحيث يستحيل اكتشافها (أي أنها نسق مغلق تماماً)، وكل هذا تعبير عن رغبة الإنسان الحديث في التحكم الإمبريالي الكامل في كل شيء بحيث يصبح الإنسان إلهاً يُحيي ويُميت دون مكافأة أو عقاب. وفي هذا لذة أيما لذة، فهنا يصبح اللامعنى هو المعنى، ويصبح العبث هو الغاية، وتصبح الصورة المجازية الحاكمة الكبرى هي أن الحياة بأسرها إنما هي لعبة أو مباراة وأن ذَبْح الأطفال إنما هو جزء من هذه اللعبة المسلية.

ويمكن أن نشير أيضاً إلى أرنولد روثشتاين (1882 ـ 1928)، وهو من رواد الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وُلد في نيويورك لعائلة يهودية تجارية متوسطة الحال، واتجه في سن مبكرة إلى القمار ثم المراهنات، ونجح في إقامة أكبر إمبراطورية للقمار في الولايات المتحدة، وامتد نشاطه إلى تهريب الخمور وتجارة المخدرات والابتزاز، ونجح في حماية نفسه وأنشطته الإجرامية من خلال رشوة رجال الأمن والقانون والسياسة ومن خلال استثمار أمواله في بعض الأنشطة المشروعة. وقد تَمتَّع روثشتاين بنفوذ واسع، وأصبح يُلقَّب بـ «قيصر عالم الجريمة»، وقد تتلمـذ على يديه عدد من مشـاهير المجرمين الأمريكيين، أمثال مائير لانسكي، والذين تعلموا منه أهمية التعاون والتحالف في عالم الجريمة بغض النظر عن الانتماء الإثني أو الديني. فاللص هنا، مثل الإنسان الطبيعي أو الأممي، لا جذور له ولا حدود، ولا تعوقه أية مطلقات غيبية أو إنسانية. وهو، مثل عضو الجماعة الوظيفية والإنسان الاقتصادي، لا يدين بالولاء إلا لصالح جماعته وما يحققه لها ولنفسه من ربح، « وليس للدولار سوى قومية واحدة ودين واحد وهو الربح » على حد قول روثشتاين، الذي اغتيل في أحد فنادق نيويورك نتيجة خلاف حول سداد دين قمار.

أما لويس بوكالتر « ليبكي » (1897 ـ 1944) فهو أحد زعماء الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وُلد في نيويورك لعائلة من المهاجرين اليهود، وانخرط في حياة الإجرام في سن الثامنة عشرة، حيث انضم إلى عصابة من الأحداث تحترف النشل وسرقة الباعة المتجولين. وقد اشتهر بوكالتر باسم «ليبكي»، وهو الاسم الذي أطلقته عليه والدته ويعني باليديشية «لويس الصغير».

وقد أمضى بوكالتر ثلاثة أعوام في السجن بتهمة السرقة، خرج بعدها ليتزعم عصابة من مائتي مجرم تخصصت في الابتزاز. ولم يكن بوكالتر يؤمن بالتخصص فحسب وإنما بالتنظيم والترشيد أيضاً. وقد استخدمت عصابته جميع أساليب الإرهاب للسيطرة على النقابات العمالية في قطاع صناعة الملابس والمأكولات في نيويورك، ثم ابتزاز أصحاب الأعمال « لحمايتهم » من الإضرابات العمالية. وجمعت علاقة وثيقة بين بوكالتر ومائير لانسكي، وكان من زعماء الإجرام الذين أسسوا الاتحاد القومي للجريمة، والذي تأسس بغرض تنسيق وترشيد النشاط الإجرامي على مستوى الولايات المتحدة. وقد تولى بوكالتر رئاسة الجناح التنفيذي للاتحاد والذي أطلقت عليه الصحافة الأمريكية اسم « شركة القتل المساهمة » لأنه قام تحت إشرافه بتنفيذ مئات الاغتيالات وجرائم القتل.

وفي عام 1933، ألقي القبض على بوكالتر بتهمة مخالفة القانون المناهض للاتحادات الاحتكارية، وحُكم عليه بالسجن والغرامة، إلا أن الحكم تم نقضه وأفرج عنه بكفالة. ثم قُدِّم للمحاكمة مرة أخرى عام 1939 في جريمة مخدرات، وحُكم عليه بالسجن لمدة أربع عشرة سنة. وأثناء ذلك، قُدِّم (عام 1941) للمحاكمة بتهمة جريمة قتل ارتكبها عام 1936 وحُكم عليه بالإعدام. ونُفِّذ فيه الحكم عام 1944.

ويمكن أن نشير أيضاً إلى بنجامين سيجل (1906 - 1947) الذي كان أعداؤه يلقبونـه باسم «بجزي Bugsy»، نسبةً إلى البجز (bugs) أي «الحشرات». وقد كان سيجل أحد زعماء اتحاد الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وُلد في نيويورك، وبدأ منذ سن الرابعة عشرة في الانخراط في الأنشطة الإجرامية. وكوَّن عصابة مع مائير لانسكي عُرفت باسم «عصابة بجز ومائير» قامت بحماية الملاهي الليلية نظير إتاوة منتظمة، كما قامت بعمليات السطو المسلح والخطف والقتل بالأجر لحساب عصابات تهريب الخمور. وقد تَورَّط سيجل في عدد من قضايا التهريب والاغتصاب والسرقة والاغتيال، حيث اتُهم بقتل بعض شركائه القدامى. كما اشترك سيجل مع عدد من كبار المجرمين الأمريكيين في تأسيس الاتحاد القومي للجريمة. وفي الثلاثينيات، انتقل سيجل إلى كاليفورنيا للإشراف على عمليات الاتحاد بها كما أشرف على عمليات القمار وتجارة المخدرات، ومد نشاطه إلى مجال السينما حيث قام بعمليات ابتزاز عديدة.

وقد عـاش ســيجل حياة مُترَفة مع كثير من أصدقائه نجوم السينما، جين هارلو وكلارك جيبل وكاري جرانت وغيرهم. وأثناء الحرب العالمية الثانية، اكتشف سيجل إمكانات ضخمة في القمار المشروع في نيفادا، فاقترض بعض النقود من اتحاد الجريمة وبنى فندق الفلامنجو الضخم في لاس فيجاس، وقد حاول أن يُبقي كل الأرباح لنفسه دون أن يشرك الاتحاد فيها. وكانت فلسفته في الحياة عملية داروينية إذ كان يقول دائماً: « كل ما نفعله هو أن يقتل الواحد منا الآخر »، وهذا ما حدث له في يونيه 1947 إذ كَلَّف اتحاد الجريمة قاتلاً صوَّب مسدسه إلى رأس سيجل وأفرغ فيه عدداً من الرصاصات.

أما فلاتو شارون، فهو من كبار المجرمين الفرنسيين. تهرَّب من الضرائب في فرنسا باللجوء إلى إسرائيل مستفيداً من قانون العودة. ورشح نفسه لعضوية البرلمان (الكنيست) كي يحصل على الحماية البرلمانية، ونجح مرتين في الانتخابات بشـراء الأصـوات صراحةً وعلانية، حيث موَّل حملته الانتخابية أحد زعماء الجريمة المنظمة. وبعد أن فرّ يعقوب الله كوهين زعيم الجريمة المنظمة في إسرائيل (وهو يهودي من أصل إيراني) إلى البرازيل، تردد اسم فلاتو شارون خلفاً له في الزعامة. ويوجد الآن في إسرائيل عطر ومساحيق تجميل تحمل اسم «فلاتو»، وهو ما يدل على تغلغل المُثُل الإجرامية في المُستوطَن الصهيوني (ويُلاحَظ أن فلاتو شارون هذا كان شريكاً لعزرا وايزمان في تجارة السلاح مع جنوب أفريقيا).

واستخدام نموذج الخصوصية اليهودية والعبقرية اليهودية والجريمة اليهودية في تفسير سلوك هذه الشخصيات الإجرامية لا يفيد كثيراً، فقيمته التفسيرية ضئيلة. أما إذا وضعناهم في سياق المجتمع العلماني الحديث الذي يتسم بتَزايُد تهميش القيم الأخلاقية والإنسانية المطلقة وتَصاعُد معدلات النسبية والنيتشوية، فيمكن إلقاء مزيد من الضوء على دوافعهم وسلوكهم.

عباقـرة ومجـرمـون مــن أعضـاء الجماعـات اليهوديـة
Geniuses and Criminals from Jewish Communities
في محاولة تفسير عبقرية العباقرة وإجرام المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية، لابد أن يبتعد الدارس عن نموذج الخصوصية اليهودية العالمية. وبدلاً من ذلك يمكن أن نضبط مستوى التعميم والتخصيص للوصول إلى النموذج التفسيري الملائم. ومثل هذا النموذج لابد أن تتم صياغته من خلال دراسة السياق الحضاري والاقتصادي والاجتماعي والديني الذي يوجد فيه العبقري أو المجرم من أعضاء الجماعات اليهودية. وفي المداخل التالية سنحاول أن نطبق هذا المنهج على مجموعة من العباقرة والمجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية عبر التاريخ مثل أينشتاين وتشومسكي ولانسكي، وعلى مجموعة من المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودي في العصر الحديث.

بنيامــين التُـطيـلــي (القرن الثاني عشر(
Benjamin of Tudela
رحالة إسباني يهودي في القرن الثاني عشر الميلادي لا نعرف الكثير عن حياته الشخصية. ترك سرقسطة في عام 1160، وقام برحلة استغرقت ما بين خمسة وثلاثة عشر عاماً، زار خلالها نحو ثلاثمائة موضع من بينها: إيطاليا واليونان ****يكية وفلسطين وبلاد الرافدين وإيران والهند، وعاد ماراً بعدن واليمن ومصر وصقلية. وقد دوَّن بنيامين التُطيلي ملاحظاته في كتابه رحلات الحاخام بنيامين وهي تتضمن عديداً من الروايات والتفاصيل الطريفة والمهمة. وقد انصب اهتمامه على حضارات البلدان التي زارها وعلى الجماعات اليهودية فيها من حيث أسلوب حياتهم ووظائفهم الأساسية وتنظيماتهم الاجتماعية وحياتهم الدينية. كما أورد إحصاءات عن عدد كل جماعة. ويُعَدُّ كتابه من المصادر الفريدة لعدد أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، وإن كانت بعض الأعداد التي يوردها تبدو غامضة أو مبالغاً فيها. وقد تُرجم كتابه إلى معظم اللغات الأوربية وضمنها اللاتينية.


داهيـــة الكاهنــة (أوائل القرن الثامن الميلادي(
Dahiya Al-Kahina
«داهية الكاهنة» (ويُقال إن اسمها هو «ضميا» أو «ضحيا») هي محاربـة من قبيلـة الجراورة في جبـال أوراس في الجنوب الشرقي للجزائر، وهي فرع من قبيلة زناتة البربرية الكبيرة تَهوَّد في القرن السابع بعد الميلاد، أي قبيل الفتوحات الإسلامية بقليل. قادت داهية القبائل البربرية وقامت بصد الزحف الإسلامي عام 688م حين دمرت جيش حسان بن النعمان الغساني واضطرته إلى الانسحاب إلى طرابلس. وكانت الكاهنة تظن أن القوات الإسلامية هي مجرد جماعات من البدو المغيرين الطامعين في الثروة، ولذلك قامت بحرق المدن والحقول حتى يرحلوا. ولكن أفعالها جعلت السكان يجأرون بالشكوى منها ويناصبونها العداء وانفض أتباعها من حولها وانضموا تدريجياً إلى جيش الإسلام. وفي الجولة الثانية مع القوات الإسلامية، يُقال إنها تنبأت بهزيمتها ومقتلها، وبالفعل نشبت المعركة في عام 695 وهُزمت داهية الكاهنة ولقيت حتفها خلالها.

ولا يمكن رؤية مقاومة داهية الكاهنة للزحف الإسلامي باعتباره جزءاً من العداء الأزلي بين المسلمين واليهود ولا يمكن فهمه من خلال نموذج تفسيري يهودي. ففي مناطق أخرى ومدن أخرى ساعد أعضاء الجماعات اليهودية المسلمين. ولذا، يجب أن تُوضَع هذه المقاومة في سياق أكثر عمومية وهو مقاومة القبائل الوثنية للزحف الإسلامي. ونحن لا نعرف كثيراً عن نوع اليهودية التي كانت تتبعها الكاهنة. بل إن بعض المؤرخين يشككون أصلاً في انتمائها اليهودي. لكل هذا يكون الحديث عنها باعتبارها عبقرية يهودية أمراً ليس ذا قيمة تفسيرية تُذكَر.

ابـن نغريلـة (993-1055(
Ibn Nagrila
هو صموئيل اللاوي بن يوسف بن نغريلة المشهور بين اليهود باسم «شموئيل هانجيد». وقد عرفه العرب باسم إسماعيل بن يوسف بن نغريلة. وهو رجل سياسة وشاعر وعالم وقائد عسكري عربي يهودي، ويُعَدُّ أهم شخصية يهودية في الأندلس.

وُلد في قرطبة من عائلة غنية، وأتقن العبرية والعربية واللاتينية ولغات البربر، كما درس القرآن الكريم والتوراة والتلمود على يدي حنـوخ بن موسى في قرطـبة. وكان يُشـيع عن نفسـه أنه من نسـل داود. فرَّ من قرطبة في القرن الحادي عشر الميلادي بعد غزو المرابطين لها وفتح دكان توابل في ملقا، ثم ألحقه الملك حبوس بخدمته حيث عَمل بجمع الضرائب، ثم كاتباً ومساعداً للوزير أبي العباس. وبعد أن أيَّد باديس، في معركته ضد أخيه على العرش، كافأه الملك الجديد وقرَّبه منه وعيَّنه وزيراً له بحيث أصبح ابن نغريله من أهم الشخصيات في المملكة. وحيث إن باديس كان مستغرقاً في لذاته ومسراته، فإن ابن نغريلة كان الحاكم الفعلي، فقاد جيوش غرناطة في معاركها الدائمة مع أشبيلية، وحقق انتصارات عسكرية عديدة فيها.

ألَّف ابن نغريلة عدة كتب في الشريعة اليهودية، من بينها مقدمة للتلمود، وحرَّر معجماً لعبرية التوراة. كما وضع كتاباً يطعن في الإسلام وكتابه الكريم، فرد عليه أبو محمد بن حزم في كتاب سماه الرد على ابن نغريلة اليهودي. ومع هذا، كان ابن نغريلة مندمجاً تماماً في الحضارة العربية الإسلامية، فقلَّد أمراء عصره باجتذاب الشعراء وكوَّن لنفسه حاشية منهم، وكان من بينهم عدد من الشعراء المسلمين. وكان هو نفسه يقرض الشعر باللغتين العربية والعبرية وله عدة دواوين. وتتناول قصائده العبرية موضوعات شتى. وقد طعم الشعر العبري بفنون جديدة اقتبسها من الأدب العربي، كالشعر القصصي والخمريات والغزل ووصف المعارك ووصف الطبيعة والرثاء. كما طرق فنون الشعر العبري التقليدية مثل قصائد البيوط والأدعية. ولم يكن الشعر الذي كتبه ابن نغريلة بالعربية أو بالعبرية متميِّزاً. ومهما كانت طبيعة إنجازاته فلا يمكن تفسيرها إلا من خلال نموذج تفسيري يضعه في سياق الحضارة العربية الإسلامية.

رودريجــو لوبيـز (1525-1594(Rodrigo Lopez
طبيب برتغالي من يهود المارانو انتقل إلى لندن نحو عام 1559، وتَخلَّى عن الكاثوليكية التي اعتنقتها أسرته منذ ستين عاماً لينضم إلى الكنيسة البروتستانتية الإنجليزية ولكنه ظل على يهوديته في حياته الخاصة. اكتسب سمعة طيبة في مجال الطب نظراً لعبقريته الفائقة في هذا المجال، وأصبح واحداً من أهم أطباء لندن، ودخل في خدمة أحد النبلاء البريطانيين المقربين للملكة إليزابيث، ثم أصبح رئيس أطباء الملكة عام 1586. ويُقال إن لوبيز حصل على احتكار استيراد العديد من السلع، كما منحته الملكة سفينة ملأى بصكوك الغفران أصدرها البابا وكانت في طريقها إلى العالم الجديد لتباع هناك، واستولى عليها الأسطول البريطاني وهي في طريقها. ولعل الملكة منحته حمولة هذه السفينة لأنه يهودي له اتصالات كاثوليكية ومن ثم ليست هناك مشكلة أخلاقية ولا عملية في بيعه هذه السلعة شبه المقدَّسة. ومع هذا، لم ينجح لوبيز في تسويق سلعته.

ولم يقتصر نشاط لوبيز في بلاط الملكة على الطب، إذ اتضحت عبقريته أيضاً في مقدرته على تدبير الخطط والمؤامرات بالاشترك مع وزراء الملكة، وساعدته على ذلك شبكة علاقاته بأقاربه من يهود المارانو في انتورب وليجهورن وإستنبول. فانضم إلى الدائرة البيوريتانية في بلاط الملكة التي كانت تسعى للحرب مع إسبانيا الكاثوليكية، ونجح من خلال شبكة علاقاته في توفير معلومات ساعدت في هزيمة الأسطول الإسباني عام 1588. وقد كان صهره سليمان أبنايس من مؤيدي السياسة البريطانية داخل البلاط التركي، حيث كان يعمل مستشاراً للسلطان. وعمل لوبيز على حث إنجلترا على تأييد دوم أنتونيو المطالب بعرش البرتغال، وساهم في كسب دعم الملكة إليزابيث لخطة تقضي بغزو دوم أنتونيو للبرتغال عام 1589، وهي خطة انتهت بالفشل.

ورغم كل ذلك، يبدو أن لوبيز كانت له علاقة مشبوهة بالحكومة الإسبانية. فرغم أن هذه العلاقة تمت بمعرفة الحكومة البريطانية ولصالحها، إلا أنه تبيَّن فيما بعد أنها كانت علاقة ذات أبعاد مريبة وغامضة، أثارت الشكوك حول لوبيز، ويبدو أن هذه العلاقة بدأت مع تَوسُّط لوبيز للإفراج عن أحد عملاء إسبانيا في إنجلترا، والذي كان قد ألقي القبض عليه بعد أن حاول استدراج دوم أنتونيو وإيقاعه في أيدي الإسبان. ومن خلال هذا العميل أبلغ لوبيز الحكومة الإسبانية استعداده للتوسط بينها وبين إنجلترا في التفاوض من أجل السلام. وقد تمت هذه الخطوة على ما يبدو بعلم وزير الخارجية البريطاني بغرض الكشف عن خطط إسبانيا واستدراجها للتخلي عن حذرها. ومع ذلك، اتُخذَت هذه الواقعة فيما بعد دليلاً على تورط لوبيز مع إسبانيا وعمالته لها. وقد فَقَد لوبيز صداقته مع دوم أنتونيو نتيجة توسطه للإفراج عن العميل الإسباني بسبب الخلاف الذي ثار بين دوم أنتونيو وسليمان أبنايس صهر لوبيز، حيـث اتهـمه دوم أنتونيو بخـداع الحكومة البرتغالية والإثراء من ورائها. وقد نجح دوم أنتونيو في الإيقاع بين لوبيز وأحد النبلاء البريطانيين وهو إيرل أوف إسيكس Earl of Essex، وهو ما دفع هذا الأخير للبحث عن دلائل تؤكد عمالة لوبيز لإسبانيا. وبالفعل، نجح إيرل أوف إسيكس في إلقاء القبض على ثلاثة من البرتغاليين من عملاء إسبانيا، وقد تبيَّن من أقوالهم والخطابات التي وُجدت في حوزتهم أن لوبيز كانت له علاقة سرية بإسبانيا بل وكان عميلاً لها يُسرِّب لها المعلومات ويخطط لاغتيال دوم أنتونيو بالسم وإرغام وريثه على الخضوع لملك إسبانيا، وأنه كان يعمل على دفع إنجلترا باتجاه السلام مع إسبانيا.

وعند تقديم هذه الأدلة للحكومة البريطانية، لم تتخذ هذه الحكومة أية إجراءات ضد لوبيز، حيث إنها كانت على علم باتصالاته بإسبانيا للأغراض التي سبقت الإشارة إليها. وقد رفضت الملكة إليزابيث هذه الاتهامات. ولكن، في أعقاب ذلك، ظهرت دلائل جديدة تشـير إلى أن لوبيز كان يخطط لوضع السـم للملكة إليزابيث نفسها، فتم إلقاء القبض عليه. وقد أكد لوبيز في البداية أن علاقته بإسبانيا كانت بغرض الحصول على معلومات لصالح إنجلترا، ولكنه اعترف فيما بعد بأنه وعد بالفعل بوضع السم للملكة، ولكنه في واقع الأمر لم يكن ينوي الإقدام على ذلك. وبرغم أنه سحب هذا الاعتراف فيما بعد، إلا أنه كان كافياً للحكم عليه بالإعدام. وقد لُقِّب لوبيز طوال فترة محاكمته بـ «اليهودي الخسيس». والتمس لوبيز العفو عدة مرات لـدى الملكة إليزابيث، كما تَدخَّل لصالحه سـليمان أبنايس ولكن دون جدوى، ونُفِّذ فيه حكم الإعدام عام 1594. وقـد نالت قضية لوبيز اهتمـاماً جماهيرياً واسـعاً في إنجلترا، واتخذها بعض الأدباء مادة لأعمالهم، واتخذوا لوبيز نموذجاً لشخصيات روائية مثل مسرحية يهودي من مالطة لمارلو ومسرحية تاجر البندقية، التي يُقال إن شكسبير كتبها نتيجة هذه المحاكمة وأن شخصية المرابي شايلوك اقتُبست عن نموذج لوبيز.

وقد بيَّنت الوثائق التاريخية فيما بعد صحة جوانب كثيرة من الاتهامات الموجهة للوبيز، لكنها بيَّنت أيضاً عدم وجود دلائل قاطعة تؤيد تَورُّطه في مؤامرة لاغتيال الملكة إليزابيث.

ولوبيز مثل جيد على العبقرية التي يتداخل فيها الشر مع الخير، والإبداع البناء مع القدرة على التدمير (الإبداع التفكيكي). وهو شخصية مكيافيللية كاملة كانت توجد بكثرة في بداية عصر النهضة في الغرب، وقد تناولها أدباء العالم الغربي في أعمالهم الأدبية. ولا يمكن تفسير عبقرية لوبيز في الخير والشر بناء على يهوديته، وإن كان انتماؤه ليهود المارانو يُفسِّر بعض الجوانب الخاصة، مثل اتساع نطاق حركته وزيادة مقدراته بسبب شبكة الاتصالات الدولية المارانية ومعرفته بعدد كبير من اللغات.

جوزيـــف أوبنهايمـــر (1635-1703(
Joseph Oppenheimer
يُسمَّى أيضاً «يود سوس» أي «اليهودي سوس». وهو يهودي بلاط ومموِّل، وُلد في هايدلبرج (ألمانيا)، لممثل يهودي متجول كان يقوم أيضاً بجمع الضرائب، ويُشاع أنه كان الابن غير الشرعي لفارس ألماني. تلقى في طفولته تعليماً دينياً حتى أصبح حاخاماً، ولكنه آثر العمل في الأمور المالية. ولم يكن مكترثاً كثيراً باليهودية، إلا أنه لم يَتنصَّر على عكس أخويه.

ويبيِّن أسلوب حياته مدى عمق التغير الذي طرأ على حياة الجماعات اليهودية في أوربا، أو على الأقل على قيادتها، وهي تغيرات لا تعدو أن تكون صدى للتغيرات التي لحقت بالمجتمعات الغربية. فأوبنهايمر لم يمارس أياً من شعائر اليهودية، إذ كان ربوبياً أي يؤمن بالرب الذي يحل في الطبيعة دون أن يؤمن بأي دين، شأنه شأن الكثير من مثقفي عصر الاستنارة. وكان يحيا حياة كبار نبلاء أوربا إبَّـان عصر الملكيات المطلقة ويرتدي زي النبلاء المسيحيين. وكانت مكتبته مُكوَّنة من أعمال ألمانية في السياسة والتاريخ والقانون. وكان له منزل في كلٍّ من فرانكفورت وشتوتجارت على الطراز الأوربي، عُلِّقت على حوائطهما لوحات لرمبرانت وغيره من الفنانين الغربيين. وكان أوبنهايمر إنساناً حديثاً بمعنى الكلمة، طموحاً، يبغي أن يحقق حراكاً اجتماعياً سريعاً. وقد تقدَّم للإمبراطور بطلب الحصول على لقب النبيل، ولكن لم يُستجَب لطلبه. ويبدو أنه كان إنساناً جسمانياً لا يكف عن ملاحقة النساء، سواء كن من طبقة النبلاء أم من الخادمات. ورغم كل هذا، كان أوبنهايمر يتباهى بيهوديته، وهو ما يدل على أنه عرَّفها تعريفاً إثنياً خالياً من أي مضمون أخلاقي، وهو التعريف الذي قُدِّر له الشيوع في العالم الغربي الحديث.

عمل أوبنهايمر مع قريبه يهودي البلاط صموئيل أوبنهايمر، وجمع ثروة كبيرة إلى أن أصبح هو نفسه يهودي بلاط (وهي وظيفة تشبه وظيفة وزير المالية أساساً، ولكن يدخل ضمنها أيضاً الشئون الخارجية والمخابرات) حينما أصبح الدوق كارل ألكسندر حاكماً لدوقية ورتمبرج، وكان الدوق كاثوليكياً في حين كانت جماهير دوقيته لوثرية. وكان يود تطوير دوقيته على أسس مركنتالية تجارية ومطلقة، ولكنه كان، في ذات الوقت، يحيا حياة شخصية فاسدة، ولذا نشأت عنده حاجة ماسة إلى المال. ومن هنا كان دور أوبنهايمر الذي كان إنساناً اقتصادياً بمعنى الكلمة يود تعظيم الربح بالنسبة للدولة ولنفسه، وكان يُعدُّ عبقرية في اكتشاف مصادر جديدة للريع. وبعد أن قام الدوق بعزل كل مستشاريه، أصبح أوبنهايمر مستشاره الوحيد تقريباً فبذل قصارى جهده لتقوية قبضة الدولة على كل المصادر المالية عن طريق فرض ضرائب جديدة. كما احتكر بيع الملـح والجلـد والخمـور والتبغ، وأسَّـس مصـنعاً للخزف وآخر للحـرير، وأنشـأ داراً لصـك النقـود، وأقـام أول بنك في جنوب ألمانيا. ولم يتوان أوبنهايمر عن توظيف كل من المسيحيين واليهود لتحقـيق الربـح، فضغط على الكنيسة لتودع أموالها في البنك المركزي، الأمر الذي أثار حقد وغيظ الكنيسة ضده. وقد قام بتوطين جماعة من اليهود في ورتمبرج، وأوكل إليهم حق توريد المعدات الحربية وحقق من خلال ذلك أرباحاً كثيرة.

وقد تَسبَّب فساد الدوق في إفقار جماهير دوقيته وتزايد السخط ضده. وحينما مات الدوق، ألقي القبض في اليوم نفسه على أوبنهايمر الذي دافع عن نفسه بقوله إنه لم يفعل شيئاً دون أمر الدوق، ولكن المحكمة حكمت بإعدامه شنقاً. وقد كُتبت عدة روايات عن حياته. ويشير النازيون في دعايتهم إلى أوبنهايمر باعتباره نموذج المموِّل اليهودي العبقري، ولكن عبقريته من النوع الإجرامي فهو يستغل المسيحيين وينهب أموال الدولة ويُفسد الإناث من جميع الطبقات.

وموقف النازيين من اليهود لا يختلف كثيراً عن موقف الصهاينة. فكلاهما ينزع العبقرية اليهودية من سياقها ويؤكد البُعد اليهودي على حساب كل الأبعاد الأخرى. فلا يمكن فهم أوبنهايمر باعتباره يهودياً خالصاً يُعبِّر عن جوهر يهودي، وإنما باعتباره نموذجاً لإنسان العصر الحديث الذي بدأت تتحدد ملامحه منذ عصر النهضة الغربية. فأوبنهايمر ربوبي، يضع نفسه خارج أية منظومة دينية، ولكننا نكتشف أنه ليس ربوبياً وحسب بل كان إنساناً طبيعياً يضع نفسه خارج أية منظومة أخلاقية. فقد كان أوبنهايمر إنساناً اقتصادياً حقيقياً يحاول تعظيم الربح، وإنساناً جسمانياً يحاول تعظيم اللذة، وهو في هذا ليس نموذجاً فريداً على الإطلاق، وإنما شخصية نماذجية: إنسان طبيعي لا تحده حدود أو قيود يعيش حسب قوانين الطبيعة/المادة.

أما يهوديته التي كان يتباهى بها فإنها لم تحدد سلوكه الإجرامي ولا عبقريته المالية، فهو ابن عصره، أداة في يد الدوق/الدولة، لا يختلف في هذا عن أيخمان وبريا وغيرهما من جزاري العصر الحديث البيروقراطيين، الذين يذبحون بمنهجية شديدة وحسبما يَصدُر لهم من تعليمات لا يتجاوزونها.


__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59