عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 01-09-2012, 10:00 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها
إعلم أنه لماكانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة لا جرم كان هذا الجيلالوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر فهم أقدر على التغلب و انتزاع ما في أيدي سواهم منالأمم بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم و ألفوا عوائد الخصب في المعاش و النعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار مانقص من توحشهم و بداوتهم و اعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء و البقرالوحشية و الحفر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين و أخصب عيشها كيف يختلف حالها فيالانتهاض و الشدة حتى في مشيتها و حسن أديمها و كذلك الآدمي المتوحش إذا أنس و ألفو سببه أن تكون السجايا و الطباخ إنما هو عن المألوفات و العوائد و إذا كان الغلبللأمم إنما يكون بالإقدام و البسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة و أكثرتوحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد و تكافآ في القوة العصبيةو انظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير و كهلان السابقين إلى الملك و النعيم ومع ربيعة المتوطنين أرياف العراق و نعيمه لما بقي مضر في بداوتهم و تقدمهم الآخرونإلى خصب العيش و غضارة النعيم كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب فغلبوهم على ما فيأيديهم و انتزعوه منهم و هذا حال بني طيء و بني عامر بن صعصعة و بني سليم بن منصورو من بعدهم لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر و اليمن و لم يتلبسوا بشيء مندنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم و لم تخلفها مذاهب الترف حتى صارواأغلب على الأمر منهم و كذا كل حي من العرب يلي نعيماً و عيشاً خصباً دون الحي الآخرفإن الحي المتبدي، يكون أغلب له و أقدر عليه إذا تكافآ في القوة و العدد سنة اللهفي خلقه.
الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك
و ذلك لأناقدمنا أن العصبية بها تكون الحماية و المدافعة و المطالبة و كل أمر يجتمع عليه وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانيه يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع و حاكم يزعبعضهم عن بعض فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية و إلا لم تتم قدرته علىذلك و هذا التغلب هو الملك و هو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع و ليس له عليهم قهر في أحكامه و أما الملك فهو التغلب و الحكم بالقهرو صاحبها متبوع و ليس له عليهم قهر في أحكامه. و أما الملك فهو التغلب و الحكمبالقوة و صاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع و وجد السبيل إلى التغلب و القهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس و لا يتماقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً فالتغلب الملكي غاية للعصبية كمارأيت ثم أن القبيل الواحد و إن كانت فيه بيوتات مفترقة و عصبيات متعددة فلا بد منعصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها و تستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها و تصيركأنها عصبية واحدة كبرى و إلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف و التنافسولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرضثم إذا حصل التغلبلتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها فإنكافأتها أو مانعتها كانوا أقتالاً و أنظاراً و لكل واحدة منهما التغلب على حوزتها وقومها شأن القبائل و الأمم المفترقة في العالم و إن غلبتها و استتبعتها التحمت بهاأيضاً و زادت قوة في التغلب إلى قوتها و طلبت غاية من التغلب و التحكم أعلى منالغاية الأولى و أبعد و هكذا دائماً حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة في هرمها و لميكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها و انتزعت الأمر من يدهاو صار الملك أجمع لها و إن انتهت قوتها و لم يقارن ذلك هرم، الدولة و إنما قارنحاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها تستظهر بها على مايعن من مقاصدها و ذلك ملك آخر دون الملك المستبد و هو كما وقع للترك في دولة بنيالعباس و لصنهاجة و زناتة مع كتامة و لبني حمدان مع ملوك الشيعة من العلوية والعباسية فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية و أنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلةالملك إما بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك و إن عاقهاعن بلوغ الغاية عوائق كما نبينه وقفت في مقامها إلى أن يقضي الله بأمره.
الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف و انغماس القبيل في النعيم
وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره و شاركتأهل النعم و الخصب في نعمتهم و خصبهم و ضربت معهم في ذلك بسهم و حصة بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه أذعن ذلك القبيل لولايتها و القنوع بما يسوغون من نعمتها و يشركونفيه من جبايتها و لم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك و لا أسبابه إنما همتهمالنعيم و الكسب و خصب العيش و السكون في ظل الدولة إلى الدعة و الراحة و الأخذبمذاهب الملك في المباني و الملابس و الاستكثار من ذلك و التأنق فيه بمقدار ما حصلمن الرياش و الترف و ما يدعو إليه من توابع ذلك فتذهب خشونة البداوة و تضعف العصبيةو البسالة و يتنعمون فيما أتاهم الله من البسطة و تنشأ بنوهم و أعقابهم في مثل ذلكمن الترفع عن خدمة أنفسهم و ولاية حاجاتهم و يستنكفون عن سائر الأمور الضرورية فيالعصبية حتى يصير ذلك خلقاً لهم و سجية فتنقص عصبيتهم و بسالتهم في الأجيال بعدهميتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية فيأذنون بالانقراض و على قدر ترفهم و نعمتهم يكونإشرافهم على الفناء فضلاً عن الملك فإن عوارض الترف و الغرق في النعيم كاسر من سورةالمصبية التي بها التغلب و إذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة و الحمايةفضلاً عن المطالبة و التهمتهم الأمم سواهم فقد تبين أن الترف من عوائق الملك و اللهيؤتي ملكه من يشاء.
الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك المذلة للقبيل و الانقياد إلى سواهم
وسبب ذلك أن المذلة و الانقياد كاسران لسورة العصبية و شدتها فإن انقيادهم و مذلتهمدليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عنالمقاومة و المطالبة و اعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلىملك الشام و أخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكهم كيف عجزوا عن ذلك و قالوا:إن فيها قوماً جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منهاأي يخرجهمالله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا و تكون من معجزاتك يا موسى و لما عزمعليهم لجوا و ارتكبوا العصيان و قالوا له:اذهب أنت و ربك فقاتلاو ما ذلك إلا لما أنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة و المطالبة كماتقتضيه الآية و ما يؤثر في تفسيرها و ذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد و ما رئموامن الذل للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة مع أنهم لم يؤمنوا حق الإيمانبما أخبرهم به موسى من أن الشام لهم و أن العمالقة الذين كانوا بأريحا فريستهم بحكممن الله قدره لهم فأقصروا عن ذلك و عجزوا تعويلاً على ما في أنفسهم من العجز عنالمطالبة لما حصل لهم من خلق المذلة و طعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك و ماأمرهم به فعاقبهم الله بالتيه و هو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام و مصرأربعين سنة لم يأووا فيها العمران و لا نزلوا مصراً و لا خالطوا بشراً كما قصهالقرآن لغلظة العمالقة بالشام و القبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه ويظهر من مساق الآية و مفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة و هي فناء الجيل الذينخرجوا من قبضة الذل و القهر و القوة و تخلقوا به و أفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ فيذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام و القهر و لا يساهم بالمذلة فنشأت بذلكعصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة و التغلب و يظهر لك من ذلك أن الأربعين سنةأقل ما يأتي فيها فناء جيل و نشأة جيل آخر سبحان الحكيم العليم و في هذا أوضح دليلعلى شأن العصبية و أنها هي التي تكون بها المدافعة و المقاومة و الحماية و المطالبةو أن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله و لحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأنالمغارم و الضرائب فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيهلأن في المغارم و الضرائب ضيماً و مذلة لا تحتملها النفوس الأبية إلا إذا استهونتهعن القتل و التلف و أن عصبيتهم حينئذ ضعيفة عن المدافعة و الحماية و من كانت عصبيتهلا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة و المطالبة و قد حصل له الانقياد للذل والمذلة عائقة كما قدمناه. و منه قوله صلى الله عليه و سلم شأن الحرث لما رأى سكةالمحراث في بعض دور الأنصارما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذلفهو دليل صريح على أن المغرم موجب للذلة هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلقالمكر و الخديعة بسبب ملكة القهر فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلاتطمعن لها بملك آخر الدهر و من هنا يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانواشاوية يودون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك و هو غلط فاحش كما رأيت إذ لو وقعذلك لما استتب لهم ملك و لا تمت لهم دولة و انظر فيما قاله شهر براز ملك الباب لعبدالرحمن بن ربيعة لما أطل عليه و سأل شهر براز أمانه على أن يكون له فقال أنا اليوممنكم يدي في أيديكم و صعري معكم فمرحباً بكم و بارك الله لنا و لكم و جزيتنا إليكمالنصر لكم و القيام بما تحبون و لا تذلونا بالجزية فتوهونا لعدوكم فاعتبر هذا فيماقلناه فإنه كاف.
الفصل العشرون ـ في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة و بالعكس
لماكان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه و كان الإنسان أقربإلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته و قوته الناطقة العاقلة لأن الشر إنما جاءهمن قبل القوى الحيوانية التي فيه و إما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير و خلاله أقربو الملك و السياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان لأنهما للإنسان خاصة لا للحيوانفإذاً خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة و الملك إذ الخير هو المناسب للسياسة وقد ذكرنا أن المجد له أصل يبنى عليه و تتحقق به حقيقته و هو العصبية و العشير و فرعيتمم و جوده و يكمله و هو الخلال و إذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها و هي الخلال لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهورهعرياناً بين الناس لم إذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاًفي أهل البيوت و الأحساب فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد و نهاية لكل حسبو أيضاً فالسياسة و الملك هي كفالة للخلق و خلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهمو أحكام الله في خلقه و عباده إنما هي بالخير و مراعاة المصالح كما تشهد به الشرائعو أحكام البشر إنما هي من الجهل و الشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه و قدره فإنه فاعلللخير و الشر معاً و مقدرهما إذ لا فاعل سواه فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرةو أونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة فيالعباد و كفالة الخلق و وجدت فيه الصلاحية لذلك. و هذا البرهان أوثق من أن أول وأصح مبنى فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن و جدت له العصبية فإذانفرنا في أهل العصبية و من حصل لهم من الغلب على كثير من النواحي و الأمم فوجدناهميتنافسون في الخير و خلاله من الكرم و العفو عن الزلات و الاحتمال من غير القادر والقرى للضيوف و حمل الكل و كسب المعدم و الصبر على المكاره و الوفاء بالعهد و بذلالأموال في صون الأعراض و تعظيم الشريعة و إجلال العلماء الحاملين لها و الوقوف عندما يحددونه لهم من فعل أو ترك و حسن الظن بهم و اعتقاد أهل الدين و التبرك بهم ورغبه الدعاء منهم و الحياء من الأكابر و المشايخ و توقيرهم و إجلالهم و الانقيادإلى الحق مع الداعي إليه و إنصاف المستضعفين من أنفسهم و التبدل في أحوالهم والانقياد للحق و التواضع للمسكين و استماع شهوى المستغيثين و التدين بالشرائع والعبادات و القيام عليها و على أسبابها و التجافي عن الغدر و المكر و الخديعة و نقضالعهد و أمثال ذلك علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم و استحقوا بها أن يكونواساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم و أنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهمو غلبهم و ليس ذلك سدىً فيهم و لا وجد عبثاً منهم و الملك أنسب المراتب و الخيراتلعصبيتهم فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك و ساقه إليهم و بالعكس من ذلك إذاتأذن الله بانقراض الملك من أمة حملتهم على ارتكاب المذمومات و انتحال الرذائل وسلوك طرقها فتفقد الفصائل السياسية منهم جملة و لا تزال في انتقاص إلى أن يخرجالملك من أيديهم و يتبدل به سواهم ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهممن الملك و جعل في أيديهم من الخيروإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنامترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراو استقرىء ذلك و تتبعهفي الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه و رسمناه و الله يخلق ما يشاء و يختار واعلم أن من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل ألو العصبية و تكون شاهدة لهمبالملك إكرام العلماء و الصالحين و الأشراف و أهل الأحساب و أصناف التجار و الغرباءو إنزال الناس منازلهم و ذلك أن إكرام القبائل و أهل العصبيات و العشائر لمنيناهضهم في الشرف و يجاد بهم حبل العشير و العصبية و يشاركهم في اتساع الجاه أمرطبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماسمثلها منه و أما أمثال هؤلاء من ليس لهم عصبية تتقى و لا جاه يرتجى فيندفع الشك فيشأن كرامتهم و يتمحض القصد فيهم أنه للمجد و انتحال الكمال في الخلال و الإقبال علىالسياسة بالكلية لأن إكرام أقتاله و أمثاله ضروي في السياسة الخاصة بين قبيلة ونظرائه و إكرام الطارئين من أهل الفضائل و الخصوصيات كمال في السياسة العامةفالصالحون للدين و العلماء للجاءي إليهم في إقامة مراسم الشريعة و التجار للترغيبحتى تعم المنفعة بما في أيديهم و الغرباء من مكارم الأخلاق و إنزال الناس منازلهممن الإنصاف و هو من العدل فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك و أن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجوب علاماتها و لهذا كان أول ما يذهب منالقبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم و سلطانهم إكرام هذا الصنف منالخلق فإذا رأيته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد أخذت في الذهاب عنهمو ارتقب زوال الملك منهمو إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد لهو الله تعالى أعلم.
الفصل الحادي و العشرون في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع
و ذلكلأنهم أقدر على التغلب و الاستبداد كما قلناه و استعباد الطوائف لقدرتهم على محاربةالأمم سواهم و لأنهم يتنزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم و هؤلاءمثل العرب و زناتة و من في معناهم من الأكراد و التركمان و أهل اللثام من صنهاجة وأيضاً فهؤلاء المتوحشون ليس لهم وطن يرتافون منه و لا بلد يجنحون إليه فنسبةالأقطار و المواطن إليهم على السواء فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم و ما جاورهممن البلاد و لا يقفون عند حدود أفقهم بل يظفرون إلى الأقاليم البعيدة و يتغلبون علىالأمم النائية و انظر ما يحكى في ذلك عن عمر رضي الله عنه لما بويع و قام يحرضالناس على العراق فقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة و لا قوى عليه أهلهإلا بذلك أين القراء المهاجرون عن موعد الله سيروا في الأرض التي وعدكم الله فيالكتاب أن يورثكموها فقال:ليظهره على الدين كله و لو كرهالمشركونو اعتبر ذلك أيضاً بحال العرب السالفة من قبل مثل التبابعة و حميركيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة و إلى العراق و الهند أخرى و لم يكن ذلكلغير العرب من الأمم و كذا حال الملثمين من المغرب لما نزعوا إلى الملك طفروا منالإقليم الأول و مجالاتهم منه في جوار السودان إلى الإقليم الرابع و الخامس فيممالك الأندلس من غير واسطة و هذا شأن هذه الأمم الوحشية فلذلك تكون دولتهم أوسعنطاقاً و أبعد من مراكزها نهاية،و الله يقدر الليل و النهارو هو الواحد القهار لا شريك له.
الفصل الثاني و العشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عودهإلى شعب أخر منها ما دامت لهم العصبية
و السبب في ذلك أن الملك إنما حصل لهمبعد سورة الغلب و الإذعان لهم من سائر الأمم سواهم فيتعين منهم المباشرون للأمرالحاملون سرير الملك و لا يكون ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة التي يضيق عنهانطاق المزاحمة و الغيرة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرتبة فإذا تعين أولئكالقائمون بالدولة انغمسوا في النعيم و غرقوا في بحر الترف و الخصب و استعبدواإخوانهم من ذلك الجيل و أنفقوهم في وجوه الدولة و مذاهبها و بقي الذين بعدوا عنالأمر و كبحوا عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي شاركوها بنسبهم و بمنجاة منالهرم لبعدهم عن الترف و أسبابه فإذا استولت على الأولين الأيام و أباد غضراءهمالهرم فطبختهم الدولة و أكل الدهر عليهم و شرب بما أرهف النعيم من حدهم و استقتغريزة الترف من مائهم و بلغوا غايتهم من طبيعة التمدن الإنساني و التغلب السياسيشعر.
كدود القز ينسج ثم يفنىبمركز نسجه في الانعكاس
كانت حينئذ عصبية الآخرين موفورة و سورة غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة فتسمو آمالهم إلى الملك الذي كانوا ممنوعين منه بالقوةالغالبة من جنس عصبيتهم و ترتفع المنازعة لما عرف من غلبهم فيستولون على الأمر ويصير إليهم و كذا يتفق فيهم مع من بقي أيضاً منتبذاً عنه من عشائر أمتهم فلا يزالالملك ملجئاً في الأمة إلى أن تنكسر سورة العصبية منها أو يفنى سائر عشائرها سنةالله في الحياة الدنياو الآخرة عند ربك للمتقينو اعتبرهذا بما وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود و منبعدهم إخوانهم العمالقة و من بعدهم إخوانهم من حمير أيضاً و من بعدهم إخوانهمالتبابعة من حمير أيضاً و من بعدهم الأذواء كذلك ثم جاءت الدولة لمضر و كذا الفرسلما انقرض أمر الكينية ملك من بعدهم الساسانية حتى تأذن الله بانقراضهم أجمعبالإسلام و كذا اليونانيون انقرض أمرهم و انتقل إلى إخوانهم من الروم و كذا البربربالمغرب لما انقرض أمر مغراوة و كتامة الملوك الأول منهم رجع إلى صنهاجة ثمالملثمين من بعدهم ثم من بقي من شعوب زناتة و هكذا سنة الله في عباده و خلقه و أصلهذا كله إنما يكون بالعصبية و هي متفاوتة في الأجيال و الملك يخلقه الترف و يذهبهكما سنذكره بعد فإذا انقرضت دولة فإنما يتناول الأمر منهم من له عصبية مشاركةلعصبيتهم التي عرف لها التسليم و الإنقياد و أونس منها الغلب، لجميع العصبيات وذلك إنما يوجد في النسب القريب منهم لأن تفاوت العصبية بحسب ما قرب من ذلك النسبالتي هي فيه أو بعد حتى إذا وقع في العالم تبديل كبير من تحويل ملة أو ذهاب عمرانأو ما شاء الله من قدرته فحينئذ يخرج عن ذلك الجيل إلى الجيل الذي يأذن الله بقيامهبذلك التبديل كما وقع لمضر حين غلبوا على الأمم و الدول و أخذوا الأمر من أيدي أهلالعالم بعد أن كانوا مكبوحين عنه أحقاباً.
الفصل الثالث و العشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيهو نحلته و سائر أحواله و عوائده
و السبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها و انقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أولما تغالط بهمن أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك و اتصل لهااعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب و تشبهت به و ذلك هو الاقتداء أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية و لا قوة بأس لم إنما هو بما انتحلته منالعوائد و المذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب و هذا راجع للأول و لذلك ترى المغلوبيتشبه أبداً بالغالب في ملبسه و مركبه و سلاحه في اتخاذها و أشكالها بل و في سائرأحواله و انظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً و ما ذلك إلالاعتقادهم الكمال فيهم و انظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحاميةو جند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى و لهاالغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه و الاقتداء حظ كبير كما هو في الأندلس لهذاالعهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم و شاراتهم و الكثير منعوائدهم و أحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدان و المصانع و البيوت حتى لقديستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء و الأمر لله. و تأمل فيهذا سر قولهم العامة على دين الملك فإنه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم و المتعلمين بمعلميهمو الله العليم الحكيم و به سبحانه و تعالى التوفيق.
الفصل الرابع و العشرون في أن الأمة إذا غلبت و صارت في ملك غيرها أسرع إليهاالفناء
و السبب في ذلك و الله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرهاعليها و صارت بالاستعباد آلة لسواها و عالة عليهم فيقصر الأمل و يضعف التناسل والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل و ما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية فإذاذهب الأمل بالتكاسل و ذهب ما يدعو إليه من الأحوال و كانت العصبية ذاهبة بالغلبالحاصل عليهم تناقص عمرانهم و تلاشت مكاسبهم و مساعيهم وعجزوا عن المدافعة عنأنفسهم بما خضد الغلب من شوكتيهم فأصبحوا مغلبين لكل متغلب و طعمةً لكل آكل و سواءكانوا حصلوا على غايتهم من الملك أم لم يحصلوا. و فيه و الله أعلم سر آخر و هو أنالإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له و الرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه و ري كبده و هذا موجود في أخلاق الأناسي. ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة و أنها لا تسافد إلا إذا كانت في ملكةالآدميين فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص و اضمحلال إلى أن يأخذهمالفناء و البقاء لله وحده و اعتبر ذلك في أمة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة ولما فنيت حاميتهم في أيام العرب بقي منهم كثير و أكثر من الكثير يقال إن سعداً أحصىما وراء المدائن فكالوا مائة ألف و سبعة و ثلاثين ألفاً منهم سبعة و ثلاثون ألفاًرب بيت و لما تحصلوا في ملكة الغرب و قبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلا قليلاً و دثرواكأن لم يكونوا و لا تحسبن أن ذلك لظلم نزل بهم أو عدوان شملهم فملكة الإسلام فيالعدل ما علمت و إنما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمر و صار آلة لغيره و لهذاإنما تذعن للرق في الغالب أمم السودان لنقص الإنسانية فيهم و قربهم من عرضالحيوانات العجم كما قلناه أو من يرجو بانتظامه في ربقة الرق حصول رتبة أو إفادةمال أو عز كما يقع لممالك الترك بالمشرق و العلوج من الجلالقة و الإفرنجة فإنالعادة جارية باستخلاص الدولة لهم فلا يأنفون من الرق لما يأملونه من الجاه والرتبة باصطفاء الدولة و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل الخامس و العشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط
و ذلك أنهمبطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب و عيث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر و يفرون إلى منتجعهم بالقفر و لا يذهبون إلى الزاحفة و المحاربة إلاإذا دفعوا بذلك عن أنفسهم فكل معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه ولا يعرضون له و القبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم و فسادهملأنهم لا يتسنمون، إليهم الهضاب و لا يركبون الصعاب و لا يحاولون الخطر و أماالبسائط فمتى اقتدروا عليها بفقدان الحامية و ضعف الدولة فهي نهب لهم و طمعة لآكلهميرددون عليها الغارة و النهب و الزحف لسهولتها عليهم إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهمثم يتعاورونهم باختلاف الأيدي و انحراف السياسة إلى أن ينقرض عمرانهم و الله قادرعلى خلقه و هو الواحد القهار لا رب غيره.
الفصل السادس و العشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب
والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش و أسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلةً و كان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم و عدم الانقياد للسياسةو هذه الطبيعة منافية للعمران و مناقضة له فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلةو التغلب و ذلك مناقض للسكون الذي به العمران و فناف له فالحجر مثلاً إنما حاجتهمإليه لنصبه أثافي القدر فينقلونه من المباني و يخربونها عليه و يعدونه لذلك و الخشبأيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم و يتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربونالسقف عليه لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران هذا فيحالهم على العموم و أيضاً فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس و أن رزقهم في ظلالرماحهم و ليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلىمال أو متاع أو ماعون انتهبوه فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب و الملك بطلتالسياسة في حفظ أموال الناس و خرب العمران و أيضاً فلأنهم يكلفون على أهل الأعمالمن الصنائع و الحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة و لا قسطاً من الأجر و الثمن والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب و حقيقتها و إذا فسدت الأعمال و صارت مجاناًضعفت الآمال في المكاسب و انقبضت الأيدي عن العمل و ابذعر الساكن و فسد العمران وأيضاً فإنهم ليست لهم عناية بالأحكام و زجر الناس عن المفاسد و دفاع بعضهم عن بعضإنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهباً أو غرامة فإذا توصلوا إلى ذلك و حصلواعليه أعرضوا عما بعده من تسديد أحوالهم و النظر في مصالحهم و قهر بعضهم عن أغراضالمفاسد و ربما فرضوا العقوبات في الأموال حرصاً على تحصيل الفائدة و الجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم و ذلك ليس بمغن في دفع المفاسد و زجر المتعرض لها بليكون ذلك زائداً فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرعايا في ملكتهمكأنها فوضى دون حكم و الفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران بما ذكرناه من أن وجودالملك خاصة طبيعية للإنسان لا يستقيم وجودهم و اجتماعهم إلا بها و تقدم ذلك أولالفصل و أيضاً فهم متنافسون في الرئاسة و قل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره و لو كانأباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل و على كره من أجل الحياء فيتعدد الحكاممنهم و الأمراء و تختلف الأيدي على الرعية في الجباية و الأحكام فيفسد العمران وينتقض. قال الأعرابي الوافد على عبد الملك لما سأله عن الحجاج و أراد الثناء عليهعنده بحسن السياسة و العمران فقال: تركته يظلم و حده و انظر إلى ما ملكوه و تغلبواعليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوض عمرانه و اقفر ساكنه و بدلت الأرض فيه غيرالأرض فاليمن قرارهم خراب إلا قليلاً من الأمصار و عراق العرب كذلك قد خرب عمرانهالذي كان للفرس أجمع و الشام لهذا العهد كذلك و أفريقية و المغرب لما جاز إليها بنوهلال و بنو سليم منذ أول المائة الخامسة و تمرسوا بها لثلاثمائة و خمسين من السنينقد لحق بها و عادت بسائطه خراباً كلها بعد أن كان ما بين السودان و البحر الروميكله عمراناً تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم و تماثيل البناء و شواهد القرىو المدر و الله يرث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين.
الفصل السابع و العشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أوولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة
و السبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذيفيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة و الأنفة و بعد الهمة و المنافسة فيالرئاسة فقلما تجتمع أهواؤهم فإذا كان الدين بالنبؤة أو الولاية كان الوازع لهم منأنفسهم و ذهب خلق الكبر و المنافسة منهم فسهل انقيادهم و اجتماعهم و ذلك بما يشملهممن الدين المذهب للغلظة و الألفة الوازع عن التحاسد و التنافس فإذا كان فيهم النبيأو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق و يأخذهمبمحمودها و يؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم و حصل لهم التغلب و الملك و هم معذلك أسرع الناس قبولاً للحق و الهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات و براءتها منذميم الأخلاق إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيء لقبول الخير ببقائهعلى الفطرة الأولى و بعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد و سوء الملكات فإنكل مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث و قد تقدم.
الفصل الثامن و العشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك
و السبب في ذلكأنهم أكثر بداوة من سائر الأمم و أبعد مجالاً في القفر و أغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم لشظف و خشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعضلإفلاهم ذلك و للتوحش و رئيسهم محتاج إليهم غالباً للعصبية التي بها المدافعة فكانمضطراً إلى إحسان ملكتهم و ترك مراغمتهم لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيهاهلاكه و هلاكهم و سياسة الملك و السلطان تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر و إلالم تستقم سياسته و أيضاً فإن من طبيعتهم كما قدمناه أخذ ما في أيدي الناس خاصة والتجافي عما سوى ذلك من الأحكام بينهم و دفاع بعضهم عن بعض فإذا ملكوا أمة من الأممجعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم و تركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهمو ربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصاً على تكثير الجبايات و تحصيلالفوائد فلا يكون ذلك وازعاً و ربما يكون باعثاً بحسب الأغراض الباعثة على المفاسدو استهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه فتنمو المفاسد بذلك و يقع تخريب العمرانفتبقى تلك الأمة كأنها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعاً شأن الفوضى كما قدمناه فبعدت طباع العرب لذلك كله عن سياسة الملك وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم و تبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم و تجعلالوازع لهم من أنفسهم و تحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض كما ذكرناه و اعتبر ذلكبدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة و أحكامها المراعيةلمصالح العمران ظاهراً و باطناً و تتابع فيها الخلفاء عظم حينئذ ملكهم و قويسلطانهم. كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول أكل عمر كبدي يعلم الكلابالآداب ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة ورجعوا إلى قفرهم و جهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم في الانقياد و إعطاءالنصفة فتوحشوا كما كانوا و لم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء و منجيلهم و لما ذهب أمر الخلافة و امحي رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم و غلب عليهمالعجم دونهم و أقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك و لا سياسته بل قد يجهلالكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم و ما كان في القديم لأحد من الأمم فيالخليقة ما كان لأجيالهم من الملك و دول عاد و ثمود و العمالقة و حمير و التبابعةشاهدة بذلك ثم دولة مضر في الإسلام بني أمية و بني العباس لكن بعد عهدهم بالسياسةلما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة و قد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب علىالدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد فلا يكون ماله و غايته إلا تخريب مايستولون عليه من العمران كما قدمناه و الله يؤتي ملكه من يشاء.
الفصل التاسع و العشرون في أن البوادي من القبائل و العصائب مغلوبون لأهل الأمصار
قد تقدم لنا أن عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر و الأمصار لأن الأمورالضرورية في العمران ليس كلها موجودةً لأهل البدو. و إنما توجد لديهم في مواطنهمأمور الفلح و موادها معدومة و معظمها الصنائع فلا توجد لديهم في الكلية من نجار وخياط و حداد و أمثال ذلك مما يقيم لهم ضروريات معاشهم في الفلح و غيره و كذاالدنانير و الدراهم مفقودة لديهم و إنما بأيديهم أعواضها من مغل الزراعة و أعيانالحيوان أو فضلاته ألباناً و أوباراً و أشعاراً و إهاباً مما يحتاج إليه أهلالأمصار فيعوضونهم عنه بالدنانير و الدراهم إلا أن حاجتهم إلى الأمصار في الضروري وحاجة أهل الأمصار إليهم في الحاجي و الكمالي فهم محتاجون إلى الأمصار بطبيعة وجودهمفما داموا في البادية و لم يحصل لهم ملك و لا استيلاء على الأمصار فهم محتاجون إلىأهلها و يتصرفون في مصالحهم و طاعتهم متى دعوهم إلى ذلك و طالبوهم به و أن كان فيالمصر ملك كان خضوعهم و طاعتهم لغلب الملك و أن لم يكن في المصر ملك فلا بد فيه منرئاسة و نوع استبداد من بعض أهله على الباقين و إلا انتقض عمرانه و ذلك الرئيسيحملهم على طاعته و السعي في مصالحه إما طوعاً ببذل المال لهم ثم يبدي لهم مايحتاجون إليه من الضروريات في مصره فيستقيم عمرانهمم و إما كرهاً إن تمت قدرته علىذلك و لو بالتغريب بينهم حتى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين فيضطر الباقون إلىطاعته بما يتوقعون لذلك من فساد عمرانهم و ربما لا يسعهم مفارقة تلك النواحي إلىجهات أخرى لأن كل الجهات معمور بالبدو الذين غلبوا عليها و منعوها من غيرها فلا يجدهؤلاء ملجأ إلا طاعة المصر فهم بالضرورة مغلوبون لأهل الأمصار و الله قاهر فوقعباده و هو الواحد الأحد القهار.
الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة و الملك و الخلافة و المراتبالسلطانية و ما يعرض في ذلك كله من الأحوال و فيه قواعد و متممات ـ الفصل الأول فيأن الملك و الدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل و العصبية
و ذلك أنا قررنا فيالفصل الأول أن المغالبة و الممانعة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة والتذامر و استماتة كل واحد منهم دون صاحبه. ثم أن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل علىجميع الخيرات الدنيوية و الشهوات البدنية و الملاذ النفسانية فيقع فيه التنافسغالباً و قل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة و تفضي إلى الحربو القتال و المغالبة و شيء منها لا يقع إلا بالعصبية كما ذكرناه آنفاً و هذا الأمربعيد عن أفهام الجمهور بالجملة و متناسون له لأنهم نسوا عهد تمهيد الدولة منذ أولهاو طال أمد مرباهم في الحضارة و تعاقبهم فيها جيلاً بعد جيل فلا يعرفون ما فعل اللهأول الدولة إنما يدركون أصحاب الدولة و قد استحكمت صبغتهم و وقع التسليم لهم والاستغناء عن العصبية في تمهيد أمرهم و لا يعرفون كيف كان الأمر من أوله و ما لقيأولهم من المتاعب دونه و خصوصاً أهل الأندلس في نسيان هذه العصبية و أثرها لطولالأمد و استغنائهم في الغالب عن قوة العصبية بما تلاشى وطنهم و خلا من العصائب والله قادر على ما يشاء و هو بكل شيء عليم و هو حسبنا و نعم ال****.
الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة و تمهدت فقد تستغني عن العصبية
و السببفي ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية منالغلب للغرابة و أن الناس لم يألفوا ملكها و لا اعتادوه فإذا استقرت الرئاسة في أهلالنصاب المخصوص بالملك في الدولة و توارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين و دولمتعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية و استحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة و رسخ فيالعقائد دين الانقياد لهم و التسليم و قاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم علىالعقائد الإيمانية فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتابمن الله لا يبدل و لا يعلم خلافه و لأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام علىالعقائد الإيمانية كأنه من جملة عقودها و يكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة إما بالموالي و المصطنعين الذين نشأوا في ظل العصبية و غيرها و إمابالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها و مثل هذا و قع لبني العباس فإنعصبية العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم و ابنه الواثق و استظهارهم بعد ذلك إنماكان بالموالي من العجم و الترك و الديلم و السلجوقية و غيرهم ثم تغلب العجمالأولياء على النواحي و تقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليهاالديلم و ملكوها و صار الخلائق في حكمهم ثم انقرض أمرهم و ملك السلجوقية من بعدهمفصاروا في حكمهم ثم انقرض أمرهم و زحف آخر التتار فقتلوا الخليفة و محوا رسم الدولةو كذا صنهانجة بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها و استمرت لهمالدولة متقلصة الظل بالمهدية و بجاية و القلعة و سائر ثغور أفريقية و ربما انتزىبتلك الثغور من نازعهم الملك و اعتصم فيها و السلطان و الملك مع ذلك مسلم لهم حتىتأذن الله بانقراض الدولة و جاء الموحدون بقوة قوية من العصبية في المصامدة فمحواآثارهم و كذا دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولى ملوكالطوائف على أمرها و اقتسموا خطتها و تنافسوا بينهم و توزعوا ممالك الدولة و انتزىكل واحد منهم على ما كان في ولايته و شمخ بأنفه و بلغهم شأن العجم مع الدولةالعباسية فتلقبوا بألقاب الملك و لبسوا شارته و أمنوا ممن ينقص ذلك عليهم أو يغيرهلأن الأندلس ليس بدار عصائب و لا قبائل كما سنذكره و استمر لهم ذلك كما قال ابن شرف.
مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها و معتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورةالأسد
فاستظهروا على أمرهم بالموالي و المصطنعين و الطراء على الأندلسمن أهل العدوة من قبائل البربر و زناتة و غيرهم اقتداءً بالدولة في آخر أمرها فيالاستظهار بهم حين ضعفت عصبية العرب و استبد ا بن أ بي عامر على الدولة فكان لهمدول عظيمة استبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس و حظ كبير من الملك على نسبةالدولة التي اقتسموها و لم يزالوا في سلطانهم ذلك حتى جاز إليهم البجر المرابطونأهل العصبية القوية من لمتونة فاستبدلوا بهم و أزالوهم عن مراكزهم و محوا آثارهم ولم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم فبهذه العصبية يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها و قد ظن الطرطوشي أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاءالمفروض مع الآهلة ذكر ذلك في كتابه الذي سماه سراج الملوك و كلامه لا يتناول تأسيسالدول العامة في أولها و إنما هو مخصوص بالدول الأخيرة بعد التمهيد و استقرار الملكفي النصاب و استحكام الصبغة لأهله فالرجل إنما أدرك الدولة عند هرمها و خلق جدتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي و الصنائع ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر علىالمدافعة فإنه إنما أدرك دول الطوائف و ذلك عند اختلال بنى أمية و انقراض عصبتها منالعرب و استبداد كل أمير بقطره و كان في إيالة المستعين بن هود و ابنه المظفر أهلسرقسطة و لم يكن بقي لهم من أمر العصبية شيء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلاثمائةمن السنين و هلاكهم و لم ير إلا سلطاناً مستبداً بالملك عن عشائره قد استحكمت لهصبغة الاستبداد منذ عهد الدولة و بقية العصبية فهو لذلك لا ينازع فيه و يستعين علىأمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطرطوشي القول في ذلك لم يتفطن لكيفية الأمر منذأول الدولة و إنه لا يتم إلا لأهل العصبية فتفطن أنت له و افهم سر الله فيه و اللهيؤتي ملكه من يشاء.
الفصل الثالث: في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية
و ذلك أنه إذا كان لعصبية غلب كثير على الأمم و الأجيال و في نفوس القائمينبأمره من أهل القاصية إذعان لهم و انقياد فإذا نزع إليهم هذا الخارج و انتبذ عن مقرملكه و منبت عزه اشتملوا عليه و قاموا بأمره و ظاهروه على شأنه و عنوا بتمهيد دولتهيرجون استقراره في نصابه و تناوله الأمر من يد أعياصه و جزاءه لهم على مظاهرتهباصطفائهم لرتب الملك و خططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر و لا يطمعون فيمشاركته في شيء من سلطانه تسليماً لعصبيته و انقياداً لما استحكم له و لقومه منصبغة الغلب في العالم و عقيدة إيمانية استقرت في الإذعان لهم فلو راموها معه أودونه لزلزلت الأرض زلزالها و هذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى و العبيديينبأفريقية و مصر لما انتبذ الطالبيون من المشرق إلى القاصية و ابتعدوا عن مقرالخلافة و سموا إلى طلبها من أيدي بنى العباس بعد أن استحكمت الصبغة لبني عبد منافلبني أمية أولا ثم لبني هاشم من بعدهم فخرجوا بالقاصية من المغرب و دعوا لأنفسهم وقام بأمرهم البرابرة مرةً بعد أخرى فأوربة و مغيلة للأدارسة و كتامة و صنهاجة وهوارة للعبيديين فشيدوا دولتهم و مهدوا بعصائبهم أمرهم و اقتطعوا من ممالكالعباسيين المغرب كله ثم أفريقية و لم يزل ظل الدولة يتقلص و ظل العبيديين يمتد إلىأن ملكوا مصر و الشام والحجاز و قاسموهم في الممالك الإسلامية شق الأبلمة و هؤلاءالبرابرة القائمون بالدولة مع ذلك كلهم مسلمون للعبيديين أمرهم مذعنون لملكهم وإنما كانوا يتنافسون في الرتبة عندهم خاصة تسليماً لما حصل من صبغة الملك لبني هاشمو لما استحكم من الغلب لقريش و مضر على سائر الأمم فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أنانقرضت دولة العرب بأسرها و الله يحكم لا معقب لحكمه.
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59