عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 02-19-2016, 04:13 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي من الاحتواء إلى تغيير الأنظمة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد 11 أيلول


من الاحتواء إلى تغيير الأنظمة
السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد 11 أيلول


محمد سليمان أبو رمان
كان الخطر السوفييتي أثناء الحرب الباردة يوجِّه السياسة الخارجية الأمريكية، ويحدِّد أهدافها الاستراتيجية، والتي تمثلت في حماية مصادر الطاقة من سيطرة أية قوى راديكالية عليها، وحماية الأنظمة الحليفة ومساندتها ضمن استراتيجية الاحتواء، وفي مقدمة هذه الأنظمة إسرائيل التي كان تحالفها يزداد ويتوثَّق مع الولايات المتحدة، إلى درجة يصعب حصر تفسير ذلك بالأبعاد السياسية والعسكرية، بعيداً عن العوامل الثقافية والدينية(1).
ومع نهاية الحرب الباردة، وخروج الولايات المتحدة منتصرة على التحالف الشيوعي، وانشغال أوروبا بشكل كبير في ترتيب بيتها الداخلي (بما في ذلك الصراعات العرقية، إعادة تأهيل أوروبا الشرقية، واستحقاقات ذلك سياسياً واقتصادياً)، وأوضاع روسيا المتردية التي تجعل جل اهتمامها في الداخل وفي الوضع الاقتصادي، بدا أن الولايات المتحدة هي القوة الكبرى الوحيدة التي تمتلك إمكانية الحركة الفعّالة للقيام بدور عالمي يهيء مزيداً من المكاسب والفرص.
هذه المرحلة شهدت جدالات فكرية وثقافية وسياسية داخل الولايات المتحدة ترتبط بإعادة تعريف مصالحها الحيوية في العالم، وإعادة تعريف مصادر التهديد، وبالعودة إلى قاعدة أن "تعريف المصلحة عند استراتيجيي ومنظري أية دولة يرتبط بمقدار قوتها"(2). فإن التقييم العام للقوى العالمية كان يشير - حسب جوزيف ناي - إلى تفرد الولايات المتحدة بالهيمنة العسكرية، بينما في الجانب الاقتصادي هناك تنافس بينها وبين اليابان وأوروبا، وهناك دور صاعد في تقييم القوى للمنظمات عبر القطرية(3).. هذا التفرد الأمريكي، أتاح للولايات المتحدة العمل على استثمار البيئة الدولية بعد الحرب الباردة Post- Could War، و توفير الشروط الملائمة لحماية المصالح الأمريكية الحيوية Vital Interest، وتشكيل البيئات المناسبة في مختلف مناطق العالم Shape the Environment ، ومن أبرز هذه المناطق: منطقة الشرق الأوسط.
فلقد كانت حرب الخليج الثانية فرصة مناسبة للأمريكان لتحقيق عدة أهداف منها: السيطرة على منابع النفط الرئيسة في العالم، التخلص من قوة العراق والتي أصبحت آنذاك تهديداً كبيراً لإسرائيل وللدول المحافظة الحليفة للولايات المتحدة، بناء نواة لوجود عسكري أمريكي، وتوقيع اتفاقيات عسكرية تتيح للولايات المتحدة وجود عسكري/استراتيجي مشروع -على المستوى الرسمي العربي- يضمن الحفاظ على المصالح الأمريكية ودرء مصادر التهديد.
ثم تلا حرب الخليج الثانية عقد مؤتمر مدريد والذي هدف إلى إنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي، وبناء نظام شرق أوسطي جديد يدمج إسرائيل في المنطقة العربية، ويعيد تشكيل التحالفات والتفاعلات بما يخدم المشروع الأمريكي.
ووفقا للترتيبات الجديدة، فقد اعتبرت كل من إيران والعراق من أبرز مصادر التهديد للمشروع الأمريكي؛ فالعراق وعلى الرغم من هزيمته في الحرب، إلاّ أنه يتوافرعلى الثروة الطبيعية والخبرة العسكرية والمشروع السياسي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، بالإضافة إلى رفضه لمجمل العملية السلمية، ويحدد كيسنجر الخيارات الأمريكية التي كانت أمام إدارة الرئيس كلنتون في تعاملها مع نظام الرئيس صدام: إما الإطاحة به والتخلص منه، وإما إعادة تأهيله وإنتاج دوره بما يتلاءم مع المشروع الأمريكي، وإما إبقاؤه في "جحره" وفقا للعقوبات وقرارات مجلس الأمن – خصوصاً قرار627- ومناطق الحظر الجوي، وقد اختارت الإدارة إبقاءه في جحره(4). أما إيران فاعتبرت الإدارة الإيرانية "الأصولية" متعارضة في توجهاتها مع مصالح الولايات المتحدة، بالإضافة إلى دعمها للحركات والمنظمات الإسلامية التي تعارض التسوية مع إسرائيل(5) . وقد عملت الولايات المتحدة على مواجهة كلا الدولتين من خلال ما سمي باستراتيجية "الاحتواء المزدوج"، بالإضافة إلى ذلك، فقد اعتبرت الولايات المتحدة الحركات الإسلامية خاصة المجاهدة حماس وحزب الله والجهاد من الحركات الإرهابية، وتم عقد مؤتمر شرم الشيخ 1996 في مواجهة العمليات المسلحة التي تهدد مسيرة التسوية.
وعلى الرغم من النجاح الذي حققه المشروع الأمريكي نسبياً في فترة التسعينات في حرب الخليج الثانية، وعقد مؤتمر التسوية، والاتفاقيات التي وقعت، والتطور الذي حصل في مسيرة السلام، إلاّ أنه ومع نهاية القرن العشرين بدت علامات التراجع واضحة على مسيرة المشروع؛ وذلك بفشل الإدارة الأمريكية في إقناع كل من إسرائيل وسوريا بالوصول إلى أي اتفاق، وباستغلال صدّام حسين للثغرات في العقوبات الموجودة، وعمله على إعادة إنتاج قوته العسكرية وثروة النظام، وبدا وكأن العقوبات تزول وتتلاشى عمليا على الرغم من المشكلات التي كانت بين العراق وبين لجان التفتيش، وتوّج تراجع المشروع الأمريكي بعجز كلنتون في إجبار عرفات على الموافقة على العروض الإسرائيلية في قمة كامب ديفيد 2 عام 2000(6).
لقد ودع الرئيس كلنتون البيت الأبيض تاركاً شعوراً لدى الساسة الأمريكان بتدهور المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، وجاءت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش وهي تحمل انتقادات لتورط الإدارة السابقة في تفاصيل المفاوضات، وتعمل على مراجعة السياسة الأمريكية في المرحلة الأخيرة على صعيدي الوضع الفلسطيني-الإسرائيلي والعراق، فعلى الصعيد الأول اتَّخذت الإدارة سياسة "الانغماس الحذر(7)" وعدم التورط في تحديد استحقاقات الحل النهائي في مواعيد قريبة، وتلبَّست برؤى وأفكار "اليمينيون الجدد" في أمريكا والذين يرتبطون بشكل ديني عضوي بنبوءات التوراة وبالحفاظ على إسرائيل(8). أما فيما يخص العراق فقد جاءت بمشروع "العقوبات الذكية" الذي كان يسعى لإبقاء وتجديد الحصار على العراق، لكنها فشلت في تمريره من خلال مجلس الأمن.

أحداث أيلول والتحول في السياسة الأمريكية

شكَّلت أحداث 11 أيلول نقطة تحوُّل[ Turning Point]، في السياسة الخارجية الأمريكية، وإذا كان العديد من المحللين يجادل بأن أحداث أيلول ليست إلاّ استمراراً لسياق السياسة الأمريكية الخارجية قبلها(9) ، فإنّ هذه الأحداث على الأقل ولّدت فعالية وزخماً كبيراً في السياسة الأمريكية اتجاه العالم، وكشفت بشكل كبير عن اعتقادات وأفكار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وأحلامهم الإمبراطورية الدفينة، وعقيدتهم المنبثقة عن مزيج من المسيحية واليهودية والنبوءات الحدسية الغريزية، ورؤاهم حول نهاية العالم والكون(10) المؤثرة بشكل كبير على البيت الأبيض وسياساته؛ الأمر الذي تحدَّث عنه عدد كبير من المحللين والسياسيين، بل وصدّرت مجلة نيوزويك الشهيرة أحد أعدادها بعنوان رئيسي هو: "بوش والرب"، ويرى بعض الباحثين أن التغير الذي طرأ على السياسة الأمريكية اتجاه الشرق الأوسط مؤخراً هو نتاج عاملين رئيسين: وصول المحافظين الجدد إلى الإدارة الأمريكية بقوة وسيطرتهم على مقاليد الأمور هناك، وأحداث أيلول والتي شكلت " المحفِّز الاستراتيجي" لإظهار عقيدة وأفكار المحافظين وإيجاد المسوغ العملي لها (11).
ولم تتباطأ الإدارة الأمريكية في توظيف الأحداث لتمرير أحلامها وخطابها الذي تؤمن به، واستعادت خطاب الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان في التعامل مع الشيوعيين، ولكن هذه المرة في التعامل مع ما يسمى بالإرهاب، فقسَّمت العالم إلى فسطاطين اثنين تمثل هي وحلفاؤها الجانب الخيّر فيه، بينما يمثل كل من لا يتفق معها الجانب الشرير الآخر، وأعلنت حربها على الإرهاب لتجد بذلك الوعاء الاستراتيجي الذي يشكل ناظماً لكل طموحاتها التوسعية والإمبراطورية. وبديلاً عن الفراغ الفكري والاستراتيجي الناشئ عن غياب العدو التقليدي في العقود السابقة: الخطر الشيوعي.
لقد جاءت سبتمبر لتكشف عن رؤية متطرِّفة في التعامل مع الآخر تسيطر على قادة هذا البلد، وكما يلاحظ عدد من الباحثين فإنه من الصعب تصور بلورة رؤية كاملة واستراتيجية بالحجم الذي رأيناه بعد أيلول، إلا إذا كان لها مؤشرات وإرهاصات ومقدمات سابقة عليها. وكل ذلك متوافر فعلا في تصورات (12)ورؤية المحافظين الجدد وهو ما كشف عنه السلوك الأمريكي بعد سبتمبر.
لقد بدأت الولايات المتحدة حربها على الإرهاب بأفغانستان ودمَّرت حكومة طالبان التي كانت تحتضن تنظيم القاعدة، و وجدت لها موضع قدم في منطقة آسيا الوسطى، وطوَّرت رؤيتها الاستراتيجية الجديدة والتي عرفت باستراتيجية الأمن القومي الأمريكي: وهي عبارة عن نظريات استراتيجية جديدة تمثل تحوُّلا أمريكياً عن نظريات الحرب الباردة في التعامل مع العدو السوفييتي، فالعدو هذه المرة [الإرهاب] ليس بذات الوضوح والقوة المعروفة - كما كان الأمر سابقاً - بحيث تعتمد الولايات المتحدة في التعامل معه على نظريات الردع الاستراتيجي وسياسات الاحتواء، وإنما هو عدو هلامي متغير الأشكال، يعتمد أساليب جديدة وخطيرة.
ووفقا لهذه الاستراتيجية فإن أخطر عدو تواجهه الولايات المتحدة وأمنها القومي هو التحالف بين الأصوليه والتكنولوجيا، مما يمكّن من احتمال التهديد ووقوعه في أي لحظة، الأمر الذي يجعل من الضرورة الانتقال من سياسة الردع والاحتواء إلى سياسة الضربة الوقائية، التي تمنع حصول التدمير (13).
أما بخصوص الشرق الأوسط فمن الواضح أن التعامل معه كان في إطار المصالح والأهداف الاستراتيجية الأمريكية المعروفة: الطاقة، إسرائيل، دعم الأنظمة الحليفة، إلاّ أن التحول الكبير في هذه السياسة تمثل في جواب الإدارة الأمريكية عن السؤال الرئيس المطروح بفعل أحداث سبتمبر والمتلخص بـ:
لماذا قام شباب عربي من دول غنية متحالفة مع الولايات المتحدة وموقِّعة على اتفاقيات دفاع أو علاقات عسكرية وثيقة معها، مثل: السعودية ودول الخليج الأخرى بهذه التفجيرات؟(14)..
لقد تمحوَّر الجواب والتفسير الأمريكي للسؤال السابق حول مفهوم "الدولة الفاشلة" Failed State، وتلخص عبارة مارتن أنديك التالية جوهر الرؤية الأمريكية: " إنّ خطأ واشنطن الوحيد في الشرق الأوسط هو دعم نظم فشلت على نحو مستمر في تلبية الاحتياجات الأساسية لشعوبها، إن هذه النظم فضَّلت التعامل مع مشكلة حرية التعبير عن الرأي السياسي في بلدانها عن طريق توجيه المعارضة ضدنا(15)". فهذه الرؤية الأمريكية باتت تنظر إلى أن دعم الولايات المتحدة للأنظمة العربية القمعية في المرحلة السابقة كان خطأ كبيراً دفعت واشنطن ثمنه في الحادي عشر من سبتمبر، وفي هجوم الحركات الجهادية على مصالحها في أنحاء العالم. فالدولة الفاشلة التي تمتاز بظروف من التهميش الاقتصادي والاضطهاد السياسي هي الحاضنة للإرهاب، كما أن الدولة الهشة التي لا تمتلك شرعية سياسية قانونية تؤدي إلى تفريخ الإرهابيين(16). ووفقا لرؤية وتفسير المحافطين الجدد فإن أحداث سبتمبر هي نتيجة للصراع المحتدم بين الأنظمة العربية المستبدة الفاسدة وبين شعوبها، وقد أصبح هذا الصراع قضية أمريكية بعد أن تحوّل الإحباط لدى الشباب العربي الذي فشلت أنظمته في تعليمه وتوظيفه إلى غضب مضغوط ما لبث أن تفجّر (17).
وانطلاقا من التفسير السابق فإن التوجه الجديد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط يقوم على النقيض من سياستها في الحرب الباردة، والتي كانت تقوم على الحفاظ على الوضع الراهن، فالفلسفة والرؤية الجديدة تقومان على أن الولايات المتحدة نفسها ستعمل على التغيير السياسي والاقتصادي والثقافي في الشرق الأوسط، وقد تجلَّت هذه الرؤية في مبادرة الشراكة الشرق أوسطية التي أطلقها وزير الخارجية كولن باول (18).

الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية والأجندة الأمريكية الجديدة

تقوم فكرة الشراكة على الدور التاريخي المزعوم للولايات المتحدة أو " الاستثنائية الأمريكية " - في تصور المحافظين الجدد - على نشر قيم الحرية والديمقراطية في العالم، وهي في حقيقة الأمر غطاء أخلاقي وفكري لحماية المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، والتي ترى الولايات المتحدة أنها ستكون موضع تهديد وخطر ما لم تتغير الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية في الوطن العربي، والتي تنتج التطرف الإسلامي المعادي للغرب، ويلخص لنا هذه الرؤية بشكل واضح الخبير الاستراتيجي الأمريكي زيجنو بريجنسكي بقوله: " ..الحكومات الفاشلة هي التربة الرئيسة التي تولِّد التطرف الإسلامي والسياسات الخاطئة لهذه الحكومات هي التهديد الرئيسي لمصالحنا الاستراتيجية، وقد فشلت الحكومات والأحزاب العلمانية في توفير أنماط مستقرة للتنمية الاقتصادية والبنية الأساسية اللازمة لإجراء تغيير اجتماعي ضخم(19).." ، وبناءً على هذه المعادلة فإن التطرف الإسلامي الذي يخاطب مشاعر الغضب والإحباط لدى الشعوب، ويشكل البديل العدمي للسياسات الحكومية يجب مواجهته بزراعة الأمل من خلال الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية/ التعليمية في المنطقة، والعمل على إجراء تغييرات عميقة في المنطقة يؤكد عليها وليام بيرنز بقوله: " إننا نشجع التغييرات البنيوية البعيدة المدى" (20).
ويستدل المنظرون والسياسيون الأمريكيون بشكل كبير على رؤيتهم السابقة بتقرير التنمية العربي والذي أشار إلى الفجوة الكبيرة في التنمية، وإلى مظاهر الركود والإحباط في العالم العربي، وقد بنت وثيقة الشراكة الشرق أوسطية فكرتها المحورية على هذا التقرير والمتمثلة بـ: " إن أي معالجة للشرق الأوسط تتجاهل تخلفه السياسي والاقتصادي والتعليمي ستكون مبنية على رمال " (21). وبالتالي تضمنت الوثيققة دعوة إلى إصلاحات سياسية تشجِّع وتنشر الديمقراطية وتدعم مؤسسات المجتمع المدني أو ما يسميه باتريك سيل " الإمبريالية الديمقراطية(22) " ، مترافقة مع إصلاحات اقتصادية تقوم على تحرير اقتصاديات الوطن العربي من سيطرة الحكومات، وتعمل على دمج هذه الاقتصاديات بعجلة السوق العالمية الرأسمالية من خلال إزالة القيود على الحرية الاقتصادية وعملية انتقال السلع والدخول في الاتفاقيات والمنظمات الدولية الاقتصادية.
وإذا كانت الإصلاحات السياسية والاقتصادية الأمريكية جزءاً من الدعاية الأمريكية المعتادة، والتي تنوي الإدارة الجديدة تفعيلها، فإن الجديد فعلاً هو الدعوة الشديدة للإصلاحات الثقافية والتعليمية في العالم العربي، إذ يقول حسن نافعة: " يمكن القول إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كشفت -وفقاً لرؤية الإدارة الأمريكية- عن وجود مشكلة ثقافية كبرى في العالم العربي ككل، لا سبيل إلى معالجتها إلاّ بعملية تحديث كبرى لن تتم إلاّ بضغوطات من الخارج" (23). ولذلك جعلت الإدارة الأمريكية من ضمن أجندتها الجديدة في الشرق الأوسط دعم النخب العلمانية ومؤسسات المجتمع المدني والعمل على التواصل مع النخب المثقفة في العديد من الدول العربية، وإيجاد المؤسسات الثقافية والإعلامية التي تعمل على نشر الثقافة الغربية الليبرالية وتتبنَّى نخب شابة، وتتضمَّن أجندة الإصلاح الثقافي المطلوبة، والمطالبة بإصلاحات في نظم التعليم والتربية خاصة مؤسسات التعليم الدينية في دول مثل: السعودية واليمن وباكستان. ويؤكد هذه الرؤية عدد من المنظرين الأمريكيين من خلال ما يسمى بنظرية " الزجاج المكسور وكرة السلة " والتي تدافع بأنه ليس مطلوباً من الولايات المتحدة مراعاة ثقافة الشعوب العربية، وإنما مطلوب تغييرها.
بموازاة مبادرة الشراكة والإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تعمل الولايات المتحدة على القيام بها في العالم العربي فإنّ أجندتها الخارجية بعد أيلول تضمنت إعادة ترتيب وتشكيل الأوضاع الاستراتيجية في الشرق الأوسط بما يخدم الأهداف والمصالح الأمريكية في المنطقة، و يشكِّل عامل ضغط مباشر في تنفيذ المشروع الأمريكي، وتضمَّنت الأجندة بالإضافة إلى الإصلاحات السابقة:
- تغيير نظام الحكم في العراق وتعديل موازين القوى والدور السياسي لدول المنطقة.
- العودة إلى جهود التسوية من خلال خارطة الطريق.
- الاستمرار في جهود مكافحة الإرهاب ومحاصرة المنظمات الإسلامية.

الحرب على العراق والأهداف الاستراتيجية

لقد كانت الولايات المتحدة تنظر إلى الحرب على العراق أنها بمثابة "المفتاح الذهبي" للمشروع الأمريكي المنشود لمنطقة الشرق الأوسط؛ والذي يتمثل في إطاره العام في بناء إجماع استراتيجي مؤيد للولايات المتحدة من باكستان إلى البحر المتوسط، وإنعاش فكرة النظام الشرق أوسطي، لكن هذه المرة بدعامات أقوى وبشروط نجاح أكثر في مقدمتها حكومة عراقية موالية للولايات المتحدة، والتي ستوظفها الولايات المتحدة بشكل كبير في تحقيق المصالح الأمريكية، وأبرز الأهداف الأمريكية من احتلال العراق تتمثل في :
1. الحفاظ على وجود عسكري استراتيجي أمريكي في المنطقة وفي الخليج العربي يضمن للولايات المتحدة السيطرة على مصادر الطاقة، والتحكُّم بالأسعار، وجني فوائد اقتصادية كبيرة للشركات النفطية الأمريكية.
2. المضي في العملية السلمية بالاستفادة من دروس المرحلة السابقة، وفقا للخطة الأمريكية الجديدة (24)"خارطة الطريق" والتي بدأت واشنطن بتطبيقها بعد احتلال العراق، وتعتمد على وقف عمليات إطلاق النار بداية وتفكيك البنية العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى اتفاقيات جزئية تمهد الطريق للحل النهائي، لكن شريطة القيام بإصلاحات فلسطينية سياسية وأمنية، وعلى رأسها تحييد عرفات؛ إما بعزله أو بسحب صلاحياته من خلال رئيس وزراء فلسطيني جديد وهو أبو مازن ( والذي استقال قبل أيام من منصبه)، وبقيادة فلسطينية جديدة مثقفة
وليبرالية على حد تعبير كيسنجر(25).
3. الضغط على أنظمة عربية حليفة للولايات المتحدة، ولكنها تناور في تنفيذ المشروع الأمريكي وهي مصر والسعودية، من خلال اعتبار العراق أحد الأعمدة الرئيسة للسياسة الأمريكية الشرق أوسطية.
4. تشديد الحصار على كل من إيران وسوريا لتغيير سلوكهما، بالنسبة لسوريا فلا يبدو من الوثائق والمصالح الأمريكية أن المطلوب تغيير بنية النظام، ولكن تغيير سلوكه السياسي ابتداء من الموقف من التسوية وانتهاء بالحالة السورية- لبنانية، وإلغاء دعم الحكومة السورية للمنظمات المعارضة للتسوية، وإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية نحو "اللبرلة"، أما إيران فمن الواضح أن الولايات المتحدة تراهن على التغيير من الداخل، وبالاعتماد خارجيا على سياسة الاحتواء. خاصة أن الدولتين (سوريا وإيران) تجدان الآن نفسيهما في بيئة إقليمية متحالفة مع الولايات المتحدة، من الشرق باكستان وحكومة أفغانية موالية لواشنطن، من الشمال تركيا عضو في حلف الناتو ومتحالفة عسكرياً مع إسرائيل، وبالجوار العراق الجديد الذي تريده الإدارة الأمريكية أن يكون أحد أعمدتها في المنطقة، ومن الجنوب دول الخليج، وفي الجوار عدة دول تحتوي على تواجد عسكري أمريكي بري وبحري وجوي.
ووفقا للترتيبات الجديدة الجاري العمل عليها فإن سيطرة الولايات المتحدة على نفط العراق ووجود قواعد عسكرية لها فيه، سيكون عاملاً مساعدا لها لحفظ مسافة مع المملكة العربية السعودية؛ والتي يبدو وفقاً للدعاية الأمريكية وتقارير المؤسسات البحثية وتصريحات عدد من المسؤولين هناك أنها تتحول يوماً بعد يوم لتصبح معقلا للإسلام الجهادي(26) . ومن الواضح أن هناك مخططاً أمريكياً للتقليل من دورها وحجمها الإقليمي، والضغط عليها لإجراء إصلاحات سياسية وثقافية واقتصادية، وقد طالت الحملة الأمريكية حتى أفراد في الأسرة الحاكمة والمؤسسات المالية (27)والدعوية والخيرية السعودية.


آفاق السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

لقد كان احتلال العراق مرحلة جديدة وخطيرة في تطور العلاقة بين الشعوب العربية وبين الولايات المتحدة، ومن الواضح إلى الآن تعثر المشروع الأمريكي سياسياً وعسكرياً في العراق، كما أن المخطط الأمريكي لحل القضية الفلسطينية من خلال التغيير في موازين القوى بعد انتهاء الخطر العراقي و بضغط الوجود العسكري الأمريكي الجديد في المنطقة ما زال يترنح في مكانه، وبالتالي فإن التقدم الذي حصل في البداية - احتلال العراق، الموافقة الفلسطينية والعربية على خارطة الطريق، تشكيل حكومة أبو مازن- دحلان، الضغوطات على سوريا وعلى المنظمات الفلسطينية المعارضة للتسوية – لا يعني أن المشروع الأمريكي أصبح قدراً ومنجزاً وما علينا إلا القبول به، وإنما يعني بعبارة صريحة ومختصرة أن منطقة الشرق الأوسط تعيش اليوم بين مشروعين: المشروع الأمريكي القائم على الهيمنة والإذلال والتواطؤ البشع مع المشروع الصهيوني، في المقابل المشروع النهضوي الإسلامي القائم على المقاومة والنهضة والتنمية الذاتية.
إن نجاح المشروع الأمريكي أو عدمه لا يرتبط فقط بالمخططات الأمريكية، وإنما يرتبط بنا نحن ابتداءً، فإذا أردنا أن نُفشِل هذا المشروع سنفشله، وإذا تواطأنا على نجاحه فسينجح، ومواجهة المشروع الأمريكي لا تعتمد فقط على جانب المقاومة المسلحة كما هو الحال في العراق وفي فلسطين، وإنما تعتمد أيضا على القراءة الموضوعية النقدية لحالتنا الحضارية الراهنة واللحظة التاريخية الحرجة التي ما زلنا أسرى لها، والعمل على المضي قدما في تجاوز نقاط الضعف في هذا الواقع من خلال الاعتراف ابتداء بمناطق الحرج فيه، فمبادرة الشراكة الأمريكية استندت على تقرير التنمية العربي وما جاء فيه من رصد وتحليل – مع تحفظنا على بعض أجزائه- للواقع التنموي والثقافي والسياسي العربي المؤلم، والقوات الأمركية دخلت العراق وسيطرت على بغداد بطريقة مخزية ومذلة مستغلة حالة الإنسان العراقي الذي حطَّم نظام صدام الفاسد بنيته النفسية وإرادة المقاومة لديه، وأفرغه من مصادر العزة ومن الطاقات المثقفة وجعل مؤسسات المجتمع الأهلي صدى لحالة الفساد المستشري في السلطة وفي مؤسسات الدولة الرسمية، وغني عن القول أن مناطق الحرج لا تقف عند الحالات السابقة، وإنما تتعداها إلى حالات كثيرة وعلى مستويات متعددة سياسياً وتنموياً وثقافياً واقتصادياً..الخ.
إنّ أمام القوى والمثقفين والمخلصين في العالم العربي والإسلامي وبالتحديد في هذه المنطقة واجبات كبيرة ومهام خطيرة أولها المراجعة الحضارية النقدية الموضوعية للذات ولمواطن العلل، والعمل على الحوار الجاد والعميق في بناء استراتيجية النهوض والتنمية والتحرر. وما يدريك: فلعل المشروع الأمريكي الاستعماري يكون محفزاً حضارياً لاستنهاض همم الشعوب والقوى الإسلامية كما كانت أحداث أيلول (سبتمبر) قبل عامين محفزاً للمحافظين الجدد لإخراج ما في جوفهم من أحلام صليبية استعمارية!.



(1)انظر حول هذا الموضوع: محمد السعيد إدريس، الرؤية الأمريكية لإسرائيل، في: خيرية قاسم وآخرون، السياسة الأمريكية والعرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1 ، 1982،ص205-217.
(2)انظر: Joseph Nye, Redefining the National interest, Foreign Affairs, July/ August 1999, p 24.
(3)Ibid, 24.
(4)انظر: هنري كيسنجر، هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية : نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين، دار الكتاب العربي، بيروت، ترجمة عمر الأيوبي، 2002، ص 192.
(5)انظر: نفس المرجع ص 197-202. وكذلك تقرير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى بعنوان "Navigating through Turbulence America And the Middle East in A New Century" .
(6) انظر حول إخفاق إدارة الرئيس كلنتون: ديفيد ماكوفيسكي، التقسيم..طريق السلام في الشرق الأوسط، الفورين أفيرز، ترجمة أمل الشرقي، العرب اليوم، 4 نيسان 2001. وكذلك هنري كيسنجر، مرجع سابق ص 175-180.
(7)د. محمد خالد الأزعر، السياسة الأمريكية الفلسطينية بعد 11 سبتمبر: محددات الاستمرارية والتغيير، شؤون عربية، ع109، ربيع2002، ص38-41.
(8)انظر حول اليمين الأمريكي الجديد:سميح فرسون، جذور الحملة الأمريكية المناهضة للإرهاب، المستقبل العربي، ع 284، 2002،ص10.
(9)انظر على سبيل المثال: عبدالله نقرش وعبدالله حميد الدين، السلوك الأمريكي بعد الحادي عشر من أيلول: وجهة نظر، مجلة المستقبل العربي، ع 286، 12/2002، ص 18-22.
(10)انظر الفضل شلق، العدوان على العراق: إدارة بوش والمحافظون الجدد، مجلة شؤون الأوسط، صيف 2003، ص32.
(11)انظر حسن نافعة، وجهة نظر في تطور الرؤية الأمريكية تجاه العالم العربي، مجلة السياسة الدولية، ع 153، يوليو 2003، ص78.
(12)انظر عبدالله نقرش، مرجع سابق، ص 18.
(13) انظر نص وثيقة الأمن القومي على موقع وزارة الخارجية الأمريكية على شبكة الإنترنت: www. Usinfo.state.gov
(14)لعل هناك أسئلة أخرى برزت في محددات العلاقة بين العرب والولايات المتحدة تشتبك مع هذا السؤال في عدة مناطق سياسية وفكرية، مثل التساؤل الذي طرحه المثقفون والمفكرون الأمريكان: لماذا يكرهوننا؟.
(15)انظر: الجزيرة نت 11/10/2001.
(16)انظر حول هذه الرؤية: بي.دبيليو.سنفر، زمن الخيارات الصعبة: المآزق التي تواجه سياسة الولايات المتحدة نحو العالم الإسلامي، عن صحيفة الرأي،25/11/2002. وانظر كذلك: جون سبوزتو، الإسلام السياسي والسياسة الخارجية الأمريكية، في: أحمد يوسف، مستقبل الإسلام السياسي (وجهات نظر أمريكية)، المركز الثقافي بيروت، ط2 2002، ص114. وقارن ذلك ب: Stephen Zunes, Us Policy Toward Political Islam, Foreign Policy in Focus, September 12,2001,www.fpif.org
(17)انظر حسن نافعة، مرجع سابق، ص 78.
(18)الفضل شلق، مرجع سابق، ص 45.
(19)زيغنو بريجنسكي، السياسة الخارجية الأمريكية: تحديات القيادة في القرن ال21، مجلة شؤون الأوسط، كانون أول- كانون ثاني، 1999، ص 77.
(20)انظر: وليام ج. بيرنز، سياسة أميركا اتجاه الشرق الأوسط في السنوات المقبلة، صحيفة الحياة 4 كانون الأول، 2002.
(21)انظر نص الوثيقة على موقع وزارة الخارجية الأمريكية على شبكة الإنترنت، مرجع سابق.
(22)باتريك سيل، جدول أعمال البيت الأبيض المعادي للعرب.
(23)حسن نافعة، مرجع سابق، ص 78.
(24)انظر نص الوثيقة التي حصلت عليها صحيفة الرأي الأردنية: 9/كانون الثاني/2003.
(25)انظر حول الرؤية الأمريكية: المرجع السابق، وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2002، مرجع سابق، وهنري كيسنجر، مرجع سابق، ص173، وكذلك: Agenda 2003 Shaping America's Future على موقع www.heritage.org
(26)انظر: انياسيو رامونه، النظام الإمبراطوري الأمريكي على ضوء " استراتيجية الأمن القومي" الجديدة، لوموند ديبلوماتيك، الترجمة العربية لها، تشرين الأول، 2002.
(27)انظر حول الهجمة على السعودية والدعاية الكبيرة ضدها في الولايات المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر: Michael Klare, , , ,Asking "Why", www.fbif.org. September2001 و كريستوفر ديكي، المملكة والسلطة، نيوزويك (النسخة العربية)، 12 اغسطس 2003.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59