عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 07-16-2016, 09:54 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة العنصرية في الولايات المتحدة


العنصرية في الولايات المتحدة*
ـــــــــــــــ

11 / 10 / 1437 هــ
16 / 7 / 2016 م
ـــــــــــــ

العنصرية d10f298e16c4a67f8b5740573f949804-796x427.jpg




العنصرية داء فتاك يصيب المجتمعات فيفكك عراها، ويفسد موازينها في تقييم الأفكار والآراء والمعلومات والأقوال والأعمال، ويصرف الناس من الألفة والمودة والصلة والتعاون إلى القطيعة والتنازع والصراع. وعندما نزل الوحي على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في مكة بالجزيرة العربية ليؤكد على واحدية أصل الجنس البشري، وعلى منشئه: (كلكم لآدم وآدم من تراب)، ويؤكد على أن اختلاف الألوان والألسن آية إلهية: ((ومِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَكُم مِن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * ومِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِّتَسكُنُوا إِلَيهَا وجَعَلَ بَينَكُم مَّوَدَّةً ورَحمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ * ومِن آيَاتِهِ خَلقُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ واختِلَافُ أَلسِنَتِكُم وأَلوَانِكُم إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلعَالِمِينَ))، الروم: 20- 22، إنما أراد أن ينزع كل دواعي العنصرية القائمة على الجنس أو اللون أو اللغة، وأن يؤسس للتعامل الإنساني الندي القائم على العلاقات الطبيعية وتبادل المنافع في الدنيا، مع اعتبار ميزان التفاضل عند الله على التقوى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))، الحجرات: 13.
وعندما تنحرف البشرية عن الهداية الإلهية وتتدثر بالجاهلية الأرضية تقيم رؤيتها للآخر وفق مقاييس مادية لا اعتبار لها عند الله تعالى؛ وتمارس ضد الآخر كل أنواع الظلم والبغي والتعدي، باعتباره أَنقَصَ بَشَريَّةً أو أَحقَرَ إنسَانيَّةً. وقد واجه الرسول –صلى الله عليه وسلم- في بيئته ومجتمعه الدعاوى العنصرية وأبطلها، وقال في حجة الوداع وهو يقرر مبادئ الإسلام الكلية ومبانيه العظام: (يا أيُّها النَّاسُ ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لِعَربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لعَجميٍّ على عربِيٍّ، ولا لِأَحمرَ على أَسودَ، ولا لِأَسودَ على أَحمرَ،.. إلاَّ بالتَّقوى)[1]؛ وحذر من العنصرية الجاهلية فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَد أَذهَبَ عَنكُم عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ..)[2].
وعندما بعث الرسول –صلى الله عليه وسلم- في مكة آمن به الذكر والأنثى، والعربي والأعجمي، والأبيض والأسود، والحر والعبد. وعندما وجه رسول الله من رغب من أصحابه –رضي الله عنهم- في الهجرة، بعدما وجدوا من أذى قومهم، وجههم إلى الحبشة. وعندما بنى المجتمع المدني بعد هجرته ليثرب بناه على أساس المساواة وإلغاء الفوارق الأرضية المصطنعة. ومن ثمَّ فقد استوعبت الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي عبر التاريخ جميع الأجناس والأعراق، من فرس وترك وأحباش وبربر وفرنجة؛ وأتاحت لأهل الكتاب وأشبابهم البقاء داخل مجتمعاتها. أما ما وجد من نماذج خاطئة عبر التاريخ الإسلامي فهي خارجة عن مبادئ وقيم وروح الإسلام وأحكامه وتوجيهاته. وهي لا ترتبط بحقيقة الثقافة الإسلامية الأصيلة، بقدر ما هي عودة للجاهلية.
أما المجتمع الغربي فمن طبيعته الشخصية عبر التاريخ النزعة العنصرية، التي تقوم على أساس فرز الناس في ضوء الجنس أو العرق أو القومية، أو الطبقة الاقتصادية، أو المهن والأعمال. وطبيعة الصراعات التي شهدتها أوروبا عبر التاريخ في معظمها عنصرية. لذلك لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية منذ نشأتها في منأى عن هذه النزعة الشيطانية. فقد عمل المهاجرون الأوربيون أثناء توسعهم في الأرض المكتشفة حديثا على إبادة السكان الأصليين في سبيل استفراد الجنس الأبيض بخيرات هذه القارة الثرية بمواردها الطبيعية.
من هنا يرى عدد من المفكرين بأن مشكلة العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية تاريخية، وأنها ظاهرة معقدة، يتداخل فيها القومي بالديني بالاقتصادي بالسياسي. وقد مارس المحتلون الجدد للقارة تجارة الرقيق الأسود بدون رحمة في إطار بناء مجتمعهم الجديد وتوجيه حروبهم التوسعية!
وقد أخذت هذه العنصرية بعدا إضافيا إلى كونها ثقافة تقليدية، فاستحالت إلى قوانين وتشريعات تعطي للبيض حقوقا وامتيازات خاصة؛ في حين تحرم السكان الأصليين والرقيق الأسود منها. هذه القوانين ضمنت للبيض الأوربيين فرصا في التعليم، والهجرة، والتصويت، والمواطنة، وحيازة الأراضي، والإجراءات الجنائية وتمنع الزواج المختلط.. على مدى ثلاثة قرون!
دينيا –أيضا- عانى الكثير من الجماعات غير البروتستانتية المهاجرة من أوروبا من العنصرية والتمييز. ورغم عدم وجود نص دستوري يمنع غير البروتستانتيين من الوصول لسدة الحكم، إلا أن جميع رؤساء الولايات المتحدة بروتستانت، ومن استطاع الوصول من غيرهم للرئاسة صفي اغتيالا[3]. أما اجتماعيا فقد ظلت نظرة البيض إلى الأفارقة السود والآسيويين نظرة دونية، تمنع من الاختلاط بهم، والزواج منهم، والسكنى معهم تحت سقف واحد.
وقد كلفت مواجهة العنصرية المجتمع الأمريكي حربا أهلية، وحالات إبادة جماعية، ونضالا مستمرا امتد عبر كافة المنابر المختلفة والمؤسسات المدنية؛ كما كلفت شخصيات أمثال "مارتن لوثر كينغ"[4] حياته.
وبالرغم من جهود المواجهة ظلت العنصرية ثقافة كامنة تحت الجلد؛ حيث عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تذكر شبكة حقوق الإنسان في الولايات المتحدة (U.S. Human Rights Network): أن التمييز يتخلل جميع نواحي الحياة في الولايات المتحدة، ويمتد إلى جميع المجتمعات المحلية.
أما العنصرية الممارسة ضد العرب والمسلمين في الغرب فقد باتت موضوعاً يومياً متكرراً. وتتشكل في ظاهرة الـ"إسلاموفوبيا"، التي برزت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، وفي إثرها بات العرب والمسلمون يتعرضون لأنواع من الممارسات العنصرية، من: تهميش، وإقصاء، وسخرية، وشتم، إلى ممارسة الاعتداء باليد.
إن فلسفة التعايش التي حققها المجتمع الأمريكي لفترة ما، والتي تحقق في ضوئها نهوض عمراني وتقدم مادي وانصهار لكل الثقافات في بوتقة واحدة، ومثلت نموذجا عالميا يتطلع له، تتعرض في ضوء التنافس المادي تحت وطأة الرأسمالية الطاحنة لاختبار صارم. وربما عاد الصراع العنصري مجددا كأداة من أدوات حيازة السلطة والثروة، وحرمان الأقليات منها.
فلا تزال الذاكرة الغربية تحمل النظرة السلبية إلى الأجناس الأخرى، باعتبارها: متخلفة، وبدائية، وعبئ على الوجود البشري، وغير مؤهلة لإدارة ذاتها وتحقيق استقلالها؛ وهذا يعني أن دياناتها وثقافاتها وتقاليدها وأعرافها غير صالحة، ولا يمكن القبول بها. لذلك فإن الغرب يسعى في عولمة ثقافته وتقاليده وأعرافه ونظمه وأنماط حياته ومعيشته، وفرضها بأدواته وعبر المؤسسات العالمية والمنظمات الدولية على شعوب العالم.
يقول أندريو هاكر -بروفيسور بجامعة نيويورك- في كتابه (أمتان: سوداء وبيضاء منفصلتان متنافرتان غير متساويتين)[5]: "منذ فترة الاسترقاق وحتى اليوم.. هذه الأمة [يعني الأمريكان] لم تفتح أبوابها بقدر كاف للسود بأن يكونوا مواطنين كاملين"، ويضيف: "نعم، لقد حدث تقدم، ولكن معه جاءت تطلعات لم تنفذ". وهو يعتقد –رغم كونه من البيض- بأن استمرار اعتقاد البيض في عظمة جنسهم الأبيض يرجع إلى العادة، ولأن ذلك يخدم غرضاً اقتصادياً وسياسيا؛ ويقول: "إن البياض اللوني هو حالة مثل المكروب النفسي؛ إنه يجعل البيض يتعاملون مع السود من منطلق الأعلى إلى الأسفل".
وقد حاول هاكر في كتابه من خلال عملية إحصائية أن يوضح تباين التحصيل المادي، وتباين توزيع الثروة، ومستوى البطالة، بين الرجل الأبيض والرجل الأسود في المجتمع الأمريكي. ويعلل ازدحام السجون بالسود –الذين يقدرون بحوالي 45%- نتيجة ليأس السود من النظام المحيط بهم، وهذا اليأس مصدره الأثر الهدام والصادر من الرجل الأبيض.
وما يذكره هاكر يؤكده فوز "باراك حسين أوباما" برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في 20 يناير 2009م، ليكون أول رئيس من أصول أفريقية يصل للبيت الأبيض، وقبله تمكن أوباما المتخرج من كلية الحقوق بجامعة هارفارد ليكون من أوائل الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية الذين يتولون رئاسة مجلة هارفارد للقانون! وأن يكون أول مرشح للرئاسة من أصل أفريقي للحزب الديمقراطي! هذا بعد عقود وتضحيات كبيرة وضخمة!
ولا يزال الفصل العنصري قائماً بوجه من الوجوه، رغم التشريعات وقوانين الردع[6]. وتكرر المصادمات بين الشرطة الأمريكية والسود، والتي يكون ضحاياها غالبا من السود، لا يدان فيها الجنود البيض أمام المحاكم، ما يفجر عادة غضبا عارما لدى السود!
وقد كشف حادث مدينة (فيرجسون) الذي راح ضحيته فتى أسود برصاص شرطي أبيض الشعور المكبوت لدى السود، حيث بدأت التظاهرات والاحتجاجات لتعم ولايات أمريكية عدة. وقد شجعت حملة "ترامب" -واليمين الأمريكي عموماً، والقائمة على العنصرية تجاه المهاجرين والأقليات، على العنف العنصري؛ وأسهمت في اشتعال عمليات قتل الأبرياء السود على يد رجال الشرطة. وها هي أمريكا تعيش ردَّات فعل عنيفة في المجتمع الأسود تنحو باتجاه الانتقام المنفلت تجاه البيض.
إن داء العنصرية بدأ يطفو إلى السطح بشكل سافر مجددا، بعد أن كان كامناً تحت ضجيج الحياة الصاخبة في الغرب، وفي وعي وضمير الرجل الأبيض. وقد بات الغرب يشهد ارتفاعا في وتيرة الخطاب الشعبوي العنصري الذي تضخه أحزاب اليمين واليسار المتطرفة على السواء. وهو خطاب موجه ضد الأقليات والمهاجرين، بدعوى الحفاظ على الهوية الوطنية والدفاع عن حقوق غالبية الشعب. وما التصريحات العنصرية للمرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة "دونالد ترامب" ضد المسلمين والأقليات الأخرى إلا نموذج لمستوى الحضور الذي يلقاه هذا الخطاب.
-------------------------------------------
[1] رواه أحمد في مسنده، عن أَبِي نَضرَةَ، برقم (22978)، انظر: الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين، مقبل الوادعي.
[2] رواه الترمذي، برقم (3270).
[3] كما حصل مع جون كنيدي!
[4] هو زعيم أمريكي من أصول إفريقية، وناشط سياسي إنساني، نادى بإنهاء التمييز العنصري ضد السّود. وفي عام 1964م حصل على جائزة نوبل للسلام، وكان أصغر من يحوز عليها. اغتيل في الرابع من أبريل 1968م.
[5] Two Nations: Black and White, Separate, Hostile, Unequal
By: Andrew Hacker, Prentice Hall & IBD, 1st Edition, 22 Jan. 1992.
[6] رغم استمرار ناشطو حركة الحقوق المدنية، والمتعاطفين معها، في المطالبة بالاعتراف بكرامة السود واستيفاء وعود "إعلان الاستقلال"، إلا أن التمتع بحق التصويت لا يزال يستثنى قطاعات مجتمعية عدة عبر التاريخ الأمريكي؛ لأن التصويت في الانتخابات الأمريكية لم يكن مسألةً اقتصادية في الضمير المجتمعي، بقدر ما عَبَّر عن دلالة رمزية للقيمة الذاتية، واعتُبِرَ غايةً في حد ذاته.


---------------------------
*{مركزالتأصيل للدراسات والبحوث}
ــــــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59