عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 11-07-2013, 03:55 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي



الفصل الثاني:

النص الأدبي بين ثنائية اللفظ
والمعنى والفصاحة والبلاغة حتى ابن رشيق




لم يكن قصدنا مقاربة تصور الذهن العربي الإسلامي لإشكال اللفظ والمعنى من منظور تاريخي يتنامى فيه الرصد وفق تتابع الفكرة، إنما هدفنا تحسّس هذا التصور لدى الطوائف التي نخصها بالبحث وفق ما يستوجبه منطق منهجه الذي يقتضي أن نخص كل فئة أو تيار بوقفة أو وقفات، فكان أن انتهت دورة النقاد الأولى بقدامة بن جعفر، وبه اكتمل رأي في النص الأدبي ينوع في أشكال معالجته له بدءاً من الإلحاح على ضرورة التشاكل والتطابق بين المعنى واللفظ التي ستصل إلى نضوجها في المصادرة على فكرة صورة المعنى المطروحة من أيام الجاحظ، إلى فكرة الائتلاف الضام لعناصر النص المختلفة كما رأينا ذلك عند قدامة بن جعفر.
والواقع أن النقاد الذين نخصهم بهذه الوقفة بدءاً من أصحاب الموازنات، ثم بعض البلاغيين كأبي هلال العسكري وابن سنان الخفاجي اللذين تزاوج الطرح عندهما في بحث إشكال اللفظ والمعنى بإشكال الفصاحة والبلاغة، إلى فئة من نقاد القرن الخامس الهجري كالمرزوقي والشريف المرتضى وابن رشيق، دون أن نجزم بانفصال حقل البلاغة عن حقل النقد لدى هؤلاء ولدى غيرهم أيضاً، كان بين أيديهم وواكبهم نتاج وافر في الميدان، تجسّده إنجازات النقاد السابقين، وتمثّل أيضاً في أعمال متفلسفة في الإسلام في مجال النقد الأدبي والبلاغة انطلاقاً من مختصرات الكندي إلى آراء الفارابي مع الإشارة إلى طروحات أبي حيان التوحيدي واجتهادات مسكويه وتشعبات آراء فلاسفة القرن الرابع في الأدب نثره وشعره عامة، وفي معضلة اللفظ والمعنى خاصة كما تبلوره أيضاً طائفة المتكلمين التي استقطب نتاجها مبحث إعجاز القرآن كحال الجاحظ في مؤلفه الذي لم يصلنا، وما يمكن أن يكون قد بثّه الواسطي في الموضوع مما تضمنه كتابه في إعجاز القرآن أيضاً، إلى المعالجة المتقدّمة كما يجسدّها الرماني والخطابي فالباقلاني وغيرهم، هذه الفئات المتعاصرة والمتداخلة كان يمكن أن تتيح للنقاد الذين ندرسهم في هذا الموضع مزيداً من تعميق البحث في إشكال اللفظ والمعنى، إلا أن هؤلاء ظلوا في الأغلب- أمناء لطروحات السابقين وخاصة الجاحظ وقدامة- فيما يخص قضيتنا طبعاً- ولم يتمكنوا من إضافة الجديد الحق باستثناء بعض التفريعات والتشقيقات أحياناً، دون أن ننسى محاولة هذا الناقد أو ذاك تنزيل عمله في إطار عام كالإشكال الذي انطلق منه الآمدي والقاضي الجرجاني المتمحور حول قضية الموازنة والوساطة التي ستشكل بدايتنا في قراءة آراء هؤلاء النقاد والبلاغيين.

اللفظ والمعنى عند أصحاب الموازنات

تكشف الموازنة بين البحتري وأبي تمام والوساطة بين المتنبي وخصومه عن ذوقين في الكتابة ومنحيين في تصور خصائص الفن في النص الأدبي، وهذان الموقفان ليسا إلا واجهتين لصدام خفي بين مسلكين في المعرفة، اقتنع أحدهما بأنه الوصي على أصول قديمة راسخة في الثقافة العربية الإسلامية تُحدُّ بجهود اللغويين ومن تأثر بهم في البحث البلاغي والأدبي، وتترسخ قناعة هذا التيار شعرياً في ضرورة تأسيس هذا الفن ممارسة ونقداً على ثوابت تقاليد القصيدة الجاهلية. واستفاد ثانيهما من روافد ثقافية فلسفية ومنطقية فعكف يستمليها ليجدد الحياة في عروق القصيدة العربية، إذ خيّل إليه أن تدقيق المعنى وسبكه في صورة معقدة تقوم على الاستغلال الواسع لأوجه بلاغية كالاستعارة والجناس والطباق، وتوظّف الألفاظ المستعارة من حقول معرفية ظلت غريبة عن الشعر كعلم الكلام والفلسفة تجديد في الشعر، فكان أن اختلفت مواقف النقّاد بين منتصرٍ للقديم ومنتصرٍ للمحدث. وظل الصدام مطروحاً والخلاف مستفحلاً إلى أيام الآمدي والقاضي الجرجاني بل إلى ما بعدهما، حيث قدر لهذا الخلاف أن يأخذ مداه كاملاً بالاعتكاف على استخلاص الأسس والقواعد الفنيّة التي ستمكن من وضعه في إطاره النظري المؤسس لمنطلقات كل طرف، مع توثيق التنظير بتفريعات التمثيل والتحليل لأبرز كتابات الطرفين.
من هنا تتنزّل الموازنة والوساطة في جوهر هذه الأعمال إذ نمثل بهما لأصحاب الموازنات عامة، لكنّنا لا ندعي أن الفواصل كانت حاسمة بين التيارين، ففي الشعر مثلاً، لا يمكن وضع البحتري بمنأى عن تلطيف المعنى واستغلال الشائع من الثقافة الفلسفية إذ له مثاليته الخاصة(1)، أما في النقد فإنه على الرغم من أن الآمدي لا يخفي موقفه من الانتصار لمذهب عمود الشعر العربي، فإنه لا يجد بُدّاً من الانطلاق من أصول فلسفية عامة يبني عليها رأيه في طريقتي الكتابة اللذين يمثّلهما كل من البحتري وأبي تمام.
فالآمدي إذ يهدف إلى توفير شروط الاقتناع بصحة رأيه في الشعر وميله إلى القديم يضع تصوره هذا ضمن نطاق شامل لكل صناعة بالاعتماد على فكرة العلل الأربع، ذلك "أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء وهي: جودة الآلة، وإصابة الغرض المقصود، وصحة التأليف، والانتهاء إلى تمام الصنعة من غير نقص فيها ولا زيادة عليها"(2)، ثم يدقّق هذه المصطلحات مقترباً من المصطلح المعتمد لدى الفلاسفة ذاكراً أن كل محدث مصنوع يحتاج إلى أربعة أشياء: "علّة هيولانية وهي الأصل، وعلّة صورية، وعلّة فاعلة، وعلّة تمامية"(3)، ليخلص إثر ذكر أنموذج الخلق عامة مصداقاً لهذه المبادئ أو العلل إلى التطبيق على فعل الصنعة الذي يشمل كل مصنوع، بما في ذلك الشعر، ذلك أنه لا يستقيم فعل الصنعة "إلا بهذه الأشياء الأربعة، وهي: آلة يستجيدها ويتخيرها مثل خشب النجار، وفضة الصانع، وآجر البناء، وألفاظ الشاعر والخطيب، وهذه هي العلّة الهيولانية التي قدّموا ذكرها وجعلوها الأصل. ثم إصابة الغرض فيما يقصد الصانع صنعته، وهي العلّة الصورية التي ذكروها. ثم صحة التأليف حتى لا يقع فيه خلل ولا اضطراب، وهي العلة الفاعلة. ثم أن ينتهي الصانع إلى تمام صنعته من غير نقص منها ولا زيادة عليها، وهي العلّة التمامية. فهما قول جامع لكل الصناعات والمخلوقات.
فإن اتفق الآن لكل صانع بعد هذه الدعائم الأربع أن يحدث في صنعته معنىً لطيفاً مستغرباً كما قلنا في الشعر من حيث لا يخرج عن الغرض، فذلك زائد في حسن صنعته وجودتها، وإلا فالصنعة قائمة بنفسها مستغنية عمّا سواها"(4).


وعلى الرغم من أن توظيف هذا الاقتباس لتوضيح فكرة الصنعة
الشعرية غير متطابق تماماً مع المعاني أو الوظائف التي حددها الفلاسفة للعلل الأربع(5)، فإننا نميل إلى أن الآمدي كان واعياً بالمنزع الذي نحاه في استغلال هذه المبادئ لتحديد تصوّره الشعر وجودته، من هنا لا نميل إلى وسمه بأنه "لم يعرف منزلة" العلة الصوّرية" من هذه العلل الأربع، وأنها هي التي تقوم بها الصفة الذاتية للشيء، وكأنه توهّم من قولهم إن العلة الهيولانية هي (الأصل) وأن العلل الباقيات فروع لها. وهو قد رأى هذه العلة الهيولانية في الألفاظ دون أن يلاحظ أن الألفاظ دوال على معان، ومن ثم كان بعيداً كل البعد عن أن يبين بطريقة فلسفية، صفات الشعر الجيّد، وانتهى إلى حيث بدأ من تقرير أن المعاني اللطيفة في الشعر نافلة ليست بأصل"(6). ذلك أن العوامل المؤدية إلى غير هذا الموقف كثيرة.

ونلاحظ بداية أن فكرة العلل الأربع شائعة في الأوساط الثقافية آنذاك وليست حكراً على فئة دون أخرى، إذ يبدو أن هذه المصطلحات، وخاصة مصطلح الصورة، رائجة التوظيف لدى الفئات المختلفة، وليس اعتماد الجاحظ وسم الصياغة الشعرية للمعنى بالصورة(7) سوى استغلال لهذا المنحى، فلا يمكن للآمدي أن يكون في منأى عن هذا الشيوع وهو يتخذ موقفاً رافضاً لكل ميل إلى استغلال التدقيق الفلسفي في الشعر، علماً بأنه عاش في القرن الرابع الهجري عصر رواج التفلسف وذيوع صيته، ناهيك أن انتقاده قدامة بن جعفر في كتابه "نقد الشعر"، ومخالفته إياه في مسائل كالمدح بصفات الجمال كانت تتيح له وهو ينقد هذا الكتاب المؤسس على فكرة التأليف واستغلال مفهوم الصورة والمادة بصريح قول قدامة، أن يدرك بعمق دلالات هذه المصطلحات وأن ينزّل مفهوم الصورة المنزلة التي تلائم المعنى الفلسفي، ولكنه أبى مسايرة قدامة ذلك لأنه يبتغي توظيف هذه المبادئ لخدمة أغراضه.
أما في الإطار العام فقد ساير معهود الاستعمال، ففي شرحه الخلق الإلهي للكائنات يرى أن "الهيولانية فهم يعنون به: الطينة التي يبتدعها البارئ جلّ جلاله ويخترعها ليصور ما شاء تصويره من رجل أو فرس أو جمل أو غيرها من الحيوان، أو برّة أو كرمة أو نخلة أو سدرة أو غيرها من سائر أنواع النبات"(8)، فباستثناء رأيه بأن الهيولى مخلوقة تمشيّاً مع التصور الإسلامي لفعل الخلق وهي عند الفلاسفة قديمة، نراه مدركاً لعلاقة الهيولى بالصورة، إذ إن فحوى كلامه يؤكد أن اختلاف المخلوقات إنما هو بالصورة الطارئة على المادة "الطينة". فالمخلوقات المعددة في النص تشترك في وحدة المادة وتختلف في الصورة التي تهب كلا خصائصه، فضلاً عن أن استعماله المصطلح يكشف عن إلمامه بالتنوع في الاصطلاح، فاستعماله العلّة التمامية وهي "إن صدقنا الآمدي في استعمال المصطلح تساوي العلّة الغائية"(9) يكشف عن إطلاعه على التنوع في الاصطلاحات المستخدمة في وصف الفكرة الواحدة، ذلك أن هذا الاستخدام يعود إلى أيام الفيلسوف الكندي(10).
أما المهم فهو مقابل اللفظ والمعنى في هذه المبادئ الأربعة، فهل "غير خاف أننا لا نستطيع مناقشة الآمدي في هذا التشبيه الذي استمده من الفلسفة، لأنه لم يفهمه. فالعلتان الأولى والثانية "الهيولانية والصورية" تقابلان في الشعر ما أطلق عليه النقاد العرب اسمي "اللفظ والمعنى"(11)؟ والحق أن التقابل لم يكن بهذه الكيفية دائماً، إذ من النقاد من قابل –حقاً- بين الهيولى والصورة والمعنى واللفظ كقدامة مثلاً، ومن تأثره كأسامة بن منقذ، والنواجي(12). ومن النقاد من اعتبر الهيولى مقابلاً للألفاظ، لأنه يعتبر موضوع الصنعة الشعرية للألفاظ وحسن تأليفها، ومن هؤلاء الآمدي وابن سنان وكلاهما انتقد قدامة وأفاد منه، وكذلك المواعيني الذي عرض إحسان عباس رأيه في الموضوع(13).
وتأسيساً على ما سلف لم يهمل الآمدي المعنى إذ يتنزّل عنده في مرتبتين:
مرتبة يكون المعنى فيها كالأمر البديهي يسميه المعنى المكشوف(14)، إذ إن كل صياغة شعرية لا بد أن تحتوي معنى، أمّا جوهر الشعرية فيكمن في الصياغة نفسها. ومرتبة يتحقق فيها للمعنى اللطافة والاستغراب، وهذا أمر
زائد في حسن الصنعة والجودة، ذلك أنّ الصنعة قائمة بنفسها مستغنية عما سواها(15).

ولذلك كان توظيف الآمدي فكرة العلل الأربع متمشياً مع هذه الأصول، ذلك أن تمام الصياغة الشعرية يتحقق بإصابة الغرض المقصود المقابل للعلّة الصورية التي تتأسس على الهيولى المتجسدة هنا في الألفاظ، وهو تحوير في القضية، إذ إن قدامة يرى أن المعنى كالمادة والشعر فيه كالصورة، والآمدي يرى اللفظ كالمادة وإصابة الغرض المقصود هو الصورة، ولا يشك في أن إصابة الغرض في الشعر هو تحقيق المعنى المقصود. ثم يتلوهما صحة التأليف حتى لا يقع فيه خلل ولا اضطراب، كما قال، ومن هنا نفهم قوله أخيراً: "فصحّة التأليف في الشعر وفي كل صناعة هي أقوى دعائمه بعد صحة المعنى، فكل من كان أصح تأليفاً كان أقوم بتلك الصناعة ممن اضطرب تأليفه"(16)، فصحّة المعنى هنا هي تنزّله ضمن المقصد والغرض حسب التقاليد الضابطة للأغراض، ومقتضيات الأعراف الاجتماعية وخصائص الصنعة الشعرية، ويبدو أن الآمدي استغل قدامة هنا، ذلك أن من شروط صحة المعنى لديه ملاءمته الغرض(17). أما صحة التأليف فهي مسألة صياغة تتعلق بنسيج الكلام ونظمه. وهكذا نصل إلى العلّة الغائية التي تضبط شروط إيفاء الصنعة حقها من غير زيادة ولا نقصان، وبتمامها يكمل لفعل الصنعة وجوده، وخارج هذا الوجود يمكن أن يتفق للشاعر تحقيق معنى لطيف، فهو كالفضلة يزيد من حسن الصنعة ما دام "لا يخرج عن الغرض". وانتفاؤه من الصياغة لا يعني قيام التأليف على شكل مفارق أجوف، إذ إنه يتأسس على معاني الشعر المعهودة كما حصرها عمود الشعر عند العرب.
وسيكون بين يدي الآمدي مبدآن اثنان يقيم بواسطتهما موازنته بين البحتري وأبي تمام، وبهما تتأسس معالجته النص الأدبي عموماً، وهما: حسن التأليف، ودقة المعاني، وحضور العنصرين في الصياغة الشعرية تحقيق لغاية الجودة القصوى، والاكتفاء بحسن التأليف فقط، مع قيامه طبعاً على معهود المعاني، يعني وقوع الصياغة ضمن قيم عمود الشعر العربي، وتلك طريقة البحتري، أما اعتبار تلطيف المعنى ودقته هاجس الكتابة الأول مع عدم إيفاء التأليف شروطه الجميلة، فهو خروج بالشعر عن مساره وتلك طريقة أبي تمام. ونجد أن فكرة التأليف الجميل ودقة المعاني ليست إلا امتداداً لثنائية اللفظ والمعنى، فهي تستفيد من فكرة الجاحظ عن المعنى ومن ثنائية ابن قتيبة وتعضدها بفكرة قدامة عن التأليف مع حضور خفيّ لفكرة الصورة أيضاً، فالتأليف الجميل يتعادل مع الصورة أو اللفظ في حين يتكافأ اصطلاح معنى مع المعنى الدقيق إذ إن "دقيق المعاني موجود في كل أمة، وفي كل لغة"(18)؛ وما دام التأليف عنده إفرازاً لتركيب العناصر بما فيها المعنى، فإن دقيق المعاني قيمة في ذات المعنى، وليست دوماً مشروطة بكمال التأليف، إذ إن إمكان الجمع بين سوء التأليف ودقيق المعاني وارد وهي الحجة التي يبرزها في وجه أنصار أبي تمام.
وتأسيساً على ما سلف يكون إيفاء التأليف حقه من الجمال والحسن تحقيقاً لغاية القول شعراً ونثراً، ومعاضدة هذا الركن بالمعنى اللطيف زيادة في البهاء ذلك أن "ليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت لـه وغير منافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف، وتلك طريقة البحتري. قالوا: وهذا أصل يحتاج إليه الشاعر والخطيب صاحب النثر... فإن اتفق - مع هذا- معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن، فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه، واستغنى عما سواه"(19).
وما دام هذا الموقف انتصاراً لخواص الصياغة ذاتها، وإحلالاً للمعاني الفكرية والحكمية محلاً ثانوياً وهو رأي يكشف أن ميزة الشعر العربي تتجسد في "البيان، والفصاحة، وحسن الصياغة، لا المعاني، فالمعاني يستطيعها كل إنسان بكل لسان"(20)؛ فإنه يكون اعتماد طريقة مغايرة للطريقة السابقة بالتركيز على المعاني الفلسفية انحرافاً عن الذوق الراسخ كما يرى الآمدي وانفلاتاً من إسار التقليد الفني الذي يبوئ التأليف الجميل المقام الأول، فإذا "كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته مقصرة عنها، ولسانه غير مدرك لها حتى يعتمد دقيق المعاني من فلسفة يونان، أو حكمة الهند أو أدب الفرس، ويكون أكثر ما يورده منها بألفاظ متعسفّة ونسج مضطرب، وإن اتفق في تضاعيف ذلك شيء من صحيح الوصف وسليم النظر، قلنا له: قد جئت بحكمة وفلسفة ومعان لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيماً، أو سميناك فيلسوفاً، ولكن لا نسميك شاعراً، ولا ندعوك بليغاً، لأن طريقتك ليست على طريقة العرب، ولا على مذاهبهم، فإن سميناك بذلك لم نلحقك بدرجة البلغاء ولا المحسنين الفصحاء"(21). فلا شك أن الموجّهات السياسية والحضارية عملت على بلورة هذين المنحيين في الكتابة إلا أنه في ظنّ الآمدي يتحقّق الإبداع في الإخراج المتكرر للمعهود، ذلك أن الطريف بحسبه يكمن في تلبّس المعهود المتداول بالغريب والجديد حسب ما تحققه جماليات التأليف، فحسن "التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسناً ورونقاً حتى كأنه قد أحدث فيه غرابة لم تكن، وزيادة لم تعهد، وذلك مذهب البحتري"(22). وهذا حل مزدوج، فبالقدر الذي يبقي على الصلات بالمعهود يفتح المجال للجديد الذي لا يعبث بالأصول، عكس المنزع الآخر، ذلك "أن سوء التأليف ورداءة اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميّه حتى يحوج مستمعه إلى طول تأمل، وهذا مذهب أبي تمام في معظم شعره"(23).
وأوجه التقابل التي نزّل فيها الأصلين الفنيين، جودة التأليف، ودقيق المعاني تساعدنا على حل الإشكال الذي يضعنا فيه نصه التالي، فقد وجد "أهل النّصفة من أصحاب البحتري، ومن يقدم مطبوع الشعر دون متكلفه، لا يدفعون أبا تمام عن لطيف المعاني ودقيقها، والإبداع والإغراب فيها... وإن اهتمامه بمعانيه أكثر من اهتمامه بتقويم لفظه، على شدة غرامه بالطباق والتجنيس والمماثلة، وأنه إذا لاح له أخرجه بأي لفظ استوى من ضعيف أو قوي... وإذا كان هذا هكذا فقد سلموا لـه الشيء الذي هو ضالة الشعراء وطلبتهم، وهو لطيف المعاني، وبهذه الخلّة دون ما سواها فضل امرؤ القيس، لأن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف ولطيف التشبيه وبديع الحكمة، فوق ما في أشعار سائر الشعراء من الجاهلية والإسلام، حتى أنه لا تكاد تخلو له قصيدة واحدة من أن تشتمل من ذلك على نوع أو أنواع، ولولا لطيف المعاني واجتهاد امرئ القيس فيها وإقباله عليها، لما تقدم على غيره، ولكان كسائر الشعراء من أهل زمانه، إذ ليست لـه فصاحة توصف بالزيادة على فصاحتهم، ولا لألفاظه من الجزالة والقوة ما ليس لألفاظهم"(24)، ولكن هل يمكن اعتبار هذا الموقف المشيد بالمعاني وكونها وسيلة السبق والتقديم وأنها ضالة الشعراء وطلبتهم مخالفاً لرأيه فيما سلف من نصوص، وتأكيده أن التأليف الحسن هو أسّ الشعر وبذلك فضل البحتري؟ فهل نعد ذلك تناقضاً "في تصور الآمدي لتياري النقد، بسبب من ميله الذاتي إلى الفريق الثاني"(25)، الفريق الذي ينصر التأليف الجميل؟ الواقع أن تقديم امرئ القيس، حسب رأي الآمدي، لم يتم إلا بتعاضد دقيق المعاني والتأليف الحسن في شعره، وهي الغاية في الجودة، إذ ما دام يستوي وغيره في الفصاحة ذلك أن "الأعرابي إنما ينظم كلامه المنثور الذي يستعمله في مخاطباته ومحاوراته"(26)، فإن سبق امرئ القيس يكمن في أنه اتفق له من بديع المعاني ما لم يتفق لهم، في حين أن تحقيق أبي تمام "ضالة الشعراء وطلبتهم" لم يسنده دوماً تأليف جميل. من هنا لم تشفع له دقة المعاني أمام سوء التأليف ورداءة اللفظ، وهذا يتماشى مع أصوله ومنطلقاته المحددة لجودة الكلام.
ومع كل ما سلف إلا أن موقف الآمدي لا يلبث أن يضطرب ويتذبذب، ولعل مردّ ذلك قصده التلطّف في مواجهة أنصار أبي تمام ومحاولة الإيهام بموقفه العادل في الموازنة، إذ يكاد يتزحزح عن الموقف السابق في تبرير السبق بجودة التأليف ودقة المعنى معاً أو الاكتفاء بالتأليف الحسن في المشهور من المعنى، إلى اعتبار أن السبق المعنوي شفيع لاضطراب اللفظ فإذا "كان قد اضطرب لفظ أبي تمام واختلّ في بعض المواضع، فهل خلا من ذلك شاعر قديم أو محدث؟ هذا الأعشى يختل لفظه كثيراً، ويسفسف دائماً، ويرق ويضعف، ولم يجهلوا حقّه وفضله حتى جعلوه نظيراً للنابغة، وألفاظ النابغة في الغاية من البراعة والحسن، وعديلاً لزهير الذي صرف اهتمامه كلّه إلى تهذيب ألفاظه وتقويمها، وألحقوه بامرئ القيس الذي جمع الفضيلتين فجعلوهم طبقة، وصار فضل كل واحد من غير الوجه الذي فضل منه صاحبه"(27)، بل يكاد يتراجع عن موقفه من أبي تمام مطلقاً حين يتساءل بعد أن يورد شواهد شعرية له متعجباً "فكيف وبدائعه مشهورة، ومحاسنه متداولة، ولم يأت إلا بأبلغ لفظ وأحسن سبك"(28)، وهذا إقرار بتكامل الصنعة لدى أبي تمام ألفاظاً ومعاني، لكن الآمدي وإن اضطرب موقفه قليلاً من أبي تمام، فإن إلحاحه على التأليف الجميل لا ينفي لديه إمكان تكامله مع المعاني الدقيقة ليصل الشعر بتحقيقهما إلى مرتبة "امرئ القيس الذي جمع الفضيلتين".
ومع الإقرار بهذا الاضطراب إلا أن الراسخ في أغلب فصول الموازنة تأكيده المنظور الثنائي المؤسس على التأليف الجميل من جهة ودقيق المعاني من جهة أخرى، كما يلخصه قوله: "والمطبوعون وأهل البلاغة لا يكون الفضل عندهم من جهة استقصاء المعاني والإغراق في الوصف، وإنما يكون الفضل عندهم في الإلمام بالمعاني وأخذ العفو منها، كما كانت الأوائل تفعل، مع جودة السبك، وقرب المأتى"(29)، إلى أن تستحيل المقابلة رصداً لنمطي الكتابة لدى الشاعرين إذ يروي عن البحتري موازناً بين صنعته وصنعة أبي تمام قوله: "كان أغوص على المعاني منّي، وأنا أقوم بعمود الشعر منه"(30). والمواقف التي يلخصها فيها منهجي الكتابة لدى الشاعرين، ومن ثم خلاصة مبادئ المذهبين المتقابلين –حسب رأيه- مذهب عمود الشعر ومذهب التعقيد وتدقيق المعاني وابتكارها كثيرة، نجتزئ منها قوله: فإن كنت "ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق، فالبحتري أشعر عندك ضرورة. وإن كنت تميل إلى الصنعة، والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة، ولا تلوي على ما سوى ذلك، فأبو تمام عندك أشعر لا محالة"(31).
وعلى الرغم من أن ما سبق يرسخ مبدأ الثنائية القائمة أساساً على مقابلة التأليف الحسن بالمعنى الدقيق دون أن يمتنع الجمع بينهما كما رأينا، فإن مما يحمد للآمدي نظرات له في النص تقر بمبدأ التفاعل بين عنصري الدلالة: المعنى واللفظ، وإن كان بعض آرائه قد يؤكد الفصل بينهما بل التفاوت، يرى أنه "قد يتفاوت البيتان الجيدان النادران فيعلم أهل العلم بصناعة الشعر
أيهما أجود إن كان معناهما واحداً، أو أيهما أجود في معناه إن كان معناهما مختلفاً"(32)، فكأن الجودة لا تطول المعنى، إلا أن في مثل تعليقه على بيت أبي تمام التالي ما يجعل حضور المعنى في اعتبار الجودة وارداً، وهو قوله:

على مثلها من أربع وملاعب



أذيلت مصونات الدموع السواكب


يرى أن بعضهم قد أنكر "قوله: "مصونات الدموع السواكب" وقال: كيف يكون من السواكب ما هو مصون؟ وإنما أراد أبو تمام أذيلت مصونات الدموع التي هي الآن سواكب، ولفظه يحتمل ما أراده، والبيت جيد لفظاً ومعنى ونظماً"(33)، فالمعنى يتنزل هنا عنصراً في الصياغة، إلا أن اصطلاح "المعنى" يأخذ دلالة أخرى في مثل تعليقه على بيت البحتري:
قف العيس قد أدنى خطاها كلالها


وسل داري سدعي إن شفاك سؤالها


هذا لفظ حسن، ومعنى ليس بالجيد، لأنه قال: "قد أدنى خطاها كلالها" أي قارب من خطوها الكلال، وهذا كأنه لم يقف لسؤال الدار الذي تعرض لأن يشفيه سؤالها، وإنما وقف لإعياء المطي(34) فسوء المعنى هنا سببه عدم مطابقته الغرض وخروجه عن مبدأ اللياقة التي يمليها غرض الوقوف على الطلل، فليس المقصود بالمعنى هنا العنصر المتعاضد مع التأليف في بنية البيت، وإنما المنظور المتحكم في نقد المعنى هنا وضعه في إطار الغرض العام، ذلك أن الأغراض قد تكون "من جنس واحد وإن اختلفت المعاني"(35)، وهذا إقرار بإمكان التنوع في معاني الغرض الواحد حيث تظل المعاني محكومة بأصول عامة وإن أباحت لها الصياغة والتوليد تحقيق الجدة والطرافة، نرى ذلك في قوله معلقاً على بيت البحتري:
"أصبا الأصائل إن برقة منشد



تشكو اختلافك بالهبوب السرمد


مازلت أسمع الشيوخ من أهل العلم بالشعر يقولون: إنهم ما سمعوا لمتقدم ولا متأخر في هذا المعنى أحسن من هذا البيت، ولا أبرع لفظاً، ولا أكثر ماءً ولا رونقاً، ولا ألطف معنىً"(36). وذكره المعنى في التعليق ليس من باب التكرار إذ المعنى في الأول يراد به مطلق الغرض أو المقصد، وهو هنا يتوافق مع عنوان فرعي يذكره في مقدمة هذا الشاهد وهو: "تعفية الرياح للديار"، والمعنى في قوله "ولا ألطف معنى" حصر لدلالة البيت، وهو تعبير عن إعجاب الآمدي بما حققه البحتري من غرابة في الوصف.
ونصل أخيراً إلى ما يكاد يجزم بتنبه الآمدي لتبعية المعنى للصياغة، وهو موقف متطور نسبياً في تحليل النص يقوم على الإقرار بأن كل تغيير يطول الدال يتبعه حتماً تغيير في المعنى، وأن انتقاء الدوال ضمن محور الاستبدال يحكمه التنبه إلى لطائف في المعنى. يقول معلقاً على بيت البحتري يصف أخلاق الممدوح:
"يتصرّعن للرّجاء دنو الـ



مزن والودق خارج من خلاله


ولو قال "يتدانين للرجاء دنو المزن" لكان أحسن في اللفظ، وأوفق من أجل التجنيس، ولكن "يتصرعن" أوكد في المعنى، لأنه بمعنى يتساقطن ويتطرحن، يريد الإسراع إلى الرجاء من غير ترفق ولا توق للانحطاط والوقوع، ليدل على الحرص والشهوة"(37)، فالعلائق التي تتنزل فيها اللفظة في بنية البيت متنوعة، فبالقدر الذي ينتظمها وبقية الألفاظ التوافق والانسجام في المستوى الصوتي، بقدر ما يوفر لها الإشعاع المعنوي للدال التعاضد في مستوى التركيب والدلالة.
ومما يحمد الآمدي أيضاً في معالجته النص إيمانه بالخاصية الفنية المميزة له التي تقوم على الفصل بين ما هو تخييلي يقدم معرفة نوعية لا تقوم دوماً على النسخ لقانون المعطى الواقعي، إذ تكون الدلالة محصلة لحمة ألفاظ في النص لا مبرر لها سوى الحقيقة الفنية نفسها، وما هو رصد للواقعة أو "للحقيقة". يقول:
ورأيت من عاب قوله (البحتري):
فصبغت أخلاقي برونق خلقه



حتى عدلت أجاجهن بعذبه


وقالوا: إنما كان ينبغي لما ذكر الأجاج والعذب أن يقول "فمزجت" لا أن يقول "فصبغت"، أو لما قال "فصبغت" أن يقول "حتى عدلت ألوانها بحسن لونه" "وليست هذه المعارضة بشيء، والمعنى صحيح، وذلك أنه ليس هناك صبغ على الحقيقة فيقابل بذكر لون حتى يتكافأ المعنيان، ولا مشروب عذب ولا أجاج على الحقيقة فيستعمل ذكر المزج، وإنما هذه استعارات ينوب بعضها عن بعض، ويقوم بعضها مقام بعض، لأنها ليست بحقائق فيما استعيرت له"(38).
وللآمدي إشارات أيضاً إلى بنية الكلام فيما يسميه "استواء نظمه، وصحة سبكه، ووضع الكلام منه في مواضعه"(39)، ويتكلم عن "تعسف النظم ورداءته وتعقيده"(40)، الذي ينتج عنه اختلال في البيت وإشكال في المعنى(41).
ويحاول الاقتراب من شرح أسباب هذا الاضطراب بالاعتماد على رأيه في المعاظلة التي يراها "في شدة تعليق الشاعر ألفاظ البيت بعضها ببعض، وأن يداخل لفظة من أجل لفظة تشبهها أو تجانسها، وإن أخل بالمعنى بعض الإخلال، وذلك كقول أبي تمام:
خان الصفاء أخ خان الزمان أخا



عنه فلم يتخوّن جسمه الكمد


فانظر إلى أكثر ألفاظ هذا البيت، وهي سبع كلمات آخرها قوله "عنه" ما أشد تشبث بعضها ببعض، وما أقبح ما اعتمده من إدخال ألفاظ في البيت من أجل ما يشبهها"(42) ليخلص أخيراً إلى شرح مقولة النقاد المبينة لما يستجاد من النظم والنثر، وهي قولهم: هذا كلام يدل بعضه على بعض ويأخذ بعضه برقاب بعض، بقولـه: "إنما أرادوا المعاني إذا وقعت ألفاظها في مواقعها، وجاءت الكلمة مع أختها المشاكلة لها التي تقتضي أن تجاورها لمعناها: إما على الاتفاق، أو التضاد، حسبما توجبه قسمة الكلام"(43).
والخلاصة أن الآمدي قد أولى جمال التأليف عناية كبرى واعتبر حسن الصياغة وإن أخرجت المشهور المعروف علامة الشاعرية، وأن مراعاة دقيق المعاني إن شفعت له جودة الصياغة كان غاية الحسن، دون أن ينسى الإلمام بنظم القول عامة مبرزاً ضرورة الاعتناء بتنزيل الكلمات منازلها الملائمة في النص، وتجنب فساد النظم وتعسف التأليف.
وليس للقاضي الجرجاني فيما نرى إضافة تحسب له إلى قضية اللفظ والمعنى إذ قد شغله مبحث السرقات(44) خصوصاً عن إيفاء كثير من قضايا النقد حقها من الدرس، فتضاءل وزن ما أولاه لهذه القضية. ومع ذلك يكون منطلقنا في فهم رأيه في إشكال اللفظ والمعنى معضلة السرقات نفسها وإشكال الصراع بين القدماء والمحدثين، حيث يرى أن لو أنصف المحدثون "لوجد يسيرهم أحق بالاستكثار وصغيرهم أوفى بالإكبار، لأن أحدهم يقف محصوراً بين لفظ قد ضيق مجاله، وحذف أكثره، وقل عدده، وحظر معظمه، ومعان قد أخذ عفوها، وسبق إلى جيدها"(45)، وإذا كان شبح ابن طباطبا ماثلاً في هذا التحليل، فإنه يكشف أيضاً عن فهم كمي لكل من اللفظ والمعنى حتى ليبدو ثراؤهما في تناقض مع الزمن، علماً بأن تراكم الكتابة والتوظيف المتنوّع للألفاظ سيكون من شأنهما تمديد مساحتها الدلالية، مما يتيح للمتأخر إمكانات أوسع تلبي مقاصده، إلا أن المسألة لم ينظر إليها من منظور المبدع ذاته ومدى ما تتطلبه تجربته الخاصة من استغلال متميز للموجود. ولم يقم فهم المعنى أيضاً بالاستناد إلى السياق وحده، بل كانت الرؤية منطلقة من الإيمان بأن الفعل الشعريّ يتلخص في الإخراج المتجدد للمعروف، وبالبحث والتوليد من الأصل. وتلك هي الأصول التي أملت رأي الجرجاني السابق.
لكن المهم في موضوعنا منطلقه الثنائي في تبرير أزمة المحدثين ذلك أن انحسار الاختراع أمامهم –حسب رأيه- يشمل اللفظ والمعنى معاً، بحيث أن عملية الصياغة الشعرية تقوم عنده أيضاً على ضرورة المقابلة بين الألفاظ ومعانيها وسبر ما بينهما من نسب، وامتحان ما يجتمعان فيه من سبب(46). وهذه الدعوة إلى إحداث وشائج القربى بين اللفظ والمعنى تمتدّ لتشمل صلة الألفاظ بالأغراض عامة وضرورة انتقاء ما يلائم كل غرض، إذ يجب "أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني، فلا يكون الغزل كالافتخار ولا المديح كالوعيد، ولا الهجاء كالاستبطاء، ولا الهزل بمنزلة الجد، ولا التعريض مثل التصريح"(47).
ومع ذلك تأسست صلة اللفظ بالمعنى عنده على فكرة الكسوة والتحسين إذ يتكلم عن موقع اللفظ الرشيق من القلب "وعظم غنائه في تحسين الشعر"(48)، وعن أثر لين الحضارة في المحدثين فترققوا "ما أمكن، وكسوا معانيهم ألطف ما سنح من الألفاظ"(49). أما الاستعارة فبها "يتوصل إلى تزيين اللفظ وتحسين النظم والنثر"(50). ومع ذلك استفاد من مجهودات السابقين في الإشارة إلى تميّز الخاصية الفنية للشعر عن الصياغة اللغوية للحقيقة(51). وكان يمكن أن يؤدي ذلك إلى الوعي العميق بتعلق الدلالة في النص الشعري بفعالية السيّاق، إلا أن الذهن ظل محكوماً في تعليل الظاهرة الفنية بالواقع ومقتضيات العُرفْ الاجتماعي وتقاليد الصنعة.
ويبدو أن ثنائية الآمدي القائمة على مقابلة دقيق المعاني بجودة التأليف وجدت طريقها إلى القاضي الجرجاني فصاغ رأيه في أبي تمام بنفس لغة الآمدي(52) ليبلور مذهبي الكتابة السالفين في قوله المشهور: "وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب، وشبّه فقارب، وبده فأغزر، ولمن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته، ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر، ونظام القريض"(53).
وللقاضي إشارات إلى اضطراب النظم، وسوء التأليف، وهلهلة النسج(54) في حديثه عن عيوب الشعر، إلا أنه يحاول بالاستعانة بجهود الآمدي وغيره من النقاد الاقتراب من الأسباب المؤدية إلى هذا الاضطراب علماً بأن وضعه النظم في جوار اللفظ كمقابلين للمعنى لا يدل على فهم دقيق له. يقول مردداً بعض أقوال خصوم المتنبي: "إنما عمد إلى شعر أبي تمام فغيّر ألفاظه وغيّر نظمه، فأما المعاني فهي تلك بأعيانها"(55)، ويستفيد من نماذج من شعر أبي تمام ضربها الآمدي للتعقيد، فيرجع هو أيضاً أسباب الهلهلة إلى فساد التركيب. يقول معلقاً على بيت أبي تمام:
"فحذف عمدة الكلام، وأخل بالنظم، وإنما أراد يدي لمن شاء رهن
(إن كان) لم يذق، فحذف (إن كان) من الكلام، فأفسد الترتيب وأحال الكلام على وجه"(56).

"يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعاً


من راحتيك درى ما الصاب والعسل"


ويعود إلى القضية ببعض التفصيل في بعض المواضع معتمداً دائماً في تعليله على فساد التركيب، منها قوله مورداً أقوال بعض خصوم المتنبي عقب بيته:
"وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه



بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه


... فما هذا من المعاني التي يضيع لها حلاوة اللفظ، وبهاء الطبع، ورونق الاستهلال، ويشح عليها حتى يهلهل لأجلها النسج ويفسد النظم، ويفصل بين الباء ومتعلقها بخبر الابتداء قبل تمامه، ويقدّم ويؤخّر، ويعمّي ويعوّص!"(57).
والخلاصة أن القاضي الجرجاني سار في طريق مدروس وشغلته قضايا أخرى عن أن يولي مسألة اللفظ والمعنى أهمية خاصة، وحتى القليل الذي أورده فيها لم يكن في مستوى آراء السابقين.
النص الأدبي وإشكال الفصاحة والبلاغة

ليس مصطلحا الفصاحة والبلاغة إلا مظهرين يدّلان على حضور إشكال اللفظ والمعنى في كل معالجة نقدية عرفها النقاد والبلاغيون العرب القدماء تبتغي اكتناه العلائق الرابطة بين عناصر النص.
ويزيد الأمر تأكيداً أن البلاغة والفصاحة تشكلان مجالاً معرفياً يهتم بعلاج النص عموماً، ومن هنا تظل الحدود التي تنضبط بها مفاهيم هذين المصطلحين لدى هذا البلاغي أو ذاك محكومة برأيه في اللفظ والمعنى. ولعل محاولة كل من أبي هلال العسكري وابن سنان الخفاجي تمثلان أنموذجين بارزين في هذا المنحى، ذلك أنهما تشكلان أبرز محاولتين عرفهما القرنان الرابع والخامس الهجريان تنطلقان من هذا الإشكال، دون أن نغفل الإشارة إلى عبد القاهر الجرجاني الذي سيشكل رأياً خاصاً في الموضوع نرجئه إلى بحث النظم لدى المتكلمين. وهاتان المحاولتان إذ تعتمدان في الأغلب على طروحات السابقين تنطلقان من رصد علائق الاتفاق والاختلاف بين مصطلحي البلاغة والفصاحة كأساسين تنضبط بموجبهما تفريعات البحث في النص، وإن اختلفت المحاولتان في تماسك المنهج.
أما أبو هلال العسكري فرغم أن تواتر نقوله عن السابقين وخاصة الجاحظ وابن قتيبة وابن طباطبا في ما يتعلق بقضيتنا أساساً سيوهن من محاولته ويهلهل أصالته، فإنه يحاول الاجتهاد أو يحاول إحداث نسق من الانسجام بين آراء مختلفة، من ذلك موقفه في عرض معاني الفصاحة والبلاغة، إذ بالإضافة إلى أنه يبوئها الصدارة في توزيع مادة الكتاب، فإنه يبسط الرأي فيهما مما يكشف عن محاولته تلمس مخرج يضمن له توليف رأي من مبسوط الآراء.
فهو بداية يحاول عرض المعاني اللغوية للاصطلاحين، فبعد التفريع في مجالات إطلاق البلاغة ومعانيها يحصر دلالتها في الكلام باعتبار أنها سميت بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه. ثم يخلص إلى الفصاحة التي يتمحور معناها حول تعبير المتكلم عما في نفسه وإظهاره، لينتهي أخيراً إلى تقرير هذه الخلاصة وهي أن "الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما: لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له"(58).
ثم يعرض أقوالاً لبعض العلماء منها أن "الفصاحة تمام آلة البيان، فلهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فصيحاً، لأن الفصاحة تتضمن معنى الآلة ولا يجوز على الله تعالى الوصف بالآلة، ويوصف كلامه بالفصاحة لما يتضمن من تمام البيان. والدليل على ذلك أن الألثغ والتمتام لا يسميان فصيحين لنقصان آلتيهما عن إقامة الحروف، وقيل: زياد الأعجم لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف، وكان يعبّر عن الحمار بالهمار، فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه، فعلى هذا تكون الفصاحة والبلاغة مختلفتين، وذلك أن الفصاحة تمام آلة البيان فهي تتعلق باللفظ، لأن الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب فكأنها مقصورة على المعنى"(59).
ونسأل هل تؤدي مقابلة الرأيين السابقين إلى استنتاج أن العسكري يجمع بين "موقفين متقابلين، موقف تتطابق حسبه دلالة المصطلحين ويعتبر ميدان الدراسة الأسلوبية ميداناً واحداً تتفاعل فيه مكونات النص وتتضافر لإبانة المعنى وإظهاره، وموقف يفصل أصحابه بين المصطلحين ويضيقون مجال الفصاحة إلى درجة أنهم اعتبروها صفة للمتكلم لا للكلام وتتحقق في النص المنطوق لا المكتوب"؟(60). فإذا كان الموقف الأول واضحاً ينسجم مع مقصد العسكري الصريح، فإنه يخيل إلينا أن في الموقف الثاني لبساً وأن الاستنتاج قابل للمناقشة. فاعتبار الفصاحة صفة للمتكلم تتحقق في النص المنطوق وليس في المكتوب نصف الخلاصة المضمنة في النص، وإلا فكيف ينفي عن الله تعالى الوصف بالفصاحة لعدم جواز الوصف بالآلة عليه سبحانه، ثم يصف كلامه بالفصاحة؟ ثم يشخص الرأي بوصف زياد، فهو "أعجم لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف، غير أن شعره فصيح"(61)، أليس الوصف بالفصاحة هنا خاصية في الشعر والقرآن معاً؟ ويؤكد الموقف أنه حين يتعلق الأمر بالنص المنطوق يستعمل اصطلاح "الآلة"، أما إذا كان الشأن بالمكتوب فإنه يكتفي بذكر "تمام البيان" دون ذكر الآلة. ومن هنا وعلى الرغم من إقراره بفصل حقل الفصاحة عن البلاغة في آخر النص واختصاص الفصاحة باللفظ والبلاغة بالمعنى، فإن امتداد معنى الفصاحة ليشمل مواصفات في النصين المنطوق والمكتوب معاً، يجعل حضورها والبلاغة في وصف النص الواحد وارداً.
ويقول مواصلاً سرد الآراء: "فإذا قلت: فصح رجل، أفاد ذلك أنه صار إلى حال يقيم فيها الحروف ويوفيها حقها. وإذا قلت: بلغ، أفاد ذلك أنه صار إلى حال يؤدي فيها المعاني حق تأديتها في صورة مقبولة، ثم صار الفصيح والبليغ صفتين لمن جاد لفظة وبان معناه"(61) فإذا كان الوصف بالفصاحة يتعلق بتمام آلة البيان، فإن البلاغة تستحيل تأدية للمعنى في صورة مقبولة. ولا شك أن اصطلاح الصورة المقبولة يوسع من دائرة اختصاص البلاغة بالمعنى فقط لتشتمل المعنى والمعرض الحسن الذي يبرز فيه. فإذا دققنا في آخر النص نجد إحساساً بالتطور في ضبط العسكري دلالة الاصطلاحين، إذ إن الصيرورة أدت إلى أن يتضام الوصفان لتحديد جودة اللفظ ووضوح المعنى، وجودة اللفظ أمر يتعلق بالنص غالباً، فإذا ضممنا هذا الوصف إلى اشتراط الصورة المقبولة في وصف الكلام بالبلاغة، أصبح بالإمكان الاستنتاج أن البلاغة تشمل مرةً المعنى وصورته، وتختص مرةً بالمعنى ليكون اللفظ قسيم الفصاحة. ويتأكد ذلك في رأيه التالي الذي ينم عن اجتهاد في تحديد معاني المصطلحين، يقول: "وقد يجوز مع هذا أن يسمّى الكلام الواحد فصيحاً بليغاً إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيد السبك، غير مستكره فج، ولا متكلف وخم"(62). فبالإضافة إلى أن الأوصاف المتعلقة بسهولة اللفظ وجودة السبك تتحقق في النص المكتوب، يتأكد المنظور الثنائي المؤسس على تقابل البلاغة بالمعنى والفصاحة باللفظ، إلا أن وصول العسكري في العرض إلى هذا الحد جعل إمكان الامتداد باصطلاح البلاغة ليشمل عنصري المعنى واللفظ واقعاً يهيئ لهذا الفهم منطلقه المطابق بين مفهومي الفصاحة والبلاغة، وما أوصله إليه مجرى النقاش من الامتداد بمعنى البلاغة ليطول أداء المعنى في الصورة المقبولة، لينتهي إلى بلورة الموقف في هذه الصياغة المقررة لما سلف: "البلاغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكّنه في نفسه كتمكّنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن وإنما جعلنا حسن المعرض وقبول الصورة شرطاً في البلاغة، لأن الكلام إذا كانت عباراته رثة ومعرضة خلقاً لم يسم بليغاً، وإن كان مفهوم المعنى، مكشوف المغزى، فهذا يدل على أن من شروط البلاغة أن يكون المعنى مفهوماً واللفظ مقبولاً على ما قدمناه"(63)، وهكذا يتأكد شمول مصطلح البلاغة عنده اللفظ والمعنى وتغليبه في الاستعمال على اصطلاح الفصاحة، إذ وجد أن لا معنى لتوظيف الاصطلاحين معاً والبلاغة تطول عنصري الدلالة معاً فضلاً عن أن مدخله ينبئ بهذه النتيجة على الرغم من أنه يفتح استثناءً آخر وهو بصدد استقصاء الآراء المختلفة في الموضوع، يروي أنه شاهد: "قوماً يذهبون إلى أن الكلام لا يسمى فصيحاً حتى يجمع مع هذه النعوت "نعوت الجودة السابقة" فخامة وشدة جزالة... قالوا: وإذا كان الكلام يجمع نعوت الجودة، ولم يكن فيه فخامة وفضل جزالة سمي بليغاً ولم يسم فصيحاً"(64)، وهذا الموقف لا يمثل إلا هامشاً دفعه إليه داعي الاستقصاء، إذ يظل الموقف النهائي مجملاً في قوله الجامع وهو "إن البلاغة إنما هي إيضاح المعنى وتحسين اللفظ"(65).
وهذه النتيجة تحيلنا إلى إشكال اللفظ والمعنى أصل القضية، وتمكننا من التساؤل عن طبيعة الصلة الجامعة بين المدخل التأسيسي القائم على بحث معاني الفصاحة والبلاغة، وثنائية اللفظ والمعنى، وهل أن صاحب "الكتاب لم يستطع استغلال هذا المدخل استغلالاً محكماً ولم يبن كتابه على أساسه فأجهضت المحاولة وانفصلت بقية الفصول عن هذا المدخل... فلا هو درس البلاغة والفصاحة من زاوية متحدة متفاعلة ولا استطاع أن يلتزم بالفهم الضيق. لذلك يشعر القارئ أنه يستأنف كل مرة كلاماً جديداً لا علاقة له بهذه المسألة. ومن أحسن الأدلة على ذلك دراسته لثنائية اللفظ والمعنى فقد كنا ننتظر أن يربطها ببحثه في معنى الفصاحة والبلاغة لكنه باشرها كمسألة مستقلة"(66)؟ فإذا كانت الوحدة المنهجية المطلوبة في الكتاب هي قيامه على وحدة الفكرة المنبثة في كامل الفصول التي يؤدي عرضها المتنامي إلى إيفاء كل تفرعاتها حقها من البحث والاستقصاء، فإن الصناعتين خلو من ذلك. وإن كان القصد تأكيد انتفاء كل صلة بين الفصول وهو ما قد يفهم من الحكم السابق فإن الأمر قد يحتاج إلى مراجعة، ذلك أنه ورغم الإقرار بأن فصول الصناعتين المنزلة في الأبواب المشكلة لحجم الكتاب مستقل بعضها عن بعض من حيث القضايا المدروسة، فإن خيطاً خفياً يلحم أطروحات العسكري المختلفة يتبدى بوضوح في القناعة الواحدة التي تحكم بحثه اللفظ والمعنى ومدخله التأسيسي الضابط لعلائق الفصاحة والبلاغة.
ولقد أدى استقصاء ما طرح في المدخل إلى الإقرار بشمول البلاغة المعنى واللفظ، وأدى إلى تبني هذا الموقف المسار الذي تحقق بمقابلة دلالات المصطلحين، إذ بدوا متطابقين لتختص البلاغة بالمعنى، والفصاحة باللفظ مع انسحابها على شرط التمام في آلة البيان. ثم تعود دلالة البلاغة لتنبسط على عنصر اللفظ الذي هو من اختصاص الفصاحة، ويصبح شرط البلاغة في الكلام متحققاً في وضوح المعنى ووضوح اللفظ، وهذه النتيجة هي التي خولت للعسكري الانتقال إلى بحث اللفظ والمعنى باعتبارهما عنصري البلاغة الرئيسيين، فإفرادهما بالبحث تفريع للقول في البلاغة ذلك أن تقصي المواصفات التي ينبغي أن تميز حضورهما بحث في بلاغة الكلام عموماً، هذا من جهة الصلة المنهجية بين المبحثين، أما من جهة القناعات التي تحكم منظوره لكل منهما فيكشف عنها استقراء رأيه في اللفظ والمعنى.
فإذا كان تحقيق البلاغة يقوم على إبانة المعنى في صورة مقبولة ذلك "أن الكلام إذا كانت عبارته رثة ومعرضة خلقاً لم يسم بليغاً وإن كان مفهوم المعنى، مكشوف المغزى"(67) فإن اشتراطه خصوصيات في اللفظ تتمحور حول الجودة والتحسين واكتفاءه غالباً في وصف المعنى بالتركيز على الإبانة والوضوح، أمر يتمشى مع المنطلق البلاغي في بحث الكلام إذ يختص بالتركيز على الوسائل الأسلوبية، وهذا الرأي يمهد لموقفه مردداً مقولة الجاحظ: "وليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت"(68)، فهو يشترط في المعنى (الإصابة)، وهذا أمر يتوافق عنده مع الوصف بالوضوح إذ يظلان حاضرين في وصف المعنى، هذا من جهة ومن جهة أخرى يبدو الموقف تأكيداً لرأيه في بلاغة الكلام. يظهر ذلك في عودته للانطلاق من مصطلح البلاغة في استمراره التدليل على رأيه السالف، يقول: "ومن الدليل على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة ما عملت لإفهام المعاني فقط لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيدة منها في الإفهام، وإنما يدل حسن الكلام، وإحكام صنعته، ورونق ألفاظه، وجودة مطالعه، وحسن مقاطعه، وبديع مباديه، وغريب مبانيه على فضل قائله، وفهم منشئه. وأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعاني. وتوخي صواب المعنى أحسن من توخي هذه الأمور في الألفاظ"(69).
يستخلص مما سلف أن العسكري لا يستأنف في بحث اللفظ والمعنى جديداً، بل يلحمه بتصوره البلاغة، وأن مسار بحث العنصرين عنده لا يأخذ هاجس التقصي عن أوجه ائتلافهما أو تشاكلهما أساساً بقدر ما ينبسط في تحديد أوصاف كل طرف، يتبدى فيه المعنى خصوصاً في وضع المادة المزينة بالمعرض الحسن، والمهم في هذا الموقف الذي وسم فيه بمنتهى الشكلانية(70) أنه لا ينسى تكرار شروط الصواب في المعنى دون أن يتغافل عن إيلاء صورته مقاماً عالياً، ذلك أن "الكلام إذا كان لفظه حلواً عذباً، وسلساً سهلاً، ومعناه وسطاً، دخل في جملة الجيد، وجرى مع الرائع النادر"(71). فإذا كان اللفظ الحسن يشفع لوسطية المعنى ووسطية المعنى إيذان بتنزل المعنى في مراتب، فإن المعنى إذا كان "صواباً، واللفظ بارداً وفاتراً، والفاتر شر من البارد، كان مستهجناً ملفوظاً، ومذموماً مردوداً"(72)، فصواب المعنى بقدر ما يبدو قيمة في المعنى ذاته وهو مقياس منطقي في تناول المعاني، لا يشفع لضعف الصورة اللفظية، إلا أن ذلك لا يعني التقديم المطلق للصورة اللفظية، إذ ما دام الاعتبار في الإخراج الجميل للمعنى الصواب، فإن ضعف الإخراج يوهن من بلاغة النص مثلما أن سخف المعنى يهلهل الكلام الجيد اللفظ ذلك أنه "لا خير فيما أجيد لفظه إذا سخف معناه، ولا في غرابة المعنى إلا إذا شرف لفظه مع وضوح المغزى، وظهور المقصد"(73). وهكذا تتضافر المواقف لتؤدي إلى تأكيد حضور المعنى واللفظ معاً في بلاغة العسكري، مع الإقرار بالأثر المتبادل بينهما. ويكفي لإزاحة وسمه بالشكلانية اعتقاده في هذا النص بسقوط الكلام الذي حسن لفظه وسخف معناه، وإن ظلت العلائق الرابطة بين العنصرين قائمة على منظور ثنائي يرصد أوصاف كل طرف على حدة دون أن يمتنع لديه أن يكون لأوصاف هذا الطرف أثر في الطرف الآخر سلباً وإيجاباً، مع الإشارة أخيراً إلى أن وصف المعنى يستقطبه مبدأ (الصواب) في حين يشترط في اللفظ الحسن والجودة.
وتأسيساً على ما سلف نستعرض موقفه الذي رأى فيه باحثون كثيرون تناقضاً مع ما سالف رأيه الذي اقتبس من الجاحظ، يقول: "إن الكلام ألفاظ تشتمل على معان تدل عليها وتعبر عنها، فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى كحاجته إلى تحسين اللفظ، لأن المدار بعد على إصابة المعنى ولأن المعاني تحل من الكلام محل الأبدان والألفاظ تجري معها مجرى الكسوة، ومرتبة إحداهما على الأخرى معروفة"(74)، إذ إننا لا نرى في قوله "إن المدار على إصابة المعنى" ما يعكر رأيه في "المعاني المطروحة" حتى نسم موقفه بالتناقض من مشكلة اللفظ والمعنى(75)، ولا نجد أنه في نقده يقدم المعنى، وأنه في أبحاثه النقدية يقرر أن مدار البلاغة على اللفظ(76). صحيح أن هناك مغالاة يوقع العسكري فيه اعتماده في بعض الأحيان على النقل التام لنصوص سابقة مما يشوش مسار عرضه الفكرة الواحدة، إلا أنه في قضيتنا يظل الجوهر المؤسس لرأيه فيها إلحاحه على الصواب في المعنى والتحسين في اللفظ، وهما صفتان واردتان في نصّه السابق بصريح اللفظ. وإذا كان في النص ما يشي بميل إلى تقديم صواب المعنى، أدته إليه نيته تأكيد أهميته بالإضافة إلى اللفظ، فإن في بدء النص ما يكشف عن حضور الطرفين بالصفات المميزة لكل منهما، وحتى لو فرضنا أن إمكان استنباط تقديم المعنى على اللفظ وارد من خلال نصه السابق، فإذا هذا التقديم لم ينبن عليه أكثر من اشتراط الصواب في المعنى وهو الوصف نفسه الذي ذكره في نصوصه السابقة دون أن يتأسس على رأيه في "المعنى الصائب" إمكان أن يشفع لضعف اللفظ، وهو ما يكشف لو حدث عن تراجع في الموقف، بل العكس هو الوارد، إذ يواصل بسطه الرأي السالف في الصفحة نفسها من الكتاب بقوله: "والمعاني على ضربين: ضرب يبتدعه صاحب الصناعة من غير أن يكون لـه إمام يقتدي به فيه، أو رسوم قائمة في أمثلة مماثلة يحمل عليها. وهذا الضرب ربما يقع عليه عند الخطوب الحادثة، ويتنبه له عند الأمور النازلة الطارئة. والآخر ما يحتذيه على مثال تقدم ورسم فرط. وينبغي أن يطلب الإصابة في جميع ذلك ويتوخى فيه الصورة المقبولة، والعبارة المستحسنة، ولا يتكل فيما ابتكره على فضيلة ابتكاره إياه، ولا يغره ابتداعه لـه، فيساهل نفسه في تهجين صورته، فيذهب حسنه ويطمس نوره ويكون فيه أقرب إلى الذم منه إلى الحمد"(77). فليس الوصف بالاحتذاء والابتداع بكاف في ضبط خصائص المعنى، إنما تمامه في صوابه وتوخي إخراجه في الصورة المقبولة، ولو كان الأمر عنده في تقديم المعنى حيناً وتأخيره آخر لما أكد في آخر النص السابق ذهاب حسن المعنى المبتكر بتهجين صورته.
والواقع أن المبدأين الرئيسيين الضابطين اللفظ والمعنى عنده يظلان حاضرين في أغلب معالجته لهما. فهو يرى في شعر يورده أن معناه "جيد وليس للألفاظ رونق"(78)، ولم ينبن على ذلك تقديم هذا الشعر، ويعلق على شعر الأصفهاني العلوي بقوله: "ولست أورد أكثر شعره إلا لإصابة معناه دون لفظه لأن أكثر لفظه متكلف وجل صنعته فاسد"(79)، ولم يشفع صواب المعنى للعلوي أن يتبوأ شعره الصدارة بل يظل في نظر العسكري ضعيفاً. وفي مواقف لنقاد سابقين كابن قتيبة وابن طباطبا ما كان يتمشى مع رأيه لو كان لفظياً دوماً، لكنه يورد بعض أشعار استشهدوا بها كنماذج من غزليات جرير المشهورة من مثل قوله: "إن العيون التي في طرفها حور"، ويرفض أن يكون هذا الشعر من الذي يستحسن لجودة لفظه وليس له كبير معنى بل يجزم بأنه لا يعلم" معنى أجود ولا أحسن من معنى هذا الشعر"(80)، ذلك أن حضور العنصريين في معالجته النص راسخ يؤكده رأيه في أن المراد من الشعر، "حسن اللفظ وجودة المعنى"(81) ذلك أن "سبيل الشعر أن يكون كلامه كالوحي ومعانيه ك***** مع قربها من الفهم. والذي لا بد لـه منه حسن المعرض ووضوح الغرض"(82). وهكذا يتأسس استقصاؤه المعاني في كتابه "ديوان المعاني" على خصائص ما يشترطه في الألفاظ والمعاني إذ يقدم بين يدي كتابه بقوله: "جمعت في هذا الكتاب أبلغ ما جاء في كل فن وأبدع ما روي في كل نوع من أعلام المعاني وأعيانها إلى عواديها وشذاذها، وتخيرت من ذلك ما كان جيد النظم محكم الرصف غير مهلهل رخو ولا متجعد فج"(83).
ويبقى موقفه الذي يتأكد فيه جمعه المعنى واللفظ قائماً بحسب المواصفات التي حددت، وهو رأيه في صنعة الكلام إذ بالرغم من أنه يعتمد على نصوص أوردها الجاحظ لبعض البلاغيين، وعلى رأي ابن طباطبا خصوصاً فإن ما أورده منها ينسجم مع أطروحاته، يقول: "إذا أردت أن تصنع كلاماً فأخطر معانيه ببالك، وتنوق له كرائم اللفظ" (84)، ويمكن إلحاق رأيه في السرقات بما سبق إلى أنه لا يعدو أن يكون رأياً مكروراً(85).
وللعسكري رأي في نظم الكلام عموماً يؤلف دعماً لموقفه الداعي إلى توخي إيقاع الصورة الحسنة في المعنى، يظهر ذلك في حديثه عن حسن الرصف والتأليف، وكمال الصوغ والتركيب(86)، وفي ترداده رأي الجاحظ في القرآن وما خصه الله به من حسن التأليف وبراعة التركيب(87) وفي وصف الشعر بالكلام المنسوج وأن حسنه في تلاؤم نسجه(88)، وفي الإشارة إلى التئام الكلام عموماً(89)، ليبسط أشكال تحقيقه في دعوته إلى جعل الكلام "مشتبهاً أولـه بآخره، ومطابقاً هاديه لعجزه، ولا تتخالف أطرافه، ولا تتنافر أطراره، وتكون الكلمة منه موضوعة مع أختها، ومقرونة بلفقها"(90) ليشير إلى أن من سوء النظم المعاظلة وهي ركوب بعض ألفاظه رقاب بعض(91). ثم لينتهي أخيراً إلى تخصيص باب كامل من كتابه "الصناعتين" للبيان "عن حسن النظم وجودة الرصف والسبك وخلاف ذلك"(92).
وهو "يستعمل هذه الألفاظ الثلاثة مترادفة"(93) ثم يزيد معانيها بعض الشرح والتحديد يقول: "وحسن الرصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكّن في أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير، والحذف والزيادة إلا حذفاً لا يفسد الكلام، ولا يعمّي المعنى، وتضم كل لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لفقها، وسوء الرّصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها، وصرفها عن وجوهها، وتغيّر صيغتها، ومخالفة الاستعمال في نظمها"(94).
والحقيقة أن الاهتمام بالصورة الحسنة والتحسينات اللفظية المتحققة في الكلام لدى العسكري لم ينبن عليه الاستهانة بالمعنى، بل ظلّ يلح على تطلّب الصواب والوضوح فيه، وأن فهم العنصرين بهذا المنحى هو الذي ألّف رأيه في البلاغة التي تبدو عنده شاملة لهما معاً.
وأما لدى ابن سنان الخفاجي فإن الإشكال يأخذ مدى أكثر التواء وتعقيداً، إذ كان طموحه إلى استغلال النتاج السابق في مجال النقد والبلاغة ضمن مجاري ضبطها تصوره فعاليات المعنى واللفظ مدعاة إلى التقسيم والتفريع لاحتواء المادة، ولو ظلت المسألة خلاصة لاجتهاد في حدود اللفظ والمعنى التمس له العذر، ولكن محاولة الزج بالتقسيمات المتفرعة من المبدأين السابقين في إطار من فهم خاص لمصطلحي البلاغة والفصاحة أوقعه في حرج، مما اضطره إلى تمديد مجال المعنيين ليستوعبا محصول التفريعات التي يشملها استقصاء حضور الألفاظ والمعاني أفراداً وتراكيب في الكلام.
وإذا كان الاختلاف وارداً مع ابن سنان الخفاجي في فهمه الفصاحة والبلاغة والفواصل التي تحد مجال كل نوع، فإنه لا بدّ من الإقرار بأن تفريعاته المستقرئة للفصاحة والبلاغة محكومة بمقدماته ومشدودة إلى أصوله النظرية، وأنه لم يحد عن المسار الذي ضبطه في المدخل، وإن أوحت التقسيمات إلى باحثين كثيرين بالاضطراب والقلق(95).
ومن هنا يكون لزاماً البدء بعرض رأيه في قضية العلل الأربع أو الخمس إذا اعتبرنا الآلة من مشمولاتها، التي تؤلف الإطار النظري العام الذي يحتوي أصول آرائه المنظمة لعلائق العنصرين في بنية الكلام.
يقوم رأيه في القضية على استغلال كل من قدامة والآمدي معاً مما أوقع رأيه في كثير من التعقيد واللبس. يقول فيما يشبه رأي قدامة إن "صناعة التأليف في المعنى الفاحش مثل الصناعة في المعنى الجميل، ويطلب في كل واحد منهما صحة الغرض وسلامة الألفاظ على حدٍّ واحد، وليس لكون المعنى في نفسه فاحشاً أو جميلاً تأثير في الصناعة"(96)، ولكن الجديد يكمن في استخدامه التأليف بدل الصورة كما هو الشأن عند قدامة حيث إن المعاني عنده مادة والشّعر فيها كالصورة، وهو ينص على أن الجودة تظل من اختصاص التأليف وحده مشترطاً في المعنى أياً كان صحة الغرض، وهذا يدل على انضباط المعاني لديه في خانة المنطق أيضاً.
ثم يعود إلى نفس القضية بمزيد من التدقيق ليحيد عن هذا التوجه الذي يحتويه نصّه السابق، فيقول مدققاً هذه الأصول ومقابلاتها في صناعة الكلام "إن الموضوع هو الكلام المؤلف من الأصوات... فأما الصانع المؤلف فهو الذي ينظم الكلام بعضه مع بعض... وأما الصورة فهي كالفصل للكاتب والبيت للشاعر... وأما الآلة فأقرب ما قيل فيها إنها طبع هذا الناظم، والعلوم التي اكتسبها بعد ذلك... وأما الغرض فبحسب الكلام المؤلف فإن كان مدحاً كان الغرض به قولاً ينبئ عن عظم حال الممدوح، وإن كان هجواً فبالضد..."(97). ولكن ما دام ينص صراحة على أن الموضوع هو الألفاظ، فكيف يمكن حمل هذا الرأي على نصه الأول الذي يرى فيه أيضاً أن "صناعة التأليف تكون في المعاني"؟
إنه يحاول أن يضبط رأيه حين يدفع أن يكون الموضوع في المعاني كما ذهب قدامة في "نقد الشعر"، فيرى أنه "يجب أن يقال لـه إذا ذهبت إلى أنّ المعاني هي الموضوع خبّرنا عن الألفاظ التي أخذها هذا الصانع المؤلّف فألّفها إذا لم تكن عندك موضوعاً لصناعته فما منزلتها من الأقسام التي اعتبرها الحكماء في كلّ صناعة؟ والتأمل قاضٍ بصحتها"(98)، وإذ يستقيم له التدليل على أن موضوع الصناعة لن يكون إلا الالفاظ بعد أن يؤكد استحالة أن تكون الآلة أو الصانع أو الصورة أو الغرض موضوع الصناعة، يطرح الإشكال الأخير متسائلاً: "فإن قال لنا: ما تقولون أنتم في المعاني مع أن علقتها أيضاً وكيدة؟؟ قلنا: المعاني وتأليف الألفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع"(99)، وهذا لا يعكر في نظره اختيار أن تكون مادة الصناعة هي الألفاظ، إذ إن الصناعة تتحقق بالتأليف الذي يعضده المعنى. لكن ما علاقة المعنى المنسجم مع التأليف هنا بالمعنى الذي تتجسّد فيه صناعة التأليف نفسها؟ نلاحظ أن المعنى في الموقف الأوّل منزّل في إطار قيمي، فلم تكن فحاشته أو جماله لتطول الصنعة إذا كان متلائماً مع الغرض وخلواً من الخطأ، في حين يتبدى المعنى هنا قسيماً للتأليف الطارئ على الموضوع الذي له فعالية في الصنعة إذ هو شطرها، فالمعنى في مستوى التأليف هو أقرب ما يكون إلى الدلالة العالقة بنسيجها، والمعنى في المستوى الآخر هو الوجه الآخر للمعنى المتآلف الذي يمكن أن ينضبط في خانات البحث المنطقي، والأخلاقي، ويرتّب وفق مواصفات الأغراض ويكيّف حسب مقتضيات الإطار الاجتماعي عامّة...
وهكذا إذ يتنزل المعنى في مستويين: المستوى العالق بالتأليف والمستوى المستقل إن صح الوصف –وليس مرد استقلاله إلا أنه يكون موضوعاً لفعاليات أخرى منطقية وأخلاقية وغيرها- يتنزّل موضوع الصنعة أيضاً في مرتبتين:
مرتبة الألفاظ، ومرتبة التأليف. وما دام كلاهما يتعاضدان في فعل الصنعة أصبح لزاماً دحض مقولة قدامة القائمة على أن الموضوع الرديء لا يؤثر في الصورة الجيدة، واشتراط الانتقاء والاختيار في الألفاظ نفسها، ذلك أن ناظم الكلام قادر "على اختيار موضوعه، غير محظور عليه تأليف ما يؤثر منه"
(100)، ليخلص إلى ضبط العنصرين معاً المؤسسين لحقل الفصاحة بقوله: "الفصاحة عبارة عن حسن التأليف في الموضوع المختار"(101).

وهذه النتيجة تخوّل لنا إدراك الضوابط التي كانت وراء تصنيفه المواد اللفظية والمعنوية التي ستظل مشدودة إلى الأصول السابقة حيث سيكون الاستقصاء مرتباً حسب علائق هذه المستويات في البنية العامة، إذ يبدأ ببحث موضوع الصنعة الذي هو اللفظ المفرد وشروط فصاحته، ففصاحة التأليف بشمولها الألفاظ والمعاني في أقسام يمليها تصوره طبيعة العلاقة بين العنصرين، ثم يعرض في مرحلة ثالثة المعاني المفردة كما أسماها. وها نحن نستحضر بإيجاز عناصر كل طرف وصفاته الفنية مرجئين تنزيل هذه الأقسام في خانات الفصاحة والبلاغة إلى حين يكتمل لنا الفهم بتفريعاته المتشعبة لكي نتجنّب اللبس الذي يمكن أن يضعنا فيه تحديده حقلي الفصاحة والبلاغة مبدئياً.
أما فيما يتعلّق بالصفات التي اشترطها في موضوع الصناعة أو كما أسماه بالفصاحة في اللفظة المفردة، فإنها شروط تحدّد كثير منها قبله ودقّق بعده، وقد وسع في مجالها حتى شملت صفات لا يمكن أن يتفق على أنها من الميدان الذي ذكر وهي إجمالاً ثمانية أشياء، نكتفي بالإشارة إليها بإيجاز. فالأول أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج، والثاني أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسناً ومزية على غيرها، وإن تساوياً في التأليف من الحروف المتباعدة؛ والسر في ذلك تأليف مخصوص مع البعد. والثالث: أن تكون الكلمة – كما قال أبو عثمان الجاحظ- غير متوعّرة وحشية، والرابع أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية، كما قال أبو عثمان أيضاً. والخامس: أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح غير شاذة. ويدخل في هذا القسم كل ما ينكره أهل اللغة ويردّه علماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة. والسادس ألا تكون الكلمة قد عبّر بها عن أمر آخر يكره ذكره، فإذا وردت وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت، وإن كملت فيها الصفات التي بيّناها. والسابع: أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف.
والثامن أن تكون الكلمة مصغرة في موضوع عبّر بها فيه عن شيء لطيف أو خفيّ أو قليل أو ما يجري مجرى ذلك(102)... وهذه المقاييس فضفاضة تجاوزت المعهود من شروط الفصاحة في المفرد، وكانت موضع انتقاد قديماً وحديثاً، فإذا كان بعض هذه الشروط متفقاً عليه يقوم على ضوابط لغوية دقيقة فإن "بعضها الآخر إما نسبي يمكن أن يختلف في تقديره الناس –الشرط الثاني- أو في غير محلّه إذ لا دخل للفظ فيه- الشرط الثامن-"(103).
أما الشروط العالقة بالتأليف فهي أقسام أربعة: قسم يشترك مع شروط اللفظة المفردة، وقسمان كالأصلين يتفرع منهما شروط عدة تتعلق بلحمة الكلمات في السياق على مستويات مختلفة، ورابع يبدو في أشكال من تآلف الوحدات في السياق أيضاً، إلا أن تعلق المعنى فيه باللفظ عبر محور عمودي إن صحّ الوصف، هو الذي جعله يخص هذا القسم بوصف "الفصاحة والبلاغة".
أما فيما يخص المتّفق مع شروط اللفظة المفردة، فمن أبرزه شرط تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج، وانعدامه في التأليف أقبح "وذلك أن اللفظة المفردة لا يستمر فيها من تكرار الحرف الواحد أو تقارب الحرف مثل ما يستمر في الكلام المؤلف إذا طال واتّسع"(104).
وإذا كان لا علاقة للتأليف بالشرط الثاني والثالث والرابع إلا ما يتحقق فيه من حسن وقبح تبعاً لما يثيره التواتر والترادف في استعمال هذا الصنف أو ذاك، تماماً كالشرطين السابع والثامن(105)، فإن للشرطين الخامس والسادس علاقة بالتأليف ذلك أن الشرط الخامس ينص على أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح، ولا يتم للمتكلم ذلك حتى يضع كل اسم في موضعه ويلفظ به على حدّ ما يلفظ به أهله، ولا يكون ذلك حتى يورد اللفظ في سياق معيّن، وبذلك يدخل الإعراب فيه لأن معاني الكلام تتعلق به، وهو الدليل على المقصود منها، وبه يزول اللبس، والجواز فيها(106)، وبهذا التصور يكاد يختص الشرط الخامس بالتأليف رغم ما يوحي به إلحاحه على مجاراة العرف الذي يمكن أن يشمل الخروج عن القياس في بنية الكلمة أيضاً، خاصة أنه يشير إلى تجنب الشذوذ في الكلمة، أو أن تكون اللفظة بعينها غير عربية(107). أما الشرط السادس فلا يكاد يكون خالصاً إلا للتأليف إذ إن استعمال الكلمة في التعبير عن أمر آخر يكره ذكره لا يتحقق إلا في السياق.
ثم ينتقل إلى الشروط الخاصة بالتأليف، فيبسطها في أصلين كبيرين يحتوي كل منهما جملة مسائل ينتظمها جوهر الانضواء تحت الأصل الواحد، ثم يختمها بشروط مشتركة بين الفصاحة والبلاغة؛ وهو يعي انضواء هذه الشروط تحت ظل هذه الأقسام أو الأصول الجامعة، حيث يباشرها بقوله: "إن أحد هذه الأصول وضع الألفاظ موضعها حقيقة أو مجازاً لا ينكره الاستعمال ولا يبعد فيه"(108). وهذا الأصل جامع لكثير من المبادئ المتعلقة بمراعاة الانتظام السليم للوحدات في التركيب وتنزيلها مواضعها الحقة، وإن شمل قضايا في الدلالة كالاستعارة، إلا أن فهم المؤلف لها إذ يقول فيها بالنقل سوّغ له إيرادها في هذا القسم الذي تعرّض فيه إلى التقديم والتأخير، والقلب، وحسن الاستعارة، والحشو، ومداخلة الكلام بعضه بعضاً أو المعاظلة، وعدم إيراد ألفاظ الذّم في المدح، وألفاظ المدح في الذّم، وألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين وألفاظ أهل المهن والعلوم(109).
ثم ينتقل إلى الأصل الثاني الذي يحدده بقوله: "ومن شروط الفصاحة المناسبة بين اللفظين، وهي على ضربين: مناسبة بين اللفظين من طريق الصيغة ومناسبة بينهما من طريق المعنى"(110)، وهو مبدأ عام يشكل أشكالاً عدّة من أنماط التناسب الحادثة بين وحدات الكلام في مستوييه الصوتي والمعنوي، ذلك أن كل علاقة تضم وحدتين أو أكثر تزيد من بهاء الكلام لما لأشكال التوازن الحادث بين وحداته من أثر في إيقاع الكلام وتناسق عناصره، وهو أمر يمتد به ليغطي مساحات عامة في البنية كالقافية والوزن. وما أورده من هذه الأوجه عالقاً بالصيغة فهو السجع والازدواج والقوافي في الشعر التي يراها تجري مجرى السجع، ثم التصريع والترصيع، ومنها أيضاً حمل اللفظ على اللفظ في الترتيب ليكون ما يرجع إلى المقدّم مقدّماً وإلى المؤخر مؤخراً، ومن المناسبة أيضاً التناسب في المقدار، وهذا في الشعر محفوظ بالوزن، ومنه المجانس. أما تناسب الألفاظ من طريق المعنى فإنه يتم على وجهين: أن يكون معنى اللفظتين متقارباً، أو أحد المعنيين مضاداً للآخر وهو المطابق، أو قريباً من المضاد(111).
أما ما عددناه قسماً رابعاً فهو يذكره تحت وصف: شروط الفصاحة والبلاغة، وهو قضايا خمس هي: حسن الكناية(112)، والإيجاز والاختصار ويتعرّض فيه للمساواة والتذييل، ومنه أيضاً وضوح الكلام وظهوره حتى لا يحتاج إلى فكر في استخراجه، ثم الإرداف والتتبيع، وأخيراً التمثيل(113).
وبهذا ينتهي قسم التأليف بتفرعاته وأقسامه، ليخلص منه إلى القسم الثالث المعنون بالكلام في المعاني المفردة وهو يشعر بصعوبة حصر المعاني بقوانين تستوعب أقسامها كما ذكر في الألفاظ إذ إن ذلك "ثمرة علم المنطق، ونتيجة صناعة الكلام"(114)، ثم ينتهي إلى مقصده في إيفاء معاني صناعة الكلام حقها من الحصر والتنبيه على الخطأ باسطاً قبل ذلك مقدمة نظرية في الدلالة تحصر المعاني في وجودها المتعدد: في نفسها، وفي أفهام المتصورين لها، وفي الألفاظ التي تدلّ عليها، وفي الخط. وإذا كان وجود المعاني في الألفاظ هو موضوع البحث فإنه ليس يتكلم "عليها من حيث وجدت في جميع الألفاظ، بل من حيث توجد في الألفاظ المؤلّفة المنظومة على طريقة الشعر والرسائل وما يجري مجراهما فقط"(115).
أما حصر هذه الأوصاف فيرسلها في قائمة عامة تشمل الصحة في المعاني والكمال والمبالغة والتحرّز مما يوجب الطعن والاستدلال بالتمثيل والتعليل وغيرهما، ثم يذكر من ذلك تفصيلاً: الصحة في التقسيم وتجنب الاستحالة والتناقض، وذلك بجمع المتقابلين من جهة واحدة، ويعرض للفرق بين المستحيل والممتنع، والجائز، ثم يعرض لصحة التشبيه، والتشبيه عنده معنى، وصحة الأوصاف في الأغراض، وفيها يعرض لضرورة ملائمة المعاني للغرض، ويتحقق ذلك في النثر أيضاً باحترام المواضعات في الخطاب والاصطلاحات، ثم يثير إشكال المدح بالحسن والجمال، والذّم بضدها، ويخالف قدامة في الموضوع منضماً إلى الآمدي، ثم يعرض لصحة المقابلة في المعاني، وصحّة النسق والنظم ويريد به حسن التخلّص من معنى إلى آخر، وصحة التفسير، وكمال المعنى، ثم المبالغة والغلو، والتحرّز مما يوجب الطّعن، فالاستدلال بالتمثيل والتعليل، دون أن ينسى إثارة مشكلة القدماء والمحدثين، ومسائل أخرى كحدّ الشعر ووظيفته والمفاضلة بينه وبين النثر(116)...
وقد اضطرنا إلى هذا العرض الطويل مقصد التدليل على أن الأقسام التي خضع لها الكلام عند الخفاجي قائمة على أساس من التصوّر النظري متنزلة في إطارها منه ومحكومة بفهم للفصاحة والبلاغة لا يتسنى إدراكه إلا بعد الوعي بالفواصل الحاسمة بين هذه الأقسام.
وتأسيساً على ما سلف يمكننا إدراك قوله مفرقاً بين الفصاحة والبلاغة "إن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني، لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة، وإن قيل فيها فصيحة، وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغ، كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه"(117). فقصره الفصاحة على الألفاظ لا يعني بها الألفاظ المفردة إذ خاتمة النص تؤكد ذلك، فالكلام المسهب في غير موضعه فصيح وليس بليغاً، فهي شاملة للألفاظ المفردة والمركبة، يؤكد ذلك اعتباره ما تعرّض لـه في قسم الألفاظ المؤلّفة منضوياً تحت الألفاظ عموماً(118)، من هنا يحصر الفصاحة في موضع آخر في التأليف فقط، ذلك أن الزّبدة في العلوم الأدبية والنّكتة "نظم الكلام على اختلاف تأليفه، ونقده ومعرفة ما يختار منه مما يكره، وكلا الأمرين متعلّق بالفصاحة، بل هو مقصور على المعرفة بها"(119).
فالفصاحة إذاً شاملة للألفاظ المفردة والمؤلفة، وهو ما أسماه صريحاً في الأقسام السابقة بشروط الفصاحة. ولا تناقض عنده في قصرها مرة على الألفاظ ومرة أخرى على التأليف كما هو صريح في النصين السابقين، وهذا يؤدي به إلى الاستغناء بأحد الطرفين في وصفها. يظهر ذلك في نصّه الآتي الذي يورده عقب سرده شروط الفصاحة في الألفاظ المركبة. يقول: "فهذا منتهى ما نقوله في الألفاظ بانفرادها واشتراكها في المعاني، ومن وقف عليه عرف حقيقة الفصاحة ومائيتها، وعلم أسرارها وعللها، فأما الكلام على المعاني بانفرادها، فقد قدمنا القول بأن البلاغة عبارة عن حسن الألفاظ والمعاني، وأن كل كلام بليغ لا بدّ من أن يكون فصيحاً، وليس كل فصيح بليغاً، إذ كانت البلاغة تشتمل على الفصاحة وزيادة، لتعلق البلاغة مع الألفاظ بالمعاني"(120)، فكيف تسع الفصاحة الألفاظ بانفرادها وأيضاً باشتراكها مع المعاني، واشتراك الألفاظ مع المعاني حقل من حقول البلاغة بصريح قوله؟
والمسألة متماشية مع ما أورده من أقسام. فكما رأينا فإن اصطلاح "الألفاظ بانفرادها" يشمل صفات المفرد، والمؤلف بأقسامه الثلاثة الأولى التي عرضناها، أما اشتراك الألفاظ مع المعاني فهو متعلق بالقسم الرابع من المؤلَّف الذي عَنْونَ قضاياه بشروط الفصاحة والبلاغة. من هنا رأى لزاماً لكمال العلم بالفصاحة إضافة هذا الركن الرابع في التعريف ليتسنى لها شمول المفرد والمركب المتآلف، والمشترك بالمعنى، وهذا الأخير نفسه من حقول البلاغة أيضاً فهو شركة بين اثنين، مع اختصاص البلاغة بالمعاني مفردة.
ومما يؤكّد هذا المنحى بالإضافة إلى تطابقه مع الأقسام التي عرضنا لها قصره البلاغة على الألفاظ والمعاني معاً، ثم اعتباره أيضاً المعاني المفردة من اختصاصها، فكيف تكون المعاني مفردة؟ نستوضح ذلك من إيراد بقية النّص "فإذا كان قد مضى الكلام في الألفاظ على الانفراد والاشتراك، فلنذكر الآن الكلام على المعاني مفردة من الألفاظ ليكون هذا الكتاب كافياً في العلم بحقيقة البلاغة والفصاحة، فإنّهما وإن تميّزا من الوجه الذي ذكرته فهما عند أكثر الناس شيء واحد، ولا يكاد يفرق بينهما إلا القليل"(121). لقد رأينا في ذكره المعاني مفردة من الألفاظ أن الأمر يتعلّق بقسم من المعاني العامة عكس ما قد يوهم به اصطلاح "مفردة"، وإنما قصده المعاني خلواً من بحث اللفظ تماماً كاصطلاح الألفاظ على الانفراد، ليست المفردة فقط، بل تشمل المفرد، والمركب بأقسامه الأربعة الخالص منها والمشترك. فالفصاحة إذاً تشمل المفرد والمؤلف، والبلاغة تتعلق بالمعاني المفردة، ويشتركان في قسم ذكر مسائله تحت عنوان "شروط الفصاحة والبلاغة" وهي الكناية والإيجاز والتتبيع والتمثيل ووضوح العبارة عن المعنى، ويسميه أيضاً المشترك أو ما تشترك فيه الألفاظ والمعاني. وهذا التداخل بين حقلي البلاغة والفصاحة في الألفاظ المؤلفة هو الذي يجعل التمييز بينهما صعباً باستثناء جوهر الفرق بينهما الكامن في اختصاص البلاغة بالمعاني المفردة، ذلك أنه "إذا كانت الفصاحة شطرها وأحد جزئيها، فكلامي على المقصود –وهو الفصاحة- غير متميّز إلا في الموضع الذي يجب بيانه من الفرق بينهما على ما قدمت ذكره. فأما ما سوى ذلك فعام لا يختص، وخليط لا ينقسم"(122). والسر في كونه عاماً لا يختص وخليطاً لا ينقسم هو انضواؤه كلّه في قسم الألفاظ المؤلّفة، فلا يمكنه فصل مجالاته المشتركة بإفراد ما يخص البلاغة عن خاص الفصاحة.
وهكذا نجد تعريفات الخفاجي بالرغم من الاعتراف بتعقيدها تتماشى باعتبارها حدوداً حاصرة لمجالات فعالياتها مع أصلها النظري العام المتمثل في قضية العلل ومقابلها من عناصر الكلام، وتتناسق هذه المنطلقات النظرية مع التفريعات الجامعة للمسائل التفصيلية.
ونحسب أن هذا الفهم هو الذي أوصلنا إلى التنسيق بين مختلف آرائه وإلى إزالة ما يمكن أن يكون مدعاة لوسمه بالتناقض أو التضارب، كما هو الحال في مثل هذا الموقف الذي ينطلق من رأي ابن سنان في نصه الذي جمع فيه خلاصة بحثه الألفاظ المؤلّفة بقسميها اللفظي الخاص والمشترك مع المعاني، فيرى أنه بمقارنة هذا "بالفقرة التي ذكر فيها الفرق بين الفصاحة والبلاغة حيث يقول: "والبلاغة لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني". نستنتج أن ما ذكر في شروط التأليف هو من مجال البلاغة؛ لكن المؤلف يضيف بعد ذلك مباشرة ما يصد عن الفهم" ومن وقف على هذا عرف حقيقة الفصاحة ومائيتها" ثم يضيف ما يفهم منه أن البلاغة لا تتم إلا بالقسم المتبقّي من الكتاب وهو الكلام (على المعاني مفردة من الألفاظ) بغية أن يكون الكتاب (كافياً في العلم بحقيقة البلاغة والفصاحة). ويختم الفقرة بشيء من التراجع والاحتراز فيقرر أنهما عند أكثر الناس شيء واحد"(123). والواقع أن كل الإشكال يثيره حديثه عن القسم المشترك المؤلّف من الألفاظ والمعاني الذي هو حدّ عام وخليط بين البلاغة والفصاحة، وبجلائه يزول الالتباس والتضارب ويتحدد لكل من الفصاحة والبلاغة مجاله، مع الإقرار بتداخل اختصاصهما. والإشكال نفسه يدعو الباحث إلى تكرار مؤاخذته الخفاجي بما اعتبره تذبذباً، إذ يرى أن "الناظر في القسم المخصّص لشروط التأليف يلاحظ هذا التذبذب على مستوى العبارة.
فكثير من الشروط بدأها بقوله: (ومن شروط الفصاحة والبلاغة) بينما المفروض أن تكون لشروط الفصاحة بالتأليف"(124). علماً بأن الخفاجي نزّل تلك الشروط في خانة المشترك بين الفصاحة والبلاغة عن وعي، تماشياً مع أسسه النظرية كما شرحنا ذلك في التعريفات. ولعل ذكره هذه المسائل المشتركة في آخر شروط الألفاظ المؤلفة، باستثناء الكناية، دليل منهجي آخر على إحساسه بتميّزها عن باقي قضايا التأليف.
ولكن ما هو الأساس الخفي الذي جعل الخفاجي ينحو في التقسيم هذا المنحى؟ وهل لذلك صلة بفكرته عن اللفظ والمعنى؟ نحسب أن رأياً في اللفظ والمعنى هو الذي كان خلف هذا التقسيم، فقد واجهته وهو يبحث علائق المعنى باللفظ في النص مسألة الدلالة وكيفية تحققها.
فحضور الألفاظ المفردة بالمواصفات التي ذكرها في النص تحيل البسائط مركبات، حيث إن المستويات التي لاحظها في المفردة الواحدة تعود لتتضخم في النص، صوتياً كما لحظه في أشكال التناسب الصوتي البحت بما فيه الوزن والقافية، وتركيبياً كما أبداه استقصاؤه لأنماط التلاحم بين الوحدات في التركيب، وكذا دلالياً، كما يظهر عميقاً في أشكال التعبير غير المباشر عن المعنى في التتبيع والتمثيل والكناية وغيرها. وتلاحم هذه المستويات يزداد في تصوره رسوخاً بموجب إقراره بأن "المعاني وتأليف الألفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع"(125). وإذا كان المعنى في المستوى المتآلف ينضوي في بنية يمكن فكّ مغالقها بالاعتماد عليها ذاتها وبحث علائق الوحدات ألفاظاً ومعاني في إطارها، فإن للمعنى وجهاً آخر تستلزم مقاربته تنزيله في إطاره العام من بنية المجتمع بالاستناد إلى أساس من العقل، ذلك أن المنظور الوظيفي خاضع لمقتضيات الشروط الاجتماعية، وقوانين التصوير الشعري للواقعة أو "الحقيقة" محكومة بجوهر منطقي ومشدودة في الآن نفسه إلى نوع أدبي. ويتأكد رسوخ هذا المنطلق لدى الخفاجي المتمثل في فهم صلات المعاني بالألفاظ في النص اعتباره الألفاظ وسيلة للمعاني، ذلك "أن الألفاظ غير مقصودة في أنفسها، وإنما المقصود هو المعاني والأغراض التي احتيج إلى
العبارة عنها بالكلام، فصار اللفظ بمنزلة الطريق إلى المعاني التي هي مقصودة"(126).

فلو بقي التصور قائماً على رأي في اللفظ والمعنى تأسّس عليه الكتاب كله لوجد التبرير والاستساغة، لكنه أبى إلاّ أن يزجّ بالتركيبة كلها في قناتي الفصاحة والبلاغة، فأوقعه هذا التوجه في الحرج، هذا إذا انطلقنا من المعهود الشائع عن دلالات الفصاحة والبلاغة، أما إذا اعتمدنا منهجاً وصفياً نستقرئ فيه الموجود بربطه بمنطلقاته التأسيسية، فالانسجام وارد بين المنطلقات والتقسيمات كما رأينا.
لكنه قصد حشر تفريعاته في قناتي الفصاحة والبلاغة معاً فاضطر إلى الفصل بين هذه الأقسام. وإذا كان قد سهل عليه تقسيم الألفاظ المفردة والمعاني المفردة بين الفصاحة والبلاغة بسهولة، فإن الإشكال كامن في الألفاظ المركّبة، إذ هي تشمل المعنى واللفظ، فوضعها في خانة الفصاحة تجاوز، واعتبارها بلاغة معناه حصر للفصاحة في المفرد. من هنا عمد إلى تقسيمها بينهما، ولكن ما الأساس الذي يقوم عليه الفصل ما دام يمتنع لديه اعتبار حقل الألفاظ المركبة كله شركة بين الاثنين، ولو كان كذلك لذكر كل قضاياه تحت عنوان شروط الفصاحة والبلاغة معاً؟ نحسب أنه شقي قبل أن يصل إلى الحل الذي توخاه في الفصل بين المتآلف من الألفاظ باعتماد أساس خفي غير حاسم، فما دامت الفصاحة تتعلق باللفظ، فإن القسم من الألفاظ المركبة الذي يكون من اختصاصها يجب أن يتميّز بخواص لفظية بيّنة، فوجد ذلك أولاً في المشترك بين صفات المفرد والمركب، ثم اكتشف أن قضايا التركيب من مثل مباحث المعاظلة والتقديم والتأخير والقلب ومثيلاتها مما رأيناه سابقاً، أقرب إلى الارتباط باللفظ إذ صلته حميمة بمسائل السبك والنسج والنظم وهو يتحقّق عموماً في أنماط التلاحم بين الوحدات في السياق، فنزّله في خانة الفصاحة، وألحق به وهذا تأكيد للسابق، مسائل التناسب الصوتي من سجع وجناس وازدواج، وبرر له هذا التوجه جعل الوزن والقافية منه، ومسائل التناسب تطول الوحدات معنوياً أيضاً، ومن هنا اعتبر من تناسب الألفاظ معنوياً الطباق وتقارب الألفاظ في المعنى ما داما يقعان ضمن علائق الوحدات توزيعياً وإن تعلقا بمعانيها، فرأى أن ضمهما إلى أوجه التناسب ممكن، وبهذا الحصر أنهى تركة الفصاحة. والباقي من الشروط المشتركة التي تدخل في مسائل الدلالة شركة بين الاثنين، فهي من جهة كونها من شروط التركيب فصاحة، ومن جهة صلتها العميقة بالمعنى بلاغة. وبذلك اعتبر الخفاجي عمله مسحاً للحقلين معاً مع مقتضيات الفصل بينهما علماً بأن الفصاحة شطر من البلاغة إذ البلاغة تشملها وزيادة.
فالسبب الجوهري الذي أوصله إلى هذه النتيجة –كما بدا لنا- هو رأي في المعنى واللفظ ومعالجة لعناصر النص أراد لها أن تزج في اصطلاح الفصاحة والبلاغة فتعسف القسمة. ولم يوسّع من مفهوم الفصاحة فقط لتنضوي تحتها "الوجوه البلاغية بمختلف أقسامها: التركيب والدلالة والمحاسن بحكم أن اللغة حقيقة كانت أو مجازاً، كناية أو تصريحاً موضوعة للإبانة عن المقاصد"(127)، ما دام يفهم الفصاحة بمعنى الإبانة والإظهار، وإنّما وسّع من مفهوم البلاغة أيضاً، وإلا فما علاقة البلاغة بالغلو وبحث المعاني الملائمة للأغراض والتعرض للاستحالة والتناقض وما أشبهها؟ مع التذكير أيضاً بأن كل مسائل الفصاحة هي شطر من البلاغة.
فهذا هو المسوّغ الذي جعل الخفاجي يوزع قضايا اللفظ والمعنى هذا التوزيع، ونحسب أنه اجتهاد دفعته إليه رغبته في التفرد وتأكيد إدعائه السبق إلى ذلك، كما ذكر ذلك صريحاً في تعرضه لشروط الفصاحة في اللفظة المفردة(128)، علماً بأن أصح ما أورده في المسألة معروف وباقيه لا علاقة له بموضعه. ثم دفعه هذا الموقف إلى حشد كل مسائل الفصاحة والبلاغة والنقد تحت عنوان مقصود "سر الفصاحة"، إذ العنوان يخفي إشكالاً آخر ذلك أنه يفهم منه أن محتوى الكتاب في الفصاحة، وهي نفسها جزء من المتن.
ومع الإقرار أخيراً بأن أثر قدامة بن جعفر في مؤلف الخفاجي باد في مواضع شتى(129)، إلا أنّه تأثّر مسالك غيره أيضاً، فهو يستفيد من الآمدي في فهم قضية العلل والمدح بصفات الجمال والحسن فيخالف في ذلك قدامة. ويفيد من مباحث الجاحظ في الفصاحة، ثم إن أغلب ما أورده معروف في كتب البلاغة والنقد، وتداوله النقاد بعد قدامة، ومن هنا يكون البناء الذي أخضع لـه مادة كتابه متماشياً مع منطلقاته ودقائق أسسه، وإن كان الجزم باضطرابه وارداً إذا قابلناه بالمعهود من مباحث الفصاحة والبلاغة، إلا أنه يظل محكوماً بمنطق خفي ساد كل فصول الكتاب، وإذا كان بالإمكان قبول الرأي في "أنه أراد بناء كتاب على نسق "نقد الشعر" والإحاطة بكل القضايا التي تضمنها"(130)، فإننا نتحفظ إزاء وسم مؤلفه بخلل المنهج مطلقاً، فقد اعتمد شكلاً من أشكال التخطيط الذي خضعت له المادة في الكتاب، ولم يضطره تقليد قدامة والقسمة الثنائية التي بنى عليها الكتاب" إلى حشد المسائل التي كانت موزعة على أبواب عديدة (عند قدامة) في قسم الألفاظ المؤلفة بلا تمييز. فجعل المجانس والمطابق مع المساواة والإشارة، مثلاً، صفات للفظ، بينما هي عند قدامة إمّا من نعوت المعاني –المجانس والمطابق- وأما من نعوت ائتلاف اللفظ والمعنى –المساواة والإشارة-"(131)؛ والحق أنه ميز –كما رأينا- بين هذه المسائل، فنزّل المجانس والمطابق في قسم التناسب اللفظي والمعنوي من قسم الألفاظ المؤلفة الخاصة بالفصاحة، في حين عدّ المساواة والإشارة من مشترك الفصاحة والبلاغة، علماً بأن قدامة اعتبر هذه الأشياء كلها من نعوت ائتلاف اللفظ والمعنى، إلا إذا كان الباحث يقصد بالمطابق التكافؤ عند قدامة، وهو يعادل الطباق عند البلاغيين، علماً بأن قدامة استعمل المطابق يريد به الجناس المعروف(132).
وأخيراً يمكننا القول بأن مؤلف الخفاجي قد أملاه رأي في اللفظ والمعنى، وهذا الرأي لم يؤده إلى التعسف في بحث العلائق الرابطة بين العنصرين، بل يمكن اعتبار محاولته إقراراً بترابطهما وحضورهما معاً في القول البليغ، ورأيه في الأمر صريح، ويكفي للتدليل عليه قوله إن "المعاني وتأليف الألفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع"(133).
ائتلاف اللفظ والمعنى
عند نقاد القرن الخامس الهجري


من نقاد القرن الخامس الهجري الذين نتوقف عندهم والذين أولوا قضية اللفظ والمعنى أهمية: المرزوقي والشريف المرتضى وابن رشيق، ومع الإقرار بأن بعضهم بلور مبادئ سابقة وأخرجها في إطار نظري شامل كنظرية عمود الشعر العربي لدى المرزوقي، فإن في قضيتنا لا نكاد نجد جديداً عند هؤلاء باستثناء تفريعات تدلّل على أصول سابقة لم تكن في منجاة من بعض الاضطراب أيضاً.
وأغلب نقاد هذا القرن "يميلون إلى التوفيق بين اللفظ والمعنى"(134)، غير أن أشكال هذا التوفيق تساير منطلقات كل ناقد وتلتحم بأصوله. فالمرزوقي يقابل بين كل من الألفاظ والمعاني والأوعية والأمتعة(135)، ذلك أن من مبادئ عمود الشعر عنده تحقيق المشاكلة بين اللفظ والمعنى، والتحام أجزاء النظم والتئامها(136)، في حين يستقطب هذه المشاكلة موقفان: موقف طلاب المعاني، وموقف أرباب الألفاظ(137).
وتبدو صياغة الكلام لدى أصحاب الألفاظ مراتب يستقيم لكل مرتبة درجة من التّشكيل الفني حسب خواصّ فنيّة في هذا التّشكيل نفسه: "فمن البلغاء من يقول: فقر الألفاظ وغررها، كجواهر العقود ودررها، فإذا وسم أغفالها بتحسين نظومها وحلي أعطالها بتركيب شذورها، فراق مسموعها ومضبوطها وزان مفهومها ومحفوظها وجاء ما حرر منها مصفى من كدر العي والخطل، مقوماً من أود اللحن والخطأ، سالماً من جنف التأليف، موزوناً بميزان الصواب، يموج في حواشيه رونق الصفاء لفظاً وتركيباً، قبله الفهم والتذّ به السمع"(138)، والتركيز في هذه المرتبة يكون على التركيب الذي يضيف إلى الوحدات حسناً بضمها إلى غيرها مع الإلحاح على تجنب الخطأ واللحن. أما في المرتبة الثانية فيقوم النص على الانتقاء الدقيق في اختيار الدال المطابق لمدلوله، وتحقيق قدر أعلى من تناسب أقسام النص في مراتبه المختلفة، ويكون ذلك بتتميم "المقطع، وتلطيف المطلع، وعطف الأواخر على الأوائل، ودلالة الموارد على المصادر، وتناسب الفصول والوصول، وتعادل الأقسام والأوزان، والكشف عن قناع المعنى بلفظ هو في الاختيار أولى، حتى يطابق المعنى اللفظ، ويسابق فيه الفهم السمع"(139)، لينتهي الأمر في آخر مرتبة إلى إثقال النص بأشكال "من الترصيع والتسجيع، والتطبيق والتجنيس، وعكس البناء في النظم، وتوشيح العبارة بألفاظ مستعارة، إلى وجوه أخَرْ تنطق بها الكتب المؤلفة في البديع"(140).
وتتكاثف مستويات الصياغة بشكل لافت في المرتبتين السابقتين خاصة، مما يجعل خصائص النص الأسلوبية في النص مرتدّة إلى نفسها –إن صح الوصف- في أشكال من البناء المركّز على تناسق الأصوات والتركيب. أما قصد أصحاب المعاني فيتجسد في تحقيق قدر أعلى من التأمل لدى المتلقي إذ "طلبوا المعاني المعجبة من خواص أماكنها، وانتزعوها جزلة عذبة حكيمة ظريفة أو رائقة بارعة وجعلوا رسومها أن تكون قريبة التشبيه، لائقة الاستعارة، صادقة الأوصاف، لائحة الأوضاح... مستوفية لحظوظها عند الاستهام من أبواب التصريح والتعريض والإطناب والتقصير، والجد والهزل... مبتسمة من مثاني الألفاظ عند الاستشفاف، محتجبة في غموض الصيان، لدى الامتهان"(141).
ويتلخص الموقف العام في ضرورة تحقيق التشاكل والتوافق بين الألفاظ والمعاني(142) حيث تكون دلائل ذلك "حسن التباس بعضها ببعض، لا جفاء في خلالها ولا نبو، ولا زيادة فيها ولا قصور، وكان اللفظ مقسوماً على رتب المعاني: قد جعل الأخص للأخص، والأخس للأخس، فهو البريء من العيب"(143). ودعوة الائتلاف هذه لا جديد فيها، فأصولها تعود إلى الجاحظ، تماماً كموقف المرزوقي مما أسماه بالتحام أجزاء النظم والتئامه المتولّد من انسجام الفصول والأبنية إذ يقوم على استغلال أصول قديمة كمفهوم "القران" الجاحظي وشواهده الشعرية أيضاً(144).
وللمرزوقي رأي في بنية النص الشعري أدته إليه مقارنته بين النثر والشعر وتحسّسه خواص الشعر الشّكلية القائمة على الوزن والقافية ووحدة البيت الذي ينتج عنه حصر المعنى الشعري في حدود المدى الذي يسع بنيته، مما مكّنه من الوعي بتلازم خاصيتي التكثيف والغموض في الشعر "لذلك وجب أن يكون الفضل في أكثر الأحوال في المعنى، وأن يبلغ الشاعر في تلطيفه، والأخذ من حواشيه، حتى يتسع اللفظ لـه، فيؤديه على غموضه وخفائه، حداً يصير المدرك لـه والمشرف عليه، كالفائز بذخيرة أغتنمها، والظافر بدفينة استخرجها"(145).
ولعل ما يضيف إلى المرزوقي وزناً بالإضافة إلى هذه النظرات التي كانت خلاصة للاستيعاب العميق لنتاج سابقيه من النقاد، صياغته نظرية عمود الشعر العربي الصياغة النهائية.
أما أمر اللفظ والمعنى مع الشريف المرتضى فيشينه بعض الاضطراب، فإذا كان الحديث عن المعنى متعلقاً بصياغة المتداول المعروف، فلا يضير –في رأيه- المعبر ترداده هذا المألوف مادام يحسن العبارة عنه إذ إن "حظ العبارة في الشعر أقوى من حظ المعنى"(146)؛ ذلك أن تفرد الصياغة وحسنها يشفعان للشاعر اشتراكه مع غيره في المعاني، ومع هذا الاشتراك "إنما يقع الإحسان في حسن النسج، وسلامة السبك، وأن تكون العبارة عن ذلك المعنى ناصعة، وفي القلوب متقبّله"(147).
ثم يعود إلى القضية من منظور مغاير لكنه مؤكد للسابق أيضاً حيث يقابل بين الشيء في وضعه الأصلي، واستحالته محتوى في صياغة فنية، فيرى أن التغيير الطارئ على الشيء المصور بتقديمه في صورة تخالف أصله لا يحط من قيمة الصورة الراسمة للشيء، ليخلص إلى قاعدته التي تنص "على أن حظ الألفاظ في الكلام الفصيح - منظوماً ومنثوراً- أقوى من حظ المعاني"(148).
لكن البحث عن تميّز الشاعر بمعنى ضمن المشترك يضطره إلى اعتبار المعاني الأصل في التقديم، إذ يعرض بيتيه الآتيين:
فحب به من باذل لي حلاله



وفاد بذاك البذل مني حرامه


ومن ملتقى عذب المذاق ربحته



فلم يرض لي حتى ربحت أثامه


ثم قول الفرزدق:
إذا ما نأت عني حييت وإن دنت



فأبعد من بيض الأنوق كلامها


وتمنع عيني وهي يقظى حلالها



ويبذل لي عند المنام حرامها


ثم يعلق بقولـه: "فليس لـه بالمعنى الذي اختصصت به شبه، وإن كان قد أتى بلفظ التحريم والتحليل وليس المعول على الألفاظ، وإنما المعول على المعاني... وكل منّا قصد مقصداً صحيحاً، لأنّي أردت أن التمتّع الذي نلته في النوم حلالاً، لو كان في اليقظة لكان حراماً. والفرزدق أراد به أنه تمتع في اليقظة -من كلام وما أشبهه- حلالاً، وتبذل له عند المنام ما هو حرام. وإنما يريد أنه حرام لو كان في اليقظة، فأما ما يكون في النوم لا يكون حراماً، فبان هذا الشرح خلاف المعنى الذي قصدته لمعنى الفرزدق"(149). فأدى اعتبار الاختلاف في المعاني والتدليل على الخصوصية إلى اعتمادها الأصل في الجودة، لكن مما يقلل من حدّة التعارض بين هذا الرأي وما سبقه من آراء، كون المعنى مستخلصاً من صياغته. أما نفيه أن تكون المسألة في إيراد ألفاظ بعينها، كالتحريم والتحليل فلا يعني إزاحة اللفظ عن كل مزية إذ إن القصد –كما بدا لنا- هو الطريقة التي تتضام بها الألفاظ لأداء معنى معيّن.
ولعلّ رأيه الحاسم يظهر في إقراره توزيع الجودة بين الاثنين معاً، إذ تبدو خلاصة ذلك في اعتباره ديوانه وديوان أخيه ثم ديواني الطائيين جامعة لأجود ما قيل في موضوع الشّيب، ذلك أنها ضمت "محاسن القول في الشيب والتصرف في فنون أوصافه وضروب معانيه حتى لا يشذ عنها في هذا الباب شيء يعبأ به، هذا حكم المعاني، فأما بلاغة العبارة عنها وجلاؤها في المعاريض الواصلة إلى القلوب بلا حجاب والانتقال في المعنى الواحد من عبارة إلى غيرها مما يزيد عليها براعة وبلاغة أو يساويها أو يقاربها حتى يصير المعنى باختلاف العبارة عنه وتغيّر الهيئات عليه وإن كان واحداً كأنه مختلف في نفسه فهو وقف على هذه الدواوين مسلم لها مفوض إليها"(150)، لينتهي إلى اعتماد العنصرين معاً في تحليلاته الشعرية، كوصفه بيتاً لأبي تمام بقوله: "جيد المعنى مليح اللفظ"(151).
ولقد اشتهر ابن رشيق برأيه الداعي إلى ائتلاف اللفظ والمعنى، واستطاع مع ذلك أن يجمع في بعض المواقف بين مسائل نقدية متعددة منها ما يبحث في بنية النص، أو يعرض لمشكلات الصنعة وأدوات التثقيف المحققة لها. يقول في نص جامع لكثير من هذه المبادئ النقدية: "والبيت من الشعر كالبيت من الأبنية: قراره الطبع، وسمكه الرواية، ودعائمه العلم، وبابه الدّربة، وساكنه المعنى، ولا خير في بيت غير مسكون، وصارت الأعاريض والقوافي كالموازين والأمثلة للأبنية، أو كالأواخي والأوتاد للأخبية، فأما ما سوى ذلك من محاسن الشعر فإنما هو زينة مستأنفة، ولو لم تكن لاستغنى عنها"(152).
ونقول: إن أدوات الثقافة المحققة للصنعة لا تهمنا، وإنما المهم أن نجاعة البيت الذي يكون نتاجاً لهذه المواد الخام تكمن في احتوائه معنى، والمعنى غير مفارق لأشكال إخراجه، فالحديث عنه حديث عن صورته اللفظية التي تشكّل بنيتها الصوتية في تناسبها الإيقاعي ميزان الكلام واعتداله، أما التحسينات فهي طارئة ثانوية لا كبير جدوى من إلحاقها بالبيت.
وينم تشبيه بنية البيت الشعري بالبناء عن فهم لشكل من أشكال تلاحم عناصره يجعل كماله غير متأت بغياب أحدها، إلا ما قد يعكّر ذلك من تشبيهه المعنى بالساكن إذ له أن يغيب فيبقى البناء قائماً. غير أنه قد يفهم أن القصد من هذا التشبيه تأكيد ضرورة قيام البيت على معنى يؤديه، بل ستستحيل علاقات العناصر إلى كيان متلاحم يكون المعنى في إطارها شبه تابع حتمي للخواص اللفظية، ذلك أن ابن رشيق يعتقد أنه غير خاف "أن الصانع إذا صنع شعراً في وزن ما وقافية ما وكان لمن قبله من الشعراء شعر في ذلك الوزن وذلك الروي وأراد المتأخر معنى بعينه فأخذ في نظمه أن الوزن يحضره والقافية تضطره وسياق اللفظ يحدوه حتى يورد نفس الكلام الأول ومعناه حتى كأنه سمعه وقصد سياقته وإن لم يكن سمعه قط"(153). فعلى الرغم من أن ابن رشيق يبحث هنا في السرقات الأدبية فإنه يقر بالتولد الاضطراري للمعنى من أشكال صياغته وكأن سياق الألفاظ في بنيتها التركيبية الملحمة بالبناء الصوتي تملي على الشاعر سلطة بنيتها المستقلة فتفرز دلالتها أيضاً، ولا يملك الشاعر سوى الاختيار المبدئي لمقصد القول الذي ستوّجهه عناصر البنية المتعاضدة إلى نهايته.
وهذا الفهم السابق هو الذي كان خلف تبني ابن رشيق المقولة السابقة المشبهة للمعنى واللفظ بالروح والجسد(154)... والمقولة تعالج من منظور نظري عام صلة العنصرين حيث تقوم هذه الصلة على التسليم بالتأثر المتبادل بينهما ضعفاً وقوّة(155). ولم يهتم ابن رشيق بتفريع أحوال التأثر المتبادل بينهما في حالة القوة، ولو فعل لربما أدته المقارنة إلى بحث كيفية هذا التفاعل بين العنصرين في الحالة المجسّدة لأرقى درجاتها، مما كان يمكن أن يوصله إلى خلاصة أكثر عمقاً في بحث دقائقه وأبعاده. إلا أنه ربما وجد أن من السهولة تشخيص رأيه في حالة الضعف التي تقوم أولاً على تبيان أثر الخلل النسبي في أحد الطرفين على الآخر، ذلك أنه "إذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح، وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان اللفظ من ذلك أوفر حظّاً كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح"(156)، وهذا الإقرار المتكرر دفعته إليه القسمة الثنائية ورغبة التدليل على الصلات بين العنصرين، إلا أن المقارنة رغم تأكيدها النهائي انتقاء طرف بانتقاء آخر أو فساده "فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه... وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتماشى لم يصح له معنى(157) فإنها تظل مشدودة في مباشرة علاقة الطرفين إلى الانطلاق من أحدهما مما يؤكد انحصار النظرة في الأساس الثنائي دائماً رغم الإشارة إلى العلائق "الوجودية" بين العنصرين.
والمهم أن الموقف السابق سيفرز لدى ابن رشيق تصنيفاً للشعراء إلى لفظيين معنويين، وفي اللفظين من يذهب الفخامة والجزالة دون أن يتصنع، كبشار، وفرقة، منهم ابن هانئ أصحاب ***ة وقعقعة بلا طائل معنى إلا القليل، كما يصفهم، ومنهم من يقصد تسهيل اللفظ ولم ينج من الركاكة وإفراط اللين كأبي العتاهية. أما من يؤثر المعنى على اللفظ فيقصد صواب المعنى ولا يبالي بصورته اللفظية فمنهم مطبوعون كابن الرومي والمتنبي، ومنهم متصنعون(158). وهذا التصنيف لا يعني تجاهل أحد قطبي الدلالة إنما يقوم على التنويه بالخاصية التي تميز كل فئة وتلفت النظر إلى طريقة بنائها الكلام، فبشار الذي عُدّ من اللفظيين زاد وأصحابه "معاني ما مرت قط بخاطر جاهلي ولا مخضرمي ولا إسلامي، والمعاني أبداً تتردد وتتولد والكلام يفتح بعضه بعضاً"(159).
وهذا الموقف التصنيفي المرتد إلى الأساس الثنائي دفع ابن رشيق إلى حشد آراء متباينة بدءاً من ترداد مقولة الجاحظ في المعاني المطروحة، إلى اعتماد الفكرة المشبهة للمعنى بالصورة واللفظ بالكسوة، فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها ويليق بها من اللباس فقد بخست حقها، إلى الاستشهاد بكلام لعبد الكريم النهشلي يرى فيه مرة أن: الكلام الجزل أغنى عن المعاني اللطيفة من المعاني اللطيفة عن الكلام الجزل، ويرى في أخرى أن: المعنى مثال، واللفظ حذو، والحذو يتبع المثال، فيتغيّر بتغيّره، ويثبت بثباته(160). وهي آراء وإن بدا فيها بعض الاضطراب في الموقف، إلا أنها بالقدر الذي تلح على الصورة المبرزة للمعنى وتدعو إلى تحسينها، لا تغفل أساس المشاكلة بين المعنى واللفظ أيضاً يدعمها ما يورده لبعض النقاد كالثعالبي الذي يرى أن البليغ هو الذي "يخيط الألفاظ على قدور المعاني"(161) أما ما ورد في وصية أبي تمام للبحتري في قوله: "كن كأنك خيّاط يقطع الثياب على مقادير الأجسام"(162).
على أية حال يظل هذا المنظور الثنائي الذي سيزدوج برأيه في الصنعة أساس كثير من آرائه النقدية، فهو يسند رأي أبي الفتح عثمان بن جني في قوله: "المولّدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ"(163). ويوازن بين القدماء والمحدثين مستغلاً تشبيه الشعر بالبناء يقول: "وإنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين: ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزيّنه، فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن"(164)، ثم يقر بتفاوت القيمة الفنية بين بيتين: مطبوع ومصنوع ومحورهما المعنوي واحد، حيث يرى "أن البيت إذا وقع مطبوعاً في غاية الجودة ثم وقع في معناه بيت مصنوع في نهاية الحسن، لم تؤثر فيه الكلفة ولا ظهر عليه التعمّل كان المصنوع أفضلهما"(165).
وتأسيساً على ما سلف يبني تفرقته بين الاختراع والإبداع وإن كان معناهما في العربية واحداً كما يرى، إلاّ "أن الاختراع: ابتكار المعاني التي لم يسبق إليها، والإتيان بما لم يكن منها قط، والإبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستطرف، والذي لم تجر العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع، وإن كثر وتكرر، فصار الاختراع للمعنى، والإبداع للفظ"(166)، ثم يسحب هذا الموقف على رأيه في السرقات التي يخضعها لهذا المنظور أيضاً في قولـه: "والمعاني التي يقال أنها اختراعات وأخذها سرقات إنما هي المقاصد وترتيباتها والطرائق إليها"(167)، ثم في رأيه الآخر في الموضوع نفسه إذ يقول: "إن السرقة إنما تقع في البديع النادر والخارج عن العادة وذلك في العبارات التي هي الألفاظ"(168) علماً أنه يستعمل البديع في مواضع أخرى مرادفاً للمعنى الخاص كما يظهر ذلك في مقابلته بين "البديع المخترع الذي يختص به الشاعر، لا المعاني المشتركة"(169). ولـه في المعنى رأي طريف إذ يتحدث عن "معنى الصنعة كالتطبيق والتجنيس وما أشبههما لا معنى الكلام الذي هو روحه"(170).
والحديث عن المعنى يجره إلى الفصل بين المخترع الذي لم يسبق إليه قائله، والتوليد، وهو أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه(171). وإلى ملاحظة ما يمتاز به كل شاعر من طريقة فنية خاصة، كأبي نوّاس في الخمر وأبي تمام في التصنيع، والبحتري في الطّيف، وابن المعتز في التشبيه... إلى أن يخص ابن الرومي بقولـه أنه: "أولى الناس باسم شاعر، لكثرة اختراعه، وحسن افتنانه"(172)، وهو موقف دعا إحسان عباس إلى اعتبار ابن رشيق "أميل إلى جانب المعنى"(173) ثم يؤاخذه على تناقضه إذ يرى أنه "إذا أخذ في النقد كان ميله إلى ناحية الشكل أظهر"(174)، لكننا لا نعتبر رأي ابن رشيق في ابن الرومي دليلاً على ميل إلى المعنى، بمقدار ما هو تحديد لخاصية ميزت شعره مثلما تميّز الشعراء الذين ذكرهم قبله بمناح خاصة في القول، تقوم على اهتمام معيّن أملاه الطبع والميل كما بدا ذلك في التقديم لرأيه السابق بقوله: "لابدّ لكل شاعر من طريقة تغلب عليه فينقاد إليها طبعه، ويسهل عليه تناولها"
(175)، فإذا دعاه ذلك إلى استنباط الصفة المميزة التي تسم الممارسة الشعرية لدى شاعر معين فإن ذلك لا يعني أن ما يستخلص يستحيل مبدأ نقدياً عاماً يحكم رأيه مطلقاً، فقد رأى ميزة ابن المعتز في التشبيه وأبي تمام في التصنيع ولا نحسب أن ذلك يشي بتقديم للمعنى، بل لقد رأيناه يعدّ بشاراً من اللفظيين ولم يمنعه ذلك من الاعتراف بابتكارات بشار المعنوية.

فموقف ابن رشيق وإن بدا فيه بعض التفاوت من جرّاء تنوّع زوايا الرؤية، إلا أنه يظل مشدوداً إلى فكرة الائتلاف بين المعاني والألفاظ، ومن ثمة تبقى معالجة النص عنده محكومة بهذا الأصل الذي يمكن أن يتعمق إلى غاية بلورة وعي بتفاعل عناصره معاني وألفاظاً يكون من شأنه تولّد دلالة عميقة يتفاوت في إدراكها وتحصيلها، وتغدو بموجبه كل مقاربة إنما هي إقرار بغزارة هذه الدلالة، كما يظهر ذلك في ما أسماه باب الاتساع "وذلك أن يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل، فيأتي كل واحد بمعنى، وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ، وقوته، واتساع المعنى"(180).
والخلاصة أن إشكال اللفظ والمعنى وإن تنوّع بحسب اهتمامات النقّاد الذين تناولناهم في هذا الفصل، إلا أنه ظلّ يتمحور حول ضرورة الاعتناء بالطرفين لتحقيق تكاملهما وتآلفهما في النّص.
c
¡ هوامش الفصل الثاني

(1) ينظر: مصطفاي موهوب، المثالية في الشعر العربي: 628.
(2) الآمدي، الموازنة 1: 402.
(3) نفسه 1: 403 .
(4) نفسه 1: 403-404.
(5) ينظر المدخل.
(6) شكري عياد، كتاب أرسطو طاليس في الشعر: 237.
(7) لمزيد من التعرف على دلالات اصطلاح التصوير لدى الجاحظ ينظر: جابر عصفور، الصورة الفنية: 257...
(8) الآمدي، الموازنة 1: 403.
(9) إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي: 171.
(10) ينظر: رسائل الكندي الفلسفية1: 101، 217.
(11) إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي: 171.
(12) البديع في نقد الشعر: 289. ومقدمة في صناعة النظم والنثر: 28.
(13) تاريخ النقد الأدبي: 515-516.
(14) الموازنة 1: 402.
(15) نفسه1: 403-404.
(16) نفسه 1: 405.
(17) ينظر ما خص به قدامة في الفصل السابق.
(18) الآمدي، الموازنة1: 400.
(19) نفسه 1: 400-401.
(20) محمد زغلول سلام، تاريخ النقد العربي 1: 204.
(21) الآمدي، الموازنة 1: 401-402.
(22) نفسه 1: 402.
(23) نفسه.
(24) نفسه 1: 397-398.
(25) إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي: 161.
(26) الآمدي، الموازنة 1: 443.
(27) نفسه 1: 398.
(28) نفسه 1: 399.
(29) نفسه 1: 496.
(30) نفسه 1: 12.
(31) نفسه 1: 7، وأيضاً: 6-18-19-20-35-134-135-136...
(32) نفسه 1: 391.
(33) نفسه 1: 425.
(34) نفسه 1: 358.
(35) نفسه 1: 481.
(36) نفسه 1: 424-425.
(37) نفسه 1: 384.
(38) نفسه 1: 381-382.
(39) نفسه 1: 390.
(40) نفسه 1: 244-384-388.
(41) نفسه 1: 47-48-181.
(42) نفسه 1: 277.
(43) نفسه 1: 280.
(44) استغرق مبحث السرقات عنده في الوساطة: من 189 إلى 412.
(45) القاضي الجرجاني، الوساطة: 52. وكذا 214-215.
(46) نفسه : 413.
(47) نفسه: 24.
(48) نفسه: 24-25.
(49) نفسه: 19.
(50) نفسه : 248.
(51) نفسه : 432-433.
(52) نفسه: 19.
(53) نفسه : 33-34.
(54) نفسه: 100-413-424.
(55) نفسه : 179. وكذا: 180.
(56) نفسه : 79. ينظر: الموازنة 1: 181.
(57) نفسه : 98.
(58) العسكر، الصناعتين: 12-13.
(59) نفسه : 13-14.
(60) حمادي صمود، التفكير البلاغي: 437.
(61) العسكري، الصناعتين: 14.
(62) نفسه.
(63) نفسه: 16.
(64) نفسه: 114-15.
(65) نفسه: 18.
(66) حمادي صمود، التفكير البلاغي: 438.
(67) العسكري، الصناعتين: 16.
(68) نفسه: 63-64. ولقد تأثر بهذه المقولة أغلب النقاد، فممن لم نخصهم بالبحث مثلاً: الأصفهاني: الواضح في مشكلات شعر المتنبي: 51-52. ابن الأثير، المثل السائر: 123-124.
(69) نفسه: 64.
(70)A. TRABULSI, la Critique poétique des Arabes, p.125.
(71) العسكري، الصناعتين: 65.
(72) نفسه. وكذا: 73.
(73) نفسه: 66.
(74) نفسه: 75.
(75) شكري عياد، كتاب أرسطو طاليس في الشعر: 239.
(76) غرنباوم، دراسات في الأدب العربي: 104.
(77) العسكري، الصناعتين: 75-76.
(78) العسكري، ديوان المعاني 1: 330.
(79) نفسه: 345.
(80) العسكري، الصناعتين: 10.
(81) نفسه: 134.
(82) العسكري، ديوان المعاني 2: 87.
(83) نفسه: 87.
(84) العسكري، الصناعتين: 139. وكذا: 145. ولقد تأثر نقاد كثيرون بهذا التحليل. ينظر: الصاحب بن عباد الكشف، عن مساوئ المتنبي: 229. الحاتمي، الرسالة الموضحة: 42. أبو طاهر البغدادي، قانون البلاغة: 149-150. أسامة بن منقذ، البديع: 295-296. ابن أبي الإصبع، تحرير التعبير: 412-416.
(85) نفسه: 202. ويمكن التدليل على تفرعات رأيه في اللفظ والمعنى بتتبع ما أورده في التشبيه والاستعارة والإشارة ثم الإرداف والتوابع فالمضاعفة، وقبل ذلك شرحه صحيفة الهند وغيرها: 25... 249.. 374... 441.. وإن كان أغلب ما يورده من ابتكارات السابقين.
(86) نفسه:61.
(87) نفسه: 7.
(88) نفسه: 66.
(89) نفسه: 147.
(90) نفسه: 147-148.
(91) نفسه: 169.
(92) نفسه: 167.
(93) نفسه: شكري عياد، كتاب أرسطو طاليس في الشعر: 271.
(94) العسكري، الصناعتين: 167. وكذا: 157.
(95) ينظر: عبد المتعال الصعيدي، مقدمة التحقيق، سر الفصاحة: ز-حـ-ط. حمادي صمود، التفكير البلاغي: 441...
(96) ابن سنان، سر الفصاحة: 276.
(97) نفسه: 83-84.
(98) نفسه: 84.
(99) نفسه.
(100) نفسه: 85.
(101) نفسه.
(102) نفسه: 54... 82.
(103) حمادي صمود، التفكير البلاغي: 444. ينظر: شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ: 326-327. ابن الأثير، المثل السائر 1: 261-266.
(104) ابن سنان، سر الفصاحة: 87.
(105) نفسه: 97-1000.
(106) نفسه: 99.
(107) نفسه: 67.
(108) نفسه: 100. في حين يرى حمادي صمود أن ابن سنان باشر هذه الشروط مباشرة تفصيلية باستثناء هذا الأصل، مما أدى في نظره إلى جعل الإلمام بتخطيط الكتاب غير ميسور. التفكير البلاغي: 453. وهذا من المسائل التي اختلفت فيها وجهة نظرنا مع رأيه، ونراها من الأسباب التي جعلته يحكم على الكتاب بالتداخل واضطراب المادة.
(109) نفسه: 101... 158.
(110) نفسه: 162.
(111) نفسه: 162... 191.
(112) نفسه: 155.
(113) نفسه: 197-223.
(114) نفسه: 225.
(115) نفسه: 226.
(116) نفسه: 225... 280.
(117) نفسه: 49-50.
(118) نفسه: 197.
(119) نفسه: 3.
(120) نفسه: 225.
(121) نفسه.
(122) نفسه: 50-51.
(123) حمادي صمود، التفكير البلاغي: 454.
(124) نفسه.
(125) ابن سنان، سر الفصاحة: 84.
(126) نفسه: 206.
(127) حمادي صمود، التفكير البلاغي: 456.
(128) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة: 83.
(129) ينظر: حمادي صمود، التفكير البلاغي: 458.
(130) نفسه: 459.
(131) نفسه: 459-460.
(132) ينظر: قدامة بن جعفر، نقد الشعر: 147-162.
(133) ابن سنان، سر الفصاحة: 84.
(134) إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي: 370.
(135) المرزوقي، شرح الحماسة: 5.
(136) نفسه: 9.
(137) نفسه: 7.
(138) نفسه: 5-6.
(139) نفسه: 6.
(140) نفسه.
(141) نفسه: 7.
(142) نفسه.
(143) نفسه: 11.
(144) نفسه: 10.
(145) نفسه: 18-19.
(146) الشريف المرتضى، طيف الخيال: 168.
(147) نفسه: 21.
(148) نفسه: 39.
(149) نفسه: 148-149.
(150) الشريف المرتضى، الشهاب في الشيب والشباب: 3.
(151) الشريف المرتضي، طيف الخيال: 19.
(152) ابن رشيق، العمدة 1: 121.
(153) ابن رشيق، قراضة الذهب: 86.
(154) وهذه المقولة حاضرة لدى أغلب النقاد، فمن الذين تبنوها بالإضافة إلى من عرضنا لهم: ابن شرف، أعلام الكلام: 27-28. ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5: 394. ابن الأثير، الجامع الكبير: 21. المثل السائر 2: 21. العلوي، الطراز 3: 235. النواجي، مقدمة في صناعة النظم والنثر: 29-30.
(155) ابن رشيق، العمدة 2: 124.
(156) نفسه.
(157) نفسه.
(158) نفسه 2: 124-125.
(159) نفسه 2: 238.
(160) نفسه 1: 127.
(161) نفسه 1: 128.
(162) نفسه 2: 115.
(163) نفسه 2: 256.
(164) نفسه 1: 92.
(165) نفسه 1: 131.
(166) نفسه 1: 265.
(167) ابن رشيق، قراضة الذهب: 55.
(168) نفسه: 20.
(169) ابن رشيق، العمدة 2: 281.
(170) نفسه 1: 132.
(171) نفسه 1: 232.
(172) نفسه 1: 83.
(173) إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي: 449.
(174) نفسه: 170.
(175) ابن رشيق، العمدة 1: 86.
(176) نفسه 1: 93.


cc


__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59