الموضوع: نبـي الـرحمة
عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 01-30-2012, 12:45 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

المطلب الثالث : نماذج رحمته للعبيد :
إن المتأمل في التوجيهات النبوية يجدها تشي بالجهد الجهيد الذي بذله نبي الإنسانية في سبيل تحسين أوضاع العبيد والإماء ويعرف بحق كيف كانت مكرمة العبيد في الإسلام. وهذه بعض التوجيهات النبوية التي نذكر بعضًا منها على سبيل المثال لا الحصر.
أولاً : وصيته r بالعبيد والإماء :
كان آخر كلمات النبي r وهو يجود بروحه الشريفة، وقد حضره الموت، الوصية بالعبيد والإماء.. فعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان آخر كلام رسول الله r: "الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم"[1] !
إنه يوصي بالعبيد، وهو في سكرات الموت! فهو الذي احتضنهم حيًّا، وأوصى بهم بعد مماته خيرًا، فكان خير معلم لهم وخير أب وخير محرر .
ثانيًا: تحذيره r من إيذاء العبيد والإماء:
فكان يغضب أشد الغضب من ضرب العبيد أو إيذائهم، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: كنت أضرب غلامًا لي؛ فسمعتُ مِنْ خَلْفِي صوتًا: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ.. لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ"! فالتفتُ فإذا هو النبي! فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله تعالى. قَالَ: "أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَعَتْكَ النَّارُ أَوْلَمَسَّتْكَ النَّارُ"[2] .
كذا كان رسول الله يربي تلاميذه، ويفقه شعبه، على احترام آدمية الناس، وخاصة الضعفاء منهم والعبيد والخدم والأجراء.
ويمتد هذا النداء الأبوي إلى حكام المسلمين في كل زمان ومكان؛ فيلزمهم بحماية العبيد من التعذيب أو الاضطهاد، فضلاً عن السعي الجاد لتحريرهم.
ثالثًا: أمره r بالإحسان إلى العبيد
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألطف الناس بالعبيد، وأرفق الناس بالإماء، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله من أشد الناس لطفًا! والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا من أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه!! وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه[3] .
وعن المعرور قال : لقيت أبا ذر بالربدة، وعليه حلة وعلى غلامه حله [يعني من نفس الثوب ]فسألته عن ذلك . فقال : إني ساببت رجلاً، فعيرته بأمه[قال لبلال : يابن السوداء ]فقال لي النبي r: "يا أبا ذر ! أعيرته بأمه ! ؟ إنك امروء فيك جاهلية ! إخوانكم خولكم [العبيد والإماء والخدم والأسرى هم إخوانكم في الدين والإنسانية]، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده: فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم "[4] .

فحرم السخرية من العبيد أو الاستهزاء بألوانهم أو أنسابهم، كما حرم إجهاد العبد في الخدمة، وأوجب مساعدته إذا كُلّف ما يغلبه.. وحذر الفقهاء من استعمال العبيد على الدوام ليل نهار، فقالوا: إذا استعمل السيدُ العبدَ نهارًا أراحه ليلاً، وكذا بالعكس، وقالوا: يريحه بالصّيف في وقت القيلولة، ويمنحه قسطه من النّوم، وفرصة للصّلاة المفروضة. وإذا سافر به يجب عليه أن يحمله معه على الدابة أو يتعاقبان على البعير ونحوه.
بل قالوا: "إن كان العبد ذمّيًّا فقد ذكر بعض الفقهاء أنه لا يمنع من إتيان الكنيسة، أو شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير؛ لأن ذلك دينه، نقله البنانيّ عن قول مالكٍ في المدوّنة"[5]
وتأمل معي قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن عيّر العبد: "إنك امرؤ فيك جاهلية".. دلالة على أن صفة من يهينون العبيد ويؤذونهم بالقول أو الفعل، فوصفهم بالجهل، وربطهم بعصور الجاهلية، وعهود التخلف.
رابعًا: التعاون في تحرير العبيد :
شغل الرقُ سلمانَ الفارسي حينًا من الزمن .. فقد كان مولى عند أحد الوجهاء، حتي فات سلمان عدد من المشاهد مع الرسول الكريم r، منها بدر وأحد.
فذهب إلى النبيr
فأشار عليه النبي r أن يكاتب سيده، فكاتبه علي ثلاثمائة نخلة يغرسها له وأربعين أوقية من ذهب.
وشارك المسلمون في أداء هذا الدين عن سلمان، فأحضروا له النخل وحفروا معه أماكنها وقدم رسول الله r ووضعه بيده الشريفة وعُتق سلمان.
وكانت أول مشاهده غزوة الأحزاب، وكان هو صاحب فكرة إنشاء خندق عظيم حول المدينة لتحصينها من الغزاة .. ولما نجحت الفكرة، زاد تقدير الناس لسلمان نظرًا لرجاحة عقله، وجهده في خدمة دولة الإسلام بفكرة الخندق، فقال الأنصار : سلمان منا ! وقال المهاجرون: سلمان منا !
فقال النبيr : "سلمان منا أهل البيت !!"[6].
وهكذا ارتفع شأن العبيد في دولة الإسلام بجهدهم وخدمتهم للمجتمع، ولم تكن عبوديتهم أيما يوم من الأيام تشينهم بين إخوانهم المسلمين.وفي ذلك أيضًا النموذج العملي الذي حشد فيه النبي r جهود شعبه من أجل تحرير عبد. وهو بذلك يلزم المجتمع بضرورة تضافر الجهود الشعبية لفك الإنسان من الرق .

خامسًا: سن قاعدة : "كفارة ضرب العبد عتقه":
شرع الإسلام منفذًا لتحرير العبيد عن طريق سن قاعدة "كفارة ضرب العبد عتقه" والذي لم يكن موجودًا أيام الجاهلية، فمنح حق الحرية للعبد إذا ضربه سيده.
فعن أبي صالح ذَكْوَانَ عن زَاذَانَ قال: أتيتُ ابن عمر، وقد أعتق مملوكًا له، فأخذ من الأرض عودًا أو شيئًا، فقال: مالي فيه من الأجر مَا يَسْوَى هذا.. سمعتُ رسول الله r يقول: "مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أو ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ"[7].
سادسًا: كفالة الدولة الإسلامية للعبد المعاق أو المريض:
فلقد كان لِزِنْبَاعٍ أبو روح رضي الله عنه -أحد الصحابة- عَبْدٌ يُسَمَّى سَنْدَرَ بْنَ سَنْدَرٍ، فوجده يقبل جارية له، فقطع ذَكَرَهُ وَجَدَعَ أَنْفَهُ، فأَتَى الْعَبْدُ النبي r فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزنباع: "مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت؟" قَالَ: فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فذكر له ما فعل بالجارية!.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعبد: "اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ" فقال العبد: يا رسول الله فمولى من أنا؟ فقال: "مولى الله ورسوله".. فأوصى به المسلمين؛ فلما قُبض جاء العبد إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: وصية رسول الله r ، فقال: نعم، تجري عليك النفقة وعلى عيالك، فأجراها عليه حتى قبض.. فلما استخلف عمر رضي الله عنه جاءه فقال: وصية رسول الله r قال: نعم، أين تريد؟ قال: مصر، قال: فكتب عمر إلى صاحب مصر أن يعطيه أرضًا يأكل منها"[8] .
فالدولة -في الشرع الإسلامي- تكفل أصحاب الإعاقات من العبيد، -كما رأيت- كالمواطنين الأحرار، وقرر لهم الراتب المالي الدوري الذي يغنيهم عن التسول أو سؤال الناس.
المطلب الرابع: تحريم الاتجار بالبشر
ومن دلائل مكافحة الاسترقاق في الشرع الإسلامي، تحريمه لكافة صور ومظاهر الاتجار بالبشر، وخاصة النساء والأطفال الأحرار.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: "قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ"[9]
فجعل الاتجار بالبشر من أبواب الخيانة والغدر والظلم، والله عز وجل خصم لجميع الغادرين إلا أنه أراد التشديد على هذه الأصناف الثلاثة، فقد ارتكبوا جرمًا شنيعًا يتعلق بحقوق الإنسان، فأحدهم غدر بأخيه الإنسان، فعاهده عهدًا وحلف عليه بالله ثم نقضه، والثاني باع أخاه الإنسان الحر، والثالث أكل مال أخيه الإنسان الأجير، وهو داخل في إثم المتاجرة بالبشر كالثاني؛ لأنه استخدمه بغير حق، وخالف الأمر النبوي: "أَعْطِ الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"[10]
وجريمة الاتجار بالبشر -التي حرمها الشرع الإسلامي الفضيل- تتسربل بصور عديدة مارستها المجتمعات الجاهلية في القديم والحديث.. فمارستها قبائل العرب ودول الفرس والرومان قبل بعثة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقطعون الطرق على الأحرار، فيسرقون أموالهم ويبيعونهم في أسواق النخاسة على أنهم عبيد.. وفي العصر الحديث مارس الأمريكان هذا السلوك الجاهلي مع الزنوج، فخصصوا الهيئات التي تبيع وتشتري فيهم، وهم أحرار، ومارسوا أبشع صور التمييز العنصري في حقهم. إضافة إلى ظهور جماعات المتاجرة بالأطفال والنساء؛ لغرض الاستغلال الجنسي التجاري، ناهيك عن استغلال هذه الجماعات للكوارث الطبيعية والحروب لممارسة نشاطها، وخير شاهد ما حدث في كارثة تسونامي وما أعلنته الصحف عن أرقام مفزعة للنساء والأطفال الذين تم الاتجار بهم في ظل هذه الكارثية الإنسانية، الأمر نفسه حدث مع ضحايا الشعب المسلم في البوسنة والهرسك بعد ما أعمل فيه الجيش الصربي الذبح، فتم بيع آلاف الفتيات والأطفال على مرأى ومسمع من العالم (المتحضر).. وتحولت البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية إلى مراكز كبرى للاتجار بالبشر من جانب العصابات المنظمة التي تحصد سنويًّا ما بين 8 و10 مليارات دولار من الاتجار بالأطفال والنساء، وذلك وفقًا لإحصائيات وزارة العدل الأمريكية... بيد أن الشرع الإسلامي الكريم حرّم بيع الأحرار، وناهض تجارة البشر بالبشر، وحرم إكراه الفتيات على ممارسة البغاء فقال الشارع الحكيم: "وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33].
إلى جانب أن جريمة الاتجار بالبشر تنتهك حق الإنسان في الحرية، وتنتهك حقوق الأطفال والنساء في العيش في بيئة آمنة صالحة، فهي تنزعهم من أسرهم ومن بين آبائهم وأمهاتهم إلى جحيم الاستغلال الجنسي والسخرة والتعذيب النفسي والجسدي.. وكلها مظاهر حرمها الإسلام وحاربها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
هكذا كان المنهج النبوي في التعامل مع مظاهر الاسترقاق والاتجار بالبشر؛ ليسجل أمام الله تعالى ثم التاريخ أن النظام الإسلامي هو أول نظام في تاريخ البشرية ناهض الاسترقاق وحارب المتاجرة بالبشر
المطلب الخامس – رفقه وعطفه على الخدم
أولاً: سلوكه r مع خادمه :
خادمه أنس t يحدثنا عن رحمته وشفقته r بالخدم..
وإن شهادة الخادم عن سيده لصادقة، وخاصة من رجل كأنس الذي خدمه تسع سنين، ونقل عنه إلى الأُمة آلاف الأحاديث، وكان معه كظله..
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ rأَحْسَنَ النّاسِ خُلُقاً. فَأَرْسَلَنِي يَوْماً لِحَاجَةٍ.
فَقُلْتُ: وَاللّهِ لاَ أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيّ اللّهِ r، فَخَرَجْتُ حَتّىَ أَمُرّ عَلَىَ صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ r قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ:" يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟" قُلْتُ: نَعَمْ ! أَنَا أَذْهَب يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ أَنَسٌ: وَاللّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلاّ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا [11]..
وإذا لام أحدٌ الخادم لتقصيره في خدمة سيدنا محمدr ، قال r : "دعوه ! فلو قُدر أن يكون كان!"[12].
ثانيًا: حثه على العفو عن الخادم :
كان سيدنا محمد r يوصي أصحابه بالعفو عن الخدم ..فعن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي rفقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت. فلما كان في الثالثة قال: "اعفوا عنه في كلِّ يومٍ سبعين مرَّةً "[13].
ثالثًا: توبيخه مَنْ ضرب الخادم:
كان لدى بني مقرّن خادمة، فلطمها أحدهم، فجاءت تشتكي إلى رسول الله rباكية، فاستدعى الرسول rمالكها قائلاً له: "أَعتِقوها"، فقالوا: ليس لهم خادم غيرها. قال: "فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها، فليخلّوا سبيلها[14] .
وعن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما ولا امرأة قط[15]
رابعًا: ترغيبه rفي إطعام الخادم :
فعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: " مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ زَوْجَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ"[16].
خامسًا: نهيه عن الدعاء على الخادم :
فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ"[17].

المبحث الثالث
رحمته بذوي الاحتياجات الخاصة

أخيرًا ًًالتفت العالم المتحضر في هذا القرن إلى ذوي الاحتياجات الخاصة !! بعدما نحى جانبًا نظريات عنصرية، فاسدة، تدعو إلى إهمالهم ، بزعم أن هؤلاء – أمثال الصم والبكم والعمي والمعاقين ذهنيًا– لا فائدة منهم ترتجى للمجتمع .. ولقد قدرت منظمة العمل الدولية في تقرير لها عام (2000م ) عدد ذوي الاحتياجات الخاصة بأكثر من (610) مليون نسمة ، منهم (400) مليون نسمة في الدول النامية، وفي تقرير للبنك الدولي، تمثل هذه الفئة 15 % تقريبًا من نسبة السكان في كل دولة من دول العالم .

المطلب الأول : الفئات الخاصة في المجتمعات الجاهلية:
وإذا نظرنا – سريعًا- إلى تاريخ الغرب مع ذوي الاحتياجات الخاصة، نجد مجتمعات أوربا القديمة، كروما وإسبرطا شهدت إهمالاً وإضهادًا صارخًا لهذه الفئة من البشر، فلقد كانت هذه المجتمعات – حكامًا وشعوبًا – تقضي بإهمال أصحاب الإعاقات، وإعدام الأطفال المعاقين عقب ولادتهم، أو تركهم في الصحراء طعاماً للسباع والطيور..
وكانت المعتقدات الخاطئة والخرافات هي السبب الرئيسي في هذه الانتكاسة، فكانوا يعتقدون أن المعاقين عقليًّا هم أفراد تقمصتهم الشياطين والأرواح الشــريرة. وتبنّى الفلاسفة والعلماء الغربيون هذه الخرافات، فكانت قوانين (ليكورجوس) الإسبرطي و(سولون) الأثيني تسمح بالتخلص ممن بهم إعاقة تمنعه عن العمل والحرب، وجاء الفيلسوف الشهير (أفلاطون) وأعلن أن ذوي الاحتياجات الخاصة فئة خبيثة وتشكل عبئًا على المجتمع، وتضر بفكرة الجمهورية.. أما (هيربرت سبنسر) فقد طالب المجتمع بمنع شتى صور المساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة، بزعم أن هذه الفئة تثقل كاهل المجتمع بكثير من الأعباء دون فائدة.
بيد أن العرب -وإن كانوا يقتلون البنات خشية العار- كانوا أخف وطأة وأكثر شفقة على أهل البلوى والزمنى، وإن كانوا يتعففون عن مؤاكلة ذوي الاحتياجات الخاصة أو الجلوس معهم على مائدة طعام.
وفي الوقت الذي تخبط فيه العالم بين نظريات نادت بإعدام المتخلفين عقليًّا وأخرى نادت باستعمالهم في أعمال السخرة اهتدى الشرق والغرب أخيرًا إلى "فكرة" الرعاية المتكاملة لذوي الاحتياجات الخاصة.. في ظل هذا كله نرى رسولنا المربي المعلم صلى الله عليه وسلم كيف كانت رحمته لهذه الفئة من بني البشر، وهذا غيض من فيض رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة.

المطلب الثاني : رعاية النبي r لذوي الاحتياجات الخاصة:
فعن أنس أن امرأة كان في عقلها شيىء ، فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ! فَقَالَ: فَقَالَ: " يَا أُمّ فُلاَنٍ! انظري أَيّ السّكَكِ شِئْتِ، حَتّىَ أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ " فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطّرُقِ، حَتّىَ فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا[18].
وهذا من حلمه وتواضعه r وصبره على قضاء حوائج ذوي الاحتياجات الخاصة..
وفي هذا أيضاً : " بيان بروزه r للناس وقربه منهم ليصل أهل الحقوق إلى حقوقهم ويرشد مسترشدهم ليشاهدوا أفعاله وحركاته فيقتدي بها وهكذا ينبغي لولاة الأمور وفيها صبره r على المشقة في نفسه لمصلحة المسلمين واجابته من سأله حاجة"[19].

وفي هذا دلالة شرعية على وجوب تكفل الحاكم برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، صحيًا واجتماعيًا، واقتصاديًا، ونفسيًا، والعمل على قضاء حوائجهم، وسد احتياجاتهم .
ومن صور هذه الرعاية لذوي الاحتياجات الخاصة :
-توفير الحياة الكريمة لهم
- العلاج والكشف الدوري لهم
- تأهيلهم وتعليمهم بالقدر الذي تسمح به قدراتهم ومستوياتهم
- توظيف مَن يقوم على رعايتهم وخدمتهم .
ولقد استجاب الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز – رضي الله عنه – ، لهذا المنهج النبوي السمح، فأصدر قرارًا إلى الولايات:
"أن ارفعوا إلىَّ كُلَّ أعمى في الديوان أو مُقعَد أو مَن به فالج أو مَن به زمانةتحول بينه وبين القيام إلى الصلاة. فرفعوا إليه " وأمر لكل كفيف بموظف يقوده ويرعاه ، وأمر لكلاثنين من الزمنى – من ذوي الاحتياجات – بخادمٍ يخدمه ويرعاه[20] .
وعلى نفس الدرب سار الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك – رحمه الله تعالى -، فهو صاحب فكرة إنشاء معاهد أو مراكز رعاية – لذوي الاحتياجات الخاصة ، فأنشأ [عام 707م- 88 هـ]مؤسسة متخصصة في رعايتهم، وظّف فيها الأطباء والخدام وأجرى لهم الرواتب، ومنح راتبًا دوريًا لذوي الاحتياجات الخاصة ، وقال لهم : " لا تسألوا الناس " ، وبذلك أغناهم عن سؤال الناس ، وعين موظفًا لخدمة كل مقعد أو كسيح أو ضرير[21].

المطلب الثالث: الأولوية لهم في الرعاية وقضاء احتياجاتهم:

وإذا كان الإسلام قد قرر الرعاية الكاملة لذوي الاحتياجات الخاصة، والعمل على قضاء حوائجهم، فقد قرر أيضًا أولوية هذه الفئة في التمتع بكافة هذه الحقوق، فقضاء حوائجهم مقدم على قضاء حوائج الأصحاء، ورعايتهم مقدمة على رعاية الإكفاء ، ففي حادثة مشهورة أن سيدنا محمد r عبس في وجه رجل أعمى – هو الصحابي الفاضل عبد الله ابن أم مكتوم - جاءه يسأله عن أمرٍ من أمور الشرع، وكان يجلس إلى رجالٍ من الوجهاء وعلية القوم، يستميلهم إلى الإسلام، و رغم أن الأعمى لم ير عبوسه، ولم يفطن إليه، إلا أن المولى تبارك وتعالى أبى إلا أن يضع الأمور في نصابها، والأولويات في محلها، فأنزل - سبحانه آيات بينات تعاتب النبي الرحيم عتاباً شديداً:
]عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ] [عبس: الآيات 1-12]
يقول الباحث الإنجليزي "لايتنر " معلقًا على هذا الحادث :
".. مرة، أوحى الله تعالى إلى النبي [r] وحيًا شديد المؤاخذة لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى ليخاطب رجلاً غنيًا من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان [r] كما يقول أغبياء النصارى بحقه [r] لما كان لذاك الوحي من وجود !"[22].
وقد كان النبي r يقابل هذا الرجل الأعمى، فيهش له ويبش، ويبسط له الفراش، ويقول له:
" مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي "[23] !
ففي هذه القصة، نرى علة المعاتبة، لكونهr انشغل بدعوة الوجهاء عن قضاء حاجة هذا الكفيف، وكان الأولى أن تُقضى حاجته، وتقدم على حاجات من سواه من الناس .
وفي هذه القصة دلالة شرعية على تقديم حاجات ذوي الاحتياجات الخاصة على حاجات من سواهم.

المطلب الرابع: عفوهr عن سفهائهم وجهلائهم :
وتجلت رحمة ****** r بذوي الاحتياجات الخاصة، في عفوه عن جاهلهم، وحلمه على سفيههم ، ففي معركة أحد[ شوال 3هـ- أبريل624 م]، لما توجه الرسول r بجيشه صوب أحد، وعزم على المرور بمزرعة لرجل منافق ضرير، أخذ هذا الأخير يسب النبيr وينال منه ، وأخذ في يده حفنة من تراب وقال – في وقاحة - للنبيr: والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك لرميتك بها ! حَتَّى هم أصحاب النبي بقتل هذا الأعمى المجرم، فأبي عليهم -نبي الرحمة- وقال:
" دعوه ! فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر "[24].

ولم ينتهز رسول الله r ضعف هذا الضرير، فلم يأمر بقتله أو حتى بأذيته، رغم أن الجيش الإسلامي في طريقه لقتال، والوضع متأزم، والأعصاب متوترة، ومع ذلك لما وقف هذا الضرير المنافق في طريق الجيش، وقال ما قال، وفعل وما فعل، أبى رسول الله إلا العفو عنه، والصفح له، فليس من شيم المقاتلين المسلمين الاعتداء على أصحاب العاهات أو النيل من أصحاب الإعاقات، بل كانت سنته معهم؛ الرفق بهم، والاتعاظ بحالهم، وسؤال الله أن يشفيهم ويعافينا مما ابتلاهم .
المطلب الخامس : تكريمه وموساته r لهم :
فعن عائشة أنها قالت : سمعت رسول الله r يقول : " إن الله عز وجل أوحى إلى أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة ومن سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة... "[25] .
وعن العرباض بن سارية ، عن النبي r ، عن رب العزة - قال : " إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين ، لم أرض له ثوابًا دون الجنة، إذا حمدني عليهما"[26]
ويقول النبيr لكل أصحاب الإصابات والإعاقات : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ"[27]
ففي مثل هذه النصوص النبوية والأحاديث القدسية، مواساة وبشارة لكل صاحب إعائقة؛ أن إذا صبر على مصيبته، راضيًا لله ببلوته، واحتسب على الله إعاقته، فلا جزاء له عند الله إلا الجنة .
وقد كان النبي r يقول عن عمرو بن الجموح ، تكريمًا وتشريفًا له: " سيدكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح "وكان أعرج ، وقد قال له النبي r ذات يوم: " كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة "، وكان – رضي الله عنه - يولم على رسول الله r إذا تزوج[28].
و عن أنس بن مالك : أن رسول الله r استخلف بن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى[29] .
وعن عائشة أن ابن أم مكتوم كان مؤذنا لرسول الله r وهو أعمى[30] .
وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا[31] .
وعن الحسن بن محمد قال: دخلت على أبي زيد الأنصاري فأذن وأقام وهو جالس قال: وتقدم رجل فصلى بنا، وكان أعرج أصيب رجله في سبيل الله تعالى[32].
وهكذا كان المجتمع النبوي، يتضافر في مواساة ذوي الاحتياجات الخاصة، ويتعاون في تكريمهم، ويتحد في تشريفهم، وكل ذلك اقتضاءً بمنهج نبي الرحمة r مع ذوي الاحتياجات الخاصة . .
المطلب السادس : زيارتهr لهم
وشرع الإسلام عيادة المرضى عامة، وأصحاب الإعاقات خاصة، وذلك للتخفيف من معاناتهم .. فالشخص المعاق أقرب إلى الإنطواء والعزلة والنظرة التشائمية، وأقرب من الأمراض النفسية مقارنة بالصحيح، ومن الخطأ إهمال المعاقين في المناسابات الاجتماعية، كالزيارات والزواج ..
وقد كان رسول الله r يعود المرضى، فيدعو لهم ، ويطيب خاطرهم، ويبث في نفوسهم الثقة، وينشر على قلوبهم الفرح، ويرسم على وجوهه البهجة، وتجده ذات مرة يذهب إلى أحدهم في أطراف المدينة، خصيصًا، ليقضي له حاجة بسيطة، أو أن يصلي ركعات في بيت المتبتلى تلبية لرغبته .. فهذا عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ- وكان رجلاً كفيفًا من الأنصار- يقول للنبي r: إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر، وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم؛ لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددتُ يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى.
فوعده r بزيارة وصلاة في بيته قائًلا : "سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ" ..
قال عتبان فغدا رسول الله r وأبو بكر حين ارتفع النهار فاستأذن رسول الله r فأذنتُ له فلم يجلس حتى دخل البيت ، ثم قال : "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ"، فأشرتُ له إلى ناحية من البيت فقام رسول الله r ،فكبر فقمنا، فصفنا، فصلى ركعتين، ثم سلم [33].
المطلب السابع: الدعاء لهم :
وتتجلى – أيضًا - رحمة نبي الإسلام r بالفئات الخاصة - من ذوي الاحتياجات- عندما شرع الدعاء لهم، تثبيتًا لهم، وتحميسًا لهم على تحمل البلاء .. ليصنع الإرادة في نفوسهم، ويبني العزم في وجدانهم .. فذات مرة ، جاء رجل ضرير البصرِ إلى حضرة النبي r.. فقَالَ الضرير: ادعُ اللَّهَ أنْ يُعافيني..
قَالَ r: "إنْ شِئتَ دَعوتُ، وإنْ شِئتَ صبرتَ فهوَ خيرٌ لك".
قَالَ: فادعُهْ.
فأمرَهُ أنْ يتوضَّأ فيُحسنَ وُضُوءَهُ ويدعو بهَذَا الدُّعاءِ:
" الَّلهُمَّ إنِّي أسألكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ مُحَمَّد نبيِّ الرَّحمةِ إنِّي توجَّهتُ بكَ إِلى رَبِّي في حاجتي هذِهِ لتُقْضَى لي، الَّلهُمَّ فَشَفِّعْهُ فيَّ "[34] .
وعن عطاء بن أبي رباح، قال لِي ابْنُ عَبَّاس: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ : بَلَى .
قَالَ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ .. أَتَتْ النَّبِيَّ r فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي !
فقَال النبيَr:" إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ".
فَقَالَتْ :أَصْبِرُ . فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَاr [35].
هذا، وقد كان رسول الله يدعو للمرضى والزمنى عامة، فعن عائشة رضي الله عنها
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضا أو أتي به قال : " أذهب الباس رب الناس اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما"[36]
وهكذا المجتمع الإسلامي؛ يدعو -عن بكرة أبيه- لأصحاب الإعاقات والعاهات وما رأينا مجتمعًا على وجه الأرض يدعو بالشفاء والرحمة لأصحاب الاحتياجات الخاصة، غير مجتمع المسلمين، ممن تربوا على منهج نبي الإسلام!.
المطلب الثامن : تحريم السخرية منهم
كان ذوو الاحتياجات الخاصة، في المجتمعات الأوربية الجاهلية، مادة للسخرية، والتسلية والفكاهة، فيجد المعاق نفسه بين نارين، نار الإقصاء والإبعاد، ونار السخرية والشماتة، ومن ثم يتحول المجتمع - في وجدان أصحاب الإعاقات- إلى دار غربة، واضهاد وفرقة .. فجاء الشرع الإسلامي السمح، ليحرّم السخرية من الناس عامة، ومن أصحاب البلوى خاصة، ورفع شعار " لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك " . وأنزل الله تعالى آيات بينات توكد تحريم هذه الخصلة الجاهلية، والتي نبتت في من نتن العصبية، والنعرات القبائلية، فقال عز من قائل :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[الحجرات:11]
كما ثبت عن النبي r أنه قال: "الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس"[37]،"وغمط الناس" : احتقارهم والاستخفاف بهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المبتلى أعظم قدرًا عند الله، أو أكبر فضلاً على الناس، علمًا وجهادًا، وتقوى وعفة وأدبًا .. نهيك عن القاعدة النبوية العامة، الفاصلة :" فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ"[38]
ولقد حذر النبي r أشد التحذير، من تضليل الكفيف عن طريقه، أو إيذاءه، عبسًا وسخرية، فقال :
"مَلْعُونٌ مَنْ كَمَهَ أَعْمَى عَنْ طَرِيقٍ "[39]
وقال : " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ كَمَّهَ أَعْمَى عَنْ السَّبِيلِ " [40]
فهذا وعيد شديد، لمن اتخذ العيوب الخلقية سببًا للتندر أو التلهي أو السخرية، أوالتقليل من شأن أصحابها، فصحاب الإعاقة هو أخ أو أب أو إبن امتحنه الله، ليكون فينًا واعظًا، وشاهدًا على قدرة الله، لا أن نجعله مادة للتلهي أو التسلي.
المطلب التاسع : رفع العزلة والمقاطعة عنهم:
فقد كان المجتمع الجاهلي في القديم- سواءً في الجزيرة العربية أو أوربا الرومانية أوأسيا الفارسية - يقاطع ذوي الاحتياجات الخاصة، ويعزلهم ويمنعهم من ممارسة حياتهم الطبيعية، كحقهم في الزواج، والاختلاط بالناس، وزيارتهم والأكل والشرب معهم..
فقد كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبيّ r لا يخالطهم في طعامهم أعرج ولاأعمى ولا مريض، وكان الناس يظنون بههم التقذّر والتقزّز. فأنزل الله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون }[النور: 61 ] [41] .
أي ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى والأعرج، فهؤلاء بشر مثلكم، لهم كافة الحقوق مثلكم، فلا تقاطعوهم ولا تعزلوهم ولا تهجروهم، فأكرمكم عند الله أتقاكم، "والله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أشكالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم " .
وهكذا نزل القرآن، رحمة لذوي الاحتياجات الخاصة، يواسيهم، ويساندهم نفسًيا، ويخفف عنهم . ويتقذهم من أخطر الأمراض النفسية التي تصيب المعاقين، جراء عزلتهم أو فصلهم عن الحياة الاجتماعية .
وبعكس ما فعلت الأمم الجاهلية، فلقد أحل الإسلام لذوي الاحتياجات الخاصة الزواج، فهم – والله – أصحاب قلوب مرهفة، ومشاعير جياشة، وأحاسيس نبيلة، فأقر لهم الحق في الزواج، ما داموا قادرين، وجعل لهم حقوقًا، وعليهم واجبات، ولم يستغل المسلمون ضعف ذوي الاحتياجات، فلم يأكلوا لهم حقًا، ولم يمنعوا عنهم مالاً، فعن عمر بن الخطاب أنه قال :
" أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَمَسَّهَا فَلَهَا صَدَاقُهَا كَامِلًا..." [42] .
المطلب العاشر: التيسير على ذوي الاحتياجات الخاصة :
ومن الرحمة بذوي الاحتياجات الخاصة مراعاة الشريعة لهم في كثيرٍ من الأحكام التكليفية، والتيسير عليهم ورفع الحرج عنهم، فعن زيد بن ثابت أن رسول الله rأملى عليه: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله". قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها "علي" – رضي الله عنه - (لتدوينها)، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان رجلا أعمى، قال زيد بن ثابت: فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله r ، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي [من ثقل الوحي]، ثم سري عنه- فأنزل الله عز وجل: ]غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ[[43].
وقال تعالى – مخففًا عن ذوي الاحتياجات الخاصة - : {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً }[الفتح:17 ].
فرفع عنهم فريضة الجهاد في ساح القتال، فلم يكلفهم بحمل سلاح أو الخروج إلى نفير في سبيل الله، إلا إن كان تطوعًا .. ومثال ذلك، قصة عمرو بن الجموح – رضي الله عنه – في معركة أحد [ شوال 3هـ/إبريل624 م]، فقد كان – رضوان الله عليه - رجلا أعرج شديد العرج ، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله r المشاهد فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه ، وقالوا : له إن الله عز وجل قد عذرك ! فأتى رسول الله r فقال:إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه . فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ! فقال نبي الرحمة r : "أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك "، ثم قال لبنيه : "ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة" فخرج مع الجيش فقتل يوم أحد[44] .
بيد أن هذا التخفيف، الذي يتمتع به المعاق في الشرع الإسلامي، يتسم بالتوازن والاعتدال، فخفف عن كل صاحب إعاقة قدر إعاقته، وكلفه قدر استطاعته، يقول القرطبي[45]:
"إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الاعرج فيما يشترط في التكليف به من المشى، وما يتعذر من الافعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه، كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك."
ومثال ذلك الكفيف والمجنون، فالأول مكلف بجل التكاليف الشرعية باستثناء بعض الواجبات والفرائض كالجهاد .. أما الثاني فقد رفع عنه الشارع السمح كل التكاليف، فعن عائشة أن رسول الله r قال :" رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ " [46].
فمهما أخطأ المجنون أو ارتكب من الجرائم، فلا حد ولا حكم عليه، فعن ابن عباس قال: أتي عمر – رضي الله عنه - بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسًا فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها على علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- فقال: ما شأن هذه؟
قالوا : مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم .
فقال: ارجعوا بها !
ثم أتاه، فقال : يا أمير المؤمنين ! أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة ، عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل ؟ قال : بلى. قال: فما بال هذه ترجم ؟ !قال لا شيء. قال علي: فَأَرْسِلْهَا. فَأَرْسَلَهَا . فجعل عمر يُكَبِّرُ [47].
هكذا كان المنهج النبوي في التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، في وقت لم تعرف فيه الشعوب ولا الأنظمة حقًا لهذه الفئة، فقرر – الشرع الإسلامي- الرعاية الكاملة والشاملة لذوي الاحتياجات الخاصة، وجعلهم في سلم أولويات المجتمع الإسلامي، وشرع العفو عن سفيههم وجاهلهم . وتكريم أصحاب البلاء منهم، لاسيما من كانت له موهبة أو حرفة نافعة أو تجربة ناجحة، وحث على عيادتهم وزيارتهم ، ورغب في الدعاء لهم، وحرّم السخرية منهم، ورفع العزلة والمقاطعة عنهم، ويسر عليهم في الأحكام ورفع عنهم الحرج. فالله الله في شريعة الإسلام ونبي الإسلام !
المبحث الرابع
رحمته للمسنين
يشهد العالم في السنوات الأخيرة اهتمامًا ملحوظًا بالمسنين، وقد شهد المجتمع الدولي أكثر من فعالية دولية، من مؤتمرات وندوات عالمية، لتناول قضايا المسنين، وشهد عام 1982 أول إشارة من العالم المتحضر لرعاية المسنين، حيث أعلنت الأمم المتحدة، في اجتماع لمندوبي 124 دولة، أن العقد التاسع من القرن العشرين عقد المسنين، ورفعت منظمة الصحة العالمية عام 1983 شعار "فلنضف الحياة إلى سنين العمر"، وقد تبنى مؤتمر الأمم المتحدة الذي انعقد في مدريد عام 2002م خطة عمل لمعالجة مشاكل المسنين في مختلف بلدان العالم ..
والحق أن هذه المؤتمرات كانت شبيهه بالملتقيات الفكرية النظرية، فلم يطبق لها قراراً، ولم تُفعل لها خطة !
وكان الأولى لهذه الفعاليات والمؤتمرات أن تقرأ في منهج نبي الإسلامr ، وكيف رسم المنهج العملي في رعاية المسنين .
لقد كان نبي الرحمةr سباقًا في هذا الميدان، ومرجعًا مهمًا – ينبغي أن يُأخذ به - لكل فعالية أو نشاط يهدف إلى رعاية المسنين .
وينطلق منهج رعاية المسنين – في الإسلام – من منطلق إنساني سامق، بعيدًا عن التمييز بين فئات المسنين على أساس الجنس أو اللون أو الدين . فالإسلام لا يقرر قواعد الرعاية للمسنين من منطلق عنصري أو عرقي كما هو الحال في العالم " المتحضر " في هذا الوقت الراهن .
فالمسن الفرنسي ذو البشرة البيضاء له الرعاية الشاملة والحقوق الكاملة، أما المسن الأسود والذي يحمل نفس الجنسية لا يتمتع بمعشار ما يتمتع به المسن الأبيض، رغم أنهم أصحاب وطن واحد ودين واحد ولغة واحدة.. !
فياليت هذا العالم " المتحضر" ينظر إلى منهج نبي الإسلام مع المسنين، كل المسنين، البيض والسود، العرب وغير العرب، المسلمين وغير المسلمين .
وإليكم بعض تعاليمه r في رعاية المسنين ..
المطلب الأول : حثه على إكرام المسنين والرفق بهم:
أولاً: مناشدة الشباب لإكرام المسنين :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: " مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ"[48] .
وهكذا أوصى شباب المجتمع بشيوخه، وشباب اليوم هم شيوخ الغد، وتبقى الوصية المحمدية متواصلة ومتلاحقة مع حقب الزمن، توصي الأجيال بعضها ببعض، وفيه بشارة بطول العمر وبالقرين الصالح الذي يكرم من أكرم شيخًا، والجزاء من جنس العمل .
وانظر إلى هذا التعميم : " مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ" .. أي شيخ مسن، مهما كان لونه، ومهما كان دينه، فالمسلم مطالب بإكرام المسن دون النظر إلى عقيدته أو بلده أو لونه ...

كما في حديث أنس بن مالك ، أن رسول الله r قال: "والذي نفسي بيده ، لا يضع الله رحمته إلا على رحيم" ، قالوا : يا رسول الله ، كلنا يرحم ، قال :" ليس برحمة أحدكم صاحبه .. يرحم الناس كافة "[49] . فيرحم الناس كافة، والأطفال كافة، والمسنين كافة، بعجرهم وبجرهم، مسلمهم وغير مسلمهم .
ثانيًا: إكرام المسن من إجلال الله :
فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أن رَسُولُ اللَّهِ r قال "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ"[50] .
فجعل إكرام المسنين من إجلال الله . . وربط بين توقير الخالق وتوقير المخلوق ، وإجلال القوي سبحانه وإجلال المسن الضعيف، وذكر علامة، يُكرم بها صاحبها، هي الشيب، فكان حقًا على كل من رأي هذه العلامة في إنسان إن يكرمه ويجله .
ثم انظر كيف جمع بين المسن وحامل القرآن والسلطان، وقدم المسن، كأنه يقول لك وقرْ المسن كما توقر السلطان والرئيس والحاكم، وعظم المسن كما تعظم حامل القرآن الحاذق.
وتحت لفظ " إكرام ذي الشيبة المسلم "، تأتي كل صور الرعاية والإكرام للمسنين، كالرعاية الصحية، والرعاية النفسية، والرعاية الاجتماعية والاقتصادية، ومحو الأمية، والتعليم التثقيف، وغيرها من صور العناية التي ينادي بها المجتمع الدولي الآن .
ثالثًا: ليس من المسلمين من لا يوقر الكبير :
فعن عبد الله بن عمرو : أن رَسُولُ اللَّهِ r قال : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ويُوَقِّرْ كَبِيرَنَا "[51].
فجعل من الذين لا يوقرون الكبراء والمسنين عناصر شاذة في مجتمع المسلمين، بل وتبرأ منهم ! إذ ليس من المسلمين من لا يحترم كبيرهم، وليس من المجتمع من لم يوقر مشايخه وأكابره من المسنين . وتأمل – هداك الله – لفظة النبي " يوقر كبيرنا " – هكذا بضمير الجمع ، تعظيمًا للكبير والمسن - ، ولم يقل " يوقر الكبير"، ليقرر أن الاعتداء على الكبير أو المسن بالقول أو الفعل أو الإشارة هو اعتداء على جناب رسول الله r، الذي نسب المسن إليه وانتسب إليه، بقوله .." كبيرنا" .
رابعًا: تسليم الصغير على الكبير :
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنْ النَّبِيِّ rقَالَ: " يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"[52].

فقرر النماذج العملية البسيطة ، فيما يتعلق بجوانب الذوقيات الاجتماعية العامة، وبدأ بأهم هذه المظاهر الأخلاقية والذوقية، وهو مظهر توقير الكبير واحترام المسن، فهو البند الأول في " الإتيكيت الإسلامي ".. ولما كان الصغير هو المبادر في مثل هذه الأحوال، كان عليه فيما دون ذلك ، فيبدأ بالمساعدة، ويبدأ بالملاطفة، ويبدأ بالزيارة، ويبدأ بالنصيحة، ويبدأ بالاتصال .. الخ
خامسًا : تقديم المسن في وجوه الإكرام عامة:
قال النبي r : " أمرني جبريل أن أقدم الأكابر " [53].
وهذه قاعدة عامة في تقديم الكبير والمسن في وجوه الإكرام والتشريف عامة ..
وقد أمر النبي r أن يُبدأ الكبير بتقديم الشراب ونحوه للأكابر..فقال : "أبدؤا بالكبراء - أو قال – بالأكابر"[54].
ولقد مارس هذا الخلق عمليًا، فتقول عائشة : " كان r يستن وعنده رجلان، فأُوحي إليه : أن أعط السواك أكبرهما ! "[55].
وعن عبدالله بن كعب :"كان r إذا استن أعطى السواك الأكبر، و إذا شرب أعطى الذي عن يمينه"[56].
قال ابن بطال : فيه تقديم ذي السن في السواك ، و يلتحق به الطعام والشراب و المشي والكلام[57]. ومن ثم كل وجوه الإكرام .
كما أمر r بتقديم المسن في الإمامة :
ففي الصحيح من حديث مالك بْنِ الْحُوَيْرِثِ أن النَّبِيِّr قال :" .. فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ " [58] .
وهو لا يتعارض مع تصريح النبي r بتقديم الأحفظ لكتاب الله.
وجد جمع بينهما في حديث أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ حين قَال رَسُولُ اللَّهِ r: " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَة،ً فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا ..." [59] .
كما أن الكبير – في الهدي النبوي – أحق بالمبداءة في الكلام، والحوار، فعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْل،ِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ r فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِم،ْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r:
"كَبِّرْ الْكُبْرَ " ..
قَالَ يَحْيَى يَعْنِي لِيَلِيَ الْكَلَامَ الْأَكْبَرُ .. الحديث[60]

[1] صحيح - رواه أبو داود ( 2\ 761) برقم 5156، وأحمد(1\78)، برقم 585، وصححه الألباني في الجامع الصغير(1\11) برقم 106

[2] صحيح - سنن أبي داود، برقم ( 4492)، باب حق المملوك، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود، برقم 5159.

[3] رواه أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة (116)، وأبو حنيفة في مسنده ( 40)، والحارث في مسنده (939)، وذكره ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية ( 3931 ). ولم أقف على سنده .

[4] صحيح – رواه البخاري،كتاب الإيمان، برقم 30، وأخرجه مسلم في الإيمان والنذور، باب: إطعام المملوك مما يأكل، رقم: 1661

[5] عن الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، باب "رقّ"

[6] رواه الحاكم في المستدرك، برقم 6541، والطبراني في المعجم الكبير، برقم 6040، والقصة منتشرة في كتب السيرة، في ثنايا أحداث الخندق .

[7] صحيح - سنن أبي داود ، برقم4500 ، وصححه الألباني صحيح الترغيب والترهيب، برقم 2278

[8] حسن – رواه أحمد ( 2 / 182 )، وأخرجه أبو داود ( 4519 ) وابن ماجه ( 2680 )، وحسن الألباني في الإرواء 1744

[9] صحيح - رواه البخاري، كتاب البيوع ، باب إثم من باع حرًا، ح: 2075

[10] حسن – رواه البيهقي، ح: (11439)، عن أبى هريرة. وحسنه الألباني

[11]صحيح – رواه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم باب حسن خلقه، رقم 2310

[12] صحيح - رواه أحمد، وصححه الألباني في ظلال الجنة ، برقم 355

[13] رواه أبو داود، باب في حق المملوك، برقم 4496.

[14] صحيح – رواه مسلم ، كتاب الأيمان - باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده

[15] صحيح - سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في التجاوز في الأمر، ح: (4154)، وابن ماجة، كتابالنكاح، باب ضرب النساء، ح: (1974)، وقال الألباني : صحيح ، انظر مختصر الشمائل المحمدية، ص 182

[16] رواه أحمد، برقم 16550، والنسائي5\382 برقم9204، قال ابن كثير : إسناده صحيح ولله الحمد ( التفسير 2/264)

[17] صحيح – رواه داود برقم 1309، كتاب الصلاة، بَاب النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ.، وهو في صحيح الترغيب والترهيب 2\ 133

[18]صحيح – رواه مسلم برقم 4293

[19] شرح النووي على مسلم (15 \ 82 )

[20] انظر: ابن الجوزي: سيرة عمر بن عبدالعزيز ، 130

[21] انظر: ابن كثير : البداية والنهاية، 9/ 186، وتاريخ الطبري 5/ 265

[22] لايتنر : دين الإسلام ، ص 12 – 13 .

[23] تفسير القرطبي 19/ 184، والبيضاوي 451

[24]ابن كثير : السيرة النبوية (ج 2 / ص 347)

[25] صحيح - رواه البيهقي في شعب الإيمان ، وصححه الألباني في المشكاة(ج 1 / ص 55)، برقم 255

[26] صحيح رواه ابن حبان ح: 2993

[27] صحيح – رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، ح: 4664

[28] أبو نعيم الأصبهاني، معرفة الصحابة 14 / 155

[29] صحيح – رواه أحمد ، ح: 13023، وصححه الألباني في الإرواء ح: 530

[30] صحيح – رواه مسلم، كِتَاب الصَّلَاةِ، بَاب جَوَازِ أَذَانِ الْأَعْمَى إِذَا كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ، ح: 381

[31] تفسير الرازي، ج 11 / ص 374.

[32] رواه البيهقي ( 1 / 392 )، وقال الألباني : وهذا إسناد حسن إن شاء الله تعالى


[33] صحيح البخاري، كتاب الصلاة باب المساجد في البيوت ، ح: (407)، وانظر: ح (627)، ومسلم ، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، ح: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، ح: (1052)

[34] صحيح – رواه الترمذي (وشرح العلل)، أبواب الدعوات عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، 3578، وابن ماجه برقم 1385، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي.

[35] صحيح – رواه البخاري برقم 5220، بَاب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنْ الرِّيحِ، ومسلم، برقم 4673 بَاب ثَوَابِ الْمُؤْمِنِ فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا.

[36] صحيح – رواه البخاري، كتاب المرضى،باب دعاء العائد للمريض ، ح: (5243)، ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض، ح: 4061

[37] صحيح – رواه مسلم ،ح: 91

[38] البخاري، ح: 5583

[39] حسن - رواه أحمد،ح: 1779

[40] حسن - رواه أحمد ، ح: 2763

[41] انظر: تفسير الطبري ، 19 / ص 219

[42] موطأ مالك،كِتَاب النِّكَاحِ، بَاب مَا جَاءَ فِي الصَّدَاقِ وَالْحِبَاءِ، ح: (969) ، ومصنف ابن أبي شيبة - (ج 3 / ص 310)

[43] صحيح- رواه البخاري ، كتاب الجهاد والسير، والآية في سورة النساء: رقم 95 .

[44] انظر: ابن هشام 2 / 90

[45] تفسير القرطبي 12 / 313

[46] صحيح - رواه ابن ماجة، كِتَاب الطَّلَاقِ، بَاب طَلَاقِ الْمَعْتُوهِ وَالصَّغِيرِ وَالنَّائِمِ،ح: ( 2041)، وابن خزيمة في صحيحه ( 1003 )، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجة، وفي الإرواء ( 297 )

[47] صحيح - رواه أبو داود، كِتَاب الْحُدُودِ، بَاب فِي الْمَجْنُونِ يَسْرِقُ أَوْ يُصِيبُ حَدًّا،ح: (4399)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود، وفي الإرواء ( 2 / 5 )


[48] رواه الترمذي، باب ما جاء في إجلال الكبير، رقم 1945 ، قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وحسنه صاحب الجامع الصغير، انظر: فيض القدير - (ج 5 / ص 543)

[49] صحيح - رواه أبو يعلى الموصلي 4145 ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 167

[50] حسن - رواه أبو داود، باب في تنزيل الناس منازلهم، رقم 4203، وابن أبي شيبة، برقم 5\ 224، والبيهقي، رقم 2573، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، 3\ 78

[51]صحيح – رواه الترمذي و رواه أحمد، برقم 6643، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 5 / 230 )

[52] صحيح – رواه البخاري، باب تسليم القليل على الكثير، رقم 5763

[53] صحيح - رواه أبو بكر الشافعي في " الفوائد " ( 9 / 97 / 1 ) ، وهو في السلسلة الصحيحة ، برقم 1555

[54] صحيح – أخرجه أبو يعلى ( 2 / 638 )، وهو في السلسلة الصحيحة، برقم 1778

[55] صحيح - رواه أبو داود،كِتَاب الطَّهَارَةِ، بَاب فِي الرَّجُلِ يَسْتَاكُ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ ح: 46، وهو في السلسلة الصحيحة - (ج 4 / ص 129)، برقم 1555

[56] صحيح - صحيح وضعيف الجامع الصغير - (ج 18 / ص 444)، برقم 8797.

[57] انظر:الألباني السلسلة الصحيحة - (ج 4 / ص 129)

[58] صحيح البخاري، كِتَاب الْأَذَانِ، بَاب إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ ، ح: (595)

[59] صحيح مسلم ، كِتَاب الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ، بَاب مَنْ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ، ح: (1079)

[60] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إكرام الكبير، ح: (5677)، ومسلم، كتاب الْقَسَامَةِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ، بَاب الْقَسَامَةِ، ح: (3157).
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59