عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 11-11-2012, 01:44 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي معيار المغايرة في نقد الشعر العربي




د. فؤاد شيخ الدين عطا
قسم اللغة العربية – كلية الآداب – جامعة الخرطوم

يظن غير قليل من قراء العربية أن المعيار الذي ساد في نقد الشعر قديماً هو معيار المطابقة وحده أي أن الناقد كان يطلب إلى الشاعر أن يأتي في ألفاظه وصوره ومعانيه بما يطابق الواقع والحقيقة والعلم.
ومع تسليمنا بغلبة معيار المطابقة تاريخياً نلاحظ أن معيار المغايرة كان حاضراً أيضاً. ومن الوجهة الموضوعية فإن النقد القديم حينما غلب معيار المطابقة إنما كان يساير الشعر الذي كان يذهب في كثير من اتجاهاته إلى التطابق بسبب من ظروف البيئة والطبيعة والمجتمع الذي غلبت عليه البداوة لفترة طويلة من الزمن
وقد لاحق النقاد أولئك الشعراء الذين لم يطابقوا بين شعرهم وبين الواقع العلمي في بعض ما ينظمون، كالذي أخذ على زهير في قوله:
يخرجن من شربات ماؤها طحل * على الجذوع يخفن الغمر والغرقا

قالوا: ليس خروج الضفادع من الماء خوف الغمر والغرق وإنما ذلك لأنها تبيض في الشطوط"(1).
ومثله ما أخذ على أيمن بن خريم في مديح بشر:
وإنا قد وجدنا أم بشر * كأم الأسد مذكاراً ولودا
وذلك أنه جعل أمه ولوداً، والناس مجمعون على أن نتاج الحيوانات الكريمة يكون أعسر، ومنه قول الشاعر:
بغاث الطير أكثرها فراخاً * وأم الصقر مقلات نزور(2).
ومن وجوه المغايرة مجافاة الواقع جملة أو ادعاء الشاعر ما لم يقع: جاء في الأغاني أن أخاً صالحاً لابن أبى ربيعة الشاعر أعطاه مالاً على أن يترك قول الشعر والتشببب بالنساء فقبل المال وخرج إلى أخواله باليمن ثم ما لبث أن قال:
هيهات من أمة الوهاب منزلنــا إذا حللنا بسيف البحر من عـــدن
واحتل أهلك أجياداً وليــس لنـا إلا التذكر أو حظ من الحــــزن
لو أنها أبصرت بالجزع عبرتنـا من أن يغرد قمرىّ على فنــــن
إذاً رأت غير ما ظنت بصاحبهـا وأدركت أن لحجاً ليس من وطنـى
ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها وموقفى وكلانا ثم ذو شجــــن
وقولها للثريا وهى باكيــــة والدمع منها على الخدين ذو سنـن
بالله قولى له في غيــر معتبــة ماذا أردت بطول المكث في اليمـن
إن كنت حاولت دنيا أو رضيت بها فما أخذت بترك الحج من ثمــن(3)
وهذا كما ترى لا يقع إلا في الوهم، فقد ادعى أنه شهد الموقف واستمع إلى الحوار الذي دار بين صاحبته والثريا، وإنما كان حديثهما عن غيابه وطول مكثه في اليمن فكيف يكون حاضراً غائباً في آن؟
ومن المغايرة الإغرابُ والإكثار من الاستعارة والتخييل كالأبيات التي أوردها الآمدى في الموازنة لأحد شعراء عبد القيس يشتم الدهر:
ولما رأيت الدهر وعراً سبيله * وأبدى لنا ظهراً أجب مسلعاً
ومعرفة حصاء غير مفاضة * عليه ولوناً ذا عثانين أجدعـا
وجبهة قرد كالشراك ضئيلة * وصعر خديه وأنفاً مجدعــا
وعلق عليه: "ومثل هذا في كلامهم قليل جداً ليس مما يعتمد ويجعل أصلاً يحتذى عليه ويستكثر منه"(4) ذلك لأنه لم يطابق فقد أسبغ صفات الأحياء المحسوسة على ما لا جسم له، فتنكب سبيل الأولين في نظم الشعر كما فعل أبو تمام حتى اضطرب النقاد حيال شعره ونسبه بعضهم إلى إفساد الشعر - روى الآمدي عن بعضهم: "أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ثم اتبعه أبو تمام واستحسن مذهبه وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من بعض هذه الأصناف فسلك طريقاً وعراً واستنكر الألفاظ والمعاني ففسد شعره وذهبت طلاوته ونشف ماؤه"(5).
وعندما حاول أبو نواس، وهو من كبار شعراء المغايرة، أن ينتقل بمقدمة القصيدة العربية من الطلل إلى الخمر ردته السلطة السياسية إلى الطلل مرة أخرى بحجة المحافظة. وكأن السلطان السياسي قدر أن أي مساس بجوهر الشعر يعني المساس بجملة نظم الاجتماع والسياسة والفكر – روى ابن رشيق أن الخليفة هرون الرشيد أخذ على أبي نواس أن لا يذكر الخمر في شعره فقال:
أعر شعرك الأطلال والمنزل القفرا * فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا
دعاني إلى نعت الطلول مسلــط * تضيق ذراعي أن أرد له أمـرا
فسمعاً أمير المؤمنين وطاعـــة * وإن كنت قد جشمتني مركباً وعرا(6)
وهكذا فإن الشعر نفسه لم يكن مطابقة كله، بل ذهب أحياناً مذهب المغايرة للواقع وللعلم كما فعل زهير أو مغايرة أسلوب الأولين كما فعل أبو تمام، أو مغايرة الرموز كالذي حاوله أبو نواس فرد.
وكنت أظن أن قدامة بن جعفر هو أكبر نقاد العرب القدامى رفضاً للمطابقة ونصرة للمغايرة، لقوله مثلاً: "ومما يجب تقديمه أيضاً أن مناقضة الشاعر نفسه ... غير منكر... بل ذلك يدل عندي على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها...(7)، وهذا غريب على ميراث النقد الشعري العربي قريب مما يقول به نقاد الحداثة المعاصرون. ويقول في موضع آخر: " والشاعر ليس يوصف بأن يكون صادقاً ، بل إنما يراد منه إذا أخذ في معنى من المعاني – كائناً ما كان – أن يجيده في وقته الحاضر لا أن يطالب بأن لا ينسخ ما قاله في وقت آخر"(8). فقد جوز التناقض في الشعر، بل ذهب إلى أن الغلو في الشعر أجود من المباشرة. غير أنه عاد فناقض نفسه في مواضع أخرى، ولعله طبق نظريته في الشعر على نثره خاصة! فقد جاء في نفس المصدر الذي جوز فيه التناقض والغلو للشاعر "ومن التناقض قول ابن هرمة:
تراه إذا ما أبصر الضيف كلبه * يكلمه من حبه وهو أعجم
فإن هذا الشاعر أقنى الكلام الكلب في قوله إنه يكلمه، ثم أعدمه إياه عند قوله: إنه أعجم ... فهلا قال كما قال عنترة العبسي:
فازور من وقع القنا بلبانه * وشكى إلى بعبرة وتحمحم
فلم يخرج الفرس عما له من التحمحم إلى الكلام، ثم قال:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى * ولكان لو علم الكلام مكلمي
فوضع عنتره ما أراده في موضعه"(9). وجاء فيه أيضاً" وما جاء في ذلك على جهة التضاد قول أبي نواس يصف الخمر:
كأن بقايا ما عفى من حبابها * تفاريق شيب في سواد عذار
فشبه حباب الكأس بالشيب ، وذلك قول جائز... ثم قال:
تردت به ثم انفرى عن أديمها * تفري ليل عن بياض نهار
فالحباب الذي جعله في هذا البيت الثاني كالليل هو الذي كان في البيت الأول أبيض كالشيب ، والخمر التي كانت في البيت الأول كسواد العذار هي التي صارت في البيت الثاني كبياض النهار، وليس في هذا التناقض منصرف إلى جهة من جهات العذر"(10). وهذا يناقض رأيه المتقدم حيث ذهب فيه إلى جواز التناقض في الشعر.
يقول - إمعانا في التناقض- :- "ومن عيوب المعاني مخالفة العرف والإتيان بما ليس في العادة والطبع وذلك مثل قول المرار:
وخال على خديك يبدو كأنه * سنا البدر في دعجاء باد دجونها
فالمتعارف المعلوم أن الخيلان سود، أو ما قاربها في ذلك اللون والخدود الحسان إنما هي البيض ، وبذلك تنعت"(11).
وقد فات على قدامة أن الشاعر ربما أراد صفاء الخال ولمعانه ووضوحه لا لونه.
ولئن تردد قدامة في الأخذ بمعيار المغايرة فقد كان حاضراً عند غيره فقد أورد الجاحظ – وهو شيخ النقاد – عند حديثه عن ما يشبه المجاز أو الكلام على غير وجه الحقيقة قول الشاعر:
أخربها عمران من بناها * وكر ممساها على مغناها(12)
فنبه بهذا على وجود نهج المغايرة عند بعض الشعراء بل جاء بشواهد من القرآن الكريم "هذا نزلهم يوم الدين" لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا"(13)
ويفهم من كلام ابن رشيق أن الإيحاء أفضل من التصريح في الشعر لاتساع الظن وهذا عين ما يذهب إليه نقاد الحداثة- يقول: "وأنا أرى أن التعريض أهجى من التصريح لاتساع الظن في التعريض وشدة تعلق النفس به، والبحث عن معرفته وطلب حقيقته، فإذا كان الهجاء تصريحاً أحاطت به النفس علماً وقبلته يقيناً في أول وهلة، فكان كل يوم في نقصان"(14). ما كان أحراه أن يعمم حكمه هذا على أغراض الشعر كلها!.
ومثله قول عبدالقاهر الجرجانى : "وكما أن الصفة إذا لم تأتك مصرحاً بذكرها، مكشوفاً عن وجهها، ولكن مدلولاً عليها بغيرها، كان ذلك أفخم لشأنها وألطف لمكانها. كذلك إثبات الصفة للشئ تثبتها له، إذا لم تلقه إلى السامع صريحاً، وجئت إليه من جانب التعريض والكناية والرمز والإشارة كان له من الفضل والمزية ومن الحسن والرونق ما لا يقل قليله ولا يجهل موضع الفضيلة فيه(15).
وكذلك نسب أستاذنا عبد الله الطيب – رحمه الله – مغايرة الواقع للشعراء الأقدمين وذهب إلى أن رموزهم أدخل في باب الوهم منها في الواقع – يقول: ولعلك تكون قد فطنت إلى أن تعداد المواضع في الشعر الجاهلي كالذي عند لبيد وزهير والنابغة وإن كان لا واقعياً وإن كان صورياً، فهو لا يزال قريباً من الواقع. ولكن جريراً لا يعطيك الفرصة لتنسب إليه مثل هذه الواقعية ولو على سبيل الفرض المحض، فمواضعه أشبه بالرموز، وأدخل في حاق* الوهم، وأكثر إيغالاً في الصورية العاطفية البعيدة عن الأرض اللاحقة بالسماء و"أثير" "الخيال"(16).
ومثله ما نقل عدنان حسين عن أبو ديب أن: وقفة الشاعر على الأطلال لم تكن واقعية بل تجربة تخيلية إبداعية.. وهو خلق يعتبر كشفاً لرؤية أكثر عمقاً وغوراً وأكثر جوهرية وأساسية من الرؤية التي يوحى بها المستوى السطحي لوحدة الأطلال كما تفسرها الدراسات التقليدية"(17).
غير أن كبار رواد الحداثة الأدبية وصموا الموروث الشعري بالمطابقة المحضة ودعوا إلى تجاوزه شكلاً ومضموناً، وقد ذهب أدونيس - وهو يعد ناقداً وشاعراً من أكبر دعاة الحداثة الشعرية إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق - إلى أن الإسلام دعا إلى تطابق الشعر والحقيقة:" ومن الطبيعي إذن أن يقيم الإسلام الشعر على قاعدة ثابتة تتطابق مع الحقيقة الثابتة وأن يحارب الشعر الذي يقوم على المغامرة والاحتمال"(18) أحقاً حارب الإسلام الشعر الذي يقول على المغامرة والاحتمال؟ لقد خلد ديوان الشعر العربي أسماء كثيرة من شعراء المغامرة والاحتمال: طرفة بن العبد، حسان بن ثابت، عمر بن أبي ربيعة، أبو نواس، أبو تمام ..إلخ. ومهما يكن من أمر فإن الذي يميز أدونيس كاتباً وشاعراً هو أنه من أصحاب مركزية الخطاب الأدبي، وهو صاحب نظرية متكاملة في الشعر تنهج نهج المغايرة الكلية في المضمون والشكل جميعاً - يقول: "لم تعد الغاية أن ينقل الكلام خبراً يقينياً أو أن يعلم وإنما أصبحت الغاية أن ينقل الكلام احتمالاً أو أن يخيل. فهي "يعني اللغة الشعرية" لا تهدف إلى أن تطابق بين الاسم والمسمى وإنما تهدف على العكس إلى أن تخلق بينهما بعداً يوحي بالمفارقة لا المطابقة"(19)، وقد جاء شعره تصويراً صادقاً لنظريته، مثل قوله:
" أعرف أن الطريق

لغة في شعوري لا في المكان
لغة في العروق وفي نبضها، لغة في السريرة
حيث تأتي المسافات من أول الروح موصولة بالبريق
ببريق الفتوحات والكشف والعابرين
في التخوم الاخيرة"(20)
هذا هو عين رأيه في لغة الشعر الجديد ونهجه، وهو على كل حال نص جميل محلق، لا وجود للعالم الخارجي فيه على حد تعبير عدنان حسين(21). ذلك أن شعره - بل ينبغي أن يكون كل شعره جيد كذلك - لا يأبه بالواقع، إنما هو دائم البحث عن صياغة جديدة لهذا الواقع المألوف يقول:
"لأني دم ولأني لحم
أحب حدودي وأكره
أني أحب حدودي
ألا صورة من جديد
تصاغ لهذا الوجود"(22).
هل هي إعادة صياغة الشعر أم صياغة الوجود نفسه؟
بسبب من تكوينه المادي يجب حدود "أناه" أو قل حدود المادة بمختلف أشكالها، لكن هذا الحب لا يريحه لأنه يأسره في هذه الحدود الضيقة - أم تراه يأسر شعره؟- أفلا سبيل إلى الانعتاق نحو آفاق أكثر رحابة؟
ومن جميل ما قيل في لغة الشعر الجديد قول درويش:
"لغتي خرير الماء في نهر الزوابع
ومرايا الحنطة في ساعة حرب
ربما أخطأت في التعبير أحياناً
ولكن كنت لا أخجل
رائع عندما استبدلت بالقاموس قلبي"(23).
هل هذه هي اللغة المسماة بلغة اللادلالة "لغة التفجير" عمد فيها إلى تحطيم المستوى الأفقي القائم على مجاورات الألفاظ وعلاقاتها التي تفرز دلالاتها وأبقي على مستواها الرأسي؟(24). ربما! وهي اللغة الغالبة على شعراء الحداثة في الجيلين: الأول والثاني فاتسم شعرهم بالغموض، بل هو السمة الأساسية للشعر الحداثي لتأثر أصحابه فيما يبدو بمثل قول الناقد الفرنسي رولان بارت " ولا يمكن للنصوص الأدبية أن ترد إلى أنظمة مفهومية، إذ المفاهيم نفسـها في الكتابـة المتخيلـة تفقد طابـعها المفهومي(25)"؟.. والغموض من أشكل مشكلات الشعر الحداثي غير أنه أهم عناصره على الإطلاق، فهو عمود المغايرة. فقد يشتط الشاعر حتى " يبقى العالم الفني غائراً في قلب الذات الشاعرة لا تصل إليه الأعين ولا يدرك كنهه العقل"(26) كما يقول عدنان حسين.
ولكن يبقى الغموض عنصراً أساسياً في الشعر الحداثي، وقد نبه إلى أهميته ابن رشيق كما قدمنا ودعا إلى إخفاء بعض معاني الشعر مفضلاً التعريض على التصريح. وقد ذهب مذهبه أدونيس منبهاً في الوقت نفسه إلى إشكال الغموض الشديد يقول: "ليس من الضروري لكي نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكاً شاملاً. بل لعل مثل هذا الإدراك يفقدنا هذه المتعة. ذلك أن الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة. ولذلك هو قوام الشعر. إلا أن الغموض يفقد هذه الخاصية حين يتحول إلى أحاج وتعميات"(27). على أن لأدونيس تعريفاً جميلاً للشعر الذي يدعو إليه يقول: " فالقصيدة العظيمة لا تكون حاضرة أمامك كالرغيف أو كأس الماء. وهو ليس شيئاً مسطحاً تراه أو تلمسه وتحيط به دفعة واحدة. إنها عالم ذو أبعاد... عالم متموج متداخل كثيف بشفافية، عميق بتلألؤ.. تعيش فيه اوتعجز عن القبض عليها، تقودك في سديم من المشاعر والأحاسيس، سديم يستقل بنظامه الخاص، تغمرك، وحين تهم أن تحضنها تفلت من بين ذراعيك كالموج"(28).
هذا الوصف يصدق على كثير من إنتاج شعراء الحداثة. انظر مثلاً إلى قول أمل دنقل:
"اذكريني...
فقد لوثتني العناوين في الصحف الخائنة
لونتني
لأني منذ الهزيمة لا لون لي
غير لون الضياع
قبلها كنت أقرأ في صفحة الرمل
الرمل أصبح كالعملة الصعبة
الرمل أصبح أبسطة تحت أقدام جيش الدفاع
فاذكريني
كما تذكرين المهرب
والمطرب العاطفي
وكاب العقيد
وزينة رأس السنة
اذكريني
إذا نسيتني شهود العيان ومضبطة البرلمان
وقائمة التهم المعلنة
فالوداع الوداع.."(29).
من هذه التي يطلب إليها أن تتذكره: أهي صاحبته أم أمته؟ وكيف يكون لون الضياع؟.
هذا النص هو خير مثال للانتقال من خشونة اللفظ إلى خشونة المعنى. الأمر الذي يميز شعر أمل دنقل خاصة بالإضافة إلى التناص أفقياً ورأسياً وتوظيف التراث عموماً:
" أيتها النبية المقدسة
لا تسكتي فقد سكت سنة فسنة
لكي أنال فضلة الأمان
قيل لي: "اخرس"
فخرست وعميت وائتممت بالخصيان
ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان
أجتز صوفها
أرد نوقها
أنام في حظائر النسيان
طعامي الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان
دعيت للميدان
أنا الذي ما ذقت طعم الضان
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان
أُدعى إلى الموت ولم أدع إلى المجالسة
تكلمي.. تكلمي
فها أنا على التراب سائل دمي
وهو ظمئ يطلب المزيدا
أسائل الصمت الذي يخنقني
"ما للجمال مشيها وئيدا؟
اجندلاً يحملن أم حديدا؟"(30)
وهو تصوير غني للمشهد العربي المتخاذل في قضايا المقاومة وتوزيع السلطة والثروة والثقافة؟
ومما يتصل بالمغايرة مصطلح التناص الذي ظهر في هذا العصر ويقصد به استفادة الشاعر من نصوص الآخرين وتوظيفها في بنائه الفني الخاص – يقول حميد لحمداني عن التناص: "كل نص يقع في ملتقى مجموعة من النصوص بحيث يكون هو الجامع بينها والمشكل لها ومكثفها ومحولها"(31) ثم يضيف: "دخول هذه النصوص إلى نص جديد ينتج عنه بالضرورة تحويل في دوالها ومدلولاتها"(32).
على أن التناص عنصر أساسي من عناصر البناء الشعري الحديث وقلما يتنكبه شاعر. كذلك توظيف التراث المحض في البناء الشعري, وإن اشتمل النص على بعض اللغات الدارجة كما استثمر الشاعر عز الدين المناصرة أغنية فيروز "لا تندهي ما في حدا ":
لا تندهي يا حلوتي
فالليل في كل الفصول يطول يصبح كالردي
لا تندهي فالموت في كل الدروب
وأنا وأنت نصيح في الدنيا سدى
" لا تندهي ما في حدا "(33).
غير أن مقدرات الشعراء تختلف في التناص وتوظيف التراث، النص التالي لزهير أبو شايب أدخل في حاق الفن:
"قل تعالوا إلى نخلة في الجسد
أصلها ثابت في التراب
وهي حل بهذا البلد
وابحثوا عن جواب".(34)
وقد ذهب حكمت النوايسة أعمق في الصور المستقاة حتى أصبحت جزءا من نسيج النص:-
"يقينا تجشمت مر العناء لتنجو بسقط اللوى
وبين الدخول وبين الأفول جرعت الطوى
وواريت جوعك
حين غفرت لزغب الحواصل عن كاسب
وجدت بقدرك
لم تسأل الدار ماذا حوى"(35).
ومن المغايرة أيضاً ما اتصل بقضية الشكل أو الموسيقى فقد تجاوز رواد الشعر الحداثي الموسيقى الموروثة واستبدلوا الشكل القديم بالشعر الحر الذي أسس أصلاً على التفعلية التي تعتبر عمدة موسيقى الشعر الموروث. ولذا بقيت صلة الشعر الحر بالشعر العمودي، ظهر هذا بجلاء عند الرواد: نازك الملائكة، السياب، البياتي، صلاح عبد الصبور، بل حتى عند بعض المتأخرين مثل أمل دنقل ومحمد عبد الحي، باستثناء بعض أعماله الشعرية، غير أن الجدل الكثيف إنما أثير حول ما يسمى بقصيدة النثر بزعامة أدونيس وأضرابه فقد دعوا إلى تجاوز الشعر العمودي جملة على أن يتخذ النص الشعري ما يناسبه من شكل لا أن يعرض عليه شكل ابتداء. يقول أدونيس: "لم يعد الشكل شيئاً يحدد للقصيدة من الخارج وإنما أصبح قوة تبرز الكيان الذي أسلمه إليها الفعل الخلاق. لم يعد للقصيدة شكل وإنما أصبحت بذاتها شكلاً"(36). ويرى أدونيس أن إدراك موسيقى قصيدة النثر أصعب من إدراك موسيقى الشعر العمودي لأنها ليست محددة ابتداء وإنما تتخذ شكلها من جو النص"(37). ويبدو أنه لم يعول كثيراً على هذا الشكل المتجدد الذي اقترحه، فقد التزم في كثير من نصوصه الشعرية شكل الشعر الحر، بل حتى بعض قصائد النثر عنده لا تخلو من تكرار تفعيلة بعينها فهي بذلك أقرب إلى الشعر الحر. كذلك على المستوى النظري لم يشترط التجاوز المستمر لجودة النص: "ومع ذلك فإن تحديد شعر جديد خاص بنا نحن في هذا العصر لا يبحث عنه جوهرياً في فوضى الشكل، ولا في التخلى المتزايد عن شروط البيت، بل في وظيفة الممارسة الشعرية التي هي طاقة ارتياد وكشف"(38).
ويبدو أن الشكل ليس عنصراً جوهرياً في بنية الشعر العربي وإلا لما احتمل هذا التطور الذي طرأ على شكله تاريخياً، فمن مزدوجة إلى مسمطة إلى موشحة إلى شعر حر! ومن جهة أخرى فإن الموسيقى مطلق الموسيقى أمر جوهري في البناء الشعري عند العرب ، فهل تخلو قصيدة النثر من الموسيقى؟ يقول أدونيس:
" أنا بيت هذا الضوء الذي لا يضاء
قلقي شعلة على جبل التيه... وحبي منارة خضراء"(39)
ويقول:
" أحرق ميراثي، أقول أرضى بكر، ولا قبور في شبابي
أعبر في كتابي
في موكب الصاعقة المضيئة
في موكب الصاعقة الخضراء
أهتف لا جنة لا سقوط بعدي(40)
إلى أي شكل ينتمي هذا النص؟ بعض الأبيات من الشعر الحر على تفعيله الرجز ولكن أبياتاً أخرى مثل قوله "أمحو لغة الخطئية" ليست على شكل مألوف. لكن هل يخرجها شكلها المختلف من دائرة الشعر؟ الرأي عندي أن المغايرة عموماً في البناء الفني الشعري من شأنها أن تزيد النص ثراء وغنى، يكتنز بالدلالات يوحي إليك بأمر ما من أي الزوايا قرأته. وهنا يبرز دور القارئ الجيد، وضرورة الدربة على القراءة – يقول لحمدانى: "ما عاد القارئ المعاصر مجرد متلقٍ سلبي، إنه يقوم بنشاط ذهني مزدوج، يتلقى اقتراحات المؤلف ثم يعيد بناءها من جديد ليكتشف نصه الخاص"(41)
النص التالي للشاعر السوداني هاشم ميرغني:
" من آخر جمهرة للروح
يطلع صوت امرأة
لتسارني أنخاب مسرتها وتقاسمني البوح
تفتح في أدغالي يم الأحزان المرة كالقهوة
فتلملمني حزناً حزناً حتى أشفى
كانت تأتي ما بين قيامة ورد الليل
وطلوعي من صلصال حناياي الأولى
فتسوي هذا الجسد المحزون ركاما
ها قد سد الطمي مسام الروح
من أين ستطلع (42)
مثال للعمق والإيحاء - على غموضه النسبي - لا تكاد تقف على معنى له إلا على وجه الاحتمال، وقد يوحى إلى قارئ آخر بمعنىً مغاير. على أن الدعوة إلى شعر مغاير – وإلى نقد مغاير بالطبع – لا يعني رفض الشعرالقديم الذي تغلب عليه المطابقة. فنحن لا نزال نعده مصدراً للقوة والإثارة والطرب، بل نحس بأن شعر امرئ القيس وطرفة والنابغة والمتنبي وابن أبى ربيعة على سبيل المثال قد لا يتأتى الإتيان بمثله.
وجملة الرأي أن موروثنا الشعري على عظمته يعبر عن أزمنة وأمكنة محددة، لأنه أبدع تحت سيطرتها وثقافتها، فليس من الشعرية أن نتخذ ميراث الشعر ونقده معياراً يتحكم في المنتج الشعري الآني، بل على النقد أن يتسع صدره لما استجد في الشكل والمضمون ما راعى شروط الأصالة والإبداع.


الهوامش
1. الموازنة بين أبي تمام والبحتري: أبوالقاسم الحسن بن بشر الآمدي، تحقيق أحمد صقر، 1380هـ- 1960م، دار المعارف، مصر، الجزء الأول ص 38.
2. نقد الشعر لقدامة بن جعفر ، تحقيق كمال مصطفى، الناشر: مكتبة الخانجي بمصر ومكتبة المثنى ببغداد، 1963م، ص 218.
3. الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، دار الثقافة، بيروت، ط الثالثة 1962م، 1/115-116.
4. الموازنة، 1/258.
5. نفسه، 1/18.
6. العمدة لابن رشيق القيرواني، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الثانية، يونيو 1955م، الجزء الأول، ص 233.
7. نقد الشعر ، ص 17.
8. نفسه، ص 21.
9. نفسه، ص 238 – 239.
10. نفسه، ص 234 – 235.
11. نفسه، ص 244.
12. البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1948م، الطبعة الأولى، الجزء الأول، ص 152.
13. نفسه ، 1/153.
14. العمدة، 2/173.
15. دلائل الإعجاز، تأليف عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة ودار المدني بجدة، ط ثالثة، 1992م، ص 306.
16. المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، عبد الله الطيب، دار جامعة الخرطوم للنشر، الطبعة الاولى، الكويت، 1990م، الجزء الثاني، ص 97.
17. الاتجاه الأسلوبي البنيوي في نقد الشعر العربي، عدنان حسين قاسم، دار ابن كثير ، الطبعة الأولى، 1992م، ص 37.
18. الثابت والمتحول – الأصول – أدونيس، على أحمد سعيد ، دار الفكر، بيروت، الطبعة الخامسة، 1986م، ص 156.
19. نفسه، ص 110.
20. لغة الشعر العربي، د. عدنان حسين، الكويت، مكتبة الفلاح، 1410هـ – 1989م، ص 77.
21. نفسه.
22. نفسه، ص 89.
23. نفسه، ص 111
24. الاتجاه الأسلوبي البنيوي، ص13.
25. نفسه، ص 51.
26. لغة الشعر العربي، ص 12 .
27. زمن الشعر، أدونيس، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1406هـ – 1986م، ص 21.
28. نفسه، ص 159.
29. الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل ، مكتبة مدبولي، ص 340 – 341.
30. نفسه، ص 161 – 162.
31. القراءة وتوليد الدلالة، دكتور حميد لحمداني، المركز الثقافى العربي، الدار البيضاء، المغرب، طبعة أولى 2003م، ص 24.
32. نفسه، ص 25.
33. تخصيب النص، محمد الجزائري، مطابع الدستور التجارية، 2000م ، ص 228.
34. نفسه، ص 237.
35. نفسه، ص 349.
36. الثابت والمتحول – الأصول – ص 111 – 112.
37. زمن الشعر، ص 39.
38. نفسه، ص 14.
39. تخصيب النص، ص 194.
40. نفسه.
41. القراءة وتوليد الدلالة، ص 13.
42. غير مطبوع.


* الحاق : الحقيقة.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59