عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 08-28-2012, 12:08 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي


8 ـ تأملات في النقد الأدبي
"اليساري" الأمريكي.




إن تاريخ الثقافة الأدبية الأمريكية لم يشهد بتاتاً من قبل بحث مسائل في النقد الأدبي مثل البحث الجاري في هذه الآونة على أوسع نطاق، مع العلم بأنه تقني في بعض الأحيان ومثار جدل عنيف في معظم الأحيان. فما من ناقد للأدب أو معلم له إلا وكان عرضة للتأثر بهذا البحث. ولكن ليس هنالك أي اتفاق أوتوماتيكي حول ماهية المسائل الأساسية أوحتى الهامة في كل هذا المعمان النقدي. وعلى الرغم من احتمال صحة القول، مثلاً، أن العديدات من المدارس النقدية(كالسيميائية والتأويلية والماركسية والتفكيكية من بين أخريات) لا يزال لها روادها، فإن المناخ النقدي مناخ خليط كل النقاد لهم فيه صلة طفيفة أوكبيرة بمعظم المناهج والمدارس والمعارف السائدة. ومع ذلك فمن المؤكد تقريباً أنه مامن ناقد بينهم يقلل من الأهمية السوسيولوجية والفكرية لذلك الانهدام الكبير القائم بين أشياع مايمكن دعوته (بالنقد الجديد) الحديث وبين أشياع النقد القديم أوا لتقليدي. ومن الجدير بالذكر أن هذا الانهدام الذي يعود غالباً بالمضرة لا يستقطب النقاد كلهم. بيد أن من الملفت للنظر، في المساجلات الدائرة بين الفريقين، وجود رغبةواضحة لاعتماد المواقف التي تقزم وتضخم لا الفريق المناوئ وحده وحسب، بل والفريق المشايع أيضاً إن جاز مثل هذا التعبير، فثمة ناقد تفكيكي وهو يلف ويدور للتحدث حديثاً عاماً (sub specie aeternitatis) دفاعاً عن النقد الطليعي يجعلنا نشعر بما ينم عن تحدي الفكر الغربي نفسه وهو يحلل، أو تحلل، بعض السطور من كتابة روسو أو فرويد أو باتر، في حين أن بعض النقاد الآخرين الذين يصدقون أنفسهم بأنهم يتحدثون باسم سلامة العقل والحشمة والعائلة في بحثهم ماهية كل ماتعنيه الفلسفة الإنسانية يلطخون، على نقيض الفريق السالف الذكر، سمعة حتى عملهم هم على غير دراية منهم حين يظهرون بمظهر من يبّسطون مجمل القواعد الهائلة التي يستند إليها البحث الأكاديمي، أي نفس القواعد التي تجلو ماهم فاعلونه كباحثين.
وبمعزل عن التفكير ملياً بكل مظاهر هذا التعارض الكبير لن يكون بمقدورنا أن نأمل بشكل مناسب معرفة تفاصيل مايدور الآن فعلياً في النقد الأدبي والنظرية الأدبية، علماً أن بوسعنا أن نتحدث وعلى وجه الدقة عن بعض النماذج الشائعة في كل من النقد وفيما أنتج هذا النقد أيضاً من تاريخ، ومجتمع وثقافة. إن إحدى النقاط التي أود الإشارة إليها هي ما إن كانت تلك المماحكات العنيفة الدائرة، مثلاً، بين م.ه.آبرامز وبين ج.هيليس ميللر، أو بين جيرالد غراف وبين ما تدعى بمدرسة ييل، أو بين "التخم2" و"الأخدود"، و"العلامات الفارقة"، وغير ذلك من المجلات الصغيرة، تطرح حدوداً نظرية واضحة بين المواقع القديمة أو اليمينية وبين المواقع الجديدة أو اليسارية، وذلك لأن التفاوت بين فصاحة النظرية وبين وقائع الممارسة لهو نفسه تقريباً تماماً على كلا جانبي الجدل. وما هذا الشيء إلا صحيح دائماً بالطبع في كل المماحكات العنيفة: فنحن نسوق الدليل نظرياً دفاعاً عن الشيء الذي لا تفعله البتة عملياً، ونفعل الشيء نفسه، بخصوص ما نعارض أيضاً. ومع ذلك فإننا واجدون نوعاً من النقد الجديد الذي يتبنى موقفاً معارضاً مما يراه بحثاً أكاديمياً راسخاً أو محافظاً، والذي يتقصد عامداً متعمداً أن يؤدي وظيفة الجناح اليساري في السياسة ويدلي بالبينات وكأنه يبتغي تثوير الفكر والممارسة، لا بل وحتى المجتمع ربما، لا من خلال الكثير مما يفعله وينتجه، بل من خلال ما يقوله عن نفسه وعن خصومه. ولكن في الواقع هنالك الكثير من تلك الإنجازات الفعلية التي يحق لهذا النقد أن يتباهى بها. ففيما يتعلق بالتنظير والتأويل النقديين هنالك أعمال أصيلة. بمنتهى البهاء، بل وثورية حتى، مت***بة كلها بدرع بلاغي كامل من الدفاع والهجوم والتحبيك المبرمج على نطاق واسع: ولسرعان ما يخطر هنا على البال عمل هارولد بلوم، والمساجلات المتواترة عنه. ولكن عمل بلوم وما أفضى إليه من غضب وتقريظ على شكل نقد يبقيان بالأساس وطيدي الأركان في صميم تراث النقد الأكاديمي. فالنصوص والكتّاب والعصور ظلوا ضمن إطار قانون ميسور تمييزه ومتفق عموماً عليه. حتى لو تباينت الكلمات والعبارات المتداولة لوصفهم ذلك التباين الكبير استناداً إلى موقفك من بلوم معه كنت أم عليه.

واعتراضاً على فرضية كهذه هنالك أولاً: رد فعلي أنا حيث أنني سائر بدوري في ركاب التجزيئيين، وثانياً: الواقع القاضي باقتصار النقد، بحكم الظروف، على الأكاديمية، وحظره عن الشارع لا بمقتضى تهذيبه ليس إلا. وعلى الرغم من وجود مايسوغ هذين الاعتراضين كليهما، فإن ما أحاول قوله (على شكل عمومية مربكة بعض الشيء)، هو أن طريقة المعارضة التي يعتمدها (النقد الجديد)الحديث لا تمثل تمثيلاً دقيقاً أفكاره وممارسته اللواتي تزيد، بعد كل الهياط والمياط قولاً وفعلاً، في ترسيخ وضمانة البنية الاجتماعية والثقافية اللتين جاءتا بتلك الأفكار والممارسة. فممارسة التفكيك تجري، مثلاً، وكأن الثقافة الغربية أسيرة التشظي، إذ ها هو التحليل السيميوطيقي يسوق الأدلة على أن عمله يرقى إلى مستوى ثورة علمية ومن ثم اجتماعية في علوم الإنسان. إن من الممكن الإتيان بفيض من الأمثلة بيد أن ما أقوله مفهوم لتوه كما أعتقد. فهنالك مناقشة تصادمية دون تصادم حقيقي، إذ حتى الماركسية كثيراً ما استسلمت، بهذا السياق، للمقتضيات المحمومة للفصاحة وتنازلت في الوقت نفسه عن امتيازاتها الراديكالية الحقة.
إنني أقول هذا كله دون توضيح السبب الذي دفعني لوضع كلمة يساري، في عنوان مقالتي هذه ضمن أقواس استشهاد تعبيراً عن الشك والريبة. وفضلاً عن ذلك أجد من العسير علي الانتقال من فكرة اليسار في السياسة إلى اليسار في النقد الأدبي. فبالطبع هنالك تعارض بين آبرامز وديريدا أو ميللر، ولكن هذا بمقدورنا أن نقول بملء الثقة أن الشيء الذي يقف على كف عفريت، والذي يبدو في أحسن الأحوال مجرد سؤال عمن تصوراته للبنى الفوقية تتجلى بالأفضلية، لشيء يتناسب مع العنف الواضح لذلك التعارض؟ إن كل النقاد الأقدمين والمحدثين، كانوا على أتم القناعة بتقييد أنفسهم بالشأن الأكاديمي للأدب، وبالمؤسسات الموجودة لتعليم الأدب واستخدام تلاميذه، وبتلك الفكرة المضحكة أحياناً والمتملقة ذاتياً دائماً بما مفاده أن مناظراتهم ذات تأثير هام وجليل على المصالح الحساسة التي تعود بالمضرة على الجنس البشري. ففي قبول اليسار الدعيّ لهذه التقييدات، بشكل لا يقل عن اليمين بشيء، يكون بعيداً جداً عن لعب أي دور سياسي حقيقي. إن مايدفع الوضع الراهن هو بالفعل، من ناحية أولى، مزيداً من الانعزال الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ الثقافي الأمريكي الحديث، ذلك الانعزال الذي انعزله نقاد الأدب عما يدور اليوم في القضايا الكبيرة من فكرية وسياسية وخلقية وأخلاقية، وهو من ناحية ثانية فصاحة، وقفة، وضعية لا تظهر بمظهر مايمثل أي شيء (ولنكن صريحين في الختام)، مقدار ما تظهر على حقيقتها من أنها تلك البلايا الناجمة عن عداء سياسي سافر. فلو صادف وزارنا زائر من كوكب آخر لأصيب بالارتباك إن تقيض له أن يسترق السمع ممن يدعى، زوراً وبهتاناً، بناقد قديم وهو ينعت النقاد الجدد بأنهم خطرون، ولنتساءل أيضاً ولابد عن الشيء الذي يشكلون خطراً عليه، أهو الدولة؟ أم العقل؟ أم السلطة؟
إن نظرة خاطفة على التاريخ الفكري الحديث تجلو القصة على أحسن مايرام، فما من مرء يصادف أية مشكلة في محاولة العثور على نوع من أنواع اليسار في الثقافة الأمريكية بين عقودالعشرينات والخمسينات، كما يؤكد للتو كتاب دانيال آرون المعنون بـ "كتاب على اليسار". وإن من الصحيح بكل تأكيد أن المساجلات الفكرية إبان تلك العقود كانت تدار بأغلبيتها الساحقة في هذه البلاد بلغة سياسية على ارتباط مباشر بالسياسة الفعلية. فالسيرة المهنية لأناس من أمثال راندولف بورن وجوزيف فريمان، مثلاً، لا تنفصم عراها عن مشكلات الحرب أو سياسة عدم التدخل أو الصراع الطبقي أو الستالينية أو التروتسكية. ولئن كنا نشعر بأن ما كتبه هذان الكاتبان كان يفتقر إلى المستوى الثقافي الرفيع الذي كان عليه نقد معاصريهما - كإليوت وفاليري وريتشاردز وإمبسون - فإننا نشعر في الوقت نفسه أن إدراكهما للأدب كأدب (أي أن الأدب شيء أكثر من مبنى إيديولوجي)، كان عميق الجذور إلى حد الروعة. ففي عمل أفضل كاتب في تلك الزمرة ككتاب "هيا إلى محطة فيلندا"، لإدموند ويلسون، على سبيل المثال، هنالك مستوى رفيع من الفكر والبحث، وهنالك أيضاً تحبيك سياسي وانهماك تاريخي كبيران قلما يظهر أي منهما بمظهر الدعاية الرخيصة أو بمظهر ما تعودنا على دعوته مؤخراً بالماركسية المبتذلة. وحين يحاول ناقد مرموق في الأكاديمية أن يجد لنفسه، أو لنفسها، موقعاً مسؤولاً في هذا العالم، وفي هذه المرحلة المديدة والرجراجة إلى حد ما، ألا وهي تلك المرحلة التي أنعتها "بالتاريخ الثقافي الحديث". بمنتهى البساطة، يمكننا أن نقع على مثل تلك المحاولة في مقالة كمقالة ماثيسين المعنونة بـ "مسؤوليات الناقد"، المكتوبة أصلاً في عام 1949، فما ثيسين لا يدعي بأنه ماركسي، غير أنه يقول بكل وضوح أن ناقد الأدب يجب أن يولي اهتمامه للشأن المادي الذي تعالجه الماركسية علاوة على اهتمامه "بأعمال الفن الدارجة في زماننا هذا"، إن الاستعارة الأساسية في هذه المقالة إن هي إلا استعارة البستنة: فالنقد يمكن أن يتحول إلى "حديقة مسورة من نوع ما"، مالم يتوصل الناقد إلى التيقن من "أن الأرض الواقعة خلف أسوار الحديقة أكثر خصاباً، وأن مسؤوليات الناقد تكمن في تجديد احتكاكه بالتربة". فهذا القول لا يعني أن على النقاد أن يتعرفوا على "تلك الأسس الاقتصادية الكامنة خلف أية بنية فوقية ثقافية"، وحسب، لا بل ويعني أيضاً:
أننا نحن معشر الجامعيين لم يعد بوسعنا أن ندير ظهورنا... على العالم.... إذ إن المكان المناسب للمفكر، كما تصوره وليام جيمز، كان في صميم النقطة المركزية التي تدور عليها رحى معركة ضارية، ونحن من المستحيل بالنسبة لنا أن ننظر إلىتلك الاستعارة بالخفة التي تعامل بها الكاتب معها. فأينما نظرنا في هذه السنوات القليلة المشؤومة منذ إسقاط أول قنبلة ذرية على هيروشيما لوجدنا أننا مهددون بتلك القوى الهائلة إلى الحد الذي يجعلنا نشعر فيه بأننا سائرون في طريق محفوفة بالمخاطر. ولكننا نبقى عرضة حتى لتهديد أفدح إن ظل على تقاعسهم أولئك الناس، ممن تتجسد مسؤوليتهم الرئيسية كنقاد في استبقاء أبواب الاتصالات بين الفن والمجتمع مشرعة على مصاريعها حفاظاً على أسباب الحياة، في القيام بواجباتهم للإتيان الدائم بفكر جديد لصالح مجتمعنا هذا(1).
ففي هذه الملاحظات ثمة تلميح بمنتهى الوضوح مفاده أن قوى التهديد الذي يطفح بها التاريخ التالي لتاريخ هيروشيما من الممكن حشرها في زاوية ضيقة دفاعاً عن نفسها، ومن الممكن استيعابها من خلال "الفكر الجديد"، للناقد، وليس بوسعنا هنا إلا أن نتبسم بكل بساطة على سذاجة ماثيسين إذ ليس هنالك اليوم إلا حفنة قليلة من النقاد ممن يرون أن عملهم جدير بالشفقة عليه والدفاع عنه ضد هذه القوى التاريخية الغاشمة وبشكل مباشر، أو ضد أية قوى مثيلة أخرى. وعلاوة على ذلك فلغة الأزمة ملازمة للنقد، كما بمقدور أي قارئ لبول دي مان ان يقول لك، ولكن سيكون هنالك على أرجح الظن، مالم ترجع اللغة وتدور حول نفسها في أمثال هذه الحالات، كما ينبغي له أن يقول لك محذراً، تعمية وتضليل أكثر مما سيكون هنالك معرفة أو نقد حقيقي. فالنقد والأدب إذاً عند ماثيسين، يترعرعان على نفس تلك الخبرات التي ينجم من صميمها الاقتصاد والتاريخ المادي والصراع الاجتماعي. وإن مثل هذا الاقتراح، بكل بساطته الأنطولوجية غير المعضلة ظاهرياً، من المستبعد جداً أن يعاود الظهور في هذه الأيام، في الوقت الذي النظرة فيه إلى ما يدعوه دي مان" بتداعي واقعية عالمنا هذا"، تماثل نظرة السخرية إلى نوع من الأدب لغته"، هي الشكل الوحيد للغة متحررة من زيف التعبير المباشر". ومع ذلك كان إنجازماثيسين كناقد إنجازاً محترماً، إذ إن كتباً ككتابه المعنون بـ "الانبعاث الأمريكي"، لا تتكشف عن إنسان وديع "Achöne Seele" ضّليل ولا عن عالم ضحل من علماء سوسيولوجيا المعرفة. وأما المشكلة فتكمن في الكيفية التي تحدث بها حديثاً عاطفياً وسياسياً جداً عن مسؤوليات الناقد، وفي السبب الذي دفع نقاداً، بعد مرور عشرين سنةونيف، مثل دي مان (صاحب التأثير الراهن الجليل جداً)، لتكريس اهتمامهم على استحالة تحمل المسؤولية الاجتماعية والسياسية.
فبالنسبة لدي مان "لا يمكن للمعرفة الفلسفية أن تبرز إلى الوجود إلا حينما تلتف على نفسها عوداً على بدء". وما هذا القول إلا طريقة أخرى للقول بأن كل من يستخدم اللغة كوسيلة لتوصيل المعرفة معرّض للوقوع في شرك الاعتقاد بأن سلطته، أو سلطتها، كحائز معرفة وموصلها، ليست مقيدة باللغة التي هي في واقع الأمر مجرد لغة وماهي بالشيء الواقعي المباشر. وأما الأدب، من الناحية الأخرى، فما هو أساساً إلا مايدور عن فضح المعمّى كما أن لغة الشعر، بالنسبة لدي مان، ماهي إلا "تلك اللغة التي تسمّي هذا الفراغ [أي وجود الخواء الذي من المفروض أن تدل عليه كلمات تركيب لغوي تتمثل مهمته الأساسية بالإشارة إلى نفسه فقط وبالإشارة إلى كونه مدركاً بمنتهى السخرية لفعلته هذه]، بفهم متجدد دوماً وأبداً، دون كلل أوملل البتة من تسميته مراراً وتكراراً بتوقان يماثل توقان روسو:"إن مثل هذا التبصر يتيح لدي مان أن يجزم على أن الأدب، في تسميته ذلك الفراغ وإعادة تسميته إلى أبد الآبدين، يؤكد على أنه نفسه ليس أكثر من ذلك وبأقصى درجات التوكيد، وبشكل لا يقل قوة بتاتاً عن قوته حين يبدو الأدب بأنه مكبوت كي يتيح إمكانية ظهور المعرفة. وهكذا:
حين يعتقد النقاد المحدثون بأنهم يفضحون معميات الأدب، تكون معمياتهم هم موضع الافتضاح في الحقيقة بواسطة الأدب، ولكن بما أن هذا الأمر يحدث بالضرورة على شكل أزمة، يكون أولئك النقاد في وضعية مكفوفي البصر عما هو جار في صميم أنفسهم هم. وفي تلك اللحظة التي يزعمون فيها أنهم يفتكون بالأدب يتواجد الأدب في الأمكنة كافة، وذلك لأن ما يدعونه بالأنتروبولوجيا وعلم اللغة والتحليل النفسي ماهو إلا الأدب نفسه مطلاً برأسه من جديد، مثله مثل رأس هايدرا (الصدار)، في نفس تلك البقعة التي من المفروض أنه انقطع فيها، إن على العقل البشري أن يتعرض لأهوال تشوه مذهل حتى يتفادى مواجهة "خواء الأمور البشرية"(2).
إن دي مان، على نقيض ديريدا الذي كان عليه لاحقاً أن يبدي ألفة محترمة حيال عمله، أقل اهتماماً بقوة وإنتاجية التشوه البشري (الذي يدعوه ديريدا بالشيء الذي لا يخطر على بال l’impensé)، منه باستمرار وتكرار أداء ذلك التشوه، أي إصراره على الألحاح كإلحاح إن جاز مثل هذا التعبير. وهذا هو السبب الذي يجعل من السخرية اللاذعة الشغل الشاغل بالفعل لدى دي مان كناقد: إذ إنه مشغول دائماً في تبيان وضع النقاد أو الشعراء الذين يكشفون بالفعل -النقاد بلا دراية والشعراءعن دراية- المنطلقات المستحيلة لصياغة أي شيء بتاتاً. أي ما يدعى بارتباكات الفكر التي يتصور دي مان أن كل الأدب العظيم يعود إليها على الدوام، وذلك في الوقت الذي يظنون فيه أنفسهم بأنهم يصوغون شيئاً ما. ومع ذلك فإن هذه القيود الفكرية على إمكانية الصياغة لم تمنع دي مان من صياغتها وإعادة صياغتها، في تلك المناسبات العديدة التي يحلل فيها، بشكل أقدر من معظم النقاد الآخرين، مقطوعةأدبية. إنني أتردد كثيراً قبل نعتي دي مان بالمحجاج، لكن بمقدار ما يحض النقاد على فعل هذا الشيء دون ذاك، أود أن أقول بأنه ينبئهم بأن يكفوا عن الحديث وكأن من الممكن تجاوز الدراسة التاريخية، وبأن يتحدثوا عن الأدب حديثاً جاداً. فما السبب يا ترى؟ لأن الأدب العظيم إن كان قد تعرض من قبل لفضح المعمى، فلن يكون بوسع الدراسة بتاتاً أن تخبرنا بأي شيء جوهري عن الأدب لم يتنبأ به الأدب نفسه سابقاً.
وإن أعظم مايمكن أن يحدث هو أن الناقد يكون عرضة لفضح المعمى، مع العلم أن هذا القول يرقى إلى القول بأن الناقد يعترف بأن الأدب قد فضح بنفسه معمياته مسبقاً.
ليست لدي الرغبة في أن أستخدم دي مان كممثل عمومي للشيء الذي تجري ممارسته هذه الأيام في النقد الأدبي: فعمله فائق الأهمية، ومواهبه فائقة الاستثناء ولو لمجرد الارتقاء به إلى منزلة التمثيل. بيد أنني أظن أن من الممكن اعتباره القدوة في تيار فكري معارض، لا بطريقة واضحة جداً، للشيء الذي هو في العادة معيار في الدراسات الأدبية الأكاديمية. فالعمل الأدبي عنده يحتل موقعاً يسمو بلا قيد أو شرط تقريباً على الواقعية التاريخية لا بفضل قوته بل بفضل وهنه المسلّم به. علماً أن أصالته تكمن في منطلق مؤداه أنه ألقى سلاحه "منذ البدء"، وكأنه قال سلفاً بأنه لا يحمل أية أوهام عن نفسه وبأنه أسلم مباشرة تخيلاته لميدان الشكل المقبول. وإن هذه الأفكار لتعبر بالطبع عن ميل كبير في الفن الرمزي بأسره، ألا وهو الميل الذي حظي بتشويق محترم من خلال أية نسخة من تشكيلة الشكلية النقدية في القرن العشرين:
فإعادة سبك مقولة من مالا رمي، يكمن خلفها ذلك التصور الذي مفاده أن العالم إن كان له ثمة وجود على الإطلاق، فلابد من أن يكون قد خلص إلى كتاب أو على شكل كتاب، وما أن ينطوي العالم في كتاب حتى تدار له الظهور إلى أبد الآبدين. فالأدب، بوجيز العبارة، لا يعبر إلا عن نفسه فقط(وهذا موقف في أقصى درجات التطرف، في حين أن أدناها يتمثل بالقول أن الأدب يدور "عن" لاشيء): إذ أن عالمه شكلي، وعلاقته بالواقع العادي.
لا يمكن فهمها، كما يوحي دي مان إلا من خلال النقض أو من خلال نظرية ساخرة إلى حد بالغ، صارمة بمقدار ماهي متلاحمة معتمدة في جدواها على افتراضات متناقضة تقول بأن العالم إنْ لم يكن كتاباً يكون الكتاب عندئذٍ ليس هو العالم. ولربما أن هذه الافتراضات ليست ممنوعة من الاعتراض كما قد تبدو، ولاسيما إذا تذكرنا الحد الذي أقر فيه معظم النقد منذ أرسطو بوجود مقدار معين من الانحياز السري في غالب الأحيان والانحياز المصبوغ بصبغة التقليد والمحاكاة ولو أنه موضع الإنكار.
ولكن نقد دي مان يدخر لنفسه بعض سلطته المبررة لأن دي مان كان رائد "النقدالميتافيزيقي"، الأوربي، كما يحلو للبعض أن ينعت نقده. وهنا نخوض تواً غمار الواقع السوسيولوجي والتاريخي الذي مفاده أن النقد المعاصر "اليساري"، أو المناهض في أمريكا قد تعرض للتأثير العميق بالنقد الأوربي، ولاسيما الفرنسي منه، وإن بوسع المرء أن يدلي بعدد من الأسباب لذلك التغيير الدرامي في اللغة واللهجة الذي حل بالمشهد النقدي الأمريكي إبان عقد الستينات (1960)، المنصرم، بيد أنني لا أنوي هنا هدر وقت طويل في تعداد ذلك. غير أن الإنصاف يقضي أن نقول بأن الآثار التي تركها النقد الأوربي علىمفرداتنا ومواقفنا النقدية كانت عديدة ومن بينها تلاشي الشعور بريادة "الدراسات الإنكليزية"، في الميدان الأدبي. فمعظم النقد الأدبي الذي طغى على الأكاديمية، لا بل وحتى على عالم الصحافة في حقيقة الأمر، صار يعتمد على إنجازات الكتاب المحدثين من أمريكيين وبريطانيين، علاوة على تنامي الشعور القاضي بأن دعاوى السيادة الوطنية-بكل المعاني التي تنطوي عليها هذه العبارة -يجب أن تسود النقد. إن المؤمنين بهذا الجانب يتألفون من آرنولد في البداية، ومن تم لاحقاً من كل من ليغز وإمبسون وريتشاردز ومن معظم (النقاد الجدد)، الجنوبيين. والجدير بالذكر أنني لا أقصد القول بأن هؤلاء النقاد كانوا رجالاً إقليميين أوذوي تفكير محلي، بل القول بأنهم كانوا يرتأون أن كل ماهو خارج العالم الأنكلو/ ساكسوني يجب تجييره لصالح الغايات الأنكلو/ ساكسونية. فحتى ت.س. إليوت، الذي كان إلى حد كبير أعظم ناقد عالمي في تلك الآونة حتى مطلع عقد الستينات (1960)، كان يرى في شعراء أوربيين من أمثال دانتي وفيرجيل وغوته حماة القيم الأنكلو / ساكسونية كالملكية التي كانت بمثابة موروث متواصل لا ثوري، وكفكرة دين وطني. وهكذا فإن الهيمنة الفكرية لإليوت وليفز وريتشاردز و(النقاد الجدد)، تتزامن لامع عمل أقطاب كجويس وإليوت نفسه وستيفنز ولورانس وحسب، لا بل ومع تطور جاد و مستقل للدراسات الأدبية في الجامعة، تطور أضحى بمرور الزمن مرادفاً "للعنجهية الإنكليزية"، كموضوع ولغة وموقف.
وفي أحسن أحوالها وجدت "العنجهية الإنكليزية"، في لوينيل تريلينغ و.و.أ ويمات وروبن براور، وفي حفنة ضئيلة من الناس الآخرين، تشكيلة متباينة من المدافعين عنها، وتشكيلة بارزة على شيء عميق جداً من الذكاء والإنسانية، بيد أنها تعرضت للتحدي -قبل بروز الزهو الفرنسي بزمن طويل - جراء أمرين اثنين أولهما داخلي وثانيهما خارجي. "فالعنجهية الإنكليزية"، لم تفض داخلياً إلا إلى إيديولوجيا ضمنية، وإلى مناهج ليست قابلية توصيلها من السهولة بمكان، الأمر الذي كان مرده ثمة أسباب معقدة إلى الحد الذي يفرض على المرء، إن حاول وصف الموقف الذي كان سائداً وقتها، أن يخوض غمار أمور كالتقزز من الستالينية والحرب الباردة ومراوغة النظرية،واقتران القيم والالتزام، وحتى الأفكار، "بالأسلوب"، اقتراناً لا تاريخياً مباشراً ومنطوياً على مفارقة عجيبة. ولكن مايهمني هنا بهذا الخصوص هو ما نجم، على العموم، عن ذلك كله على الصعيد الفكري: أي ذلك النموذج من النقد المعتمد بالأساس على تنميق لا نهاية له. ففي ذلك المزاج النفسي المفاجئ الناجم عن المنافسة والتوسع والتالي لإطلاق سبوتنيك (Sputnik)، كان هنالك برامج لغوية شتى تستهدف ***** الأمن القومي وتحظى بالتمويل من مؤسسة (NDEA)، كما كان هنالك "العنجهية الإنكليزية"، التي زينت لنا "قوتنا"، كأمة دون إضافة شيء جوهري عليها. فالأطروحة الجامعية النموذجية انكفأت من رسالة بحث تاريخي مدروس دراسة جيدة إلى مجرد مقالة بالغة الدقة، فضلاً عن أن تلاميذ اللغة الإنكليزية صاروا تبّعاً لنقطة بعيدة جداً عما كان هاماً، ناهيك عن شعورهم بذلك. وأما الدور الذي صارت تلعبه الإنكليزية فما كان ليعدو، في أحسن الأحوال، دور الأداة (وهذا بوضوح، ماكان يدأب على مناهضته ريتشارد أوهمان ولويس كامبف في أواخر عقد الستينات)، على الرغم من أن من مارسوا ذلك الدور، من أمثال تريلينغ وآبرامز ويمات، كانوا محط النظر إليهم بإعادة توكيدات لا إيديولوجية على أن الأسلوب والدراسات الإنسانية والقيم إن هي بالفعل إلا من ذوات الشأن. فالنتيجة الخالصة لهذا كله كانت استيطان الترهل في الدراسات الإنكليزية، إذ مابعد المسافة التي يستطيع المرء أن يجتازها في هذه الظروف على درب التنميق ليس إلاه؟
كمثل عن الشأو الرفيع الذي كان بمقدور التنميق الأدبي بلوغه بهاء وحنكة كان هنالك نورثروب فراي، الذي يمكن جزئياً تعليل سطوع نجمه النظري المتألق على كل ميدان الدراسات الإنكليزية في عقدي الخمسينات والستينات بمناخ التنميق (الذي بجّله وعمقه في كتابه المعنون "بتشريح النقد")، وبطغيان الفراغ النظري/ التاريخي. وأما كمثل عن مدى اتساع هذا كله فتور ووهناً، كان هنالك كدس مكدس من تلك الصناعات الأدبية المختلفة (جويس، كونراد، باوند، إليوت)، التي لما يكن وقتها بوسعها البتة حتى أن تتظاهر بأنها جزء لا يتجزأ من المسيرة العامة باتجاه المعرفة، وهكذا بطريقة عجيبة لا بل ومربكة ربما، صارت الحداثة الأدبية تقترن أولاً لا بالحاضر وإنما بالماضي القريب كما أنها طفقت تكتسب المشروعية مراراً وتكراراً بشكل لا نهاية له، وصارت تقترن ثانياً بإنتاج تحبيك ثانوي متعذر فهمه عملياً لكتلة من الكتابات المقبولة عالمياً ككتابات أصيلة. ومن الجدير بالذكر أن هذه الكتلة ذات التحبيكات الثانوية -من مثل الكتابات الأدبية لدي مان- كان عرضة لفضوح معمياتها بادئ ذي بدء، وما كانت تحمل في الوقت نفسه أية أوهام عن نفسها، وكل ما كانته كان لا يعدو كونها ثانوية وغير ضارة وحيادية إيديولوجيا إلا ضمن القيود الداخلية لحرفة مكسوة بأكداس مكدسة من أكسية الاحتراف.
وأما التحدي الثاني "للعنجهية الإنكليزية"، فقد كان خارجياً، وهنا وجدت من المفيد استخدام ذلك المفهوم الذي يدور حول المنشأ الأجنبي، والذي كان جورج شتاينر أول من أشار إليه. وهنا مرة ثانية هنالك العديد من الأشياء الجديرة بالذكر ضمن هذا السياق،ومرة ثانية أيضاً أجد لزاماً علي أن أكون مقلاً واصطفائياً. فلقد توسعت سوق الكتب ذوات الأغلفة الورقية توسعاً هائلاً وتزايد معها عدد الترجمات من اللغات الأجنبية تزايداً دراماتيكياً، فضلاً عن التأثير التدريجي الذي تأثرته "العنجهية الإنكليزية"، بميادين خارجية كالتحليل النفسي والسوسيولوجيا والأنتروبولوجيا، ناهيك عن الأثر السائب المفلوش (وتحت رعاية مؤسسة NDEA بالمناسبة)، للأدب المقارن مع ما لازمه من مقام رفيع شديد الوطأة لنقاد أجانب متألقين من أمثال أورباخ وكورتيوس وسبيتزر، علاوة في الختام، على مايبدو الآن بأنه كان تدخلاً عرضياً مفيداً وأصيلاً تدخله في مشهدنا الأدبي النقد الأوربي الذي كان سائداً وقتها أولاً من خلال نقاد مقيمين بين ظهرانينا كدي مان وجورجز باوليت، ومن ثم من خلال تزايد أعداد النقاد الزائرين القادمين من بلدان أجنبية. والجدير بالذكر عند هذا المفصل أن الماركسية احتازت لها على حضور فكري صار يؤخذ بعين الاعتبار في سياق التحدي الخارجي الذي ينطوي عليه الاستيراد من الخارج.
وإلى حد ما أعلم فإن ذلك الصنف من الماركسية الذي كان قيد الممارسة أو الإعلان في الأقسام الأدبية الجامعية لا يدين إلا بقسط ضئيل جداً للحركة الراديكالية الأمريكية التي لاقت حتفها في عصر ما كارثي. فالماركسية الجديدة جاءت إلى هذه البلاد جزئياً كنتيجة للاهتمام بالنقد الفرنسي ومن ثم بمدرسة فرانكفورت، وجزئياً من جراء الموجة العامة للهيجان المعادي للحرب في الحرم الجامعية. لقد فعلت الماركسية فعلها على شكل اكتشاف مفاجئ وعلى شكل تطبيق مفاجئ أيضاً على المشكلات الأدبية. وأما نقاط ضعفها الأساسية فقد كانت تتمثل بالغياب النسبي لثقافة أو لموروث نظري ماركسي محلي متواصل لمؤازرتها وبانعزالها النسبي عن أي نضال سياسي ملموس.
وبين هذين التيارين كانت حاسمة التحديات الداخلية والخارجية للدراسات الإنكليزية - ولكن بطرائق محدودة جداً وحسب، مع العلم أن هذا القول يجسد شيئاً عويصاً فهمه. فخلال الهيجانات الكبيرة في الستينات(1960) عمدت المؤسسات الأدبية الأكاديمية، التي اعتادت أن تكون طيلة سنوات مصنعاً لإنتاج العقول والمقالات المصقولة إلى الرد على تلك الأوقات بمطلب العلاقة المباشرة. ولقد كان هذا المطلب يعني، في حقيقة الأمر، أن تعليم ودراسة الأدب يجب أن يبينا لنا بين الحين والحين الكيفية التي ترتبط بها الروائع الأدبية بالواقع المعاصر، أي أننا بقراءة سويفت أو شيكسبير بمقدورنا أن "نفهم"، وحشية الإنسان أو مقدار الإثم الكبير الذي تنطوي عليه سياسة التفرقة العنصرية. وأما أنا افليس لدي من التردد إلا أقله حين أقول إن ذلك التبجح الثوري الفارغ الكبير الذي تبجحته (جمعية لغة الحداثة)، لم ي*** معه إلا تغييرات تجميلية وحسب، وبأن تلك التغييرات لم تكن أدلة دالة على وجود إرادة التغيير لدى مختلف فصائل الدارسين ممن عقدوا العزم على ذلك، بل كانت أدلة على عمق ومرونة إيديولوجيا التزيين التي امتصت بمنتهى الفاعلية حتى هذا التحدي الجديد الذي كان ينطوي ضمناً على التطرف. فلقد كان هنالك، والحق يقال، نزعة عجيبة، بل ومرعبة أيضاً، في اللغة الطنانة لكل من الفريقين المتعارضين لإجهاز هذا الفريق على ذاك، في مؤخر الستينات ومقدم السبعينات. فالمفردات جنحت فجأة إلى مزيد من "التقنية"، ومزيد من "الصعوبة"، الذاتية، كما أن مماحكة بارثيز/بيكارد أعيد إحياؤها وحتى استنساخها في العديد من المجلات والمؤتمرات والأقسام الأدبية، ناهيك عن أن الطموح لبلوغ منزلة "المنظر الأدبي"، صار ضربة لازب “de rigeur” مع العلم أنه كان المركز المربح للعديد منا، والأمر الذي لم يكن له عملياً ثمة وجود بتاتاً في لوائح الأقسام الأدبية قبل مضي عشر سنوات. ولقد كان هنالك سعي حثيث للعثور على مشروعات وبرامج و"عقول"، وأحابيل متشابكة المعارف، مما جعل هذا كله ينيخ بكلكله على المرء إلى الحد الذي جعله لا يستطيع فيه أن يبحث في قصيدة من قصائد دون (Donne) دون أن يشير في الوقت نفسه إلى جاكوبسون، لا بل وربما حتى إلى المصطلحات اللاتينية في اللغات الأوربية، وعلى الأقل إلى الاستعارات والكنايات. وهكذا صار أمام المرء، من ناحية أولى، فظهر ثقافة فرعية جديدة حقيقية معارضة نظرياً للموروثات الأدبية الوطنية القديمة المكسوة بكساء المؤسسة في الأكاديمية، وصار أمامه، من ناحية ثانية، تلك الموروثات القديمة وهي تدافع عن نفسها، استنجاداً بالدراسات الإنسانية، والذوق وسداد الرأي وما شابه ذلك، ويبقى السؤال في هذه الأمثلة ما إن كان (حمد وحمدو)([1]) يختلفان فعلاً عن بعضهما بعضاً كل ذلك الاختلاف الكبير، وما إن كان أي منهما قد أنتج العمل الذي يبرر، في آن واحد معاً، فصاحة الأول العدوانية أو دفاع الثاني دفاعه الأخلاق المستميت.
إن مدار اهتمامي الوحيد ينصب على الجانب "اليساري" من ذلك الجدل، ونقطة بدئي الحقيقية تتمثل بملاحظتين اثنتين عن الشيء الذي لم ينتجه اليسار. فلاحظوا أولاً أنه في الدراسات الأدبية الأمريكية، في الربع الماضي من هذا القرن، لم يقم ثمة عمل واف في مضمار الدراسة التاريخية الأساسية مما يمكن نعته "بالرجعي". وأنا أستخدم هذا النعت الأخير كي أشير إلى مقارنة من نوع ما مع ما جرى في ميدان الدراسات التاريخية الأمريكية، وذلك في عمل وليامز وألبيروفيتز وكولكو، وفي عمل الكثيرين غيرهم. فحتى يكون هنالك تفسير فعال فيما يدعى بالمعرفة التاريخية يجب أن يكون هنالك أيضاً، بعد كل ماجرى قوله وفعله، تاريخ فعال وعمل أرشيفي فعال وانهماك فعال في المادة الفعلية للتاريخ. إن العمل الفردي للأدب يوجد بالتأكيد إلى حد معقول بفضل بناه الشكلية، ويفصح عن نفسه بواسطة نشاط أو قصد أو طاقة أو إرادة شكلية. بيد أنه لا يوجد من خلال تلك الأشياء وحدها وحسب، ولا يمكن إدراكه وفهمه شكلياً ليس إلا. ومع ذلك فإن الدراسات الأدبية استسلمت في معظم الأحوال، حتى في نسختها الماركسية، لغياب نسبي للبعد التاريخي. فالبحث التاريخي عن اليسار خضع للتحييد جراء التصور القائل أن التفسير يعتمد إلى أقصى الحدود على المنهج أو الفصاحة، وكأن أياً من الشيئين هو الذي يدل بوضوح على الجدارة والعظمة المستقلتين للمنظر الأدبي، وعلاوة على ذلك فإن الاهتمام الشامل بالمعرفة الصدامية (أي تلك المعرفة الموجودة أساساً لتحدي وتغيير الأفكار المستوردة والمؤسسات الحصينة والقيم المشكوك فيها)، قد أذعن لسلبية الصقل اللا تاريخي الذي جرى على الأمور المسلم بها بداهة والمقبولة، والأمور المحددة سلفاً قبل أي شيء آخر. إن المرء ليفتش هنا وهناك وهنالك ولا يعثر إلا على بضعة بدائل للموقف الذي يحاول أن يبرهن على الكيفية التي ليس بوسعك فيها، مثلاً، أن تجيد فهم رواية "صديقنا المشترك" إلا إذا زدت من نظرتك إليها بأنها لا تعدو أن تكون بحد ذاتها رواية، الأمر الذي يعني تعميق دراستك لها كمثل ممتاز عن نظرية متشابكة. بمتهى الأحكام حول فن السرد الروائي الذي شروط إمكانية قراءته وقوته تعتمد على القواعد الشكلية للنحو والصرف، وعلى التجريدات النشوئية والبنى الفطرية، وهنالك عنصر معين من المحاكاة الساخرة في وصفي هذا، ولكن هنالك أيضاً شيء من الدقة فيه.
وأما الملاحظة الثانية فتكمن في الوجه الآخر للعملة، أي أن الدراسات الأدبية عن اليسار، بدلاً من أن تنتج عملاً يتحدى أو ينقح السائد من قيم ومؤسسات وتقييدات، تمادت أكثر من اللزوم في حقيقة الأمر في تعزيز تلك الأمور. وهذا الشيء أخطر من سابقه بكثير من عدة وجوه.

مامن مجتمع من المجتمعات المعروفة للتاريخ البشري كان له أي وجود بتاتاً بمعزل عن تحكم القوة والسلطة به، ناهيك عن أن أي مجتمع يمكن تقسيمه، كما يدأب غرامشي على القول، إلى طبقتين متشابكتين من حكام ومحكومين. وليس هنالك شيء ثابت بخصوص هذه التصورات الأساسية، إذ إن كان بمقدورنا أن نعتبر المجتمع بأنه توزيع ديناميكي للقوة والمواقع يجب أن يكون بوسعنا أيضاً أن نعتبر فئتي الحكام والمحكومين فئتين بالغتي التعقيد وبالغتي التعرض لتبادل المواضع. وإذا اقتصرنا الآن على استخدام مصطلحات غرامشي، يمكننا تقسيم المجتمع إلى طبقتين ناشئة وتقليدية. وإلى قطاعين مدني وسياسي، وإلى تبّع وسادة، وإلى قوتين طاغية وتنفيذية رسمية. ومع ذلك فإن مايكمن خلف هذه الفاعلية بقضها وقضيضها هو على الأقل فكرة ما، أو زمرة من الأفكار، وعلى الأكثر مجموعة من الوكالات ذوات النفوذ التي تستمد قوتها من الدولة. فالحقيقة المركزية للقوة والسلطة في التاريخ الغربي هي، منذ نهاية عصر الإقطاع على الأقل، وجود الدولة، وعلينا أن نقول كما أتصور أننا كي نفهم لا القوة وحدها بل والسلطة أيضاً -التي هي بمثابة فكرة أكثر تشويقاً وتبايناً من فكرة القوة -علينا أن نفهم في الوقت نفسه تلك الطريقة التي تتأتى فيها أية سلطة في المجتمع الحديث من وجود الدولة إلى حد ما.
إن الثقافة والتشكيلات الثقافية والمفكرين يوجدون، إلى حد كبير، بفضل شبكة شيقة جداً من العلاقات مع قوة الدولة تلك القوة المطلقة تقريباً، وعن هذه المجموعة من العلاقات علي أن أقول تواً أن كل النقد اليساري المعاصر، من ذلك النوع الذي يدور بحثه عنه، أصم أبكم إلى حد مذهل في أغلب الأحيان. ولكن هنالك بعض الاستثناءات لهذه المقولة، إذ فوكو يمثل استثناءاً، وكذلك كل من أوهمان وباولنتزاس، مع العلم أن المرء ليتعذر عليه الإتيان بأسماء النقاد الآخرين ممن نقدهم يتناول هذا الأمر على نحو مباشر. بيد أن المقولة المناقضة للمقولة السابقة تماماً هي أن كل من ينتج دراسات أدبية أو فكرية لا يأخذ في حسبانه الحقيقة التي مفادها أن كل العمل الفكري أو الثقافي يحدث في مكان ما، وفي زمان ما، وعن ميدان ما مرسوم، ومرخص بمنتهى الدقة أسير احتواء الدولة له في خاتمة المطاف. ولقد بادرت الناقدات إلى افتتاح هذه المسألة إلى حد ما، غير أنهن لم يستكملن الشوط حتى نهايته. فلئن كان صحيحاً، بناء على نظرية الفن للفن، أن عالم الثقافة والإنتاج الفني له استقلاله الخاص به، بعيداً عن انتهاكات الدولة والسلطة، يجب علينا حينئذٍ أن نبقى على أهبة الاستعداد لتبيين كيفية الحصول على ذلك الاستقلال وتبيين كيفية الحفاظ عليه، وهذا أهم من سابقه، وبكلمات أخرى فإن العلاقة بين علم الجمال وسلطة الدولة تتوطد في كلتا الحالتين: في حالة الاعتماد المباشر، وفي حالة الاستقلال التام مع العلم أن هذه الحالة أقل احتمالاً من سابقتها بكثير.
وأما الإحساس الذي يخالجني الآن بأنني أضطلع بعبء نطاق واسع من الخبرة التاريخية، لا بل وأوسع مما ينبغي بكثير، لإحساس يعمقه التيقن أن الخطاب الثقافي أو النظري أو النقدي لا يوفر اليوم لي أية مفردة ولا أية لغة توثيقية أو مفهومية، ولا يوفر لي، وهذا أقل من السابق بكثير، أية كتلة ملموسة من التحليلات المخصصة، ابتغاء الإفصاح عن نفسي. إن عبقريتنا النقدية مصوغة، في أغلب الأحوال، بفعل التحليل الخبيث الذي يأتي به ذلك التخم الأصم الذي يعزل، مثلاً، الخيال عن الفكر والثقافة عن القوة والتاريخ عن الشكل، كما يعزل النصوص عن أي رسم إضافي (hors****e)، وهلم جرا، ومن الجدير بالذكر أننا نسيء استخدام فكرة كينونة المنهج، فضلاً عن وقوعنا في فخ الاعتقاد أن المنهج هو الرائد وأن من الممكن له أن يكون نظامياً دون الإقرار في الوقت نفسه بأن المنهج يشكل على الدوام جزءاً من طاقم معين من العلاقات برئاسة وتحريك السلطة والقوة. ولئن كانت كتلة الموضوعات التي ندرسها - الكتلة التي تشكلها أعمال الأدب- تنتمي إلى مفاهيم الأمة والقومية، وحتى العرق، وتكتسب تلاحمها منها وتنبثق عنها بمعنى من المعاني، فلن يكون في الخطاب النقدي المعاصر إلا النزر اليسير الذي يجعل من هذه الوقائع موضوعات بحثها أمر ممكن. وأنا لا أنوي هنا الدفاع عن نوع من اللغة النقدية الاختزالية التي يتمحور أساسها المنطقي على الفرضية المؤكدة إلى مالا نهاية من أن "الأمر كله سياسي"، كائناً ما كان يعنيه المرء بكلمة "الأمر، أو كله، أو سياسي"، ولكن مايخطر على بالي هو ذلك النوع من التعددية التحليلية كما اقترحه غرامشي للتعامل مع كتل ثقافية/ تاريخية، المتعمدة بالعالم الذي يعيشون فيه وبالقيم التي ينخرط عملهم من خلالها بالتاريخ، لا يرون بأنهم أنفسهم يشكلون تهديداً لأي شيء، إلا لبعضهم بعضاً في أرجح الظن. فهم بالتأكيد مطواعون كما كان ديدنهم مذ صارت عبادة الدولة بمثابة الزي الدارج، كما أن من المؤكد أن انصرافهم الخنوع للروائع الأدبية والثقافية والنصوص والهياكل المثبتة بمنتهى البساطة في "نصوصهم"، هم لأداء وظيفة المشروعات الناجزة أيضاً، لا يشكل تهديداً للسلطة أو لتلك القيم التي يعمل المدراء التكنوقراطيون على ديمومة رواجها وتداولها.
ولكن ماهوعملياً، بعبارات أدق، دور الوعي النقدي الحديث لدى النقد المعارض؟ إن الخلفية المرتبطة بصلب الموضوع، بوجيز العبارة، هي كما يلي: ثمة كلمات كالثقافة والمجتمع. كما بيّن ريموند وليامز، لم تحظ بمدلول واضح ملموس إلا في العهد الذي أعقب الثورة الفرنسية ليس إلا. فقبل ذلك العهد حددت الثقافة الأوربية هويتها بشكل قاطع ككل على أنها شيء مختلف عن المناطق والثقافات غير الأوربية من تلك التي أنيطت بها قيمة سلبية في أغلب الأحوال. ولكن إبان القرن التاسع عشر توشحت فكرة الثقافة بوشاح وطني وطيد الأركان، وأدت إلى نتيجة جعلت شخصيات كما ثيو آرنولد توحد بين الثقافة والدولة ذلك التوحيد الفعال. فواقع الحال بالنسبة للنشاط الجمالي أو الثقافي هو أن إمكانيات وظروف إنتاجه تحوز على سلطانها بفضل ما دعوته بالتقرب، أي بفضل تلك الشبكة المستترة من الترابطات الثقافية الفريدة بين الأشكال والمقولات وغيرها من المحبوكات الجمالية من ناحية أولى، وبين المؤسسات والوكالات والطبقات، والقوى الاجتماعية غير المتبلورة، من ناحية ثانية. إن التقرب كلمة فضفاضة إلى الحد الذي يتيح لها أن توحي بأنواع الطواقم الثقافية التي يبحثها غرامشي في المقطع الذي استشهدت به سابقاً. وإلى الحد الذي يسمح لنا فيه، في الوقت نفسه، أن نتذكر المفهوم الجوهري للهيمنة التي توجه النشاط الثقافي والفكري عموماً، أو التحبيك ككل.
هيا واسمحوا لي الآن أن أشير إلى الأهمية الكبيرة التي تنطوي عليها هذه الفكرة بالنسبة للنشاط النقدي المعاصر. إن التقرب ، كمبدأ تأويلي عام، يخفف بعض الشيء، في المقام الأول، من غلواء تلك النظريات السطحية التي تحدثت عن التشاكل والقرابة، والتي ابتكرت الميدان الطوباوي المتجانس التكوين للنصوص التي لا ترتبط إلا بنصوص أخرى ارتباطاً تسلسلياً ومحكماً وفورياً. والتقرب، بالمقابل، هو الشيء الذي يمكن نصاً من أن يحافظ على نفسه كنص، وما هذه الحقيقة إلا بالحقيقة المستورة بسلسلة من الملابسات: كمنزلة الكاتب واللحظة التاريخية وظروف النشر والانتشار والتلقي، والقيم المعتمدة، والقيم والأفكار المنحولة، وشبكة من أي لرؤية الثقافة والفن في انتمائها لا إلى نوع من الأثير السائب الذي تذروه الرياح في الفضاء أو إلى نوع من الميدان المحكوم بمنتهى الصرامة أو بحتمية حديدية، بل في انتمائها إلى مسعى فكري واسع -إلى منظومات وتيارات فكرية- مترابط بطرائق معقدة لفعل الأشياء، لإنجاز بعض الأشياء المعينة، للقوة، للطبقة الاجتماعية والإنتاج الاقتصادي لنشر الأفكار والقيم والصور الدنيوية، وإذا وافقنا مع غرامشي على أن المرء ليس بوسعه أن يقلص على هواه الدين أو الثقافة أو الفن إلى وحدة وتلاحم، لكان علينا عندئذٍ أن نستكمل الشوط مع الفرضيات التالية لصالح الدراسة والبحث الإنسانيين:
إن الشيء الذي يجب....شرحه هو الكيفية التي يتصادف بها في كل العصور تواجد عدة منظومات وتيارات للفكر الفلسفي، وكيفية توالد هذه التيارات، وكيفية انتشارها، والسبب الذي يجعلها تتبعثر في تلك العملية فوق خطوط معينة، وفي اتجاهات معينة. إن حقيقة هذه العملية تتواصل لكي تبين مدى ضرورة تنظيم المرء لحدسه عن الحياة والعالم بطريقة نقدية متلاحمة ونظامية، وضرورة تحديده الشيء الواجب فهمه بكلمة "نظامية" على وجه الدقة، كيلا تؤخذ بمعناها الأكاديمي المتحذلق. بيد أن هذا التحبيك يجب إنجازه في سياق تاريخ الفلسفة، ولا يمكن إنجازه إلا في ذلك السياق، وذلك لأن هذا التاريخ هو ما يبين الكيفية التي انحبك بها الفكر عبر القرون ويبين عمق الجهد الجماعي المبذول لتحقيق المنهج الراهن للفكر- ذلك المنهج الذي صنف واستوعب كل هذا التاريخ الماضي، بما فيه من حماقات وأخطاء. إن الواجب يقضي، في الوقت نفسه، عدم إهمال هذه الأخطاء ذاتها وذلك لأن المرء، مع أن تلك الأخطاء جرت في الماضي وتعرضت من ثم للتصحيح، لا يمكنه أن يكون متأكداً من أنها لن تجري مجدداً في الزمن الحاضر وتستدعي التصحيح مرة ثانية(3).
لقد أوردت الجملة الأخيرة لا لأنني موافق عليها، بل لأنها تعبر عن ذلك الجد التعليمي الذي كان يؤمن به غرامشي، والذي كان يرى فيه وجوب إجراء البحث التاريخي كله بمقتضاه. ولكن هذه النقطة الأساسية هي بالطبع ذلك التبصر الإيحائي، بما مفاده أن الفكر يكون قيد الإنتاج كي يكون من الممكن إنجاز ثمة أشياء، وبأنه يكون موضع الانتشار لكي يكون فعالاً ومقنعاً وقوياً، وأن مقداراً عظيماً من الفكر ينحبك حول ماهو نسبياً عدد قليل من الأفكار التوجيهية الأساسية. ولكن الجدير بالذكر هنا أن مفهوم التحبيك مفهوم عويص. فبالتحبيك يقصد غرامشي أمرين متناقضين ظاهرياً في حين أنهما متكاملان عملياً. أولاً: أن تحبك يعني أن تصقل، أن تستنبط (e-laborare) فكرة ما مسبقة أوفكرة أقوى، أن تؤيد وجهة نظر دنيوية. وثانياً: أن تحبك يعني شيئاً أكثر إيجابية نوعياً، أي الافتراض بأن الثقافة نفسها أو الفكر أو الفن لامتداد للواقع السياسي، وامتداد بالغ التعقيد وشبه مستقل وله، مع التسليم بداهة بالأهمية الاستثنائية التي يخلعها غرامشي على المفكرين والثقافة والفلسفة،عمق وتعقيد وقيمة دلالية/ تاريخية على قوة بالغة إلى الحد الذي يجعل السياسة أمراً ممكناً. فالتحبيك هومركب الأنماط التي تيسّر للمجتمع أن يحافظ على نفسه. إن غرامشي يجعل من التحبيك، بعيداً عن الانحدار بسمعته إلى منزلة الحلية، السبب نفسه لقوة ما يدعوه بالمجتمع المدني الذي يلعب في الغرب الصناعي دوراً لا يقل أهمية عن المجتمع السياسي. وهكذا فإن التحبيك هو المسعى الثقافي المركزي وهو، سيان نظر المرء إليه أم لم ينظر بأنه أكثر بقليل من الدعاية الفكرية لمصالح الطبقة الحاكمة. المادة التي تجعل من أي مجتمع مجتمعاً ما. فما التحبيك، بكلمات أخرى، إلا ذلك القسط العظيم من النسج الاجتماعي الذي تحدثت عنه جورج إليوت، في رواياتها الأخيرة، في حين أن التبصر الذي كان عليه غرامشي هو ما ساقه إلى التيقن بأن التبعية والتمزق والتبعثر والإنتاج مرة ثانية أمور كلها، شأنها شأن الإنتاج والخلق والإكراه والإرشاد، مظاهر ضرورية من مظاهر التحبيك.
إن بوسع المرء أن يشتط حتى إلى حد القول إن الثقافة -أي التحبيك- هي ما يعطي الدولة شيئاً تحكم من خلاله ومع ذلك فإن المسعى الثقافي،كما كان غرامشي حريصاً على القول في كل مكان، ماهو بالمتسق وماهو بالمتجانس التكوين خبط عشواء. فالعمق الحقيقي في قوة الدولة الغربية الحديثة هوقوة وعمق ثقافتها، وقوة الثقافة هي تنوعها، أي تعدد عناصرها التكوينية وتباينها. إن وجهة النظر هذه هي ما تميز غرامشي عن أي مفكرماركسي هام آخر تقريباً من مفكري عصره. وهو ذلك المفكر الذي لا تغيب عن بصره لا الحقائق المركزية العظيمة للقوة ولا كيفية تدفقها عبر شبكة كاملة من الوكالات العاملة بتوافق عقلاني، كما لا تغيب عن بصره تلك التفصيلات -المتناثرة والعادية واللا نظامية والمحتشدة- التي تستمد القوة منها ولابد بقاءها، والتي تعتمد عليها القوة ابتغاء قوتها اليومي. لقد فطن غرامشي. قبل فوكوبردح طويل من الزمن، لتلك الفكرة التي مفادها أن الثقافة تخدم السلطة وتخدم، في خاتمة المطاف، الدولة الوطنية، لا لأنها تمارس الكبت والإكراه بل لأنها توكيدية ويقينية ومقنعة. فالثقافة نتوج، كما يقول غرامشي، إلى حد أكبر بكثير من الإكراه الذي تحتكره الدولة، علاوة على أن هذه الحقيقة هي ما تجعل المجتمع الغربي الوطني مجتمعاً قوياً يتعذر فيه على الإنسان الثوري اختراقه والتغلب عليه. وبالنتيجة فإن المفكر ليس مماثلاً بالفعل لأحد أفراد قوة الشرطة، كما إن الفنان ليس مجرد داع لملاك المصانع الأثرياء. إن الثقافة مسعى مستقل ومتشح بوشاح الرأسمالية، الأمر الذي يعني بالفعل أن علاقتها بالسلطة والقوة شيء بعيد كل البعد عن الانتفاء.وهكذا يجب أن نكون قادرين على النظر إلى الثقافة كقوة تاريخية تمتلك الصور الخاصة بها، والصور التي تنجدل بتلك الصور الموجودة في الميدان الاقتصادي /الاجتماعي كي ترفع كلها عن أكتافها الدولة كدولة. فالتحبيك بلعبه دور المادة التي منها يجعل المجتمع من نفسه مشروعاً حياً متواصلاً، لا يعني إثبات وجوده على أنه هناك وحسب، بل يصبو لبلوغ منزلة الهيمنة التي يلعب فيها المفكرون ذلك الدور الذي يدعوه غرامشي بـ"خبراء إضفاء المشروعية".
وبما أنني أعتبر هذه الأفكار جوهرية فقد استمديتها من غرامشي لتكون موضع المقارنة مع الأفكار السياسية والتاريخية التي تروجها الآن النظرية الأدبية التصادمية أو الطليعية. إن ما دأبت على دعوته بالنقد "اليساري" المعاصر منهمك عملياً بمشكلات شتى ناجمة عن السلطة. من مثل إشكالية العودة إلى ماركس وفرويد وسوسور، ومسألة التأثر والتداخل النصي، ومسائل عدم الورود على البال (l’impensé) والأمور المعلقة في النقد التفكيكي، والإيديولوجي كعامل في الإبداع والانتشار الأدبيين. وفي كل هذه المعمعة قلما يصادف المرء دراسة جادة عن ماهية السلطة، لا فيما يتعلق بالطريقة التي تنتقل بها السلطة تاريخياً وآنياً من الدولة إلى مجتمع مستنقع بالسلطة ولا فيما يتعلق بالتحركات الفعلية للثقافة، ولا عن دور المفكرين والمؤسسات والمنشآت. وعلاوة على ذلك، فحتى لوكانت لغة بعض المجلات، من أمثال
Glyph, Critical InquiryDiacritics طافحة بآراء عن العمق والتطرف والتبصر، نادراً ما توجد فيها فقرةتتطرق للتحريض على ما يعوق الأفكار والقيم والانهماك، كما أن المرء لا يقع حتى بالمصادفة، فيما يتعلق بذلك الأمر، على القيام بمحاولة جادة لوسم الشيء الذي من المفروض بالنقاد التقدميين أن يقاوموه تاريخياً لا بلاغياً.وأما الانطباع الذي نحمله فهو أن الناقد الشاب لديه ولابدّ إحساس سياسي متطور جداً، ولكن أي فحص دقيق لهذا الإحساس يتكشف عن مضمون طريف اتفاقي لا يأتيه الإغناء لا من معرفة كبيرة عما تدور حوله السياسة والقضايا السياسية ولا من أية دراية متطورة جداً بأن السياسة شيء أكثر من حب أو بغض عقيدة فكرية تطغى في هذه الآونة على قسم من أقسام الأدب.

إن النقد اليساري المعارض،مع أخذ طاقته الكامنة بعين الاعتبار، لا يساهم إلا مساهمة طفيفة في المناقشة الفكرية الدائرة اليوم في مضمار الثقافة. فإفلاسنا فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وقد كانت فيما مضى مسألة فتانة، كفيل وحده بتجريدنا من حق انتمائنا للإنسانية، وأما فيما يتعلق بذلك التمييز الدقيق بين الفاشية والديكاتورية فلا تتوفر لنا حتى الرغبة في أن نحلل هذين المصطلحين تحليلاً لغوياً، فما بالك بالتحليل السياسي الذي رغبتنا فيه أقل من الرغبة السابقة بكثير. ومع ذلك فلا أبتغي الانحدار بقيمة ذلك التألق الذي تألقه بعض الشيء ذلك العصر الذهبي الذي مرّ به النقد الفني في العقود القليلة الماضية.وليس بمقدورنا إلا أن نقر بذلك بمنتهى الامتنان وأن نضيف في الوقت نفسه أن ذلك العصر كان موسوماً برغبة قبول عزل الأدب والدراسات الأدبية عن العالم. ولقد كان ذلك العصر أيضاً هو العصر الذي قلة منا فيه تفحصت الأسباب الموجبة لهذا التقييد، والعصر الذي تقبلت ضمناً أكثريتنا فيه الدولة وهيمنتها الصامتة على الثقافة، لابل وهلّلت لذلك، بدون حتى همسة احتجاج مؤدبة في مرحلة حرب فيتنام وفي المرحلة التالية لذلك.
إن خيبة أملي في هذا الواقع تنبع من القناعة بأن قدرتنا الفنية كنقاد ومفكرين كانت الشيء الذي أرادت الثقافة تحييده، ولئن ساهمنا نحن بهذا المشروع، ولربما عن غير دراية منا، فقد كان السبب خشخشة النقود. وفي حماستنا البلاغية للكلمات الطنانة من أمثال الفضيحة والتفجير والانتهاك والانقطاع، ما خطر على بالنا الاهتمام بعلاقات تلك الكلمات بالقوة الفاعلة فعلها في التاريخ والمجتمع، وحتى حين ادعينا أن نصية النص أمر يجب استكشافه إلى ما لا نهاية، كان ذلك الادعاء يشير إشارة غامضة إلى المؤامرات، إلى السلالات الخداعة المؤلفة كلها من كتب عريانة من تاريخها وقوتها. فالزعم الكامن خلف ذلك هو أن النصوص متجانسة التكوين بشكل جذري، في حين أن نقيض ذلك كامن في تلك الفكرة الوهمية “Laputan” العجيبة التي مفادها أن من الممكن اعتبار أي شيء، إلى حد ما، نصاً من النصوص. وأما النتيجة حتى الآن، بمقدار مايدور الاهتمام حول الممارسة النقدية، فهي أن التنميق الفردي في النقد وفي النصوص المدروسة من لدن الناقد يتعرض للتشذيب كرمي للتنميق وحسب، هذا في حين أن النتيجة الإضافية هي أن الكتابة تكون محط النظر إليها بأنها تتقصد عمداً هدف الإبعاد -إبعاد النقاد عن النقاد الآخرين وعن القراء وعن العمل المدروس.
إن السخرية الأخاذة التي ينطوي عليها هذا الانعزال الكئيب، مع التسليم جدلاً بالطريقة التي يتصورنا بها قادتنا السياسيون وكأننا جزء من الكهنوت الدنيوي في العصر الذي نعته باكونين "بعصر الذكاء العلمي"، في سبيلها إلى الترسخ، فثمة منشور من قبل لجنة ثلاثية في عام 1975 بعنوان "أزمة الديمقراطية"، مسح الحقبة التالية للستينات (1960)، بشيء من الاهتمام بمشاعر الجماهير حيال مطالبها ومطامحها السياسية، وكان المنشور الذي أفضى إلى بروز مشكلة ما يدعوه الكتاب "بيسارة الانقياد للحكومة"(governability)، وذلك لأنه صار من الواضح أن الشعب في معظمه لم يعد سهل الانقياد كما كان من قبل.(4). إن طبقة المفكرين تساهم في هذا الوضع بأمرين اثنين ناجمين مباشرة عن ذينك الصنفين من المفكرين الذين تنتجهم المجتمعات الديمقراطية المعاصرة في هذه الآونة. فهنالك من ناحية أولى التكنوقراطيون والمفكرون ذوو المنزع السياسي ممن يدعون، زوراً وبهتاناً، بالمسؤولين، وهنالك من ناحية ثانية المفكرون "التقليديون"، المحافظون على القيم والخطيرون سياسياً. إن الفئة الثانية هي التي من المفروض بنا أن نكون ضمنها، بناء على أي معيار معقول، وذلك لأن أفراد هذه الفئة هم المفروض بهم "أن يكرسوا أنفسهم للاستهزاء بالقيادة وتحدي السلطة وإماطة اللثام عن المؤسسات الوطيدة الأركان وتجريدها من لبوس المشروعية". ولكن المهزأة تتمثل في أن النقاد الأدبيين، نظراً للامبالاتهم
المزاعم المقبولة ضمناً بتوافق الآراء، وخلفية مفروغ منها بداهة، وهكذا دواليك ودواليك. وإن دراسة التقرب تعني، في المقام الثاني، دراسة وإحياء الروابط بين النصوص والعالم، أي تلك الروابط التي طمس معالمها التخصص ومؤسسات الأدب طمساً كاملاً تقريباً. إن كل نص ماهو إلا فعل من أفعال الإرادة إلى حد ما، بيد أن الشيء الذي استبقي بعيداً عن الدراسة المعمقة هو تلك الدرجة التي بلغها تجويز النصوص. وهكذا فإن إحياء شبكة التقرب يعني استجلاء الوشائج التي تبقي النص على أوثق ارتباط بالمجتمع والكاتب والثقافة، فضلاً عن تبيان المعالم المادية لتلك الوشائج بغية توشيحها بها من جديد. وأما في المقام الثالث فإن التقرب يحرر النص من انعزاله ويفرض على الدارس أو الناقد مشكلة الإحياء التاريخي للإمكانيات التي انبثق عنها النص، أو إعادة بنائها مرة ثانية. وهنا يكون المكان الذي يتاح فيه للتحليل العقلي وللجهد أن يضعا النص في علاقات تشاكلية أو حوارية أو تصادمية مع غيره من نصوص وطبقات ومؤسسات أخريات.
لاشيء من هذا الاهتمام بالتقرب -كمبدأ من مبادئ البحث النقدي وكمظهر، في الوقت نفسه، من مظاهر السيرورة الثقافية ذاتها -يستحق وقفة طويلة مالم يكن أولاً: وليد بحث تاريخي أصيل (وأقصد أن على النقاد أن يشعروا بأنهم أنفسهم يقومون بالاكتشافات، ويحيلون الأشياء غير المعروفة إلى معروفة)، وثانياً: تثبيته كان في خاتمة المطاف بهدف فهم وتحليل وتوكيد إدارة القوة والسلطة ضمن الثقافة. واسمحوا لي الآن أن أعبر عن ذلك على النحو التالي: نحن إنسانيون لأن هنالك شيئاً يدعى بالحركة الإنسانية التي تستمد مشروعيتها من الثقافة، ومن الثقافة أيضاً تُحظى بقيمة إيجابية. والشيء الذي يجب أن يكون محط اهتمامنا للتو هو تلك السيرورة التاريخية التي عمد بواسطتها الصميم المركزي للأيديولوجيا الإنسانية لإنتاج الاختصاصيين الأدبيين، الذي أوّلوا أن ميدانهم مقصور على شيء يدعى الأدب الذي أنيطت بمكوناته (بما في ذلك استئدابه "literarity") أولوية معرفية وأخلاقية وأنطولوجية. وهكذا فإن الناقد الأدبي، بانصرافه انصرافاً كاملاً لهذا الميدان، يعزز الثقافة والمجتمع الذين يفرضان تلك القيود تعزيزاً فعالاً، في الوقت الذي يقوي فيه هذا التعزيز المجتمعات السياسية والمدنية التي يكمن نسيجها في الثقافة نفسها. وأما ماينجم عن ذلك كنتيجة فهو مايمكن أن يدعى بمنتهى المنطق بتوافق الآراء توافقاً واسعاً: فتحليل الأعمال الجمالية الأدبية تحليلاً شكلياً مقيداً يضفي الصفة الشرعية على الثقافة، والثقافة تضفي الصفة الشرعية على المفكر الإنساني، والمفكر الإنساني يضفي الصفة الشرعية على الناقد، وهذا المشروع برمته يضفي الصفة الشرعية على الدولة. وهكذا فإن السلطة تصان بفضل السيرورة الثقافية، كما أن كل مايتعدى تزيين القوة محظور على الناقد المزيّن. وعلى هذا المنوال نفسه، كان صحيحاً أن "الأدب" كوكالة ثقافية زاد من تعاميه مؤخراً عن تواطؤاته الفعلية مع القوة. وما ذاك الوضع إلا بالوضع الذي نحن بأمس الحاجة لإدراكه.
هيا وتأملوا الكيفية التي جرى بها تكوين هذا الوضع خلال القرن التاسع عشر بواسطة الخطاب الثقافي: وهنا سرعان مايخطر على البال أناس من أمثال آرنولد وميل ونيومان وكارلايل و راسكين. فنفس إمكانية الثقافة قائمة على فكرة التزيين. وإن فرضية آرنولد القائلة أن الثقافة ماهي إلا أفضل مايقال أوما يتمخض عنه الفكر هي الفرضية التي تعطي هذه الفكرة شكلها المرصوص. فالثقافة أداة لتحديد واصطفاء وتوكيد بعض "أفضل" الأشياء أو الأشكال أو الممارسات، أو لتفضيل بعض الأفكار على غيرها، وهي بفعلها ذلك فإنها تنقل وتنشر وتجزّئ وتعلم وتطرح وتبث وتغري، وفوق كل هذا وذاك فإنها تخلق نفسها وتعيد خلقها من جديد كجهاز مختص لفعل تلك الأشياء كافة. والأهم من ذلك كله هو أن الثقافة، كما أعتقد، تصبح بمثابة الفرصة السانحة لذلك المشروع الكلامي المنكسر الذي علاقته بالدولة مفهومة دائماً، ومفهومة دائماً سراً إن تكرمتم وجوزتم لنا لحن القول. فالرواية الواقعية تلعب دوراً أساسياً في هذا المشروع، وذلك لأن الرواية -ما أن تتحول إلى شيء "أعجب" من ذي قبل بكثير في عمل جيمز وهاردي وجويس- هي التي تنظم الواقع والمعرفة بتلك الطريقة التي تجعلهما عرضة لتناسخ كلامي نظامي. إن تلبيس الرواية لبوس الواقعية بعيداً عن أي عالم ما يعني الإتيان بمعايير تمثيلية أو تصويرية مصطفاة من بين احتمالات عديدة. وهكذا فإن الرواية تسعى جاهدة كي تضم وتقرر وتؤكد وتسوّي وتطبّع بعض الأشياء والقيم والأفكار، ولاسواها. ومع ذلك ليس من الممكن رؤية أو إدراك أي شيء من كل هذه الأشياء مباشرة في الرواية نفسها، علاوة على أن المهمة الوحيدة لمعظم النقاد الشكليين المعاصرين صارت تتجسد اليوم في التأكد من أن ذلك الإفصاح الدقيق الرائع الذي تفصحه الرواية عن اصطفائيتها يبدو بمنتهى البساطة إما كواقعية من وقائع الطبيعة وإما كشكلية أنطولوجية مسلّم بها، لا كنتيجة للسيرورة الثقافية السوسيولوجية. فرؤية الرواية على أنها متعاونة مع المجتمع لكي تلفظ المنبوذين من الناس كما نعتهم غاريث ستدمان جونز، تعني أيضاً رؤية الكيفية التي تنجم بها الإنجازات الجمالية العظيمة للرواية -في ديكنز وإليوت وهاردي- عن تقنية ماتستهدف تصوير واقتناص الأشياء والناس والبيئات والقيم في علاقة تقرب مع المعايير الاجتماعية والتاريخية الدقيقة للمعرفة والسلوك والجمال المادي.
فالرواية، من أوسع المنطلقات، ومعها التيارات السائدة في الثقافة الغربية الحديثة، ليست اصطفائية وتوكيدية وحسب، ولكنها تمركزية وقوية أيضاً. وإن المدافعين عن الرواية يثابرون على توكيد دقة الرواية وحرية التصوير وماشابه ذلك، الأمر الذي يوحي مضمونه أن الفرص المفتوحة للتعبير أمام الثقافة لاحدود لها. وأما الشيء المقنّع والمعمّى خلف أمثال هذه الأفكار فهو بالتحديد تلك الشبكة التي تشد وثاق الكتّاب مع الدولة ومع امبريالية "ميتروبوليتانية" على نطاق العالم زودت الكتاب، وقتما كانوا يكتبون، من خلال التقنيات الروائية للسرد والوصف بنماذج ضمنية للتكريس والانضباط والمجاراة. وإن السؤال الذي يجب علينا أن نسأله فهو: لماذا ليس هنالك إلا نفر قليل جداً من الروائيين "العظماء" يتعاملون مع وقائع وجودهم الخارجية الاقتصادية والاجتماعية الكبرى -أي الكولونيالية والامبريالية- ولماذا يدأب نقاد الرواية، في الوقت نفسه، على إجلال هذا الصمت المهيب؟ ترى، ماهو الشيء الذي ترتبط به الرواية، ومعظم الخطاب الثقافي المعاصر. بمقدار مايتعلق الأمر بالموضوع نفسه، بصلة التقرب سيان في لغة التوكيد أو في بنية التكريس والنبذ والكبت والاختراق كما هو عليه الحال في وسم الشكل الجمالي الأساسي؟ وماهي الكيفية التي جرى بها بناء المبنى الثقافي على هذا المنوال الذي يفضي إلى كبح جماح الخيال ببعض الطرائق، وإلى إطلاق العنان له بطرائق أخرى؟ وماهي الكيفية التي يرتبط بها الخيال بأحلام وبناءات ومطامح المعرفة الرسمية، والمعرفة التنفيذية والمعرفة الإدارية؟ وماهي، ياترى، كتلة المصالح المشتركة التي تنتج كونراد وكتباً مثل كتاب س.ل. تامبل المعنون بـ "الأعراق المحلية وحكامها"؟ وإلى أي مدى ساهمت الثقافة في أسوأ تجاوزات الدولة، بدءاً من حروبها الامبريالية ومستوطناتها الاستعمارية وانتهاء بمؤسساتها التي تبرر لنفسها ذاتياً ممارسة القمع اللاإنساني والبغضاء العرقية والاستغلال السلوكي والاقتصادي؟
مامن شيء كنت أحاول قوله في هذه العجالة هنا يوحي ضمناً باختراق العمق الخصوصي للتحف الثقافية الفردية، أو باختزاله وعزوه إلى القوى اللاشخصية التي من المفروض أن تكون هي المسؤولة عن إنتاج تلك التحف فدراسة التقرب الثقافي تستلزم فهماً دقيقاً لخصوصية الأشياء لابل، وهذا الأهم حتى، لأدوارها العقلية أيضاً، علماً أن أيهما لايمكن إيفاءه حقه المناسب لا بالاختزال ولا بالتزيين اليقيني. وإني لأظن بأن النزعة المادية الثقافية، وهي المصطلح الذي أطلقه ويليامز، تناسب الموقف الميثودولوجي الذي أحاول وصفه. إن النقد الأدبي الأمريكي بمقدوره أن يتستر على انعزاله المشروع اجتماعياً والمفروض ذاتياً ولو إلى حد ما، بخصوص التاريخ والمجتمع على الأقل. فهنالك عالم بأسره قيد الاستغلال لإجراء الأسباب الحكومية المزعومة وحدها وحسب بل وجراء مختلف صور النزعة الاستهلاكية اللاتاريخية التي يبشر تقوقع نزوعها العرقي واستفحال أكذوبتها بإفقار واضطهاد معظم أرجاء المعمورة. وإن مايفتقر إليه النقد المعارض المعاصر لايتمثل بذلك النوع من الأفق الموجود في المنهج التمديني للثقافة والمجتمع لدى جوزيف نيدام ليس إلا، بل ويتمثل أيضاً بغياب شيء من الإحساس بالاهتمام الجاد في عمليات التقرب الجارية من حولنا على قدم وساق، سواء أكنا نقرها أم لا. ولكن هذه الأمور، بالشكل الذي مافتئت أقوله مراراً وتكراراً، لأمور على علاقة، بالمعرفة لا بالتزيين. وختاماً يخامرني الشك في أن أكثر سؤال ملحاح يتوجب طرحه الآن هو ما إن كنا ننعم حتى اليوم بنعمة الخيار بين الاثنين%


nnn



9- النقد بين الثقافة والمنظومة



بين نوع من أنواع التأويل، وليكن ذلك النوع الذي يأتي به عالم لغوي في إعادة بنائه قواعد لغة بائدة، وبين نوع آخر أكثر إبداعاً بمنتهى الوضوح، وليكن ذلك النوع الذي يتضمن تأملات عن شخصية ديكنز ككاتب من أبناء الطبقة الوسطى في العصر الفيكتوري، هنالك تشابهات أكثر مما هنالك اختلافات. وإن هذه التشابهات تنبثق عن التلوث المحتوم الذي يتلوثه ذلك الشيء الذي من المفروض به أن يكون معرفة إيجابية وطيدة الأركان -عن التلوث الناجم عن كل ماهو بشري من تأويل وتوهم وتعمد وتحيز، ألا وهي تلك الأمور المغروسة كلها في الجبلة البشرية، في الظرفية البشرية، في النزوع منزعاً دنيوياً. فلقد تكشف لنيتشه وماركس وفرويد، كل بطريقته الخاصة، أن أمثال تلك الخطوات المأمونة بتوضوح في إنتاج المعرفة كجمع الأدلة وترتيبها، أو قراءة نص ما وفهمه، تشتمل كلها ضمناً على درجة عالية جداً من الشطط التأويلي الذي لايخضع للعقلانية والانضباط العلمي بمقدار مايخضع لتوكيد الإرادة والتأمل العشوائي الظالم (والظليم). وهكذا لم يبق أمام النقاد حينئذ إلا خطوة قصيرة لسوق الدليل على أن السؤال عما كان يعني النص نفسه صار عويصاً بعد أن كان سابقاً سؤالاً بسيطاً. إن ميشيل فوكو ليطرح هذه الأسئلة عن الكيفية التي نستطيع بها عملياً أن ننظر إلى هذا العوص على شكل سلسلة من الخيارات المربكة التي يجب، بناء عليها، اتخاذ القرارات الإبيستبمولوجية:
وماهو أبسط، للوهلة الأولى، من محاولة الوصول إلى قرار عما تعنيه الأعمال الكاملة (oeuvre) لكاتب ما؟ ألا وهي مجموعة النصوص التي يمكن تحديدها باسم واحد من أسماء العلم. ولكن هذا التحديد (حتى لو تنحت جانباً مشكلات العزوة) ليس مهمة متجانسة التكوين: فهل اسم كاتب مايحدد بالطريقة نفسها نصاً نشره تحت اسمه، أونصاً نشره تحت اسم مستعار، أو نصاً آخر وجد بعد مماته على شكل مسودة ناقصة، أو نصاً آخر لايعدو
كونه مجرد مجموعة من المذكرات الوجيزة، أو مفكرة ليس إلا؟ إن تثبيت الأعمال الكاملة يفترض سلفاً عدداً من الخيارات التي يصعب تبريرها أو صياغتها حتى: فهل يكفي أن يضاف على النصوص المنشورة من لدن الكاتب نصوصاً غيرها كان ينتوي نشرها وظلت على نقصانها وقت مماته؟ وهل يجب على المرء أن يضيف كل مسوداته الأولية والتمهيدية بكل مافيها من تصحيحات وتشطيبات؟ وهل يجب على المرء أن يضيف تلك المسودات التي استغنى عنها هو نفسه؟ وماهي المنزلة التي يجب إناطتها بالرسائل والحواشي وبالمحادثات المنقولة عن لسانه، وبالمدونات الواردة عما قاله على ألسنة أناس كانوا حاضرين وقتما قاله، وباختصار ماهي المنزلة التي يجب أن تناط بتلك الكتلة الهائلة من الآثار الكلامية التي يخلفها امرئ بعد مماته، والتي تلغو وتهذر حتى اللانهاية بلغات مختلفة وعديدة جداً؟... ولئن تحدث المرء، في واقع الأمر، ضبط عشواء وعلى غير هدى عن الأعمال الكاملة لكاتب ما، فما ذلك إلا لأنه يتصور أن الواجب يقضي تحديدها من خلال وظيفة تعبيرية معينة ... بيد أن من الواضح للتو أن مثل هذه الوحدة، التي لايمكن خلعها مباشرة على الأعمال الكاملة، ماهي إلا نتيجة لعملية ما، وماهذه العملية أيضاً إلا تأويلية (باعتبارها تحل في النص لغز شيء مدون يخفيه النص ويكشفه في آن واحد معاً)(1).
بيد أن الأمر لايقف عند هذا الحد وحسب، إذ إن هنالك سلسلة من الأسئلة المسبقة التي يتساءلها فوكو والتي يعتقد بأنها يجب أن تؤرق ولابد كل من يصدق أن الأعمال الكاملة مؤلفة من "تجزيء الكتاب تجزئياً مادياً" أو معتمدة على ذلك التجزيء، إذ حتى الوحدة المادية للكتاب مسألة تأويلية:
فهل الأمر نفسه في حالة مختارات من القصائد، أو في حالة مجموعة من النتف المنشورة بعد ممات الكاتب، أو في كتاب وازارغ المعنون بـ "بحث في المخاريط"، أو في مجلد من مجلدات "تاريخ فرنسا" لميشيليه؟ وهل الأمر هو نفسه في حالة قصيدة "ضربة نرد" لمالارميه، أو في محاكمة "جيل دو ري"، أو في "سان ماركو" لبوتر، أو في كتاب قداس كاثوليكي؟ أوليست الوحدة المادية للكتاب، بكلمات أخرى، وحدة هزيلة وثانوية بالقياس إلى الوحدة المنطقية التي تجد لها التعزيز بالوحدة المادية؟ ولكن هل هذه الوحدة المنطقية نفسها شيء متجانس التكوين وقابل للتطبيق باطراد؟ فرواية لستاندال ورواية لديستويفسكي لاترتبطان بعضهما ببعض بنفس صلة الفردانية التي تربط بين روايتين من مجموعة بلزاك المعنونة بـ "الكوميديا البشرية"... إن حدود كتاب ماليست مرسومة البتة بتلك الدقة المتناهية، إذ خلف عنوانه وأسطره الأولى وآخر نقطة في منتهاه، وخلف هيئته الداخلية وشكله المستقل، يكون الكتاب أسير منظومة من الأسانيد لكتب أخرى ونصوص أخرى وجمل أخريات: إنه مفصل واحد ضمن شبكة كاملة. وإن هذه الشبكة من الأسانيد ليست هي نفسها فيما يتعلق بمقالة رياضية أو تعليق نصي أوتقرير تاريخي، كما أنها ليست هي نفسها فيما يتعلق بحدث من الأحداث في سلسلة روائية، وذلك لأن وحدة الكتاب، حتى وهي في حالة زمرة من الصلات، لايمكن اعتبارها أنها هي هي في كل حالة من الحالات. فالكتاب بتلك البساطة ذلك الشيء الذي يمسكه المرء بكلتا يديه، وليس من الممكن له أن يبقى حبيس تينك الدفتين المتوازيتين الصغيرتين اللتين تحتويانه: إذ وحدته متقلبة ونسبية. وما أن يضع المرء تلك الوحدة موضع التساؤل حتى تفتقد الدلالة على ذاتها بذاتها، وذلك لأنها لاتدل على نفسها، لاتبني نفسها إلا على أساس ميدان خطاب مركب(2).
إن قليلاً من الباحثين العاملين في ميدان العلوم البشرية يتعبون أنفسهم جدياً بهذه الأسئلة، لا لأنهم كسالى أو أغبياء بمقدار ما لأن عملهم -كما يستفيض عمل فوكو نفسه في التوضيح- يدار كفاعلية متواصلة ضمن ميدان خطاب كان قيد التأسيس من ذي قبل. فمعظم الباحثين الأدبيين في هذه الأيام، مثلاً، لايولون الاهتمام الكبير للمنزلة، الإيبستيمولوجية للنصوص ولا حتى للكتاب الذين يكتبون عنهم. ولربما أن ذلك ليس واجباً عليهم باعتبار أن المكتبات والمجلات ونسخ الكتب الميسورة المنال والمؤسسات والتلاميذ والممارسة البيداغوجية، وقبل كل هذا وذاك، الباحثين الآخرين يسلمون بداهة برسوخ وطيد الأركان لكتاب وأعمال كاملة من أمثال شيكسبير أو روايات ويفرلي* أو "الرباعيات الأربع". والجدير بالذكر أن هذه النقطة ماهي بالنقطة التافهة لأن الخطاب المركب، ومثل من أمثلته يكمن فيما دعوته بالبحث الأدبي، يسلم جدلاً بتوافق الآراء على بضع نقاط جوهرية كشيء اقتصادي ومريح في آن واحد معاً. ففي دراسة سويفت، كما قلت آنفاً في هذا الكتاب، لايمكن أن يكون من الضرورة بمكان، في كل مرة تتناوله الكتابة، إعادة تفحص مصدر كل ماهو معروف عن سيرته أو تعديل المفهوم الناظم لأعماله الكاملة. وإن من المفروض بداهة أن هناك كاتباً يدعى سويفت، وأن أعماله تتألف من (قصة حوض وأسفار غوليفر واقتراح متواضع)، وأنه عاش في مطلع القرن الثامن عشر، وهلم جرا. وماهذه الأشياء كلها إلا بما يمكن أن ندعوه بالأفكار العامة الأولية وبالتخوم التي لايشعر الخبراء بشؤون سويفت أنهم مضطرون لتجاوزها. فالتخم موضع الفهم ضمناً، مع أنه نادراً ما يصاغ إلا بتلك الطرق التي سأبحثها لاحقاً، وماهو إلا نتيجة لعوامل عديدة: كتوافق آراء الخبراء في ميدان ما، وكتلة الكتابات السابقة، وإدارة التعليم والبحث، والأعراف الرائجة عما هو عليه كاتب أو نص ما، وهكذا دواليك.
وبما أن أمثال هذه التخوم موجودة في العلوم البشرية (حتى لو كان ذلك التزايد الهائل الذي تزايدته الصحف والكتب يثبت على مايبدو غياب الحدود كلها)، فهذا لايعني أن تحديدها يمكن أن يكون يسير المنال. وأحد أسباب ذلك واضح جداً. فنحن عموماً نفترض بداهة أن المعرفة عن الكائنات البشرية شيء لاينضب وشيء تراكمي، ولذلك يجب أن يكون من الممكن دائماً قول أشياء جديدة. ولئن كان ذلك ممكناً، فإن التخوم أو الحدود التي ترسم الخطوط العريضة لاختصاص من الاختصاصات حدود فضفاضة جداً، إن لم تكن وهمية. وإن كل من يحمل هذا الافتراض على محمل الجد سيكتشف بأنه طوباوي، حتى لو كان السبب يتمثل بالقول أن مايحدد شيئاً بأنه جديد فإنه يحدد، في الوقت نفسه، كل الأشياء الأخرى بأنها غير جديدة، وفي كلتا هاتين الحالتين لن يكون بوسع امرئ واحد الإتيان بأمثال هذه الأحكام، الأمر الذي يجعل أي إنسان عامل في ميدان ما يتقبل، جراء عملية تثاقف وتشابك مهني، ثمة معايير نقابية معينة ليصبح بالإمكان، بناء عليها، إجراء التمييز بين ماهو جديد وماهو غير جديد. ولكن هذه المعايير ليست بالطبع مطلقة، وليست أيضاً موضع إدراك تام. ومع ذلك فمن الممكن تطبيق تلك المعايير بمنتهى الصرامة، ولاسيما حين يشعر الإحساس النقابي الجماعي أنه نفسه عرضة للهجوم.
وعلى غرار ما أسلفت قوله في بحثي فكرة الأصالة، فإن مصطلحي الجديد وغير الجديد مصطلحان نسبيان جداً. ففي سياق الدراسات الأدبية لايشير هذان المصطلحان لا للابتكارات المقرونة بأصالة أو جدة كاتب "خلاق" (كالقول أن ديكنز كان أول روائي فعل كذا أوكذا) ولا لتأويلات النقاد الذين يظهرون، بطريقة من طرائق عديدة، أنهم أصلاء أوجدد. ومع ذلك ففي بحث إنجازات كاتب خلاق أو إنجازات ناقد ما، يعتمد مفهوما الإبداع أو الاتباع، في نفاذهما، الاعتماد الكبير على مدى الإقناع -أي على مهارة بلاغية معينة لإقناع جمهرة من القراء بهذه الأصالة- وعلى الحس السليم في الوقت نفسه (3). وإن أي امرئ قد يظن أن مقولة "رونالد فيربانك كاتب أفضل من جين أوستن" لمقولة مثيرة للسخط، في حين قد يكون من الممكن التساهل مع التعليق القائل أن سكوت كاتب أكثر أصالة من أوستن.
ولكن أمثال هذه التعميمات السهلة أقل براءة مما تبدو عليه. فخلفها وحولها وفي صميمها أيضاً، إن جاز مثل هذا التعبير، يقوم مركب كامل من التقييدات التي بعضها واضح وبعضها أغبش، بحيث يفعل فعله لاعلى ماقلته آنفاً وحسب بل وعلى كل مايكتبه أويقوله أي باحث. وأما التقييد الأساسي من بين هذه التقييدات فهو تلك الحقيقة المطلقة التي مفادها أنه مامن إنسان قادر على الإتيان بقولات عن كتلة من النصوص التي تدور عن ميدان عذري، وذلك لوجود حيز مرسوم سلفاً ومفتوح للباحثين الذين كل مابوسعهم فعله لايعدو إدراج عملهم ضمن سلسلة من أمثاله (شأنهم بذلك شأن الروائي الذي يجد أمامه عدداً من روايات أخرى ذات علاقة ما مع مايفعله) في ميدان بعيد كل البعد عن العذرة. ولذلك حتى نتمكن من تحديد الاحتمالات لمعرفة حقيقة في أحد الميادين، يجب أن يكون بمقدورنا أولاً أن نحدد لا ماهية تلك المعرفة وحسب أو ماقد تكونه بل والمكان الذي قد تندرج فيه، وماذا قد تفعل بخصوص كل ماسبقها إلى ذلك المكان (هل ستنقحه أم تؤكده أم تعدله)، وماهو الشيء المعاصر لها، والشيء الذي يرتبط بها في ميادين أخرى، وماهي العلاقة التي ستكون لها مع ماسوف يأتي بعدها (هل ستيّسر اكتشافاً آخر، هل ستصده، هل ستسدّ أفق ذلك الميدان، هل ستخلق ميداناً جديداً؟)، وكيف سيكون نقلها أو حفظها، وكيف سيكون تعليمها، وكيف ستقبلها أو تنبذها المؤسسات: وماهذه الأسئلة إلا بعض تلك الأسئلة التي تطرح نفسها. بيد أن السؤال الملحاح فمختلف قليلاً عما سبقه. ترى، ما الدور الذي يلعبه في هذه الأمور ذلك الشيء الذي دأبت على دعوته بالوعي النقدي؟ فهل على الوعي النقدي أو النقد (وأنا سأستخدم هذين المصطلحين ليعني الواحد منهما الآخر) بالأساس أن يأتي بالتبصرات عن الكتاب والنصوص، أي أن يصف الكتاب والنصوص (متناولاً سيرهم الذاتية وأعمالهم من منطلق نقدي ومستفيضاً بالتعليقات والشروح والكتيبات المتبحرة المختصة)، وأن يعلّم وينشر المعلومات عن الروائع الثقافية؟ أوهل عليه -وهذه مهمته على ما أتصور- أن يجهد نفسه بالظروف الفعلية التي تصبح المعرفة بناء عليها شيئاً ممكناً؟ ونحن، كي نرى ماهو الشيء الذي نستطيع معرفته من دراستنا النصوص، يجب أن يكون بوسعنا فهم وحدات المعرفة على أنها من وظائف النصية، الأمر الذي يجب أن يكون نفسه قابلاً للوصف بعبارات تتناول لا وكالات الثقافة بالأشكال التي اتخذتها لنفسها من خلال التاريخ والمؤسسات والسياسة والأيديولوجيا وحسب، بل تتناول أيضاً مستلزمات المنهج الواضح والشكل المادي للمعرفة -ذلك الشكل الذي، إن لم يكن مصدره مقدساً أو من خوارق الطبيعة، يجري إنتاجه في هذا العالم الدينوي.
ولسوف يبدو هذا كله، كمشروع نقدي، ضخماً وطموحاً إلى حد الاستحالة، في حين أن ماهو أسوأ من ذلك فهو ظهوره أيضاً. بمظهر الشيء الذي لايمت بأية صلة لما فعله تقليدياً أي دارس أو ناقد أدبي. وأما نقطة انطلاقي أنا فتكمن في ذلك الشعور العام، لابل والشعور النموذجي في رأيي، الذي شعره بعض النقاد حيال ابتعادهم عن التقاليد الراسخة للعمل الأدبي وللعمل الفكري على العموم. فالأزمة في الثقافة الحديثة أزمة بديهية نظراً لأن النقد فن، وفي الوقت نفسه، موضوع أزمة أيضاً. ولكن في الشكل الحاد المعاصر الذي تتخذه الأزمة والرد على الأزمة والذي أتعمق بدراسته هنا، هو أن مشكلة المعرفة، أي كيفية معرفتنا مانعرف، تلعب دور المشكلة المركزية.
وهأنذا الآن بودي دراسة ما أرى فيه أقوى ردين متبادلين على الأزمة. وهاتان الصيغتان هما الصيغتان المقرونتان باسمي جاك ديريدا وميشيل فوكو. ولسوف أبحثهما بإسهاب نقدي وتحليلي كمثلين عن محاولة تحويل المشكلات النصية في العلوم البشرية إلى توصيفات لعمليات المعرفة النصية. وعلاوة على ذلك سأسوق الأدلة على أن ديريدا وفوكو ماكانا يعتزمان وصف المعرفة وحسب بل وإنتاجها أيضاً إنتاجاً من ذلك الصنف الذي لايدخل في القوالب الجاهزة المعدة من قبل الثقافة السائدة ولا في كل تلك الأشكال التي يتنبأ بها ويلفقها منهج شبه علمي. وفي كلتا الحالتين، مع أن الواحدة منهما قد تكون مختلفة اختلافاً صارخاً عن الأخرى، هنالك جهد مقصود بغية إطلاق ثمة نوع من الاكتشاف النصي، ونوع رفيع التخصص، من أكداس مكدسة من المواد والعادات والأعراف والمؤسسات التي تشكل ضغطاً تاريخياً مباشراً. بيد أن الشيء الذي ينطوي على أهمية خاصة بالنسبة لي هو الكيفية التي يضع بها كل من ديريدا وفوكو عمله ضمن الحدود التي يفرضها ذلك التاريخ. وهكذا فإن أصالتهما لاتتكشف على أنها تكمن في غرابة مفرداتهما أو تقنياتهما بل في إعادتهما النظر والتفكير بتلك التقنيات.
ومن الصحيح الآن أن نقول بأن المرء ليصاب بالذهول لدى قراءة نقد بأقلام أناس من أمثال فوكو وديريدا، وذلك لأن الحقيقة تدل على أن نقداً من هذا النوع لايمكن أن يكون فرعاً من فروع الأدب المحض، إذ أن من العسير جداً على هذا النوع أن يكون على تلك الشاكلة، أو حتى أن يكون شكلاً رفيعاً من أشكال الشرح. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ر.ب. بلاكمور، وقد كان بلاكمور بالمناسبة ممثلاً عظيماً (للنقد الجديد) العتيد، لم يكن أيضاً على تلك الشاكلة حتى وهو في أفضل حالاته، مع أننا نميل إلى تناسي ذلك. فالغموض الذي يكتنف هذا النقد ومستلزماته التقنية ومحذوفاته لاتجعل منه فلسفة "مدرسة" جديدة، مع أن من الممكن له أن يتحول إلى معتقد رصين. ومع ذلك فيدعي هذا النقد بأنه، من حيث المبدأ، يقف على طرفي نفيض مع النقد التقليدي، على الرغم من تفريخه المؤسف ذلك العدد العديد من الأدعياء والأشياع الذين أعطوه أسوأ مظاهر المعتقد الرصين الذي لايمكن أن تحوم حوله الشبهات. وهكذا فإن النقد المعاصر جاء إلى الوجود لمجابهة مشكلات من النوع الذي تخلت عنه الفلسفة حينما استحال إلى ضرب من التقوقع والتحذلق الكلامي على غرار ماهو عليه في الموروث الإنكليزي الأمريكي. فالمشكلة التي تعتور اللغة ووجودها العويص والفريد لمشكلة مركزية بالنسبة لهذا النقد الذي تنطح للقيام بعبء إنتاج طراز من التفكير الذي يجب أن يكون، وهو في غمرة انهماكاته كما يقول فوكو: "معرفة وفي الوقت نفسه تعديلاً لما يعرفه، تأملاً وفي الوقت نفسه تحويلاً لنمط الوجود الذي يتأمل فيه"(4).
***
واسمحوا لنا الآن أن نبدأ بالإشارة إلى ذلك الاختلاف الكبير المدبّر على أوسع نطاق والمطبوع بطابع المبالغة من جراء النزاع الجدلي بين ديريدا وفوكو. إن موقفيهما النقديين متعارضان بناء على عدد من الأسس. ولكن الأساس الجدير بالاستفراد، على وجه التخصيص، في هجوم فوكو على ديريدا يبدو قميناً بالبحث أولاً ومفاده: أن ديريدا لا يولي اهتمامه إلا لقراءة النص وحسب، وأن النص ليس أكثر مما فيه بالنسبة للقارئ(5) فلئن كان ديريدا يرى أن أهمية النص تكمن في وضعه الحقيقي بما معناه بمنتهى البساطة أنه عنصر نصي دون أي أساس في أرض الواقع -وهذه هي وضعية الكتابة في مهب الريح "écriture en abîme" التي لما يتمكن النقد من معالجتها، والتي يتحدث عنها ديريدا في "الجلسة المشتركة- فإن فوكو يرى أن أهمية النص تستقر في عنصر قوة "pouvoir" مفاده استحقاق جازم للنص في أرض الواقع، حتى لو كانت تلك القوة خفية أو ضمنية. وهكذا فإن نقد ديريدا يدخلنا في قلب النص، في حين أن نقد فوكو يدخل بنا في النص ويخرجنا منه.
ومع ذلك لو تسنى سؤال فيكو وديريدا لما أنكرا أن مايوحد بينهما، أكثر حتى من ذلك الطابع التعديلي والثوري العلني الذي يطبع نقدهما، هو محاولتهما تبيين الشيء الذي يحجبه النص في العادة، ألا وهو مختلف الأسرار والقواعد والتلاعب الذي تتلاعبه نصية النص. فباستثناء كلمة واحدة ماكان فوكو، على ما أظن، ليبدي اعتراضه على تعريف النصية بشكل اعتباطي بعض الشيء كما ساقه ديريدا في مستهل مقالته المعنونة بـ "عقاقير أفلاطون" إذ قال: "لايمكن للنص أن يكون نصاً مالم يحجب عن أول متصفح له، ومنذ النظرة الأولى، قانون تأليفه وقواعد تلاعبه. وفضلاً عن ذلك يبقى النص عصياً على الإدراك بالعقل إلى أبد الآبدين. فقانونه وقواعده ليست حبيسة صندوق أسرار محال المنال، إذ إن واقع الأمر لايعدو ببساطة تعذر اقترانها بتاتاً، في الزمن الحاضر، بأي شيء مما يمكن القول عنه بدقة متناهية أنه مدرك بالعقل"(6)، ولربما أن الكلمة المعضلة هي "بتاتاً" الموصوفة من قبل ديريدا بمنتهى التحايل بشكل تفقد فيه شيئاً من قدرتها على التصدي، الأمر الذي سيفرض علي تجاهل توصيفات العبارة والحفاظ على جزمها القاطع. فالقول بأن مغزى النص وتكامله أمران محجوبان عن الأنظار يعني القول بأن النص يتستر على شيء ما، وهذا يعني بدوره أن النص يلمح، ولربما يعرض أيضاً، ويجسد ويمثل، بيد أنه لايفصح تواً عن شيء ما. وماهذا المذهب أساساً إلا مذهب المعرفة الروحية للنص، والمذهب الذي يوافق عليه فوكو وديريدا كل بطريقته الخاصة.
ولكن مشروع فوكو برمته، كما ساق فوكو لاحقاً حججه، اعتبر الأمر حقيقة واقعة، أي إن كان النص يتستر على شيء أو إن كان هنالك شيء حول النص محجوباً عن الأنظار، فإن من الممكن كشف هذين الشيئين وعرضهما ولو بشكل مغاير، وذلك لأن النص أصلاً جزء من شبكة القوة التي يتعمد شكلها النصي التعتيم على القوة تحت ستار النصية والمعرفة (savoir). وهكذا فقوة النقد الموازية تتمثل بإعادة النص إلى شيء معين من الوضوح. وعلاوة على ذلك: إذا كانت بعض النصوص تلبس لبوس نصيتها، ولاسيما تلك النصوص التي تبلغ آخر أطوار التطور المنطقي، لأن مصادرها في القوة كانت إما مدموجة في صلب سلطة النص كنص أو مطموسة، تكون مهمة الناقد المجتهد لعب دور الذاكرة الموازية للنص، بوضعه الشبكة حول النص، وأمامه في النهاية ليصبح بالإمكان رؤيته. إن ديريدا يعمل بروح على مزيد من نوع من أنواع اللاهوت السلبي(7). فكلما زاد من تشبثه بتلابيب النصية من أجل النصية ذاتها، تعاظمت تفاصيل الشيء غير الموجود هناك لفائدته - وذلك لأنني أعتبر أن مصطلحاته الأساسية من أمثال "انتشار، استكمال، عقاقير، ترخيصات، آثار" وماشابه ذلك، ليست مصطلحات لوصف "قناع البنية" وحسب، بل ومصطلحات شبه لاهوتية أيضاً تتحكم وتفعّل الميدان النصي الذي افتتحه عمله.
وعلى الرغم من ذلك فإن الناقد يتحدى، في كلتا الحالين، والثقافة وقواها المهيمنة بمنتهى الوضوح في النشاط الفكري، ألا وهو ذلك الشيء الذي يمكن أن ندعوه بـ "المنهج"، والذي يتنطح في تعامله مع النصوص إلى بلوغ منزلة العلم. إن التحدي مطروح بإيماءات ضخمة تشير إلى المفاضلة على نحو متميز، إذ في الوقت الذي يشير فيه ديريدا أينما كان إلى الميتافيزيك والفكر الغربيين، يشير فوكو في باكورة عمله إلى عصور وعهود ومعارف "epistemes" شتى، أي إلى تلك الكتل الكاملة التي تبني الثقافة السائدة على شكل مؤسسات طاغية. فكل طريقة من الطريقتين، طريقة فوكو وطريقة ديريدا، لاتحاول فقط تحديد هذه الكينونات المستهدفة بالتحدي، بل وتحاول أيضاً وبشيء من الإصرار نقض تحديداتها تلك، بالهجوم على رسوخ سلطان قانونها وتبديدها إن لاحت في الأفق أية بارقة أمل لذلك. وإن المقصود بعمل هذين الكاتبين كليهما هو استبدال استبداد وتوهم الإسناد المباشر -أي مايدعوه ديريدا بالحضور presence، أو بالمبهم مُحدّداً- بعطالة وحنكة النصية الموطودة الأركان فوق أساسها الخاص البالغ الشذوذ، وفي إصرارها المتطاول عند فوكو إلى حد بالغ. فنقض التحديد ونقيض المرجعية هما الرد المشترك على تلك العبقرية الوضعية positivist التي كان يمقتها ديريدا وفوكو كلاهما معاً. ومع ذلك كان في عملهما استنجاد دائم بالتجريبية، وبالمنظورية بكل مافيها من دقيق الفروق، مع الإشارة إلى أن هذين الأمرين مستقيان معاً على مايبدو من نيتشه.
ومن سخرية الأقدار أن يكون ديريدا وفوكو معاً موضع الاستجداء في هذه الأيام طلباً للنقد الأدبي، في الوقت الذي يدل الواقع فيه على أن أياً منهما لم يكن ناقداً أدبياً. فأحدهما فيلسوف، والآخر مؤرخ فلسفي. ومادتهما، من الناحية الأخرى، مادة هجينة على العموم: فهي شبه فلسفية وشبه أدبية وشبه علمية وشبه تاريخية، علاوة على أن وضعهما في العالم الأكاديمي أو الجامعي، على نحو مماثل، وضع متشابه. وإن ما أحاول جذب الانتباه إليه، على ما أظن، هو الشك الأساسي في عملهما حيال مايحاول فعله: فهل هو يحاول التنظير فيما يتعلق بمشكلة النصية أم أنه -وهذا شيء صارخ الوضوح في حالة ديريدا، ولاسيما منذ نشره مقالة "Glas"، غير أنه ملحوظ أيضاً في حالة فوكو- يأتي بنصية بديلة من عنديات كل منهما؟. وأما لاحقاً فأنوي أن أبحث المظهر التعليمي والمذهبي لعملهما، بيد أنني الآن أريد أن أقول ببساطة أن ديريدا قد حاول الإتيان، عند كتابه المعنون بـ "غراما تولوجيا" على الأقل، بذلك النوع الذي دعاه بالكتابة المزدوجة "écriture double" الذي يحرض نصفه الأول على قلب الهيمنة الثقافية التي يطابق ديريدا بينها وبين الميتافيزيك وسلاسله الهرمية، في حين أن نصفه الثاني "يتيح تفجر الكتابة في صميم الكلمة بحيث يؤدي هذا التفجر إلى تمزيق النسق المعهود برمته وإلى احتلاله مركز الصدارة"(8). فهذه الكتابة غير المتوازنة وغير الموازنة (decalée et decalante) يتقصد بها ديريدا أن تدفع الطية (pil) غير المنتظمة وغير المحسومة باعتراف الجميع والقائمة في عمله بين وصف النص الذي يفككه، وبين فرض النص الجديد الذي يجب الآن على قارئه أخذه بالحسبان. والأمر على الشاكلة نفسها في حالة فوكو، إذ إن هنالك "كتابة مزدوجة" (ولكنه ما هو بالنعت الذي يطلقه عليها) مقصود بها أولاً أن تصف (بالتمثيل) تلك النصوص التي يدرسها بأنها خطاب وأرشيف وقولات وهكذا دواليك، ومن ثم أن تطرح لاحقاً نصاً جديداً، نصه هو، يفعل ويقول ماطمسته النصوص الأخرى غير المرئية، كما أن فوكو يفعل ويقول ذلك الشيء الذي لن يفعله ويقوله أي إنسان غيره.
إن هذا التداخل النصي في كتابة كل من ديريدا وفوكو، والجاري قبل الكتابة وبعدها في أن واحد معاً، كان من تصميمهما لكي يبالغ في الفروق بين مايفعلانه ومايصفانه، بين عالم التمركز الكلامي وعالم الاستطراد من ناحية أولى، وبين المقالة النقدية التي يسوقها كل من ديريدا وفوكو من ناحية أخرى. وفي كلتا الحالتين هنالك ثقافة مسلم بها ومحط البرهان عليها مراراً وتكراراً، وإليها يصوبان سهام التجريد من التحديدات. إن تصويرهما لخصائص هذه الثقافة فياض بالطبع، ولكن بمقدار مايعنيني الأمر بهذا السياق فإن مظهراً واحداً لتلك الخصائص هو المعضل إلى أقصى الحدود.
ولنبدأ أولاً بفوكو. فكما يوجز لنا في كتاب "علم آثار المعرفة" وفي "مقالة عن اللغة" يقول بأن من المفروض بمنهج التنقيب الأثري أن يكشف عن الكيفية التي يهيمن بها الخطاب -الموضوعي والنظامي والأسير للتنظيم الرفيع بالصيغ اللفظية- على المجتمع والتي يتحكم بها بإنتاج الثقافة. ففرضية فوكو هي أن التعابير الفردية، أو أن الفرص التي تتاح لكتاب فرديين وتمكنهم من الإتيان بتعابير فردية، ليست محتملة في واقع الأمر. ففوق وتحت أية فرصة لقول شيء ما، هنالك جماعية ناظمة من تلك التي دعاها فوكو بالخطاب، وهذا الخطاب نفسه محكوم بالأرشيف. وهكذا فإن دراساته عن انتهاك القانون ونظام العقوبات والكبت الجنسي لدراسات ذات غفلية معينة، غفلية خلالها ومن جرائها كان الجسد البشري، كما يقول فوكو في "النظام والعقاب": "داخلاً في آلية القوة التي تستكشفه وتحطمه وتعيد تنظيمه من جديد". إن المسؤولية عن هذه الآلية "machinerie" تقع على عاتق نظام، على انعطاف يتخذه الخطاب حالما يدخل صفوف العدالة الإدارية، ولكن فوكو حتى هنا يلغي المسؤولية الفردية لا لمصلحة المسؤولية الجماعية بمقدار ما هي لمصلحة الإرادة المؤسساتية. "فهذه المناهج التي يسرّت الضبط المحكم لتشغيل الجسد، ذلك الضبط الذي ضمن الخضوع الدائم لقوى الجسد وفرض عليها علاقة الخنوع/ والمنفعة، يمكن دعوتها بالأنظمة" (9).
وهكذا فإن فوكو بطرائق شتى مشغول بإخضاع "assujetissement" الأفراد في المجتمع لأنظمة أو سلطة أسمى منهم بكثير. وعلى الرغم من أن فوكو تواق بوضوح لتفادي الحتمية المبتذلة في توضيح أعمال النظام الاجتماعي، فإنه يتجاهل تماماً مقولة القصد برمتها. وإن فوكو على دراية بهذه الصعوبة، على ما أظن، ولذلك فإن وصفه لما يدعى بإرادة المعرفة -la volonté de savoir- يحاول بطريقة ما تقويم اعوجاج التناسق في عمله بين الشيء الغفل بكل تهور وبين الشيء المقصود. ومع ذلك فمشكلة العلاقة بين موضوع فارد قوة جماعية (وهو الأمر الذي يعكس أيضاً مشكلة الجدل بين التصميم الإرادي والحركة المحتومة) لاتزال صعوبة واضحة يقر بها فوكو على الشكل التالي:-
هل يستطيع المرء أن يتحدث عن العلم وتاريخ (ومن ثم عن شروط وجوده وتغيراته، وعن الأخطاء التي ارتكبها، وعن التطورات المفاجئة التي دفعته على مسار جديد) بدون الإشارة إلى العالم نفسه- وأنا لا أتحدث هنا فقط عن فرد معين يمثله اسم علم ما، بل عن عمله والشكل الخصوصي لفكره؟ وهل من الممكن الإقدام على محاولة ذلك التاريخ الصحيح الذي يتتبع من البداية حتى النهاية مجمل الحركة التلقائية لكتلة غفل من المعرفة؟ وهل من المشروع، بله والمفيد، الاستعاضة عن "الفكرة التقليدية س القائلة أن..." والإتيان بدلاً عنها بالقول "كان من المعروف أن..."؟ بيد أن هذا هو بالضبط الشيء الذي تنطحت لفعله. فأنا لا أريد أن أنكر صحة السير الذاتية الفكرية، أو إمكانية تاريخ عن النظريات أو المفاهيم أو الموضوعات. إن الأمر لايعدو بمنتهى البساطة أنني أتساءل عما إن كانت أمثال هذه التوصيفات كافية بحد ذاتها، وعما إن كانت توفر الإنصاف للكثافة الهائلة للخطاب العلمي، وعما إن لم يكن هنالك وجود، خارج إطار حدودها المألوفة، لشبكات من النواظم التي تلعب دوراً حاسماً في تاريخ العلوم. ولكم أحب أن أعرف ما إن كانت الموضوعات المسؤولة عن الخطاب العلمي ليست، في وضعها ووظيفتها وانطلاقاً من استعدادها وإمكانياتها العملية، أسيرة تحديد الظروف التي تتحكم بها، لابل حتى وتطغى عليها(10).
وهذا نقد ذاتي لاذع، وفيه شيء من الاستعطاف على الأرجح -بيد أن الأسئلة لاتزال تستوجب الإجابة. وإن من المؤكد أن عمل فوكو، منذ صدور كتابه "علم آثار المعرفة" ومنذ المقابلتين الطويلتين في عام 1968 مع (Esprit و Cahiers pour L’analyse)، تطور في تلك الاتجاهات التي أوحت بها ملاحظته عن الأفراد، وهي: "أتساءل عما إن كانت أمثال هذه التوصيفات كافية بحد ذاتها". أي أنه جاء بمجموعة تفصيلية هائلة من التوصيفات الممكنة التي هدفها الأساسي هو، من جديد، أن تطغى على الموضوع أو التصميم الفارد والاستعاضة عنه بقوانين صياغة منطقية سريعة الاستجابة مفصلاً، ألا وهي تلك القوانين التي لايستطيع أي فرد بأم عينه أن يغيرها أو يتحايل عليها. فهذه القوانين موجودة، كما يناقش الأمر، ويجب الامتثال لها وذلك لأن الخطاب بالأساس ليس مجرد توشيح المعرفة بالوشاح الرسمي وحسب، لا بل وهدفه التحكم بالمعرفة والتلاعب به، من لدن الهيئة السياسية، أي الدولة في خاتمة المطاف (مع العلم أن فوكو كان مراوغاً فيما يتعلق بهذه النقطة). ولربما كان اهتمامه بالقوانين يشكل جزءاً من السبب الذي منعه من معالجة التغير التاريخي، أومن تقديم وصف له.
إن تأفف فوكو من كون الموضوع سبباً كافياً للنص، ولجوءه إلى الغفلية الخفية التي تتسم بها القوة المنطقية والأرشيفية (الحكومية)، لعلى انسجام عجيب مع تلك النسخة الخاصة التي طرحها ديريدا عن الإكراه. فهذا الجانب من عمله جانب معقد جداً وجانب، بالنسبة لي، عسير جداً أيضاً. وإن هنالك، من ناحية أولى، إشارات متكررة يشير بها فوكو إلى الميتافيزيك الغربي، وإلى فلسفة حضور بكل ماتستدعيه وتوضحه فيما يتعلق بتشكيلة واسعة من النصوص بدءاً بأفلاطون مروراً بديكارت وهيغل وكانط وروسو وهايدغر وانتهاء بليفي شتراوس. وهنالك، من ناحية أخرى، تنبه ديريدا للتفصيلات والمحذوفات سهواً والتشوشات، والاحتياطات حيال بعض النقاط الأساسية الموجودة في عدد من النصوص الهامة. وإن الشيء الذي تتقصد الكشف عنه قراءاته للنص هو ذلك التواطؤ الصامت بين الضغوط التي تمارسها البنية الفوقية للميتافيزيك وبين البراءة الملتبسة لكاتب ما بخصوص تفصيل من التفاصيل على مستوى القاعدة -كذلك التمييز اللفظي المحض الذي ميزه إدموند هوسرل بين الإشارتين الدلالية والتعبيرية أو التذبب (المبحوث في Ousia et Grammé) بين ama وnun*لأرسطو(12). ومع ذلك فإن العميل الوسيط بين القاعدة والبنية الفوقية لاهو موضع الذكر ولاهو، في الوقت نفسه، موضع الأخذ بعين الاعتبار. ففي بعض الحالات، بما فيها الحالتين اللتين جئت على ذكرهما، مايشير إليه ديريدا هو أن الكاتب قد تملص عامداً متعمداً من المشكلات التي فاجأته من جراء سلوكه اللفظي، وهو الحدث الذي يجب علينا فيه أن نفترض أن الكاتب ربما كان، رغم أنفه، رهين ضغوط من البنية الفوقية ومن التحيزات الغائبة "للميتافيزيك". ولكن في أمثلة أخرى، فإن الممارسة النصية التي يمارسها الكاتب نفسه تكون منقسمة على نفسها، إذ إن القلقلة التي ينطوي عليها مصطلح ما -من أمثال pharmakos أو supplément أو hymn - مبنية في صميم النص وتحركاته. بيد أن السؤال عما إن كان الكاتب مدركاً لهذه القلقلة أم لا فسؤال مطروح من قبل ديريدا مرة واحدة ليس إلا ومن ثم يحال إلى غياهب النسيان. وهاكم الآن معالجته لهذه المشكلة معالجة فيها شيء من المواربة في كتابه المعنون بـ "of Grammatoloy":
بعد أن بينت بالحدس وعلى سبيل الاستهلاك- وظيفة الدلالة "تكملة" في نص روسو، فإنني أعد نفسي الآن لإعطاء امتياز خاص، بطريقة قد يعتبرها بعضهم مفرطة، لنصوص معينة مثل " مقالة عن أصل اللغات" ولبعض النتف الأخرى عن نظرية اللغة و الكتابة. ولكن بأي حق؟ ولم هذه النصوص القصيرة، المنشورة في أغلب الأحوال بعد وفاة الكاتب والصعبة التصنيف،
بلا أي تاريخ وإيحاء معينيين؟ فعلى هذه الأسئلة كلها، وضمن منطق الترتيب الذي هي عليه، ليس هنالك إجابة مقنعة. وإلى حد ما، وعلى الرغم من الاحتياطات النظرية التي أصيغها، يكون اختياري مفرطاً في حقيقة الأمر.
إن السؤال الذي يطرحه ديريدا فعلاً على نفسه هو ما إن كان الشيء الذي يفعله وما إن كانت النصوص التي اختارها لهذا التحليل لروسو على أية علاقة بروسو، أي بما يفعله روسو أو بما كان ينوي فعله. ترى، هل أضفى روسو القيمة والتوكيد على "مقالة عن أصل اللغات" أم لا؟ وبالإضافة إلى ذلك ألا يزال ديريدا نفسه، في طرحه تلك الأسئلة ومن ثم قوله بعدئذ ما من إجابة مقنعة عليها، معتمداً على نفس فكرة التصميم التي حاول جعلها "مفرطة" بالنسبة لمنهجه؟ إذ على الرغم من إصرار نقده على الإتيان بأفكار جازمة وقاطعة كالمصدر أو الأصل، فإن كتابته مفعمة بها. وإن كلمة "الامتياز" التي يستخدمها لوصف مايفعله هو لا تقلل، شأنها شأن هروبه في نهاية الصفحة إلى كلمة "الإفراط"، من اعتماده على تصور روسو ككاتب ذي عمر زمني ميسور تحديده، وذي معيار واضح للنصوص، وذي أعمال ومراحل ميسور تصنيفها والإدلاء بمعطيات عنها، وهلم جرا. وعلاوة على ذلك هنالك قرن معروف بالقرن الثامن عشر، وعصر معروف بعصر روسو، ومدى أوسع نطاقاً بكثير معروف بالفكر الغربي -فهذه الأمور كما يبدو تمارس شيئاً من التأثير على ماتعنيه النصوص، على إرادتها في القول "vouloir- dire". وإن مايدل عليه اسم "روسو" في هذا كله لشيء أكبر بكثير مما يستطيع ديريدا تجاهله بمنتهى الوضوح، حتى حين يطوق الاسم بالأقواس. فإلى أي حد يجب فهم عبارة "اختياري أنا" كدليل عن المشيئة الفكرية المحض، وإلى أي حد يجدر فهمها كفعل منهجي من أفعال الانعتاق الفلسفي من "عتو عصر تمركز الكلمات"؟ وهل أنيط التوكيد بكلمة "تكملة" قبل إناطته بكلمة "إفراط" التي جاء بها ديريدا، وهل هي، نظر لذلك، معبره الذي أعده له جزئياً روسو نفسه للخروج من عالم تمركز الكلمات، أو هل أن الخيار جاء على نحو مفرط ولذلك كان مجيئه من الخارج، وعندها تفرض علينا تلك الحالة أن نسأل عن الكيفية (باعتبار أن المنهج هو القضية) التي يتمكن بها من أن يضع نفسه منهجياً خارج عالم تمركز الكلمات في الوقت الذي لم يتمكن فيه أي كاتب آخر من تحقيق ذلك؟ وماهو سياق تلك المشيئة التي تيسر مثل هذا التحول الذي يتحوله فيلسوف رهين شرك الألفاظ إلى قارئ جديد وكفء؟
إن خطورة هذه الأسئلة مثبتة من قبل ديريدا نفسه الذي رقش مقالته النقدية عن كتاب "تاريخ الحماقة" لفوكو باعتراضات على تقصدها، بمنتهى الترفع، تجاهل تواطؤاتها المنطقية. فديريدا، في اتهامه فوكو بأنه لم يعالج كما ينبغي المشكلات الميثودولوجية والفلسفية المتعلقة ببحث صمت اللاعقلانية بلغة عقلانية إلى حد ما، يستهل مسألة الدقة المتناهية عند فوكو. إذ حتى لو كان فوكو يدعي بأنه نفسه يستعمل لغة محفوظة في نسبية محضة دون اللجوء للاستعانة بشيء آخر"، فلديريدا ملء الحق في أن يتساءل "وماهو ذلك الشيء الذي يعزز، في خاتمة المطاف، هذه اللغة دونما إعانة أو مساندة: من ذا الذي يعبر بالدقة عن إمكانية انعدام الإعانة؟ من ذا الذي كتب ومن ذا الذي سيفهم، بأية لغة ومن أي وضع تاريخي للكلمات، ومن ذا الذي كتب تاريخ الجنون هذا ومن ذا الذي سيفهمه؟"(14). فهنا تكمن المسألة في الادعاء الذي يدعيه فوكو من أنه يحرر الحماقة من حبسها القسري في صميم الثقافة الغربية. ورداً على هذا الادعاء يجيب ديريدا قائلاً: "يستميلني الإغراء لاعتبار كتاب فوكو بمثابة تلميح قوي للحماية والاحتواء، تلميح ديكارتي لصالح القرن العشرين، تجيير للسلبية من جديد. فالعقل، حسب ظواهر الأمور، هو الشيء الذي يحتبسه فوكو، بيد أنه يختار كديكارت عقل البارحة هدفاً له لا إمكانية المعنى على العموم"(15). إن الشيء الذي فعله فوكو، والشيء الذي ادعى ديريدا اكتشافه في فوكو، هو أنه قرأ ديكارت قراءة سطحية ساقته إلى إساءة فهمه وغلى تكييف أفكار الشك إلى الحد الذي جعل ديكارت يبدو وكأنه قد فصل الحماقة عن العقل، في حين أن قراءة دقيقة لنصوص ديكارت تدل، كما يقول ديريدا، على النقيض من ذلك تماماً، أي على مامفاده أن نظرية المغالاة في الشك لدى ديكارت تتضمن فكرة "العبقرية الشيطانية" التي لم تكن وظيفتها استبعاد الحماقة بل احتواءها كجزء لايتجزأ من ذلك التصدع البدئي والمبدئ الذي ينخر نظام العقلانية نفسه. وإن هذا التدبير المربك فيما بين العقل والجنون والصمت واللغة هو الشيء الذي يتهم ديريدا فوكو بتجاهله في الوقت الذي يبدو فيه بأنه يلمح إلى خارجية المنهج الأثري بالنسبة لبنى الاحتباس والتسييج بالشكل الذي يصفها فيه.
وبما أنني قد عملت على تبسيط مماحكة بالغة التعقيد فلن أكرر هنا إجابة فوكو على النقد الذي وجهه إليه ديريدا وذلك لأن اهتمامي يدور حالياً حول الافتراض الذي يفترض به ديريدا وجوداً فعلياً لعالم ميتافيزيكي متمركز الكلمات، كما يدور عن التساؤل عن الكيفية التي يصبح بها الكتاب الذين يفحصهم كشواهد عن ذلك العالم جزءاً منه: وإنني لأنظر إلى هذه المسألة نظرة طافحة بمنتهى الجد إذ ليس من الواضح بتاتاً كيف أن مغالطة تمركز الكلمات -التي تتخذ لها أشكالاً عديدة شتى: كالتعارض الثنائي الذي تتعارضه أحكام القيم الأخلاقية إذ يطغى الواحد منها على الآخر في الوقت الذي من الواضح فيه أنهما مصطلحان متكافئان، والسلاسل الهرمية المنظمة تنظيماً أبوياً متوارثاً، وتمتين التعصب العرقي، والخصاب الجنسي- أي كيف أن هوى تمركز الكلمات يدس نفسه خلسة لاستهلاك الميتافيزيك الغربي، أوكي يصبح القسط الأعظم فيه. وليس من الواضح في الوقت نفسه كيف أن الأهواء الميتافيزيكية، بما في ذلك إهمال العلامة والتوقان المرضي للحضور، يمكن أن تعزى، من الناحية الأولى، إلى سقطات الكاتب ومحذوفاته وانسلاله من مصطلح إلى آخر (dérapage)، ويمكن أن تعزى، من الناحية الثانية، إلى المخططات المحبوكة عامداً متعمداً بمنتهى الوضوح من قبل الميتافيزيك الغربي على أشياعه. فهنالك حرص ديريدا على عرض الأخطاء الصغيرة والزلات الهامة التي تزل بها أقدام الكتاب وهم ينتقلون من شيء إلى آخر انتقالاً طائشاً، وهنالك من ثم ديريدا في استغاثته بتأثير فلسفة الحضور التي تعمل -كما يبدو عليها- عمل وسيط لشيء آخر أكبر وأشد عتواً يدعى بالميتافيزيك الغربي.
ولئن كنا لانريد أن نقول أن بيت القصيد في فلسفة الحضور هو إنجاز بعض الأشياء لا في النص وحده بل وفيما هو خلف النص أيضاً، أي في مؤسسات المجتمع على سبيل المثال، نكون عندئذ مضطرين أن نقول أن إنجازات الميتافيزيك الغربي هي (أ) إفساد النثر الفلسفي ببعض عيوب منطق زائف و(ب) تفكيك النصوص الغربية من قبل ديريدا. إن إرادة ديريدا، كقارئ لهذه النصوص، تحقق إذاً ذاتها، ألا وهو الإجراء الذي لانهاية له نظرياً باعتبار أن عدد النصوص التي يجب تفكيكها كبير كبر الثقافة الغربية، ولذلك فهو من ثم عملياً لانهائي. فهل نبتعد عن الدقة تماماً حين نقول بأن استبعاد ديريدا الإرادة والتصميم لمصلحة مايدعوه بالبديل اللامحدود استبعاد يخفي، أو ربما يهرب، فعلاً من أفعال ديريدا الإرادية، وفعلاً تنطوي فيه استراتيجية التفكيك، المعتمدة على نظرية من نظريات انتفاء إمكانية التردد واستبعاد التحليل السيمانتي، على الإتيان بأفق سيمانتي جديد، والإتيان من ثم بفرصة تأويلية جديدة مقرونة باسم يدعى بديريدا؟ وإلى الحد الذي اغتنم فيه تلاميذ ديريدا فرصة الإفادة من هذه الاستراتيجية، ومن "مفاهيمها" أيضاً، برز إلى الوجود نوع من معتقد رصين تقوم أركانه على الإيمان بتعاليم وأفكار معينة بشكل لايقل عن الإيمان "بالميتافيزيك الغربي"، الأمر الذي لايتحمل مسؤوليته ديريدا طبعاً.
ولكنني لست على قناعة بأن أمثال هذه المعتقدات توجد بأية طريقة بسيطة جداً وسلبية نوعاً ما، أي أن الأكثر احتمالاً بكثير على مايبدو هو أن أية فلسفة أو نظرية نقدية تبرز إلى الوجود وتكون موضع الرعاية لا لتكون هناك وحسب، ولتتحدث حديثاً سلبياً عن أي إنسان وعن أي شيء، بل لكي تكون موضع التعليم والانتشار، لكي تستنقع بها مؤسسات المجتمع بشكل قاطع، لكي تكون الأداة لحفظ أوتبديل أو زعزعة أركان هذه المؤسسات وذلك المجتمع. وحيال هذه المقاصد الأخيرة كانت مختلفة استجابة كل من ديريدا وفوكو -علماً أن هذا الأمر هوما يستقطب انتباهنا لهما. فكل منهما حاول بطريقته الخاصة أن يفصّل شكلاً من أشكال الانفتاح النقدي والحنكة النظرية المتواصلة التجدد، أي ذلك الشكل الذي يستهدف تصميمه أولاً توفير معرفة ذات نوعية خاصة جداً، وثانياً إتاحة فرصة للمزيد من العمل النقدي، وثالثاً تفادي -إن أمكن- كلاً من العمليات التي تؤكد بها الثقافة ذاتها، ورتابة نظام نقدي سائب مفتوح كله للتنبؤ.
إن ديريدا، منذ باكورة تأملاته في مختلف البرامج المطروحة في المناهج الفلسفية والنقدية، تلمّس سمة الخدمة الذاتية في هذه المناهج. فالاستعارة العسكرية والصيودة استعارة ملائمة، على ما أظن، نظراً لأن ديريدا تحدث بأمثال هذه المصطلحات عما كان يفعل. وأما أنا فلا أشير هنا إلى المقابلات المنشورة في مجلة "مواقف" وحسب بل وأشير أيضاً إلى مقالته المعنونة بـ "كيف تبدأ وكيف تنتهي الهيئة التعليمية المنشورة في مجموعة "سياسات الفلسفة"(16). إن ماحرض واستقطب نواياه العدوانية هو الجانب البصري تقريباً لهذه المناهج، أي ذلك الجانب الذي يبدو فيه النص كله، أوالمشكلة التي يبحثها النص، ثنائياً أو مزدوجاً في نص الناقد أو الفيلسوف -الأمر الذي يجعل الحل من ثم مضللاً. ولكن لايمكن أن يحدث هذا إلا إذا كان النص الأصلي، أو المشكلة الأصلية ، موضع تصوير الناقد تصويراً تخطيطياً وذلك كي يتمكن النص النقدي من احتواء المشكلة على نحو كامل وكي يبدو النص النقدي واقفاً جنباً إلى جنب مع النص الأصلي وكأنه يحتاط لكل ما فيه أيضاً.
إن مجمل إجراء ديريدا يتقصد أن يبين، إما في الألفة المزعومة بين النصين الأصلي والنقدي وإما في تصوير المشكلة من قبل النص، أن هنالك شيئاً يملص دائماً لأن النقد عاجز عن الاحتياط لكل شيء من خلال التصوير المزدوج أو الثنائي. وبما أن الكتابة نفسها شكل من أشكال التملص من أية خطة يستهدف تخطيطها سد الطريق على الكتابة وكبح جماحها وتأطيرها ومطابقتها تماماً، فإن أية محاولة لإظهار الكتابة بأنها عرضة بشكل أو بآخر لأن تكون ثانوية ماهي إلا محاولة أيضاً للبرهان على أن الكتابة ليست أصيلة. ولذلك فإن العملية العسكرية التي ينطوي عليها التفكيك ماهي جزئياً إلا هجوم على المستعمرين الذين حاولوا تجيير الأرض وسكانها لتحقيق مخططاتهم، وماهي جزئياً أيضاً إلا هجوم بالمقابل لإطلاق سراح السجناء وجزئياً لتحرير الأرض المغتصبة بالقوة. وإن الشيء الذي يبينه ديريدا مراراً وتكراراً هو أن الكتابة "écriture"- وهنا علينا أن نلاحظ أن ديريدا يطرح فعلاً، سواء أقر بذلك صراحة أم لا، تعارضات وموضوعات وتعريفات وتسلسلات بين مختلف أصناف الكتابة- ليست مجرد عملية إنتاج وطمس، واقتفاء أثر شيء ما ومعاودة اقتفائه من جديد، بل وإنها بالأساس عملية إفراط زائد، عملية فيض واقتحام، شأنها شأن عمله نفسه في محاولاته اقتحام حدود مختلف ضروب قمع المفاهيم.
وهنا أود الإشارة، قبل أن أضرب الأمثلة عن التمزيق التنقيحي الذي يمارسه ديريدا فيما يتعلق بالاستنساخ والاحتواء النقديين، إلى شيء واحد هام بخصوص اختياره النصوص. فمعظم تلك النصوص هي النصوص التي ليس فيها من السرد إلا أقله، أو النصوص التي تستخدم السرد لتوضيح أو تصوير نقطة ما. وإن مثل هذا الاختيار للنصوص يماثل الاختيار الوارد في عمل أتباع ديريدا وحلفائه. فالسرد التوضيحي هو بالدقة وفي حقيقة الأمر -كما يستخدمه مثلاً أفلاطون أو روسو أو ليفي شتراوس- مايجتذب الاهتمام الشكاك لديريدا (في حالة ليفي شتراوس) إلى محذوفات الكاتب وتواطؤاته، أو إلى مايحاول الكاتب، في غموض ذلك السرد، إظهاره واستبطانه في آن واحد معاً (كالسرد الذي يسرد به روسو اللغة على نحو متفجر وكأنها تكملة لانفعال الإنسان البدائي). وبمقدار ما كان ديريدا ينهمك بنصوص ذات طابع تاريخي بمنتهى الوضوح (والمثل الوحيد كتاب "تاريخ الحماقة" لفوكو)، كتلك النصوص الملتزمة بفرضية عن التسليم ببداهة النتيجة في صميم بنيتها الداخلية، كان الشيء الذي يستقطب اهتمامه، على نحو مماثل، هو مايبدو على شكل انقطاع مؤقت في الوصف (نظرية ديكارت عن الأحلام والجنون).
فماذا يعني هذا التجنب للسرد؟ لقد كان ديريدا، باعتباره كان يركز على البعد النظري للوصف في تحليلاته يؤكد على أهمية الخلط الاحتيالي للتسلسلات الهرمية والتعاليم والتغرضات المدسوسة من باب تجاهل العارف، وينتقدها في الوقت نفسه. والآن فإن الرواية الواقعية، على نقيض غيرها من النصوص الأخرى، محكومة بنمط تصوير مختلف ولا متكلف. وعلى الرغم من صحة القول أن روايات عديدة تستخدم نفس تلك الحيلة المتمثلة بسرد الراوي لقصته على جمهور من المستمعين، فإن تلك الحيلة مندمجة في الرواية ولذلك فإنها تخيل موضع الإقرار به سلفاً -أي إنها، في مصطلحات ديريدا، محاكاة ساخرة أو تكملة أو صورة. وعلاوة على ذلك فإن الكثير من الروايات الحديثة -ماهي في حد ذواتها إلا، كما حاولت أن أبين فيما يتعلق بكونراد، تناوب فيما بين الكتابة والتحدث -والتناوب فيما بين الحضور والغياب. فحتى إشكالية النصية نفسها لا هي موضع التجاهل ولا هي موضع التملص في الوقت نفسه، بل يصار إلى تحويلها إلى مظهر متعمد وتكويني واضح من مظاهر السرد. ولسرعان ما يخطر هنا على البال ستيرن، لا بل وكذلك سرفانتس وبروست وكونراد، والكثيرون غيرهم. فبيت القصيد هو أن هذه الموضوعات، التي هي بمعنى مانفس الموضوعات التي يشكلها نقد ديريدا، توجد مسبقاً في السرد لا كعنصر خبيء (ومن ثم غير مقصود) بل كعنصر أساسي. ولذلك فإن أمثال هذه النصوص لايمكن تفكيكها، باعتبار أن تفكيكها كان موضوع الاستهلال من قبل وعن دراية ذاتية من لدن الروائي والرواية أيضاً. وهكذا فإن هذا الجانب من السرد يطرح التحدي، غير المطروح حتى حينه، فيما يتعلق بالشيء الذي يجب فعله بعد أن يكون التفكيك قد قطع لتوه شوطاً لابأس به، أي بعد أن تصبح فكرة التفكيك غير قادرة على تمثيل جسارة فكرية محبوكة.
وعلاوة على ذلك فتاريخ الرواية، أو تاريخ حبكة الرواية في قلب الرواية، قد خضع بطريقة هامة واحدة إلى تطور حاسم: فالرواية تتخطى وتتجاوز سيرة الفرد كبنية تنظيمية لها. فلئن تقارن روبنسون كروزو أو توم جونز بمارلو أو كيرتز أوجود يعني أن ترى للتو لا الاهتمام المطلق تقريباً في الفن الروائي بالدور المؤسس لسيرة الفرد وحسب، بل ويعني أن تلاحظ أيضاً بروز الكتابة نفسها في الفن الروائي بروزاً رائعاً متزايداً كبديل لسيرة الفرد، أو كتكملة لها. إن موضوع الأبوة وبرفقته كل صرح البنوة بما له من دور مركزي في إدارة الفن الروائي، فضلاً عن الأفكار الرئيسية للانتماء الذاتي وسلالة النسب والأبوة والزواج: كل هذه القضايا تتعرض لتبدلات عميقة خلال مسيرة الروايات في مؤخر القرن التاسع عشر ومقدم القرن العشرين. والقول الفصل فيما يتعلق بهذه التبدلات هو أنها لم تنجم بأية طريقة مبتذلة عن عوامل /اقتصادية/ سوسيولوجية عرضية، وإنما تبرز إلى الوجود إبان نزوع الفن الروائي منزعاً دنيوياً مطرداً. ففي الوقت الذي كان فيه الروائي يعزو إلى نفسه وإلى خلفه قوى إنجابية وشبه إلهية جازمة، كانت هذه القوى تتعرض، في مسيرة أدائها أداء معززاً في الزمن التاريخي الفعلي، للإقرار بظروفها الدنيوية أو الأرضية. وإن هذه الظروف لتكشف الروائي وهو يمارس الكتابة، لا على صورة إله صغير يمارس الخلق ولا على صورة امرأة أو رجل يعرض شيئاً ما. فالروائي، سواء أكان فلوبير أو بروست أو كونراد أو هاردي أو جويس، مدرك لذلك الخطاب الذي يشكل هو نفسه طوعاً جزءاً منه. وفي هذا كله نجد شيئين يعجز التفكيك، كاستراتيجية تأويلية عامة معتمدة زوراً وبهتاناً على السمات العامة للفكر الغربي، عن معالجتهما أولهما: الكتابة كفعالية سطحية بالغة التعقيد وعنصر شكلي في الفن الروائي، وثانيهما: الكتابة التي تبدو متميزة سلفاً عن أية فعاليات أخرى لا لأنها قرار من قرارات القضاء والقدر، بل لأنها ثمرة نشوء تاريخي فريد من نوعه بالنسبة للشكل الروائي نفسه، على الرغم من أنه نشوء عويص بشكل مطلق.
ـــــــــــ
إن ديريدا يتحدث في كتابه "Grammatology" عن "مضاعفة التعليق المطموس والمحترم"(17)، أي عن تلك الفكرة التي مفادها أن الناقد يقرأ تقليدياً نصاً معيناً في الوقت الذي يحترم فيه رسوخه المفترض ويستنسخ ذلك الرسوخ بمنتهى الأمانة في تعليق نقدي يقف جنباً إلى جنب مع النص الأصلي. وإن قراءة نص شعري تطرح، بشكل مماثل، الشكل على أنه بالأساس هناك لتلقي معنى النص. فالمكافئ النظري لمثل هذا الإجراء موصوف وصفاً رائعاً من قبل ديريدا على أنه هندسي (مربع أو دائري أو ذو محيط مخالف للمألوف) موضع الاستنساخ في نص آخر يتطابق في شكله تمام التطابق مع النص الأول. وإن من المفروض بهذين النصين أن يتيحا فيما بينهما مجازاً للناقد يدخل منه إلى "الثقة الآمنة التي تقفز فوق النص باتجاه مضمونه المفترض، نحو محض الدلالة" (18). فغائية هذا العمل بأسره هي الشيء الذي يتساءل عنه ديريدا بكل مشروعية كما حين يصف "البنيوية الغائبة" لدى جان روزيه إذ يقول: "لايبدو على روزيه أنه يفترض أن أي شكل جميل... بل أن الشكل الوحيد الجميل هو الشكل الذي يتسق مع المعنى، أي الشكل الذي من الممكن فهمه لأنه، قبل أي شيء آخر، متوحد مع المعنى. فلماذا إذاً، مرة أخرى، يتمتع بالامتياز هذا الاختصاصي بعلم الهندسة؟"(19). إن دقة كدقة روزيه لايمكنها أن تفعل شيئاً حيال تلك الصدمة الأساسية التي يستحيل تخفيفها والتي تطرحها الكتابة كلها، إذ إنها بمثابة التحريف الشائع لكل أنواع الكتابة "écriture". فالدقة عامل كبت سواء أكان الناقد يثنّي نصاً ما أو كان يقول بأن شكله يتطابق تماماً مع مضمونه، مع العلم أن الخطة العظيمة لديريدا كانت ترمي فتح اللغة أينما كان على الثراء الخاص بها بغية تحريرها بتلك الوسيلة من القيود التي تفرضها عليها المخططات المعينة.
ولكن ديريدا كان أقل حذاقة في رفع الحجب عن العديد من التوكيدات العظيمة التي دعاها، ولا سيما في أحدث أعماله، بالموضوعات أو الفئات (thémes- catégorémes)- وهي الكلمات التي تدعي الإشارة إلى شيء محدد وراسخ رسوخ الجبال خارج أنفسها، ألا وهو ذلك الشيء الذي من المفروض بها أن تكون نسخاً دقيقة طبق الأصل عنه. وإن هذه الكلمات لتنطوي ضمناً على مقدار كبير من المناورة اللغوية المحضة والمستورة خلف مظهرها المتناسق الهادئ. وليس من العبث في شيء أن يكون أول عمل موسع لديريدا قد تناول بالدراسة كتاب هوسرل المعنون بـ "التحليل المنطقي" الصادر في بحر عام 1900-1901 (علماً بأنه التاريخ الذي يدل دلالة تقريبية على صيرورة الفينومينولوجيا علم "المنشأ النظري" أو الأصلي)، إذ كانت بمثابة مجموعة من التحريات التي كان جهدها البين ينكب على فهم المعنى ووسائطه على نحو جوهري لم يسبق له مثيل. ففي كل تعريف من تعريفات هوسرل يلمح ديريدا إلى تقنية مجهوده، مبيناً على العموم أن انتقاص هوسرل من قيمة الرمز، أي إخضاعه الرمز لمعنى موجود باقتضاب للتعبير عنه كان محاولة فاشلة "لإقصاء الرموز من خلال جعلها ثانوية"(20)، مع العلم أن الأهم من هذا هو أن مثل هذا الموقف من الرموز واللغة كان يتظاهر بأن الرموز ماهي إلا مجرد تعديلات "لوجود بسيط"، وكأن الحضور، باستعمال اللغة، لايمكن أن يكون موجوداً البتة إلا كحضور ثان (أو تمثيل)، كاستنساخ، كتكرار -ألا وهي تلك الأمور التي لاتستدعي كلها وجود الرموز معها كضربة لازب وحسب، بل وتستدعي وجودها أيضاً، ويا للمفارقة، على أنها الحضور الوحيد، حضور ثان معلناً عن غياب الشيء الذي مثّله. وإن موقف ديريدا هو موقف المخبر الاستقصائي "اليقظان لعدم استقرار كل هذه التحركات التي يتحركها الفيلسوف واختلاط حابلها بنابلها، وذلك لأنها تروح وتجيء فيما بين بعضها بعضاً بشكل عاجل وسري". وهكذا فإن كل علم هوسرل عن الأصول يتكشف على أنه، بدلاً من أن يكون مجموعة من التمييزات الجوهرية بين شيء وآخر، "بناء غائي خالص مقصود بتخطيطه أساساً استبعاد الرموز وصغائر الأشياء الأخرى واستعادة "الحضور". وماهو الحضور إن لم يكن "إرادة المرء المطلقة لسماع نفسه وهي تتحدث؟ (21). فالتوكيد الذاتي لا للفلسفة وحدها وحسب بل ولنوع أيضاً من حضور المرء أمام نفسه حضوراً خبط عشواء نقياً وأخرق (أنانية وجودية)، وحضوراً ببساطة يتجاهل اللغة التي، في الوقت الذي هي فيه قيد الاستعمال، للإتيان "بالحضور"، تصبح موضع الإنكار في الوقت نفسه أيضاً. فاللغة، على الرغم من الدأب اليائس الذي يدأبه هوسرل لاستبقائها ثانوية وبديلاً مفيداً عن الحضور، تختلق نفس تلك المعاني التي تتمنى الفلسفة كبتها باعتبارها مربكة وهامشية وإضافية. وهكذا فلكل كلمة كبيرة من مثل "إله أو واقع" هنالك كلمات صغيرة من أمثال "واو العطف أو حرف الجر أو حتى الفعل يكون: is"، وإن الموقف الفلسفي لديريدا هو أن الكلمات الكبيرة لاتعني أي شيء خارج أنفسها: فهي دلالات مرتبطة، للحصول على معناها الكامل، بكل الكلمات الصغيرة (chevilles syntaxiques كما يدعوها) التي بدورها تدل على أكثر مما يمكن فهمه الفهم الكافي بأنها تعبر عنه.
إن الشيء الذي يسميه ديريدا تسمية طنانة بالميتافيزيك الغربي لهو موقف شعوذة نال ترخيصه السخري بواسطة اللغة وهو، إلى حد ما أعلم، ليس موقفاً غربياً بالضرورة. غير أن من المحتمل أن تكون هذه النقطة شيئاً صغيراً. فمماحكة ديريدا تؤكد مرة ثانية على الفرضية البصرية القائلة أن تثبيت الصوت والحضور والوجود لهو طريقة لصرف النظر عن الكتابة، وطريقة للادعاء بأن التعبير شيء فوري وما من حاجة تدعو لاعتماده على سلسلة بصرية دالة، أي على الكتابة "écriture". وهكذا فإن الموقف الغراماتولوجي ومعه استراتيجية التفكيك لموقف بصري ومسرحي، كما إن نتائجه بالنسبة للإنتاج الفكري (ولاسيما إنتاج ديريدا على وجه التخصيص) نتائج محددة جداً وخاصة جداً.
ـــــــــــ
إنني أود أن أبدأ هذا القسم بما قد يبدو شاهداً ليس على علاقة كبيرة بالموضوع، ألا وهو الفقرة الواردة أدناه اقتباساً من رواية "آمال عظيمة". فبيب وهربرت يسافران لمشاهدة عرض لمسرحية "هامليت" حيث يقوم بالدور الرئيسي فيه السيد وبسلي الذي هو مواطن من بلدة بيب. ويجري العرض قبل أن يكتشف بيب من هو المحسن إليه، ولذلك فإن المهزلة المباشرة لما يراه وهربرت على مصطبة العرض مقصود به أن يكون تلميحاً ساخراً للمزاعم الفارغة التي يعيشها بيب ومفادها أنه رجل من علية القوم.
حين وصلنا إلى الدانيمارك وجدنا ملك وملكة ذلك البلد وقد ارتفع بهما المقام على أريكتين فوق طاولة من طاولات المطبخ وهما يعقدان جلسة رسمية. لقد كان يحضر تلك الجلسة كل النبلاء الداينماركيين ومن بينهم غلام نبيل ينتعل جزمة جلدية لجده البدين، وأمير مهيب بوجه قذر كان يبدو عليه بأنه قد برز من بين صفوف العامة في مؤخر حياته، ورمز الفروسية الدانيماركية بساقيه الحريريين الأبيضين وشعره المشبوك بمشط مما يوحي بمظهر أنثوي على العموم لقد وقف ابن بلدتي الموهوب منفرداً وعليه مسحة من الكآبة وهو يطوي ذراعيه، ولكم كنت وقتها أتمنى لو كانت تجاعيد شعره وجبينه أكثر بروزا.عدة أمور صغيرة وعجيبة بدأت تتكشف في الوقت الذي كان فيه العمل المسرحي يسير قدماً إلى الأمام. فالملك المرحوم لذلك البلد لم يظهر بأنه كان يعاني الأمرين من السعال وقت مماته وحسب، لابل وأخذه معه إلى قبره وعاد به إلى الحياة الدنيا مجدد أيضاً. وأما الشبح الملكي فقد كان يحمل مايشبه المخطوط حول صولجانه للرجوع إليه على مايبدو بين الحين والحين، رجوعاً مصحوباً بمسحة من القلق وميل لتضييع مكان الإسناد -أمور كلها توحي بمناخ الموت. ولقد كان هذا المناخ، على ما أتصور، هو مادفع الشبح للعمل بنصيحة النظارة حين طلبوا منه أن "ينقلب"، وكانت نصيحة فهمها فهماً مغلوطاً إلى أقصى الحدود....إن ملكة الدانيمارك، وقد كانت سيدة بدينة جداً، كان يراها الجمهور، مع أنها كانت تاريخياً نحاسية البشرة، بأنها ترهق كاهلها بفيض كبير من النحاس. فبما أن ذقنها كان مربوطاً بتاجها بطوق عريض من ذلك المعدن (وكأنها كانت تحس بوجع شديد في أسنانها)، وبما أن خصرها كان مطوقاً يطوق آخر، وطوق آخر حول كل ساعد من ساعديها، كان يشار إليها صراحة بنعت "الطبل"... وأخيراً كانت أوفيليا ضحية لمثل هذا الجنون الموسيقي حتى إنها حين خلعت وشاحها المصنوع من الموسلين الأبيض، في الوقت المناسب، وطوته وطمرته، قام رجل عبوس من الصف الأمامي في القاعة، وقد عيل صبره بعد أن كان قد كظم غيظه لوقت طويل، وهدر قائلاً: "والآن، وقد أغفى الرضيع، هيا بنا لتناول العشاء"- سرّ كان فضحه، بأقل مايمكن أن يقال عنه، بعيداً عن الحشمة.فكل هذه الأحداث تكدس بعضها فوق بعض وعادت بالبهجة على ابن بلدتي التعيس، وكلما كان على ذلك الأمير المتردد أن يطرح تساؤلاً أو أن يتكشف عن شك ما، كان الجمهور يساعده في ذلك، كما كان عليه الأمر مثلاً حول التساؤل عما إن كان من الأسمى له أن يشعر بالمعاناة في ذهنه، بعض الجمهور زأر قائلاً نعم وبعضه لا، في حين أن قسماً ثالثاً ممن كان بين بين قال "أنت وحظك"، وللتو تشكلت لجنة لمناقشة الموضوع. وحين سأل ماذا يجب على أناس مثله أن يفعلوا وهم معلقون بين الأرض والسماء، وجد تشجيعاً له بصيحات صاخبة تقول "كلنا موافقون"... وبعد الاقتراع عليه... نودي عليه بالإجماع ملكاً لحكم بريطانيا. وحين نصح الممثل بألا يرجم بالغيب قال الرجل العبوس: "أولست تود ذلك أنت أيضاً، لأنت أسوأ منه بكثير"(22).
إن العنصر الهزلي الذي ينطوي عليه هذا الأمر واضح للتو. فديكنز يتناول مسرحية ذائعة الصيت، ولايذكرها بالاسم بتاتاً، ويسير قدماً إلى الأمام لوصف تلك التنافرات التي تضفي مسحة طفيفة من الانتقاص على المسرحية، والتي تحدث حين يمثلها فريق مضحك وعديم الكفاءة. ولكن تقنية الوصف التي يعتمدها ديكنز تقدم مزيداً من التحليل ولو كان طفيفاً. ففي المقام الأول هنالك عدة مستويات من العمل المسرحي تتجمع كي تشكل، نظراً لأن ديكنز يصف عرضاً مسرحياً في أحد المسارح، مشهداً واحداً من المأمول منه استبقاء كل تلك المستويات متميز بعضها عن بعض. فهنالك بيب وهربرت، وهنالك جمهور من المتفرجين، وهنالك عدة أفراد صخابين يبرزون وقوفاً على أقدامهم من بين صفوف الجمهور، وهنالك ممثلون سيئون، وهنالك إطار مسرحي مفروض به أن يكون الدانيمارك، وفي الختام، من المفروض أن تكون هناك مسرحية، ولو أنها نائية جداً على مايبدو، بقلم شكسبير ومهيمنة على مجريات الأحداث برمتها (مع أن الممثل الذي يلعب دور الشبح -يحمل النص معه).
والآن، في المقام الثاني، فإن هذه المستويات قلما تظهر بمظهر المتميز بعضها عن بعض خلال الأداء المسرحي، الأمر الذي يشكل السبب الذي يجعل العمل بأسره طريفاً جداً. وبما أنه ما من شيء وما من امرئ -ممثلين ومتفرجين وإطار مسرحي وبيب وهربرت- يؤدي الشيء المرتقب منه، فإننا نخلص إلى التيقن دون عناء كبير بأنه ما من فرد وما من شيء يتناسب مع الدور المخصص له. فالتناسب بين الممثل والدور، وبين المتفرجين والممثلين، وبين المتكلم والكلمات، وبين الإطار المسرحي المفترض والمشهد الواقعي: هذه كلها أشياء متنافرة بعضها مع بعض وتجري على نحو مغاير لما كان يجب أن تكون عليه لو أن الممثل والدور، مثلاً، كانا على تطابق تام فيما بينهما. وقصارى القول فما من شيء خلال هذا العرض المسرحي الأخرق العربيد يمثل تماماً الشيء الذي نتوقع تمثيله. فثمة صورة مطبوعة في أذهاننا توحي لنا أن هامليت يجب أن يكون نبيلاً، وأن المتفرجين يجب أن يكونوا هادئين، وأن الشبح يجب أن يكون شبه شبح. ولكن الأثر الذي تتركه هذه التوقعات المخيبة للآمال هو مسخ تلك المسرحية العظيمة التي تتمكن، على الرغم من مثالبها، من شق طريقها بهذا الشكل أو ذاك إلى صميم كل مايصفه ديكنز بقصد الإيحاء بكل مجريات الأحداث. ولسوف نصيب كبد الحقيقة والدقة حين نقول بأن مسرحية شيكسبير، أي نصها، لاتمت بأية صلة في الواقع لما يجري هنا على المسرح لأن مايجري ليس إلا نتيجة لنقص في قوة النص، أو عجزه، عن السيطرة على هذا العرض الخاص. فما يدور على نحو مغلوط لايعود، إلى حد ما، إلى قصور الفريق الممثل والفريق المتفرج وحسب، لابل ويعود أيضاً إلى قصور سلطان النص في تصويره أو تمثيله نفسه وهي تعمل "كما ينبغي لها أن تعمل".
وثمة شيء إضافي جدير بالذكر هو أن الأمر لايقتصر على خلط المستويات بعضها ببعض، ولا على عدم وجود أي تطابق بين النص الأصلي وبين ظهوره بالمظهر الواقعي ليس إلا، لا بل ويتعدى ذلك إلى الحقيقة التي مفادها أن مسرحية هامليت موجودة في كل مكان من الوصف الذي يصف فيه ديكنز هذه الأمسية المشؤومة. فما يقدمه لنا ديكنز ماهو في حقيقة الأمر إلا مشهد مزدوج أو، إن استعملنا استعارة موسيقية، لحن رئيسي وتنويعات طفيفة عنه، بحيث أن نثره يشتمل في آن واحداً معاً على نص أو لحن بأم عينه وعلى نسخة جديدة مشوشة عنه. إن السرد الذي يسرده ديكنز يتمكن، إلى حد ما، من أن يصور مسرحية هامليت الحقيقية ونسختها المزيفة الممسوخة بعضهما مع بعض، لا على شكل صور مركبة (مونتاج) وحسب، بل وعلى شكل انتقاد أيضاً بحيث يفتح مأثرة مهيبة على الضعضعة الكامنة فيها ويتيح لرائعة أدبية أن تتقبل وأن تتسع عملياً لاحتواء حقيقة كونها مكتوبة فعلاًن ومن ثم احتواء النتيجة المكشوفة، بما مفاده أنها في كل مرة تتعرض فيه للتمثيل يكون التمثيل بديلاً عن الأصل، وهكذا دواليك إلى أبد الآبدين وإلى الحد الذي يتحول فيه الأصل بشكل متزايد إلى "أصل" من باب الافتراض. وهكذا فإن ديكنز يسرد، في آن واحد معاً، نصاً مسرحياً إبان سيرورة تمثيله على النحو الذي أريد له فيه أن يكون موضع التمثيل، ويسرد أيضاً نفس النص في صورته الجديدة التي استحال إليها جراء التمثيل والمسخ الفادحين. وإن النصيين، القديم والجديد، ليس بوسعهما أن يتعايشا على هذا النحو بالنسبة لنا إلا لأن ديكنز يضع الاثنين جنباً إلى جنب ويتيح لهما أن يحدثا في آن واحد معاً في نصه وفقاً لطريقة دقيقة نسبياً من طرائق التقشّر الهزلي. ولئن قلنا أن مسرحية هامليت بالشكل الذي كتبها فيه شكسبير هي في مركز الحدث بأسره أو في أصله، يكون الشيء الذي يقدمه لنا ديكنز هو عبارة عن وصف حرفي ساخر لا للمركز الذي لايستطيع التشبث بتفكيرنا وحسب، بل وللمركز الذي أحيل إلى العجز عن مثل ذلك التشبث والذي يفضي، بدلاً من ذلك، إلى أعداد جديدة وفيرة من المسرحية، وأعداد مختلفة المراكز إلى حد التدمير. وهكذا فإن قوة النص تستحيل إلى النقيض الحقيقي لما قلته عنها آنفاً، لأن النص يسيطر، ويتيح ويختلق كل التفسيرات المغلوطة وكل القراءات المغلوطة، التي ماهي إلا بمثابة وظائف النص.
لقد كان ديريدا مفتوناً، منذ بداية حياته المسلكية، بإمكانات هذا الصنف من الأشياء. فبعض أفكاره الفلسفية عن الحضور، وعن الامتياز المنوط بالصوت على الكتابة، وعن وتلاشي فكرة المركز أو الأصل في الفكر الحديث، أمور يراها ديكنز من المسلمات بأكثر الطرق بعداً عن الطريقة الفلسفية، وماذلك إلا لأن تلك الحقيقة البسيطة التي لايرقى إليها الشك بما مفاده أن شكسبير قد يكون كاتب مسرحية عظيمة بعنوان هامليت، بيد أنه ليس في متناول اليد كي يمنع المسرحية من الاقتناص والاستنتساخ ببساطة من قبل أي إنسان يعن على باله أن يفعل ذلك، لهي حقيقة تشكل افتراضاً يماثل الانطباع الشخصي لدى ديريدا من أن أفكار الصوت والحضور و "الأصول" الميتافيزيقية ماهي ببساطة إلا أفكار قاصرة بخصوص الوقائع الوظيفية للغة. وأما الجانب الآخر لوجهة النظر هذه فهو ذلك الجانب الذي ينطوي على مغالطة عجيبة مؤداها أن نص شكسبير يدور بالطبع حول استنساخاته الممسوخة والمقيدة بحالة النص الكتابية وبمقتضات التمثيل، أو الأداء، لا بحضور شكسبير ككائن حي كان ذات مرة على قيد الحياة.
إن تقنية إظهار الكيفية التي تصر بها هذه الأساطير عن الصوت والحضور على البقاء في تفكيرنا وفي الكثير من الكتابة (إذ إن كل منزلة تلك الأساطير ملغومة بالفكرة القائلة أن الكتابة ماهي بمنتهى البساطة إلا انعكاس لشيء آخر، كالفكر أو الصوت الذي من المتوقع لها أن تمثله)، لهي تقنية ديريدا بمقدار ماهي تقنية ديكنز في هذا المشهد وتقنية مارك توين -إن جئنا على ذكر مثل آخر- في روايته المعنونة بـ "أمريكي من كونكتيكات في بلاط الملك آرثر". فديريدا نفسه هو من أصر على أن فضح الزيف، كما عمد إلى فضحه، يعيد تثبيت الأساطير القديمة بمعنى ما، الأمر الذي يماثل القول بأن المحاكاة الساخرة التي جاء بها ديكنز لمسرحية هامليت إن هي إلا فعل من أفعال الإجلال لشيكسبير. وهذا الشيء هو ما يعنيه ديريدا حين يتحدث عن فلسفته بأنها شكل من أشكال "التسمية القديمة". وأما السبب الذي يجعل الأفكار القديمة "تتشبث" بنا وبه مثل هذا التشبث (إذ إن prise هي الكلمة التي يستعملها في "الصوت والظاهرة") فهو أنها احتلت بحق الشفعة حيزاً كبيراً في تفكيرنا وإن لم يكن كله تماماً، ودفعت ببعض الانطباعات الشخصية المعينة (lmpensés) أن تكون مقبولة خبط عشواء، علاوة على أن ديريدا كفيلسوف- وهذا أهم مما سبق- لم يكن قادراً على اكتشاف طريقة تفكير جديدة تحررنا تحريراً كاملاً من الأفكار القديمة. لقد كان ديريدا في غاية الحرص على القول بأنه لايحاول الاستعاضة عن الأفكار القديمة بأفكار جديدة، باعتبار أن من الواضح أنه لم تكن لديه النية في أن يصبح مروّج عقيدة جديدة كي تحل محل عقيدة قديمة. ولئن برزت هذه العقيدة الجديدة في عمله أم لا فسؤال هام، وسؤال أتصور أن ديريدا وتلاميذه قد تجاهلوه على نحو متعمد مقصود.
ولكن ماهي استراتيجية ديريدا حيال التفكيك، كما يسميه، ولماذا يسلط أسطع الأضواء الكشافة على تقنيات التفكيك ذلك المشهد من رواية "آمال عظيمة"؟ فهيا بنا نبدأ بالتمثيل الذي هو بمثابة مشكلة من المشكلات الأساسية في كل النقد والفلسفة. إن معظم التوصيفات التي تتناول التمثيل، بما في ذلك التمثيل الذي جاء به أفلاطون، تعني ضمناً وجود شيء أصيل ونسخة عنه أو تمثيل، الأمر الذي يعني أن الأول سابق في الزمن وأعلى في المنزلة والثاني لاحق في الزمن وأدنى في المنزلة، بحيث أن الأول منهما يحدد الثاني. ومن حيث المبدأ فإن المقصود بالتمثيل التمثيلي هو أن يكون شيئاً لامناص منه في بعض الأحيان، وفي بعضها الآخر مجرد بديل مريح عن الشيء الأصيل الذي ليس بوسعه لأي عدد من الأسباب أن يكون حاضراً كي يكون نفسه ويفعّل نفسه. وهكذا فإن الشيء التمثيلي أو البديل مختلف نوعياً عن الأصيل لأن الأصيل جزئياً هو نفسه وليس ملوثاً باختلافه عن شيء آخر. وإنني لأبسط الأمور إلى حد كبير بالطبع، ولكن الموقف الفلسفي لديريدا هو أن الاختلاف -كما بين الأصيل والتمثيلي- ليس مجرد صفة مضافة إلى تمثيل أو إلى شيء ثانوي، بتلك الطريقة التي ينظر بها إلى الكتابة على أنها بديل عن الشيء الحقيقي (باعتبار أن من المفروض، مثلاً، أن اللغة تمثل فكرة أو شخصاً ليس حاضراً للتو). وعلاوة على ذلك يقول ديريدا أن الاختلاف يضاف، من ناحية أولى، إلى الأشياء حين تكون مصنفة بأنها تمثيلية ولكن الاختلاف، من ناحية ثانية أي على المستوى الكلامي الدقيق للتصنيف نفسه، مختلف مسبقاً ولذلك لايمكن التفكير فيه كصفة أو كفكرة أو كمفهوم له أصوله ونسخه. فالاختلاف شيء جوهري تماماً بالنسبة للغة، الأمر الذي يعني أنه علامة فارقة وأنه نفس فعالية اللغة نفسها حين تكون النظرة إليها كتابية لا لفظية. ولهذه الفعالية اللغوية الصرفة يستنبط ديريدا الكلمة "différance"، بمعنى الاسم الذي تتعذر تسميته (أو يتعذر لفظه). "إن الشيء الذي تتعذر تسميته هنا ليس نوعاً من الوجود المكنون الذي يتعذر الاقتراب منه باسم ما، كالإله مثلاً. فالشيء الذي تتعذر تسميته هو تلاعب الألفاظ إلى الحد الذي يفضي إلى الإتيان بالتسميات، بالبنى الذرية أوالتوحيدية، نسبياً، التي ندعوها بالأسماء، أو بسلاسل أو بدائل الأسماء" (23).
فلئن نسمي شيئاً يعني أن نحدد فكرة أو موضوعاً أو مفهوماً يتحلى بشيء من الأسبقية على نفس فعالية التسمية وعلى الاسم. إن ديريدا يريدنا أن نرى -إن لم يكن يريدنا أن نفهم- أننا مادمنا نعتقد أن اللغة ليست بالأساس إلا تمثيلاً لشيء آخر، فلن يكون بمقدورنا أن نرى ماتفعله اللغة، ومادمنا نتوقع أن نفهم اللغة في ضوء ثمة جوهر بدائي تلعب اللغة بالنسبة إليه دور الإضافة الوظيفية فلن يكون بمقدورنا عندئذ أن نرى أن أي استخدام للغة لايعني التمثيل وحسب، بل ويعني، ويا للمفارقة العجيبة، نهاية التمثيل أو تأجيله الدائم وبداية شيء آخر، ألا وهو الشيء الذي يدعوه ديريدا بالكتابة. ومادمنا لانرى أن الكتابة أكثر دقة ومادية من التكلم لأمر يدل على أن اللغة يجري استخدامها لاببساطة كبديل عن شيء أفضل منها بل كفاعلية بحد ذاتها هي، فلن يكون بوسعنا أن ندرك أن "الشيء الأفضل" لتوهم جوهري (إذ إن كان بمقدوره أن يكون هناك، فلسوف يوجد هناك). وهكذا فسنبقى، بوجيز العبارة، في قبضة الميتافيزيك.
إن اللغة المكتوبة تعني ضمناً التمثيل، شأنها بذلك شأن كون المسرحية التي يراها بيب تمثيلاً، ومع ذلك فإن القول بأن اللغة -أو بالأحرى الكتابة لأنها هي الشيء الذي يتحدث عنه ديريدا على الدوام- والأداء تمثيلان لايعني القول أن بوسعهما أن يكونا شيئاً آخر. فهما لايمكن أن يكونا شيئاً آخر لأن المسرحية المدعوة بهامليت بقلم شكسبير ماهي أيضاً إلى مثل عن الكتابة، كما أن الكتابة كلها ليست بديلاً عن أي شيء جاءت لتحل محله، بل إقرار مفاده أنه ما من وسيلة أخرى سوى الكتابة حين يقضي الواجب باستعمال اللغة، وعلى الأقل مادام الأمر يتعلق بإمكانية التمثيل المعزّز الصالح للتكرار. وعلى حين غرة نكتشف أن نفس فكرة التمثيل تحوز على شك جديد، كما هي عليه الحال تماماً في أن أي عرض لمسرحية هامليت -مهما كان مقدار تهريجه- يؤكد تضعضع كلمات المسرحية وحتى فكرتها الأساسية نفسها. وإن مانجد ديريدا فاعله هو الشيء نفسه الذي رأينا ديكنز فاعله تماماً، ألا وهو السماح لنفس فكرة التمثيل أن تمثل نفسها على مسرح (وهو المكان المناسب جداً بمنتهى الوضوح) حيث على الأقل نسختان من نص مألوف تعترض الواحدة منهما سبيل الأخرى وتعلو هذه على تلك وتلك على هذه، وتعكس الواحدة منهما اتجاه الأخرى، وحيث تكمل النسخة الجديدة منهما النسخة القديمة، والأمر برمته يجري في صميم نفس نثر ديكنز -ذلك النثر الذي يشكل المكان، والمكان الوحيد، لإمكانية حدوث الأمر المشار إليه. وهكذا فإن الهم المتواصل لدى ديريدا بخصوص التمثيل يورطه في نوع من الحشو الدائم ولو أنه في غاية الاقتضاب. فهو يستخدم نثره الخاص لتمثيل أفكار معينة عن الحضور، علاوة على تمثيلاتها، وهي تفعل فعلها في سلسلة كاملة من النصوص من أفلاطون إلى هيداغر، ويعمد من ثم لتبيين ماتمثله هذه النصوص بإعادة قراءتها وإعادة كتابتها إلى أن نتمكن من رؤيتها لا كتمثيلات لشيء ما، لا كتلميحات لأي مغزى غامض موجود خارجها، بل كنصوص تمثل أنفسها بطرائق تمثيلية كاملة كما هي عليه.
إن هذا الموجز يمثل الخلاصة المتناهية لماهو بدون أدنى شك نظرية من أكثر النظريات تعقيداً وتحبيكاً، ورواجاً أيضاً هذا اليوم، عن المعنى والنصية. وأما السبب الرئيسي لإتياني بهذا التلخيص فهو التوكيد على عدد قليل من أفكار ديريدا (لا على نهجه، إن كان هنالك مثل هذا الشيء) لكي أتحدث عنها بمزيد من التفصيل طفيف. فهذه الأفكار تنطوي اليوم على أهمية خاصة بالنسبة للنقاد الذين قد يرغبون بوضع أنفسهم، الفياضة بالشكوك، بين الثقافة ككتلة متراصة من الأفكار التي تهنئ ذواتها بذواتها وبين الطريقة أو المنهج الذي هو بمثابة أي شيء يماثل التقنية المستقلة التي تدعي التحرر من التاريخ أو الموضوعية أو الظرف. وعلاوة على ذلك، فإن عمل ديريدا يفرض علي، بمنتهى الإلحاح، المبادرة لمعالجته معالجة آنية نظراً لما أحمل من انطباع شخصي عن النقد الذي يجب، إذا أريد له ألا يتحول إلى مجرد شكل من أشكال توكيد الذات، أن يستهدف المعرفة كما يجب أن يحاول، وهذا أهم، التعامل مع المعرفة وتحديد هويتها وإنتاجها كشيء له علاقة معينة مع الإرادة ومع العقل.
إن العديدات من مقالات ديريدا تستخدم لا الاستعارات المكانية وحدها وحسب، بل وتستخدم الاستعارات المسرحية أيضاً بشكل أكثر تحديداً. فالنظرة إلى الكتابة "écriture" في عمل فرويد، مثلاً، هي أن لها نوعاً من النصية التي تحاول محاكاة الإطار المسرحي. فالمقالتان العظيمتان لديريدا في "LÉcriture et la différence" تستغلان اهتمام آرتو* بذلك التمثيل القابل للتكرار إلى مالا نهاية بغية تفسير فكرة ديريدا عن كون الكتابة بديلاً لا نهائياً لشكل يمثل شكلاً آخر، وبغية تحديد مدى النص على أنه عرضة للتفعيل جراء التورية "jeu". وعلى نحو مماثل يبين ديريدا ذلك الغموض الذي يتعذر تقليصه والذي تنطوي عليه أفكار آرتو عن المسرح، إذ أن آرتو كان يصر -إصرار ديريدا- على رؤية أي شيء من منطلق المسرح على الرغم من أنه "كان يتمنى استحالة وجود المسرح، وكان يريد طمس معالم المصطبة، علاوة على أنه بات لا يطيق رؤية كل مايرشح عن ذلك المكان المسكون على الدوام بشبح الأب والموبوء بتكرار جرائم القتل" (24). فتقنية شبه المونتاج التي جئت على وصفها سابقاً تحظى بوسم ديريدا لها بأنها على نوع من العلاقة الاستثنائية بكل الكتابة، حيث تدأب العملية الغرافولوجية* على تكرار اقتفاء آثار نفسها وعلى تكرار طمس تلك الآثار بشكل متواصل، الأمر الذي يفضي إلى اتحاد القديم والجديد فيما يدعوه بالمشهد المزدوج "la double scéne". وأما لاحقاً، وبعد استخدامه سلسلة من سلاسل التورية التي يلح على استغلالها، فيدعو ما يفعله بها بالعلم المزدوج "science double" الذي يعيد إلى أذهاننا محاضرته المزدوجة عن كتابة مالارميه "la double séance".
وهذا كله يوطد في عمل ديريدا تبادل المواضع فيما بين الصفحة وبين مصطبة المسرح. ولكن مكان ذلك التبادل -الذي هو بحد ذاته صفحة ومسرح- يقوم في نثر ديريدا، ذلك النثر الذي يحاول، في العمل الحديث لديريدا، التقليل من تحركه وفق التعاقب الزمني والترتيب المنطقي والحركة المستقيمة، والاستكثار من الحركة المفاجئة المتممة والجانبية التي تتعذر مواكبتها(25). وإن تلك الحركة تتقصد تحويل الصفحة عند ديريدا إلى موضع كاف بحد ذاته، وبكل وضوح، لقراءة نقدية، وصفحة مطروحة فيها النصوص والكتاب والمشكلات والموضوعات التقليدية بغية تجريدها من التحديد واختزال موضوعاتها على نحو مستديم إلى حد ما. وهكذا فإن النظرة إلى النصية هي أنها المكافئ المكتوب للمسرح الذي لاتقوم من حوله الحدود، وياللعجب، إلا ابتغاء القفز من فوقها، ولا يعمل فيه الممثلون إلا ابتغاء تفكيكهم إلى أقسام عديدة، ولا يعج بالمتفرجين إلا لكي يدخلوه ويخرجوا منه كما يشاؤون، فضلاً عن احتوائه على ذلك الكاتب الذي لايستطيع أن يقرر فيما إن كان يكتب أو يكتب من جديد أن يقرأ على هذا الجانب من الصفحة/ المسرح أو على ذاك. (وهنا يجدر الانتباه إلى التماثلات مع بيرانديللو وباكيت).
إن العبء الجدلي الذي تنطوي عليه المعروضات اللفظية لديريدا يتمثل عملياً بإعادة التفكير فيما يعتبره بمثابة الدعائم الأساسية للفكر الفلسفي (وحتى للفكر الشعبي)، إذ إنه يعتقد أن الفكرة التي تدور، من بين هذه الدعائم، حول حضور يتحلى بقوة الإقناع مثل "المادة /الوجود/ الجوهر (ousia)"(26)، وبصحبتها الخيال الآسر لتصورات توجيهية كالأفكار الأفلاطونية والتركيبات الهيغيلية ومجمل النقد الأدبي مما عفى عليه الزمن الآن ومما يجب النظر إليه على أنه كان هدفاً للتثبيت لإجراء قوة "خارجية" ما بل جراء قراءة النصوص قراءة مغلوطة. وإن قراءة النصوص قراءة مغلوطة تصبح شيئاً ممكناً بفعل النصوص أنفسها التي توجد أية إمكانية للمعنى بالنسبة لها -حتى في أحسن النصوص- في حالة فجة من حالات انعدام التوكيد. وإن هذا التصور ليمثل الفكرة الفلسفية الأساسية لديريدا، تلك الفكرة التي انبثق عنها ما أعلن عنه بأنه علم "grammatology" مع أنه لم يضعه موضع التطبيق، وماصار شيئاً ممكناً بشكل أولي. ومع ذلك فإن عمل ديريدا يتجاهل في الوقت نفسه إمكانية تقرير ما في النص، وما إن كان بمقدور المرء أن يقرر إمكانية فصل النص النقدي بتلك البساطة عن نصه الأبوي كما كان يعتقد النقاد، وما إن كان بالإمكان احتواء معنى النص في فكرة معناه نفسه، وما إن كان بالإمكان قراءة النصوص دون الارتياب الطاغي الذي مفاده أن كل النصوص تحاول -إذ كلما زادت عظمة النص، وربما عظمة الناقد، زادت براعته في المحاولة -إخفاء أسلوبها الخنثوي تقريباً في هيكل كامل من التوجيهات المضللة للقارئ، على شكل موضوعات خيالية، واحتكامات إلى الواقع سريعة الزوال وماشابه ذلك(27). ولما كان ما في حوزتنا لا يعدو الكتابة التي تتعامل مع الكتابة، فإن الواجب يقضي بتبديل أنماط فهمنا التقليدي تبديلاً أساسياً.
وثمة مثل هام عن الأسلوب الذي يعتمده ديريدا للتشويش على الفكر التقليدي خلف حدود إمكانية جدواه، موجود في هذا المقطع الذي يدور حول سلالة النص:
نحن نعرف أن الاستعارة التي يمكنها وصف سلالة النص وصفاً صحيحاً لا تزال ممنوعة (أي إذا حاولنا أن نفكر من أين يأتي النص، سنكون عرضة للبقاء مع فكرة خارجية ما "كالكاتب" على سبيل المثال، وهذا ما يمنعنا من محاولة وضع أيدينا على الأصول النصية الخاصة للنص- علماً أن هذا الأمر شيء مختلف تماماً). فالملحق التاريخي لنص من النصوص، في بناء جملته وفي معجمه وفي تباعد سطوره، ومن جراء تنقيطه وفراغاته وهوامشه، ليس بتاتاً في وضعية خط مستقيم. وعلاوة على ذلك فما هو بالوسيط السببي جراء العدوى، وماهو بتراكم الفئات تراكماً بسيطاً، وماهو حتى بوضع المقطوعات المستعارة إزاء بعضها بعضاً. ولئن كان النص يمنح نفسه دائماً تمثيلاً معيناً لجذوره هو، فإن تلك الجذور لا تعيش إلا بفضل ذلك التمثيل، بعدم ملامسة الواقع البتة إن جاز مثل هذا التعبير
(ألا وهو الأمر الذي من الممكن معارضته تماماً لأن ديريدا يمر مرور الكرام على تلك الطريقة التي ترتبط بها النصوص بغيرها من النصوص الأخرى، وبالظروف وبالواقع)، مع العلم أن هذا الشيء يقوض جوهرها الأساسي، بيد أنه لايقوض ضرورة وظيفتها التواشجية
Racination .(18).
وما نتيجة مثل هذا المنطق (the mise-en- abime) إلا تقليص كل مانظن أن له في صميم النص فعالية من خارج النص إلى وظيفة نصية. فالشيء الهام في النص هو أن نصيته تتخطى حتى حدود مقولاته عن أشياء من أمثال جذوره في الواقع أو وشائجه معه. وبدلاً من أن يصاب ديريدا بالإرباك جراء التشابه الواضح بين إنتاج الكتابة وإنتاج الحياة العضوية (بالشكل الذي من المسموح فيه قيام التشابه في المقارنة مثلاً بين semé [منقط] و semen [السائل المنوي])، فإنه يهشم التشابه، يشقلب الأمور رأساً على عقب. إن فكرة الكتاب المسموح بها ثقافياً هي فكرة وحدة متراصة -وخير مثال على ذلك هو الموسوعة- علماً أن تلك الوحدة تفسح المجال لإنتاج زمرة من الأفكار التي هي محط تصور ثمة شيء متفرد أصيل يشبه المعلّم أو الأب الذي يسلي نفسه بجعل المعنى حلقياً أي مستمداً من المصدر الوحيد وأسيراً له ، فكل مفهوم يقوم مقام الدليل على الاخصاب الذاتي حيث يعمل مفهوم على توكيد مفهوم آخر وعلى توكيده مراراً وتكراراً(29). وكشيء مضاد لهذه المفاهيم يطرح ديريدا ويستن من جديد- مع التذكير بأن اللغة الجنسية التي يستخدمها ديريدا في العادة لبحث المعاني والنصوص تكمن تماماً في صميم أكثر كتبه اتساقاً ومتعة ألا وهو كتابه الذي يحمل عنوان la dissémination -حركة معاكسة (تماماً بنفس ذلك الشكل الذي ينطرح فيه ممثلو هامليت لووبسلي في مسرحية هامليت لشكسبير). فهذه الحركة هي مايدعوها ديريدا بـ dissémination "الانتشار" التي ماهي بالمفهوم البتة بل ذلك الشيء الذي يصفه أينما كان بقوة النصية على اختراق آفاق السيمانتية (علم دلالات الألفاظ).
فالإخصاب لايفيد ضمناً أي شيء، ولايستدعي فكرة العودة إلى مصدر أو أصل أو أب، بيد أنه يسلتزم، على النقيض مما سبق، إخصاء مجازياً معيناً، مبيناً أن النص في كتابته قادر على إخصاء تلك الفكرة الأفلاطونية التي توحي لنا بآرائنا عن المعنى والتمثيل، وعلى إخصاء المثلث الهيغلي الوطيد الأركان في التركيب. إن الإخصاب يحافظ على التمزق الأبدي للكتابة، يحافظ على الترجرج الجوهري للنصوص التي لاتكمن قوتها الحقيقية في تعدد معانيها (والتي من الممكن جمعها تأويلياً، في خاتمة المطاف، تحت عناوين موضوعات شتى، أي بنفس تلك الطريقة التي يستجمع بها جان بيير ريتشارد كل عمل مالارميه ويصفه بعنوان أكثر ترجرجاً بكثير هو "عالم خيالي"(30)، بل لتلك النصوص التي تكمن قوتها في عموميتها وكثرتها اللامتناهيتين.
إن الإخصاب ليوطد، جنباً إلى جنب مع تمديده مفهوم النص تمديداً منظماً، أركان قانون مغاير يتحكم بمظاهر المعنى أو الفحوى (بداخلية "الشيء"، بواقعيته، بموضوعيته...)، أي بعلاقة مختلفة بين الكتابة، بالمعنى الميتافيزيقي لهذه الكلمة، وبين "مظهرها الخارجي"... علاوة على أن الإخصاب يفصح عن نفسه أيضاً... بأنه تعددية البذرة وخارجيتها المطلقة، إذ أن التشعب الرشيمي يحيل نفسه بالفعل إلى برنامج، بيد أنه ذلك البرنامج الذي يستحيل إضفاء السمة الشكلية عليه لأسباب يمكن إضفاء السمة الشكلية عليها. وهكذا فإن لانهائية رموزه، أي تصدعاته، لا تتخذ لها شكلاً مستنفعاً بالحضور الذاتي في الدائرة الموسوعية(31).
إن كل قراءة من قراءات ديريدا الرائعة روعة استثنائية تنطلق إذاً، منذ كتابته كتاب "De la grammatologie" الذي تتضمنه تلك القراءات أيضاً، من نقطة في النص تنتظم حولها نصيته المغايرة والمتميزة عن رسالته أو معانيه - ألا وهي تلك النقطة التي تتحرك باتجاهها نصية النص إبان تفجر الإخصاب الناجم عن النشاط الفوضوي للنص. وماهذه النقاط إلا تلك الكلمات التي تقف على طرفي نقيض مع المفاهيم، ألا وهي تلك النتف من النص التي يعتقد ديريدا بأنها مكمن نصية النص المناعة على التقليص: والتي يكشف من خلالها على ذلك. فهذه الكلمات التي تقف على طرفي نقيض مع المفاهيم والأسماء والأفكار تتملص من أي تصنيف محدد، الأمر الذي يشكل السبب الذي يجعل منها مجرد كلمات نصية، والسبب الذي يجعل منها نشازاً أيضاً. إن طريقة ديريدا في التفكيك تقوم بوظيفة إعتاق تلك الكلمات، شأنها بذلك شأن اللحظة المناخية في كون كل نص من نصوصه هو مجرد أداء بفعل هذه الكلمات المضادة للمفاهيم، أي تلك الكلمات المحضة ليس إلا. وهكذا فإن مايشير إليه ديريدا هو "مشهد كتابة في صميم مشهد كتابة وهكذا دواليك إلى اللانهاية، من خلال ضرورة بنيوية واضحة المعالم في النص"(32). فما من شيء بمقدوره إظهار النصية في مناخها الملائم إلا تلك الكلمات الفاذة syncatégoremes- ألا وهي تلك الكلمات التي لها، كصلات الوصل، وظيفة إعرابية في الوقت الذي تستطيع فيه الإتيان بوظائف دلالة أيضاً (33). وإن هذه الكلمات ذات مرونة لامحدودة مما يجعل منها كلمات منشّرة أيضاً، إذ إنها تعني هذا الشيء وذاك (مثلها تقريباً مثل كلمات الطباق الأساسية لدى فرويد)، ولكن السبب الذي يدفع ديريدا للاهتمام بها هو أنها هي، لا الأفكار الكبيرة، مايجعل من النص تلك الظاهرة المكتوبة الفذة التي هو عليها، أي شكلاً من أشكال التكملة لذلك المعنى القابل للتصييغ. وماهذه التكملة إلا سمة لذلك النص الذي يستطيع أن يكرر نفسه دون استنزاف نفسه ودون تكتمه على شيء (على فيض من المعاني السرية مثلاً).
وهكذا فقراءة ديريدا للشاعر فيدروس "phaedrus" ماهي إلا تفسير لكلمة "pharmakos" التي يستخدمها أفلاطون لكي تمكنه من الكتابة بطريقة تتيح إنتاج النص الذي تتعايش فيه الحقيقة واللاحقيقة جنباً إلى جنب كمثلين لا عن فكرتين بل عن تكرار نصي (34).
فديريدا يقول مايلي عما هو أثير على نفسه من هذه الكلمات، من هذه السلاسل النصية:
إن مايصح في رمز "hymen: غشاء البكارة" يصح أيضاً في كل الرموز الأخرى، من أمثال différence و supplément و pharmakon، التي لها قيمة رجراجة ومتناقضة ومزدوجة تنبثق دائماً من استعمال الرموز في الجملة، سواء أكان ذلك الاستعمال "داخلياً" بمعنى ما عاملاً على وصل وجمع معنيين متضاربين بصلة وصل واحدة "huph Pren"، أو كان "خارجياً" معتمداً على الرموز المشفرة التي تلقى فيها الكلمة لتؤدي وظيفتها. ولكن التركيب والتفكيك النحويين لرمز من الرموز يجعل مثل هذا التناوب بين الداخلي والخارجي شيئاً واهياً. فالمرء يتعامل بمنتهى البساطة بوحدات نحوية إلى حد ما إبان قيامها بعملها، وبفروق دقيقة جراء التعبير عن الأفكار بمنتهى الإيجاز. ودون
إيجاز هذه الأمور كلها إلى ماقيل آنفاً فإن بالإمكان التعرف، على النقيض من ذلك تماماً، على قانون تسلسلي معين في هذه النقاط ذوات المحاور اللامحدودة: فهي تسم مواضع ذلك الشيء الذي يستحيل البتة توسطه أو قهره أو حذفه أو إفراغه في صيغة ديالكتيكية من خلال أي تذكر أو نقل ×××××××.
فهل بمحض الصدفة أن كل هذه التلاعبات اللفظية، أي هذه الكلمات" التي تتملص من السيطرة الفلسفية عليها، يجب أن يكون لها، في قرائن تاريخية متباينة تبايناً واسعاً، علاقة فريدة جداً بالكتابة؟ إن هذه "الكلمات" تقر في تلاعباتها بوجود كل من التناقض وعدم التناقض (وبوجود التناقض وعدم التناقض فيما بين التناقض وعدم التناقض). وبمقدار مايعتمد النص عليها، أي بمقدار مايتقيد بها (s’y plie)، فإنه نظراً لذلك يمثل مشهداً مزدوجاً على مسرح مزدوج، فهو يعمل في مكانين مختلفين اختلافاً صارخاً في آن واحد معاً، حتى لو كانا مفصولين بحجاب
يسير اختراقه وعسير اختراقه في الوقت نفسه، أي متشابك (entrouvert).ولو أن أفلاطون كان حياً لخلع على العلم المزدوج المنبثق عن هذين المسرحين، بالنظر لهذا التقلقل والترجرج، نعت النزوة "doxa" لا نعت المعرفة "epistémé"(35).
إن الكلمات كلها لا تتشاطر فيما بينها معنى مشتركاً بمقدار ما تتشاطر بنية مشتركة من مثل كلمة hymen التي يستخدمها ديريدا لإرشاده في قراءة مالارميه، أومن مثل كلمة tympan: الطبلة المستخدمة لاستهلال مقالة "هوامش الفلسفة"(36). فالمعنى المتقلقل للكلمة -لاحظوا كيف أن بالإمكان تفكيك كلمة hymen وتحويلها بضربة ريشة إلى كلمة hymne: ترنيمة دينية - ماهو إلا كغشاء ذي نخاريب بالغ الحساسية يسم مراميه المختلفة ومواقعه المختلفة وجوانبه المختلفة (مثله مثل الورقة المطوية)، بيد أن اختراقه في غاية اليسر بالنسبة لذلك النشاط الذي يستهله ويجذبه وأخيراً يضطر للانعتاق من خلاله. وعلاوة على ذلك فإن الكلمات الأساس لدى ديريدا ماهي إلا رموز حروف: إذ إنه يقول عنها بأن من المحال جعلها دالة أكثر مماهي عليه الدلائل. فهنالك إذاً، وبشكل فيه كثير من الإلحاح، ثمة شيء سخيف عنها لأنها عقيمة وبلا جدوى، مثلها بذلك مثل كل الكلمات التي تستعصي على التكيف مع فلسفة الحاجة، أو المنفعة، الماسة.
فبعد أن وطد ديريدا عزمه على اقتراح في كوندياك، ومن ثم على تناوب دائب في كتابة نيتشه فيما بين الفلسفة التنويرية وبين مايبدو ظاهرياً تافهاً من أغنية أو خرافة أو قول مأثور أو لفظة نبوية، انطلق لاستهلال أسلوب في النقد والتحليل الفلسفيين: ذلك الأسلوب الذي يجوب بمنتهى البساطة والتعمد (علماً أن كلمة ديريدا ليجوب هي errance، في حين أن مشتقاتها تقوم في كلمة erreur) تلك الزوايا التي أهملها ما المفروض به أن يكون نقداً وفلسفة جادين. إن شكل عمله، المطروح على شكل عمل لوكاش بصورة مقالات عرضة للتهمة عمداً أنها مقالات وحسب، شكل نشور أي أن تلك المقالات تتقصد استكثار المعنى لاتقييده. وأما كياسات العرض المعهودة فشيء مطروح جانباً، كما أن الانزلاق من التلميح إلى التورية إلى غريب الألفاظ فأمر تتعذر مواكبته في بعض الأحيان. ولكن التقنية التفكيكية لديريدا ماهي، بأدق المعاني، إلا شكل من ذلك الاكتشاف الذي (وهأنذا أستخدم متعمداً العبارة الشهيرة لمارك شورر) مادته ليست مجرد نصية النصوص، وليست اختلاف المراكز اللفظية الخاصة التي تنأى بأنفسها عن التصنيفات، وليست حتى تلك النصوص التي يوجد في بنيتها شك لا حل له قائم بين كتابتها ومعناها المؤكد، وإنما تتجسد مادته في التعارض بين الأسلوب والنص المكتوب، بين الكلمة الحاضرة/ الغائبة وتكرارها اللامحدود في الكتابة. فالشيء الذي يريد ديريدا تحفيز فعاليته هو "الاقتراح المكتوب عن وسطية الكلمة، أي التوكيد على كون الخارجي خارجياً والتوكيد، في آن واحد معاً، على تغلغله البريء في صميم الداخل"(38). ولسوف يجد المرء، بشكل لا مناص منه، أن هذا اللغز يكمن لا في الخطاب الحقيقي الثابت بل في، وهنا يتحدث ديريدا بلغة نيتشه بشكل إيجابي، ذلك الخطاب الذي تتمثل أدواته ووسائطه الخبيئة في الطاقات المجازية للأدب. وإن هذه النقطة الأخيرة هي مايحاول ديريدا توكيدها في مقالته المعنونة بـ"La Mythologie blanche"* (39). وإن مايحاول فعله أي عمل من أعمال ديريدا هو تبيان entame -الشق، الثلم- في كل بنية من البنى التي تنطوي عليها الفلسفة، ألا وهو ذلك الثلم المنقوش في اللغة المكتوبة نفسها جراء إلحاح رغبته على الكشف عن نفسه للعيان، على الإفصاح عن نفسه بأنه ناقص وعديم الجدوى بلا حضور وصوت. وهكذا فإن الصوت يبدو ثانوياً بالنسبة للكتابة، وذلك لأن براعة الكتابة ماهي بالتحديد إلا براعة كل الأدب القصصي -أي تلك البراعة التي توثق نقيضها، لابل وتخلقه، كي تعمل من ثم كشيء ثانوي بالنسبة إليه وكي تصبح محجوبة عنه.
إن سلسلة النصوص التي وقع عليها اختيار ديريدا ابتغاء التحليل والاكتشاف لسلسة -على نقيض السلسلة الضيقة التي وقع عليها اختيار أتباعه بغية تحليلها- واسعة نسبياً إذ تبدأ بأفلاطون وتنتهي بهيداغر مروراً بكل من سولرز وبلانشو وباتيل. وبمقدار ماتسعى قراءاته لزعزعة الأفكار السائدة في الثقافة الغربية، فإن نصوصه تبدو محط الاختيار لأنها تجسد الأفكار تمام التجسيد. وهكذا فإن روسو وأفلاطون وهيغل يتكشفون على أنهم أمثلة لا مفر منها للفكر المتمركز حول الكلام -أي لذلك الفكر الأسير لتناقضاته اللامتناقضة والتي يجسدها في الوقت نفسه. وأما كتاب ذوو عهد أحدث- من أمثال ليفي شتراوس وفوكو- فقد وقع الاختيار عليهم كما يبدو بهدف قيام مماحكة فكرية شاقة في الذهن. وحتى قراءة سطحية لعمل ديريدا ستفضي إلى الكشف عن سلسلة هرمية ضمنية مصبوغة بصبغة تقليدية أعتى لا لكونها معروضة على ذلك النحو بل لكونها ثمرة الكشف الرائع الذي يكشفه ديريدا عن المغزى الجديد في نصوصه. وهكذا فإن أفلاطون وهيغل وروسو، بالنسبة لديريدا، إما أن يستهلوا حقباً تاريخية أو أنهم يعززونها، فمالارميه مثلاً يستهل تطبيقاً عملياً شعرياً ثورياً، في حين أن هيداغر وباتيل يتصارعان صراحة مع تلك المشكلات التي هما نفساهما وضعا لها القوانين وأعادا طرحها من جديد. وإن الطريقة التي تحظى بها هذه الشخصيات بوسمها التاريخي تعزز أية سلسلة يعمل على جمعها أستاذ في الدراسات الثقافية أو في مآثر الفكر الغربي. ومع ذلك فما من جواب على التساؤل عن السبب الذي يحول دون تسمية عصر روسو بعصر كوندياك أيضاً، أو عن السبب الذي يرتقي بنظرية روسو عن اللغة إلى مركز الصدارة، لا بنظرية فيكو أو نظرية سير وليام جونز، ولا حتى نظرية كولردج. ولكن ديريدا لا يخوض غمار هذه المسائل، على الرغم من أنني أتصور أنها ليست مشكلات تأويل تاريخي ثانوية بالنسبة لما يفعله ديريدا وإنما، على النقيض من ذلك، تبدو لي بأنها تقود إلى الأسئلة الكبيرة التي يثيرها عمل ديريدا.
لقد أدليت بملاحظاتي عن ديريدا وفوكو بالقول أنهما كلاهما، على الرغم من أنهما يمثلان وجهتي نظر مختلفتين بخصوص النقد، يحاولان بكل دراية اتخاذ مواقف رجعية حيال هيمنة ثقافية طاغية- ونظراً لموقف كهذا فإن نقدهما يزودنا بوصف عما هو عليه واقع الهيمنة الثقافية -وأنهما كلاهما أيضاً مدركين، من ناحية أخرى، للخطر المتمثل في أن مايفعلانه قد يتحول نفسه إلى عقيدة نقدية، إلى منظومة فكرية طائشة عصية على التبديل ومستهترة بمشكلاتها هي. والآن فإن موقف ديريدا وكل إنتاجه كانا مكرسين لاستكشاف كل من التصورات المغلوطة والأفكار المكرورة عشوائياً بالشكل الذي تلعب فيه دوراً مركزياً في الثقافة الغربية. ولقد أوضح ديريدا، في مناسبة واحدة على الأقل، أن أستاذ الفلسفة العامل في مؤسسة تحت إدارة الدولة يتحمل مسؤولية خاصة فيما يتعلق بالطريقة التي تنتقل بها الأفكار من المعلم إلى التلميذ ومن هذا إلى ذاك من جديد. وهذا يحدد الموقع التعليمي الذي صادف وكان يحتله رسمياً، ويشير إلى التهكمات التي ينطوي عليها مجرد اسم الموقع -agrégé- répétiteur- الذي يثير في نفس ديريدا التقزز الساخر. وعلاوة على ذلك فديريدا ينتمي إلى الهيئة التعليمية (enseignant corps) التي معنى منزلتها الوسطى يثير لدى ديريدا نفس ذلك التقزز أيضاً:
إن جسدي متألق. كل النور منصب عليه. ففي البداية يتساقط عليه من عل نور المصباح الكهربائي الذي يشع من ثم ويجتذب إليه تحديق المتفرجين. بيد أن جسدي يبقى متألقاً طالما تنتفي عنه صفة الجسد بمنتهى البساطة، انه يتسامى بنفسه لكونه يمثل هيئة واحدة على الأقل، (La corps enseipnant)- تلك الهيئة التي تفرض عليه أن يكون جزءاً منها وأن يكون هي كلها أيضاً في آن واحد معاً، أي ذلك العضو الذي بمقدوره رؤية الكل، وهذا الكل الذي ينتج نفسه من جراء طمس نفسه تحت ستار الممثل الشفاف المنظور الأوحد الذي يمثل الهيئة الفلسفية والذي يمثل في الوقت نفسه الجماعة السياسية /السوسيولوجية، مع العلم أن العقد فيما بين هاتين الهيئتين غير مكشوف لأعين الملأ جهاراً البتة(40).
إن الاستعارة المسرحية موظفة هنا وفي أي مكان آخر على أحسن مايكون التوظيف في التحليل السافر الوحيد الذي يحلل فيه ديريدا الآثار الناجمة عن ظروف السياسة والتاريخ والمؤسسة، والذي يحلل فيه وقائع كينونته هو كفيلسوف ومعلم ذي مشروع خاص به من عندياته. ولكنه قصّر بعض الشيء توصيف هذا الموقع الخاص الفياض بالامتياز. فهل يكفي القول أن المنهج التفكيكي يجب ألا يحاول التمييز بين سلسلتي الأفكار الفلسفية الطويلة منهما والقصيرة، ويجب عليه أن ينهمك بطريقة عامة جداً بالكيفية التي "من الممكن دائماً فيها للعدد العديد من قوى جهاز من أعتق الأجهزة [ويشير في هذه الحالة إلى مجمل البنية الفعالة للفكر الغربي كما يمثلها الموروث الفلسفي] أن يكون موضع تجديد الاستثمار والاستغلال في وضع غير مطبوع"؟(41) وأما شعوري حيال الفكر الغربي فهو أنه سيبقى، طالما هو محط الإسناد على العموم أوحتى طالما هو موجود بشكل حقيقي في نصوص بأم عينها، شيئاً نظرياً وكما هو عليه في حقيقة الأمر، لا لأن ديريدا لا يقاومه -إذ إنه يقاومه ولا يقاومه في آن واحد معاً ببعض الطرق البارعة التي حاولت وصفها- بل لأن الفكر الغربي أكثر تميزاً واندماجاً وأكثر تمثيلاً للمؤسسة، وهذا أهم مافي الأمر، مما يبدو على ديريدا الاستعداد للإقرار به.
بيد أن المشكلة لاتتوقف عند هذا الحد وحسب. فإلى الحد الذي كان فيه ديريدا حريصاً غاية الحرص على القول بأن تقنيته التفكيكية الإيجابية لم تكن لتطمح حتى أن تكون برنامجاً مناسباً للحلول محل المنظومة الفلسفية العتيقة الطراز، إلا أنه اشتط في الوقت نفسه إلى حد تزوير قرائه (وتلاميذه في فرنسا وفي كل مكان آخر) بمجموعة من المفاهيم المضادة. وإن الشيء الأساسي الذي ادعاه مريدو ديريدا بخصوص تلك الكلمات، وبخصوص منهجه التفكيكي بالفعل، هو أنها عصية على الاختزال في معجم سيمانتي محدود. وفضلاً عن ذلك ليس من المفروض بها أن تكون تلك المرايا التي تعكس تلك العقائد والأفكار المضادة والمستوطنة في الميتافيزيك الغربي التي تتحداها. فكلمة Différance، على سبيل المثال، تعرضت للتحديد لأول مرة في عام 1968 على أنها ذات معنيين جذريين أو ربما ثلاثة وكلها مختلفة عن معاني كلمة différance(42). وفي عام 1972 قال عن هذه الكلمة نفسها أنها تماثل "زمرة المفاهيم التي أراها على شكل منظومة عصية على الاختزال حيث يطل كل فرع منها برأسه على حين غرة، لا بل ويتخذ له شكلاً، في اللحظة الحاسمة إبان غمرة العمل" (43). وأنا أتصور أنه يقول أن هذه الكلمة، أو أي مظهر منها، تعتمد في معناها الدقيق على استخدامها بلحظة معينة في قراءة نص ما. وعلى الرغم من ذلك فإننا نبقى حيارى حيال الكيفية التي يتمكن بها ثمة شيء من أن يكون عملياً ونصياً ونظامياً وميسور التمييز ومعسور الاختزال، وألا يكون في الوقت نفسه بالفعل لا فكرة ولا مذهباً ولا مفهوماً ثابتاً، بالمعنى القديم لهذه الكلمات. فهل بوسعنا أن نبقى نحن معلقين في الفراغ إلى أبد الآبدين بين معنى قديم ومعنى جديد؟ أولن تبدأ هذه الكلمة الرجراجة الوسطى بتجميع المزيد والمزيد من المعاني لنفسها هي، شأنها بذلك شأن الكلمات القديمة؟ وعلى نحو مماثل، إن كانت تلك النصوص التي قرأها ونظمها حول الكلمات الرئيسة نصوص لا ترتقي بالضرورة بتلك الكلمات إلى مستوى الكلمات الرئيسة الشاملة (بالمعنى الذي يقصده ريموند وليامز)، فإنها لن تكون مجرد كلمات حيادية بتلك البساطة. وخير مثال على ذلك يتجسد في كلمة supplément التي وجدها ديريدا في روسو والتي نحت منها مخزوناً صغيراً من الكلمات في ذلك suppléntarité (التكميل) وكلمة supplément أي تكملة شيء بشيء آخر، مع العلم أن كل تلك الكلمات كان لها استخدامات جلية في قراءة نصوص أخرى. فكلمة مثل supplément تحوز على مزيد ومزيد من الاعتبار والتاريخ، علاوة على أن تركها دون شيء من الاهتمام باستخدامها في مكانها الصحيح الجوهري في عمله لهو، بالنسبة لديريدا، تجاهل غريب.
إن عمل ديريدا يواصل، كما أرى، تأثيره التجميعي على ديريدا نفسه، ناهيك عن تأثيره البين على تلاميذه وقرائه. وتساورني بعض الشكوك في أنه كان ناجحاً، في محاولته الحكيمة تجنب شبهة السقوط في منهج نظامي كان سيزعن له على أرجح الظن كأستاذ فلسفي ذي شأن كبير، في تفادي النتيجة الطبيعية لتجميع مقدار واف مما يشبه المنهج أو الرسالة أو السلسلة الكاملة من الكلمات والمفاهيم الخاصة. وبما أن من الخطل (والإهانة حتى) أن نقول أن التجميع الذي جمع فيه ديريدا المعرفة من خلال سيرورة عمله الفلسفي ليس بأكثر من مزاج أو مناخ، يتوجب علينا قبوله بأنه يشكل موقفاً -ألا وهو تلك الكلمة التي استخدمها بنفسه بمنتهى الارتياح. ولما كان ذلك الموقف موقفاً فإن من الممكن تحديده بالطبع لا بل وتصديره حتى، بيد أن التردد الذي تردده ديريدا حيال تحويل موقفه التاريخي إلى برنامج، وحيال ارتباط عمله بأنواع خاصة من الأعمال دون سواها: أمور كلها تحرم عمله، وبشكل مبرمج أيضاً، من موقفه ونفوذه الكبيرين. وعلاوة على ذلك فإن النصوص التي جرى تطبيق هذا الموقف عليها من لدن ديريدا انحرمت بدورها أيضاً من كثافتها وخصوصيتها ووطأتها التاريخية. فالصورة التي يأتي بها ديريدا لكل من أفلاطون وروسو ومالاريه وسوسور تدفعنا إلى التساؤل: هل كل هؤلاء المفكرين مجرد نصوص، أم هل هم حالة سائبة من حالات المعرفة من وجهة نظر مؤمن ليبرالي بالثقافة الغربية؟ وماهي الأهمية المهنية التي يتحلون بها بالنسبة إلى فيلسوف وعالم لغوي وناقد أدبي، وكيف هم مجرد أحداث بالنسبة لمؤرخ فكري؟ إن سلسلة هذه الكياسات عرضة لأوسع مايكون من التمديد، شأنها شأن ذلك الجهاز المعقد الذي ينشر أفلاطون وروسو والآخرين، في الجامعات وفي اللغة التقنية لاحترافات شتى في العالم الغربي وفي غيره من العوالم الأخرى، وفي فصاحة الأقليات المهووسة، وفي وضع السلطة موضع التطبيق العملي، وفي خلق أو تفجير الموروثات والمعارف والبيروقراطيات، والجهاز الذي يتمتع بالسلطة وبالدمغة التاريخية الفعلية الأبدية على الحياة البشرية. ولكن الجدير بالذكر أن ذلك الجهاز بحاجة لدرجة كبيرة من التحديد، لابل وأكبر مما استفاض بد ديريدا.
ليس في نيتي أن أشتط إلى حد القول أن موقف ديريدا يرقى إلى مستوى العقيدة الجديدة. بيد أن بمقدوري أن أقول أن ذلك الموقف لم يوضح بما يكفي من التفاصيل، على الرغم من رفعته وتميزه، ذلك الشيء الذي يشير إليه ديريدا في وصفه الهيئة التعليمية "corpo enseignant"، ألا وهو "التعاقد فيما بين كل هذه الهيئات" (أي هئات المعرفة والمؤسسات والسلطة)، تعاقداً ضمنياً وذلك لأنه "لايظهر البتة على الواجهة". فالكثير الكثبر من عمل ديريدا دلل على أن مثل هذا التعاقد موجود، فضلاً عن أن النصوص التي تبين انحيازات تمركز الكلمات ماهي إلا دلائل على وجود التعاقد وعلى ديمومة وجوده من فترة إلى أخرى في الثقافة والتاريخ الغربيين. ولكن يحق لنا شرعاً أن نتساءل، على ماأظن، عن الشيء الذي يحافظ على تماسك ذلك التعاقد، عن الشيء الذي يجعل من الممكن لمنظومة معينة من الأفكار الميتافيزيكية، علاوة على بنية كاملة من المفاهيم والتطبيقات العملية، والأيديولوجيات المستمدة منها، أن تحافظ على نفسها من غابر الأزمان الإغريقية حتى الزمن الحاضر. فما هي تلك القوى التي تستبقي كل هذه الأفكار ملتحمة بالغراء بعضها ببعض؟ وماهي القوى التي تحشرها في النصوص؟ وكيف يتسمّم ذهن الفرد بهذه الأفكار التي تطغى لاحقاً عليه؟ فهل كل هذه الأشياء من باب المصادفة المحض، أم أن الواجب يقضي في حقيقة الأمر إقامة صلة حميمة، ومشاهدة تلك الصلة بأم العين، بين الشواهد الدالة على هذا التمركز الكلامي وبين الهيئات العاملة على تأييده ضمن سيرورة الزمن؟ وحين يقول بورجز: "لكم كنت أصاب بالعجب كيف أن الحروف الموجودة في كتاب مغلق لايختلط عاليها بسافلها وتتلاشى بين عشية وضحاها"، فإننا نحن بدورنا نقول، لدى قراءتنا عمل ديريدا، ياللعجب من ذلك الشيء الذي يحفظ ديمومة أفكار الميتافيزيك الغربي هناك في كل النصوص ليلاً نهاراً، ولردح من الزمن على ذاك الطول. فما هو ذلك الشيء الذي يجعل من هذه المنظومة منظومة غربية؟ وقبل أي شيء آخر، ماهو الشيء الذي يستبقي التعاقد خبيئاً والذي يسمح، وهذا أهم من سابقه، لآثاره بالظهور في طريقة بالغة الإحكام والترتيب المنهجي؟
إن الإجابات على هذه الأسئلة لايمكن العثور عليها بقراءة نصوص الفكر الغربي نصاً إثر نص آخر مهما بلغ تعقيد منهج القراءة ومهما بلغت أمانة تسلسل النصوص المقروءة. وإن من المؤكد أن أي منهج للقراءة كمنهج ديريدا الذي يطمح أساساً لتبيان هذا العنصر الرجراج أو ذاك في النص بدلاً من تبيان رسالة اختزالية بسيطة من المفروض أن يتضمنها النص، ويطمح في الوقت نفسه أيضاً، من الناحية الأخرى، للتراجع عن جعل أية قراءة للنص جزءاً من تلك الفرضية الصريحة المرصوصة البنيان عن إصرار الفكر الميتافيزيكي الغربي على وجوده التاريخي، سوف يعجز بالتأكيد في خاتمة المطاف عن وضع يده على العمق والسلطان الماديين والموضعيين للأفكار كواقع تاريخي. وأما السبب لذلك فيعود لا لأن تلك الأفكار ستكون عديمة الذكر وحسب، بل لأن تسميتها ستكون حتى من المستحيلات -وهذا شيء متفق تماماً مع النزعة المطلقة لدى ديريدا المضادة للفلسفة الإسمية، ومع فلسفته المناهضة للتعريف، ومع تجريده اللغة من كسائها السيمانتي. وقصارى القول فإن البحث في صميم النص عن شروط النصية سوف يتعثر عند نفس تلك النقطة التي يصبح فيها الطرح التاريخي للنص موضع شك بالنسبة للقارئ، ومعضلة بالنسبة للناقد.
وهنا يصبح الاختلاف بين ديريدا وفوكو اختلافاً صارخاً جداً. فليس من الوافي بالغرض أن نقول أن ديريدا، كما أشرت ضمناً، يخرج بالنص من محطة تأمل النصية الداخلية إلى العراء ليشق طريقه إلى واقع خارج النص بغية إقامته فيه والبقاء هناك. ولسوف يكون أكثر إفادة أن نقول أن اهتمام فوكو بالنصية يتجسد في تقديم النص عارياً من عناصره الغامضة أو من طلاسمه، وفي الإتيان بهذا من خلال جعل النص متشحاً وشاح علاقاته الحميمة مع المؤسسات والدوائر والوكالات والطبقات والأكاديميات والهيئات والجماعات والنقابات، ومع المهن والأحزاب المحلية أيديولوجياً. وإن أوصاف فوكو لنص أو خطاب ما تحاول من خلال التفصيل وفخامة الوصف أن تعيد إضفاء الصفة السيمانتية "resemanticise" على المصالح الخاصة وأن تعيد، بالقوة، تحديدها ورصدها -أي تلك المصالح التي تخدمها النصوص كلياً. وثمة حالة تامة في صميم الموضوع هي النقد الذي يسوقه لديريدا. ففوكو ليس قادراً فقط على أن يبين بشكل مقنع أن ديريدا قد أساء، في نقطة عويصة واحدة، قراءة ديكارت جراء استخدامه ترجمة فرنسية تضيف كلمات ليس لها وجود في الأصل اللاتيني لديكارت، لابل وإنه قادر أيضاً بمنتهى الوضوح على أن يبرهن أن كل مناقشة ديريدا عن ديكارت مناقشة مغلوطة، لابل ومصبوغة بالنزق. فما سبب ذلك ياترى؟ والجواب هو أن ديريدا يصر -مع الإشارة إلى أن القول التالي يصح فيما يتعلق بمنهجه لافيما يتعلق بالرواسب السيمانتية للنص- على محاولة البرهان أن فرضية فوكو عن ديكارت، وهي الفرضية التي عزل فيها ديكارت الحماقة عن الاحتلام، لم تكن بالفعل عن ذلك الأمر البتة بل كانت مناقشة عن الكيفية التي كانت بها الأحلام أكثر غلواً حتى من الحماقة، كون الحماقة مجرد شاهد هزيل عن الاحتلام. وإن تلك المناقشة لاتتعدى قراءة النص، تاركة آراء القارئ (أي آراء ديريدا) وشكوكه وجهله تطغى على منظومة من الأفكار الخفية، ولو أنها موجودة وفاعلة، مما يجعل النص يقول تحديداً إن الجنون يجب بالإكراه تمييزه واستثناءه عن الفعالية البشرية السوية التي تتضمن الاحتلام.
إن مشكلة هذا الطغيان الواضح على النص، هذا الطغيان الذي يعاني فوكو الأمرّين لتبيانه، هي أن قراءة ديريدا لديكارت لايمكنها أن تقرأ تلك الأمور التي تتمتع، بمنتهى البساطة، بالقوة المقصودة التي تنطوي عليها سلطة طبية وقضائية نافذة، ومصالح مهنية محددة فاعلة. وعلاوة على ذلك فإن صيغة نص ديكارت تحذو بدقة متناهية حذو نمط خطابين اثنين هما الممارسة التأملية والدليل المنطقي، حيث تعمل في كليهما معاً المنزلة الافتراضية للموضوعين المبحوثين -أي الحلم والحماقة- والدور الافتراضي للفاعل (أي الفيلسوف الذي يضبط ويوجه كلا الخطابين في نصه) على تشكيل النص وحتى على تحديده أيضاً. إن التنصيص الذي يأتي به ديريدا له تأثير "اختصار الممارسة المنطقية إلى فتات نصي" اختصاراً أفضى إلى قيام بيداغوجيا مقترنة بديريدا.
ما أود قوله بهذا السياق هو أن بيداغوجيا صغيرة تكشف عن نفسها هنا بعد أن عقدت عزمها جيداً على ذلك. [إن عبارة une petite pedagogie عبارة مهينة عن عمد].وإنها تلك البيداغولوجيا التي تعلم التلميذ أن ليس هنالك ثمة شيء خلف النص، وأن في صميمه، في فراغاته البيضاء وفي أصواته غير المنطوقة، يجثم الأصل على شكل احتياط -الأمر الذي لايستدعي أية حاجة للتفتيش في أي مكان آخر غير هذا المكان الذي يتمحور هنا، إذ لافي واقعية الكلمات بل في الكلمات الممحوّة، في الشباكة التي تشكلها تلك الكلمات يجاهر "الإحساس بالوجود" بالتعبير عن نفسه. وهذه هي البيداغوجيا التي تمنح صوت المعلمين نوعاً من السيادة المضادة واللامحدودة التي تتيح لهم أن يعيدوا كتابة النص [يعيدوا قوله] إلى اللانهاية(44).
إن هذه الذروة المريرة كل المرارة لجواب فوكو على ديريدا ماهي إلى حد ما إلا طريقة للتعبير عن الغضب من أن بيداغوجيا ديريدا تبدو بمنتهى البساطة، مع العلم أن منهجه ليس على تلك الشاكلة إلى هذا الحد، أنها عرضة للتعليم والانتشار ولربما أكبر شأناً حتى، في الوقت الراهن، من عمل فوكو. وإن الحقد الشخصي الذي يقف وراء الحكم الذي يطلقه فوكو يزود ذلك الحكم بفصاحة مشحونة بشجب غاضب. ولكن أوليس الرأي الفكري لفوكو القائل أن قراءة ديريدا النص مالا تفسح المجال لدور يؤديه الإيحاء البتة، وأن ديريدا لايبدو، لدى قراءته نصاً ما ووضعه "en abime" (في مهب الريح)، في مناخ أثيري نصي كامل، راغباً في معاملة النص على أنه سلسلة من الأحداث المنطقية المحكومة لامن قبل كاتب ذي شأن بل من قبل مجموعة من القيود المفروضة على الكاتب جراء نوعية النص الذي يكتبه، وجراء الظروف التاريخية وماشابه ذلك؟ فلئن كان المرء يعتقد أن ديكارت كتب نصه وانتهى الأمر، وأن نصه لايتضمن المشكلات التي تثيرها حقيقة نصيته، يكون المرء عندئذ يروغ ويتجاهل تلك السمات التي تسم نص ديكارت وتربطه طواعية بكتلة كاملة من النصوص الأخرى (نصوص طبية وقضائية وفلسفية) وتفرض على ديكارت سيرورة معينة لإنتاج المعنى الذي هو نصه والذي من جرائه يتحمل المسؤولية القانونية ككاتب. وهكذا فإن ديريدا وفوكو يصطدمان حول كيفية وجوب وصف النص: أيوصف كتطبيق عملي تطفو على سطحه وتغور في ثناياه إشكالية غراماتولوجية شاملة، أم يوصف كتطبيق عملي لوجوده الواقعي سلطان تاريخي في غاية السمو والتمييز، ومقرون لا بالنفوذ البين للكاتب بل بخطاب يشكل الكاتب والنص والموضوع ويضفي عليهم جميعاً وضوحاً وفاعلية بمنتهى الدقة؟ فهذا التصادم كان له، على ما أظن، أكبر الأثر على النقد المعاصر.
إن أهمية موقف ديريدا تتمثل في أنه حاول في عمله إثارة أسئلة ذات صلة وثيقة وفريدة بصلب موضوع الكتابة والنصية، بما مفاده الميل لاحتلال مركز الصدارة أو التجاهل فيما خلف التعليق على النصوص. فمراوغة النصوص نفسها، أي الميل للنظر إليها، كونها متجانسة التكوين، إما كوظائف لفلسفة أو منظومة تخطيطية، وإما كطفيليات عليها نظراً لاعتماد النصوص عليها (كتوضيحات وأمثلة وتعبيرات) هي ماتتوجه إليها، أو بالأحرى لكل هذه الأشياء، طاقات ديريدا الهامة ابتغاء تجريدها من تحديداتها. ولقد طور ديريدا، فضلاً عن ذلك، طريقة للقراءة على مقدار استثنائي من السلاسة والشأن. ومع ذلك فإن عمله يجسّد تحديداً ذاتياً صارماً جداً، انضباطاً ذاتياً من نوعية معوقة وشلاء تماماً. ففي طريقته تلك فضل ديريدا سلاسة العنصر الرجراج في النص، إن جاز مثل هذا التعبير، على قوة النص الواضحة المعالم، إذ أن اختيار المرء للسلاسة العقيمة التي ينطوي عليها المشهد المزدوج التقريري في النصوص كان يعني، كما قال ذات مرة، إهمال القوة الفعالة والمتكاملة لمقولات النص (45). وهكذا فإن عمل ديريدا لم يكن في موقف يتيح له احتواء المعلومة النصية التي هي من ذلك النوع الذي يضفي على الميتافيزيك الغربي والثقافة الغربية أكثر من معنى تلميحي على نحو كرار. لا ولم يكن ذلك العمل مهتماً بتبديد نزعة التشرنق العرقي التي كان يتحدث عنها بين الحين والحين بوضوح نبيل، علاوة على أنه لم يطالب أشياعه بأي انهماك ملزم بأمور تتعلق بالاكتشاف والمعرفة، أو بالحرية أو القمع أو الظلم. فلئن كان أي شيء في نص ما مفتوحاً دائماً للتشكيك وللتوكيد عل قدم المساواة، تكون الفوارق وقتها بين مصلحة طبقة وأخرى، وبين غالب ومغلوب، وبين خطاب وأخر، وبين أيديولوجيا وأخرى، فوارق واقعية -ولو أن اتخاذ القرارات فيها ليس من الأمور العويصة- في عنصر التسويه الحاسم والكامن في النصية.
فلئن كان ذلك الشيء الذي لايمكن أن يخطر على بال "impensé" يعني بالنسبة لديريدا، الذي هاجمه مراراً وتكراراً، تفهماً كسولاً للإشارات واللغة والنصية، فإنه بالنسبة لفوكو يعني ذلك الشيء الذي لايمكن أن يرد على البال في وقت محدد وبطريقة محددة وذلك لأن هنالك أشياء معينة أخرى انفرضت على الذهن بدلاً منه. وفي ذينك المعنيين لـ "impensé"، اللذين أولهما سلبي وثانيهما فعلي، يمكننا رؤية التعارض بين ديريدا وفوكو -ويمكننا من ثم اتخاذ موقفنا كنقاد يفعلون شيئاً قد يكون من الممكن وصفه والدفاع عنه.
إن النصية، بالنسبة لفوكو وديريدا سواء بسواء، هي ذلك المفهوم الأكثر تقلباً وأهمية من المفهوم الميت بعض الشيء والمفروض عليها جراء تمجيد طقوس النقد الأدبي التقليدي. فلقد كان فوكو، منذ بداية حياته المسلكية، يولي اهتمامه للنصوص باعتبارها قسطاً جوهرياً، لا مجرد قسط ثانوي، من العمليات الاجتماعية الطافحة بالتمييز والاستبعاد والاحتواء والحكم. وقال ذات مرة عن النص، عن أي نص بما في ذلك نصه هو، بأنه "ذلك الحدث المستهدف الذي يستنسخ نفسه ويكررها ويحاكيها ويثنيها كي يتلاشى في خاتمة المطاف دون أن يتيح للإنسان الذي أنتجه فرصة الادعاء بالهيمنة عليه". وقال بشكل أكثر تحديداً: "إنني لا أحب لأي كتاب أن يخلع على نفسه منزلة النص الذي من الممكن معاملته معاملة الوجيز كثمرة من ثمار البيداغوجيا أو النقد. وأفضل بدلاً من ذلك أن يتحلى من الكتاب بصفه اللامبالاة في طرح نفسه كخطاب، كمعركة وأسلحة في آن واحد معاً، كاستراتيجية وصدمة، كنضال وتذكار (أو جرح)، كأزمة وآثار، كمجابهة غير نظامية ومشهد قابل للتكرار (46)". إن الصراع في كل نص بين كاتبه وبين الخطاب الذي يشكل الكاتب جزءاً منه، لأسباب اجتماعية وأبيستيمولوجية وسياسية، لهو صراع مركزي بالنسبة للنظرية النصية لدى فوكو. فمشروع فوكو، على نقيض وجهة نظر ديريدا القائلة أن الثقافة الغربية قد وطدت أركان الكلام على حساب الكتابة، يريد أن يبين عكس ذلك بمنتهى التحديد، منذ زمن الانبعاث الحضاري على الأقل، كما يريد أن يبين أيضاً أن الكتابة ليست بتلك الممارسة الخاصة التي تمارسها إرادة كتابية حرة، وإنما على الأرجح هي التفعيل الناجم عن شبكة من القوى ذات تعقيد هائل، ألا وهي تلك الشبكة التي تعتبر النص مكان ضمن أمكنة أخرى (بما فيها الجسد) حيث تدور فيه معارك استراتيجيات الهيمنة في المجتمع. وإن مجمل الحياة المسلكية لفوكو بدءاً من "تاريخ الحماقة" ومروراً بـ "إرادة المعرفة" كانت محاولة لوصف هذه الاستراتيجيات بمزيد من التفصيلات وبمقدار أوفى من عتاد الوصف النظري العام والفعال. إن من الممكن الإتيان بالأدلة، كما أظن، على أنه كان في الشق الأول أنجح منه في الشق الثاني، وأن كتباً من مثل "المراقبة والمعاقبة" ذات أهمية وقوة حقيقيتين أكثر مما في كتاب "علم آثار المعرفة". ولكن الشيء الذي تتعذر البرهنة عليه هو المقدرة الجزئية لدى فوكو على أن ينحي جانباً عتاده النظري البالغ التعقيد وعلى أن يتيح للمادة التي نبشها أن تخلق ترتيبها الخاص بها ودروسها النظرية الخاصة بها أيضاً. وإن هناك بعض المفاهيم والافتراضات النظرية الأساسية وبعض مبادئ التشغيل ظلت كلها بجوار مركز ماكان يفعله، الأمر الذي يحثني الآن على رسم خطوطها العريضة بمنتهى الإيجاز.
إن من الواضح أن بعض تلك الأمور مستمد من الفطرة. ففوكو هو ذلك المتبحر الذي لايقنع باستحالة التنقيب في أية زاوية مهما كان ظلامها دامساً، ولاسيما حين يستقصي آلية الهيمنة الفكرية والجسدية في طول التاريخ الغربي وعرضه. وعلى الرغم من صحة القول بأنه كان أساساً يولي اهتمامه لوجهين في عملة واحدة -أي عملية الاستبعاد التي تحدد بها الثقافات خصومها وتعز لها، ونقيضتها أي تلك العملية التي تحدد بها الثقافات وتعزز سلطة الاحتواء فيها- فقد صار من المؤكد الآن أن أعظم مساهمة فكرية ساهمها فوكو هي فهم الكيفية التي تمكنت بها إرادة ممارسة الهيمنة الطاغية في المجتمع والتاريخ من اكتشاف طريقة لإكساء نفسها وإخفائها وصقلها وتدثيرها منهجياً بدثار الحقيقة والنظام والعقلانية، وبقيمة المنفعة والمعرفة. وهذه اللغة، أي ذلك الدثار، في بساطتها وسطوتها واحترافها وجزمها، وفي صراحتها اللانظرية، هي مادعاها فوكو بالخطاب "discourse". وإن الفرق بين الخطاب وبين غيره من ضروب النزاع الاجتماعي من مثل الصراع الطبقي الذي ينطوي على جلافة أكبر في الوقت الذي لاينطوي فيه على أهمية أقل هو أن الخطاب يجهد لتفعيل محصلاته وتحيزاته ورقابته وتحريماته وتوهيناته على العقلاء من الناس، وفي مستوى القاعدة لافي مستوى الهيكل العلوي. فقوة الخطاب تكمن في أنه موضوع الصراع وأداته الذي يدار بها الصراع في آن واحد معاً، إذ في علم البانولوجيا، مثلاً، تكون اللغة القضائية، التي تحدد مخططاً للجانحين وللأسوياء من الناس متجسداً في بنية السجن المادية، بمثابة الأدوات لضبط الجانحين وبمثابة القوى (الممنوعة على الجانحين بالطبع) بين أيدي هذا الفريق ضد ذاك. إن هدف الخطاب هو الحفاظ على نفسه وصنع مادته، وهذا أهم من سابقه، على الدوام، فلا عجب أن يكون فوكو قد قال، بشكل استفزازي، أن السجون ماهي إلا مصنع لخلق المجرمين. فانطلاقاً من فطرته، ونظراً بلاشك لكونه ذلك المفكر الموهوب إلى حد فريد مكنه من أن يرى أن المفكرين جزء من منظومة القوة المنطقية، كتب كتبه تضامناً مع الضحايا الصامتين في المجتمع لكي يجعل واقعية الخطاب شيئاً منظوراً ولكي يجعل الصوت المكبوت لضحايا الخطاب مسموعاً.
إن الخطاب الرئيس للمجتمع هو مادعاه فوكو بـ "الخطاب الحقيقي أو خطاب الحقيقة"(47) في "نظام الخطاب". وعلى الرغم من أنه لم يصف هذا حتى في كتابه المعنون بـ "علم آثار المعرفة"، فإنني أتصور بأنه يشير إلى ذلك العنصر الذي ينطوي على أكبر مقدار من الغموض والعمومية من بين كل العناصر الأخرى في الخطاب، والذي يجعل ألفاظه الخاصة تبدو متحدثة دفاعاً عن الحقيقة وحولها وفيها. ومع ذلك فكل فرع من فروع الخطاب، كل نص، كل قول، له معاييره الخاصة به عن الحقيقة، مع العلم أن هذه المعايير هي ماتحدد أموراً من أمثال الصلة بصلب الموضوع والملاءمة والاتساق والقناعة وهلم جرا. إن فوكو على صواب حين يشير إلى أن المرء حين يكتب كفيلولوجي مثلاً، أومن منطلق الفيلولوجيا، فإن مايكتبه، في شكله وهيئته وقولته، يساق إلى أن يكون ملائماً بمنتهى الدقة من خلال مجموعة من الاحتمالات اللفظية الموقوفة حصراً على الفيلولوجيا في ذلك الزمان وفي ذلك المكان. فهذه التقييدات الميدانية على الكتابة، ولو أنها وفيرة التفريخ، هي ماتجعل قراءة فوكو للنصوص، فضلاً عن تأويل النصوص لاحقاً، عملية مختلفة جداً عن قراءة ديريدا، غير أنها نظرياً تضع أو تموضع النصوص وماتمثله على نحو أكثر فاعلية بكثير مما هو ممكن في مسرح التصويرات لدى ديريدا.
إن أكثر الفرضيات الفلسفية التاريخية إشكالاً وتشويقاً لدى فوكو هي الفرضية التي مفادها أن الخطاب، والنص أيضاً، قد صار محجوباً عن الأنظار، وأن الخطاب بدأ يتقنع ليظهر مجرد كتابة أو نصوص، وأن الخطاب أخفى القوانين المنهجية المتعلقة بتشكيله وبعلاقاته الحميمة الملموسة بالسلطة، لافي وقت محدد من الزمن بل كحدث في عموم تاريخ الثقافة وفي تاريخ المعرفة على وجه التخصيص. ففوكو يبذل جهداً جهيداً هنا وفي كل مكان من عمله كي يكون في غاية الدقة حتى لو لم نكن على ثقة تامة عما إن كان الشيء الذي يحاول وصفه هو حدث بالمعنى العادي لتلك الكلمة، أو حدث بمعنى أكثر تحديداً بقليل، أو حدث بالمعنيين معاً. وأما أنا فأميل إلى الاعتقاد بأن فوكو يحدد حقبة زمنية مرت بها الثقافة بشكل لابد منه، أي مرحلة زمنية قابلة للتحديد ولو بشكل تقريبي. وبما أن هذه الحقبة دامت لردع طويل من الزمن على أرجح الظن، فإن من الممكن إذاً وسم الحدث بأنه تغيير تدريجي في العلاقة المكانية أساساً بين اللغة والتمثيل. وهانحن نجد أنفسنا من جديد في الحيز المسرحي، على الرغم من أنه ينطوي على بعد تاريخي أوفى بكثير مما هو عليه لدى ديريدا. ففي كتاب "نظام الأشياء" يبني فوكو توصيفاته للحدث حول تباين من نوع بسيط ومفيد تماماً. فلقد كان من المعتقد، حتى نهاية القرن الثامن عشر على الأقل، كما يقول، أن الخطاب (أي اللغة كممثل لنظام من أنظمة الوجود Being) "تكفل بحشد التمثيل العشوائي العفوي الأولي ضمن طاولة" أو ضمن، كما يحسن بنا أن نضيف، حيز شبه مسرحي. والآن يبدو أن الوضع كان هكذا على الأقل قبل الحدث الذي يوشك فوكو أن يصفه، إذ إن ذلك الحدث غيّر نوع العلاقة التي قامت بين اللغة والواقع تغييراً هائلاً وتاماً جداً مما جعل من العسير تبينها حتى.
لقد حدث التغيير حين "كفّت الكلمات عن التشابك مع التصويرات وعن توفير شباكة عفوية لمعرفة الأشياء"(48)، وعندها صار الخطاب إشكالياً وبدا عليه بأنه يطمس نفسه وذلك لأنه لم يعد مضطراً أن يمثل لتوه أي شيء إلا نفسه- فهذه اللحظة هي اللحظة التي يدعوها فوكو "باكتشاف اللغة" ولو أنها لغة شتيتة. وإن مايصفه لشيء نستطيع فهمه على نحو أفضل بقليل في ضوء مشهد من رواية "الآمال العظيمة". فديكنز لايقول في أي مكان بأن مايصوره هو مسرح من المساراح، كما أن مسرحية "هامليت" لاتحظى بشرف التسمية (أي مسرحية هامليت لشكسبير، التي يعتمد التصوير كله على نصها). فمهزأة الموقف هي أننا نعرف إلى حد ما أن الشخصيات التي تحاول تمثيل المسرحية لاتستوعبها إلا بشكل ناقص. ولكننا لانعرف هذا إلا لأن لغة ديكنز توجه المشهد كله مواربة، وتصور المسرح وممثليه، وتضفر لنا ردود أفعالنا كقراء. وهذا كله لايصبح ممكناً إلا جراء العرف الروائي الذي من المسموح فيه وجود مقدار معين من المرجعية واستعمال اللغة استعمالاً شبه واقعي، والذي يست*** القراء إليه توقعات وردود أفعال متخصصة. وبكلمات أخرى فإن المسرح الذي يصفه ديكنز لاوجود له إلا في لغة الرواية، أي في تلك اللغة التي تشربت الواقع وتبنّته إلى ذلك الحد الهائل الذي جعلها مسؤولة عنه مسؤولية مطلقة. ولكن العرف الروائي هو اللغة العتيقة من عبء تمثيل الواقع حصراً في طاولة أو شباكة، إذ ليست الطاولة على الأرجح، أو المسرح في هذه الحالة، إلا استخدام واحد من استخدامات العرف الروائي حيث يتوجب عليه أن يؤدي ماتؤديه الروايات، أي الإشارة إلى الأشياء روائياً، ولاشيء سوى ذلك. وأما فيما يتعلق بالعرف الفيلولوجي فإنه يتصور الكلمات على نحو مختلف تماماً. ولذلك فالجدير بالذكر أن هنالك أنواعاً عديدة للغة، وكل نوع منها ينجز الأشياء بطريقته الخاصة، وكل منها بحاجة لمعرفة مختلفة كي ينتجها أو ينقلها أو يدونها، وكل منها له وجوده وفقاً لقوانين ليست في متناول اليد إلا بعد بحث مستفيض.
إن هذه اللغات الخاصة هي الشكل الحديث للخطاب: في بداية القرن التاسع عشر اكتشفت الكلمات من جديد عمقها الملغز القديم، لا لكي تعيد انعطاف الكلمة الذي عشش في الكلمات خلال عصر الانبعاث الحضاري، ولا لكي تخلط الأشياء في منظومة دائرية من الإشارات أيضاً... فما أن انفصلت اللغة عن التصوير حتى احتازت لها على وجود، وصولاً إلى يومنا هذا، بطريقة شتيتة ليس إلا(49).
فالشاهدان على هذا التشتت الذي تتشتته اللغة- واللذان ينتظم بينهما ذلك المجال الذي من الممكن للغة أن تنشط فيه- هما نيتشه ومالارميه: ففي الوقت الذي يرى فيه أولهما أن اللغة بقضها وقضيضها موضع تقرير التاريخ وتقرير الظرف، وموضع تقرير الاستخدام الفردي للغة في أية لحظة معينة وموضع تقرير مصطلحات المتحدث، يرى ثانيهما أن اللغة هي كلمة الله النقية التي "في وحدانيتها وفي اهتزازها الرقيق وفي خوائها تجسد الكلمة نفسها- لامعنى الكلمة، بل وجود الكلمة الملغز والمشكوك فيه". وهكذا فإن كل تحير فكرنا الآن يكمن في التساؤل التالي: ماهي اللغة، وكيف بوسعنا أن نعثر على طريقة من حولها لكي نجعلها تظهر على حقيقتها في حد ذاتها، في كل فيضانها؟" وبما أن اللغة قابعة بين ذينك القطبين اللذين أوضحهما نيتشه ومالارميه، فإن فوكو يضع عمله بينهما أيضاً، هناك "لاكتشاف التلاعب الهائل الذي تتلاعبه اللغة بعد احتوائها مجدداً في صميم مجال وحيد". فالواجب يقضي جعل اللغة تظهر من جديد، والخطاب إن أمكن، في ساحة ذلك التشتت غير المنظور الذي آلت إليه اللغة منذ نهاية العصر الكلاسيكي.
إن الفقرات التي جئت بها على سبيل الاستشهاد من كتاب "نظام الأشياء" تجسد، على ما أظن، آراء فوكو في مطلع شبابه. فجعل اللغة والخطاب يظهران من جديد لهو مهمة، كما نلاحظ، من مهمات المؤرخ الفكري، إذ حتى اختفاء الخطاب ليس موصوفاً على أنه أكثر من حدث أثري ومهمة من مهمات التنقيب عن الآثار إن جاز لنا استخدام مثل هذا التعبير. إن كل عمل فوكو كان، منذ كتاب "نظام الأشياء"، إعادة توضيح الإجابة على السؤال التالي: "كيف ومتى ولماذا اختفت اللغة والخطاب"، محيلاً إياه إلى مسألة أثرية وسياسية ذات أهمية قصوى. فبالإجابة أن الخطاب لم يختف بكل تلك البساطة بل صار محجوباً عن الأبصار، يستهل فوكو جوابه على السؤال السالف الذكر، مضيفاً قوله أنه إن اختفى فقد اختفى لأسباب سياسية، متيحاً بذلك فرصة أفضل لاستخدامه على نحو أخبث للإتيان بهيمنته على مادته وموضوعاته. وهكذا فمجرد فعالية الخطاب الحديث مربوطة باحتجابه عن الأنظار وبندرته أيضاً. وماكل خطاب، أي كل لغة -خطاب الطب النفسي والبانولوجيا والنقد والتاريخ- إلا جعجعة إلى حد ما، ولكنه في الوقت نفسه لغة الهيمنة وزمرة مؤسسات في صميم الثقافة التي يشكل فيها ميدانها الخاص.
فالانقلاب الكبير الذي طرأ على فكر فوكو في عام 1968- بعد كتاب "الكلمات" وقبل كتال "... الآثار..."- هو إعادة تصور مشكلة اللغة لافي إطار أنطولوجي بل في إطار سياسي أو أخلاقي، أي في الإطار النيتشوي. وهكذا فنحن نستطيع فهم اللغة على أحس مايكون بجعل الخطاب ظاهراً للعيان لا كمهمة تاريخية بل كمهمة سياسية، وحينئذ يجب أن يكون النموذج استراتيجياً لا لغوياً في خاتمة المطاف:
كلما زدت تعمقاً تبدى لي على نحو أفضل أن تكوين الخطابات وسلالة المعرفة أمران بأمس الحاجة للتحليل، لا بلغة نماذج الوعي وأنماط الإدراك وأشكال الأيديولوجيا، بل بلغة تكتيكات السلطة واستراتيجياتها. لقد احتشدت التكتيكات والاستراتيجيات من خلال المغروسات والتوزيعات وتحديد التخوم، والسيطرة على البقاع والميادين المنظمة التي بمقدورها أن تشكل على أحسن مايرام نوعاً من علم السياسة الطبيعية حيث تتشبث انهماكاتي بتلابيب مناهجكم. فالموضوع الذي أود دراسته في السنوات القليلة القادمة هو موضوع الجيش كمنبت للتنظيم والمعرفة، إذ إن المرء بأمس الحاجة لدراسة تاريخ القلعة والحملة والتحرك والمستعمرة والإقليم.ولذلك فإن الجغرافيا ستكون بالضرورة فعلاً في صميم
([1]) كنايةعن توأمين متماثلين تماماً إلى حد يتعذر فيه التمييز بينهما - المترجم.

* أول رواية للسير والترسكوت منشورة في عام 1814-المترجم

*nun: راهبة و ama: ممرضة باللغة البرتغالية -المترجم.

* أرتو: كاتب مسرحي فرنسي ومدير مسرح، 1896-1948. المترجم.

* -غرافولوجيا: دراسة خط الكاتب بهدف تحليل شخصيته- المترجم.

* الأساطير الخاوية -المترجم.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59