عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 08-28-2012, 12:04 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي



3- سويفت المفكّر



لأسباب تتعلق بالنقاد المعاصرين وتتعلق، في الوقت نفسه، بما يقدمه لهم عظماء الكتاب الأوغسطيين، فإن مطلع القرن الثامن عشر في إنكلترا لم يكن موضع التجاوب الخاص من لدن أكابر المنظرين الأدبيين المعاصرين. فإذا قارنا نوع التعامل الذي تعامله الوعي النقدي الحديث مع شخصيات من أمثال دكتور جونسون وستيرن وغيبون وريتشاردسون، ومع ما فعله ببوب وسويفت، لوجدنا أن التناقض صارخ. وثمة طريقة أخرى لتفهم ما أعني هي التوقف عند مبلغ التشوق الذي بلغته دراسة غيبون وجونسون، مثلاً، لدى غير المتخصصين في القرن الثامن عشر. فسيرة جونسون بقلم والتر جاكسون بيت أو ندوة ديدالوس عن غيبون لهما طريقة في استقطاب الانتباه العام بالنظر للجدارة الفعلية لموضوعيهما وبالنظر أيضاً للمتعة التي قد يجدها القارئ المثقف بالطريقة التي تناولت هاتين الشخصيتين. إن مثل هذه المتعة لم تكن بكل بساطة متوفرة بالعمل الحديث عن سويفت. فلقد قامت هناك أعمال من قبل نقاد مشهورين من أمثال إيرفين إهرنبريس ودانيس دونوغو، ومع ذلك تبقى ماثلة للعيان تلك الحقيقة المرة عن تقويم سويفت بأنه، دون زيادة أو نقصان، كاتب كلاسيكي. فلماذا يوجد إذاً ذلك الفراغ، تلك الهوة المشؤومة بين احتمال كون سويفت كاتباً ذا طاقة فائقة لدى النقاد المحدثين وبين ذلك الأداء المخيب للآمال خارج إطار الزمرة الاحترافية في بحوث القرن الثامن عشر؟
إن من الممكن جداً أن ما قد ندعوه بالنقد المعاصر المتطور لم يتنبه لسويفت كنتيجة لمصادفة بسيطة، وإن من الصحيح، في خاتمة المطاف، أن يكون نورمان أو. براون قد درس فعلاً سويفت دراسة أثنى فيها عليه الثناء العاطر قبل عشرين سنة ونيف، وبما أن كتابه المعنون بـ "الحياة ضد الموت" كان وقتها عملاً رائداً، فإن هنالك إمكانية طيبة في أن يصبح سويفت من جديد ذلك الكاتب النموذجي للنقد المعاصر الطليعي. وبوسعنا أن نؤكد، بكلمات أخرى، أن الزمن لم يحن بعد، بيد أنه سيحين ولابد.
ومع ذلك فهذه المقولة مقولة ترفض النظر نظرة جادة إلى الظروف الفكرية والثقافية التي جعلت، في طول التاريخ البشري وعرضه، تجاهل بعض النصوص المعينة أو الانكباب عليها أمرين خاضعين لا للمصادفة المحض بل للإرادة المتعمدة والاختيار المقصود. ولكن فيما يتعلق بحالة سويفت الهزيلة والمطروحة على أئمة النقد المعاصر فهنالك أسباب عديدة للظن بأنها نتيجة لبعض القرارات الملموسة جداً.
وإني لأعتقد، بادئ ذي بدء، أن ما يجب قوله يكمن في أن سويفت، فضلاً عن بعض معاصريه من أمثال درايدن وبوب، ناهيك عن ستيل وآديسون وبولينغبرك، كان المستفيد بالأساس من نوع معين من الدراسة. وعلاوة على ذلك فإنني لا أقصد التهكم حين أقول أن الإطراء الكبير حق لأولئك الدارسين الذين يؤكدون على صحة آثار سويفت وعلى رصانته النصية- وهي بالمناسبة شيء هام جداً في خاتمة المطاف- إلى ذلك الحد الذي جعل تناولهِ مغامرة مثبطة للعزيمة، ففي حالة سويفت هنالك وقائع يجب أخذها بعين الاعتبار من أمثال الطبعات العظيمة التي طبعها هارولد وليامز وهربرت ديفيس. وإن العمل الذي جاءت به هاتان الطبعتان لعمل على مستوى رفيع جداً، كما أن تركيزهما على الوقائعية البحتة كان كبيراً ودقيقاً جداً أيضاً (وهذا ما يجب على الناشرين الأكفاء أن يقدموه للمرء) حتى أن سويفت ليبدو أقرب إلى القسيس الأنجليكاني الصريح والجلف بعض الشيء مثلما كان ولابد في بعض سنوات حياته الفعلية على الأقل، والواقع لا يشير إلى أن دراسة سويفت قد حددت سطوع نجمه، بل يشير إلى أن الدارسين، بعد حل العدد العديد من المشكلات النصية حلاً رائعاً تماماً، شعروا بشيء من الإحجام عن المغامرة خلف ذلك الميدان. ولقد صار ذلك الميدان بالفعل أشبه بجو النادي، الأمر الذي لا يثير الكثير من الاستغراب إن تذكرنا أن حلقة سويفت خلال أيامه اللندنية كانت تدعى بالنادي.
إن مظهراً هاماً من مظاهر النادي بالنسبة للقراء المحدثين كان على ما يبدو موضع تحديد ما دعاه لويس بردفولد، قبل بضع سنين، بكآبة الهجائين في حزب المحافظين. فهذه النظرة إلى سويفت وبوب وآربثنوت ما هي، في اعتقادي، إلا لازمة فكرية طبيعية للدراسة النصية التي تحدث عنها قبل هنيهة من الزمن، والتي يجب أن يوافق عليها معظم قراء سويفت وبوب لأنها صحيحة ومقنعة في آنٍ واحد معاً. وبمقدار ما كان الأمر يتعلق بالطبيعة البشرية فإن سويفت كان متشائماً، وسواء أكنا ننتمي في التحليل الأخير إلى مدرسة "الصقور أو الحمائم" من مؤولي رواية "أسفار غوليفر" علينا أن نقول بأن الياهوز* "Yahoos" يمثلون، بمعزل عن بيئتهم، فكرة عن الطبيعة البشرية أقرب ما تكون، ولو على مضض، لفكرة بعض بني البشر. وإن القول، علاوة على ذلك، أن وجهة النظر هذه تتطابق مع وجهة نظر سويفت لقول معظم القراء على استعداد لأخذه بعين الاعتبار وذلك لأن الفكرة المعممة لسويفت عن السخط الشديد "saeva indignatio" لفكرة متأصلة جداً في الوعي الثقافي.
إن المشكلة مع هذه القراءات التي تناولت سويفت هي أن تواترها وشهادتها قد حشراه إما مع عصبة من أقرانه ذوي التوجهات الذهنية المماثلة لتوجهاته (مع هجائي حزب المحافظين) وإما مع زمرة من المعتقدات التي لا يصعب استكشافها من كتابته. إن كل عمل سويفت، باستثناء "حكاية حوض" التي أذهلت حيويتها الفياضة كاتبها نفسه في وقت لاحق من حياته، يعزز في حقيقة الأمر فلسفة محافظة صارمة إلى حد ما، لا بل وفلسفة مقيتة. فالإنسان إما أن إصلاحه متعذر أو هو نزاع للبذاءة أو الفساد أو الحقارة، إذ إن الجسد مقزز بمنتهى البداهة كما إن التعصب، كمخططات الغزو أو مخططات مشروع شبه علمي، خطير ويهدد الجماعة السياسية، علاوة على أن كنيسة إنكلترا والآداب الكلاسيكية والملك (هذه المؤسسات الثلاث التي كان سويفت يعتقد بأنها مغروسة في العواطف القويمة لإنسان من أشياع كنيسة انكلترا) كانت تشكل بعضها مع بعض أعمدة وتراث الصحة البدنية والأخلاقية- وهذا الإيجاز ليس بالإيجاز المجحف لعقيدة سويفت، وهنالك عدة سمات أخرى مَرَضية إلى حد مؤسف ما أن توضع بحذاء جموح خيال سويفت، جموحاً تصعب السيطرة عليه إلا بشق النفس، حتى تقدم لنا رجلاً نظرته ضيقة ومحدودة، لا بل وسادية.
وهكذا فلن يجادل إنسان عندئذ أن سويفت هو ذلك الكاتب الفقهي أو الكلاسيكي لأنه يقدم للقارئ، شأنه بذلك شأن جونسون مثلاً، حيوية الذهن مقرونة بصحة المنطلق. فهو لا يشبه جونسون الذي تستهدف حركة كتابته فتح الأشياء، في حين أن كتابة سويفت تستهدف إغلاق الأشياء. وحتى لو وافقنا مع هربرت ريد على أن سويفت هو أعظم أسلوبي ناشر في اللغة الإنكليزية، فإن من المحتمل أن نشعر بأن تأثيراته عقيمة في جوهرها وصعبة وضيقة. فهو ينتمي إلى زمرة هامة ومصطفاة -من مثل شيكسبير كاتب ترويلس وكريسيدا، وميلتون في بعض الأحيان وجيرارد مانلي هوبكينز- التي قلما تستطيع اللغة، بالنسبة إليها، حمل عبء هذا الشيء من الإلحاح أو ذاك كي تصبح للتو، جراء ذلك، وبقوة متكافئة، حزينة ومحزنة. ففي سورة غضب لغة سويفت المكثفة والمصقولة إلى حد رفيع في آن واحد معاً، هنالك حيز صغير لما دعاه وردزورث بالموسيقا الحزينة الهادئة لأفراد الجنس البشري. وإننا نجد أنفسنا نتعامل مع التواءات الفكر وبهلوانيات الروح التي تخادعنا وتناقشنا ولكنها تميل إلى نبذنا في النهاية، لأن سويفت يجسد شخصيات على الدوام لا نحب أن نتماثل معها. فالأسئلة التي نتساءلها حين نقرأ سويفت هي في العادة من نوع "ما الذي يدور" أو"كيف تجري الأمور". وإن أمثال هذه الأسئلة تبرز أمامنا بشكل منطقي نظراً، وبالتحديد، لاقتضاب السطر لدى سويفت اقتضاباً لا يصدق، الأمر الذي يمثل جوهر الوصف الذي وصف به جونسون الأسلوب إذ قال “كلمات مناسبة في أمكنة مناسبة"، وهو الوصف الذي ليس بمقدورنا أن نضيف عليه إلا "وبإفراط".
وحري بنا أن نمضي قدماً إلى الأمام ولو قليلاً لتوكيد الحدود التي حجزت وراءها على ما يبدو سويفت من أن يكون مرشحاً للاهتمام النقدي الشيق. إن أكثر الموضوعات إصراراً على الصمود في عمل سويفت هو الضياع، وإن كتابته غالباً ما تبادر للإتيان بالمعنى الحرفي للضياع حتى قبل عرض طاقتها الرشيقة. ولذلك فإن المرء يفتقد في سويفت نفس بُعد الاتساع والصحة الذي يمكننا أن نراه، في سياق كتابته، مدفوعاً بعيداً عن الأنظار. فالجسم البشري، مثلاً، لا يعرضه سويفت (كما في حكاية حوض أو في أسفار غوليفر) إلا لكي يكون مهشماً أو مظلوماً باهتمام بالغ الدقة والتكثيف إلى الحد الذي يتحول فيه إلى شيء تتعزز منه النفس. إن حدة مثل هذا التقزيم ناجمة عن أن الكاتب يعرف هذا على ما يبدو، لابل وبدون الضياع بعربدة تسخر من ذاتها بذلك الأسلوب الذي يتسم بدقة براقة فريد من نوعها ندعوها بـ "السويفتية". فالأشياء التي يدور حولها اهتمام سويفت -من أفكار وبشر وأحداث- مجردة من قوتها الحقيقية أو من الحياة ومتروكة، في نثره، على شكل بقايا، أو معروضات ت*** معها الصدمة أو التسلية أو الإنسحار. فحين نفكر "بالمضمون" البشري لعمل سويفت، ونتصوره معطلاً مؤقتاً في الأسلوب البسيط، نتأكد بشيء من الانزعاج أن ما أمامنا معرضاً من العجائب والأشياء المرعبة: ككاتب مجنون ومنجّم قتيل وحرب مستحيلة ولا معقولة وكاتب سياسي متهافت (ستيل)، وقاعة تعج بزنادقة غواة، وأناس يغطون في الروث، وهكذا دواليك. إن التصاوير العنيفة للحرب والمرض والجنون والحرمان، فضلاً عن نتائج التقزيم والتعملق المطروحة علينا في "أسفار غوليفر"، كلها متجانسة مع الضياع العام الذي تعيشه حالة الاستواء والذي ينجذب إليه سويفت على ما يبدو. ولذلك فلن نكون على خطأ في قولنا أن مظهراً هاماً من مظاهر تماسك سويفت ككاتب هو العمل الفكري والروحي الفذ الذي عزز أسلوباً كأسلوبه، والذي حوّل الواقع تحويلاً على مثل ذلك التطرف بسلبية عنيفة جداً لمقاصد بالغة الضيق بمنتهى الأسف.
ليس من الممكن أن يحالفني النجاح في وصف حالة سويفت، الكاتب المحدود والكاتب المعيوب بعمق، إن لم أرسخها الآن بشيء من الإسناد إلى مقالة جورج أورويل التي عنوانها "السياسة قبالة الأدب: فحص لأسفار غوليفر"، والتي صدرت أصلاً في عدد من مجلة (بولميك) في أواخر عام 1946. إن حجتي في الإقدام على هذا هي أنني أنظر نظرة جادة، للمرة الثانية، إلى تلك الحقيقة التي مفادها أن سويفت لم ينل استحقاقه من النقد المعاصر، الأمر الذي يشكل نقصاً أعزوه، إلى حد كبير، إلى بعض الجوانب الهامة ذوات النوع العام في الاهتمام النقدي الذي حظي به سويفت، ورأيي بالطبع هو أنه حتى لو كان الواجب يقضي بالاعتراف أن سويفت شخصية معضلة، وأنه شخصية محدودة وغير جذابة بشرياً من وجوه عديدة، فإن هذه الاعترافات يجب ألا تمنعه من أن يكون موضوع النقد المعاصر الخصيب بشكل فعلي- ولكننا سوف نتطرق لاحقاً للمزيد من هنا.
إن مقالة أورويل تعود لتلك الفترة التي بدأ يتزايد فيها تحرره من الوهم فيما يتعلق بالسياسة الحديثة. إنه يقول لنا بأن سويفت كان يعني الشيء الكثير بالنسبة إليه منذ عيد ميلاده الثامن، حين أهديت إليه نسخة من "أسفار غوليفر". وإن مناقشة أورويل مناقشة عادية جداً، ومناقشة بمقدورنا، بمقدار ما تتوسع، أن نميزها من خلال قراءتنا لوكاش عن بلزاك أو من خلال قراءتنا، في عهد أحداث، فردريك جيمسون عن ويندهام لويس (في كتاب خرافات العدوان). فالسياق العام هو أن المواهب الأدبية العظيمة لأي كاتب، حتى لو أفصح عن التزامه الإيديولوجي بوجهات نظر يمينية، تمنحه قيمة خاصة. ولكن أورويل لا يحاول، على نقيض لوكاش وجيمسون، أن يبرهن على أن الكاتب تقدمي فعلاً بفضل أسلوبه أو براعته الفنية، بل على العكس من ذلك إذ يصر أورويل على أنه "بالمعنى السياسي والأخلاقي" ضد سويفت حتى لو كان "واحداً من الكتاب الذين أكن لهم الإعجاب وبأقل ما يمكن من التحفظ، ويا للعجب العجاب". وهكذا فإن محبة أورويل لسويفت مبنية على محاولة العثور على قسط كبير يستحق الإعجاب بسويفت على الرغم من أنه كان رجعياً وعدمياً ومريضاً- وهذه هي الكلمات التي يستعملها أورويل أكثر من مرة في سياق مقالته. ويشير، فضلاً عن ذلك، إلى أن سويفت كاتب من أولئك الكتاب الذين تطغى المتعة بكتاباتهم، بالنسبة للقارئ، على استهجان ما يكتبون. وإن سويفت، بالنسبة لأورويل، “في إصراره العنيد على الكتابة عن المرض والقذارة والتشوه إلى ما لا نهاية له، لا يختلق شيئاً من عندياته، وإنما يشيح ببصره عن أشياء أخرى. فالسلوك البشري هو أيضاً، لا سيما في السياسة، كما يصفه على الرغم من أنه يشتمل على عوامل أخرى أهم يرفض سويفت الإقرار بها. ومن الجدير بالذكر أن سويفت لم يكن يمتلك الحكمة العادية، بيد أنه كان يمتلك فعلاً تلك البصيرة النفاذة التي كان بمقدورها نبش حقيقة خبيئة وحيدة والعمل من ثم على تضخيمها وتشويهها، إن صمود "أسفار غوليفر" حتى هذه الأيام دليل على أن أية وجهة نظر دنيوية تكون كافية بحد ذاتها، إذا توفرت لها قوة الإيمان من خلفها وتمكنت من اجتياز امتحان المنطق السليم وحسب، لإنتاج عمل فني عظيم"(1).
إن هذا موجز معقول عن الحكم الذي أطلقه أورويل على سويفت، باستثناء أن الموجز يغفل ملاحظة ممتعة جداً سأعود إليها لاحقاً ويدعوها أورويل بمقولة سويفت عن "العنف اللامسؤول لدى الضعفاء". وأما الآن فبمقدورنا أن نقول بمنتهى الثقة أن أورويل، مثله مثل معظم الهيأت الدراسية، يجد أن سويفت جدير بالإعجاب حتى بمعزل عن كل ما يقوله عن الحياة والسياسة وأبناء الجنس البشري. وبكلمات أخرى فإن آراء سويفت تكره المرء الإكراه كله على مقت نزعتها الفوضوية وتهجماتها المنكودة على المجتمع برمته وعلى الجنس البشري، إلى ذلك الحد الذي لا يترك للقارئ الحديث إلا النزر اليسير الجدير باستحسانه أو احترامه.
واسمحوا لي أخيراً بتحديد موقفي أنا. فأورويل، من باب التمهيد، ليس مخطئاً جداً باعتبار أن رأيه متسم بالتحيز والنقص وليس بالفعل على قسط سياسي واف. وإن المرء حين يقرأ تقويمه لسويفت لا يعرف أن "أسفار غوليفر" كتاب متأخر، ولا يعرف أن سويفت كان في معظم أوائل حياته سياسياً ناشطاً، لابل وحتى سياسياً انتهازياً ورّاقاً ومحجاباً. فلقد كان حريا بأورويل أن يقرأ "أسفار غوليفر" لوحده ويستنتج من ثم آراءه السياسية من تلك القراءة المنعزلة، إذ إن النظرة إلى غوليفر بأنه يمثل كل ما لدى سويفت لنظرة مشوهة. وإن تلك التشابهات التي يقوم بها أورويل بين سويفت وكل من آلان هربرت وج. م. يونغ ورونالد نوكس الذين ينعتهم سويفت "بذلك العدد الغفير من المحافظين الأذكياء الأغبياء في يومنا هذا"، لتشابهات ذكية غبية بحد ذواتها علاوة على أنها ضيقة الأفق ضيقاً بالغاً. وإن القبول عن سويفت بأنه "لم يكن يحب الديموقراطية" يعني قول شيء لا يمت بأية صلة لسياق الزمن وذلك لأنه حتى خصوم سويفت من أعضاء "الحزب التقدمي"، ذلك الحزب الذي يمر أورويل على ذكره مرور الكرام، ما كان بالإمكان وصفهم بأنهم من المؤمنين بالديموقراطية، فهل بوسع المرء أن يصدق بالفعل أن غودولفين ودوق مالبورو، وقد كانا كلاهما عضوين في حزب الأحرار (Whigs) وهدفين لهجوم سويفت عليهما بلا هوادة، كانا مؤمنين بالديموقراطية؟ وحين يعبر أورويل عن ثقته أن سويفت كان عالماً فذاً بالغيب حيال "ما يمكن دعوته الآن بالديكتاتورية" -ومحاكمات الجواسيس وتصنّت المخبرين ومؤامرات الشرطة وما شابه ذلك- فإنه لا يستملح ذلك إلا لكي يدينه بعد برهة وجيزة على كون تفكيره "لا يدور حول عامة الناس مقدار ما يدور حول حكامهم، أو على عدم كونه مع المزيد من المساواة الاجتماعية، أو على عدم كونه متحمساً للمؤسسات التمثيلية". فأورويل على ما يبدو ليس على يقين من أن بوسع المرء أن يكون عدواً لدوداً للطغيان، مثلما كان سويفت طيلة حياته، وألا يكون له موقف متطور جداً من "المؤسسات التمثيلية".
إن الشيء الذي لا يأخذه أورويل بحسبانه هو إذاً الوعي الإيديولوجي، أي ذلك الجانب من تفكير الفرد الموصول، في خاتمة المطاف، بالوقائع الاقتصادية والسياسية/ السوسيولوجية. فسويفت جزء كبير من زمانه: ولذلك ليس من المنطق في شيء أن نتوقع منه أن يفكر ويتصرف كنموذج بدئي لجورج أورويل نظراً لأن الخيارات الثقافية والإمكانات الاجتماعية والفعاليات السياسية التي أتيحت لسويفت في زمانه كان من المرجح لها أن تأتي بإنسان كسويفت لا كأورويل.
وأما فيما يتعلق بالنظرة الشائعة عن سويفت بأنه ذلك العضو الهجاء في حزب المحافظين (Tory) فإنها بدورها تقلل من شأن سويفت كمحرض سياسي وتعلي من مقام سويفت كجلاّب للصور الغائبة.
بيد أن انطباعي يتجسد في أن هنالك تقولات أكثر من اللزوم عن سويفت بأنه ذلك المفكر الفاضل الذي كان متحمساً في دفاعه عن هذه النظرة القاطعة أو تلك إلى الطبيعة البشرية، في الوقت الذي ليس فيه ما يكفي من التقولات عن سويفت بأنه محرض سياسي محلي وصاحب عمود في إحدى الصحف وورّاق ورسام كاريكوتوري. وحتى تلك التحليلات المفيدة للأساليب الهجائية لدى سويفت، طريقة تعبيره أو شخوصه مثلاً، يعتريها الفساد أحياناً من جراء هذا التعرض. وهكذا فيبدو الأمر وكأن النقاد يفترضون أن سويفت كان بوده فعلاً أن يكون على غرار جون لوك أو توماس هوبز، ولكنه لم يتمكن من ذلك لأمر ما: وهكذا تصبح مهمة الناقد مساعدة سويفت على تحقيق طموحه بتحويله من مكافح سياسي عابث وهامشي إلى فيلسوف يقتعد أريكته ويدخن غليونه.
إن سويفت، على ما أرى، كاتب من كتاب ردود الأفعال قبل أي شيء آخر، إذ كل ما كتبه تقريباً كان رد فعل على مناسبة ما، ولكن يجب أن نضيف للتو أنه كانت له ردود أفعاله على تلك المناسبات التي لم يعمل على خلقها بنفسه. وهنالك دون شك أسباب اقتصادية جلية خلف هذا الموقف: فسويفت كان، في نهاية الأمر، متعلماً بسيطاً في معظم حياته وكان بأمس الحاجة لتلك الفرص التي أتاحها له أولياء نعمته الأثرياء بدءاً بتامبل مروراً بهارلي ووصولاً إلى الجماعة السياسية الإيرلندية في خاتمة المطاف، أي أولئك الناس الذين تحدث نيابة عنهم في "رسائل تاجر الأجواخ". فأصالته إذاً كانت تكمن في إجابته ورد فعله على المواقف التي كان يحاول التأثير عليها أو تغييرها. وهنالك ثمة شيء يقوله في "الدفاع" عن (حكاية حوض) يؤكد توكيداً بيّنا وعيه لذاته بخصوص هذا الأمر إذ يقول: "إن الإجابة على كتاب ما إجابة فعالة تستلزم من المشقة والمقدرة والنباهة والتعلم وسداد الرأي أكثر مما كان موظفاً في خلق المواقف بالدرجة الأولى". فمساهمته كانت تشقلب دائماً وتقريباً كل ما كان يبحثه جراء استطراده إلى مواقف أو أشخاص أو كتب جديدة في كتابته، فهذا هو الخلق الجديد الذي استولدته بكل إصرار أساليبه في المُحاحكة، والذي اقترن بفلتان الطاقة فلتانا جامحاً يربو على المقدار الذي أتيح له في البداية، علاوة على فيض كبير من السخرية.
وما أورويل إلا على صواب مطلق حين يقول بأن سويفت يهاجم، في "أسفار غوليفر"، ذلك الجانب من الديكتاتورية الذي يجعل الناس "أقل وعياً" على العموم. وهنا تحدوني الرغبة في أن أشتط قليلاً وأضع الأمر في مصطلحات إيجابية. فهدف سويفت يتمثل في أن يجعل الناس أكثر وعياً فيما يتعلق بما يدور حولهم. إذ كما قال أوسكار وايلد "ما من طبقة تعي أبداً معاناتها الخاصة بشكل فعلي، وهي بحاجة لمن يحدثها عنها من الناس الآخرين، وغالباً ما تصدقه تماماً..... فالمحرضون السياسيون هم تلك الزمرة من الناس المتطفلين ممن يدسون أنوفهم ويهبطون إلى مستوى طبقة ذات ضنوع مطلق في المجتمع لكي يبذروا بذور السخط بين أفرادها. وهذا هو السبب الذي يجعل من وجود المحرضين أمراَ ضرورياً جداً(2)، فالأسلوب التحريضي الذي يدس أنفه به سويفت ويتطفل ما هو دائماً إلا لكي ينسف أو يستنبط مضامين كتاب أو موقف أو وضع ما، من تلك التي لولا ذلك لتقبلها الناس بمنتهى الغباء. ولذلك فإنه بهذا الأسلوب يستحث الوعي والإدراك وينشّط التبيين. ولكن الشيء الذي جعل قراءه اللاحقين (ولربما حتى قراءة المعاصرين) يتذمرون من كتابته هو أنها كانت تبدو في غاية التطفل على الأمر الذي ترد عليه. إن تصاوير سويفت للشخصيات كانت تبدو إما أقرب مما ينبغي للصور الكاريكاتورية عما تصوروا وإما صارمة أكثر مما ينبغي حيال التسامح مع ما تقترحه كبديل: فصورته عن ذلك الإنسان الأخرق في "حكاية حوض" مثال عن القول الأول، في حين أن صورته عن الياهوز والهوينهنهنمز* تؤدي دور الأمثلة عن القول الثاني. وهكذا فإن صرامة سويفت كانت عندئذ بحاجة للتليين من خلال التعريج على الروح العامة في حزب المحافظين، الذي كان ينتمي إليه، أو من خلال الهذر أو الجنون الإنساني الذي لم يكن ليتيح له أي خيار آخر. فليس من المستغرب إذاً أن يكون كولردج قد تحدث عن سويفت بأنه روح رابلييه في مكان مجدب (in sicco anima Rabelaisii).
وهنا أريد أن أقترح أننا إذا اقتصرنا في نظرتنا إلى سويفت لاكفيلسوف ولا كمجنون ولا حتى ككاتب "خلاق" وفق مقتضيات هذا النعت، بل كمفكر، فإن نشافته وصرامته وقسوته ستبدو أكثر انتظاماً وعصرية إلى حد كبير جداً. فمما لا شك فيه أن سويفت كان يريد من الحياة أكثر من أن يكون مجرد عميد الكنيسة الإنكليزية، أو أنه كان يأمل تسنم منصب وزاري ذات يوم بمساعدة هارلي وسانت جون، أو أنه سيحظى بنصيب أوفى من الثروة والجاه وأكبر مما كان يتيح له مبدئياً موقعه المتواضع. ولكن هذه المطامح لم تمنعه، مما كان حجم إحباطه من تحقيقها مغيظاً له، من أن يكون نشيطاً وقوياً وفعالاً حين كان يمارس كتابته. وقصارى القول هنالك الكثير مما يمكن أن يقال عن سويفت، وأكثر من الكثير مما يمكن أن يستقطب اهتمام الناقد المعاصر في إنجازات سويفت الفعلية والمحلية.
إن من المحتمل ألا يكون الانطباع العام عن المفكر قد اقترن بأي عصر من العصور قبل القرن التاسع عشر المنصرم، كما إن دور المفكرين في المجتمع لم يكن محط الدراسة في أي عصر من العصور التي سبقت الثورة الفرنسية. فكتاب لويس كوسر المعنون بـ "رجال ذوو أفكار"، الذي هو بمثابة أفضل مسح تاريخ للمفكرين الغربيين المحدثين، يقتصر في وصفه لإنكلترا زمن القرن الثامن عشر على بضع صفحات عن مقاهي لندن اعتماداً منه على الفصل المكتوب بقلم هارولد روزيتي عن أديسون وستيل في "تاريخ كمبردج للأدب الإنكليزي" الصادر في عام 1912. إن كوسر على حق حين يقول أن المقاهي كانت على مستوى المراتب الطبقية إذ كانت "ترعى قيام احترام وتسامح جديدين حيال أفكار الآخرين وتشجع الوداد الاجتماعي وتفضي إلى نشوء أنماط جديدة من التكامل "القائم على تجاذب أطراف الأحاديث(3) ولكنه مخطئ تماماً حين يستثني من البحث النشاط الفكري النابض بالحياة والجاري في الصحافة إبان تلك الآونة. وعلاوة على ذلك فإن الشرطين اللذين وضعهما كوسر "لمهمة المفكر كي يكون مقبولاً اجتماعياً ومقدراً حق قدره اجتماعياً يمكن الإتيان على ذكرهما هنا بشكل مفيد:
فأولاً يحتاج المفكرون إلى جمهور، أي إلى حلقة من الناس الذين يستطيعون توجيه كلامهم إليهم والذين يخلعون على المفكرين التقدير الضروري. وإن مثل هذا الجمهور سيوفر في العادة المكافآت الاقتصادية، بيد أن الامتياز أو التقدير المنوط بالمفكر من لدن جمهوره، أي مردوده النفسي، قد يكون في الغالب أكثر أهمية بالنسبة إليه من مردوده الاقتصادي. وثانياً: يحتاج المفكرون إلى ذلك الاحتكاك المنتظم بزملائهم من المفكرين الآخرين، إذ إنهم من خلال مثل هذا الاتصال، ومن خلاله وحده، يستطيعون إنشاء معايير عامة للمنهج والفضيلة، معايير عامة لإرشاد مسلكهم. وعلى الرغم من الأسطورة الشائعة حيال النقيض، فإن معظم المفكرين لا يستطيعون إنتاج عملهم في عزلة عن الآخرين، ولكنهم بحاجة لتبادل الآراء في البحث والنقاش مع أقرانهم لتطوير آرائهم. وفي الوقت الذي ليس فيه كل المفكرين نزاعين للاختلاط الاجتماعي، فإن معظمهم يحتاجون إلى اختبار أفكارهم الخاصة بهم من خلال تبادل الآراء مع أولئك الناس الذين يعتبرونهم نظراء لهم(4).
إن هذا القول لقول صحيح تقريباً عن سويفت، ما عدا أنه بحاجة للتعديل فيما يتعلق بنقطة أو نقطتين. لقد كان سويفت بحاجة لإطراء أقرانه له، هذا صحيح، ولكنه كان في الوقت نفسه بحاجة لتحقيق هدفه في الوصول إلى جمهور أوسع نطاقاً منهم، وقد حقق ذلك الهدف على العموم. فكراسة "مسلك الحلفاء" كانت بكل المقاييس أحسن الكراسات مبيعاً لا لأنها استحالت إلى كراسة عرضاً، وإنما لأن سويفت كتبها عامداً متعمداً لجمهور كبير جداً من القراء. وعلى نحو مماثل كان سويفت يكتب لصحيفة "المستنطق" بطريقة تنطوي على سحر البراعة والجاذبية حتى إلى استخدام الحيل الصحافية بغية تشجيع توزيعها على أوسع نطاق. ولكن يجب علينا، بعد كل ما قيل وجرى، ألا نقلل من قيمة الأهمية التي كان يلقيها سويفت على الانطباع الطيب الذي كان يحمله أقرانه عنه. وهذا شيء صحيح عنه إبان أيامه في لندن مع آربوث نوت وغي مثلما هو صحيح عنه إبان أواخر أيامه مع أصدقاء له في دبلن من أمثال ديلاني وشريدان.
إن المفكرين يتعاملون بتهريب الأفكار: وهذا تعريفهم بأقل ما يقال. وأما في العصور الحديثة فإن المفكرين فطنة الأخرين بأنهم يلعبون ذلك الدور الهام المتمثل بإضفاء الشرعية والرواج على الأفكار وعلاوة على ذلك هنالك موروث طويل من المفكرين كونهم من الدعاة لترويج المكعرفة والقيم المفيدة ، وهم لأنهم كذلك فطنة الممثلين لنوع من الضمير، كحراس للقيم، للمجتمع الذي يعملون فيه. وهذا بمنتهى الوضوح هو التصور الذي كان يحمله في ذهنه جوليان بيندا حين نشر "خيانة المتعلمين المأمورين" (La Trahison des clercs) في عام 1928. وإن التعريف الذي ساقه بيندا للمفكر تعريف بالغ الضيق والمثالية بلا أدنى شك، غير أن حجته دفاعاً عن وجوب التزام المفكرين بالقيم المطلقة وبقول الحقيقة بصرف النظر عن النتائج المادية لحجة تنطوي على إغراء قوي. فواجب المفكرين، كما يقول: "يكمن تحديداً في إقامة جمعية دينها الوحيد دين العدالة والحقيقة لمقاومة الشعوب والظلم الذي يئنون تحت وطأته جراء دياناتهم على سطح هذه المعمورة"(5)، وهنالك أصداء للتهمة التي وجهها بيندا للمفكرين الذين خانوا قضيتهم ووضعوها تحت إمرة الأهواء الطاغية لدولة وطبقة وعرق في كل ما كان يكتبه نوعام تشومسكي طيلة العقد الماضي(6).
وعلاوة على الفرضية القائلة أن قدوة المفكرين توجد بين أناس من أمثال فولتير وزولا وسقراط فهنالك موروث آخر يبدأ فيما كتبه ماركس وانغلز في "الأيديولوجيا الألمانية" حيث يصوران المفكر بأنه ذلك الإنسان الذي يلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على المجتمع المدني وتغييره في آن واحد معاً. وإنني أتصور أنه من الصحيح إلى حد ما أن يقال عن سويفت بأنه كان مفكراً بذلك المعنى الذي كان يقصده بيندا. فهو بالتأكيد كان يتصور نفسه على أنه بطل الضمير وعدو الاضطهاد. ولقد كان في معظم باكورة حياته إنساناً مشغولاً بالقضايا السياسية/ السوسيولوجية، ولذلك فالواجب يقضي ببحثه وهو في قلب هذا الدور المناصر للحق والعدل. ونظر لهذا الدور فإننا بحاجة للمفردات النقدية التي تنحدر إلينا من الموروث الماركسي العريض والماركسي الجديد الذي ينطوي أيضاً، ومن باب المصادفة والمفارقة، على أثر مناقض للماركسية.
ويبين كاتبا "الأيديولوجية الألمانية" أن الفلسفة، وحاشى لها أن يكون لها من لدنها حياة خاصة مستقلة ومصون، تشكل جزءاً من الواقع المادي. فالوعي نفسه أسير تحديد الظروف الاقتصادية كما يقولان، وحتى لو أردنا الدفاع، مع ماركسيين كلوكاش، عن أن ماركس وإنغلز ما كانا يقصدان أن الوعي ثمرة الظروف الاقتصادية بكل تلك البساطة، فإن الوضع بالتأكيد هو أن "الأيديولوجيا الألمانية" كتاب يسوق الحجج على أنه حتى امثال تلك الأشياء السامية كالأفكار والوعي والميتافيزيك لايمكن فهمها فهماً كاملاً دون استيعاب فيض من السياسة والسوسيولوجيا وعلم الاقتصاد. وعلى أية حال، فإن ما يهمنا هنا هو أن المفكر -الذي لم يحظ بمثل هذا النعت من ماركس وإنغلز- إما أن يكون أي إنسان منهمك ببث الأفكار التي تبدو مستقلة عن الواقع الاجتماعي أو ذلك الإنسان الذي يشبههما معاً، والذي يتقصد أساساً تبيان العلاقات بين الأفكار والواقع الاجتماعي. وإن من الواضح أن النوع الأول محافظ، في حين أن النوع الثاني مفكر ثوري وذلك لأن أي إنسان، كما يجادلان، يعرّي الأفكار من رفعتها السامية يحرض عملياً على تبديل ثوري في الوضع الفكري السائد ومن ثم في الوضع السياسي القائم. فالصراع بين هذين النوعين من المفكرين يدور، كما هو موصوف بمصطلحات ماركسية، لا في الوعي والمجتمع وحسب، بل وفي حيز منعوت بالحيز الإيديولوجي، ألا وهو حيز الخطاب الذي يتظاهر زوراً وبهتاناً بأنه مؤلف من أفكار ولكنه يتستر في الحقيقة على تآمره مع المؤسسات المادية وعلى اعتماده عليها. ولذلك فحين يتحدث برونو باور عن الوعي الذاتي، يقول ماركس وإنغلز عنه بأنه يخفي الحقيقة التي مفادها أن الوعي الذاتي يصار إلى جعله موضوعاً ممكناً للبحث لا لأنه شيء حقيقي بل لأن الفلسفة التقليدية، التي هي حليف للكنيسة والجامعة والدولة، تمكن الفلاسفة من أن يتحدثوا بتلك الطريقة وأن يبتكروا موضوعات للبحث.
لا شيء مما يقوله ماركس وإنغلز كمفكرين ثوريين مستخدمين ما دعاه ماركس "بأسلحة النقد" كان من الممكن رفضه من قبل المفكرين غير الثوريين في أواخر القرن التاسع عشر. وهذا الأمر قد يبدو مفارقة عجيبة، بيد أنه ليس كذلك حين يخطر على بالنا، مثلاً، ماثيو آرنولد وإيرنست ريتان اللذان لم يتهمهما أي إنسان البتة بأنهما اشتراكيان ناهيك عن شيوعيين، فحين يكتب آرنولد "الثقافة والفوضى" فإنه يؤكد على، مثله مثل كاتبي "الإيديولوجيا الألمانية"، المهمة الاجتماعية للثقافة والأفكار، مع العلم أن هذا القول صحيح وبالمقدار نفسه عن رينان في كتابه "مستقبل العلم" (L, Avenir de la science). فبالنسبة للمفكر في القرن التاسع عشر كان نعت المفكر ينطوي على وجود أفكار عن الدور الاجتماعي المركزي لديه علاوة على تزويده الجمهور بما يمكن أن ندعوه بالوعي الذاتي النقاد، الأمر الذي يشكل سبباً من الأسباب التي تجعل دراسة شهيرة عن المفكرين (كدراسة كارل مانهايم بعنوان "الأيديولوجيا واليوتوبيا") تنيط بالمفكر مهمة إماطة اللثام عن الأفكار.
وأورد هنا الإتيان على ذكر نموذجين إضافيين فقط من نماذج التفكير الحديث حول المفكرين، وكلاهما يسلطان ضوءاً مفيداً على سويفت. إن النموذج الأول من هذين النموذجين يأتينا من أنطونيو غرامشي، الذي كان أول ماركسي حديث بين الماركسيين -وأكثرهم ذكاء على ما أتصور- الذين جعلوا المفكر يحتل مركز الصدارة في تحليلاتهم السياسية/ السوسيولوجية. فغرامشي يقول أن المفكرين ينقسمون عادة إلى نوعين اثنين: المفكرين العضويين أي أولئك الناس الذين يبدو عليهم أنهم على ارتباط مع طبقة اجتماعية صاعدة والذين يمهدون السبيل لانتصار تلك الطبقة على المجتمع المدني بتحضيره إيديولوجياً، والمفكرين التقليديين أي أولئك الناس الذين يبدو أنهم على غير ارتباط بالتغيير الاجتماعي والذين يحتلون مواقع في المجتمع مخصصة للحفاظ على السيرورات التقليدية التي يصار من خلالها استيلاء الأفكار -كالمعلمين والكتاب والفنانين والقساوسة وأمثالهم. إن فرضية غرامشي هي أن كل المفكرين هم بالفعل مفكرون عضويون إلى حد ما، إذ حتى حين يبدو عليهم بأنهم على غير ارتباط إطلاقاً بقضية سياسية فإنهم يلعبون دوراً اجتماعياً، كمعلمي المدارس مثلاً، إلى ذلك الحد الذي يجعلهم يضفون السمة الشرعية بشكل لا شعوري على الوضع السائد "status quo" الذي يخدمونه. فغرامشي طيلة حياته قضى ردحاً من الزمن في دراسة كروس الذي وصفه في إحدى رسائله من السجن بأنه صنو واحد من البابوات العلمانيين نظراً للسطوة الفلسفية التي مارسها على المجتمع الإيطالي الليبرالي، والتي أدت مباشرة لولادة الفاشية كما كان يعتقد غرامشي.
ومنذ أيام غرامشي تبوأ بحث وضع المفكرين مركز الصدارة في تحليلات الدولة الحديثة اللاحقة للدولة الصناعية التي تختلف بالتأكيد اختلافاً جذرياً عن إنكلترا زمن سويفت، بيد أن هنالك أوجه تشابه بينهما مثيرة للاهتمام. ففي عام 1979 كتب آلفين غولدنر كتابه المعنون بـ"المفكرون المستقبليون وبروز الطبقة الجديدة" حيث يرى طبقته المفكرين الجديدة وهي تتحدى الطبقة الثرية القديمة على السلطة. وبصرف النظر عن بعض جوانب فرضية غولدنر، وهي بالطبع مدار أخذ ورد، فإن هذا الكاتب جدير بأن يلح على مسألة ما يدعوه برأسمال المفكر. فلقد قلت آنفاً أن الكثيرين من نقاد سويفت يهتمون أكثر من اللزوم بأفكاره وأقل من اللزوم بحشده طاقاته وتنظيمها، أي إنجازاته المحلية كما دعوتها أنها. وإن ما تفعله أمثال هذه التوكيدات لا يعدو إحكام الوثاق بين سويفت وبين الحملة الحقيقيين لتلك القيم الرجعية بالأساس، كالأروستوقراطيين ملاك الأراضي الشاسعة والكنيسة الوطيدة الأركان والسلطة الملكية الاستعمارية. فقيم حزب المحافظين المنسوبة إلى سويفت هي ما يمثل هذه الطبقة بالمنظور الإيديولوجي- ولكن من الجدير بالذكر أن سويفت نفسه لم يكن ملاكاً عقارياً ولم يكن ينظر، كما يتجلى من عمله، إلا شزرا لقهر الجيوش والقمع الاستعماري والمخططات العلمية لاستغلال الناس والأفكار. ووفقاً للمصطلح الذي جاء به غولدنر فإن رأسمال سويفت كان رأسمال المفكر: أي براعته البلاغية ككاتب في ساحة المعركة الإيديولوجية. فبناء على ذلك الدليل يجب علينا إذاً أن ننظر إلى سويفت كمفكر منهمك في صراعات خاصة على نطاق محدود جداً، لا كرجل صاغ وامتلك وصان مجموعة من القيم الإيديولوجية التي كان يعمل على خدمتها بين الحين والحين.
إن من الممكن وصف سويفت بمنتهى الإنصاف أنه كان ذلك الإنسان المعزال* طيلة حياته ومما تجدر الإشارة إليه أنه ما كان كريم المحتد وأن أولياء نعمته ذوي الشأن كانوا يخيبون فأله بكل إصرار، وكان يجر على نفسه دائماً جريرة غضب ونفور تلك السلطات التي كان من المفروض بأنه يعمل على خدمتها. وهنالك تذكرة ساخرة عن هذا في رحلة غوليفر إلى (ليليبوت) حين يفلح غوليفر في إثارة حنق الملكة وهو يشخ ببوله على النار لإطفائها. فإلى حد ما أعلم ما كان هنالك خيار أمام سويفت لتحسين موقعه الاجتماعي خارج إطار الكنيسة إلا من خلال الاستزبان لأولياء النعمة والنشاط الفكري دفاعاً عن القضايا التي كان يتحزب لها (معظم الوقت لا كله) والفطنة المحض (كمحاور وكاتب). إنه لم يتمكن قط من تكديس أي شيء كالثروة مثلاً، ومات متغرباً عن إيرلندا كتغربه سابقاً، طيلة عشرين سنة، عن إنكلترا. ولذلك فإن سويفت كان، من منطلق طبقي، مفكراً تقليدياً- متعلماً- ولكن الشيء الذي يجعله نسيج وحده هو أنه على نقيض أي كاتب كبير آخر في مجمل الأدب الإنكليزي (ربما باستثناء ستيل) كان أيضاً مفكراً عضوياً هاماً لا مثيل له من جراء قربه للسلطة السياسية الفعلية. فلقد كان ديفو وجونسون في مراحل معينة من حياتهما ورّاقين، فضلاً عن أن جونسون كان شخصية اجتماعية مرموقة، ولكن لم يكن أي منهما على ارتباط واضح بتشكيل سياسي في طريقه إلى الصعود بالشكل الذي كان عليه سويفت مع حكومة المحافظين بين عام 1711 وعام 1713، إذ في تلك الآونة كانت مهمة سويفت إضفاء مسحة الشرعية على سياسة السلم الانتهازية، باعتراف الجميع، لدى هارلي (تلك السياسة التي كانت ذروتها معاهدة السلم في أوترخت)، وانتزاع مسحة الشرعية عن سياسة الحرب لدى حزب الأحرار (Whig). وعلاوة على ذلك يجب أن نقول أيضاً عن عمله الفكري اللاحق أنه كان على ارتباط عضوي بنوع مختلف تماماً من السلطة السياسية المستجدة، أي الجماعة الاستعمارية الإيرلندية التي لعب سويفت نفسه دوراً هاماً في إنشائها، فمن ذا الذي بمقدوره غير سويفت أن يقول بمنتهى البساطة والصدق كما قال في "رسائل تاجر الأجواخ": "بامتهاني صنعة الكتابة ***ت على نفسي غيظ الحكومة".(7)
فما هي المسائل الكبرى -باستثناء بعض المسائل الغائية من أمثال طبيعة الإنسان وأشكال السلطة المدنية أو الكهنوتية- التي حددها عمل سويفت؟ وجواباً على هذا السؤال أقول أنه حدد مبدئياً كل ما يمت بصلة إلى العدوان البشري أو العنف البشري المنظم. فتحت هذا العنوان كان بمقدور سويفت أن يضع أشياء متباينة من أمثال الحرب نفسها (التي ما كان لها عنده قط أية كلمة طيبة يقولها عنها: وهذه حقيقة رائعة) والغزو والاضطهاد الاستعماري والمذهبية الدينية واستغلال العقول والأجساد، والمخططات لفرض الهيمنة على الطبيعة والكائنات البشرية والتاريخ، وطغيان الأكثرية، والمنفعة المالية كهدف بحد ذاتها، فضلاً عن تمزيق الفقراء إرباً إرباً بأيدي أوليغارشية تتنعم بالامتيازات. إن كل شيء من هذه الأشياء يمكن توثيقه بسهولة في عمل واحد على الأقل من أعمال سويفت، والجدير بنا أن نتذكر أن هنالك قلة من الكتاب قبل القرن التاسع عشر المنصرم -من ضمنها بليك وشيللي- ممن تتفاوت مواقفهم تفاوتاً صارخاً حيال هذه الأمور عن مواقف الأغلبية الحاكمة. وما من شيء يجلو بمنتهى الجلاء ومنتهى التعمد كلا من الرعب الخالص من الحرب والمتعة والعجرفة الأكثر هولاً اللتين يجدهما الرجال في الحرب من هذا النص من "أسفار غوليفر":
[ولكي أؤكد ما قلته للتو، ولكي أبين أيضاً الآثار الهزيلة لتربية محدودة، فإنني سأحشر هنا فقرة قلما يمكن تصديقها، فأملاً مني في أن أحظى لنفسي بمزيد من الحظوة عند جلالته، أخبرته عن اكتشاف قام بين ثلاثمائة أو أربعمائة سنة خلت ومفاده أن تكويم مقدار معين من البارود على شكل كومة إن مسّتها أصغر شرارة من النار تجعل الكومة كلها ناراً متقدة بلمح البصر حتى لو كانت كبيرة بحجم الحبل، وتجعلها كلها تتطاير شرراً في الهواء بضجة وفرقعة أكبر من الرعد. ولئن دك المرء مقداراً معيناً من هذا البارود في أنبوب فارغ من النحاس أو الحديد أو الرصاص بقوة وسرعة، لن يكون بمقدور أي شيء أن يتحمل قوة اندفاعه. ولئن جرى إطلاق أكبر كراته على هذا النحو، فإنها لن تدمر أرتالاً كاملة من جيش ما بلمح البصر وحسب، بل تقوض أيضاً أقوى الأسوار وتجعل عاليها سافلها، كما أنها تغرق سفناً بحمولة ألف بحار في كل منها وتغوص بها إلى قاع البحر، ولئن ارتبطت هذه الكرات بعضها ببعض بواسطة سلسلة لمزقت الأشرعة والصواري وحبالها، ولقسمت أجساد مئات الناس إلى نصفين، وتركت أمامها كل ذلك الدمار. ولئن وضعنا هذا البارود، كما نفعل دائماً، في كرات حديدية فارغة وأطلقناها بواسطة آلة حربية على مدينة كنا نحاصرها، لمزقت الأرصفة والبيوت وجعلتها قاعاً صفصفاً وهي تنفجر وتقذف الشظايا ذات اليمين وذات الشمال ممزقة بذلك رؤوس كل من يكون قريباً منها....
لقد حل الهلع بالملك من جراء الوصف الذي كنت أقوله عن هذه الآلات المرعبة، ومن جراء العرض الذي كنت أطرحه. ولقد حلت به الدهشة كيف أن حشرة مثلي بهذا المقدار الكبير من الضعة والتذلل (وهذه عباراته بالذات) يمكن أن تخطر على بالها أمثال هذه الأفكار الشيطانية وبأسلوب عادي جداً دون أن يبدو عليها أي تأثر على الإطلاق من مشاهد الدم والتدمير التي كنت قد وصفتها بأنها مجرد نتائج طبيعية لتلك الآلات التدميرية. وفي أعقاب ذلك أردف قائلاً أن عبقرياً شيطانياً، عدواً للجنس البشري، كان المخترع الأول ولابد. وأما بالنسبة إليه فقال معترضاً أن هنالك أشياء قليلة تدخل البهجة على نفسه أكثر من الاكتشافات الجديدة في الفن أو الطبيعة، ولكنه مع ذلك قال بأنه كان يتمنى تضييع نصف مملكته على أن يكون قد اطلع على ذلك السر الذي أمرني من ثم أن أكون حريصاً على كتمانه حرصي على حياتي، وألا أعود إلى ذكره قط].
أو من هذا النص الذي هو عبارة عن تحليل مرعب للحرب الإسبانية حول وراثة العرش في "مسلك الحلفاء" إذ يقول فيه:
[سواء أكان نشوب هذه الحرب منطقياً أم لا، فإن من الواضح، أن الدافع أو الحافز الحقيقي لها كان توطيد أركان أسرة بأم عينها، وهي باختصار حرب الجنرال والوزارة لا حرب الأمير أو الشعب، باعتبار أن هؤلاء الناس أنفسهم كانوا ضدها حين عرفوا أن السلطة، ومن ثم الربح، سيكونان في أيادي أخرى(9)].
فها هو سويفت يدلي هنا بالحقيقة بمنتهى البساطة، إذ إنه لا يحاول تزيينها ولا إخفاء السر أو الطمع الكامن خلف التخطيط للحروب المربحة. وهذا هو السبب الذي يجعل سويفت يشعر بالغضب نيابة عن الأجيال المستقبلية : "ولسوف يكون الأمر بمثابة السلوى العظمى لأحفادنا حين يرون بضع أسمال بالية معلقة في قاعة واست مينستر كانت تكلفتها مئات الملايين، وهم من جرائها يدفعون المتآخرات ويتباهون قائلين كما يفعل الشحاذون، أن أجدادهم كانوا أثرياء وعظماء".(10) وما من وصف أكثر صلة بهذا الموضوع من وصف سويفت لتلك الطريقة التي تربط بها القوى العظمى أنفسها بحلفاء من المفروض بهم أن يكونوا وكلاء لها، ولكنهم يتحولون إلى سادة لها (وهنا يخطر على بال المرء الجنيرالان ثيو وكاي إبان الحرب الفيتنامية):
[بشيئين اثنين آخرين (علاوة على شرف مواكبتنا وحراستنا في الخدمة الفعلية للسفن والسواحل البرتغالية) علينا أن نخمن أفكار الأعداء، وأن ننفذ أوامر ملك البرتغال كلما ظن بأنه على وشك أن يغزى: وعلينا أيضاً أن نمده بقوة أعتى من القوة التي ينوي العدو أن يغزو بها أية ممتلكات استعمارية له، مهما كان عدد وعدة تلك القوة، وإلى أن نعرف ماهية قوى العدو تبقى جلالته البرتغالية بمثابة الحكم الوحيد حيال القوة الأعتى وحيال الشيء الذي بمقدوره أن يمنع الغزو، وقد يعمد لإرسال أساطيلنا حينما يشاء، وبناء على المهمات التي يحددها لها، إلى بعض أرجاء أقاصي الدنيا، أو قد يستبقيها في حراسة سواحله إلى أن يقدر أن الأوان قد آن لصرفها من الخدمة، وعلى هذه الأساطيل أن تبقى خاضعة أيضاً، في كل شؤونها، لا للملك وحده فقط، بل ولنوابه وأمراء بحره وحكامه، في كل ممتلكاته الاستعمارية، حين يعن على باله تصور أي غزو، الأمر الذي يشكل إهانة، كما أعتقد جازماً، لا نظير لها سابقاً إلا عند أمة مهزومة](11).
وحين زعم أبناء جلدته بأنهم يعرفون كل الأشياء الهامة عن مستعمرتهم الإيرلندية، كان سويفت هو من وصف، برسالته إلى مديلتون رئيس مجلس اللوردات في 26 اكتوبر عام 1724، النمط الأساسي الذي أتاح لإنكلترا إساءة معاملة إيرلندا بذلك المقدار الكبير من العجرفة (وثمة صور كاريكاتورية عن الشعوب الأفريقية والآسيوية موجودة حتى في هذه الأيام):
[هنالك مسحة من الصناعة والشح تسري في عروق كل سكان إنكلترا، وهي المسحة التي، إن أضيفت إلى سهولة حصولهم على أجورهم، تجعل منهم أغنياء وعتاة. وأما فيما يتعلق بإيرلندا فإن أولئك الناس لا يعرفون عنها إلا أكثر بقليل مما يعرفونه عن المكسيك، فضلاً عن معرفتهم بأنها بلاد خاضعة لملك إنكلترا، مليئة بالمستنقعات، ومؤهلة بالكاثوليك الإيرلنديين المتوحشين الذين يبقون في حالة من الخشوع بفعل الجنود المرتزقة المرسلين من هناك: والفكرة العامة لديهم هي أن من الأفضل لإنكلترا لو أن هذه الجزيرة برمتها كانت غارقة في قاع البحر، وذلك لأن لدى سكانها تراث يتمثل بضرورة قيام ثورة كل أربعين سنة في إيرلندا. لقد سمعت أقذع النعوت تطلق عليهم من مثل أن الإيرلنديين المتوحشين كانوا فرائس الأشراك لاقتناصهم، ولكنهم، يوماً ما ولابد، سيصبحون مدجنين جداً إلى الحد الذي يجعلهم يأكلون من كرم يديكم].
ويمكننا أن نرى هنا العلاقة الواضحة بين هذا النوع من التفكير وبين المنطق الذي أفضى إلى كتابة "اقتراح متواضع"، وذلك لأنك ما أن تجرد الناس من إنسانيتهم وتحيلهم إلى مجرد كومة من الخصائص الثابتة حتى تصبح قاب قوسين أو أدنى من تحويلهم إلى سلع استهلاكية.
وعلى الرغم من هذا كله فلن يكون من الإنصاف بالنسبة لسويفت أن تسمه بمنتهى البساطة بأنه ذلك المفكر الجسور. فالشيء الذي يجب أن يكون بوسعنا فهمه عنه هو أن كل ما فعله كمفكر عزز الوعي وحاكاه إلى الحد الذي جعله يكشف فيه حالة وعيه الذاتي في كتابته. وهذا ما يقودنا مباشرة، وحسب الأصول، إلى هجاء سويفت وسخريته واستخدامه الشخوص الروائية.
اسمحوا لي أن أقوم بذلك بالعودة إلى ما قلته في البداية عن النقد الحديث، فلقد جعلت الوضع يبدو وقتها أن سويفت لم يحظ يشرف الاهتمام النقدي الريادي لأنه كان يبدو الصفة المميزة لحلقة من المتبحرين، ولأن هنالك اتفاق عام على أن قيم سويفت ما هي بمنتهى الوضوح إلا، كما قال عنها أورويل، قيم رجعية. وعلى العموم كان النقد المعاصر مهتماً بكتاب ونصوص ممن توجد خصائصهم الشكلية في علاقة من علاقات المطابقة بين تلك الخصائص وبين مظاهرها الخارجية الإيديولوجية أو أفكارها الرئيسية: وهكذا فإن مهمة الناقد تكمن في تسليط الضوء على التباين بين التناقضات المحبوكة في الوجود الشكلي للنص وتعرية تلك التناقضات أو تفكيكها.
وعلاوة على ذلك فإن موقف الناقد من النصوص التي يحللها موقف هامشي، أي أن النص هام في حين أن دور الناقد دور ثانوي، دور مقصور على تبيين ظروف وجود النص. إن هذا الإجراء صحيح، على ما أظن، عن مدرسة ديريدا ومدرسة القراء الماركسيين وعن أتباع فوكو من علماء الكلام في ميدان دلالات الألفاظ والإعراب، وعما يدعى بمدرسة ييل.
إن سويفت ممنوع من هذا المدخل وإن منعته، كما قلت آنفاً، هي ما تجعل منه شخصية في غاية الإمتاع والتحدي. وإن مبرراتي لهذا القول هي أن السبيل الأساسي لفهمه هو أن نحمل على محمل الجد الطريقة التي يقاوم بها أي نوع من أنواع المداخل النقدية التي لا تجعل من وجوده وعمله ومن، قبل أي شيء آخر، وعيه الذاتي كمفكر -ولو أنه مفكر في الظروف التاريخية الخاصة للحظته الثقافية- السبيل الأساسي للدنو منه.
ولذلك تأملوا الفرضيات الثلات التي أود اقتراحها.(1) ليس لدى سويفت رأسمال احتياطي: فكتابته تجعل كل ما عليه أن يقوله يطفو على السطح. إن حكاياته وشخوصه وتهكمه الذاتي أمور كلها تدور وتلف حول الفضيحة التي أعلنها لأول مرة في "حكاية حوض"، والتي مفادها أن ما يقال يقال في تلك اللحظة، ولصالح تلك اللحظة، وعلى لسان مخلوق من تلك اللحظة. وهذا صحيح دائماً وحرفياً- إذ إن ما بمقدورنا أن نعرفه عن سويفت أو غوليفر أو تاجر الأجواخ هو ذلك الشيء الموجود أمامنا، ولا شيء سواه. وإن التهكم يستكمل نفسه في القراءة، إذ ليس هنالك ثمة شيء يؤكد مصداقية ذلك التهكم أو عدمها (فمن ذا الذي يخطر على باله أن يحتكم، حيال "الاقتراح المتواضع"، إلى ذلك الإنسان الحقيقي الذي لا يشكك في وجوب أكل البشر؟) وذلك لأن ما يقوله ذلك التهكم هو ما يعنيه بالضبط.(2) إن سويفت يهاجم على الدوام وبإصرار كل ما يشخصه، وبكلمات أخرى فإن طريقته يجب أن تصبح هي الشيء الذي يهاجمه، وهي عادة ليست برسالة أو مذهب سياسي بل أسلوب أو طريقة محادثة. لاحظوا كثرة أعمال سويفت المملة جراء تكرارها المنجزات والأنشطة وأنماط السلوك: اقتراح وحكاية ومسلك ومحادثة ورحلة ورسالة ومناقشة وامتحان وموعظة. فالمسافة بين الهجّاء والشيء المهجو تختفي كما هي عليه الحال في استطراد عن الاستطراد أو الجنون على سبيل المثال.(3) إن سويفت ليدرك دائماً، وقبل نقاده، أن ما يفعله قبل أي شيء آخر هو الكتابة في عالم ذي سلطة، مع العلم بأنه يغيظ القارئ بذلك الإدراك. فسويفت هو ذلك الواقعي الذي لا نظير له والذي يستطيع أن يتبين، لا بل ويجسد فيما يكتب، الفروق بين اللغة المبتذلة وبين لغة السلطة، أي بين لغة المؤسسات ولغة الأفراد المستبعدين أو المهمشين، أو بين لغة العقل وبين ما يدعوه بالمحادثة المهذبة. وهكذا فإن سويفت يحتل مكاناً له بين أكثر الكتاب دنيوية -لابل وربما كان أكثرهم دنيوية أيضاً. ولكن من عادة هذه الفروق أن ينطوي بعضها على بعض. فهو قد يقترح بمنتهى الرصانة خطة، مثلاً، لتوكيد اللغة وتوطيد أركانها وتصحيحها، بيد أنه بعد مضي بضع سنين يهزأ بتلك الخطة بكتابته "المحادثة المهذبة" التي ليست إلا بمثابة خطة متمركزة ومحط اتفاق اجتماعي لكل اللغة في المجتمع.
فهذه العادة، عادة تحويل شيء ما إلى نقيضه، ما هي إلا النتيجة الطبيعية لمهمة سويفت باعتباره كاتب رد فعل، علاوة على أنها ثمرة إدراك سويفت بأن ما يفعله لا يتعدى الكتابة وحسب، ولو أنه يكتب لمناصرة هذه القضية أو تلك. وإن نشاط سويفت كمفكر، أي رسالته لجعل قارئه أكثر وعياً حيال ما يستتبع موقفاً سياسياً أو أخلاقياً معيناً، يبدو على أنه قد لوّث لدى سويفت، أكثر من أي شيء آخر، وعيه لذاته هو. فسوسة الوعي، إن اقتبسنا مثل هذا التعبير من نيقولا تشيرومونت، تعود بالعدوى على سويفت الكاتب، علماً أن هذا هو مصدر تهكمه على ذاته ذلك التهكم العجيب. وتخطرني هنا ملاحظة عن ويتينغ شتاين جاءت على لسان إرخ هيللر ألا وهي: أن مثل هذا الوعي الذاتي، كالوعي الموجود لدى ويتينغ شتاين، يصل إلى "ذلك الحد الذي يتعذر فيه الفصل بين أي عمل من أعمال الإبداع وبين نقده لأداته، فضلاً عن أي عمل يطيل أمد التأمل العميق بنفسه يبدو مماثلاً للشك الضمني الذي يساوره بإمكانية وجوده هو"(13) وما هذا بكل تأكيد إلى النتيجة الساخرة لـِ"حكاية حوض" التي تنقلب، أثناء هجومها على المتعصبين من كل الأصناف، لتدين الكاتب نفسه بجرم الكتابة، أو إلا ما يبدو قولة سلسلة من الصورة المثيرة للأشجان بمنتهى الروعة، ومفادها: أوليست الكتابة كلها بريشة إنسان كسويفت عرضة بدورها أيضاً للنقد والتهكم والرد عليها، شأنها بذلك شأن الأشياء التي يهاجمها؟ وإن ما يخطر على بالي هنا هو الصور التي يوردها سويفت في "حكاية حوض" عن الظروف المضحكة والمتقلقلة التي تطرح نفسها أمام المرء حين يرغب في أن يتدخل تدخلاً فعلياً في مجريات الواقع- كمنبر الوعظ أو المصطبة المتنقلة أو الدرج- وكيف أن هذه الأشياء تخضع، كأي كتيب أو حكاية أو استطراد، لإمرة سلطة دنيوية من أنواع مختلفة وأنواع أعتى أيضاً تتعذر حيازتها على أي كاتب أو مفكر لا يمتلك رأسمالاً حقيقياً راسخ الجذور. فالكتابة الفكرية تقتحم المكان والزمان، بيد أن متطلباتها ما هي في خاتمة المطاف إلا تحت رحمة السلطة الحقيقية. وإن لكل أمثال هذه الكتابات، بغض النظر عن خصائصها الخادمية الآنية، تنطوي على سخريات داخلية خاصة بها تهم المفكر وتعود بالمتعة عليه. أو تأملوا المناسبة الواردة في "أسفار غوليفر" حين يخلق غوليفر مساحة واسعة على منشفته المبسوطة لفرسان ليليبوت وكيف نتيقن من أنهم سوف يتساقطون كلهم إذا انسحب غوليفر العملاق. ولكن القوة التي يملكها كعملاق تعمل بالمقابل ضده حين يتصرف كقزم في برودينغ ناغ على طاولات صغيرة أمام جمهور من النظارة العمالقة.

إن أعظم سخرية فكرية، أو أعظم سخرية لمفكر، توجد في الرحلة الرابعة، ألا وهي الحادثة الوحيدة التي خلبت ألباب قرائه كلهم دون سائر أعماله الأخرى. فنحن لا نستطيع بمنتهى البساطة أن نوهن قوتها أو أصالتها الخيالية الهدامة، لا بل وعلينا ألا نحاول ذلك. ولكن بمقدورنا أن نرى في الهويهنهم والياهوز -وبينهما غوليفر- مقداراً معيناً من التحرر الفكري العام الذي تحرره سويفت من وهمه حيال المجتمع، تحرر يطرح علينا في النهاية خيارات في حدودها الدنيا لحياة مرضية. فالشيء الحاسم بالنسبة للهوينههم لا يكمن فيما إذا كان من المفروض بهم أن يكونوا مثاليين، بل في كونهم حيوانات، شأنهم بذلك شأن الياهوز الذين هم من بني البشر ولكنهم يتصرفون تصرفات أقرب إلى الحيوانات من بني البشر. إن وقائع الأمور على هذا النحو تمثل على الأرجح ما دعاه أورويل "بالعنف اللامسؤول للمستضعفين": فبما أنه لم يبق أي شيء في الحياة الإنسانية لسويفت كي يتمتع به، فإنه يهاجمها كلها. ولكن الشيء الذي كان على الدوام يخلف في نفسي أجمل الانطباعات في الرحلة الرابعة هو، علاوة على التحرر الأصيل من الوهم، استمرار بقاء غوليفر نفسه هناك -حتى بين ظهراني الهويهنهم- وهو يدوّن بمنتهى المنطق مدركاته واكتشافاته، وينتظر سنوح الفرص له لفعل أي شيء، الأمر الذي وقعه في النفس شأنه شأن أي شيء آخر في الحكاية. وإن انتهاء كل رحلة بطرد غوليفر أو هروبه يعكس، على ما أظن، أقصى حد من التوتر المأساوي في طاقة سويفت الفكرية، مثله بذلك مثل رحلات غوليفر إلى أمكنة خرافية تماماً حيث يجب عليه الإذعان لأدق ضغوط كل وضع بأم عينه إذ تقوم تلك الرحلات مقام الشاهد على الرغبة العارمة لدى سويفت للتفتيش عن أشياء مادية بغية "الرد" عليها.
وختاماً أتصور أننا في فقرة من "رسائل تاجر الأجواخ" يمكننا سماع نبرات اليقظة الفكرية العامة لدى سويفت، وإحساسه بالوضع الفعلي للمفكر وما ينطوي عليه من سخرية صحية وهشاشة وهامشية، لابل ويمكننا الوقوف أيضاً على التهكم المقهور في صميم ذلك الوضع:
لقد عزمت الآن على العمل (بعد تلك المسيرة العادية لأبناء الجنس البشري، ولو بعد فوات الأوان بردح طويل جداً من الزمن) بالنصيحة التي أسداها لي عميد معين. فلقد بين لي الخطأ الذي كنت أعيشه، خطأ الاطمئنان إلى النوايا الطيبة الموجودة لدى الناس، وبين لي أنني كنت ناجحاً حتى هذه اللحظة، ونجاحاً أكثر مما كان متوقعاً؛ كما بين لي أن أية هفوة آنية تعيسة قد تضعني تحت قبضة السلطة، وأن النوايا الطيبة لديّ لن تكون ضمانة لي ضد أولئك الناس الذين كانوا يراقبون أية حركة من حركات ريشتي وأنا أكابد المرارة في صميم روحي%.


nnn



4- كونراد: سرد الحكايات



لقد كان كونراد يحاول أن يفعل شيئاً، في كتابته رواياته وسيرته الذاتية على حد سواء، تكشفت خبرته عنه ككاتب بأنه مستحيل في كل مكان. وهذا ما يجعل منه مشوقاً لأنه يجسّد حالة ذلك الكاتب الذي كان واقع عمله ومقدرته العملية ككاتب، والنظرية حتى، أموراً تسبق ما كان يقوله أشواطاً كبيرة إلى الأمام. وبما أن هذا التعارض الذي تنطوي عليه كتابة كونراد كان قائماً حينما كان الكاتب على قيد الحياة وهو يمارس الكتابة، فإنه يحتل مكاناً خطيراً في تاريخ ازدواجية اللغة ازدواجية جعلت دراسة مراتب اللغة، منذ أيام نيتشه وماركس وفرويد، شيئاً مركزياً جداً بالنسبة للفهم المعاصر. فلقد فرض القدر على كونراد أن يكتب روايات عظيمة لإجراء تصويرها وحده، بل وجراء سردها أيضاً. إن كونراد كان ضحية تضليل اللغة حتى حين كان يكسو اللغة كساء مسرحياً ما كان بوسع أي كاتب آخر أن يكسوها بمثيله.
وذلك لأن الشيء الذي اكتشفه كونراد كان أن الهوة بين ما تقوله الكلمات وبين ما تعنيه تلك الكلمات تنحو منحى التوسع، لا التضييق، إن توفرت الموهبة لكتابة الكلمات. ولئن كان قد اختار أن يكتب فهذا يعني إذاً أنه اختار بطريقة معينة لا أن يقول بشكل مباشر ولا أن يعني بالضبط ما كان يريده بالطريقة التي كان يأمل أن يقوله بها أو يعنيه. فلذلك ليس من المستغرب أن يكون كونراد قد عاد إلى هذا الهم المعضل مراراً وتكراراً- وهو الهم الذي دأبت كتابته على إكسائه المسرحي بشكل دائم وعلى نحو خلاق.
وثمة عناية فائقة مكرسة لمبعث قص القصص- الأمر الذي يشكل الدليل على الحاجة الماسة لتسويغ سرد الحكاية بطريقة ما. فمثل هذه العناية بالباعث الحقيقي لسرد حكاية ما تتضارب مع الوصف الذي ساقه كونراد في "سجل شخصي" عن بدايته ككاتب. وبدلاً من السيرورة المعقولة التي تحول بها بحار إلى كاتب يقول أن "تصور كتاب منظم كان بالمطلق خارج إطار نطاقي العقلي حين جلست للمبادرة بالكتابة”. ففي صبيحة أحد الأيام استدعى ابنة ربة منزله وقال لها: "هل تتكرمين بإزالة هذا كله توا؟" لقد خاطبتها بنبرات متهدجة، كوني كنت في الوقت نفسه منهمكاً بإعداد غليوني لتدخينه. وهذا المطلب، أعترف لكم، كان مطلباً استثنائياً..... وأتذكر وقتها أنني كنت في سكينة تامة. وفي حقيقة الأمر ما كنت البتة متأكداً من أنني كنت أريد الكتابة، وما كنت متأكداً مما أريد كتابته، لا، وعما إن كان لدي أي شيء أود الكتابة عنه. لا، ما كان لدي أي هاجس على الإطلاق.
إن كلمة "هذا" كانت تعني وجبة الإفطار. وللتو كانت كتابة رواية "حماقة آلماير": التي كان معظمها عن حدث ذي "سرية تامة"(1). إن روايات كونراد تعالج، في آن واحد معاً، أفعالاً بلا أي مبعث عقلاني واضح، من مثل ذلك الحدث الوارد في "سجل شخصي"، وأفعالاً من مثل سرد قصة مبعثها أسباب مؤكدة. فثمة مثل واضح يوجد في رواية "صميم الظلمة". فرغبة مارلو لزيارة الأماكن المظلمة رغبة عميقة الجذور ولكنها ليست موضع التوضيح بالفعل، ومع ذلك فوصفه الرحلة لزمرة من المستمعين منسوب بالضبط للمناسبة التي تحفزه. إن اللهفة التي يتلهفها مارلو على الأمكنة الفارغة لا تستند إلى أي تاريخ متعاقب ولا تلبس لبوس التطور. فهي رغبة مستديمة جداً، وحتى في "سجل شخصي" يروي كونراد، لدى وصفه لمولده ككاتب، نفس القصة التي تماثل هذه القصة عن مارلو:
والآن حين كنت شاباً في مقتبل العمر كنت مولعاً بالخرائط. وقتها كنت أقضي ساعات وساعات أنظر فيها إلى أمريكا الجنوبية أو أفريقيا أو اوستراليا، وأنسى نفسي تماماً في غمرة أمجاد الاكتشافات. وفي تلك الآونة كان هنالك العديد من الأماكن الفارغة على سطح هذه المعمورة، وحين كنت أرى واحداً من تلك الأماكن التي كانت تخلب لي لبي على نحو خاص على الخريطة (ولكن كل الأماكن تبدو على هذه الشاكلة) كنت أضع إصبعي عليه وأقول حين تتقدم بي السنون سأمضي إلى هناك.(52/4)
وبعد مضي بضع سنين أحد تلك الأمكنة الفارغة
أضحى مكاناً مظلماً. ولكن كان به نهر يلفت الأنظار، نهر كبير جبار، كان بمقدورك رؤيته على الخريطة يشابه حية ضخمة سائبة، رأسها في البحر وجسدها يتلوى على هينته بعيداً فوق منطقة شاسعة، في حين أن ذيلها ضائع في أعماق الأرض. وحين نظرت إلى خارطة النهر في شباك أحد الحوانيت، فتنتني كما تفتن الحية الطائر- ولا سيما حين يكون صغيراً أبله.(42/6).
وإذا قارنا هذه القصة، قصة الفتنة التي تخلب الألباب، مع المناسبة التي تحفز مارلو على رواية مغامرته الأفريقية، للاحظنا، حتى من الفقرة الأولى للحكاية، الكيفية التي جرى بها وصف الأساس المنطقي لسرد الحكاية والحافز على سردها. فسفينة "نيللي" مضطرة للبقاء في الميناء "بانتظار عودة المد والجزر إلى الوضع الطبيعي"، والرجال الخمسة لهم تاريخ مشترك في ركوب متن البحر، والسواقي في نهاية نهر التايمز لا توحي بحية تفتن طائراً أبله بل تشكل مسيلاً مائياً يعود بالمرء إلى "الروح العظيمة التي سادت في الماضي..... إلى أحلام الرجال، إلى بذور الكومونويلثات، وإلى أصول الإمبراطوريات"، ومن ثم هنالك مارلو المعروف" بميله لتلفيق القصص". وقبل أن يبدأ السرد (وهذا على تناقض مع عجز كونراد عن تصور كتاب منظم قبل أن يصبح كاتباً) "أدركنا أن القدر شاء لنا أن نستمع، قبل عودة المد والجزر إلى الوضع الطبيعي، إلى إحدى التجارب التي لا نهاية لها والتي عاشها مارلو" (51/16).
وعندما عاين كونراد رواياته للإتيان بملاحظات الكاتب كتب في مرحلة متأخرة من مراحل حياته المسلكية مشيراً إلى تعجبه في كثر من الأحيان من الطريقة التي بدت له رواياته فيها تنطلق من المصادفة. ولذلك فإنه كثيراً ما زود قارئه بالأسباب الأصلية التي دفعته لكتابة روايته. وفي غالب الأحيان كانت هذه الأسباب تتمثل بنكتة طريفة وبخبرة شخصية ما وبقصة منشورة في صحيفة وهكذا دواليك. فمن الجدير بالذكر أن أعمال نورمان شري كشفت الكثير من تلك البينات وأكثر مما كشف منها كونراد، لا لأن كونراد كان نسّاء ومراوغاً بل ولأنه كان مهتماً بالأساس في تبرير أن ما فعله كان معقولاً. وإنني لأتصور أن كونراد كان على قناعة تامة أن ذلك التبرير أهم بكثير من الإتيان بمفاتيح حل ألغاز مناهج عمله. وهكذا علينا أن نحمل على محمل الجد احتاجه الذي ساقه في الملاحظات على رواية "لوردجيم"، والذي قال فيه أن حكاية مارلو كان من الممكن روايتها شفوياً خلال ليلة واحدة من ليالي تجاذب أطراف الأحاديث والحكايات. إن أخذ هذا السطر بعين الاعتبار لأمر يثير الدهشة، بيد أن كونراد كان منكبا على الشيء الذي كان بالنسبة إليه دائماً نقطة هامة، ألا وهو رواية القصة بقالب مسرحي وكيف ومتى كانت روايتها، الأمر الذي كان الدليل يشكل فيه قسطاً جوهرياً من الرواية ككل.
كان من المعروف عن الرجال، في المناطق الاستوائية والمعتدلة سواء بسواء، بأنهم يسهرون إلى منتصف الليل وهم "ينسجون الحكايات". وما هذه إلا حكاية واحدة، ومع ذلك فإن الانقطاع في تواصلها يوفر مقداراً معيناً من السلوى، وأما فيما يتعلق بطاقة السامع على التحمل فيجب قبول البديهية التي مفادها أن القصة مشوقة..... وذلك الجزء من الكتاب الذي هو بمثابة حكاية مارلو يمكن قراءته بصوت عال، والحق يقال، في غضون أقل من ثلاث ساعات. وعلاوة على ذلك.... بوسعنا أن نفترض وجوب وجود المرطبات في تلك الليلة، من مثل كأس من المياه المعدنية لمساعدة الراوي على الاستمرار(7/21).
ولذلك كان بمقدور كونراد، وبمنتهى البساطة، أن يرى أن قصصه هي المكان الذي توجد فيه الأشياء المنطقية والمنهجية والعرضية والبعيثة، جنباً إلى جنب مع الأشياء الاعتباطية والمباغتة والمعمّيات. فمن ناحية أولى هنالك ظروف مطروحة تفرض ضرورة سرد القصة، ومن ناحية ثانية تبدو القصة الأساسية نفسها على تعارض مع ظروف سردها. وإن تفاعل هذا العنصر مع ذلك -مع العلم أن العناية الفائقة التي يوليها كونراد للإطار الواقعي المقنع لسرد القصة يستحوذ على اهتمامنا لهذا الأمر- يجعل من الرواية ذلك الشيء الفذ الذي هو عليه في حقيقة الأمر.
فتفاعل أمثل هذه المتناقضات يوجب وسمه بأنه أسدى خدمة جليلة لكونراد أكثر مما كان من الممكن لأي مسعى آخر أن يسديه، سواء أكان ذلك المسعى لفظياً أو لدناً أو إيمائياً. وهأنذا أعلق أهمية قصوى على هذه الملاحظة. فمراراً وتكراراً يجري التفتيش في نص من نصوص كونراد عن نصوص فرعية إضافية أو عن معاني ذوات امتيازات من ذلك النوع الذي يبدو بأنه أكثر أهمية من الكتاب نفسه. وحري بنا أن نشير إلى قلة الاهتمام بالبديهية التي هي في متناول اليد والتي مفادها أن النص، كما هو عليه في حقيقة الأمر، كان بالنسبة لكونراد شيئاً ناتجاً، لا بل والشيء الناتج بحد ذاته- والشيء الذي كان يعود إليه بين الحين والحين ككاتب أو ناقد أو مدافع أو مراقب أو ضحية. فالنص كان الناتج الذي لا نهاية له لسيرورة متواصلة. وبالنسبة إليه، كما يثبت من خلال العديد من الرسائل، كان ضرورة الكتابة منذ أن أصبح كاتباً، بمثابة المشكلة العويصة، إذ منذ أن حزم أمره على خوض غمار الكتابة، على الرغم من السرية المطلقة التي اتخذ بها قراره، كان يتصور حياته المسلكية ككاتب أنها سيرورة مادية، ويرى أن قدره يسوقه لإنجاز مهمة عسيرة تعترض سبيلها عقبة كأداء على نحو خاص. "إن الوحدة تنال مني، فأنا لا أرى شيئاً، لا أقرأ شيئاً، وكأن هذه الحالة نوع من القبور، ونوع قد يكون جحيماً، إذ علي أن أكتب أن أكتب أن أكتب"(2). فالعزلة والظلمة وضرورة الكتابة والاحتباس هي الضغوط التي تنيح بكلكلها على الكاتب وهو يمارس الكتابة، ولا سيما إن كان على شاكلة كونراد الذي نادراً ما صادفت كاتباً مثله فياضاً بذلك المقدار الكبير من التذمر والشكوى. وشتان بين لهجة التذمر ولهجة العقيدة الجمالية التي طرحها كونراد عام 1896 في مقدمة رواية "زنجي النرجس"، والتي يتحدث فيها عن قدرة الفنان على تبادل الحديث الودي وعلى وضوح الرؤية التي يقدمها للقارئ- مأثرتان عظيمتان حظي بهما على أرجح الظن بعد كثير من العراك مع الكتابة نفسها.
لئن اقتنص المرء بلحظة جرأة، من تهور اندفاع الزمن، طوراً عابراً من الحياة، لكان ذلك بداية المهمة ليس إلا. فمباشرة المهمة تعني عرض ذلك الطور المستعاد، بلا تردد وبلا خيار وبلا وجل، أمام الأعين كافة على ضوء مزاج صدق، أي إنها تبيين ذبذبته ولونه وشكله، إذ إن لونه وشكله يبينان، من خلال حركته، جوهر حقيقته -ويفضحان سرّ إلهامه: أي التوتر والانفعال في صميم كل حركة مقنعة.(14/23).
ومع ذلك فليس هذا القول بمثابة مجموعة من التعابير الكيسة فاقتناص طور من الحياة وإسباغ شكل وهيئة عليه، وجعل القارئ يرى، والإقدام على فعل ذلك بالانتصار على الخيار العقلاني منذ البدء والتغلب على الخوف أثناء الإنجاز: المتطلبات تصبح أكثر هولاً حين نصرّ، كما يصرّ كونراد قبل قليل، على أن الوسيلة تكمن في الكلمات. إن إنتاج الكلمات أو قراءتها لشيء مختلف جداً، وبمنتهى الوضوح، عن الأهداف التي يصيغها كونراد لعمله، والتي هي أكثر حيوية وشهرة من الكلمات. فتحول الإدراك الحسي الذي يطرأ في الوقت الذي تخلص فيه الكتابة أو القراءة إلى رؤية لتحول بالغ التطرف في حقيقة الأمر، لا بل وحتى متناقض أيضاً. وحري بنا أن نقول أنه تحول متناقض جداً إلى الحد الذي يجعل المرء يميل لنسيان كل الجملة التي يصيغ بها كونراد طموحه الأساسي. "إن مهمتي التي أحاول إنجازها تتمثل في أن أجعلك، من خلال قوة الكلمة المكتوبة، تسمع وتحس، وأن أجعلك ترى قبل هذا وذاك". وهكذا فإن روايات كونراد تجسّد التحول (أي توفر له موضعاً) في قلب عملية الحدوث. فجهود كونراد مكرسة، كما يقول، لتوظيف قوة الكلمات المكتوبة، والتي أصلها مغروس في مشقة صنعة الكتابة، كي يجعل قارئه يعيش تجربة حيوية الأشياء المرئية وديناميكيتها أيضاً. ويحدث هذا الأمر، في غالب الأحيان، من خلال وساطة الكلمات المنطوقة.
وإن من الممتع أن يكون المنطلق الأولي الشيق لمعظم قصص كونراد هو الحكاية الملفقة أو التقرير التاريخي أو الخرافة المتداولة أو الذكرى النابضة بالحياة. وهذا المنطلق يقتضي ضمناً وجود متحدث ومستمع (على الرغم من وجودهما هناك بمنتهى الوضوح وفي معظم الأحيان)، فضلاً عن توفر ظرف معيّن في بعض الأحيان كما أسلفت القول. فإذا أمعنا النظر في القسط الأكبر من عمل كونراد لوجدنا، باستثناء رواية "تحت عيون غريبة" على وجه التخصيص، أن القصة مسرودة وكأنها منقولة شفوياً. وهكذا فإن الاستماع والإخبار هما أساس القصة، أي أكثر الفاعليات الحسية رسوخاً ومعيار ديمومة القصة، في حين أن المشاهدة العيانية هي دائماً على تناقض صارخ مع الاستماع والإخبار، إنجاز مشكوك بأمره وشيء أقل رسوخاً بكثير. هيا وتأملوا كيرتز وجيم. فالقارئ يسمع أصواتهما كليهما ويسمع ما يدور من أحاديث عنهما أكثر مما يشاهدهما بشكل مباشر ضمن إطار السرد. وعندما يظهران للعيان- ولا سيما جيم الذي يضرب مثلاً لافتاً للنظر: "فبالنسبة لي بدت تلك القامة البيضاء في هدوء الشاطئ والبحر واقفة في قلب لغز هائل"- يبدوان ملغزين ومشوهين، بطريقة عجيبة، تشويهاً بالغاً. "لقد بدا كيرتز بطول سبعة أقدام على الأقل.... رأيته يفتح شدقيه واسعاً- الأمر الذي أخفى عليه مظهر شره غريب وكأنه كان يريد ابتلاع كل الهواء وكل اليابسة وكل الناس الذين قدامه"(134/16).
وعندما يتحدث مارلو، بعدئذ، يبقى صوته ثابتاً في نفس ذلك الوقت الذي تضمحل فيه مشاهدة مستمعيه له. إن ذلك النوع من الاضمحلال مألوف جداً إلى الحد الذي جعل الهدف الذي رسمه كونراد لنفسه، كما جاء على ذكره في مقدمة الرواية عام 1896، يشكل تحدياً خاصاً وذلك لأنه المقصود بمسيرة الكلمات المسرودة لم يكن مجرد التحرك في اتجاه معاكس لاتجاه الرؤية وحسب، بل وتمديد أمد الصمت "الظلمة محال اختراقها"، على الرغم من إصرار الكلمات على وجودها على الصفحة أو بين المتحدث والمستمع.
ولربما من المفيد أن أرسم مخططاً لبعض ما قلته أعلاه. إن أصل الروايات يكمن في حضور الناس حضوراً سمعياً وبصرياً. وينطبق هذا القول في العادة على حالة كونراد سواء أكان سرد الروايات بصيغة المتكلم أم لا. والجدير بالذكر أن موضوعها وهمي أو غامض أو مبهم: أي كل شيء لا تسهل رؤيته في الطبيعة. وهكذا فإن كثيراً جداً منها على الأقل يمكن التحقق منه بمجرد قص القصة، وذلك لأن ما تكشفه القصة عادة هو الخطوط الكفافية الدقيقة المحيطة بهذا الغموض. وفي معظم الوقت يكون الغموض، بصرف النظر حتى عن الروعة الظاهرية المتقنة (كما هي عليه الحال بالنسبة لنوسترومو أو جيم أو المعاون الأسود)، مقصد خجل سري. ولكن من المفارقات العجيبة أن يكون السر عرضة، بمنتهى البساطة، للافتضاح بشكل مغلوط -الأمر الذي يجعل طرائق السرد المحترسة المعروفة لدى كونراد تقدم على محاولة إحباطه. فالراوي النبيه هو دائماً راو يحول دون ورود النوع المغلوط من التأويل، كما أن سرده يفترض بكل إصرار رواج نسخة منافسة. إن كل رواية "نوسترومو"، على سبيل المثال، مبنية على تواريخ متنافسة عن (كوستاغوانا) حيث أن كلاً منها يزعم بأنه سجل أكثر دقة من غيره عن الأحداث الخطيرة، وينتقد بشكل ضمني النسخ الأخرى.
إن بإمكاننا أن نتصور روايات كونراد بشكل تجريدي وكأنها تبادل المواضع بين الحضور والغياب في اللغة. فحضور الكلمات المنطوقة في الوقت المناسب يخفف وطأة نسختها المكتوبة، إن لم يعمل على تغييبها نهائياً، إذ إن ثمة متكلم يتوالى السرد بصوته في الوقت الذي يطغى صوته على حقيقة غيابه عن مستمعيه إبان كلامه (أو حقيقة عدم مشاهدتهم له). إن هدف كونراد هو أن يجعلنا نرى أو أن نتخطى بدلاً من ذلك غياب الأشياء كلها عدا الكلمات، وذلك كي نتمكن من الدخول إلى حيز من الرؤية خلف الكلمات. ترى ما هو ذلك الحيز؟ إنه عالم من عوالم المصادفة الميسورة بين النية والكلمة والعمل، وعالم بالإمكان دفن مثقال ذرة من أية واقعة فيه، كما عبّر عن ذلك لوردجيم. وهناك تلتئم الصدوع القائمة في ألفة الإنسان مع نفسه أو في ذاته المهشمة، ويضيق الفراغ الفاصل بين الطموح والفاعلية. فعملية استرجاع ماضي الزمان وإمعان النظر في أحداثه تستهدف تقويم الاعوجاجات والقضاء على التباينات، لا بل والأجدى أن نقول، من منطلق أعمق، أن نية الكاتب على الرغبة في قول شيء واضح جداً تتعرض للتوافق تماماً مع رؤية القارئ، إذ إن الكلمات اللصيقة بالصفحة تصبح، من خلال جهود كاتب منعزل، ملكاً مشاعاً للقارئ الذي ينفذ بصره خلف الكلمات إلى النية البصرية للكاتب، الأمر الذي يكون بمثابة السرد المكتوب عينه.
فبالنسبة لكونراد كان المعنى الذي تولده الكتابة نوعاً من الخط الكفافي البصري الذي لا تستطيع اللغة الاقتراب منه إلا من الخارج ومن مسافة تبدو ثابتة على الدوام. ولربما أن بوسعنا أن نعزو هذا التقييد الصارم على الكلمات إلى إيمان كونراد بسمو الشيء المنظور على ما عداه، وإلى شكه العميق الجذور بقدرة اللغة المكتوبة على تقليد ما تراه العين.
فاستخدامه لأمثال هذه الأحابيل القصصية، وما هي بالأساس إلا أحابيل استرجاعية واستقصائية كالاستعلام في رواية "لوردجيم" والتقرير التاريخي في "نوسترومو" والتنقيب المنهجي في "قلب الظلمة" والترجمة في "تحت عيون غريبة" والاستقصاء الهزلي في رواية "العميل السري"، يكشف عنه بأنه يوظف اللغة وكأن المقصود بهذه الأحابيل حدوث الرؤية الفعلية لكي تنتفي، من ثم، ضرورة وجود اللغة. ولكن الجدير بالذكر أن هذه الأحابيل أنفسها معتمدة على التسليم جدلاً أن هنالك مكاناً مركزياً، أي "قلب تلك الظلمة" التي قد توجد في مكان ما في صميم أفريقيا، أو في صميم أمريكا أو في صميم لندن، أي ذلك المكان الذي يحتل مركز الصدارة بكل جدارة بغية تفهم عمل من أعمال الماضي الذي يتسم بمواصلة بث إشعاع المغزى من ذلك المكان إلى أمكنة أخرى وفي أزمنة لاحقة.
ولئن أمعنا النظر في قصص كونراد من منطلقات كهذه لاعترانا الذهول من الإصرار الكبير الذي يصره مجمل مركب الأفكار المقرون "بالمركز" (كالاقتراب من المركز، والإشعاعات من المركز) على مواصلة الظهور في عمله كضربة لازب، ولا سيما إن تذكرنا أن كونراد لا يتركنا ننسى أن الرواية المكتوبة تدون الحكاية المسرودة التي تستقطب الانتباه إلى نفسها هي وكأنها سيرورة للاقتراب من المركز رويداً رويداً. وهكذا ففي رواية "قلب الظلمة" يقوم مارلو برحلته باتجاه مختلف المراكز التجارية الموجودة في الداخل وهو يفترض بداهة أن كيرتز هو ضالته المنشودة. والوصف الذي يتناول كيرتز يقول عنه بأنه في (المركز الداخلي) علاوة على أنه مدار أحاديث كثيرة. فبالوصول إليه كان مارلو يأمل بأن يضع حداً لكل الإشاعات التي سمعها عنه وأن يرى أخيراً بنفسه، وبصمت، ما هي بالضبط نوعية كيرتزوما هو عمله. ومع ذلك فليس على القارئ وعلى مارلو إلا أن يكتفيا، معظم الوقت، بأقل الكلمات بدلاً من انعدامها نهائياً في الوقت الذي يتحقق فيه بلوغ المركز. فمن هنا تتأتى القوة الغريبة لتعابير لدى كونراد من أمثال "الرعب" أو "المصالح المادية" على الرغم من أنها مقتضبة وصداها دائب التكرار: فهذه التعابير تعمل عمل النقطة الساكنة، أي المركز اللفظي الذي يفسره السرد والذي يعود انتباهنا إليه مراراً وتكراراً. ولئن رأيت الشيء الذي تعلن عنه لاستغنيت على الأرجح عن الكلمات، ولئن عثرت على مرادفها المنظور لتسنى لك ذلك الحضور المطلق الذي عمل النظام اللغوي المزدوج على تغييبه في السرد.
وهكذا لم يكن بلا أي طائل أول سرد مسهب لكونراد في رواية "حماقة آلماير" حول بناء يدعى "بالحماقة" كان مصمماً لاختزان الذهب المستخرج من الداخل، بيد أن الذهب ما رؤي قط، ما استخرج قط، بل دار الحديث عنه وحسب.
إن ذلك التزامن بين انطماس الكلمات وبين حضور المعنى حضوراً بصرياً دون وساطة صار ولا بد تزامناً لا عقلانياً جداً وقت صدور رواية "العميل السري" (1907، أي بعد اثنتي عشر عاماً على ظهور رواية آلماير) بحيث أن استخدام كونراد لفاعلية مألوفة مشوشة لدى صبي كي تمثل التزامن لهو، على ما أظن، تعليق ذاتي إلى حد كبير.
لقد كان سنيفي يجلس جلسة مريحة وهادئة إلى طاولة من خشب الصنوبر، وهو يرسم دوائر ودوائر، دوائر لا تحصى ولا تعد، دوائر متحدة المركز، مختلفة المركز، دوّار لألاء من الدوائر من تلك التي كانت توحي، جراء فيض من أقواسها المتشابكة الكرارة واتساق شكلها وتشوش خطوطها المتقاطعة، بتصوير فوضى كونية، كرمز لفن مجنون يحاول تصور المستحيل، ما أدار الفنان رأسه قط، وفي استغراق روحه كلها بتلك المهمة كان ظهره يرتعش، في حين أن عنقه النحيل، المغروس في حفرة عميقة في قاعدة جمجمته، بدا على وشك الانفصام. (45-46/12).
إن ما يفعله السيد فيرلوك لا يتعدى "الكشف عن ستيفي البريء" حين يفتح باب المطبخ، لأن الفن الانفصامي لدى ستيفي يتقصد السامع وليس له أي ذكر. وهو مجرد استغراق كثيف متواصل في عمل مكرور معناه لا يتبدل. فاختيار كونراد لكلمة "مهمة" هنا كان على الأرجح اقتباساً لا إرادياً من (مقدمة عام 1896)، وكان ذلك الاقتباس الذي كان يعتمد على خطورته الأخلاقية في معظم الأحيان. وإن طبيعة فن ستيفي، تلك الطبيعة المشوشة والمتسقة والمكرورة والمنعزلة، تماثل الوصف الذي وصف به كونراد الكتابة: "جحيم حين تتوجب عليك الكتابة، الكتابة، الكتابة"، مثلها بذلك مثل تلك الدوائر المتحدة المركز والمختلفة المركز التي توحي بتفاعل المتناقضات وتبادل المواضع فيما بين الحضور والغياب في اللغة. وإن أكثر ما يلفت الأنظار يكمن في صمت المشهد بأسره وسريته العامة. فهل بمقدورنا أن نقول أن ستيفي كان ضحية اختلاس النظر أو استراق السمع؟ وذلك لأن من الصعب في حقيقة الأمر أن يعرف المرء ما إن كان "النخير الذي أطلقه السيد فيرلوك استنكاراً للمفاجأة" يعني أي شيء غير الاطلاع ليس إلا. فالدوائر لا تتكلم بل وتنبئ فقط عن تصور المستحيل (ومن خلال رمزية واهية جداً)، وهي تطوق الفراغ حتى حين تبدو بأنها تستثنيه جزئياً. وعلاوة على ذلك فإن دوائر ستيفي رهينة الصفحة ولكنها تقيد الرسام بفضاء أبيض فارغ ولا وجود لها في أي مكان آخر. وإنني أرجح تماماً أن كونراد كان يتخيل ستيفي بأنه ذلك الكاتب الذي يقف على شفير الهاوية "in extremis" والذي يتوجب عليه، كون النظرة إليه نظرة معتوه تافه، التقييد الصارم بأحد قطبين اثنين: إما أن يخربش على الصفحة إلى أبد الآبدين، أو أن يتمزق إرباً إرباً دون هوية بشرية. ومن الجدير بالذكر أن هنالك أمثلة سابقة، مؤثرة ولو أنها تقريبية، لكل من ستيفي والثنائي فيرلوك في قصة "المعتوهون" التي هي عبارة عن قصة قصيرة كان استكمالها في عام 1896.
فالقصة تبدأ تماماً تقريباً نفس بداية قصة "آمي فوستر" (1901) التي تعالج أيضاً وضع شخصية مختلة عقلياً ويبدو عليها الجنون، والتي يرى فيها الراوي البقايا الباقية لقصة قديمة أثناء زياراته لمكان جديد بالنسبة إليه. وإن القصة- "أمامي على الأقل حكاية مريعة وبسيطة" -لقصة فلاحين اثنين ينجبان بلا أي حس بالمسؤولية أربعة أطفال بلهاء. فالتشوش العقلي والغضب اللذان يحلان بالزوجة يدفعان بها إلى قتل زوجها، وبعدئذ تقتل نفسها بالقفز من جرف صخري إلى البحر، حيث ثمة شاهد على الانتحار يسمع "صرخة وحيدة عالية طلباً للنجدة ترتفع إلى الأعلى.... وتحلق في أعالي السماء الجامدة"(84/7).
وفي مرحلة تالية يعمد معلم اللغة، في رواية "تحت عيون غريبة"، إلى مزيد من التعليق على محاولة تجاوز اللغة بالرؤية. ولكن هذه "الحماقة" الآن لها مغزى سياسي أيضاً، على الرغم من صياغة المعلم لها بعبارات كلامية. فهو يقول: "إن ذلك النزوع للارتقاء بكل مشكلة من مستوى الشيء المعرّض للإدراك بواسطة تعبير ملغز، لأمر روسي بحت” (104/22). وفي كل مكان يعلق المعلم على الكيفية التي تكون عليها الحال وقت الإصغاء إلى الروس وهم يتحدثون: "إن أدق أقوالها (أقوال ناتاليا هالدين) كانت تبدو دائماً لي ذات استطالات مبهمة في طريقها إلى الاختفاء في مكان ما خارج متناولي"(118/22). فأفعال العمل المادي والمدرك الحسي لوصف اللغة المستخدمة لاستعمال فعلي متطرف لأفعال على اتساق مطلق مع الممارسة المألوفة لدى كونراد. "فالارتقاء" يوحي "برفع" مقدمة عام 1896، بيد أنه هنا مقرون "بالتعبير الملغز" الازدرائي الذي هو بمثابة وسيلة غير جديرة بالاعتماد عليها في أحسن الأحوال. إن النتيجة الخالصة لهذا النوع من الإخبار، مهما بلغت دقة صياغته، هي تمديد المعنى إلى مسافة بعيدة جداً عن الكلمات إلى الحد الذي يتلاشى فيه المعنى نهائياً. وإن ما يجتره المعلم العجوز على الدوام هو أن الميل الذي تميله اللغة الروسية نحو التعبير الملغز لنوع من الخلل الأنطولوجي الموجود إلى درجة أقل بكثير في اللغات الغربية. إن رازوموف ليشعر بهذا الخلل شعوراً هستيرياً حين يلقي هالدين بنفسه تحت رحمة التلميذ المسكين. فالنظام مقرون بدراسة اللغة واستخدامها بشكل حاذق (إذ إن كلاً من المعلم ورازوموف تلميذان من تلاميذ اللغة)، في حين أن التشوش والتسامي، فضلاً عن نوع من أنواع الجمالية السياسية، مقرون كله بالرغبة الثورية لدى هالدين في أن يرى ويغير ويعتنق وعلى نحو مباشر جداً.
وفي الوقت الذي عادت فيه قصة "الفرصة" (1913) على كونراد بشهرة غير متوقعة كان قد حزم أمره على أنه في خاتمة المطاف كاتب إنكليزي وليس، كما زعم بعض النقاد، كاتباً فرنسياً فاشلاً أوسلافياً متخفياً. ففي المقدمة الثانية التي جاءت بعد زمن طويل (1919) لـ "سجل شخصي" كتب هذا الوصف "الروسي" المذهل لاستخدامه اللغة الإنكليزية. فهأنذا أقتبسه كاملاً نظراً لعاطفيته الجياشة وتصميمه الأكيد لا للإطناب بالمنطق أكثر من اللزوم:
إن حقيقة الأمر تكمن في أن قدرتي على الكتابة بالإنكليزية لأمر طبيعي جداً شأنه شأن أية كفاءة أخرى ولدت ربما معي. وإن لدي إحساساً طاغياً وغريباً بأنها كانت تشكل على الدوام جانباً كامناً من جوانب نفسي. فالإنكليزية لم تكن بالنسبة لي خياراً أوتبنياً.
وإن أدنى فكرة عن الاختيار لم تخطر على بالي البتة. وأما فيما يتعلق بالتبني- حسناً، أجل، كان هنالك تبنّ، بيد أنني أنا هو الذي كان موضوع التبني من قبل عبقرية اللغة، الأمر الذي جعلني أتخطى مباشرة طور التلعثم بمجرد أن جعلتني ملكية خاصة بها تماماً حيث أنني أعتقد فعلاً أن تعابيرها الاصطلاحية نفسها كان لها عمل مباشر على فطرتي وعلى تشذيب شخصيتي التي كانت وقتها هزهازة.
وحين يعترف شخص مثلي أن الأمر كان اكتشافاً ولم يكن وراثياً، بحيث أن نفس دونية الحق الشرعي تدل على أسبقية الاستعداد الطبيعي على ما عداه، فإن ذلك الاعتراف يضع صاحبه تحت وطأة التزام أبدي في أن يبقى جديراً بثروته العظيمة..... فكل ما أستطيع المطالبة به، بعد كل تلك السنوات من الجهود الحثيثة وبعد كل ما تكدس في قلبي من كروب شكوكها ونقائصها وعيوبها، هو الحق في تصديقي حين أقول بأنني لو لم أكتب بالإنكليزية لما كنت كتبت البتة (7-8/6).
وحتى لو لم يكن هذا التعامل مع المشكلة بالتعامل الأمثل، فإن المرء يستطيع أن يستخلص من هذه الفقرة فكرة أولية على الأقل عن مقدار تعقيد هذه المشكلات ومدى اقترابها من المستحيل [إن استهلال هذه الكلمة بحرف كبير من صنع كونراد] بالنسبة إليه وهو يمعن النظر في بذر اللغة وتلقيها وإدراكها حسياً.
إن رسائل كونراد تصوره بأنه في عراك دائم مع اللغة. فرواياته تخلع على الدوام كساء مسرحياً على كيفية حدوث قصة مع إنسان غيره، وأما هو فإما أن تروى إليه أو، إن لم يكن بطل القصة، إنه يكابد مرارتها على شاكلة "جيم" في الوقت الذي ينطوي فيه أساسها المنطقي تحت عنوان التوهم. "إن التوهم قد تشبث بتلابيب جيم واختصه لنفسه- وذلك كان القسط الحقيقي من القصة، الأمر الذي كان لولا ذلك خطأ برمته". ولذلك كانت اللغة المكتوبة بالأساس عملاً من أعمال التدوين الاستذكاري السلبي. لقد طرح كونراد، ككاتب، كتابته مستورة منهجياً بظل الصوت المتحدث، الماضي والرؤية والوضوح الآمن. فيا لكم كشوف هذه الأنة في رسالة بتاريخ 4 كانون الثاني عام 1900 إلى (كانينغهام غراهام) إذ يقول فيها: "ولكن المصاعب تبدو لي وكأنها على وشك أن تطبق علي، وأتصور مسيرتها فيما بيني وبين نفسي كزحف لا سبيل لمقاومته لسرب من الصراصير. فيا لهول المصير حين يكون المرء ضحية مثل هذا النهش المشين".(3)
لقد كان كونراد يغالي في تقدير قيمة اللغة على ما يبدو، أو يغالي في تقدير سطوتها عليه على الأقل. وأنا لا أعني بهذا القول إصدار حكم ضده باعتبار أن العناية الفائقة التي أولاها للطريقة التي روى بها رواياته تنبثق من صميم تلك المغالاة. فرواية "قلب الظلمة" مثلاً عبارة عن بنيان مركب يشتمل على نصف دزينة من "اللغات" فيه، ولكل واحدة منها ميدان خبرتها الخصوصي وزمانها ومركز وعيها، ولذلك فالقول بأن كونراد كتب بالإنكليزية يعني بالفعل القول أن كونراد يجري تمييزات خيالية خارقة في قلب اللغة الإنكليزية، وتمييزات ما خطر على باب أي كاتب قبله أنها ضرورية، وتمييزات كانت بمثابة "إقراره المادي" بالمصادر اللفظية لقصة كانت دائماً خارج إطاره وبعيدة عنه. فهذه التمييزات كانت الحصن الذي تحصن فيه كونراد ليدفع عن نفسه انقضاض اللغة عليه: إذ من خلال إعادة ترتيب اللغة وإعادة تشتيتها، ومن ثم إعادة تركيبها في أصوات، تمكّن من تنظيم عمله وتنفيذه ككاتب. وإن تعدد العناصر الروائية الأساسية يصبح بالإمكان عندئذ تصوره وكأنه يطوق موضوعاً بطرائق عديدة شتى. وأما النتيجة الخالصة في خاتمة المطاف فتكون، كما يقول مالارميه في "أزمة الشعر" (Crise de vers)، الإقرار "بمبادهة الكلمات نظراً لصراخها بأعلى الصوت بعدم المساواة الحركية فيما بينها"(4). بيد أن ما يتبقى من الكلمات هو ذلك الأثر الحرون من هوية الكاتب باعتباره أثراً عسير الانقياد للغة. وإن ذلك الأثر المستثنى هو، بتلك السخرية العجيبة التي تروق لكاتب يتمناك أن ترى بأم العين، الشخص المنقوش الفعلي نفسه، أي الكاتب، ومع ذلك فكونراد يتظاهر أن الكاتب كان عنصراً ثانوياً. وهكذا فإننا نلاحظ، مرة أخرى، كيف أن الأصوات التي تؤدي إلى الرؤية تطمس ما كان كونراد قد دعاه "بالعامل بالنثر" الذي يجب على اختفائه، كما يقول مالارميه، أن يثمر الأعمال الكاملة النقية "l,oeuvre pur". ولكن هذا الشيء لا يحدث، على نقيض كل من مالارميه وفلوبير، في حالة كونراد.
***
إن والتربينيامين، تعليقاً منه على سرد الحكايات بلسان ليسكوف، يسوق الدليل على أن نجاح الفن الروائي كان يعتمد تقليدياً على إحساس بوجود الصلة بين متكلم ومستمع وعلى الرغبة في توصيل شيء مفيد. وذانك الشرطان متواكلان بعضهما على بعض. فالمعلومة لا تكون مفيدة إلا لأن من الممكن وضعها موضع الاستعمال من قبل الآخرين ومجموعة القيم نفسها، مع العلم أن أية مجموعة قيم لا يمكن تخليدها إلا من خلال اعتناقها من قبل أكثر من فرد واحد. وإن القول بأن هذا لم يعد صحيحاً في الأزمنة الحديثة لقول يمثل حسبما يرى بينيامين:
علاقة ملازمة من علاقات القوى الدنيوية المنتجة للتاريخ، ألا وهي تلك العلاقة التي عملت على إزاحة الرواية من ميدان الكلام الحي والتي تعمل حالياً في الوقت نفسه على تيسير رؤية جمال جديد في الشيء السائر على طريق الزوال..... إن راوي الحكاية يأخذ ما يرويه من الخبرة- من خبرته هو أو من الخبرة المنقولة إليه على ألسنة الآخرين، ليعمد من ثم إلى تحويلها إلى خبرة لدى أولئك الناس المستمعين لحكايته، وهكذا يكون الروائي قد عزل نفسه. فمنشأ الرواية هو الفرد المعزول الذي لن يكون بوسعه بعدئذ أن يعبر عن نفسه بضرب الأمثلة عن أهم هواجسه، باعتبار أنه هو نفسه ليس موضع المشورة، وليس بوسعه استشارة الآخرين. ولذلك فكتابة رواية ما تعني نقل الشيء اللامتكافئ إلى أقصى درجات التطرف في تصوير الحياة البشرية(5).
فالتاريخ الشخصي لكونراد جعل منه إنساناً حساساً جداً حيال المنزلة المختلفة التي تحتلها المعلومة في خضم الحياة من ناحية أولى، وفي الحياة الكتابية من ناحية ثانية، إذ في الحالة الأولى تلعب الجماعة العاملة وإحساسها المشترك بما هو مفيد دوراً جوهرياً فيما يتعلق بإنجاز المهمة الشاقة، في حين أن العزلة وشكوكها تطغى، في الحالة الثانية، على كل شيء. وهكذا فإن كونراد كان يتحلى بذلك الامتياز الملتبس المتمثل بمشاهدته، ضمن حياته الخاصة المزدوجة، بذاك التحول من قص الحكاية كشيء مفيد وفن جماعي إلى كتابة الرواية كفن منعزل ومن مدركات الحواس.
ترى ماذا يستتبع تحديداً ذلك التحول؟ فأولاً وقبل أي شيء آخر، ونظراً لأن منزلة المعلومة اكتست طابع المعضلة، صارت وسيلة توصيل المعلومة تحظى بشهرة أكثر من السابق. وثانياً صار على المتحدث أن ينوع كلماته ولهجته بما يكفي لتعويض عن شكوكه بفائدة الشيء الذي يقوله. فمراراً وتكراراً عبر كل من هنري جيمز وأوسكار وايلد، وهما من معاصري كونراد، عن هذا الصنف من التنويع بأنه خلق التشويق، إذ إن التشويق في مثل كهذا يعتمد اعتماداً محكماً على ارتياب (أو حتى على جهل) بالشيء المفيد عملياً. فالبراعة الفنية الفائقة التي تبدو على إدارة كونراد لحكايته، وهي الشيء الذي بلغ ذروته في رواية "المصادفة"، لأمر ينطوي دائماً على أهمية توازي أهمية أية معلومة تأتي بها الحكاية- لا بل وإنها في العادة أكثر تشويقاً وأهمية أيضاً. وإن بمقدور المرء أن يقول هذا الشيء دون أن يكون في نيته التقليل بشكل من الأشكال من شأن المعلومات البحرية الواردة في روايات كونراد ولا من شأن عشاقها بين قرائه. وثالثاً لم تعد الحكاية تفترض وجود مستمعين وحسب، لا بل وصارت تكسوهم كساء مسرحياً أيضاً إلى الحد الذي يجعل حتى الكاتب نفسه يظهر بمظهر المشارك أغلب الأحيان في الحكاية كمن يستمع أو كمن، وعلى نحو أدق في حالة كونراد، يتسربل سرباله المسرحي ويتلقى الانطباعات. ورابعاً: صارت الرواية موضع التلاوة، أي شيئاً في قلب سيرورة فعلية كي تكون موضع السرد أكثر مما هي معلومة مفيدة. إن استخلاص المعلومة من السرد الروائي، عند كونراد، علاوة على حقيقة كون لغته تأخذ في العادة شكل الكلام المنقول، ما هما إلا إشارتان إلى أن ما يقال يجب ألا يكون بالتحديد شيئاً هاماً أو واضحاً أهمية أو وضوح من يقوله ولماذا وكيف.
وإني لأعتقد أن هذا التحول الأخير يجب اعتباره مظهراً من مظاهر انعدام الإيمان انعداماً تاماً في القوى الإيحائية للغة كما أسلفت القول. فذات مرة كان من الممكن للكاتب أن يفقد مثل هذا الإيمان وأن يحافظ في الوقت نفسه على اعتقاده بسمو الشيء المنظور. ولذلك فإن الكتابة لا تستطيع تمثيل الشيء المنظور، ولكنها تستطيع أن تصبو إليه وأن تتحرك باتجاهه، بطريقة من طرق المخاطبة، دون أن تحرز عملياً الوضوح الصريح لشيء بيّن أمام ناظري المرء، ولقد درس فوكو هذا التناقض الواضع في كتابه المعنون بـ"الكلمات والأشياء" إذ عامله معاملة طور تاريخي محدد متجسّد بأشكال شتى في عمل دي ساد ومالارميه ونيتشه: وإن روايات كونراد لتطرح عنه أمثلة توضيحية غنية على وجه التخصيص. فضمن منظور شامل لذلك النوع الذي يرسمه فوكو يمكننا أن ندرك الحاجة الماسة التي جعلت كونراد يقرر توطيد أركان السرد، بناء على نظرية المعرفة، في النطق- ككلام منقول أو ملفوظ خلال تلك الفترات المصبوغة بصبغة مسرحية كمواقف سكون مفروض- لا في العمل أو الجماعة أو المعلومة.
فمنابع الألفاظ المسرودة عند كونراد هي ما سوف أدعوه بالرغبة في التحدث والحاجة لربط قول مخصص بأقوال أخرى. وإن ما يجعل من أية شخصية من شخوص كونراد كائناً بأم عينه يتأتى من شيء في حوزتها، أو في حوزته، ويستدعي الإخبار عنه. ولكن في أغلب الأحيان هنالك سر أثيم، مع العلم أن الشخصية في بعض الأوقات هي ذلك الإنسان الذي يتحدث عنه الآخرون حديث المهوّسين، كما أنها في أوقات أخرى ذلك الرجل السكيت الذي، من أمثال جيمز ويت أو تشارلز غولد أو ماك وير أو آكسيل هيست، تنقضي حياته كلها وهي تخاطب الآخرين بطريقة نموذجية. وهكذا فإن قصص كونراد تدور حول تلك الشخصيات المطروحة ضمن سياق القصة والمأخوذة بعين الاعتبار. ولكن الديمومة الداخلية لكل قصة تنبثق عن الإدراك الذاتي للمتحدث بأنه ذلك الإنسان الذي، كما قلت آنفاً، يدلي بقول يعارض أقوالاً متضاربة أو تكميلية لبعضها بعضاً، أو بقول يقف ضمن تلك الأقوال. وبمعنى من المعاني فإن كل قول مسرود عن كونراد يفنّد القول الآخر: فالكذبة التي كذبها مارلو على خطيبة كيرتز لمثال من أشهر الأمثلة على شيوع عادة ما على نطاق كبير. وأما ذلك الإبحار العظيم الذي يخرج به نوسترومو من سولاكو فما هو إلا موضوع تقارير الثناء العاطر على ذلك من قبل ميتشيل، بيد أن هذه التقارير تستوجب الحكم بأنها لا تعدو بضعة تقارير من تلك التي تتعامل مع "قدرة حمولة السفينة"* على أنها المنقذ لسولاكو. وفضلاً عن ذلك فملاحظات ديكود أيضاً تشخّص موقف الساخر من رومانسية غولد، وعلى تناقض مقصود معها. وإن كلاً من آفيلانوس وإميليا وجورجيو وفيولا وسوتيللو- يدرك أحداثاً ويدلي بتقارير عنها بطريقة تتوجه سراً" أو علانية نحو معقولات أخرى. وليس هنالك من مكان أكثر من رواية "المصادفة" حيث يتمكن فيه القارئ من رؤية كونراد وهو يخلق التوتر والتصارع، ومن ثم النسيج الروائي الديناميكي، من صميم قول متضارب مع أقوال أخرى، على الرغم من التحامه بها بشكل لا مناص منه.
إن رواية "لورد جيم" لإحدى أوائل روايات كونراد المطولة التي تجعل من المعرفة والمعقول والرؤية أموراً من مهمات النطق. فالرواية تنطلق "بفعل من أفعال الخيار العقلاني" الذي يوجه عيني مارلو صوب جيم أثناء الاستعلام. وبعد فترة "من التحادث اللانهائي مع نفسه" وفي وقت "يكف فيه الكلام عن أن يكون مفيداً له" يقابل جيم في النهاية رجلاً يعمل حضوره على حلحلة عقد ألسنة "الرجال ذوي الكلف البسيط، وذوي الكلف الشديد، وذوي الكلف الخبيء الوبائي". فمارلو لم يصخ السمع وحسب بل وكان "راغباً في تذكر جيم بقضه وقضيضه وبالتفاصيل وبشكل مسموع". وبالفعل كان لدى جيم "أسرار هامة" يود الاعتراف بها، ولكن نزوع مارلو للإخبار والتذكر أمر مهم أيضاً أهمية الاعتراف بالنسبة للكتاب". فمنذ أول كلمة [من حكايته] يصبح جسد مارلو ساكناً وهو مرتاح في المقعد وكأنه روحه شقت طريقها رجوعاً إلى ردح طويل من ماضي الزمان وطفقت تتحدث عبر شفتيه من الماضي" (33/21). وإن المسامحة التي يبديها مارلو حيال جيم مغروسة جذورها في نفس تلك النزعة نحو التصور الرومانسي الذي يجعل جيم يفضل، وإلى حد التعقيد، الرحلات البحرية الجسورة الوهمية على الرحلات الفعلية. فلا رجل من هذين الرجلين، سواء منهما السامع أو الراوي، يقيم في عالم الوقائع بشكل فعلي. وأولايهيم جيم على وجهه ومن ثم مارلو بغية "إدراك المنّاع على التصور"، الأمر الذي يشكل مسعى ملحاحاً جداً وسامياً في الوقت نفسه إلى الحد الذي يقتضي فيه ضمناً "قيام معركة خطيرة وجليلة حول جوهر الحياة الحقيقي". وفي خاتمة المطاف يبين كونراد أن جيم لا يتحدث إلى مارلوبل بل أمامه وحسب.
إن ما يبدو للوهلة الأولى وكأنه توافق في الآراء يتحول إلى زمرة من الخطوط المتوازية. وعلاوة على ذلك فإن مارلو يقول صراحة فيما بعد أن جيم ما وجد إلا من أجله، وكأنه يريد أن يقول أن اعتراف جيم أمام مارلو ينطوي على أهمية أكبر من الأهمية التي ينطوي عليها ذلك الشيء الذي اعترف به جيم (مع العلم أن كلاً من مارلو وجيم يبدوان على مقدار متساوٍ من التشوش بهذا الشكل أو ذاك). وأما جيم فإنه لا يوجد فعلاً لسامعه إلا جراء تلك المأثرة، لإجراء مغامراته البطولية بحد ذواتها ومن تلقاء أنفسها وحسب. ولقد علقت أنا آنفاً على ممارسة كونراد، الأمر الذي يتجلى فيما يقوله مارلو عن الظهور الملغز الذي ظهره جيم وعن توقانه للتحدث، أي عن تبديل المواضع بين المنظور والملفوظ: بما مفاده أن الطريقة التي تبين فيها الحكاية كيف أن "التوهم قد استأثر بجيم واختصه لنفسه" لقول ينبثق للتو عن هذه الممارسة. فالتوقان الذي تتوقه نفس جيم للإقدام على مغامرة محفوفة بالأخطار المميتة، مثله مثل السرد الذي يسرده مارلو ومثل الإصغاء الذي نصغيه للحكاية، لا يتفق وأي مخطط هيّن يكفل الإتيان بالإخبار ويضمن التقدم المباشر المطرد من المطمح، مثلاً، إلى الإنجاز، وإنما يتطابق مع نزوة نظرية ذات قسط أوفى من التجريد. فالنزوة لا تستطيع أن تجد لها أية صياغة في مجريات الأحداث، ولا أية انطباعة ذهنية، إلا في ذلك العنوان الغامض -التوهم- لنقل البحث الدؤوب القلق الذي يبحثه جيم. إن مقتضيات النزوة، باعتبارها محشورة في ديمومة الكلام المنقول أو المنطوق، ما هي نسبياً أيضاً إلا أشياء أثيرية كالنموذج والإيقاع والعبارة والسياق.
ولكن من حقنا أن نطرح السؤال التالي: ما هو الضغط الذي يتعرض له جيم والذي يجعله يفضل الموت على الحياة، والذي يحث مارلو وكونراد على معاش "خبرات غير حاسمة" من تلك التي توحي للقارئ بشيء أقل مما أي قارئ على استعداد أن يتوقع؟ وفي كل الحالات يكون العامل الطاغي لا النشاط السردي بل رغبة قدرية لمشاهدة النفس مشاهدة سلبية على أنها شيء موضع التحدث ومحط التأمل ومثار الإرباك ومكمن العجب العجاب، في المنطوق. ويعني هذا أن جيم ومارلو وكونراد، بعد التسليم بداهة في كل مكان أن المرء ليس بمقدوره أن يحقق خبرته الحياتية تحقيقاً ناجزاً وليس بمقدوره أن يدرك الخبرة الحياتية لأي إنسان آخر إدراكاً تاماً، متروكون برغبة لتكييف خبرتهم الفردية، كل بطريقته الخاصة، بشكل فعلي وتقريبي، وبما أن هذه الخبرة، بشكل لا مفر منه، إما في غابر الأزمان أو مستحيلة تقريباً بالتحديد، فما من انطباعة ذهنية يمكنها اقتناص هذا الشيء وما من جملة يمكنها ذلك أيضاً في خاتمة المطاف.
ومع ذلك فإن المنطوق يصير قولة، وإن لم تكن لإنسان آخر وحسب ففي حضرته على الأقل. فالكلمات تنقل حضور كل من المتكلم والسامع ولكنها لا تنقل فهماً متبادلاً بينهما.
إن كل جملة تدق إسفيناً أكثر حدة من سابقه بين النية (الرغبة في التحدث) وبين توصيل المرام المطلوب. وأخيراً تكون الرغبة في التحدث، وهي نية كلامية بالتحديد، مضطرة لمجابهة نقص الكلمات، لا بل وغيابها فعلاً، للتعبير عن تلك النية. وهكذا ليس من الشطط أن نقول بأن كونراد يخلع، بطريقة معقدة، الكساء المسرحي على التفاوت بين النية الكلامية المفهومة والممكنة قواعدياً ومنهجياً من ناحية أولى، وبين الوصف الكلامي نفسه كطريقة للوجود في عالم اللغة مع مخلوقات بشرية أخرى، من ناحية ثانية. ففي قصة "آمي فوستر"، وهي أكثر قصصه إثارة للمشاعر، يتجلى هذا التفاوت بتفاصيل بشرية خاصة. هاكم يانكو غورال الذي يعيش، بعد أن قذفت به الأمواج على الشاطئ في إنكلترا، بين ظهرانيي ذلك الشعب الذي لا يستطيع التأكد من شخصيته والذي تبقى لغته غريبة على يانكو:
هؤلاء هم الناس الذين كان يدين لهم بالولاء، وثمة وحدة رهيبة بدت تقع عليه من السماء الرصاصية لذلك الشتاء الخالي من أشعة الشمس. كل الوجوه كانت حزينة. ما كان بمقدوره أن يكلم أحداً، وما كان يحدوه الأمل بفهم أي منهم البتة. لقد كان الواقع وكأن هذه الوجوه وجوه أناس من العالم الآخر- وجوه أناس موتى كما اعتاد أن يقول لي بعد مضي بضع سنين. وأقسم بشرفي أنني أتعجب بأنه لم يجن. ما كان ليعرف في أي مكان كان. لقد كان في مكان قصي جداً عن جباله- في مكان يطفو على الماء. هل هذه أمريكا؟ كان يتساءل فيما بينه وبين نفسه.... حتى الحشائش كانت مختلفة، وكذلك الأشجار. كل الأشجار إلا ثلاث صنوبرات نورويجية كانت تنتصب على مرجة صغيرة أمام بيت سوافر، وهذه الصنوبرات ذكرته ببلده. لقد ضبطوه ذات مرة، بعد الغسق، وهو يسند جبينه على جذع إحدى تلك الأشجار، ويشرق بالدمع ويحادث نفسه. تلك الأشجار كانت وقتها بمثابة الأخوة له، كما أكد. كل شيء آخر كان غريباً عنه..... يا للمرات العديدة التي سمعت بها صوته العالي من خلف نجد أحد مراعي الأغنام، وقد كان صوتاً بهيجاً متألقاً كصوت القبرة، غير أنه كان صوتاً بشرياً تخالطه نغمة حزينة، فوق تلك الحقول التي كانت لا تسمع إلا تغريد الطيور. أما أنا فقد كنت أصاب بالذهول. يا للعجب! لقد كانت إنساناً مختلفاً، برئ القلب مفعماً بالنوايا الطيبة- الشيء الذي ما كان يريده أي إنسان. فهذا المخلوق المطروح على الشاطئ كان كإنسان مزروع في كوكب آخر، وكان مفصولاً عن ماضيه بمسافة شاسعة وعن المستقبل بجهل مطلق. إن منطوقه الانفعالي السريع عاد بصدمة إيجابية على أولئك الناس كلهم (128- 129- 132/20).
إن الفهم المفصّل المضني لهذا المأزق من لدن كونراد هو ما يجعل من خيار المشافهة هذه وهي طريقته في سرد الروايات، شيئاً أكثر إلحاحاً بكثير من أي خيار جمالي مريح. وإن من الواضح أنه كان يعتقد أن تصور مشهد تصوراً تاماً بين متحدث وسامع مراقب، هو الذي يستطيع، وحده دون سواه، أن يجلو- على نحو دائم ومباشر، وكرّار لأنه يحدث في قصة إثر أخرى- ذلك الانفصال الأساسي المطلق الذي دافع عنه كونراد ككاتب: ألا وهو ذلك الصدع القائم بين طاقة في ذروة النضج للتعبير الكامل، مع أنها بالنسبة للناس الآخرين طاقة كامنة أو مقصودة وحسب، وبين تواصل بشري لا مفر منه. "ليس هنالك أية كلمات للتعبير عن نوعية الأشياء التي كنت أريد قولها" (لوردجيم). ومن هنا يتأتى ولع كونراد بتكرار عبارات مثل "كان واحداً منا" وتكرار ما يذكّر القارئ بمقدار فردانية كل فرد وخبراته أيضاً. والجدير بالذكر أن النص الذي كان يشتغل فيه كونراد كفّ بمنتهى البساطة عن كونه وثيقة مكتوبة وتحول، بدلاً من ذلك، إلى موزع للألفاظ على كلا جانبي الصدع، مع العلم أن هذه الألفاظ لا تجتمع بعضها ببعض إلا من خلال اهتمام القارئ بكلا الجانبين. فمثل هذا الاهتمام الذي يخيم على كلا الفريقين يلعب دور القنطرة التي توثق الارتباط بين النية الكلامية لدى جيم وبين مكابدة مارلو ونفاذ صبره كشاهد، كما هو عليه الحال في ديمومة ذلك الاهتمام في رواية "لورد جيم" وصموده أمام طولها. وما من ميدان إلا ميدان النية وأحلام اليقظة يمكن أن يكون فيه استكمال المخططات من ذلك النوع الذي يلفقه جيم لنفسه، مع الإشارة إلى أنه الميدان الذي يفتن أبطال كونراد فتنة قاتلة، فضلاً عن أن مثل هذا المكان لا يمكن إدراكه إلا إبان السرد المتواصل والمتفاقم الذي يسرده جيم عن مصيره وفشله. فحين يرى مارلو جيم للمرة الأخيرة، هاكم هذا المقطع:
حين كان جيم عند طرف الماء رفع صوته قائلاً: "قل لهم....
.... فأشرت إلى الرجال بأن يكفوا عن التجديف، وانتظرت مذهولاً. فلمن يجب أن أقول؟ كانت الشمس نصف الغاربة قبالته. كان بمقدوري أن أرى وهجها الأحمر في عينيه اللتين كانتا تنظران إلي نظرة خرساء......" لا... لا تفعل شيئاً. قال ذلك، وبإشارة خفيفة بيده جعل القارب يبحر بعيداً. وأما أنا فما نظرت إلى الشاطئ من جديد إلا بعد أن تسلقت إلى متن المراكب..... كان مت***باً بالبياض من قمة رأسه حتى أخمص القدمين، بقي ظاهراً للعيان بكل إصرار وحصن سواد الليل على قفاه، والبحر عند قدميه، والفرصة متاحة له على جانبه- ترى أمازال محجوباً؟ لا أعلم. فبالنسبة لي بدت تلك القامة البيضاء في سكون الساحل والبحر وكأنها تقف في صميم لغز هائل. كان الشفق ينحسر سريعاً من السماء فوق رأسه، وكانت تلك البقعة الرملية الصغيرة قد غارت تحت قدميه منذ حين، كما أنه هو نفسه ما كان ليبدو أكبر من طفل- وبعدئذ لم يعد يبدو أكثر من مجرد بقعة، بقعة صغيرة بيضاء بدا وكأنها تستقطب كل بقية الضياء في عالم حالك السواد..... وعلى حين غرة ضيعته (336/21).
إن ثمة أشياء كثيرة هنا جليب بعضها من بعض. فالصمت النهائي الذي يصمته جيم دليل على أن "فرصة صامتة" طفقت تهيمن على حياته من جديد. ولهنيهة من الزمن صار يبدو بأنه أضحى مركز الصلة البصرية، لا بل والعقلية أيضاً، أي ذلك المركز الذي لا تفيه حقه الكلمات في الوقت الذي لا يفتر لها فيه نشاط بتاتاً.
وبعدئذ يتوارى جيم عن الأنظار ولا يبقى مما يثير الذكريات عن حياته إلا البقية الباقية من الآثار -كرسالة وحكاية ناقصة ونتفة من تقرير شفوي- من تلك التي سوف يتمكن لاحقاً مارلو من اختزانها بعض مضي وقت طويل. ولكن الجدير بالذكر أن جيم يستطيع أن يحافظ على سلامة عزلة وجوده على الأقل، الأمر الذي لا يستطيعه مثلاً آكسيل هيست حتى بعد مرور ردح طويل من الزمن. فهيست يمثل آخر شخصية من شخصيات كونراد الهامة التي تحاول معاش حياة تجسّد كل الفضيلة النقية تقريباً ويمثل، بالتحديد تقريباً؛ آخر أولئك الرجال الذين يكون همودهم بمثابة دعوة لهجمات التوهم. ومع ذلك فإن انعزال هيست على جزيرته الخاصة، في رواية "الانتصار" (1915)، يكون لا مجدياً. فما من إنسان بوسعه أن يبقى محجوباً عن الرؤية ما دام يحافظ حتى على أوهى اتصال بالواقع. وإن مضمون التقولات الخبيثة لشومبيرغ وفساد ريكاردو وتأملات آربيلاغو، أمور كلها تدل على أن هيست لا يستطيع استخدام فلسفة أبيه في الانعزال لتحقيق هدف كبير. وعلاوة على ذلك فإن انجذاب هيست إلى لينا انجذاب لا طاقة له به، مثله مثل تعاطفه السابق مع موريسون في ورطته تعاطفاً يسحق له تحفظه.
وهناك بالطبع موضوع جنسي هام في رواية " الانتصار " ولكن العرض المعتمد الذي يعرض فيه كونراد قارب موريسون إزاء لينا كشيئين متعاقبين من أشياء التدخل الرومانسي الذي يتدخله هيست في هذه الحياة الدنيا يعود، على ما أظن، إلى مشروع كلامي آخر أكثر صرامة من سابقه، ألا وهو المشروع الموجود في العديد من الأماكن الأخرى في فنه الروائي.
فلقد قلت أن الأسلوب الأساسي الذي يعتمده كونراد، مع أنه كاتب، مطروح كأسلوب شفوي، وأن طموحه مقصود به التحرك باتجاه المنظور. فهذه هي المواقف التي توظف التلفيقات والحكايات والمشافهات لتصويرها، والتي تقدم لنا في النهاية ذلك الصدع القائم بين النية والواقع، أو بتعابير حسية بين الرغبة في التحدث والاستماع من ناحية أولى، وبين الرؤية والإدراك من ناحية ثانية. ولقد لاحظنا في رواية "لورد جيم" تلك الطريقة التي تعمل بها كل هذه الأشياء في النص، ولاحظنا أيضاً الانجذاب الشديد بين بعضها بعضاً، على الرغم من الهوة فيما بينها، أي بين النية (لا الصمت) وبين واقع شديد الوطأة.
ولكن قلما تستدعي الحاجة القول بأن كونراد روائي، لا هو بالفيلسوف ولا بعالم النفس.
وإن بوسع المرء أن يفترض أن حيزاً هاماً من خلال كونراد كان، خلال كتابة رواياته، مليئاً بتلك المواد التي ينتظم حولها قسط كبير من العمل الروائي: كذهب لينغارد وعاج كيرتز وسفن البحارة وفضة غولد، والنسوة اللواتي يجتذبن الرجال إلى المخاطرات والمغامرات، الرومانسية . وهكذا فإن قسطاً وافياً من التوتر في روايات كونراد ينشأ حين يحاول الكاتب أو الراوي أو البطل، أن يجعلنا نرى الشيء الذي يستدرج الكتابة والفكرة والكلام مراراً وتكراراً. ولقد قلت آنفاً بأن هذه الأنشطة، التي يكمن أساسها في الإخبار أو النقل، تبدأ بالاقتراب من الحالة المادية. ولكن لماذا؟ ولماذا بعد كل شيء يوطد كونراد جذور كل هذه الأنشطة، بعد إعطائها الشكل الكلامي، في المشافهة أو الكلام المنقول لأناس ميسور تحديد هوياتهم، لا في الصفاء اللغوي المجرد الذي اعتمده مالارميه أو جويس؟
إن الأهمية الأساسية لهذا السؤال هي أنه، كما أتصور، يميز، ولو بأدنى الحدود والتخطيط، بين السيكولوجية الشخصية لكونراد (التي هي الموضوع الأوحد لدراسات التحليل النفسي مثلها مثل سيرة برنارد مير) وبين سيكولوجية كتابة كونراد. وكمصدر من مصادر الشواهد على التاريخ السيكولوجي لهذا الرجل يمكن في بلوغ الحكاية "مرحلة الإنجاز" من خلال سيرورة أدبية بتلك الطريقة التي لا تتسنى للسلوك اليومي المحكوم، هو نفسه، بشرط الثقافة والمجتمع والتاريخ. وعلاوة على ذلك، وكما حاولت أن أبين في كل مكان آخر،(6).
فإن الديناميكية الاجتماعية السوسيولوجية التي تحدد مسيرة أدبية ونصها إلى الحد الذي يتعذر فيه قراءة أي منهما بغية الوقوف على شاهد عاجل عن السيكولوجية الفعلية لكاتب من الكتاب، لديناميكية خاصة تثير الإعجاب. ولكن هل هذه الكينونة الخاصة المدعوة بالسيرة الأدبية أو النص تعني نوعاً من أنواع نقض الشاهد الذي قد يأتي به علم النفس المرضي للكاتب؟ وهل هنالك أية طريقة مفيدة وغير عادية للعمل على فصل، أو توحيد، "الإنسان الذي يعاني والعقل الذي يبدع؟" وابتغاء المزيد من الدقة، هل من الممكن أن يقوم تشابه دقيق بين الكتابة الشخصية والفنية لكاتب ما من ناحية أولى، وبين الخطاب المنطوق والأحلام لنفس ذلك الإنسان؟
إن الكتابة والأحلام خاضعة لأنواع شتى من الضوابط من أمثال تلك التي تتحكم بالخطاب المنطوق. ومع ذلك من العسير على المرء أن يتخيل الإتيان بالعمل المكتوب في ظل ظروف تماثل تلك الظروف التي أشار إليها فرويد بأنها من عمل الأحلام. فاليقظة، كريشة أو آلة كاتبة أو ورقة أو كتابتك الماضية أو خطة للشيء المكتوب أو مجموعة من الإيحاءات المادية أو ما تعلمته وعياً عن الكتابة: أشياء كلها لها أدوارها الهامة في التفريق بين الكتابة والاحتلام، على الأقل إن كان لهذين النشاطين أية مكانة كشاهد من شواهد التحليل النفسي. ولكن تلك الفروق تكتسي مزيداً من الأهمية حين تصبح أهمية الكتابة محط النقض في نفس عمل الكاتب، ولا سيما إن كان كاتباً ككونراد الذي كانت الكتابة بالنسبة إليه محض معاناة.
ولئن قلنا، كما أتصور أن علينا أن نقول، أن كونراد لم يكن على العموم مرتاحاً لفكرة الكتابة إلى ذلك الحد الذي كان يدفعه لتحويلها دائماً، حين كان لا يبدي تذمره منها، إلى كلام بديل، الأمر يجعلنا نشتط إلى حد القول أن كتابة كونراد تحاول صراحة أن تنكر على نفسها أنها كتابة. ومع ذلك فإن فرويد قال عن النقض بأنه طريقة للتوكيد على الشيء المكبوت. ولكن ماذا يعني بالنسبة للكاتب أن يؤكد على تلك الكتابة المكبوتة؟ وهنا نجد فرويد معيناً مرة ثانية: "بمعونة رمز النقض يحرر التفكير نفسه من قيد الكبت ويغني نفسه بتلك المادة التي لا غنى عنها لعمله المناسب". فبالنسبة لكونراد كانت الكتابة ونقضها يشكلان طريقة من طرائق تخويل نفسه عدداً من الأشياء التي لولا ذلك لكانت مستحيلة. ومن بين تلك الأشياء استخدام الإنكليزية، واستخدام الخبرات من قلب ماضيه بغية إعادة تركيبها، ومسخها في معظم الأحيان، على شكل روايات وقصص "ملفقة"، واستخدام الأحداث التي لا يمكن لأي تفسير أن يكون كافياً لها، أو يجب ألا يكون كذلك.
وهيا بنا الآن نخطو خطوة إضافية مع المسألة التي يناقشها فرويد. فالنقض نتيجة لمحاكمة عقلية قائمة على أساسين اثنين. أولهما الاجتهاد المتسائل عما إن كان للشيء سمة مميزة خاصة أم لا، وثانيهما الاجتهاد المتسائل عما إن كان هنالك وجود على أرض الواقع لأي انطباعة ذهنية أو تصوير أم لا. وهنالك معياران ممكنان للباطنية “معكوسان بلغة أقدم الدوافع الغريزية -أي الشفوي-......: أود أن آكل هذا أو أود أن أبصق هذا من فمي"، ومعياران ممكنان للظاهرية (إنني أرفض هذا، أو إن لتلك الانطباعة الذهنية وجود على أرض الواقع أيضاً خارج نفسي) بغية الإتيان بالاجتهاد، وكلا الفريقين يستلزمان مشاركة الذات. ولقد توصل فرويد إلى هذه الاكتشافات لأنه كما يقول: "كثيراً ما نخلص من خلال العمل التحليلي إلى شكل مختلف من أشكال هذا الوضع، وشكل إضافي وهام جداً وغريب إلى حد ما. فنحن ننجح في التغلب على النقض أيضاً، وفي إحداث تقبل عقلي كامل للشيء المكبوت، بيد أن سيرورة الكبت نفسها لا تبلغ مرحلة الزوال بهذا الإجراء". ولذلك فإن الذات، إبان صياغة رأي مناقض للواقع عن انطباعة ذهنية ما، قد تبقى على توكيد وجود الانطباعة الذهنية بواسطة الكبت، إذ مادامت الانطباعة الذهنية قيد الاستخدام أو التطبيق (حتى لو كانت بقصد النقض أو النبذ ليس إلا) فإنها إعادة اكتشاف للشيء المفقود قبل حين من الزمن. وهكذا فلن يكون هنالك رأي سديد(7) إلا بعد أن يكون "رمز النقض قد منح التفكير مقداراً أولياً من التحرر من نتائج الكبت ومن إكراه مبدأ اللذة، بشكل متلازم تماماً". وإن ما يتعلق بكونراد مباشرة من مناقشة فرويد لقسط ضئيل فقط، الأمر الذي يعني أنه ليس من المتوقع أن ينطبق كل ما يقوله فرويد على ممارسة كونراد ككاتب لقد كانت الكتابة بالنسبة لكونراد بمثابة نشاط يشكل النقض- أي نقض نفسها . ونقض ما تعالج في الوقت نفسه- كما كانت شفوية وكرارة. أي أن كتابة كونراد كنشاط كانت تنقض نفسها وتعيد تشكيلها من جديد، وتنقض نفسها مرة ثانية، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له، الأمر الذي يجعل من خاصية الكتابة نموذجاً يحتذى بشكل استثنائي جداً. إن المشافهة هي الشكل الشفوي للنقض، وباعتبارها كذلك كانت مهمتها تأجيل إصدار الحكم إلى ما لا نهاية على نفسها وعلى موضوعها: وفضلاً عن ذلك فهي كرارة واستبطانية، وذلك لأننا رأينا كونراد وهو يتخيل السرد منطوقاً من حكاية إلى أخرى في حين أن واقعية ما يدعوه مارلو "بحس الحياة"، أي المحتوى الوجودي للخبرة الفعلية، بقيت خصوصية وغير مكشوفة وغير قابلة للتوصيل إلا من خلال تلك المؤهلات الفطرية التي تعمل عمل النقائض ("نحن على قيد الحياة- طالما نحن نحلم وحسب". ولكن الشخصيات الذكورية عند كونراد تتأثر أيما تأثر، في بعض مراحل حياتها، بالأشياء المادية الفعلية الظاهرة: كالنساء والكنوز والسفن والأرض. فهذه الأشياء موجودة للتو هناك، وفي معظم الوقت، بشكل سلبي وظاهري ولا تحظى بالقوة إلا تدريجياً. وهكذا فإن تشارلز غولد يرث منجم أبيه كرهاً لا طوعاً، ولا يستهل بناء الهيمنة البالغة شبه الاسطورية لمنجم سان توميي إلا بعد تلك الورثة، وفيي تلك الآونة التي تبدأ فيها عملية البناء الأسطوري بالانجلاء، في رواية كونراد، يتكشف صدع هام بين الشخصية التي يدور حولها التقرير وبين التقرير نفسه. وعندئذ تتحول المشافهة من كونها شكل من أشكال النقض الباطني، إلى أداة لحكم كونراد. فبمرور الزمن ومن خلال البناء الفضفاض لروايته بالشكل المألوف، تمارس الكتابة تحويل الكاتب من متحدث واه (من شخصية متحدثة أو "ريشة راوية" لها أهداف مباشرة وبصرية، وحتى أهداف مادية، مقبولة سلباً جراء الإرث أو العرف) إلى ذلك الكاتب المفكر الذي يبحث ويصور قصصاً خارجية عليه، والكاتب الذي يتبنى الشكل الجمالي للمشافهة بمنتهى البساطة من رواية إلى أخرى ويقحمه في صميم فيض من التطورات الشيقة والمتباينة. إن سيرة كونراد الذاتية موزعة في كل قصة على أدوار عديدة: فأولاً على أنه الإنسان الذي جرت معه الأحداث كمتحدث، كسامع وأخيراً ككاتب يطرح رواية في لحظة ما، وينقضها بالتظاهر أنها مجرد كلام، ومن ثم ينقض ذلك الكلام (في رسائل خلال كروب التأليف) بشجب مصاعبه، وبعدئذ ينقض حتى ذلك (في أواخر حياته المسلكية) جراء ظهوره بمظهر "الروائي العجوز الأمثل بالنسبة لأي إنسان". وإن مناقشتي باختصار هي أن كتابة كونراد كانت طريقة لتوكيد حذاقة صنعته الكتابية من خلال نثره لها وانكسارها في تشكيلة من الاحتمالات الروائية وشبه الروائية المتضاربة والمتناقضة في معظم الأحيان، وأنه أقدم على فعل هذا تفضيلاً منه على تصوير هيجانه العصبي بشكل مباشر. ولربما كان هذا التوجه هو الطريقة التي اعتمدها كونراد للهروب من الآثار الموهنة الناجمة من الكبت وعن إكراه مبدأ اللذة.
لقد حاول كونراد استخدام النثر استخداماً سلبياً كي يسمو على الكتابة وكي يجسّد المشافهة والرؤية على نحو مباشر معاً. فكل خبرة تبدأ بالنسبة إليه بوجود متحدث وسامع والعكس بالعكس، وبالنتيجة فإن كل متحدث يحكي عن عمل يستهدف الوضوح، أو النية المحققة.
ومع ذلك فإن الشيء الذي ييسر تحقيق النية هو، في كل حالة تقريباً، شيء هامد كالفضة التي أنيط بها سلطان على الحياة. وأما الشعور المغلوط حيال مثل هذه المادة فهو أنها قادرة على تجسيد التملك الحسي السروري والمنظور للواقع كله بدون أدنى وساطة. بيد أن هذه المادة تثبت في النهاية على أنها، في كل الحالات، تجسد أيضاً الطاقة اللامحدودة تقريباً للذات على الامتداد والتحول. وإن إدراك هذا الأمر هو ما يجعل بالتأكيد من رواية "نوسترومو" ذلك الصرح المهيب الفياض بالتشاؤم إلى حد يثير الإعجاب، والصرح الذي هو عليه فعلاً: فالرواية تعتمد بمعنى ما على تخصيب الفضة بتصور خيالي عن مدى سلطانها. فالوحدة الكاملة لهذا التصور تضم الحياة والموت معاً، وهكذا فإن الثنائي غولد، على الرغم من تقنعهما الزائف بقناع الإنسانية، لا يختلفان بشيء عن البروفيسور في رواية "العميل السري" أو عن كيرتز في رواية "صميم الظلمة". "لقد خلعت أميليا غولد على تلك الكتلة المعدنية، من خلال تقديرها الخيالي لسلطان تلك الكتلة، تصوراً تبريرياً، وكأنها لم تكن محض حقيقة، بل شيئاً بعيد الأثر وغير محسوس، شأنها بذلك شأن التعبير الحقيقي عن عاطفة ما أو عن بروز مبدأ ما.... ..... وذلك لأن منجم سان تومي كان سيتحول إلى مؤسسة، إلى مركز تجمع لكل شيء في تلك المقاطعات التي كانت بأمس الحاجة للنظام والاستقرار كي تبقى على قيد الحياة، فالأمن بدا وكأنه يفيض على هذه الأرض من سفوح ذلك الجبل" (107-110/9).
فها هي المادة تتحول إلى قيمة مثلها مثل العاطفة التي يمكن، في عالم مثالي، تحويلها إلى " تعبير حقيقي" وبالنسبة لأبطال كونراد تصبح المادة نظام تبادل كامن تحت اللغة، ان النفس، التي هي منبع النطق، تحاول التوفيق بين النية والواقع، ولكن الكلمات تصبح فعلاً موضع الإهمال كتجسد مباشر في المادة على النحو الذي ينشدها فيه الخيال، في نفس ذلك الوقت الذي تدلى فيه الذات بتقاريرها عن مغامراتها وإحباطاتها. فإذا كانت اللغة تفشل فشلاً ذريعاً في تمثيل النية وإذا كانت المهمة التمثيلية التقليدية للغة، على نحو مشابه، غير وافية بتاتاً في أن تجعلنا نرى، فإن البطل في روايات كونراد يتقصد، على غرار كونراد نفسه، باستعماله المادة بدلاً من الكلمات أن يبرر تخيله ويلفظه بوضوح. ومن الجدير بالذكر أن أي قارئ من قراء كونراد يعرف كيف أن هذا المقصد محكوم عليه بالفشل أيضاً. وهكذا ففي خاتمة المطاف يصبح البطل، ككيرتز وهو على فراش الموت بذخيرته من العاج، وهماً متكلماً، فلكل نجاح منطقي قصير الأمد مثل غولد أو فيرلوك هنالك إنسان كنوسترومو أو كستيفي الذي يتحدث عنه جسده البالي. ولكل إنسان ككيرتز وجيم هنالك إنسان كمارلو الذي تتمكن ذاكرته من إعادة اقتناص جسده بكل مهابته وفتوته. وإن القول بأن هذا لا يحدث إلا "بمرور الزمن" وأن كلمات المتحدث مسرودة بشكل كتابي لقول لا يقلل من شأن مأثرته بشيء، إلا أن الكلمات لكونها كلمات تتنكر بالمطلق للإنسان وتقلل من شأنه دون أن تنقذه عملياً.
وهكذا فإن كونراد هو ذلك الكاتب الذي يجسّد عمله هذه المهزأة اللاذعة مراراً وتكراراً %


nnn



يتبع

* جنس من البهائم له شكل الإنسان وجميع رذائله في "أسفار غوليفر"- المترجم.

* المتوحشون والبهائم في " أسفار غوليفر"- المترجم.

* اللامنتمي- (المترجم).

*capatazde cargadoes - المترجم.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59