عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 04-08-2013, 01:00 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

- الموعد في جنات النعيم
ذكر المبرّد عن أبي كامل عن إسحاق بن إبراهيم عن رجاء بن عمرو النخعي قال: كان بالكوفة فتى جميل الوجه شديد التعبد والاجتهاد فنزل في جوار قوم من النخع، فنظر إلى جارية منهن جميلة فهويها وهام بها عقله، ونزل بالجالية ما نزل به، فأرسل يخطبها من أبيها فأبخره أبوها أنها مسماة لابن عم لها، فلما اشتد عليهما ما يقاسيانه من ألم الهوى أرسلت إليه الجارية: قد بلغني شدة محبتك لي وقد اشتد بلائي بك، فإن شئت زرتك، وإن شئت سهلت لك أن تأتيني إلى منزلي، فقال للرسول: ولا واحدة من هاتين الخلتين ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: 15]، أخاف نارًا لا يخبو سعيرها، ولا يخمد لهيبها. فلما أبلغها الرسولُ قولَه قالت: وأراه مع هذا يخاف الله؟ والله ما أحد أحق بهذا من أحد، وإن العباد فيه لمشتركون، ثم انخلعت من الدنيا، وألقت علائقها خلف ظهرها وجعلت تتعبد، وهي مع ذلك تذوب وتنحل حبًا للفتى وشوقًا إليه حتى ماتت من ذلك، فكان الفتى يأتي قبرها فيبكي عنده ويدعو لها، فغلبته عينه ذات يوم على قبرها فرآها في منامه في أحسن منظر فقال: كيف أنت وما لقيت بعدي؟
قالت:
نعم المحبة يا سُؤلي محبتكم




حب يقود إلى خير وإحسان





فقال: على ذلك إلام صرت؟ فقالت:
إلى نعيم وعيش لا زوال له




في جنة الخلد ملك ليس بالفاني





فقال لها: اذكريني هناك؛ فإني لست أنساك. فقالت: ولا أنا والله أنساك، ولقد سألت مولاي ومولاك أن يجمع بيننا فأعنِّي على ذلك بالاجتهاد. فقال لها: متى أراك؟ فقالت: ستأتينا عن قريب فترانا. فلم يعش الفتى بعد الرؤيا إلا سبع ليال حتى مات رحمه الله تعالى.
31- الصفقة الرابحة
الصحابةُ- رضوان الله عليهم- قَدَّمُوا البذلَ والتَّضْحية والفداء من أجل هذا الدِّين العظيم، فكانوا نعم الأنصار له، وخير المجاهدين في سبيله، حين استلهموا الإسلام واقعًا يطبقونه في السلوك وشعورًا يحسونه في الضمير، فأخلصوا له حق الإخلاص، وفدوه بكل عال ونفيس؛ فقد دعاهم إلى الهجرة فانطلقوا سراعًا وتركوا مكة وفي قلوبهم حنين، وفي نفوسهم لوعة، مؤثرين العقيدة على مواقع الصبا ومرابع الطفولة، ومواطن الذكريات والحنين، ودعاهم داعي الجهاد فكانوا الفرسان الأشاوس الذين يرتاع منهم الروع، وهاجروا إلى الله ورسوله مسجلين أخلد الأمثلة الرائعة في مجال الفداء والتضحية والإيمان العميق الحق، ولنستمع إلى هذه القصة:
لما أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم وتبعه نفر من قريش وقالوا له: أتيتنا صعلوكًا ثم أصبت بين أظهرنا المال، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج أنت ومالك! والله لا يكون ذلك. فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، افعلوا ما شئتم. ثم قال صهيب: أرأيت إن جعلت لكم مالي، أَتُخَلِّون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فخلع لهم ماله، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال: «ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى». ونزلت: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة: 207] ([1]) .
32- الرأي والصرف مجانًا
بينما رجل يمشي في الصحراء إذا به يسمع صوتًا من السماء: اسق حديقة فلان. فتنحي ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرّة ([2]) ، فإذا شرجة ([3]) من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان. للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله! لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان، لاسمك! فما تصنع فيها؟ قال: أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأَرُدُّ فيها ثلثه. وفي رواية: وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل([4]) .
وهكذا أيها المسلم، من ترك رذيلة البخل والشح عوِّض خيرًا كثيرًا.

33- درس في الإيثار
ذكر عن الواقدي أنه قال: أضقت إضاقة شديدة وهجم شهر رمضان، وأنا بغير نفقة، فضاق ذرعي بذلك، فكتبتُ إلى صديق لي علوي، أسأله أن يقرضني ألف درهم، فبعث إليَّ بها في كيس مختوم فتركتها عندي، فلما كان عشي ذلك اليوم، وردت علي رقعة صديق لي يسألني إسعافه لنفقة شهر رمضان بألف درهم، فوجهت إليه بالكيس بخاتمه، فلما كان في الغد جاءني صديقي الذي اقترض مني، والعلوي الذي اقترضت منه، فسألني العلوي عن خبر الدراهم فقلت: صرفتها في مهم.
فأخرج الكيس بختمه وضحك وقال: والله قد قرب هذا الشهر، وما عندي إلا هذه الدراهم، فلما كتبت إليَّ، وجهت بها إليك، وكتبت إلى صديقنا هذا أقترض منه ألف درهم، فوجه إليَّ بالكيس فسألته عن القصة فشرحها، وقد جئناك لنقتسمها وإلى أن ننفقها يأتي الله بالفرج.
قال الواقدي: فقلت لهما: لست أدري أيّنا أكرم، فقسمناها ودخل شهر رمضان، فأنفقت أكثر ما حصل منها وضاق صدري وجعلت أفكر في أمري، فبينما أنا كذلك إذ بعث إليَّ يحيى بن خالد البرمكي في سحرة يوم فصرت إليه، فقال: يا واقدي، رأيتك البارحة فيما يرى النائم، وأنت على حال دلتني على أنك في غمٍّ شديد وأذى، فاشرح لي أمرك. فشرحته، إلى أن بلغت حديث العلوي وصديقي والألف درهم، فقال: ما أدري أيكم أكرم. وَأَمَرَ لي بثلاثين ألف درهم، ولهما بعشرين، وقَلَّدَني القضاء([5]) .
34- أعطَى درهمًا فوهب الله له مائة وعشرين ألفًا
عن الفضيل بن عياض([6]) قال: حدثني رجل أن رجلاً خرج بغزل، فباعه بدرهم ليشتري به دقيقًا، فَمَرَّ على رجلين، كلُّ واحد منهم آخذٌ برأس صاحبه، فقال: ما هذا؟ فقيل: يقتتلان في درهم. فأعطاهما ذلك الدرهم، وليس له شيء غيره، فأتى إلى امرأته فأخبرها بما جرى له فجمعت له أشياء من البيت فذهب لبيعها فكسدت عليه، فمر على رجل ومعه سمكة قد أروحت ([7]) .
فقال له: إن معك شيئًا قد كسد، ومعي شيء قد كسد، فهل لك أن تبيعني هذا بهذا؟ فباعه، وجاء الرجل بالسمكة إلى البيت، وقال لزوجته: قومي فأصلحي أمر هذه السمكة؛ فقد هلكنا من الجوع. فقامت المرأة تصلحها، فشقت جوف السمكة فإذا هي بلؤلؤة قد خرجت من جوفها. فقالت المرأة: يا سيدي قد خرج من جوف السمكة شيء أصغر من بيض الدجاج وهو يقارب بيض الحمام.
فقال: أريني. فنظر إلى شيء ما رأى في عمره مثله، فطار عقله، وحار لُبُّه، فقال لزوجته: هذه أظنُّها لؤلؤة. فقالت: أتعرف قدر اللؤلؤ؟ قال: لا، ولكني أعرف من يعرف ذلك. ثم أخذها وانطلق بها إلى أصحاب اللؤلؤ إلى صديق له جوهري فسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام وجلس إلى جانبه يتحدث وأخرج تلك البيضة وقال: انظر كم قيمة هذه. قال: فنظر زمانًا طويلا، ثم قال: لك بها عليَّ أربعون ألفًا، فإن شئت أقبضتك المال الساعة، وإن طلبت الزيادة فاذهب بها إلى فلان، فإنه أثمن بها لك مني.
فذهب بها إليه فنظر إليها واستحسنها وقال: لك بها عليَّ ثمانون ألفًا، وإن شئت الزيادة فاذهب بها إلى فلان؛ فإنِّي أراه أثمن بها لك مني. فذهب بها إليه، فقال: لك بها عليَّ مائة وعشرون ألفًا، ولا أرى أحدًا يزيدك فوق ذلك شيئًا. فقال: نعم، فوزن له المال، فحمل الرجل في ذلك اليوم اثنتي عشرة بدرة، في كل بدرة عشرة آلاف درهم، فذهب بها إلى منزله ليضعها فيه، فإذا فقير واقف بالباب يسأل، فقال: هذه قصتي التي كنت عليها أدخل. فدخل الرجل فقال: خذ نصف هذا المال، فأخذ الرجل الفقير ست بدر فحملها ثم تباعد غير بعيد ورجع إليه وقال: ما أنا بمسكين ولا فقير؛ وإنما أرسلني إليك ربك عز وجل الذي أعطاك بالدرهم عشرين قيراطًا؛ فهذا الذي أعطاك قيراطاً منه وذخر لك تسعة عشر قيراطًا ([8]) .
35- جزاء الطاعة
عن حميد بن هلال عن رجل قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يريني بيتًا فقال: إن امرأة كانت فيه فخرجت في سرية من المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عنزًا وصيصيتها كانت تنسج بها، قال: ففقدت عنزًا من غنمًا وصيصيتها، فقالت: يا رب، إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه، وإني قد فقدت عنزًا من غنمي وصيصيتها وإني أنشدك عنزي وصيصيتي، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شدة مناشدتها ربها تبارك وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأصبحت عنزها ومثلها، وصيصيتها ومثلها، وهاتيك فائتها». قال: فقلت: بل أصدقك ([9]) .
36- جزاء الصبر
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سلمة، فقالت لأهلها لا تحدثوا أبا طلحة حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب، قال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوا؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: تركتيني حتى تلطخت ثم أخبرتيني بابني مني، فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما». قال: فحملت فولدت غلامًا، فقال لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم. وبعثت به بتمرات، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أمعه شيء؟» قالوا: نعم، تمرات. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها ثم أخذها من فيه فجعلها في فيّ الصبي، ثم حنَّكه وسماه عبد الله.. خرَّجاه في الصَّحيحين ([10]) .
وفي رواية البخاري قال سفيان بن عيينة: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهم تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن. يعني من أولاد عبد الله الذي ولد من جماع تلك الليلة التي مات فيها الولد المذكور؛ وهو أبو عمير الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يداعبه ويقول: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟»
وفي رواية ([11]) : قال: فحملت بابن له فسمَّاه عبد الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل صبارة بني إسرائيل». فقيل: يا رسول الله، وما كان خبرها؟ فقال: «كان في بني إسرائيل امرأة وكان لها زوج وكان لها منه غلامان، وكان زوجها أمرها بطعام تصنعه ليدعو الناس عليه ففعلت واجتمع الناس في داره، فانطلق الغلامان يلعبان فوقعا في بئر كانت في الدار، فكرهت أن تُنَغِّصَ على زوجها الضيافةَ، فَأَدْخَلَتْهُما البيت وسجتهما بثوب، فلما فرغوا دخل زوجها فقال: أين أبنائي؟ قالت: هما في البيت، وإنها كانت تمسحت بشيء من الطيب وتعرضت بالرجل حتى وقع عليها، ثم قال: أين أبنائي؟ قالت: هما في البيت. فناداهما أبوهما فخرجا يسعيان فقالت المرأة: سبحان الله، والله لقد كانا ميتين، ولكن الله تعالى أحياهما ثوابًا لصبري».
37- السخاء نقاء
عن رجل من قريش، قال: حج محمد بن المنكدر([12]) من بني تيم بن مرة، قال: وكان معطاء فأعطى حتى بقي في إزار واحد وحج معه أصحابه، فلما نزل الروحاء أتاه وكيله، فقال: ما معنا نفقة وما بقي معنا درهم، فرفع محمد صوته بالتلبية فلبي ولبى أصحابه ولبى الناس وبالماء محمد بن هشام ([13]) . فقال: والله إني لأظن أن محمد بن المنكدر بالماء فانظروا، فنظروا وأتوه فقالوا: هو بالماء . فقال: ما أظن معه درهماً، احملوا إليه أربعة آلاف درهم.
38- الانتقال من المحنة إلى المنحة بسبب الصدق
عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك- وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك، قال كعب لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها.
كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، وعدوًا كثيرًا، فجلى للمسلمين بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان- قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفي له، ما لم ينزل فيه وحي الله.
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع، ولم أقض شيئاً فأقول في نفسي: أنا قادر عليه. فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئًا ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئًا فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيه أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصًا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك، فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له- وكانوا بضعة وثمانين رجلا- فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلمت عليه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب ثم قال: تعال. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خَلَّفَك؟ ألم تكن قد اتبعت ظهرك؟ فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك». فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي. ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا رجلين قد شهدا بدرًا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما ردّ السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت. فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتابًا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالْحَقْ بنا نواسك، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه.
فقلت: والله لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صاروخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال فخررت ساجدًا وعرفت أن قد جاء فرج، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسًا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما يبشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنوني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك. قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك». قال: قلتُ أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك»، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخير. فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت. وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ... إلى قوله: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 117].
فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط- بعد أن هداني للإسلام- أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا؛ فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد؛ فقال تبارك وتعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 95] قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك؛ قال الله: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس الذي ذكر الله ما خلفنا عن الغزوة؛ إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه([14]) .

([1])رواه أحمد في فضائل الصحابة (2/828) وعبد الرزاق في المصنف (11/52) بنحوه وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم وانظر الإصابة (2/195) الحلية (1/150).

([2])الحرة أرض بها حجارة سود كثير

([3])شرجة وجمعها شراج وهي مسايل الماء.

([4])رواه مسلم (4/2288) (2984) وأحمد (2/269).

([5])انظر الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي (2/332).

([6])أبو علي الفضيل بن عياض التميمي (105-187) شيخ الحرم المكي من أكابر العباد الصلحاء ولد بسمرقند وتوفي بمكة (الأعلام 5/360).

([7])تغيرت رائحته؛ أي أنتن.

([8])الفرج بعد الشدة (3/238) ونشرت الصحف أن امرأة وجدت في جوف سمكة لؤلؤة فباعتها بأربع مائة دينار كويتي، وكانت تمر بضائقة مالية شديدة.. واشتدي أزمة تنفرجي.. انظر كتابنا «الفرج بعد الشدة والضيقة».

([9])رواه أحمد في المسند.

([10])البخاري (9/587) في العقيقة ومسلم (2144).

([11])هذه الرواية ذكرها طاهر بن محمد الحداد في كتابه: عيون المجالس عن معاوية بن قرة، وانظر برد الأكباد (25).

([12])هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن عبد العزي القرشي التيمي (54-130) من أهل المدينة محدث زاهد الأعلام (7/333).

([13])ابن إسماعيل المخزومي، ولاه هشام بن عبد الملك إمرة مكة والطائف سنة (114) ولما ولي الوليد بن يزيد الخلافة عزله واعتقله، الأعلام (7/355).

([14])رواه البخاري (8/113) كتاب المغازي باب حديث كعب بن مالك.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59