عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 02-19-2012, 10:04 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,419
افتراضي

لابرويير La Bruyére - 1645-1696

من أبرز الكتاب الأخلاقيين الذين اهتموا بتحليل طبائع عصرهم، ألَّف كتاب "الطِّباع" Les Caractéres في ستة عشر فصلاً تتحدث عن الفكر والمنزلة الشخصيّة والنساء والقلب والمجتمع وفن المحادثة والمال والعظماء والمدينة والبلاط والإنسان والأحكام والمستحدثات... الخ.
وكان في ذلك مصور نماذج بارعاً من خلال ملاحظته المجتمع. وقد ألف من مجموع ملاحظاته صوراً متكاملة لم يعوزها رسم الملامح ولا الكلام والثياب والحركات والمظاهر المثيرة للسخرية، فجاءت أعمالاً فنيّة من حيث التصوير والتشخيص والمقارنة والمفاجآت.
أما أسلوبه اللغوي فقد حوى اللغة الغنيّة ذات المعجم الواسع والتركيب المرن، وجمع بين النزوع إلى محاكاة القدماء ومسايرة الجديد وبين الجمل الطويلة والجمل القصيرة المكثفة، وحين يغلب عليه الخيال ينقلب إلى فنان، ويكاد يغيب الباحث الأخلاقيّ. ويعدّ لابرويير كاتباً أسلوبياً ترفع في معظم الأحيان عن البساطة والعفوية وعمد إلى إعلاء الشكل لرفع قيمة المضمون.
الـــثـــّروة([1])

"يتحدث لابرويير عن بذخ الملكة زنوبيا معرّضاً ببعض الحكّام الذين يسرفون ويبذرون في بناء القصور الفخمة ملمحاً إلى أنها زائلة وإلى غيرهم آيلة!"
..." يا زنوبيا؛ لن تهزَّ عرشك أو تنال من أُبَّهتك الاضطرابات. ولا الحرب التي خضتها ببسالةٍ ضدّ أمّةٍ قوية بعد رحيل زوجك الملك. لقد آثرت ضفاف الفرات على كل مكان لتشيدي عليها بناءً أخاذا، فالهواء هنالك نقيّ ومعتدل، والطبيعة من حول القصر ضاحكة، وثمَّ غابة مقدسة تظللّه من جهة الغرب، وإن آلهة سورية الذين يسكنون المعمورة غالباً، ليس في استطاعتهم أن يبنوا مسكناً أجمل منه.
الأرض من حوله مكتظّةٌ بالرجال الذين يقطعون الحجر وينحتونه غادين رائحين، يدفعون أو يجرُّون أخشاب لبنان والبرونز والمرمر. وصوت الروافع والآلات يتعالى في الجو، والمسافرون إلى الجزيرة العربية يتمنون أن يشاهدوا في طريق العودة إلى وطنهم، ذلك القصر مكتملاً في البهاء ستختارينه لنفسك ولأبنائك الأمراء قبل أن تحلّي فيه.
أيتها الملكة العظيمة لا تدخري وسعاً، أنفقي الذهب، وأعملي أقصى درجات الفن لدى أمهر العمال، وليبذل نحاتو عصرك ورساموه غاية علمهم في زخرفة السقوف والجدرُ...
أنشئي حدائق فسيحةً بهيجة، إذا رآها المرء سحرته وخيّلت إليه أنها ليست من صنع البشر. استنفدي ثرواتك وصناعاتك في هذا العمل الذي لا مثيل له. وبعد أن تفرغ الأيدي من لمساتها الأخيرة، في يوم من الأيام سيأتي أحد الرعاة الذين يسكنون الرمال المجاورة لتدمر، وقد أصبح واسع الثراء من واردات أنهارك، فيشتري بنقوده هذا الصَّرح الملكي، ليجمِّله ويجعله أكثر جدارة بشخصه وثرائه.."

qq



الرومانســـــــيَّة


1- الاصطلاح والتعريف

الرومانسيّة، أو الرومانتيَّة، Romantisme نسبةٌ إلى كلمة "رومان" Roman التي كانت تعني في العصر الوسيط حكاية المغامرات شعراً ونثراً. وتشير إلى المشاهد الريفيّة بما فيها من الروعة والوحشة، التي تذكرنا العالم الأسطوريّ والخرافيّ والمواقف الشاعرية؛ فيوصف النص أو الكاتب الذي ينحو هذا المنحى بأنه "رومانتيك".
وأول ما ظهر الاصطلاح في ألمانيا في القرن الثاني عشر، ولم يكن ذ1 مفهومٍ واضح الحدود: فأحياناً كان يعني القصص الخيالي، وأحياناً التصوير المثير للانفعال؛ وتارة ما يتّصل بالفروسية والمغامرة والحبّ وتارةً أخرى المنحى العفويّ أو الشعبيّ أو الخروج عن القواعد والمعايير المتعارف عليها، أو الأدب المكتوب بلغاتٍ محليّة غير اللغات القديمة، كالفرنسية والإيطالية والبرتغالية والإسبانية...
وإجمالاً صارت كلمة "رومانتيك" تعني كل ما هو مقابل لكلمة "كلاسيك". ولذلك نعت بالرومانسية شعراء وروائيون ومسرحيّون عاشوا قبل عصر الرومانسية مثل شكسبير وكالديرون وموليير ودانتي وسرفانتس، لأنهم أتوا بأشياء جديدة، ولم يكونوا يحفلون بالحفاظ على الأشكال القديمة.
وكان هذا اللفظ يطلق في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر مراداً به الإشعار بالذم أو النقص لكلّ بادرة جديدة تتحدّى السائد من القواعد الأدبية المترسخة، أو تحتوي على خلل وتهاون في القافية أو اللغة. ولهذا يقول الشاعر غوته: "الكلاسيكية صحّة، والرومانسية مرض" ولا عجب، فلكلّ جديد غريب خصومٌ وأنصار. ولم يجرؤ أحدٌ من الشعراء الفرنسيين أن يطلق على نفسه نعت رومانسيّ حتى عام 1818 حين أعلن ستندال: "أنا رومانسيّ؛ إنني مع شكسبير ضد راسين، ومع بايرون ضد بوالو"!

وتطلق الآن كلمة الرومانسية على مذهبٍ أدبيٍّ بعينه ذي خصائص معروفة، استخلصت على المستوى النقدي من مجموع ملامح الحركة الأدبية التي انتشرت في أوربا في أعقاب المذهب الكلاسيكي، وكذلك على هذه الفترة وما أعطته من إنتاج على المستوى الإبداعي.
ويعرّف غايتان بيكون (أحد مؤرخي الأدب الفرنسي) الرومانسية بقوله: "إنها مجموعة أذواق متزامنة، وحرّيات خالقة؛ ولا يهمّ أيُّ شيءٍ تخلق، لكنه شخصيّ وأصيل وغير تقليدي يشعرون به في الوقت نفسه. إنَّ الرومانسية فنٌّ شعاره: كل شيءٍ مسموح به".
فالرومانسيّ يرفض التقليد واحتذاء نماذج الأقدمين اليونان والرومان ويريد أن يتحرر منهم. وهو عدو التقاليد والعرف، يريد أن يكون مخلصاً لنفسه، وأصيلاً في التعبير عن مشاعره وقناعاته، قلباً وقالباً، ومن ثمّ فهو يقدّم كيفيةً جديدة في الإحساس والتصور والتفكير والانفعال والتعبير، أي مفهوماً جديداً للواقع وموقفاً جديداً من العالم واعتقاداً بالحركة والحرية والتقدم، وأولويّة للقلب على العقل.

2- المناخ العامّ

1- الجذور وإرادة التغيير:

تحدثنا في الفصل السابق عن مرحلة الانتقال من الكلاسيكيّة إلى الرومانسيّة، وعن المعركة بين أنصار القديم وأنصار الحديث، وكيف تهيأت الأذهان رويداً رويداً منذ نهاية القرن السابع عشر إلى قبول التغيير، وكيف سرى هذا التغيير خلال القرن الثامن في مناخٍ من الوفاق والشقاقِ، إلى أن جاء التغيير الحاسم على يد شاتوبريان. وفي الحقيقة لا يأتي أي تغيُّرٍ طبيعي بغتةً، فقد حملت الكلاسيكية في أحشائها بذور الرومانسية، لأنه لا توجد أبداً في عالم الإنسانيات حدود فاصلة وفروقٌ حاسمة. وقد رأينا كيف كان كتّاب الكلاسيكية يميلون دوماً إلى الوطنية واللغة المحليّة والتغيير في بعض المعايير الأدبية المتشدّدة؛ حتى إن رونسار- وهو جد الكلاسيكية- كان يمهّد في منحاه الشعري لظهور الرومانسية، وكأنه يعلن بزوغها في وقتٍ مبكر. وكان ستندال يؤكد أن موليير كان رومانسياً في أواسط القرن السابع عشر! على أن كتاباً كثيرين، غير فرنسيين سبقوا هؤلاء إلى الرومانسية مثل غوته وشيلر وليسنغ وكان لهم أثر في تحول وجهة الأدب الفرنسيّ.
لقد كانت الرومانسية في أحد جوانبها العميقة رداً على التيّار المتمثّل في إيغال الإنسانيين Humanistes في إعادة الاتصال بالمنابع الثقافية القديمة وعزوف أدباء النهضة عن كل ما هو محلّي أو وسيطيّ.
2- متغيرات العصر:

جاء هذا الرد بدوره نتيجة لتغيراتٍ اقتصادية وسياسيّة واجتماعية هامة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر (عصر الثورة الفرنسية والامبراطورية) حتمت على أوربا تغيير اتجاه مصادرها الثقافية، وطغت فيها موجات قوية لتقلب رأساً على عقب المجتمع والذوق الأدبي والفنّي، من حيث المضمون وطرق الأداء والتعبير، فالتغيير لا بد أن يشمل كلّ نواحي الحياة. وفي نهاية القرن الثامن عشر كانت المعامل قليلة والإنتاج ضئيلاً وبطيئاً، ولما جاءت الثورة الصناعية والعلمية متصاعدة تدريجياً بدأ التغيير يعمُّ كل شيء، فجاءت الثورة الصناعية وفي أعقابها الثورة التجارية شاملتين كل نواحي أوربا.
3- مبادئ الثورة:

وممّا سهل انتشار الرومانسية الجو السياسي الأوربيّ، فعلى ضوء المصابيح الثورية، وعلى صوت مدافع الثورة الفرنسية ظهرت طبقة جديدة تسلّمت مقاليد الحكم والسلطة الدينية وأعلنت الحرية، وأخذ الشعب يمارسها فعلاً، وظهرت مفاهيم الأمة والشعب والمواطنة والحرية والمساواة والعدالة. وعمّ هذا التيار كلّ أوربا منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى أواسط القرن التاسع عشر، وهي الفترة الموازية لتصاعد القوميّات وشعور الأدباء بغنى الألوان المحليّة وضرورة العودة إلى المنابع الحيّة للإلهام. وفي فرنسا بصورة خاصّة، وافقت هذه الحركة المجدّدة تطلّع المثقفين إلى تحرير المضطهدين وإنصاف المظلومين والمحرومين منذ عهود سحيقة.
كما أن انحلال نظام نابليون وعودة النظام القديم ومُثلِه أرهصت للتطلع نحو ظهور البطل الرومانسي المتعطش للحب والشعر والجمال.


4- الحروب المدمّرة:

سببت مجازر الثورة ثم الحروب الطاحنة في أوربا صدمةً لدى الجيل الذي كان مشبعاً بروح الوطنية والمغامرة والأحلام بانتصارات عظيمة ومستقبل زاهر لبني الإنسان. فقد وجد نفسه خائباً ومحروماً من كل مثال وأمل. فساد شعورٌ بالخيبة والإحباط والقلق والعصابيّة والانطواء على الذات، والشكوى من الإجحاف: وها هو ألفريد دو موسيّه يقول: "لقد أتيتُ متأخراً في شيخوخة الزمن"! وكأنما يردّد قول المتنبي:

أتى الزمان بنوه في شبيبته



فَسَرَّهم وأتيناه على الهرم!


5- الديمقراطية:

ظهر في الطبقة البورجوازية والوسطى أدباء وفنانون، ولكنهم، بسبب تأثير المبادئ الثورية الجديدة لم يتجهوا إلى النخبة النبيلة أو المثقفة ولا إلى القصور والحكام بل إلى سواد الشعب. وهجروا اللغة النبيلة المتكلفة ولغة الصالونات الأدبيّة، وبذلك تجددت الأساليب والمفردات والأجناس، وحلّ مفهوم "الفرد" محلَّ المفهوم الكلاسيكي للإنسان.
n والخلاصة:

بسبب العوامل السابقة عمّت أوربا "جائحة" الرومانسيّة التي حرّرت العواطف والأفكار والأذواق وشملت كل النواحي الاجتماعية والإبداعية من اسكاندينافيا إلى أسبانيا وإيطاليا ثم عبرت المحيط إلى أمريكا ودامت مدةً تزيد على القرن، مع الإشارة إلى أن هذه الموجة ليست ذات طابع واحد في كل مكان، بل هنالك ألوان داخل هذا الإطار الكبير، ألوان بعدد الأقطار، بل بعدد الأدباء وشمل التغيير كلَّ شيء حتى الأسرة والأخلاق والأزياء والحدائق والقوانين.


3- تأثير الأُدباء

1- جان جاك روسّو: J. J. Rousseau (1712-1778)

كانت روح الرومانسيّة تسري في مؤلفات روسّو من قبل أن تولد الرومانسية. ويبدو أثر ذلك في كتبه: إيميل: والاعترافات، وأحلام المتجول الوحيد. كان روسّو يؤمن بالعقل والفكر والجدل، ولكنه انعطف نحو الغريزة والإحساس الفردي وحسّ الطبيعة والأحلام والتملّص من القيود الاجتماعية. وكان يرى أن الإنسان طيّبٌ بفطرته، والمجتمع هو الذي يفسده، وأن التقدم يحمل معه شقاء الإنسان، ولا علاج له سوى الإخلاد إلى الطبيعة واللجوء إلى حرم الدين.
2- مدام دوستايل Mme. De Staél ( 1766-1817)

كان لمدام دوستايل إسهامٌ هامٌ ومبكر في الدراسات الأدبية والنقدية التي شجعت الاتجاه نحو الرومانسية.
ففي كتابها (من الأدب) بينت أن الحرية أساس التقدم، ولذلك كانت تبحث في كل عمل أدبي قديم أو حديث عن توهج الحريّة أو خمودها، وتهتم بالبحث عن تأثر الأدب بالفضيلة والخير والمجد والحرية والسعادة والعادات والأمزجة والقوانين والدين، وعن تأثيره بالمقابل في هذه الجوانب وبذلك فتحت الباب للبحث في علاقة الأدب بالمجتمع.
وتضمن كتابها (من ألمانيا) 1800م فصولاً نقدية في الشعر والرومانسية وأخرى في النقد عند ليسنغ وشليغل. وعرّفت القراء الفرنسيين الشعراء الألمان مثل غوته وشيلر والأدباء الروس والإنجليز، وسبقت بأفكارها حول الرومانسية شاتوبريان وأكملت آراءه، ودعت إلى دراسة العمل الأدبي ضمن شروط البيئة والوسط الاجتماعي، وفي علاقته بالظروف التي أنتجته وكيّفته؛ وبذلك أدخلت في النقد مفهومي النسبييّ والتاريخي.
3- شاتوبريان: Chateaubriand (1768-1848)

قال تيوفل غوتييه: "إن شاتوبريان أعاد الاعتبار إلى الكنيسة القوطية، وفتح الطبيعة الكبرى المغلقة وابتدع الكآبة العصريّة" وإذا أضفنا أنه جدّد النقد الأدبي نكون قد لخصنا بهذه العناصر الأربعة كل تأثير شاتوبريان.

ففي كتابه (عبقرية المسيحية) 1802م لم يضف شيئاً على التعاليم الدينية، ولكنه حطم تيار الشك ومعارضةِ الدين الذي نشأ في القرن الثامن عشر، وأثبت جدارة المسيحية من الناحيتين الاجتماعية والجمالية، وشرح الإيمان المسيحي ودافع عنه؛ وبذلك حوّل الأنظار إلى العصر الوسيط بعد أن انصرفت عنه خلال القرون الثلاثة الماضية؛ وأبرز أهمية الفن المعماري القوطي الأصيل في مقابل التقليد لليونان، وبيّن الارتباط الوثيق بينه وبين التديّن الفرنسيّ والطبيعة الفرنسيّة، وبفضله نشأ تيار جديد لفّ الفنانين والأدباء قوامه الإعجاب إلى حد الحماسة بنتاج العصر الوسيط الذي طالما جُحدت قيمته.
ومن ناحية موقفه من الطبيعة لم يأتِ بشيء غريب لأن الالتفات إليها والاهتمام بها تمّ على أيدي أدباء سبقوه مثل روسّو وبرناردن دوسان بيير. الأول في (إيميل) والثاني في (بول وفرجيني). ولكنه وسّع هذا الباب وطوره، ووسَّعه بكثرة ما وصف من المشاهد الطبيعية التي شاهدها في البلدان الكثيرة التي طوّف بها من أمريكا إلى فلسطين بما في ذلك البحار والغابات والجبال والأنهار التي عاشرها آناء الليل والنهار وأحسّ بما توحيه من العظمة والروعة والوحشة، وتعاطف الإنسان معها وامتزاج أحاسيسه بها.
أما الكآبة العصرية فكانت معروفة قبله في مؤلفات روسو في (هيلوييز الجديدة 1760) وغوته في (فيرتر) الذي ترجم إلى الفرنسية عام 1778. ولكنها كانت ترد لديهما في لمحاتٍ قليلة أو استثنائية وشخصية بخلاف ما هي عليه في كتاب شاتوبريان ( رونيه René) الذي شخّص فيه كآبة العصر بكامله، وأبرز مآسيه الشاملة وما انتابه من كوارث الموت والدمار والخيبة في أثناء الثورة الفرنسية وما تلاها من الحروب حيث لم يبق عزاءٌ إلاّ في الطبيعة والدين، مما جعل هذا الاتجاه أساساً للغنائية الجديدة بمعنييها السلبي والإيجابي.
أما تجديده في النقد الأدبي فيبدو في انتقاله من نقد الأغلاط والعيوب إلى النقد الجمالي والربط بين الأثر الأدبي والحالة الحضارية والمزاجية العامّة، لأنه نتاج هذه الحالة والمعبر عنها والمؤثر فيها. وفي الحقيقة كانت مدام دوستايل قد سبقته إلى ذلك كما رأيناه، ولكن خصوصية شاتوبريان تكمن في حسمه الخصومة بين القديم والحديث لصالح الحديث) عندما بنى أحكامه وتقويماته الأدبية والفنّية في (عبقرية المسيحية) على ذوق عصره وعقيدته أكثر من تعويله على النظريات المعرفية السابقة، وبمقارنته بين نماذج الرجل والمرأة والأم والزوجة والزوج والمحارب في الأدب القديم والأدب الجديد، وتبيانه ما تدين به الكلاسيكية إلى المسيحية من حيث المكتسبات النفسية، وتأكيده أن أصالة الكلاسيكية لم تكن لتسطع في بهائها إلا فيما أضافه الكتَّاب من الإغناءات والتغييرات على نماذجهم البشرية من خلال النظرة النسبيّة.
***
وبنتيجة العوامل السابقة كلها انتشر المذهب الرومانسي في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، ولكنه بقي في الأوساط الأكاديمية الرسميّة منظوراً إليه بشيءٍ من الريبة والاستنكار، واشتدت الخصومة بين انصار القديم وأنصار الجديد، وكان من آثارها ظهور مقدمة مسرحية كرومويل (1827) لفيكتور هوغو، والجدل العنيف الذي ثار حول مسرحيته هرناني (1830) ومن ثمَّ تسربت ملامح هذا المذهب الجديد إلى البرتغال وروسيا وإنجلترا. وكان اللورد بايرون (1824) قد دافع بحماسة عن نسبية الذوق الشعري وعلاقته بالتطور الزمني والاجتماعي؛ فأصبح بذلك رومانسياً دون أن يدري...! وأصبح من أعلام الرومانسية فيما بعد كل من سكوت وكولردج ووردزوُرث وشيلّي.
وهكذا عمت الرومانسية جميع أقطار أوربا وأصبحت مذهباً قوياً يناهض الكلاسيكية، ولكنها لم تَسُد فجأة بل تبعت منحى تطورياً بطيئاً مرّ بمراحل عديدة من الإرهاص والتجربة والتحضير والتعايش مع النظام الكلاسيكي في كثيرٍ من الشّقاق والتصادم حتى عمّ الاقتناع به كلَّ أوربا؛ وقد استغرق ذلك قرابة قرنٍ من الزمان.
4- خصائص الأدب الرومانسيّ

أ- في الروح والمجالات:

1- الاحتجاج على سلطان العقل، والاتجاه إلى القلب بما يجيش فيه من المشاعر الملتهبة والأحاسيس المرهفة، والعواطف والأهواء والقلق والاندفاع غير المحدود نحو الجمال، والتغني بالحب الأفلاطوني والبوهيميّ، الحبّ في أحضان الطبيعة والعفوية والتمرّد على القيود والشكليات الاجتماعية، ولدى عودة الرومانسيين إلى الذات أصبح الفرد محور الأدب لا الإنسان الكلّي وتضخمت النرجسيّة ونما أدب البوح والاعتراف.

2- العودة إلى المصادر الوطنية والقوميّة والأجواء الشعبية المحلّية وإعادة الاعتبار إلى العصر الوسيط المسيحيّ، عصر الإقطاع والكنيسة والبطولة وما يتصل به من حكايات وأساطير وملاحم.. يقول موسيّه:
"... لنقلْ لأبطال فرنسا في الأزمنة القديمة
أن يظهروا بسلاحهم الكامل على شرفات بروجهم،
وأن يعيدوا علينا قصصهم الساذجة
التي رواها شعراء التروبادور عن مجدهم المنسيّ.."
إنها التفاتة إلى الماضي القومي فيها الكثير من التأمل والأحلام والحنين وكأنما هي عزاءٌ عما أصاب أوربا من الكوارث.
وقد دعم هذا النزوعَ المؤرخ ميشليه بأسلوبه الخطابي المفعم بالاعتزاز بماضي الأمة الفرنسية في العصر الوسيط وما خلفته من الأوابد والكنائس والمنجزات الحضارية. ونلمس تجسيداً لهذا التيار في كتابات شاتوبريان وهوغو وولتر سكوت وبوشكين..
3- التمرُّد والبناء: فقد تمرد الرومانسيون على جميع الأنظمة والقواعد والقوانين والمواضعات الاجتماعية والاحكام المسبقة وراحوا ينشدون الحريّة الفكرية والأخلاقية والانعتاق اللاّنهائيّ. ومع هذا التمرّد والتحرّر كان يوجد بناءٌ لعالم جديد قوامه الحقّ والخير والعدل والمساواة والحريّة. إنّ رسالتهم -كما يقول لامارتين- الهدم في صالح التقدم البشريّ، ومن أبرز شعراء الثورة والتمرّد بايرون ووردزورث..
فللرومانسية إذن وجهها الإيجابيّ في تجديد الأفكار والمعايير الأخلاقية وتغيير عوالم السياسة والدين والمجتمع والفن.
4- العزوف عن الأساطير اليونانية والرومانية والاغتراف من معين الدين ومصادره كالتوراة والإنجيل وما فيهما من شخصيات ونماذج وسموّ وشاعريّة. وقد وجد الرومانسيون في الدين ملاذاً ترتاح فيه نفوسهم الحائرة المعذَّبة وتسمو فوق الغرائز الماديّة ووصلوا إلى درجة التصوّف والتجلي الإلهي ووحدة الوجود. يقول هوغو: "كلّ الكائنات الحيّة هي الله، وكل الأمواج هي البحر... ولا شيء موجود سوى ذلك النور العميق..". لكن المتديّن عندهم ليس ذلك التقليدي المؤسسيّ بل الشاعري الخاصّ المنطلق من أجواء الخيال والرمز والتوحيد بين الله والإنسان والطبيعة.
5- العودة إلى الطبيعة واتخاذها إطاراً للمشاهد القصصيّة وموضوعاً موحياً أثيراً، فقد اكتشف الرومانسيون ما في الطبيعة من الجمال والعظمة ولا سيما الأجواء العاصفة والبحار الهائجة والجبال الشامخة الجبارة والغابات الغامضة. والليالي المظلمة والأطلال البائدة؛ وأخلدوا إلى ما في الطبيعة من سكون ووحشة وعزلة، ورأوا فيها روحاً وحياةً متجدّدة فناجوها كأم رؤوم وحبيبة معشوقة، يقول لامارتين: "ها هي الطبيعة تدعوك وتحبُّك" وتحدثوا عن عبادة الطبيعة، ومزجوا بينها وبين الألوهة ونشدوا في أحضانها ملاذاً للأشقياء وبلسماً وعزاءً للمعذبين. يقول نوفاليس: "يمكن تشبيه الطبيعة بآلة موسيقية تتطابق كل أصواتها مع أوتارٍ خفيّة توجد فينا". ولكنهم وجدوا فيها من ناحية أخرى، الكائن الجبار الغامض المخيف الذي لا يبالي بالإنسان.
6- الولع بالتغُّرب والغريب: إنه الفرار إلى عوالم جديدة والترحال في البلاد البعيدة، واكتشاف الجديد من الأفاق والغريب من الأقوام والعجيب والطريف من الأمور، سواءً ضمن أوربا أو في الشرق والقارات الأخرى، وقد انعكس ذلك في أدب القصة والرحلات والمغامرات الذي تجلت فيه نزعة الإغراب Exotisme فتيوفل غوتييه يذهب بنا إلى إسبانيا ويصف الفتاة الإسبانية. وألفرد دوموسيه يصف الفتاة الأندلسية والبرشلونية السمراء ذات الشعر الأسود؛ وشاتوبريان يصف عاصفة في صحراء رملية في مصر، ولامارتين يرتحل إلى الشرق ويزور سورية ولبنان وفلسطين، والفرد دوفينيي يستوحي الأجواء التركية في مسرحياته ولغوته ديوانه الشرقيّ وبايرون يرتحل إلى اليونان ويقاتل لأجلها... إنها النفوس التي تأبى أن يحدّها مكان، والتي تودّ أن تنداح في الكون الفسيح وتكشف المجهول وتقتحم عالم الأسرار.
7- البطل الرومانسيّ: حين عزفت الرومانسية عن تصوير خوارق اليونان والرومان كالمردة والعمالقة والآلهة وانصاف الآلهة والأبطال الخارقين للعادة خلقت لنفسها أبطالاً بشريين استمدت شخصياتهم وملامحها من التاريخ الوسيط أو الوطني المعاصر أو الحياة الاجتماعية ولكن ضمن الإطار الشاعريّ المحلّق في جواء المثاليّة والعظمة فهنالك البطل العاشق اليائس البائس والبطل الممثل للعظمة الملحميّة والعبقرية القوميّة، والبطل المعذّب الشديد الحساسية والبطل الفاسد الملحد والبطل الطيبّ الشجاع والبطل الذي تضافرت عليه مظالم المجتمع.. إنها نقلةٌ وسيطة باتجاه الواقعيَّة.
8- المرأة اللُّغز: اتّجه أدباء الرومانسية صوب المرأة فأعطوها منزلتها وأعادوا إليها اعتبارها الاجتماعي، ولكن روحهم الشاعريّة اختلفت في النظر إليها، فبينما وجد فيها بعضهم ******ة المعبودة والملهمة والملاك الذي هبط من السمّاء رأى فيها آخرون تجسيداً للشرور الشيطانية وم***ةً للشقاء والألم، وشاهد فيها آخرون كلا الوجهين المتناقضين، وعلى العموم هي عندهم القدرُ الذي لا فكاك منه. أما الحبّ فقد سما عندهم إلى مرتبة العبادة. إنه عند موسيّه "دين السّعادة" وعند شيلّي "السلطان القاهر". وقد نظروا إليه نظرة شمولية تصوّفية فإذا به شريعة الكائنات كلها والمحرك الأكبر للكون.
9- الفكر الجرئ اللّماح المدرك للمفارقات والتناقضات والميّال إلى الحدس أكثر من الوعي والتفكير الموضوعي، وإلى النظرة الشمولية الموحدة للإنسان والطبيعة وما وراء الطبيعة حيث تتحد الذات بالموضوع ويمتزج الإنسان بالطبيعة، واللَّه بالطبيعة والإنسان، وتنطلق قوى الروح لتلتقي مع مثيلاتها في جميع العصور ولدى جميع أبناء البشر في كلّ مكان. إنه فكرٌ أقربُ إلى التأمل الشاعريّ.
10- إطلاق العنان للمواهب المبدعة خلف التصورات والخيالات التي تصل إلى حدّ أحلام اليقظة والأوهام والفانتازيا (النزوات الخياليّة) والشخصيات الغريبة كملهمات الشعر والجنّ وملاك الحب والعفاريت والأشباح.
11- غلبة الكآبة مشاعر الحزن والصراع النفسيّ الدراميّ وشيوع نغمات البكاء واليأس والانفصام عن المجتمع والشعور بهشاشة الحياة ودنّو شبح الموت؛ لكنه الموت الحنون المخلّص لا الموت المخيف.

ب- في الأساليب:

من المسلمات النقدية أنه لا يمكن الفصل بين المضمون والأسلوب في الأشكال الأدبية لأنهما عنصران متضافران في تكوين النص الأدبي المتكامل، إلاّ أن الأسلوب التعبيري -الذي هو الشكل- يتبع دوماً طبيعة المضمون في كل أوضاعه وتطوراته، والمضمون الجديد لا بد له من أدوات تعبيرية جديدة تناسبه. ولما كانت الحركة الرومانسية ثورة مجدِّدة نهضت من شروط موضوعية، فجاءت برؤية جديدة للكون والإنسان، وتيارٍ نفسيٍّ موحّدٍ إلى حد بعيد، في الرغائب والنزعات والمواقف والتطلعات والأذواق، فلا بدّ أن ترتسم آثار هذه الثورة في الأساليب الأدبية والفنّية لتنال قسطها المكافئ من التجديد.
وقد رأينا أن هذه الثورة انطلقت في أساسها من الاحتجاج على تبعيّة الآداب الأوربية للمصادر القديمة اليونانية واللاتينية مروراً بمعطيات عصور الكلاسيكية والنهضة والتنوير. فقد مضى زمن القدماء إلى غير رجعة وباد الأقدمون بعد أن أعطوا كل ما لديهم، ولا بدّ للعصر الجديد من الكفّ عن محاكاتهم والانصياع لقواعدهم وأذواقهم ومن البحث عن مصادر أخرى وأشكال جديدة أكثر مناسبة لروح هذا العصر وجيله المتمّرد. لقد أصبح المبدأ العام رفض التبعيّة والتقليد، والبحث عن الأصالة والإبداع، فالعبقرية لا تكون إلاّ في التجديد، والتجديد هو الشباب الدائم، وبالفعل تولّد هذا التجديد في رحم الكلاسيكية ونما تدريجياً مجتازاً عواصف من المعارضة والاحتجاج، وثبت في ميدان الصراع إلى أن انتصر نهائياً مع انتصار القيم الجديدة. وهذه سنة الحياة.
ويمكن إجمال السِّمات الأسلوبية للأدب الرومانسي فيما يلي:
(أولاً): على النطاق العام:
1- حرص الأديب الرومانسيّ على حريته الخاصة الكاملة في الإبداع والتعبير، دون سلطانٍ لأي اعتبارٍ فوقيٍ مسبق. ومن هنا جاءت آثار الرومانسيين متنوعة الألوان ضمن إطار الوحدة، وموحّدةً في إطار التنوع الفرديّ، فلكلّ كاتبٍ لونه الخاص المميّز. وكان هوغو لا يفتأ ينادي بالحريّة للفنّ كما ينادي بالحرية للمجتمع. وقد أثارت هذه الحريات الفردية كثيراً من حملات المعارضة بدعوى أنّ الإفراط فيها يؤدي إلى إضاعة المعايير وتهديم الأدب. ولكن الواقع كان خلافاً لذلك مزيداً من الثراء والغنى والتفتح في الحركة الأدبيّة. وقد ظهرت في الرومانسية بادرة البيانات والمقدّمات التي يعمد فيها الأديب إلى عرض معالم منهجه وبسط آرائه وقناعاته الفنيّة، كما فعل لامارتين في مقدمة (التأملات) وهوغو في مقدمة مسرحية (كرومويل)، فكانت هذه المقدمات روافد هامة في بلورة ملامح النظرية الرومانسية.
2- العزوف عن اللغة الكلاسيكية المتعالية النبيلة المتميزة بالجزالة والترفّع والتصنّع والدقة والاختصار والوضوح. والنزول بالأدب إلى اللغة المحليّة الطلقة المأنوسة التي يرتضيها الشعب كله بصرف النظر عن النخبة الحاكمة والأوساط العلميّة والأكاديميّة.
(ثانياً): على النطاق الخاص بالأجناس:
1- المسرح الرومانسيّ

للاتجاه الرومانسيّ في الأدب المسرحيّ جذور؛ فقد نشأ في عهد لويس السادس عشر (1643) لونٌ مسرحيّ مزيج ومشوّش وغريب هو (التراجيكوميديا) أي المزيج بين المأساة والملهاة. وهو نوعٌ تسرّب إلى فرنسا من تأثيرات شكسبير والمسرح الإسباني؛ ولكن الذوق الفرنسيّ العام عزف عن هذا النوع بسبب تعلّقه بالقواعد الكلاسيكية. وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر (عهد القنصلية والامبراطورية) كان فاشياً تقليد المسرح الكلاسيكي المزيّف على المسارح الرسميّة، فظهر نوع آخر من المسرحية هو أقل تشويشاً من التراجيكوميديا اجتذب الجمهور إلى الاستمتاع بالغموض والمرح، هو (الميلودرام).
وفي الحقيقة، كانت الثورة الفرنسية قد غيّرت من ذوق الجمهور فبينما كان يكتفي بخشبةٍ ومهرجين أصبح ينشد مزيداً من الانفعالات النبيلة. ولما كانت النفوس قد سئمت القواعد الكلاسيكية وتهيأت للتجديد فقد وجدت ضالّتها في الميلودرام، ذلك الفن المسرحي الذي اجتذب القطاعات الكبيرة من الشعب.
كانت الميلودرام تستمد موضوعاتها من التاريخ ولاسيّما فروسيّات القرون الوسطى الفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية في عصر النهضة والكاثوليكيّة. وكانت تحتوي على عقدة غامضة وشخصيّة خائنة وتمزج بين المأساوي والمضحك، فإذا تأزّمت الانفعالات المأساوية هدَّأ منها ظهور بعض العناصر الساذجة كالفلاح أو الوصيف أو المضحك بما يلقونه من النكات المضحكة، وكان حلّ العقدة مفرحاً دوماً حين ينجو الأشخاص الطيّبون ويعاقب الخونة. وكان أسلوبها نثرياً سطحياً قريباً من الواقعية يتلاعب بالعواطف لكنه يجتذب الجمهور. وأضيف إلى هذه المميزات كثرة الديكورات الأخاذة والحيل الإخراجية الماهرة والمفاجآت التي تسحر المشاهد البسيط.
ومن الميلودرام ولدتْ المسرحية الرومانسيَّة أو فنّ (الدراما) بعد الثلث الأول من القرن التاسع عشر، بتأثير المسرح الشكسبيريّ الذي وفد في القرن السابع عشر ولم ينل إعجاب الفرنسيين في ذلك الحين، وكانوا ينعتونه بالغرابة والخروج عن القواعد وبالفظاظة والوحشية في بعض الأحيان كما قال فولتير عن مسرحيته (هاملت)، ولكن فولتير نفسه كان قد أثنى على شكسبير لعدم تقيّده بالقواعد (وحدتي الزمان والمكان) واهتمامه بوحدة العمل معتمداً على عبقريته الخصيبة، وبعد أن ترجمت أعمال شكسبير زادت شهرته وانتشرت آراء النقاد الانجليز فيه، وأصبحت مسرحياته تقدم على المسارح الفرنسية مع بعض التعديل المناسب للأذواق الفرنسية. وقد كتب مترجمه (غيزو) في عام 1823: "الشيء المؤكدّ أن عهد النظام الكلاسيكي ولّى، وأن نظاماً جديداً ينبغي أن يسود، هو نظام شكسبير الذي يمكن أن يزوّدنا بالخطط التي يجب أن تنتج العبقرية بمقتضاها".
ثم جاء فيكتور هوغو فألّف مسرحية (كرومويل) ومهّد لها بمقدمة نقدية مطَّولة (1827) أكد فيها رفضه التقيد بوحدتي الزمان والمكان والاحتفاظ بوحدة العمل والانطباع والفكرة والجمع بين الجميل والقبيح والعظيم والمسخرة في نظام منسجم، الأمر الذي نجح فيه شكسبير نجاحاً عظيماً. وأضاف هوغو أنه يمكن الاحتفاظ بالوزن التقليدي الشعري مع بعض المرونة والتلوين، شريطة المحافظة على القافية... ولكنه لم يتقيّد بذلك في مسرحياته.
وهكذا ترسخت الدراما الرومانسية التي اختلفت عن الميلودرام بأنها أصبحت تعالجُ نثراً أو شعراً، فهوغو وألفريد دوفينيي وموسيّه كتبوها بأسلوب النثر، ولكنه نثر فنيّ شاعري نبيل. والاختلاف الثاني هو أن عقدتها تحلُّ عن طريق الشفقة أو الخوف أو الحزن العظيم. والاختلاف الثالث أنها استقت بعض موضوعاتها من التاريخ الجديد.
وبهذه التطورات انتهى الإطار اليوناني واللاتيني الكلاسيكي وسادت الدراما الرومانسية التي كان من أشهر أقطابها هوغو في مسرحياته كرومويل، وهرناني، والملك يتسلّى..، والكسندر دوماس الأب في كريستين وهنري الثالث؛ وألفرد دوفينيي في أوتيلّو وشاترتون..


وفي نهاية القرن التاسع عشر ظهرت ردّة فعل عادت بالمسرحية إلى الإطار الكلاسيكي في فصله بين الأجناس المسرحية وذلك على يد كتابٍ مثل بونسار ودوماس الابن وفرنسوا كوبّيه كاتب (في سبيل التاج).
وقد تميزت الدراما الرومانسية بالإضافة إلى ماسبق بأنها تجمع بين شخصيات كثيرة وتطيل العرض إلى درجة الإملال، وأنها جمعت بين عنصري الدرامي والذاتيّ، وبين المسرح والشعر ومعظم كتابها شعراء. فقد عبرت من ناحية عن الأفكار والفلسفات والعادات ودافعت عن المظلومين ولا سيّما المرأة، وأكدت حق الإنسان والشعوب والكيان القومي والوطني، ولكنها من ناحية ثانية كانت أقل عمقاً من المسرحية الكلاسيكية، وبرزت فيها الغنائية الشاعرية وهذا مناقض للطابع الدرامي. لقد جعلوا من المسرحية قصيدة مطولة تجمع التناقضات كما في الحياة وعبروا عن مقاصدهم بلوحاتٍ بارعة الرسم والتكوين غنية بالعاطفة والألوان والموسيقا والحركة، وأعلوا من شأن الحساسيّة في مقابل الإرادة والفكر. ولذلك يمكن القول إن أبطال المسرحية الرومانسية هم تعبيرٌ عن شخصيّة الكاتب وتمثيل لذاتيته.
2- الشعر الرومانسيّ

اختص الشعر الرومانسي بأنه كان أبرز الأنواع الأدبية وأشدّها مباينةً لمثيله في الكلاسيكية. ويمكن القول إن أهم ما أنتجته الرومانسية هو الشعر، الذي عرف على يد شعرائها الكبار حياة جديدة قوية بقيت ذات تأثير وجاذبيّة إلى القرن العشرين. إنها حياةٌ تقوم على العبقرية الفرديّة وإغراقها في التعبيرعن العواطف الذاتية والانسياق مع شطحات الخيال والحريّة في المضامين والأشكال. وقد عاد الشعراء الرومانسيون إلى حرم الشعر الغنائي الذي كان شائعاً من قبل في مختلف العصور، لأن الغنائية أهمّ مميزات الشعر وخصوصياته. وقد وجد الرومانسيون في النهج الغنائي أفضل ما يناسبهم، على أن الرومانسية الشعرية تختلف عن الشعر الغنائي، إنها تسير في ركابه ولكنها تتميز بطابعها الخاص، والرومانسية إحدى عطاءات الغنائيّة وأشكالها. وقد مهدّ لها شعراء ما قبل الكلاسيكية مثل رونسار وجماعته في فرنسا وبترارك في إيطاليا وغوته بمرحلته الرومانسية في ألمانيا وبايرون في إنجلترا، فظهر في أعقابهم جيلٌ من الشعراء الرومانسيين الكبار مثل لا مارتين وألفرد دوموسيه وألفرد دوفينيي وفيكتور هوغو وشيلي وورذرورث... ولكنّ هوغو اختصّ من بينهم بأنه كتب الشعر السياسيّ والهجائي إضافة إلى وتره الغنائي، متابعاً إيقاع عصره ومعبراً عما يجيش فيه. وفي الحقيقة لا يمكن القول برومانسية غنائية خالصة الذاتيّة، لأنها تعبيرٌ مصوَّر عن عواطف وأحاسيس فرديّة في نطاق المشاعر العامة. وحين كان شعراؤها يغنون ما ينتابهم من أمواج الفرح والألم والأمل واليأس والإيمان والشكّ ومن مشاعر الحرية والتعاطف مع الطبيعة والكآبة والاعتزاز بالمواطنية والإنسانية، إنما يعبرون عن كل المشاعر التي يعيشها معاصروهم بل البشر في كل العصور. وما الآن المعيش عندهم سوى مناسبة لتجديد الانفعالات المعتادة في الحياة.

ويتميز الشعر الرومانسي بالخصائص الآتية:
1- الصدق في التعبير عن العواطف الفردية والمشاعر العميقة التي تعتلج في أعماق النفس، والاستسلام إلى عالمها وتيارها المتدفق في منأى عن عالم الفكر والواقع.
2- الاندياح في عالم الطبيعة الواسع، والركون إلى أحضانها واستشعار حنانها والتسبيح بجمالها وروعتها ومناجاتها كحبيبة وأمّ وملهمة والتماس العزاء لديها من آلام الانكسارات الحادة في عصرهم وتجاربهم الخاصة، والوصول إلى فلسفة طبيعية قوامها ثنائية البشر والطبيعة، ورموز الطبيعة التي تقول لنا بأبجديتها كل شيء وتعبر عن أشياء نحسّها ولا نراها وعن كل علاقات البشر وأحوالهم، والتوحيد بين الطبيعة والإله والإنسان.
3- التمادي في الخيال والتصورات، سواءٌ ما كان منها إبداعياً واعياً أم أحلاماً وهلوسات ونزواتٍ. ومردّ ذلك نفورٌ من الواقع المخيّب وهروب إلى عوالم متخيلة ولو كانت عوالم الجن والخرافات وعرائس الشعر..
4- التعبير بالرمز الجديد الموحي، لأنه يناسب الأجواء الغامضة التي يصعب تحديدها وإيضاحها، إن الرمز يوجز المعاني الكثيرة ويوحي بانطباعات دون حاجة إلى تفصيل وبيان، ويخلق لدى المتلقي جواً من النشاط والفعاليّة والمشاركة مع الشاعر..


ولكن رموزهم كانت شفافة سهلة مستساغة؛ وكان لكلٍ منهم رؤيته الرمزية وعالمه الخاص، فشيلّي كان يكثر من رموز الكهف والبرج والزورق والمعبد والساقية والأفعى والصقر؛ وكيتس كان يرمز بالقمر والعندليب والمعبد والنّوم؛ وهوغو يغوص في الرموز الأسطورية والطبيعية المملوءة بالمهابة والجلال والرهبة؛ وعموماً كان هنالك عودٌ إلى أساطير اليونان لكن بتناولٍ يختلف عن تناول الكلاسيكيّة، إنه عودٌ إلى المنابع الصافية والعفوية والبدائية عند هوميروس.
5- تحرّر الوزن والقافية إلى حدٍ معتدل، لشعورهم بأن الأطر الموسيقية القديمة لم تعد تتسع لتوثباتهم الشعرية الجديدة، ولا بد من أطرٍ جديدة تناسبها وتسعها.
حركة الانتقال:

ظهر منذ عام 1848 على وجه التقريب ردّ فعلٍ مضادٌ للإفراط في الغنائية وذلك على يد تيوفيل غوتييه الذي بدأ حركةً شعرية ستكتمل معالمها في المدرسة البارناسيّة وسيكون أبرز ممثليها الشاعرُ لوكونت دوليل.
وفي حوالي عام 1880 ظهر ردّ فعل آخر من قبل الرمزيين الذين أخذوا على البرناسيين شدة احتفائهم بالشكل الفنّي، فعادوا إلى ما عهدوا لدى الرومانسيين من ميلٍ إلى الغامض والمبهم لكنهم أباحوا لأنفسهم مزيداً من الحرية في الموسيقا الشعرية؛ ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه بودلير.
3- الرواية الرومانسيَّة.

تطوّر فنّ الرواية في القرن الثامن عشر وارتقى واغتنى بفضل عاملين: (الأوّل) تأثير القصّة الإنجليزيّة التي سبقت القصّة الفرنسية إلى التطور ومن ثم أكسبتها الملاحظة الدقيقة لأحوال الطبقة الوسطى، ووصفها والاعتناء بالمشاعر العاديّة لأفراد البشر العادييّن.
(والثاني) تأثير الاتجاهات الاجتماعية والفكرية المستجدّة من حيث روح التفحّص الموضوعي والمناقشة الحرّة والالتفاتُ إلى معالجة المشكلات الأخلاقية والسياسيّة.

وفي القرن التاسع عشر غدت الرواية أوسع الأنواع الأدبية وأكثرها شمولاً إذ احتوت على عنصر المغامرة كما في القرون الوسطى والعنصر النفسي كما في القرن السابع عشر والعنصر الاجتماعي كما في القرن الثامن عشر؛ ثم تمثّلت كُلَّ تطلعات القرن التاسع عشر، واتصفت على التوالي بالغنائية والواقعية والاجتماعية والطبيعيّة والرمزيّة.
وسنقتصر في هذا البحث على استعراض تطور الرواية في الفترة الرومانسية أي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، مرجئين النظر في روايّة النصف الثاني من القرن إلى بحث الواقعية والرمزية.
ويمكن أن نقسم النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى قسمين:
(الأول) فترة الكتاب الأوائل. (الثاني) فترة القصّة التاريخية.
1- فترة الكتاب الرومانسيين الأوائل: (1800-1825)

من المعلوم أن شاتوبريان ومدام دوستايل كانا أبرز عرّابي المذهب الرومانسيّ تنظيراً وتأليفاً فقد كتب الأول روايتي (آتالا، ورينيه) فيما بين 1801-1802 وكانتا تنهجان نهج رواية (بول وفيرجيني) لبرناردن دوسان بيير من حيث العناية بالوصف الطبيعي. ولكنهما جدّدتا في العناية بالوصف النفسيّ والتحليل العميق للعواطف والبواعث. أما دوستايل فقد كتبت رواية دلفين (1802) وكورين(1807) اللّتين مهدتْ فيها السّبيل لروايات الكاتبة الرومانسية جورج صاند. ومن الكتاب الأوائل المشهورين بنجامان كونستان (المتوفى عام 1830) الذي تحتل رواياته مركزاً مرموقاً في الأدب الفرنسيّ ونذكر منها (أدولف: 1816) التي حلّل فيها بنفوذ ذكيّ مدهش وبأسلوب طلقٍ خالٍ من التكلف قضيّه التلاشي البطيء للحب البائس، مما جعلها تبدو دوماً جديدة وواقعية أكثر من أية رواية أخرى، بما في ذلك روايات ستندال.
ونذكر من الكتاب الأوائل أيضاً شارل نودييه (المتوفى عام 1840) الذي كان يتميز بروح فعالة نشيطة ومعالجات جذابة. وقد برع في عشرينيات القرن التاسع عشر في القصة القصيرة التي تمازج بين الواقعية والغنائية. ويعد بحقّ أحد مؤسّسي الرواية الرومانسية.

2- فترة الرواية التاريخيّة: (1826-1865)

ونعني بالتاريخية تلك التي تتخذ أبطالها من بين الأشخاص التاريخيين وكذلك أحداثها الكبرى، مع الاحتفاظ بحرية الكاتب في الإغناء والتفصيل والتحليل، أو تلك التي تبتكر شخصياتٍ من الخيال ضمن فترة تاريخية معينة.
ومن أبرز كتاب هذه المرحلة:
ولتر سكوت:

وهو كاتب إنجليزي ألّف فيما بين 1814-1826 سلسلة من الروايات لقيت كثيراً من النجاح والإقبال الجماهيري لما تتميز به من الجدّة والحيوية والتشابك والعقدة والحماسة العاطفية، بحيث تبعث على المتابعة والتشويق والتسلية والإمتاع. وكان لرواياته هذه أثرٌ كبير في ازدهار هذا الفن الروائي في أنحاء القارة الأوربية وكان يختار الإطار الطبيعي الجذاب لرواياته كالطبيعة الإيكوسيه والإنجليزية والفرنسيّة ويحسن مؤالفة أشخاصه في ذلك الإطار مع عنايته بالمغزى الأخلاقي. وعلى يديه اكتملت ملامح الرواية الرومانسية، ومثالنا على ذلك روايتاه: (ويفرلي وإيفانهو) وما زالت هذه الرواية ترتقي حتى عام 1840 حين بدأت بالهبوط مع انتشار الاشتراكية العاطفية وظهور المسلسلات القصصية في الصحف اليومية.
الفرد دوفينيي:

أصدر دوفينيي عام 1826 روايته (الخامس من مارس) وبسط في مقدّمتها نظريته في الرواية التاريخية ويرى فيها أن للكاتب الروائي حقّ التصرف الشّعريّ إزاء الوقائع التاريخية. ولهذا كانت رواياته تقوم على اختراع الشخصيات أكثر من قيامها على شخصيات تاريخية معروفة.
كتب في عام 1832 رواية (ستيلّو أو العفاريت الزُّرق) التي يقرر فيها الانفصام ما بين المجتمع والشاعر أو الأديب بصورة عامة؛ تستوى في ذلك جميع البنى السياسية والاجتماعية التي يعيش فيها الأديب. ثم كتب روايات أخرى كان من أنضجها (عُود الخيزران)


فيكتور هوغو:

كتب هوغو عدة روايات ضعيفة قبل أن يبدع رائعته (نوتردام دو باريس) عام 1831. التي تقوم حبكتها وعقدتها على الصراع العنيف بين أشخاص متضادّين. وتدور هذه الرواية حول فتاة بوهيميّة أضاعت أمَّها، ثم وجدتها في النهاية بفضل التعرّف على تميمة وحذاءٍ صغير. هذه الفتاة (أزميرالدا) أحبّها الضابط الشاب فيبوس بينما كان أحد الشمامة يكرهها ويطاردها؛ فلجأت إلى الأحدب كازيمودو قارع أجراس كنيسة نوتردام الذي كان يتمتع بقلب طيب محب للخير...
وتكمن أهمية الرواية في الوصف الدقيق والخياليّ لا في إبداع الشخصيات وتصوير طبائعها ونفسيّاتها. ويؤخذ عليها أنها عسيرة ضعيفة التشويق. ثم أنهى هوغو في عام 1862 رواية الخالدة الثانية (البؤساء) حيث أجاد تصوير لوحاتها الوصفية. أما روايته (عمال البحر) فيبدو فيها شاعراً وصّافاً أكثر منه روائياً. والحقيقة أن هوغو يعالج الرواية بنفسية شاعريّة فتراه يتدفق على سجيّته دون أن يعبأ بأي قيد شعري أو مراعاة لقواعد النوع الروائي. وقد شبهه بعضهم بنهر فائض هائج لا يعرف ضفافه ولا اتّجاهه. ولكنه حين يصادف وادياً ضيّقاً أو حاجزاً يغدو رائع الجريان أو يتدفق في شلالٍ متلألئ..!
الكسندر دوماس الأب:

(1803-1870) رواياته كثيرة جداً ويصعب تعدادها. وأشهرها: الفرسان الثلاثة ومونت كريستو. ولا تجد في رواياته تحليلاً نفسياً بل تقرأ للتسلية فقط وتدهشك مقدرته على خلق الحوادث والمفاجآت والمشاهد الحماسيّة. وقد شارك على نطاقٍ واسع في بدعة المسلسلات القصصية الصحفية التي تتميز بالسطحية من جهة، والسّرد المشّوق والعقدة الغامضة والحوار والسرعة والمماطلة في الحلّ، والتي يتابعها الجمهور البسيط الذي يسعى إلى الاستمتاع والتسلية ويتساءل دوماً: وماذا بعد؟


([1]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص 170.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59